الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 168857 / تحميل: 6105
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

تشير الآية (٢٥٧) من سورة البقرة إلى هذا الموضوع فتقول :( اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

وبما أنّ العين المبصرة وحدها لا تكفي لتحقّق الرؤية ، فيجب توفّر النور والإضاءة أيضا لكي يستطيع الإنسان ـ الإبصار بمساعدة هذين العاملين ـ تضيف الآية التالية :( وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ ) .

لأنّ الظلام منشأ الضلال ، الظلام سبب السكون والركود ، الظلام مسبّب لكلّ أنواع المخاطر ، أمّا النور والضياء فهو منشأ الحياة والمعيشة والحركة والرشد والنمو والتكامل ، فلو زال النور لتوقّفت كلّ حركة وتلاشت جميع الطاقات في العالم ، ولعمّ الموت العالم المادّي ـ بأسره ، وكذلك نور الإيمان في عالم المعنى ، فهو سبب الرشد والتكامل والحياة والحركة.

ثمّ تضيف الآية( وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ) فالمؤمن من يستظلّ في ظلّ إيمانه بهدوء وأمن وأمان ، أنمّا الكافر فلكفره يحترق بالعذاب والألم.

يقول «الراغب» في مفرداته : الحرور : (على وزن قبول) الريح الحارّة. واعتبرها بعضهم «ريح السموم» وبعضهم قال بأنّها «شدّة حرارة الشمس».

ويقول «الزمخشري» في الكشّاف : «السموم يكون بالنهار ، والحرور بالليل والنهار ، وقيل بالليل خاصّة»(١) ، على أيّة حال ، فأين الحرور من الظلّ البارد المنعش الذي يبعث الارتياح في روح وجسم الإنسان.

ثمّ يقول تعالى في آخر تشبيه :( وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ ) . المؤمنون حيويون ، سعاة متحرّكون ، لهم رشد ونمو ، لهم فروع وأوراق وورود وثمر ، أمّا الكافر فمثل الخشبة اليابسة ، لا فيها طراوة ولا ورق ولا ورد ولا ظلّ لها ، ولا تصلح إلّا حطبا للنار.

__________________

(١) الكشّاف ، الجزء ٣ ، ص ٦٠٨.

٦١

في الآية (١٢٢) من سورة الأنعام نقرأ :( أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) .

وفي ختام الآية يضيف تعالى :( إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ ) لكي يسمع دعوة الحقّ ويلبّي نداء التوحيد ودعوة الأنبياء( وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) .

فمهما بلغ صراخك ، ومهما كان حديثك قريبا من القلب ، ومهما كان بيانك معبّرا ، فإنّ الموتى لا يسعهم إدراك شيء من ذلك ، ومن فقد الروح الإنسانية نتيجة الإصرار على المعاصي ، وغرق في التعصّب والعناد والظلم والفساد ، فبديهي أنّ ليس لديه الاستعداد لقبول دعوتك.

وعليه فلا تقلق من عدم إيمانهم ، ولا تجزع ، فليس عليك من وظيفة إلّا الإبلاغ والإنذار( إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ) .

* * *

بحوث

١ ـ آثار الإيمان والكفر

نعلم أنّ القرآن لا يعير اهتماما للحواجز الجغرافية والعرقية والطبقية وأمثالها ممّا يفرّق بين الناس ، فالقرآن الكريم يعتبر أنّ الحدّ هو الحدّ بين [الإيمان والكفر] ، وعليه فإنّه يقسّم المجتمع البشري إلى قسمين «المؤمنين» و «الكافرين».

ولتعريف «الإيمان» شبّهه القرآن الكريم بـ «النور» ، كما أنّه شبّه الكفر بـ «الظلام» وهذا التشبيه أحسن مؤشّر على ما يستخلصه القرآن الكريم من مسألة الكفر والإيمان(١) .

فالإيمان نوع من الإحساس والنظرة الباطنية ، ونوع من العلم والمعرفة متوائمة

__________________

(١) راجع الآيات ٢٥٧ : البقرة ، ١٥ : المائدة ، ١٦ : المائدة ، ١ و ٥ : إبراهيم ، ٢٢ : الزمر ، ٩ : الحديد ، ١١ : الطلاق.

٦٢

مع عقيدة قلبية وحركة ، ونوع من التصديق الذي ينفذ في أعماق روح الإنسان ليكون منبعا لكلّ الفعّاليات البنّاءة.

أمّا الكفر ، فجهل وعدم معرفة وتكذيب يؤدّي إلى تبلّد ، بل فقدان الإحساس بالمسؤولية ، كما يؤدّي إلى كلّ أنواع الحركات الشيطانية والتخريبية.

كذلك نعلم أيضا بأنّ «النور» منشأ لكلّ حياة وحركة ونمو ورشد في الحياة ، بالنسبة إلى الإنسان والحيوان والنبات ، على عكس الظلام فهو عامل الصمت والنوم والموت والفناء في حال استمراره. لذا فلا عجب حينما يشبه القرآن الكريم «الإيمان والكفر» «بالنور والظلمة» تارة و «بالحياة والموت» تارة اخرى ، وفي مكان آخر يشبّههما (بالظلّ الظليل والريح السموم) ، أو حينما يشبّه (المؤمن والكافر) (بالبصير والأعمى). وقد أوضحنا كلّ ما يتعلّق بهذه التشبيهات الأربعة.

ولا نبتعد كثيرا ، فعند ما نجالس (مؤمنا) نحسّ أثر ذلك النور في كلّ وجوده ، أفكاره تنير لمن حوله ، وحديثه مليء بالإشراق ، أعماله وأخلاقه تعرّفنا حقيقة الحياة وحياة الحقيقة.

أمّا الكافر فكلّ وجوده مليء بالظلمة ، لا يفكّر إلّا بمنافعه الماديّة وكيفية الترقّي في الحياة الماديّة ، أفقه وفضاء فكره لا يتجاوز حدود حياته الشخصية ، غارق في الشهوات ، لا يدفع روح وقلب جليسه إلّا إلى أمواج الظلمات.

وعليه فإنّ ما أوضحه القرآن في هذه الآيات ، قابل للإدراك والتعقّل بشكل محسوس وملموس.

٢ ـ هل أنّ الموتى واقعا لا يدركون؟

من ملاحظة ما ورد في الآيات أعلاه ، يطرح هنا سؤالان :

الأوّل : كيف يقول تعالى في القرآن الكريم مخاطبا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) ؟ مع أنّه جاء في الحديث المعروف أنّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٦٣

أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طويّ من أطواء بدر خبيث مخبث ، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال فلمّا كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته ، فشدّ عليها رحلها ثمّ مشى واتّبعه أصحابه وقالوا : ما نراه ينطلق إلّا لبعض حاجته ، حتّى قام على شفة الركي مجفل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أيسّركم أنّكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنّا قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّا فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا؟ قال : فقال عمر : يا رسول الله ما تكلّم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والّذي نفس محمّد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم»(١) .

أو ما ورد في آداب دفن الموتى من تلقينهم عقائد الحقّ.

فكيف يمكن التوفيق بين هذه الأمور والآيات مورد البحث أعلاه.

يتّضح الجواب على هذا السؤال إذا أخذنا بنظر الإعتبار ما يلي : إنّ الحديث في الآيات كان حول عدم إدراك الموتى بالشكل الطبيعي والاعتيادي ، أمّا الرواية التي ذكرناها أو تلقين الميّت فإنّما ترتبط بظروف خاصّة وغير عاديّة ، حيث أنّ الله سبحانه مكّن حديث الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك الحالة من الوصول إلى أسماع الموتى.

وبتعبير آخر فإنّ الإنسان في عالم البرزخ ينقطع ارتباطه مع عالم الدنيا ، إلّا في الموارد التي يأذن الله فيها أن يوصل هذا الارتباط ، ولذا فإنّنا لا نستطيع عادة الاتّصال بالموتى في الظروف العادية.

السؤال الآخر : هو إذا كان حديثنا غير بالغ أسماع الموتى فما معنى لسلامنا على الرّسول الأكرم والأئمّةعليهم‌السلام والتوسّل بهم ، وزيارة قبورهم ، وطلب الشفاعة منهم عند الله؟

__________________

(١) تفسير «روح البيان» ذيل الآيات مورد البحث : وورد هذا الحديث أيضا في صحيح البخاري بتفاوت يسير (صحيح البخاري ، الجزء الخامس ، ص ٩٧ باب قتل أبي جهل).

٦٤

وقد استندت جماعة من الوهّابيين المعروفين بجمودهم الفكري على هذا التوهّم الباطل ، وبالتمسّك بظواهر الآيات القرآنية ، دون الاهتمام بمحتواها العميق ، أو الالتفات إلى الأحاديث الشريفة الكثيرة الواردة في هذا المجال ، سعوا إلى نفي وردّ مفهوم «التوسّل» وإثبات بطلانه.

الجواب على هذا السؤال أيضا يتّضح ممّا ذكرناه كمقدّمة في الإجابة على السؤال الأوّل ، من أنّ التعامل مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأولياء الله يختلف عنه مع الآخرين ، فهؤلاء كالشهداء (بل إنّهم يحتلّون الصفّ الأوّل أمام الشهداء) وهم أحياء وخالدون ، وهم مصداق لقوله :( أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) ، وبأمر من الله فإنّهم يحتفظون بارتباطهم بهذا العالم ، كما أنّهم يستطيعون وهم في هذه الدنيا أن يتّصلوا بالموتى ـ كما في حالة قتلى بدر ـ.

استنادا إلى ذلك نقرأ في روايات كثيرة وردت في كتب الفريقين أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام يسمعون سلام من يسلّم عليهم سواء كان قريبا أو بعيدا ، بل إنّ أعمال الامّة تعرض عليهم(١) .

الجدير بالملاحظة أنّنا مأمورون بالسلام على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التشهّد الأخير للصلوات اليومية ، وهذا إعتقاد المسلمين عامّة ، أعمّ من كونهم شيعة أو سنّة ، فكيف يمكن مخاطبة من لا يمكنه السماع أصلا؟

كذلك وردت روايات متعدّدة في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة ، عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لقّنوا موتاكم لا إله إلّا الله»(٢) .

كذلك وردت الإشارة في نهج البلاغة إلى مسألة الارتباط مع أرواح الموتى ، فعند ما كان أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه قال راجعا من صفّين أشرف

__________________

(١) كشف الارتياب ، ص ١٠٩ ـ كذلك فقد أشرنا إلى روايات (عرض الأعمال) عند تفسير الآية (١٠٥) من سورة التوبة ـ راجع المجلّد السادس من هذا التّفسير.

(٢) صحيح مسلم ، كتاب الجنائز ، حديث ١ و ٢ (المجلّد ٢ ، صفحة ٦٣١).

٦٥

على القبور بظاهر الكوفة : «يا أهل الديار الموحشة إلى أن قال : أما لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أنّ خير الزاد التقوى»(١) .

٣ ـ تنويع التعبيرات جزء من الفصاحة

لوحظ في التشبيهات الأربعة الواردة في الآيات أعلاه ، تعبيرات متفاوتة تماما مثلا (أعمى ـ بصير) و (ظلّ ـ حرور) جاءت بصورة المفرد في حال أنّ (أحياء ـ أموات) بصورة الجمع ، وجاءت (ظلمات ـ نور) بصورة جمع والثانية بصورة مفرد هذا من جانب.

ومن جانب آخر فقد قدمت التشبيهات ذات المنحى السلبي على غيرها في التشبيه الأوّل والثاني (أعمى ـ ظلمات) في حال قدمت التشبيهات ذات المنحى الإيجابي في التشبيه الثالث والرابع (ظلّ ـ أحياء).

ومن جانب ثالث تكرّرت أداة النفي في التشبيهات الثاني والثالث والرابع في حين أنّها لم تتكرّر في التشبيه الأوّل.

وأخيرا ، فإنّ جملة( ما يَسْتَوِي ) وردت فقط في التشبيه الأوّل والأخير ، ولا أثر لها في التشبيهات الاخرى.

بعض المفسّرين علّلوا هذه الاختلافات بتعليلات كثيرة بعضها جدير بالاهتمام وبعضها الآخر مورد مساءلة.

وضمن جملة التعليلات اللطيفة أنّ جمع «الظلمات» وإفراد «النور» للتدليل على أنّ الظلمة ـ التي تعني الكفر ـ ذات تشعّبات كثيرة ، بينما حقيقة «الإيمان» والتوحيد واحدة ليس إلّا. فالإيمان كالخطّ المستقيم الذي يوصل بين نقطتين لا وجود لسواه بينهما ، في حين أنّ ظلمة الكفر مثل آلاف الآلاف من الخطوط المتعرّجة المنحرفة التي يمكن إيجادها بين نقطتين.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، جملة ١٣٠.

٦٦

كذلك فإنّ تقديم التشبيهات ذات المنحى السلبي في المثالين الأوّليين إنّما هو للإشارة إلى الإسلام نقل الناس من الجاهلية وظلمات الشرك إلى نور الهداية.

وأمّا المثالان الأخيران فإشارة إلى المراحل الاخرى التي أحكم الإسلام فيها جذوره في القلوب ، ووسّع المناحي الإيجابية في المجتمع.

وإذا تجاوزنا كل ذلك فإنّ التنوّع أصلا في البيان يمنح الحديث طراوة وروحا خاصّة ، ممّا يجعل ذلك مؤثّرا وجميلا وجذّابا ، في حال إنّ التكرار على نمط واحد يسلب الحديث لطافته ـ إلّا في موارد استثنائية ـ وبناء على هذا فإنّ الفصحاء والبلغاء يسعون دائما إلى تنويع تعبيراتهم وجعلها مؤثّرة ، ونعلم أنّ القرآن على أعلى درجات الفصاحة والبلاغة.

وعليه ، فلو لم يكن غير مراعاة الفصاحة أمر آخر لكفى ، مع أنّ من الممكن أن يتوصّل غيرنا من الأجيال القادمة إلى كشف أسرار اخرى غير ما ذكرنا ممّا هو محجوب عنّا الآن.

* * *

٦٧

الآيات

( إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦) )

التّفسير

لا عجب من عدم إيمان :

توصّلنا في الآيات السابقة إلى أنّ هناك أفرادا كالأموات والعميان لا تترك مواعظ الأنبياء في قلوبهم أدنى أثر ، وعلى ذلك فإنّ الآيات مورد البحث تقصد مواساة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الخصوص وتخفيف آلامه لكي لا يغتمّ كثيرا.

أوّلا تقول الآية الكريمة :( إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ ) . فيكفيك من أداء وظيفتك أن لا تقصّر فيها ، أوصل نداءك إلى مسامعهم ، بشّرهم بثواب الله ، وأنذرهم عقابه ، سواء استجابوا ولم يستجيبوا.

الملفت للنظر أنّه تعالى قال في آخر آية من الآيات السابقة مخاطبا الرّسول الأكرم( إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ) ، ولكنّه في الآية الاولى من هذه الآيات يقول :( إِنَّا

٦٨

أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً ) إشارة إلى أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يقوم بهذا العمل من عند نفسه ، وإنّما هو مأمور من قبل الله تعالى.

وإذا كانت الآية السابقة قد ركّزت على الإنذار فقط ، فلأنّ الحديث كان حول الجاهلين المعاندين الذين هم كالأموات المقبورين الذين لا يتقبّلون أي حديث ، أمّا هذه الآية فإنّها توضّح بشكل كامل ، وظيفة الأنبياء الثنائية الهدف «البشارة» و «الإنذار» ، مؤكّدة في آخرها من جديد على «الإنذار» لأنّ الإنذار هو القسم الأساس من دعوة الأنبياء في قبال المشركين والظلمة.

«خلا» : من (الخلاء) وهو المكان الذي لا ساتر فيه من بناء ومساكن وغيرهما ، والخلوّ يستعمل في الزمان والمكان ، ولأنّ الزمان في مرور ، قيل عن الأزمنة الماضية «الأزمنة الخالية» لأنّه لا أثر منها ، وقد خلت الدنيا منها.

وعليه فإنّ جملة( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ ) بمعنى أن كلّ امّة من الأمم السالفة كان لها نذير.

الجدير بالملاحظة ، طبقا للآية أعلاه ، أنّ كلّ الأمم كان فيها نذير إلهي ، أي كان فيها نبي ، مع أنّ البعض تلقّي ذلك بمعنى أوسع ، بحيث يشمل العلماء والحكماء الذين ينذرون الناس أيضا ، ولكن هذا المعنى خلاف ظاهر الآية.

على كلّ حال ، فليس معنى هذا الكلام أن يبعث في كلّ مدينة أو منطقة رسول ، بل يكفي أن تبلّغ دعوة الرسل وكلامهم أسماع المجتمعات المختلفة ، إذ أنّ القرآن يقول :( خَلا فِيها نَذِيرٌ ) ولم يقل «خلا منها نذير».

وعليه فلا منافاة بين هذه الآية التي تقصد وصول دعوة الأنبياء إلى الأمم ، مع الآية (٤٤) من سورة سبأ والتي تقول :( وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ) والتي يقصد منها كون المنذر منهم.

ويضيف تعالى في الآية التالية :( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ ) فلا عجب من ذلك ، ولا تحزن بسبب ذلك ، لأنّه( فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ

٦٩

وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ ) .

فلست وحدك الذي أصبحت موضع تكذيب هؤلاء القوم الجاهلين بما عندك من معجزات وكتاب سماوي ، فقد واجه الرسل السابقون هذه المشكلة أيضا ، لذا فلا تغتمّ وواصل سيرك بحزم ، واعلم أنّ من كتبت له الهداية فسوف يهتدي.

أمّا ما هو الفرق بين (البيّنات ـ والزبر ـ والكتاب المنير)؟ المفسّرين أظهروا وجهات نظر مختلفة ، أوضحها تفسيران :

١ ـ «البيّنات» بمعنى الدلائل الواضحة والمعجزات التي تثبت حقّانية النبي ، أمّا «الزبر» فجمع «زبور» بمعنى الكتب التي كتبت بإحكام (مثل الكتابة على الحجر وأمثالها) وهي كناية عن استحكام مطالبها(١) . وإشارة إلى الكتب النازلة قبل موسىعليه‌السلام . في حين أنّ «الكتاب المنير» إشارة إلى كتاب موسىعليه‌السلام والكتب السماوية الاخرى التي نزلت بعده ، (لأنّه وردت الإشارة في القرآن المجيد في سورة المائدة ـ الآيات ٤٤ و ٤٦ إلى التوراة والإنجيل على أنّهما (هدى ونور وفي نفس السورة ـ الآية ١٥ عبّر عن القرآن الكريم بالنور أيضا).

٢ ـ المقصود بـ «الزبر» ذلك القسم من كتب الأنبياء التي تحتوي على العبرة والموعظة والنصيحة والمناجاة (كزبور داود) ، وأمّا «الكتاب المنير» فتلك المجموعة من الكتب السماوية التي تحتوي على الأحكام والقوانين والتشريعات الاجتماعية والفردية المختلفة مثل التوراة والإنجيل والقرآن. ويبدو أنّ هذا التّفسير أنسب.

تشير الآية الأخيرة من هذه الآيات إلى العقاب الأليم لتلك المجموعة فتقول :( ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (٢) فهم لم يكونوا بمنأى عن العقاب الإلهي ، وإن

__________________

(١) يقول الراغب في مفرداته : زبرت الكتاب كتبته كتابة عظيمة ، وكلّ كتاب غليظ يقال له زبور.

(٢) (أخذت) من مادّة (أخذ) بمعنى حيازة الشيء وتحصيله ، لكنّها هنا كناية عن المجازاة ، لأنّ الأخذ مقدّمة للعقاب.

٧٠

استطاعوا أن يستمروا بتكذيبهم إلى حين.

فبعض عاقبناهم بالطوفان ، وبعض بالريح العاصفة المدمّرة ، وآخرون بالصيحة والصاعقة والزلزلة.

أخيرا لتأكيد وبيان شدّة وقسوة العقوبة عليهم يقول :( فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ ) ذلك تماما مثلما يقوم شخص بإنجاز عمل مهمّ ثمّ يسأل الحاضرين : كيف كان عملي؟

على أيّة حال فإنّ هذه الآيات تواسي وتطمئن من جانب كلّ سالكي طريق الله والقادة والزعماء المخلصين منهم بخاصّة ، من كلّ امّة وفي أي عصر وزمان ، لكي لا ييأسوا ولا يفقدوا الأمل عند سماعهم استنكار المخالفين ، ولكي يعلموا أنّ الدعوات الإلهية واجهت دائما معارضة شديدة من قبل المتعصّبين الجاحدين الظلمة ، وفي نفس الوقت وقف المحبّون العاشقون المتولّهون إلى جنب دعاة الحقّ وفدوهم بأنفسهم أيضا.

ومن جانب آخر فهي تهديد للمعاندين الجاحدين ، لكي يعلموا أنّهم لن يستطيعوا إدامة أعمالهم التخريبية القبيحة إلى الأبد ، فعاجلا أو آجلا ستحيط بهم العقوبة الإلهية.

* * *

٧١

الآيتان

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) )

التّفسير

العجائب المختلفة للخلقة :

مرّة اخرى تعود هذه الآيات إلى مسألة التوحيد ، وتفتح صفحة جديدة من كتاب التكوين أمام ذوي البصائر من الناس ، لكي ترد بعنف على المشركين المعاندين ومنكري التوحيد المتعصّبين.

لفتت هذه الصفحة المشرقة من كتاب الخلق العظيم إلى تنوّع الجمادات والمظاهر المختلفة والجميلة للحياة في عالم النبات والحيوان والإنسان ، وكيف جعل الله سبحانه من الماء العديم اللون الآلاف من الكائنات الملوّنة ، وكيف خلق من عناصر معيّنة ومحدودة موجودات متنوّعة أحدها أجمل من الآخر.

فهذا النقاش الحاذق أبدع بقلم واحد وحبر واحد أنواع الرسوم والأشكال التي

٧٢

تجذب الناظرين وتحيّرهم وتدهشهم.

أوّلا تقول الآية الكريمة :( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها ) .

شروع هذه الجملة بالاستفهام التقريري ، وبتحريك حسّ التساؤل لدى البشر ، إشارة إلى أنّ هذا الموضوع جلي إلى درجة أنّ أي شخص إذا نظر أبصر ، نعم ، يبصر هذه الفواكه والزهور الجميلة والأوراق والبراعم المختلفة بأشكال مختلفة تتولّد من ماء وتراب واحد.

«ألوان» : قد يكون المراد «الألوان الظاهرية للفواكه» والتي تتفاوت حتّى في نوع الفاكهة الواحد كالتفّاح الذي يتلوّن بألوان متنوعة ناهيك عن الفواكه المختلفة. وقد يكون كناية عن التفاوت في المذاق والتركيب والخواص المتنوّعة لها ، إلى حدّ أنّه حتّى في النوع الواحد من الفاكهة توجد أصناف متفاوتة ، كما في العنب مثلا حيث أنّه أكثر من ٥٠ نوعا ، والتمر أكثر من سبعين نوعا.

والملفت للنظر هو استخدام صيغة الغائب في الحديث عنهعزوجل ، ثمّ الانتقال إلى صيغة المتكلّم ، وهذا النوع من التعابير ، غير منحصر في هذه الآية فقط ، بل يلاحظ في مواضع اخرى من القرآن المجيد أيضا ، وكأنّ الجملة الاولى تعطي للمخاطب إدراكا ومعرفة جديدة ، وتستحضره بهذا الإدراك والمعرفة بين يدي الباريعزوجل ، ثمّ عنده حضوره يلقى عليه الحديث مباشرة.

ثمّ تشير الآية إلى تنوّع أشكال الجبال والطرق الملوّنة التي تمرّ من خلالها وتؤدّي إلى تشخيصها وتفريقها الواحدة عن الاخرى. فتقول :( وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ ) (١) .

هذا التفاوت اللوني يضفي على الجبال جمالا خاصّا من جهة ، ومن جهة

__________________

(١) قال البعض بأنّ هذه الجملة الاستئنافية «من الجبال» خبر مقدّم و «جدد» مبتدأ مؤخّر ، وذهب آخرون : إنّ تقدير الجملة هكذا «ألم تر أنّ من الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها».

٧٣

اخرى ، يكون سببا لتشخيص الطرق وعدم الضياع فيما بين طرقها المليئة بالالتواءات والانحدارات ، وأخيرا فهو دليل على أنّ الله على كلّ شيء قدير.

«جدد» جمع «جدّة» ـ على وزن غدّة ـ بمعنى الجادّة والطريق.

«بيض» جمع «أبيض» كما أنّ «حمر» جمع «أحمر» وهو إشارة إلى الألوان.

«غرابيب» جمع «غربيب» ـ على وزن كبريت ـ وهو المشبّه للغراب في السواد ، كقولك أسود كحلك الغراب. وعليه فإنّ ذكر كلمة «سود» بعدها والتي هي أيضا جمع «أسود» تأكيد على شدّة وحلك السواد في بعض الطرق الجبلية(١) .

واحتمل أيضا أن يكون التّفسير : ألم تر أنّ الجبال نفسها مثل طرائق بيضا وحمرا وسودا مختلفا ألوانها خطّت على سطح الأرض ، وخاصّة إذا نظر إليها الشخص من فاصلة بعيدة ، فانّها ترى على شكل خطوط مختلفة ممدودة على وجه الأرض بيض وحمر وسود مختلف ألوانها(٢) .

على كلّ حال فإنّ تشكيل الجبال بألوان مختلفة من جهة ، وتلوين الطرق الجبلية بألوان متفاوتة ، من جهة اخرى ، دليل آخر على عظمة وقدرة وحكمة الله سبحانه وتعالى والتي تتجلّى وتتزيّن كلّ آن بشكل جديد.

وفي الآية التالية تطرح مسألة تنوّع الألوان في البشر والأحياء الاخرى ، فيقول تعالى :( وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ) .

أجل ، فالبشر مع كونهم جميعا لأب وأمّ واحدين ، إلّا أنّهم عناصر وألوان متفاوتة تماما ، فالبعض أبيض البشرة كالوفر ، والبعض الآخر أسود كالحبر ، وحتّى في العنصر الواحد فإنّ التفاوت في اللون شديد أيضا ، بل إنّ التوأمين الذين يطويان المراحل الجنينية معا ، واللذين يحتضن أحدهما الآخر منذ البدء ، إذا دقّقنا

__________________

(١) استنادا إلى ما صرّحت به بعض كتب اللغة كلسان العرب فإنّ (سود) في الآية أعلاه هي بدل عن «غرابيب» لأنّه في حالة الألوان لا يقدّم التأكيد ، لاحظ أنّ (غرابيب) أكثر إشباعا للتأكيد من ناحية السواد ، لذا قيل إنّ الأصل كان «سود غرابيب».

(٢) تفسير الميزان ، مجلّد ١٧ ، صفحة ٤٢.

٧٤

النظر نجدهما ليسا من لون واحد ، مع أنّهما من نفس الأبوين ، وتمّ انعقاد نطفتيهما في وقت واحد ، وتغذّيا من غذاء واحد.

ناهيك عن التفاوت والاختلاف الكامل في بواطنهم عدّ أشكالهم الظاهرية ، وفي خلقهم ورغباتهم وخصوصيات شخصياتهم واستعداداتهم وذوقهم ، بحيث يتكوّن بذلك كيان مستقل منسجم بكلّ احتياجاته الخاصّة.

في عالم الكائنات الحيّة أيضا يوجد آلاف الآلاف من أنواع الحشرات ، الطيور ، الزواحف ، الحيوانات البحرية ، الوحوش الصحراوية ، بكلّ خصائصها النوعية وعجائب خلقتها. كدلالة على قدرة وعظمة وعلم خالقها.

حينما نضع قدمنا في حديقة كبيرة من حدائق الحيوان فسوف نصاب بالذهول والحيرة والدهشة بحيث أنّنا ـ بلا وعي منّا ـ نتوجّه بالشكر والثناء لله المبدع لكلّ هذا الفن الخلّاب على صفحة الوجود. مع أنّنا لا نرى أمامنا في تلك الحديقة إلّا جزء من آلاف الأجزاء من الموجودات الحيّة في العالم.

وبعد عرض تلك الأدلّة التوحيدية يقول تعالى في الختام جامعا : نعم إنّ الأمر كذلك( كَذلِكَ ) (١) .

ولأنّ إمكانية الانتفاع من آيات الخلق العظيمة هذه تتوفّر أكثر عند العباد العقلاء والمفكّرين يقول تعالى في آخر الآية :( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) .

نعم فالعلماء من بين جميع العباد ، هم الذين نالوا المقام الرفيع من الخشية «وهي الخوف من المسؤولية متوافق مع إدراك لعظمة الله سبحانه» ، حالة (الخشية) هذه تولّدت نتيجة سبر أغوار الآيات الآفاقية والأنفسية ، والتعرّف على حقيقة علم وقدرة الله وغاية الخلق.

__________________

(١) حول ما هو إعراب «كذلك» أعطيت احتمالات عديدة ، بعضهم قالوا بأنّها جملة مستقلّة تقديرها (الأمر كذلك) ونحن انتخبنا في تفسيرنا هذا المعنى لكونه الأنسب ، ولكن البعض ربطوها بالجملة السابقة فقالوا : إنّ المعنى هو كما أنّ الثمرات وجدد الجبال مختلف ألوانها كذلك الناس والدواب والأنعام ، وقد احتمل أيضا أن تكون الجملة مرتبطة بما بعدها والمعنى : كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية.

٧٥

الراغب في مفرداته يقول : «الخشية خوف يشوبه تعظيم ، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه ، ولذلك خصّ العلماء بها».

قلنا تكرارا بأنّ الخوف من الله بمعنى الخوف من المسؤولية التي يواجهها الإنسان ، الخوف من أن يقصّر في أداء رسالته ووظيفته ، ناهيك عن أنّ إدراك جسامة تلك المسؤولية يؤدّي أيضا إلى الخشية ، لأنّ الله المطلق قد عهد بها إلى الإنسان المحدود الضعيف ، (تأمّل بدقّة)!!

كذلك يستفاد من هذه الجملة ضمنا بأنّ العلماء الحقيقيين هم أولئك الذين يستشعرون المسؤولية الثقيلة حيال وظائفهم ، وبتعبير آخر : أهل عمل لا كلام ، إذ أنّ العلم بدون عمل دليل على عدم الخشية ، ومن لا يستشعر الخشية لا تشمله الآية أعلاه.

هذه الحقيقة وردت في حديث عن الإمام زين العابدين علي بن الحسينعليه‌السلام حيث يقول : «وما العلم بالله والعمل إلّا إلفان مؤتلفان فمن عرف الله خافه ، وحثّه الخوف على العمل بطاعة الله ، وإنّ أرباب العلم وأتباعهم (هم) الذين عرفوا الله فعملوا له ورغبوا إليه ، وقد قال الله :( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) »(١) .

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية «يعني بالعلماء من صدق قوله فعله ومن لم يصدق قوله فعله فليس بعالم»(٢) .

وفي حديث آخر جاء «أعلمكم بالله أخوفكم لله»(٣) .

ملخّص القول أنّ العلماء ـ بالمنطق القرآني ـ ليسوا أولئك الذين تحوّلت أدمغتهم إلى صناديق للآراء والأفكار المختلفة من هنا وهناك ومليئة بالقوانين والمعادلات العلميّة للعالم وتلهج بها ألسنتهم ، أو الذين سكنوا المدارس

__________________

(١) روضة الكافي ، طبقا لنقل نور الثقلين ، مجلّد ٤ ، صفحة ٣٥٩.

(٢) مجمع البيان ، تفسير الآيات مورد البحث.

(٣)

٧٦

والجامعات والمكاتب ، بل إنّ العلماء هم أصحاب النظر الذين أضاء نور العلم والمعرفة كلّ وجودهم بنور الله والإيمان والتقوى ، والذين هم أشدّ الناس ارتباطا بتكاليفهم مع ما يستشعرونه من عظمة المسؤولية إزاءها.

نقرأ في سورة القصص أيضا أنّه حينما اغترّ «قارون» واستشعر الرضى عن نفسه وادّعى لها مقام العلم ، قام يعرض ثروته أمام الناس ، وتمنّى عبّاد الدنيا الذين أسرتهم تلك المظاهر البرّاقة أن تكون لهم مثل تلك الثروة والإمكانية الدنيوية ، ولكن علماء بني إسرائيل قالوا لهم : إنّ ثواب الله خير وأبقى لمن آمن وعمل صالحا ، ولا يفوز بذلك إلّا الصابرون المستقيمون :( وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ ) (١) .

وفي ختام الآية يقول تعالى ، كدليل موجز على ما مرّ :( إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) .

«عزّته» وقدرته اللامتناهية منبع للخوف والخشية عند العلماء ، و (غفرانه) ، سبب في الرجاء والأمل عندهم ، وبذا فإنّ هذين الاسمين المقدسين يحفظان عباد الله بين الخوف والرجاء ، ونعلم بأنّه لا يمكن إدامة الحركة باتّجاه التكامل بدون الاتّصاف بهاتين الصفتين بشكل متكافئ.

* * *

__________________

(١) القصص ـ ٨٠

٧٧

الآيتان

( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) )

التّفسير

التجارة المربحة مع الله :

بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى مرتبة الخوف والخشية عند العلماء ، تشير الآيات مورد البحث إلى مرتبة «الأمل والرجاء» عندهم أيضا ، إذ أنّ الإنسان بهذين الجناحين ـ فقط ـ يمكنه أن يحلّق في سماء السعادة ، ويطوي سبيل تكامله ، يقول تعالى أوّلا :( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ ) (١) .

بديهي أنّ «التلاوة» هنا لا تعني مجرّد القراءة السطحية الخالية من التفكّر والتأمّل ، بل قراءة تكون سببا وباعثا على التفكّر ، الذي يكون بدوره باعثا على العمل الصالح ، الذي يربط الإنسان بالله من جهة ، ومظهر ذلك الصلاة ، ويربطه

__________________

(١) يلاحظ أنّ «يرجون» خبر «أنّ».

٧٨

بخلق الله من جهة ثانية ، ومظهر ذلك الإنفاق من كلّ ما تفضّل به الله تعالى على الإنسان ، من علمه ، من ماله وثروته ونفوذه ، من فكره الخلّاق ، من أخلاقه وتجاربه ، من جميع ما وهبه الله.

هذا الإنفاق تارة يكون (سرّا) ، فيكون دليلا على الإخلاص الكامل. وتارة يكون (علانية) فيكون تعظيما لشعائر الله ودافعا للآخرين على سلوك هذا الطريق.

ومع الالتفات إلى ما ورد في هذه الآية والآية السابقة نستنتج أنّ العلماء حقّا هم الذين يتّصفون بالصفات التالية :

* قلوبهم مليئة بالخشية والخوف من الله المقترن بتعظيمه تعالى.

* ألسنتهم تلهج بذكر الله وتلاوة آياته.

* يصلّون ويعبدون الله.

* ينفقون في السرّ والعلانية ممّا عندهم.

* وأخيرا ومن حيث الأهداف ، فإنّ أفق تفكيرهم سام إلى درجة أنّهم أخرجوا من قلوبهم هذه الدنيا الماديّة الزائلة ، ويتأمّلون ربحا من تجارتهم الوافرة الربح مع الله وحده ، لأنّ اليد التي تمتدّ إليه لا تخيب أبدا.

والجدير بالملاحظة أيضا أنّ «تبور» من «البوار» وهو فرط الكساد ، ولمّا كان فرط الكساد يؤدّي إلى الفساد كما قيل «كسد حتّى فسد» عبّر بالبوار عن الهلاك ، وبذا فإنّ «التجارة الخالية من البوار» تجارة خالية من الكساد والفساد.

ورد في حديث رائع أنّه جاء رجل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله ، ما لي لا أحبّ الموت؟ قال : «ألك مال» قال : نعم. قال : «فقدّمه» قال : لا أستطيع. قال : «فإنّ قلب الرجل مع ماله ، إن قدّمه أحبّ أن يلحق به ، وإن أخّره أحبّ أن يتأخّر معه»(١) .

إنّ هذا الحديث في الحقيقة يعكس روح الآية أعلاه ، لأنّ الآية تقول إنّ الذين

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٠٧.

٧٩

يقيمون الصلاة ، وينفقون في سبيل الله لهم أمل وتعلّق بدار الآخرة ، لأنّهم أرسلوا الخيرات قبلهم ولهم الميل للحوق به.

الآية الأخيرة من هذه الآيات ، توضّح هدف هؤلاء المؤمنين الصادقين فتقول : انّهم يعملون الخيرات والصالحات( لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) (١) .

هذه الجملة في الحقيقة تشير منتهى إخلاصهم ، لأنّهم لا ينظرون إلّا إلى الأجر الإلهي ، أي شيء يريدونه من الله يطلبونه ، ولا يقصدون به الرياء والتظاهر وتوقّع الثناء من هذا ومن ذاك ، إذ أنّ أهمّ قضيّة في الأعمال الصالحة هي «النيّة الخالصة».

التعبير بـ «أجور» في الحقيقة لطف من الله ، فكأنّ العباد يطلبون من الله مقابل أعمالهم أجرا!! في حال أنّ كلّ ما يملكه العباد منه تعالى ، حتّى القدرة على إنجاز الأعمال الصالحة أيضا هو الذي أعطاهم إيّاها.

وألطف من هذا التعبير قوله( وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) الذي يبشّرهم بأنّه علاوة على الثواب الذي يكون عادة على الأعمال والذي يكون مئات أو آلاف الأضعاف المضاعفة للعمل ، فإنّه يزيدهم من فضله ، ويعطيهم من سعة فضله ما لم يخطر على بال ، وما لا يملك أحد في هذه الدنيا القدرة على تصوره.

جاء في حديث عن ابن مسعود عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في قوله :( وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) : هو الشفاعة لمن وجبت له النار ممّن صنع إليه معروفا في الدنيا(٢) .

وبذا فإنّهم ليسوا فقط من أهل النجاة ، بل إنّهم يكونون سببا في نجاة الآخرين بفضل الله ولطفه.

__________________

(١) جملة «ليوفّيهم» إمّا أنّها متعلّقة بجملة «يتلون كتاب الله ...» وعليه يكون معناها «إنّ هدفهم من التلاوة والصلاة والإنفاق الحصول على الأجر الإلهي» أو أنّها متعلّقة بـ «لن تبور ...» وبذا يكون معناها «إنّ تجارتهم لن يصيبها الفساد لأنّ المثيب لهم هو الله تعالى».

(٢) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٠٧.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً *وَحَدَائِقَ غُلْبًا *وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) ( عبس: ٢٧ ـ ٣١ )، ثمّ قال: ( هذا كله عرفناه فما الأبّ ؟ ) ثمّ رفع عصا كانت في يده فقال: ( هذا لعمر الله هو التكلّف فما عليك أن تدري ما الأبّ، اتبعوا ما بيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربّه )(١) .

(ز): خمسةُ أشخاصٍ أُخذوا في الزنا

أحضر عمر بن الخطاب خمسة نفر أخذوا في زنا فأمر أن يقام على كلّ واحد منهم الحدّ وكان أمير المؤمنين حاضراً فقال: « يا عمر، ليس هذا حكمهم »، قال عمر: أقم أنت عليهم الحكم، فقدّم واحداً منهم فضرب عنقه، وقدم الثاني فرجمه حتّى مات وقدّم الثالث فضربه الحدّ، وقدّم الرابع فضربه نصف الحدّ، وقدّم الخامس فعزّره، فتحير الناس وتعّجب عمر فقال: يا أبا الحسن خمسة نفر في قصّة واحدة، أقمت عليهم خمس حكومات ( أي أحكام ) ليس فيها حكم يشبه الآخر ؟ قال :

« نعم أما الأوّل: فكان ذميّاً وخرج عن ذمّته فكان الحكم فيه السيف.

وأمّا الثاني: فرجل محصن قد زنا فرجمناه.

وأمّا الثالث: فغير محصن زنا فضربناه الحدّ.

وأمّا الرابع: فرجل عبد زنا فضربناه نصف الحدّ.

وأمّا الخامس: فمجنون مغلوب على عقله عزّرناه ».

فقال عمر: ( لا عشت في أمّة لست فيها يا أبا الحسن )(٢) .

هذه نماذج قليلة من الموارد التي لم يرد فيها نص صريح، وقد واجهت كبار الصحابة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعجزوا عن حلّ معضلاتها ممّا يدلّ بوضوح، على أنّه لو كان

__________________

(١) المستدرك للحاكم ٢: ٥١٤، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ١١: ٢٦٨، الكشّاف ٣: ٣١٤.

(٢) الكافي ٧: ٢٦٥.

١٢١

الصحابة مستوعبين لكلّ أحكام الشريعة وأبعادها، لأجابوا عليها دون تحيّر أو تردد. ولأصابوا فيما أجابوا. وهذا يدل بصراحة لا إبهام فيها، على أنّ الاُمّة كانت بحاجة شديدة إلى إمام عارف بأحكام الإسلام معرفةً كافيةً كاملةً وحامل لنفس الكفاءات والمؤهلات النفسيّة والفكريّة التي كان يتحلّى بها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ( فيما عدا مقام الوحي والنبوة )، إذ بهذه الصورة فحسب، كان من الممكن أن يلي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويخلفه في قيادة الاُمّة ويسد مسدّه، من حل معضلاتها، ومعالجة مشاكلها التشريعية والفكريّة المستجدّة، دون أن يحدث له ما حدث للصحابة من العجز والارتباك، ومن التحيّر والمفاجأة ـ كما عرفت ـ.

وإليك بقية الأوجه التي تدلّ على هذا الادّعاء المدعم بالدليل :

* * *

٢. الفراغ في مجال تفسير القرآن وشرح مقاصده

لم يكن القرآن الكريم حديثاً عاديّاً، وعلى نسق واحد، بل فيه: المحكم والمتشابه والعامّ، والخاصّ، والمطلق والمقيّد، والمنسوخ والناسخ، مما يجب على المسلمين أن يعرفوها جيداً ليتسنّى لهم أن يدركوا مقاصد الكتاب العزيز ومفاداته(١) .

ثمّ لـمّا كان هذا الكتاب الإلهيّ، جارياً في حديثه مجرى كلام العرب وسائراً على نهجهم في البلاغة وطرقها فإنّ الوقوف على معانيه ورموزه ولطائفه كان يتوقف على معرفة كاملة بكلامهم وبلاغتهم.

أضف إلى كل ذلك، أنّ القرآن إذ كان كتاباً إلهياً حاوياً لأدقّ المعارف وأرفعها

__________________

(١) ولقد أشار الإمام عليّعليه‌السلام إلى هذه الاُمور بقوله :

« خلّف ( أي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فيكم كتاب ربّكم، مبيّناً حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله، وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه وخاصّه وعامّه وعبره وأمثاله، ومرسله ومحدوده ومحكمه ومتشابهه، مفسّراً مجمله ومبيّناً غوامضه » نهج البلاغة: الخطبة رقم (١).

١٢٢

درجةً، ومنطوياً على علوم لم تكن مألوفةً في ذلك العصر، وعلى أبعاد عديدة(١) تخفى على العاديين من الناس، فإنّ الإطلاع على هذه الأبعاد والأوجه والحقائق كان يقتضي أن يتصدى لشرحها وتفسيرها وبيان مفاهيمها العالية جليلها ودقيقها: النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو من يليه في العلم والكفاءة والمؤهلات الفكريّة صيانةً من الوقوع في الاتجاهات المتباينة، والتفاسير المتعارضة التي تؤول إلى المذاهب المتناقضة والمسالك المتناحرة ـ كما حدث ذلك في الاُمّة الإسلاميّة ـ مع الأسف.

ولو سأل سائل :

إنّ القرآن الكريم يصف نفسه بأنه كتاب مبين إذ يقول:( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) ( المائدة: ١٥ ).

كما يصف نفسه بأنّه نزل بلسان عربي مبين فيقول:( وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) ( النحل: ١٠٣ ).

ويقول في آية اخرى بأن الله سبحانه وتعالى يسّره للذكر حيث يقول مكرّراً:( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) ( القمر: ١٧، ٢٢، ٣٢، ٤٠ ).

ويصرّح في موضع آخر بأنّه سبحانه يسره بلسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( الدخان: ٥٨ ).

ومع ذلك كيف يحتاج إلى التفسير والتوضيح، وما التفسير إلّا رفع الستر وكشف القناع عنه ؟.

كيف يحتاج إلى مبيّن ومفسّر قد قال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه: « إنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ».

وقال الإمام عليّعليه‌السلام في شأنه: « كتاب الله تبصرون به وتنطقون به

__________________

(١) ولقد أشار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى هذا بقوله :

« له ظهر وبطن وظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره انيق وباطنه عميق له نجوم وعلى نجومه نجوم لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه » الكافي ( كتاب القرآن ) ٢: ٥٩٨ ـ ٥٩٩.

١٢٣

وتسمعون به وينطق بعضه ببعض »(١) .

لأجبنا: صحيح أنّ القرآن الكريم يصف نفسه بما ذكر، ولكنّه يصف نفسه أيضاً بأنّه نزل حتى يبيّنه الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله للناس إذ يقول تعالى:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل: ٤٤ ).( وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ) ( النحل: ٦٤ ).

فقد وصف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في هاتين الآيتين، بأنّه مبيّن لما في الكتاب لا قارئ فقط.

فكم من فرق بين القراءة والتبيين ؟.

بل يذكر القرآن الكريم بأنّ بيان القرآن عليه سبحانه، فهو يبيّن للرسول والرسول يبيّن للناس، كما يقول سبحانه:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثمّ إنّعَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ( القيامة: ١٦ ـ ١٩ ).

إنّ وجود هاتين الطائفتين من الآيات في القرآن، يكشف لنا عن أنّ القرآن رغم وضوحه من حيث اللفظ والمعنى والظواهر، ورغم أنّه منزّه عن الشباهة بكتب الألغاز والأحاجي إذ أنّه كتاب تربية وتزكية وهداية عامّة، فإنّه يحتاج إلى ( مبيّن ) ومفسّر لعدّة أسباب :

أوّلاً: وجود المجملات في أحكام العبادات والمعاملات الواردة في آياته.

ثانياً: كون آياته ذات أبعاد وبطون متعددة.

ثالثاً : ، غياب القرائن الحاليّة التي كانت آياته محفوفة بها حين النزول، وكانت معلومةً للمخاطبين بها في ذلك الوقت.

كلّ هذه الاُمور توجب أن يراجع من يريد فهم الكتاب مصادر تشرح هذه الأمور، وإليك مفصل هذا القول فيما يأتي :

أوّلاً: إنّ القرآن كما ذكرنا ليس كتاباً عادياً، بل هو كتاب إلهيّ اُنزل للتربية

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٢٩ ( طبعة عبده ).

١٢٤

والتعليم ولهداية البشريّة وتهذيبها، وذلك يقتضي أن ينزل القرآن بألوان مختلفة من الخطاب تناسب ما تقتضيه طبيعة التربية والتعليم، ومن هنا نشأ في أسلوب القرآن: المطلق والمقيّد، والعام والخاصّ، والمنسوخ والناسخ، والمحكم والمتشابه، والمجمل والمبيّن كمفاهيم الصلاة والزكاة والحج والجهاد وغيرها فهي رغم كونها واضحة في أول نظرة ولكنّها مجملة من حيث الشروط والأجزاء والموانع والمبطلات والتفاصيل.

فكان لابدّ أن يتولّى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بيان مجمله ومطلقه ومقيده وما شابه ذلك، وقد فعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك بقدر ما تطلّبه ظرفه واقتضته حاجة المسلمين بيد أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكشف القناع عن جميع تفاصيل هذه الاُمور وجزئياتها قاطبة، لعدم الحاجة إلى ذلك، وتحيّناً للظروف المناسبة، وانتظاراً للحاجات والحالات المستجدّة. وإن كان قد أخبر عن اُصولها واُمهاتها أو معظمها، فتعيّن أن يخلّف النبيّ ـ من يماثله بالعلم والدراية بالوحي الإلهيّ المدوّن في الكتاب العزيز، ليسدّ مسدّه في بيان ما يتعلق بالكتاب من اُمور مستجدّة، ويكشف النقاب عن بقية الجزئيات والتفاصيل لتلك المجملات حسب الظروف والحاجات الجديدة والضرورات الطارئة، ممّا أودع النبيّ عنده من معارف الكتاب وعلومه، ويخرج إلى الاُمّة من تلكم المعارف شيئاً فشيئاً.

نعم، قال شيخ الطائفة الطوسيّرحمه‌الله في تفسير قوله سبحانه:( حم *وَالْكِتَابِ المُبِينِ ) ( الزخرف: ١ ـ ٢ والدخان: ١ ـ ٢ ).

( إنّما وصف بأنّه مبين، وهو بيان مبالغة في وصفه بأنّه بمنزلة الناطق بالحكم الذي فيه، من غير أن يحتاج إلى استخراج الحكم من مبيّن آخر، لأنّه يكون من البيان ما لا يقوم بنفسه دون مبيّن حتّى يظهر المعنى فيه )(١) .

ولكن الصحيح أنّ توصيف القرآن بكونه كتاباً مبيّناً، هو وضوح انتسابه إلى الله، بحيث لا يشك أحد في كونه كلام الله والآية نظير قوله سبحانه( ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ

__________________

(١) التبيان ٩: ٢٢٤ ( طبعة النجف الأشرف ).

١٢٥

فِيهِ ) ( البقرة: ٢ )، أي لا ريب أنّه منّزل من جانب الله سبحانه.

أضف إلى ذلك أنّ الجمع بين هذه الآية وقوله سبحانه:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل: ٤٤ ) وقوله سبحانه:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثمّ إنّعَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ( القيامة: ١٦ ـ ١٩، ، يقضي، بأنّ المراد هو وضوح مفاهيمه الكليّة لا خصوصياته وجزئياته كما أوضحناه.

ثانياً: لـمّا كان القرآن كتاباً خالداً انزل ليكون دستور البشريّة مدى الدهور، ومعجزة الرسالة الإسلامية الخالدة، تطلّب ذلك أن يكون ذا أبعاد وبطون يكتشف منه كل جيل، ما يناسب عقله وفكره وتقدّمه وترقّيه في مدارج الكمال والصعود، وقد أشار الإمام عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام إلى هذا الأمر حيث قال عن القرآن وعلّة خلوده وغضاضته الدائمة: « إنّ الله تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس، فهو في كلّ زمان جديد، وعند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة »(١) .

فكأنّ القرآن الكريم ـ في انطوائه على الحقائق العلميّة الزاخرة، وعدم إمكان التوصل إلى أعماقه ـ هو النسخة الثانية لعالم الطبيعة الواسع الأطراف، الذي لا يزيد البحث فيه والكشف عن حقائقه وأسراره، إلّا معرفة أنّ الإنسان لا يزال في الخطوات الاولى من التوصّل إلى مكامنه الخفيّة وأغواره، فإنّ كتاب الله تعالى كذلك لا يتوصّل إلى جميع ما فيه من الحقائق والأسرار، لأنّه منزّل من عند الله الذي لا يضمّه أين ولا تحدّده نهاية، ولا تحصى أبعاد قدرته، ولا تعرف غاية عظمته.

إذن، فكون القرآن أمراً مبيّناً لا ينافي أن تكون له أبعاد متعدّدة، وأفاق كثيرة، يكون البعد الواحد منه واضحاً مبيّناً دون الأبعاد الاُخرى.

ولهذا، فإنّ الوقوف على البطون المتعددة بحاجة إلى ما روي من روايات وأخبارحول الآيات، وما ورد في السّنّة من النصوص المبيّنة والأحاديث الموضّحة ،

__________________

(١) البرهان في تفسير القرآن ١: ٢٨.

١٢٦

حتّي تكشف بعض البطون والأبعاد الخفيّة كما هو الحال في بعض أحاديث النبيّ وأهل بيته: وإن كان بعض هذه البطون تنكشف لنا بمرور الزمن وتكامل العقول ونضج العلوم.

وبتعبير آخر: إنّ فهم بعد واحد من أبعاد معاني الآية القرآنيّة، وإن كان ممكناً للجميع، غير أنّ وضوح بعد واحد ومعلوميّته لا تغني عن الإحاطة بالأبعاد والأوجه الاخرى لها.

إنّ فهم بعد واحد من أبعاد الآيات التالية :

( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنبياء: ٢٢ ).

( وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ) ( المؤمنون: ٩١ ).

( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ) ( النمل: ٨٢ ).

وكذا الآيات الواقعة في سورة الحديد، وما بدأ من السور بالتسبيحات.

أقول: إنّ فهم بعد واحد من أبعاد هذه الآيات وإن كان أمراً ميسّراً للجميع، ولكن لا يمكن لمن له أدنى إلمام بمفاهيم القرآن وأسلوب خطاباته أن يدّعي، أنّ جميع أبعاد هذه الآيات مفهومة للجميع بمجّرد الوقوف على اللغة العربيّة والاطّلاع على قواعدها.

كلاّ، فإنّ الوقوف على مغزى هذه الآيات وأبعادها وبطونها وآفاقها، يحتاج إلى جهود علميّة واطّلاع شامل ودقيق على السنّة المطهّرة، وما جاء فيها حول الآيات من توضيحات وبيانات.

وقد تمكّن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يرفع النقاب عن جملة من هذه الأبعاد في حدود ما سمحت له الظروف، واستعدّت له النفوس المعاصرة، فكان لابدّ من وجود من يخلّفه

١٢٧

للقيام بهذه المهمة الخطيرة، فيما يأتي من الزمان، ولمن يأتي من الأفراد والجماعات.

ثالثاً: لقد نزل القرآن الكريم بالتدريج في مناسبات مختلفة كانت تستدعي نزول آيات من الوحي الإلهيّ المقدسّ ولذلك، فقد كان القرآن ـ في عصر تنزّله ـ محفوفاً بالقرائن التي كانت تبيّن مقاصده، وتعيّن على فهم أهدافه وغاياته.

ولهذا فإنّ القرآن وإن كان مبيّناً في حين نزوله بيد أنّ مرور الزمن، وبعد الناس عن عهد نزوله، وانفصال القرائن الحالية عن الآيات صيّر القرآن ذا وجوه وجعل آياته ذات احتمالات عديدة، لغياب علل النزول وأسبابه التي كانت قرائن حاليّة من شأنها أن توضّح مقاصد الكتاب وتفسر عن غاياته.

وهذا أمر يعرفه كلّ من له إلمام بالقرآن الكريم، وتاريخه، وعلومه.

ولأجل ذلك، يطلب الإمام عليّعليه‌السلام من ابن عباس عندما بعثه للمحاجّة مع الخوارج أن لا يحاججهم بالقرآن، لأنّه أصبح ذا وجوه إذ يقولعليه‌السلام : « لا تخاصمهم بالقرآن، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه تقول ويقولون. ولكن حاججهم بالسنّة فإنهم لم يجدوا عنها محيصاً »(١) .

وإليك نماذج من الاختلاف الموجود في هذه الآيات بين الاُمّة، ولا يمكن رفع هذا الاختلاف إلّا بإمام معصوم تعتمد عليه الاُمّة، وتعتبر قوله قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

١. قال سبحانه في آية الوضوء:( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ( المائدة: ٦ ).

وقد تضاربت الآراء في فهم هذه الآية، وصارت الاُمّة إلى قولين :

فمن عاطف لفظ( أَرْجُلَكُمْ ) على الرؤوس فيحكم على الأرجل بالمسح.

ومن عاطف له على الأيدي فيحكم على الأرجل بالغسل.

ومن المعلوم، أنّ إعراب القرآن الكريم إنّما حدث بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة (٧٧).

١٢٨

فأيّ الرأيين هو الصحيح ؟(١) .

٢. لقد حكم الله تعالى على السارق والسارقة بقطع الأيدي حيث قال:( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) ( المائدة: ٣٨ ).

وقد اختلفت الاُمّة في مقدار القطع وموضع اليد :

فمن قائل: إنّ القطع من اُصول الأصابع دون الكفّ وترك الإبهام، كما عليه الإماميّة وجماعة من السلف.

ومن قائل: إنّ القطع من الكوع، وهو المفصل بين الكفّ والذراع، كما عليه أبو حنيفة ومالك والشافعيّ.

ومن قائل: إنّ القطع من المنكب كما عليه الخوارج(٢) .

٣. أمر الله سبحانه الورثة بإعطاء السدس للكلالة في قوله سبحانه:( وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ) ( النساء: ١٢ ).

وفي الوقت نفسه يحكم سبحانه بأعطاء الكلالة النصف أو الثلثين كما قال:( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ) ( النساء: ١٧٦ ).

فما هو الحل وكيف الجمع بين هاتين الآيتين ؟

لا شكّ أنّه لم يكن ثمة إبهام في مورد هاتين الآيتين بل حدث الإبهام في ذلك فيما بعد.

ألا يدلّ هذا على ضرورة وجود الإمام، الذي يرفع الستار عن الوجه الحقّ بما

__________________

(١) وممّن أقرّ بالحقيقة وأنّ مدلولها يوافق مذهب الإماميّة، ابن حزم الظاهريّ في كتابه المحلّى، والفخر الرازيّ في تفسيره والحلبيّ في كتاب منية المتملّي في شرح غنية المصلّي فلاحظ المحلّى ٣: ٥٤، لاحظ المسألة (٢٠٠) فإنّه أدّى حقّ المقال فيها، ومفاتيح الغيب ١١: ١٦١ ( طبع دار الكتب العلمية ).

(٢) راجع الخلاف للطوسيّ ( كتاب السرقة ): ١٨٤.

١٢٩

عنده من علوم مستودعة.

ولهذا أيضاً عمد علماء الإسلام إلى تأليف كتاب حول شأن نزول الآيات، كالواحديّ وغيره، جمعوا فيها ما عثروا عليه من وقائع وأحاديث في هذا السبيل.

على أنّ بعض الآيات ما لم يضّم إليها، ما ورد حولها من شأن النزول لكانت غير واضحة المقصود، وإليك نماذج من ذلك :

١. قوله سبحانه:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( البقرة: ١٨٩ ).

فيقال، أي مناسبة بين السؤال عن الأهلّة والإجابة عنها بأنّها مواقيت للناس وبين قوله:( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا ) وعلى فرض وضوح المناسبة، ماذا يقصد القرآن من هذا الدستور( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) ؟ أليس هذا توضيحاً للواضح ؟ ولكن بالمراجعة إلى ما ورد حوله يظهر الجواب عن كلا السؤالين.

٢. قوله سبحانه:( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ) ( النمل: ٨٢ ).

فما هذه الدابة التي تخرج من الأرض، وكيف تكلمهم ومع من تتكلم ؟.

٣. وقوله سبحانه:( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إلّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( التوبة: ١١٨ ).

إلى غير ذلك من هذه الآيات التي تتضح الحقيقة فيها بالمراجعة إلى ما حولها من الأحاديث الصحيحة.

هذا هو مجمل القول في علّة احتياج القرآن إلى مبيّن، وللوقوف على تفصيله لابدّ من بسط الكلام والتوسع في الحديث، وقد ألفّنا في ذلك رسالةً خاصّة.

١٣٠

إنّ إيقاف الاُمّة على مقاصد الكلام الإلهيّ، من دون زيادة أو نقصان، ومن دون تحريف أو تزييف، ومن دون جهل أو شطط يحتاج إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو من يتحلى بمثل ما يتحلى به النبيّ من كفاءات علمية ومؤهلات فكريّة ويكون مضافاً إلى ذلك عيبةً لعلمه، وأميناً على سره، ومؤدّباً بتأديبه، وناشئاً على ضوء تربيته، حفاطاً على خطّ الرسالة من الشذوذ، وصيانةً للفكر الإسلاميّ من الانحراف، وصوناً للاُمّة من الوقوع في متاهات الحيرة والضلال والأخذ بالأهواء والأضاليل.

لقد كان من المتعيّن على الله بحكم الضرورة والعقل، وانطلاقاً من الاعتبارات المذكورة، أن يقرن كتابه بهاد يوضح خصوصياته، ويبيّن أبعاده، ويكشف عن معالمه، ليؤوب إليه المسلمون عند الحاجة، وترجع إليه الاُمّة عند الضرورة ويكون المرجع الصادق الأمين لمعرفة القرآن حتّى يتحقّق بذلك غرض الرسالة الإلهيّة، وهو الإرشاد والهداية، ودفع الاختلاف والغواية الناشئة من التفسيرات الشخصيّة العفويّة للقرآن الكريم.

إنّ ترك أمر الاُمّة وعدم نصب من يقدر ـ فيما يقدر ـ على هذه المهمّة القرآنيّة الخطيرة على ضوء ما استودع عنده النبيّ من معارف وعلوم إلهيّة قرآنيّة يؤدّي إلى اختلاف الاُمّة في الرأي والتفسير، وهو بدوره يؤدّي لا محالة إلى ظهور الفرق والمذاهب المختلفة الشاذّة كما يشهد بذلك تأريخ الاُمّة الإسلاميّة.

يقول منصور بن حازم، قلت لأبي عبد الله ( جعفر بن محمّد الصادق )عليه‌السلام :

إنّ الله أجلّ وأكرم من أن يعرف بخلقه بل الخلق يعرفون بالله.

قال: « صدقت ».

قلت: إنّ من عرف أنّ له ربّاً فينبغي له أن يعرف أنّ لذلك الربّ رضىً وسخطاً، وأنّه لا يعرف رضاه وسخطه إلّا بوحي أو رسول، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل فإذا لقيهم عرف أنّهم الحجّة، وأنّ لهم الطاعة المفترضة، وقلت للناس: تعلمون أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان هو الحجّة من الله على خلقه ؟ قالوا: بلى، قلت: فحين

١٣١

مضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من كان الحجّة على خلقه ؟ فقالوا: القرآن، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجّيء والقدريّ والزنديق الذي لا يؤمن به حتّى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّةً إلّا بقيّم، فما قال فيه من شيء كان حقاً، فقلت لهم: من قيّم القرآن ؟(١) فقالوا: ابن مسعود قد كان يعلم، وعمر يعلم، وحذيفة يعلم، قلت: كلّه ؟ قالوا: لا، فلم أجد أحداً يقال أنّه يعرف ذلك كلّه إلّا عليّاًعليه‌السلام وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: أنا أدري، فأشهد أنّ عليّاًعليه‌السلام كان قيّم القرآن، وكانت طاعته مفترضةً، وكان الحجّة على الناس بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّ ما قال في القرآن فهو حقّ.

فقال ( الإمام الصادق ): « رحمك الله »(٢) .

كما ورد شاميّ على الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام فقال له: « كلّم هذا الغلام »، يعني هشام بن الحكم، فقال: نعم، ثمّ دار بينهم حديث فقال الغلام للشاميّ: أقام ربّك للناس حجّةً ودليلاً كيلا يتشتتوا أو يختلفوا، يتألّفهم ويقيم أودهم ويخبرهم بفرض ربّهم.

قال: فمن هو ؟

قال: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال هشام: فبعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

قال: الكتاب والسنّة.

قال هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنّة في رفع الاختلاف عنّا ؟

قال الشاميّ: نعم.

قال: فلم اختلفنا أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إياّك ؟

__________________

(١) أي من يقوم بأمر القرآن ويعرف ظاهره وباطنه ومجمله ومأوّله ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه بوحي إلهيّ أو بإلهام رباني، أو بتعلم نبويّ ( راجع مرآة العقول ).

(٢) الكافي ١: ١٦٨ ـ ١٦٩.

١٣٢

قال: فسكت الشاميّ.

فقال أبو عبد الله للشاميّ: « مالك لا تتكلم ؟ ».

قال الشاميّ: إن قلت: لم نختلف كذبت، وإن قلت: إنّ الكتاب والسنّة يرفعان عنّا الاختلاف أبطلت، لأنهّما يحتملان الوجوه، وإن قلت: قد اختلفنا وكلّ واحد منّا يدّعي الحقّ، فلم ينفعنا إذن الكتاب والسنّة إلّا أنّ لي عليه هذه الحجّة(١) .

أجل، لابدّ من قائم بأمر القرآن وهاد للاُمّة إلى مقاصده وحقائقه، لكي لا تضلّ الاُمّة ولا تشذّ عن صراطه المستقيم.

وهذا الهادي الذي يجب أن يقرن الله به كتابه هو من عناه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله الذي تواتر نقله بين السنّة والشيعة.

فقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله وأهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض »(٢) .

وروي هكذا أيضاً: « إنّي قد تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي: الثّقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، إلّا وأنهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض »(٣) .

فقد صرح النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بعدم افتراق الكتاب والعترة، وهذا دليل على علمهم بالكتاب علماً وافياً وعدم مخالفتهم له قولاً وعملاً.

كما أنّه جعلهما خليفتين بعده، وذلك يقتضي، وجوب التمسك بهم كالقرآن

__________________

(١) الكافي ١: ١٧٢.

(٢ و ٣) رواه أحمد بن حنبل في مسنده ٥: ١٨٢ و ١٨٩، والحاكم في مستدركه ٣: ١٠٩، ومسلم في صحيحه ٧: ١٢٢، والترمذيّ في سننه ٢: ٣٠٧، والدارميّ في سننه ٢: ٤٣٢، والنسائيّ في خصائصه: ٣٠، وابن سعد في طبقاته ٤: ٨، والجزريّ في اسد الغابة ٢: ١٢، وغيرها من كتب المسانيد والتفاسير والسير والتواريخ واللغة من الفريقين.

وقد أفرد دار التقريب رسالةً ذكر فيها مسانيد الحديث ومتونه ونشره عام ١٣٧٥ ه‍.

١٣٣

ولزوم اتّباعهم على الإطلاق لعلمهم بالكتاب وأسراره وبمصالح الاُمّة واحتياجاتها المتعلقة بالقرآن.

وهو من حيث المجموع، يدلّ على حاكميّة العترة النبويّة وسلطتهم وولايتهم على الناس بعد الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

* * *

٣. الفراغ في مجال تكميل الاُمّة روحياً

إنّ نظرةً دقيقةً إلى الكون، تهدينا إلى أنّ الله خلق كلّ شيء لهدف معيّن هو غاية كماله، وعلّته الغائيّة، وقد زوده بكلّ ما يبلّغه إلى ذلك الكمال، ويوصله إلى تلك الغاية المنشودة.

ولم يكن « الإنسان » بمستثنى من هذه القاعدة الكلية الكونيّة، فقد زوده الله تعالى ـ بعد أن أفاض عليه الوجود ـ بكل ما يوصله إلى كماله الماديّ

ولم يكن معقولاً أن يهمل الله تكامل الإنسان في الجانب المعنويّ، وهو الذي أراد له الكمال المادّيّ وهيّأ له أسبابه، وقيّض وسائله.

ولمّا كان تكامل الإنسان في الجانبين: المادّيّ والمعنويّ لا يمكن إلّا في ظلّ الهداية الإلهيّة خاصّةً، وكانت الهداية فرع الإحاطة بما في الشيء من إمكانات وخصوصيّات وأجهزة وحاجات، وليس أحد أعرف بالإنسان من خالقه فهو القادر على هدايته، وتوجيهه، نحو التكامل والصعود إلى كماله المطلوب.

من هنّا تطلّب الأمر إرسال الرسل إلى البشر ليضيئوا للبشريّة طريق الرقيّ والتقدّم، بالتزكية والتعليم والتربية، ويساعدوها على تجاوز العقبات والعراقيل، ليبلغوا بها إلى الكمال الذي أراده الله لها.

وقد قام انبياء الله ورسله الكرام ـ بكلّ ما في مقدورهم ووسعهم ـ بهداية البشريّة على مدار الزمن، وحقّقوا من النجاحات والنتائج العظيمة ما غيّر وجه التاريخ البشريّ ،

١٣٤

وكان منشأ الحضارات الإنسانيّة العظمى، ومنطلقاً للمدنيّات الخالدة.

لقد كان دور الأنبياء والرسل في تكميل البشريّة معنويّاً وروحيّاً، دوراً أساسيّاً وعظيماً، بحيث لولاه لبقيت البشريّة في ظلام دامس من التخلّفات الفكريّة والجاهليّات المقيتة.

ولقد كان هذا الدور منطقيّاً وطبيعيّاً، فالبشريّة بحكم ما تتنازعها من أهواء ومطامع، ويكتنفها من جهل بالحقّ والعدل، لا يمكنها بنفسها أن تشقّ طريقها نحو التكامل المنشود فكم من مرّة ابتعدت البشريّة عن العناية الربانيّة والهدايّة الإلهيّة، فسقطت في الحضيض، ونزلت إلى مستوى الطبيعة البهيميّة وعادت كالأنعام بل أضلّ.

ولقد أشار الإمام السجّاد زين العابدين عليّ بن الحسينعليه‌السلام إلى حاجة البشريّة إلى الهدايّة الإلهيّة، وأثر هذه الهداية في تكامل البشريّة سلباً وإيجاباً، إذ قال في دعائه الأوّل في الصحيفة السجاديّة: « الحمد لله الذي لو حبس عن عباده معرفة حمده على ما أبلاهم من مننه المتتابعة وأسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة لتصرّفوا في مننه فلم يحمدوه وتوسّعوا في رزقه فلم يشكروه، ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الإنسانيّة إلى حدّ البهيميّة، فكانوا كما وصف في محكم كتابه( إِنْ هُمْ إلّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ) »(١) .

ولقد كان إيصال هذه الهداية الإلهيّة التكميليّة الضروريّة إلى البشر غير ميسور إلّا عن طريق إرسال الرسل وبعث الأنبياء الأصفياء الهداة.

إنّ دراسةً سريعةً خاطفةً لحالة العالم الإنسانيّ، وخاصّة حالة المجتمع العربيّ الساكن في الجزيرة العربية قبيل الإسلام، وما كان يعاني منه الإنسان من تخلف وتأخّر وسقوط، وما تحقق له من تقدّم ورقيّ واعتلاء في جميع الأبعاد الأخلاقيّة والفكريّة والإنسانيّة بفضل الدعوة المحمديّة، والجهود التي بذلها صاحب هذه الدعوة المباركة ،

__________________

(١) الصحيفة السجادية: الدعاء الأوّل.

١٣٥

وبفضل ما قام به من عناية ورعاية وإراءة الطريق الصحيح، يكشف عن مدّعى تأثير الهداية الإلهيّة في تكامل المجتمع الإنسانيّ.

إنّ توقف تكامل البشريّة الروحيّ والمعنويّ على إرسال الرسل، وهداية الأنبياء ورعايتهم، هو نفسه يستدعي، وجود الخلف المعصوم العارف بالدين، للنبيّ، ليواصل دفع المجتمع الإسلاميّ في طريق الكمال، ويحفظه من الانقلاب على الأعقاب، والتقهقر إلى الوراء، كيف لا، ووجود الإمام المعصوم العارف بأسرار الشريعة ومعارف الدين، ضمان لتكامل المجتمع، وخطوة كبيرة في سبيل إرتقائه الروحيّ والمعنويّ.

فهل يسوغ لله سبحانه أن يهمل هذا العامل البنّاء الهادي للبشريّة إلى ذروة الكمال ؟.

إنّ الله سبحانه جهّز الإنسان بأجهزة ضروريّة وغير ضروريّة، ليوصله إلى الكمال المطلوب حتّى أنّه تعالى قد زودّه بإنبات الشعر على أشفار عينيه وحاجبيه وتقعير الأخمص من القدمين، لكي تكون حياته لذيذة غير متعبة، فهل تكون حاجته إلى هذه الاُمور أشد من حاجته إلى الإمام المعصوم الذي يضمن كماله المعنوي ؟(١) .

وما أجمل ما قاله أئمة أهل البيت: في فلسفة وجود الإمام المعصوم المنصوب من جانب الله سبحانه، ومدى تأثيره في تكامل الاُمّة :

أ ـ يقول الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام : « إنّ الأرض لا تخلو إلّا وفيها إمام كي ما إذا زاد المؤمنون شيئاً ردهم وإذا نقصوا شيئاً أتمّه لهم »(٢) .

ب ـ روى أبو بصير عن الإمام الصادق [ جعفر بن محمّد ] والإمام الباقر [ محمّد بن عليّ ]عليهما‌السلام : « إنّ الله لم يدع الأرض بغير عالم ولولا ذلك لم يعرف الحقّ من الباطل »(٣) .

__________________

(١) هذا الاستدلال مأخوذ من كلام الشيخ الرئيس ابن سينا في إلهيّات الشفا وكتاب النجاة ( له أيضاً ): ٣٠٤.

(٢ و ٣) الكافي ١: ١٧٨.

١٣٦

ج ـ قال الإمام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام في نهج البلاغة: « أللّهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة، إمّا ظاهراً مشهوراً وإمّا خائفاً مغموراً، لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته »(١) .

وفي حوار طويل جرى بين هشام بن الحكم وهو شاب وبين عمرو بن عبيد العالم المعتزليّ البصريّ، أشار إلى الفائدة المعنويّة الكبرى لوجود الإمام المعصوم فقال هشام: أيّها العالم إنّي رجل غريب أتأذن لي في مسألة ؟

فقال: نعم.

فقال: ألك عين ؟

قال: نعم.

قال: فما تصنع بها ؟

فقال: أرى بها الألوان والأشخاص.

قال: فلك أنف ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

فقال: أشمّ به الرائحة.

قال: ألك فم ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

فقال: أذوق به الطعام.

قال: فلك اُذن ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

__________________

(١) نهج البلاغة: قصار الكلمات.

١٣٧

فقال: أسمع به.

قال: ألك قلب ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

فقال: اميّز به كلّما ورد على هذه الجوارح والحواس.

قال: أو ليس في هذه الجوارح غنىً عن القلب ؟

فقال: لا.

قال: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة ؟

فقال: يا بنيّ إنّ الجوارح إذا شكّت في شيء شمّته أو رأته، أو ذاقته، أو سمعته، ردته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشكّ.

قال هشام: فإنّما أقام الله القلب لشكّ الجوارح [ أي لضبطها ] ؟

قال: نعم.

قال: لا بدّ من القلب وإلاّ لم تستيقن الجوارح ؟

قال: نعم.

قال: يا أبا مروان، فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها ( إماماً ) يصحّح لها الصحيح ويتيّقن به ما شكّ فيه، ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم لايقيم لهم ( إماماً )يردون إليه شكّهم وحيرتهم ويقيم لك ( إماماً ) لجوارحك تردّ إليه حيرتك وشكّك ؟!

قال هشام: فسكت ولم يقل لي شيئاً(١) .

وغير خفي على القارئ النابه، أنّ لزوم الحاجة إلى الإمام المعصوم ليس بمعنى تعطيل أثر الكتاب والسنّة وإنكار قدرتهما على حلّ الكثير من المشكلات والاختلافات، بالنسبة إلى من يرجع إليهما بنيّة صادقة، وتجرّد عن الآراء المسبقة.

__________________

(١) الكافي ١: ١٧٠.

١٣٨

غير أنّ هناك مسائل واُموراً عويصةً ـ خصوصاً فيما يرجع إلى المبدأ والمعاد وإلى فهم كتاب الله وسنّة رسوله ـ فلا مناص للاُمّة من وجود إمام عارف معصوم يخلِّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويقوم مقامه في تكميل المجتمع الإسلاميّ في جميع شؤونه.

وصفوة القول: أنّ تكامل البشريّة الروحيّ والمعنويّ كما أنّه منوط ببعثة الأنبياء ووجود الرسل، فهو كذلك منوط بوجود الإمام المعصوم الذي يتسنى له بما اوتي من علم وعصمة وملكات عالية وكفاءات قياديّة أن يوصل هداية المجتمع الإسلاميّ إلى ذرى الكمال الروحيّ والارتقاء المعنويّ بلا تعثّر ولا إبطاء، ولا تقهقر ولا تراجع.

ومن المعلوم، أنّ الاُمّة لا تقدر على معرفة ذاك الإمام، إلّا بتنصيب من الله سبحانه وتعيينه.

٤. الفراغ في مجال الرد على الأسئلة والشبهات

لقد تعرض الإسلام منذ بزوغه لأعنف الحملات التشكيكية، وكان هدفاً لسهام الشبهات والتساؤلات العويصة والمريبة، التي كان يثيرها اعداء الإسلام والنبيّ والمسلمين من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين.

وقد قام الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته بردّ هذه الشبهات وتبديد تلك الشكوك وصدّ الحملات التشكيكيّة بحزم فريد، وتفوّق عليها بنجاح كبير مستعيناً بالوحي الإلهيّ.

وقد كانت هذه الشبهات تتراوح بين التشكيك في أصل وجود الله أو توحيده أو صدق الرسالة الإسلاميّة أو المعاد والحشر، وغيرها من الاُمور الاعتقاديّة وبعض الاُمور العمليّة.

ولا شكّ، أنّ هذه الحملات كانت تجد اذناً صاغيةً بين بعض المسلمين، وتوجب بعض التزعزع في مواقفهم إلّا أنّها كانت تتبدّد وينعدم أثرها بما كان يقوم به الرسول الأكرم المعلم من ردّ ودفع قاطع وحاسم.

١٣٩

نماذج من الأسئلة العويصة

عندما راجعت قريش يهود يثرب لمعرفة صدق ما يدّعيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم اليهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهنّ، فإن لم يخبر بها فالرجل متقوِّل فروا فيه رأيكم :

١. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم ؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجب.

٢. وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه ؟

٣. وسلوه عن الروح ما هي ؟

فأقبلوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وطرحوا عليه الأسئلة المذكورة، فأخبرهم عن أجوبتها، وأخبرهم بأنّ الأوّل، هم أصحاب الكهف الذين ذكرهم القرآن في سورة الكهف، والثاني، هو ذو القرنين الذي ذكره الله في سورة الكهف أيضاً، وأمّا الثالث فقد أوكل علمه إلى الله بأمره حيث قال:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلّا قَلِيلاً ) ( الإسراء: ٨٥ )، وقد أخبر بكل ذلك بما أوحى الله تعالى إليه(١) .

كما قدم جماعة من كبار النصارى وعلمائهم إلى المدينة لمحاججة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فاستدلوا لاعتقادهم في المسيحعليه‌السلام بكونه ولداً لله، بأنّه لم يكن له أب يعلم وقد تكلّم في المهد، وهذا لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله، فأجابهم بما أوحى إليه الله سبحانه بأنّ أمر عيسى ليس أغرب من أمر آدم الذي لم يكن له لا أب ولا أمّ. فهو أعجب من عيسى الذي ولد من أمّ حيث قال الله في هذا الصدد:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( آل عمران: ٥٩ )(٢) .

وعن أمير المؤمنين عليٍّعليه‌السلام أنّه اجتمع يوماً عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أهل خمسة أديان: اليهود والنصارى والثنويّة والدهريّة ومشركو العرب.

ثمّ وجّه كلّ طائفة من هذه الطوائف أسئلة عويصة ومشكلة إلى النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١: ٣٠٠ و ٥٧٥.

(٢) سيرة ابن هشام ١: ٣٠٠ و ٥٧٥.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581