الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 175167 / تحميل: 5844
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

١
٢

سورة الزّمر

مَكيَّة

وَعَدَدُ آيَاتِهَا خَمس وَسبعُون آية

٣
٤

سورة الزّمر

محتوي سورة الزّمر :

هذه السورة نزلت في مكّة المكرمة ، ولهذا السبب فإنّها تتطرق للقضايا المتعلقة بالتوحيد والمعاد ، وأهميّة القرآن ، ومقام نبوّة نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما هو الحال في بقية السور المكّية.

فالمرحلة التي قضاها المسلمون في مكّة كانت مرحلة للبناء الإيماني والعقائدي ، ولذلك فإن السور المكية حوت أقوى البحوث وأكثرها تأثيرا في هذا المجال. وكانت الأساس القوي المحكم الذي ظهرت آثاره العجيبة في المدينة ، وفي الغزوات وعند مواجهة العدو ، وأمام عراقيل المنافقين ، وفي قبول النظام الإسلامي ، وإذا أردنا معرفة سر الانتصار السريع للمسلمين في المدينة فإنّ علينا أن نطالع دروس مكّة المؤثرة.

وعلى أية حال فإنّ هذه السورة تضم عدّة أقسام مهمّة :

١ ـ تتطرق السورة إلى مسألة الدعوة إلى توحيد الله ، توحيده في الخلق ، توحيده في الربوبية ، توحيده في العبودية ، كما تسلط الضوء على مسألة الإخلاص في العبادة لله ، وآيات هذه السورة في هذا المجال مؤثرة جدّا بحيث تجذب قلب الإنسان وتدفعه نحو الإخلاص.

٢ ـ الأمر المهم الآخر الذي تكرر في عدّة آيات في هذه السورة من بدايتها وحتى نهايتها ، هو مسألة (المعاد) والمحكمة الإلهية الكبرى ، ومسألة الثواب

٥

والعقاب ، وغرف الجنّة ، وكور النّار في جهنّم ، ومسألة الخوف والرهبة من يوم القيامة ، وظهور نتائج الأعمال في ذلك اليوم ، وتجسّدها في ذلك المشهد الكبير ، إضافة إلى أنّها تستعرض قضية اسوداد أوجه الكاذبين والذين افتروا على الله الكذب ، وسوق الكافرين صوب جهنم ، وتعرض الكافرين لتوبيخ وملامة ملائكة العذاب ودعوة أهل الجنّة إلى دخول الجنّة وتقديم ملائكة الرحمة التهاني والتبريكات لهم ، وهذه الأمور التي تدور حول محور المعاد ممزوجة مع قضايا التوحيد بشكل كبير وكأنّها تشكل معها نسيجا واحدا.

٣ ـ قسم آخر من السورة يتناول أهمية القرآن المجيد ، ورغم قلّة عدد آيات هذا القسم ، فهو يجسّد بصورة لطيفة القرآن وتأثيره القوي على القلوب والأرواح.

٤ ـ قسم آخر أيضا يبيّن مصير الأقوام السابقين والعذاب الإلهي الأليم الذي نزل بهم من جراء تكذيبهم لآيات الله الحقّ.

٥ ـ وأخيرا قسم آخر من هذه السورة يتحدث عن مسألة التوبة ، وكون أبواب التوبة مفتوحة لمن يرغب في العودة إلى الله ، وقد تضمّن هذا القسم أقوى آيات القرآن تأثيرا في مجال التوبة ، ويمكن القول بأن آيات هذا القسم تزف البشرى وتحمل أخبارا سارّة قد لا يوجد مثيل لها في بقية آيات القرآن.

هذه السورة معروفة باسم سورة (الزّمر) وهذا الاسم مأخوذ من الآيتين (٧١) و (٧٣) من هذه السورة ، وتعرف أيضا باسم سورة (الغرف) وهذا الاسم مأخوذ من الآية (٢٠) إلّا أن هذه التسمية غير مشهورة.

فضيلة سورة الزمر :

لقد أولت الأحاديث الإسلامية أهمية كبيرة لتلاوة هذه السورة ، وقد ورد حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول فيه : «من قرأ سورة الزّمر لم يقطع الله رجاه ،

٦

وأعطاه ثواب الخائفين الذين خافوا الله تعالى»(١) .

وورد في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام «من قرأ سورة الزمر أعطاه الله شرف الدنيا والآخرة ، وأعزه بلا مال ولا عشيرة ، حتى يهابه من يراه وحرم جسده على النّار»(٢) .

مقارنة فضائل تلاوة سورة الزمر مع محتوياتها في مجال الخوف من الله ، ورجاء رحمته ، والإخلاص في العبودية ، والتسليم المطلق لذات الله ، يوضح أنّ هذه المكافآت إنّما تعطى لمن كانت تلاوته مقدمة للتفكر والتفكر وسيلة للإيمان والعمل.

وبعبارة اخرى : أن يتوغل محتوى السورة في اعماق روحه. ويتجلّى في كافة مظاهر الحياة الاجتماعية والفردية. أجل فمثل هؤلاء الافراد لائقون لهذا الثواب العظيم والرحمة الواسعة.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان بداية سورة الزمر.

(٢) مجمع البيان وثواب الأعمال وتفسير نور الثقلين.

٧

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) )

التّفسير

عليك الإخلاص في الدين!

هذه السورة تبدأ بآيتين تتحدثان عن نزول القرآن المجيد : الأولى تقول : إن الله هو الذي أنزل القرآن ، والثانية : تبيّن محتوى وأهداف القرآن.

في البداية تقول :( تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) (١) .

من الطبيعي أنّ كلّ كتاب تتمّ معرفته من خلال مؤلفه أو منزله ، وعند ما ندرك

__________________

(١)( تَنْزِيلُ الْكِتابِ ) خبر لمبتدأ محذوف والتقدير «هذا تنزيل الكتاب» ، واحتمل بعض المفسّرين أن «تنزيل الكتاب» مبتدأ و «من الله» خير. لكن الرأي الأوّل أصحّ ، و «تنزيل» مصدر بمعنى المفعول. فتكون إضافته إلى الكتاب من باب إضافة الصفة إلى موصوفها ، والمعنى (هذا الكتاب منزل من الله).

٨

أنّ هذا الكتاب السماوي الكبير مستلهم من علم الله القادر والحكيم ، الذي لا يقف أمام قدرته المطلقة شيء ، ولا يخفى على علمه المطلق أمر ، لأيقنّا بلا عناء أن محتوياته حقّ وكلّها حكمة ونور وهداية.

مثل هذه العبارات عند ما ترد في بدايات سور القرآن ، ترشد المؤمنين إلى هذه الحقيقة ، وهي أن كلّ ما هو موجود في القرآن المجيد هو كلام الله وليس بكلام الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورغم كون كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بليغا وحكيما أيضا.

ثم تنتقل السورة إلى عرض محتويات هذا الكتاب السماوي وأهدافه( إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ ) .

لا يوجد فيه غير الحقّ ، ولهذا السبب يتبعه طلاب الحقّ ، والباحثون عن الحقيقة مشغولون بالبحث في محتوياته ، من هنا ، ولكون هدف نزول القرآن يتحدد في إعطاء الدين الخالص للبشرية ، فإنّ آخر الآية يقول :( فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ) .

قد يكون المراد هنا من كلمة (دين) هو عبادة الله ، لأنّ الجملة التي وردت قبلها( فَاعْبُدِ اللهَ ) فيها أمر بالعبادة ، ولذا فإنّ العبارة التي تليها( مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ) تبيّن شروط صحة العبادة والتي تتمثل في الإخلاص وفي الشرك والرياء.

على كلّ حال فإنّ اتساع مفهوم (الدين) وعدم ذكر قيد أو شرط له ، يعطي معنى واسعا ، بحيث يشمل العبادات وبقية الأعمال إضافة إلى العقائد ، وبعبارة أخرى فإنّ (الدين) يتناول مجموعة شؤون الحياة المادية والمعنوية للإنسان ، ويجب على عباد الله المخلصين أن يخلصوا كلّ حياتهم لله وأن يطهروا قلوبهم وأرواحهم وساحة عملهم ودائرة حديثهم عن كل ما هو لغير الله ، وأن يفكروا به ويعشقوه ، وأن يتحدثوا عنه ويعملوا من أجله ، وأن يسيروا دائما في سبيل رضاه ، وهذا هو (إخلاص الدين).

ولذا لا يوجد أيّ داع أو دليل واضح لتحديد مفهوم الآية في شهادة (لا إله إلا

٩

الله) أو بخصوص (العبادة والطاعة).

الآية التّالية تؤكد مرّة اخرى على مسألة الإخلاص ، وتقول :( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ) وهذه العبارة ذات المعنيين :

الأوّل : هو أنّ البارئعزوجل لا يقبل سوى الدين الخالص ، والاستسلام الكامل له من دون أيّ قيد أو شرط ، ولا يقبل أي عمل فيه رياء أو شرك ، أو خلط للقوانين الإلهية بغيرها من القوانين الوضعية.

والثّاني : هو أنّ الذين والشريعة الخالصة يجب أخذها من الله فقط ، لأن أفكار الإنسان ناقصة وممزوجة بالأخطاء والأوهام.

ولكن وفق ما جاء في ذيل الآية السابقة فإنّ المعنى الأوّل أنسب ، لأن الذين يؤدون المطلوب منهم بإخلاص هم العباد ، ولهذا فإنّ هذا الخلوص في الآية مورد بحثنا يجب أن يراعى من جانب أولئك.

وهناك دليل آخر على هذا الكلام ، وهو حديث ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، جاء فيه أن رجلا قال لرسول الله : يا رسول الله! إنّا نعطي أموالنا التماس الذكر ، فهل لنا من أجر فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ، قال : يا رسول الله! إنّا نعطي التماس الأجر والذكر ، فهل لنا أجر؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله تعالى لا يقبل إلّا من أخلص له ، ثمّ تلا هذه الآية :( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ) (١) .

وعلى أية حال ، فإنّ هذه الآية في الواقع استدلال للآية التي جاءت قبلها ، فهناك تقول :( فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ) وهنا تقول :( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ) .

مسألة الإخلاص تناولتها الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث الإسلامية ، وبدء الجملة مورد بحثنا بـ (ألا) التي تستعمل عادة لجلب الانتباه ، هو دليل آخر على أهمية هذا الموضوع.

ثم تنتقل الآية إلى إبطال المنطق الواهي الضعيف للمشركين الذين تركوا

__________________

(١) روح المعاني ، المجلد ٢٣ ، الصفحة ٢١٢ ذيل آيات البحث.

١٠

طريق الخلاص ، وضاعوا في طرق الشرك والانحراف :( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى ، إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) (١) ، وهنا سيتّضح للجميع فساد أفكارهم وأعمالهم وبطلان عقائدهم

هذه الآية هي تهديد قاطع للمشركين في أنّ البارئعزوجل سيحاكمهم في يوم القيامة ، اليوم الذي تنكشف فيه الالتباسات وتظهر فيه الحقائق ، ليجزوا ويعاقبوا على ما ارتكبوه من الأعمال المحرّمة ، إضافة إلى فضيحتهم أمام الجميع في ساحة المحشر.

منطق عبدة الأصنام واضح هنا ، فأحد أسباب عبادة الأصنام هي أنّ مجموعة كانت تزعم أنّ الله سبحانه وتعالى أجلّ من أن يحيط به الإدراك الإنساني من عقل أو وهم أو حس ، فهو منزّه عن أن يكون موردا للعبادة مباشرة ، فلذا قالوا : من الواجب أن نتقرّب إليه بالتقرب إلى مقربيه من خلقه ، وهم الذين فوض إليهم تدبير شؤون العالم ، فنتخذهم أربابا من دون الله ثمّ آلهة نعبدهم ونتقرب إليهم ليشفعوا لنا عند الله ويقربونا إليه زلفى ، وهؤلاء هم الملائكة والجن وقد يسو البشر.

ولما أحسّوا بأن ليس باستطاعتهم الوصول إلى أولئك المقدسين ، بنوا تماثيل لهم ، وأخذوا يعبدونها ، وهذه التماثيل هي نفسها الأصنام ، ولأنّهم كانوا يزعمون أن لا فرق بين التماثيل وأولئك المقدسين وأنّ لهما نوعا من التوحّد ، لذا عمدوا إلى عبادة الأصنام واتخاذه آلهة لهم.

وبهذا الشكل فإنّ الأرباب في نظرهم ، هم أولئك الذين خلقهم الله وقربهم إلى نفسه ، وفوض إليهم تدبير شؤون العالم حسب زعمهم ، وكانوا يعتبرون البارئعزوجل هو (رب الأرباب) وهو خالق عالم الوجود ، ومن النادر أن يوجد من الوثنيين من يقول بأن هذه الأصنام المصنوعة من الحجر والخشب ، أو حتى آلهتهم

__________________

(١) من الواضح أنّ في الآية المذكورة أعلاه وقبل عبارة( ما نَعْبُدُهُمْ ) جملة تقديرها «ويقولون ما نعبدهم».

١١

الوهمية ـ أي الملائكة والجن وأمثالهم ـ هي التي خلقت هذا الكون وأوجدته(١) وبالطبع فإنّ هناك أسبابا أخرى لعبادة الأصنام ، ومنها أنّ الاحترام الفائق الذي يكنونه في بعض الأحيان للأنبياء والصالحين يتسبب في احترام حتى التمثال الذي ينحت أو يصنع لهم بعد وفاتهم ، ومع مرور الزمن تأخذ هذه لتماثيل طابعا استقلاليا ، ويتبدل الاحترام إلى عبادة ، ولهذا فإنّ الإسلام نهى بشدّة عن صنع التماثيل.

وقد ورد في كتب التأريخ أنّ عرب الجاهلية كانوا يكنون احتراما فائقا للكعبة الشريفة ولأرض مكّة المكرّمة ، ولهذا كانوا يأخذون معهم قطعة حجر صغيرة من تلك الأرض عند ما يذهبون إلى مكان آخر ، ويضفون عليها الاحترام والتقديس ، ومن ثمّ يعمدون إلى عبادتها.

وما ورد في قصة (عمرو بن لحي) التي جاء فيها ، أنّ عمرا في إحدى رحلاته إلى بلاد الشام شاهد بعض مشاهد عبدة الأصنام ، وفي طريق عودته إلى الحجاز ، اصطحب معه صنما من بلاد الشام ، ومنذ ذلك الحين بدأت عبادة الأصنام في الحجاز هذه القصّة لا تتعارض مع ما ذكرناه لأنّه يبيّن بعض جذور عبادة الأصنام ، وهدف أهل الشام من عبادة الأصنام كان مأخوذا من أحد تلك الأمور أو نظائرها.

عبادة الأصنام ـ بأي شكل كانت ـ ما هي إلّا أوهام وخيالات لا صحة لها ترشحت من أفكار ضعيفة وعاجزة ، حرفت الناس عن الطريق الرئيسي الأصيل لمعرفة الله.

والقرآن المجيد يؤكّد بصورة خاصّة على أنّ الإنسان يستطيع أن يتصل بالله من دون أي واسطة ، وأن يتحدث معه ويناجيه ويطلب منه حاجته ، ويطلب العفو

__________________

(١) تفسير الميزان ، المجلد ١٧ ، الصفحة ٢٤٧ مع بعض التغييرات.

١٢

والتّوبة ، فكلّ هذه الأمور من الله وتحت تسلط قدرته. وسورة الحمد توضّح هذه الحقيقة ، لأنّ قراءة العباد المستمر لهذه السورة في صلواتهم اليومية ، تجعل العبد على اتصال مباشر مع البارئ ،عزوجل ، إذ أنّه يقرؤها ويطلب من الله ـ دون أي واسطة ـ حاجاته منه.

سبل الاستغفار والتوبة ، وكذلك طلب العون من البارئ ،عزوجل وما ورد في الأدعية المأثورة ، كلها تبيّن أنّ الإسلام لا يرى وجود واسطة في هذا الأمر ، وهذه هي حقيقة التوحيد. حتى أن مسألة الشفاعة والتوسل بأولياء الله مشروطة بإذن البارئعزوجل وسماحه ، وهذا تأكيد على مسألة التوحيد.

ويجب أن تكون العلاقة هكذا ، لأنّ الله سبحانه وتعالى أقرب إلينا من أيّ شيء ، كما يقول بذلك القرآن :( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (١) ،( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) (٢) .

وبهذا الشكل فالبارئ ،عزوجل ليس ببعيد عنّا ، ولسنا بعيدين عنه كي تكون هناك حاجة للوساطة بين الطرفين ، إنّه أقرب إلينا من كلّ قريب ، وموجود في مكان وفي أعماق قلوبنا.

وفقأ لهذا فإنّ عبادة الوسطاء من الملائكة والجنّ ونظائرهم ، أو الأصنام الحجرية والخشبية ، عمل باطل لا صحّة له ، إضافة إلى أنّه يعدّ كفرا بنعمة الله ، لأنّ الذي يهب النعم أجدر بالعبادة من تلك الموجودات الميتة ، أو المحتاجة إلى الآخرين من أعلى رأسها إلى أخمص قدمها. لذا يقول القرآن المجيد في نهاية الآية :( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ ) .

فلا يهديه إلى الطريق الصحيح في هذا العالم ، ولا إلى الجنّة في العالم الآخر ،

__________________

(١) سورة ق ، ١٦.

(٢) سورة الأنفال ، ٢٤.

١٣

لأنّه أو صد بكلتا يديه أبواب الهداية أمامه ، ولأنّ البارئعزوجل يبعث فيض هدايته إلى من يراه لائقا ومستعدا لاستقبالها ، ولا يبعثها إلى الذين تعمدوا قتل الاستعدادات الموجودة في قلوبهم وذاتهم.

* * *

ملاحظة

الفرق بين التنزيل والإنزال :

في الآية الأولى وردت عبارة( تَنْزِيلُ الْكِتابِ ) ، وفي الثانية عبارة( أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ ) ، فما الفرق بين الإنزال والتنزيل؟ وما المراد من تباين العبارتين في هاتين الآيتين؟

كتب اللغة تقول : إنّ كلمة (تنزيل) تعني نزول الشيء على عدّة دفعات ، في حين أن كلمة (إنزال) لها معنى عام يشمل النّزول التدريجي والنّزول دفعة واحدة(١) .

قال بعضهم إنّ لكل منهما معنى خاصا بها وأن (تنزيل) تعني ـ فقط ـ النّزول على عدّة دفعات ، و (إنزال) تعني ـ فقط ـ النّزول دفعة واحدة(٢) .

اختلاف العبارتين المذكورتين أعلاه إنّما يعود إلى أن القرآن المجيد نزل بصورتين :

الأولى : نزل دفعة واحدة على قلب النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ليلة القدر في شهر

__________________

(١) مفردات الراغب مادة (نزل) والفرق بين الإنزال والتنزيل في وصف القرآن والملائكة ، أن التنزيل يختص بالموضع الذي يشير إليه إنزاله مفرقا ومرّة بعد اخرى والإنزال عام.

(٢) هذا الاختلاف ورد في التّفسير الكبير للفخر الرازي نقلا عن آخرين.

١٤

رمضان المبارك كما ورد في الآيات المباركة :( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (١) و( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) (٢) و( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) (٣) .

وفي كلّ هذه الآيات استخدمت عبارة (الإنزال) التي تشير إلى نزوله دفعة واحدة.

ويوجد نزول آخر تمّ بصورة تدريجية استغرقت (٢٣) عاما ، أي طوال فترة نبوّة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كانت تنزل في كلّ حادثة وقضية آية تناسبها ، وتنقل بالمسلمين من مرحلة إلى اخرى ليرتقوا سلم الكمال المعنوي والأخلاقي والعقائدي والاجتماعي ، كما ورد في الآية (١٠٦) من سورة الإسراء :( وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً ) .

والذي يثير الانتباه ، هو أنّ الكلمتين (تنزيل) و (إنزال) تأتيان أحيانا في آية واحدة للتعبير عن مقصودين ، كما ورد في الآية (٢٠) من سورة محمّد :( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ) .

فكأن المسلمين يطلبون أحيانا نزول السورة القرآنية تدريجا كي يهضموا محتوياتها بصورة جيدة ، لكن الضرورة كانت تستدعي في بعض الحالات نزول السورة دفعة واحدة ، وخاصة السور التي تتناول مسائل الجهاد في سبيل الله ، لأنّ نزولها التدريجي كان قد يؤدي إلى سوء استغلالها من قبل المنافقين الذين كانوا يتحينون الفرص لبث سمومهم. ففي مثل هذه الحالات ـ كما ذكرنا ـ كانت السورة تنزل دفعة واحدة. وهذا آخر شيء يمكن ذكره بشأن التباين الموجود بين العبارتين ، وطبقا لهذا فإنّ آيات بحثنا أشارت إلى طريقتي النّزول بصورة جامعة

__________________

(١) القدر ، ١.

(٢) سورة الدخان ، ٣.

(٣) سورة البقرة ، ١٨٥.

١٥

كاملة.

ومع هذا فإنّه توجد هناك بعض الأمور الاستثنائية لتفسير وبيان الاختلاف المذكور أعلاه ، كما ورد في الآية (٣٢) من سورة الفرقان :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً ) .

بالطبع ، لكل من (التنزيل) و (الإنزال) فوائد وآثار خاصّة به ، سنتطرق إليها في مواضعها(١) .

* * *

__________________

(١) هناك بحث مفصل عن فوائد النّزول التدريجي للقرآن تعرضنا له لدى تفسير الآية (٣٤) من سورة فرقان.

١٦

الآيتان

( لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) )

التّفسير

ما حاجة الله إلى الأولاد؟

المشركون إضافة إلى أنّهم يعتبرون الأصنام وسيطا وشفيعا لهم عند الله ، كما استعرضت ذلك الآيات السابقة ، فقد اعتقدوا ـ أيضا ـ أن بعض المخلوقات ـ كالملائكة ـ هي بنات الله ، والآية الأولى في بحثنا تجيب على هذا الإعتقاد الخاطئ والتصور القبيح بالقول :( لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) .

ذكر المفسرون آراء مختلفة في تفسير هذه الآية :

قال البعض : يقصد منها لو أنّ الله كان راغبا في انتخاب ولد له ، فلم ينتخب

١٧

البنات اللاتي تزعمون أنّهنّ لا قيمة لهنّ؟ فلم لا ينتخب له أبناء؟ وهذا ـ في الحقيقة ـ نوع من أنواع الاستدلال وفق ذهنية الطرف المقابل كي يفهم أن كلامه لا أساس له من الصحة.

وقال آخر : إنّما يقصد منها لو أنّ الله كان راغبا في انتخاب ولد له ، لكان قد خلق موجودات اخرى أفضل وأرفى من الملائكة.

وبالنظر إلى كون مكانة الأنثى لا تقلّ عن مكانة الذكر عند الباريعزوجل ، وبالنظر إلى كون الملائكة أو عيسىعليه‌السلام ـ والذين اعتبرهم بعض المنحرفين أبناء الله ـ من الموجودات الشريفة والمحترمة ، فإنّه لا يعدّ أيّ من التّفسيرين السابقين مناسبا.

والأفضل هو القول بأنّ الآية تريد القول : إنّ الابن مطلوب إمّا لتقديم العون أو لمؤانسة الروح ، وبفرض المحال فإنّ اللهعزوجل لو كان محتاجا لمثل هذا الأمر ، لاصطفى لهذا بعضا ممّن يشاء من أشرف خلقه ، فلم يتخذ ولدا؟

ولكن لكونه الواحد الذي لا نظير له والقاهر والغالب لكل شيء والأزلي والأبدي ، فإنّه لا يحتاج إلى مساعدة أيّ أحد ، ولا يستوحش من وحدانيته حتى يزيلها عن طريق الإنسان مع الآخرين ، لهذا فهو منزّه ومقدّس عن الولد ، حقيقيا كان أو منتخبا.

وإضافة إلى ما ذكرناه من قبل ، فإنّ أولئك الجهلة الذين يتصورون أحيانا أن الملائكة هم أبناء الله ، وأحيانا اخرى يقولون بوجود نسبة بين الباري ،عزوجل والجن ، وأحيانا يقولون بأن (المسيح) أو (العزيز) هم أبناء الله ، يجهلون الكثير من الحقائق الواضحة ، فإن كان قصدهم هو الولد الحقيقي :

فأولا : يجب أن يكون الباري تعالى جسما.

ثانيا : التركيب من أجزاء (لأنّ الوالد جزء من الأب ينفصل عن وجود أبيه).

ثالثا : حتمية وجود شبيه ونظير له (لأنّ الأولاد على الدوام يشبهون الآباء).

١٨

رابعا : احتياجه لزوجة ، والله منزّه ومقدّس عن كلّ تلك الأمور.

وإنّ كان المقصود هو الولد المنتخب أي (المتبنىّ) فإن ذلك إنّما يتمّ لأجل احتياجه لمساعدة جسدية أو لمؤانسة روحية ، والله القادر القاهر لا يحتاج إلى كلّ هذه الأمور. وبهذا فإنّ وصفه بـ (الواحد) و (القهار) هو جواب مختصر على كلّ تلك الاحتمالات.

على أية حال ، فإنّ عبارة (لو) التي تستخدم عادة للشرط المستحيل إشارة إلى أن هذا الفرض محال في أن ينتخب البارئعزوجل والدا له ، وبفرض المحال أنّه يحتاج ، فإنّه غير محتاج لما يقولونه من اتخاذ الولد ، بل إن مخلوقاته المنتخبة هي التي تؤمن هذا الأمر.

ولإثبات حقيقة أنّ الله لا يحتاج إلى مخلوقاته ، ولبيان دلائل توحيده وعظمته ، يقول البارئعزوجل :( خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ ) .

كون تلك الأمور حقّا دليل على وجود هدف كبير من وراء خلقها ، وذلك لتكامل المخلوقات وفي مقدمتها الإنسان ، ثمّ لا تنتهي عند البعث.

بعد عرض هذا الخلق الكبير ، تشير الآية إلى جوانب من تدبيره العجيب ، والتغيرات التي تطرأ بحسابات دقيقة ، والأنظمة الدقيقة أيضا التي تحكم أولئك ، إذ يقول القرآن المجيد :( يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ ) .

ما أجملها من عبارة! فلو وقف الإنسان في منطقة تقع خارج نطاق الكرة الأرضية ، ونظر إلى مشهد حركة الأرض حول نفسها وتكوّن الليل والنهار اللذين يطوقان سطحها المكور ، لشاهد ـ بصورة منتظمة ـ أن سواد الليل يستولي على طرف النهار من جهة ومن الجهة المقابلة يرى بأن ضوء النهار يستولي محركة مستمرة على ظلام الليل.

«يكون» من (تكوير) وتعني الشيء المتكور أو المنحني ، ويعتبر أصحاب اللغة تكوير العمامة على الرأس نموذجا للتكوير ، وهذا التعبير القرآني الجميل

١٩

يكشف عن بعض الأسرار ، لكن الكثير من المفسّرين نتيجة عدم التفاتهم إلى كروية الأرض ذكروا مواضيع اخرى لا تناسب مفهوم كلمة (التكوير) ، فمن هذه الآية يتجلّى لنا أن الأرض كروية وتدور حول نفسها ، ومن جراء هذا الدوران ، يطّوق الأرض دائما شريطان ، أحدهما سواد الليل ، والثّاني بياض النهار ، ولا يبقى هذان الشريطان ثابتين ، وإنّما يغطي الشريط الأسود الأبيض ، من جهة والشريط الأبيض يغطي الأسود من جهة اخرى ، أثناء حركة الأرض حول نفسها.

وعلى أية حال ، فإنّ القرآن المجيد يبيّن ظاهرة الليل والنهار و (النور) و (الظلمات) في عدّة آيات مختلفة ، كلّ واحدة منها تشير إلى نقطة معينة ، وتنظر إلى هذه الظاهرة من زاوية خاصة ، فأحيانا يقول :( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ) (١) .

الحديث ـ هنا ـ يتطرق لتوغّل الليل في النهار وتوغل النهار في الليل التي تتمّ بصورة بطيئة وهادئة.

وأحيانا اخرى يقول :( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ ) (٢) ، وهنا تمّ تشبيه الليل بستائر مظلمة تنزل على ضياء النهار وتحجبه.

ثمّ تنتقل إلى جانب آخر ، ألا وهو التدبير والنظام الدقيق المسير لشؤون هذا العالم ، قال تعالى :( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ) .

فلا يظهر في حركة الشمس التي تدور حول نفسها ، أو التي تتحرك مع بقية كواكب المجموعة الشمسية نحو نقطة خاصّة في مجرة درب التبانة أدنى خلل ، فهي تتحرك وفق نظام خاص ودقيق جدّا ، ولا يظهر أي خلل في حركة القمر أثناء دورانه حول الأرض أو حول نفسه ، فالكلّ يخضع لقوانين (الخالق) ويتحرك وفقها ، وسيستمر في التحرك وفق هذه القوانين حتى آخر يوم من أجله.

__________________

(١) سورة فاطر ، ١٣.

(٢) سورة الأعراف ، ٥٤.

٢٠

ويوجد احتمال آخر ، وهو أنّ المراد من تسخير الشمس والقمر هو تسخيرها للإنسان بإذن الله ، كما ورد في الآية (٣٣) من سورة إبراهيم :( وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ ) . ولكن بالالتفات إلى الجملة السابقة واللاحقة في هذه الآية مورد البحث ، إضافة إلى عدم ورود كلمة (لكم) في الآية ، يجعل التّفسير المذكور أعلاه مستبعدا بعض الشيء.

نهاية الآية كانت بمثابة تهديد وترغيب للمشركين إذ تقول :( أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) فبحكم عزّته وقدرته المطلقة لا يمكن لأيّ مذنب ومشرك أن يهرب من قبضة عذابه ، وبمقتضى كونه الغفّار ، فإنّه يستر عيوب وذنوب التائبين ، ويظلمهم بظلّ رحمته.

«غفار» صيغة مبالغة مشتقّة من المصدر (غفران) وتعني في الأصل لبس الإنسان لشيء يقيه من التلوّث ، وعند ما تستخدم بشأن الباري ،عزوجل فإنّها تعني ستره لعيوب وذنوب عبادة النادمين وحفظهم من عذابه وجزائه ، نعم فهو (غفار) في أوج عزته وقدرته ، وهو (قهار) في أوج رحمته وغفرانه ، والهدف من ذكر هاتين الصفتين في آخر الآية ، هو إيجاد حالة من «الخوف» و «الرجاء» عند العباد ، وهما عاملان رئيسيان وراء كلّ تحرك نحو الكمال.

* * *

٢١

الآيتان

( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) )

التّفسير

الجميع مخلوقون من نفس واحدة :

مرّة اخرى تستعرض آيات القرآن الكريم عظمة خلق الله ، وتبيّن في نفس الوقت بعض النعم الأخرى التي منّ بها الله سبحانه وتعالى على الإنسان.

في البداية تتحدّث عن خلق الإنسان وتقول :( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها ) .

٢٢

خلق كلّ بني آدم من نفس واحدة إشارة إلى مسألة خلق آدم أبي البشر ، إذ أنّ كل البشر وبتنوع خلقتهم وأخلاقهم وطبائعهم واستعداداتهم وأذواقهم المختلفة يعودون في الأصل إلى آدمعليه‌السلام .

وعبارة :( ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها ) (١) إشارة إلى أن الله خلق آدم في البداية ، ثمّ خلق حواء ممّا تبقى من طينته.

وعلى هذا الأساس فإنّ عملية خلق حواء تمّت بعد خلق آدم ، وقبل خلق أبناء آدم.

عبارة (ثمّ) لا تأتي دائما كتأخير للزمان ، وإنّما تأتي أحيانا كتأخير للبيان ، فمثلا يقال : رأيت ما عملته اليوم ثمّ رأيت ما عملته بالأمس ، في حين أنّ عمل الأمس قد نفذ قبل عمل اليوم ، ولكن المراد هنا أنّ مشاهدته تمّت بعد عمل اليوم.

والبعض اعتبر الآية المذكورة أعلاه تشير إلى (عالم الذّر) وخلق أبناء آدم بعد خلق آدم وقبل خلق حواء بشكل أرواح ، هذا التّفسير غير صحيح ، وقد بيّنا هذا في تفسير وتوضيح «عالم الذّر» في ذيل الآية (١٧٢) من سورة الأعراف.

وممّا يجدر ذكره أنّ زوجة آدمعليه‌السلام لم تخلق من أي جزء منه ، وإنّما خلقت ممّا تبقى من طينته التي خلق منها ، وذلك كما ورد في الرّوايات الإسلامية ، وأمّا الرّوايات التي تقول بأنّها خلقت من ضلع آدم الأيسر ، فإنّه كلام خاطئ مأخوذ من بعض الرّوايات الإسرائيلية ، ومطابق في نفس الوقت لما جاء في الفصل الثّاني من كتاب التّوراة (سفر التكوين) المحرّف ، إضافة إلى كونه مخالفا للواقع والعقل ، إذ أنّ تلك الرّوايات ذكرت أنّ أحد أضلاع آدم قد أخذ وخلقت منه حواء ، ولهذا فإنّ الرجال ينقصهم ضلع في جانبهم الأيسر ، في حين أنّنا نعلم بعدم وجود أيّ فارق بين عدد أضلع المرأة والرجل ، وهذا الاختلاف ليس أكثر من خرافة.

بعد هذا ينتقل الحديث إلى مسألة خلق أربعة أنواع من الانعام تؤمّن للإنسان

__________________

(١) في قوله تعالى :( ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها ) محذوف تقديره (خلقكم من نفس واحدة خلقها ، ثمّ جعل منها زوجها).

٢٣

ضروريات الحياة ، حيث يستفيد من جلودها لملابسه ، ومن حليبها ولحمه الغذائه ، ومن جهة أخرى يصنع من جلودها وأصوافها عدّة أمور يستفيد منها في حياته ، ومن جهة ثالثة يستخدمها كوسيلة لتنقّله وحمل أثقاله :( وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) والمقصود من (الأزواج الثمانية) الذكر والأنثى لكلّ من الإبل والبقر والضأن والمعز ، ومن هنا فإنّ كلمة (زوج) تطلق على كلّ من الذكر والأنثى ، ولهذا فأنّ عدده يكون ثمانية أزواج. (ولذا في بداية الآية هذه أطلقت كلمة زوج على حواء).

وعبارة( أَنْزَلَ لَكُمْ ) والتي تخص هنا الأنعام الأربعة ـ كما بيّنا ذلك من قبل ـ لا تعني فقط إنزال الشيء من كان عال ، وإنّما في مثل هذه الحالات تعني (تدني المقام) والنعم من مقام أعلى الى أدنى.

كما ذكروا احتمالا آخر في أن (إنزال) مشتقّة هنا من (نزل) على وزن (رسل) وتعني ضيافة الضيف ، أو أوّل ما يقدم للضيف ، ونظير هذا المعنى ورد في الآية (١٩٨) من سورة ال عمران بخصوص أهل الجنّة ، قال تعالى :( خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ ) .

وقد ذهب بعض المفسّرين الى أنّ الأنعام الأربعة مع أنّها لم تنزل من مكان أعلى إلى الأرض ، فأنّ مقدّمات توفير متطلبات حياتها وتربيتها والتي هي قطرات المطر وأشعة الشمس هي التي تنزل من الأعلى إلى الأرض.

وورد تفسير رابع لهذه العبارة هو أنّ كلّ الموجودات كانت من البداية موجودة في خزائن علم وقدرة البارئعزوجل ، أي في علم الغيب ، ثمّ انتقلت من الغيب إلى الشهادة أي إلى (الظهور) ، ولهذا أطلقوا على هذا الانتقال عبارة (الإنزال) كما ورد ذلك في الآية (٢١) في سورة الحجر :( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) (١) .

__________________

(١) تفسير الميزان ؛ وروح المعاني ذيل آيات البحث.

٢٤

لكنّ التَّفسير الأوّل أكثر مناسبة من غيره ، رغم عدم وجود أي تعارض بين هذه التفاسير ، بل من الممكن أن تصب جميعها في نفس المفهوم والمعنى.

وورد عن أمير المؤمنينعليه‌السلام حديث في تفسير هذه الآية جاء فيه : «إنزاله ذلك خلقه إياه» أي أن إنزال تلك الأزواج الثمانية من الأنعام يعني خلقها من قبل الله.

ظاهر الحديث يشير إلى التّفسير الأوّل ، لأنّ الله سبحانه وتعالى هو خالق الخلق ، وله المقام الأسمى والأرفع.

وعلى أية حال ، فرغم أنّ الأنعام المذكورة قليلا ما يستفاد منها اليوم في عمليات النقل وحمل الأثقال ، لكنّها تقوم بمنافع مهمّة اخرى يزداد ويتسع حجم الاحتياج إليها يوما بعد آخر ، لأنّها تغطي اليوم الجانب الأعظم من احتياجات الإنسان الغذائية كالحليب واللحوم ، إضافة إلى أصوافها وجلودها التي كانت منذ السابق وحتى يومنا هذا تستخدم في صناعة الألبسة وغيرها من الأمور التي يحتاج إليها الإنسان ، حتى أنّ أحد المنابع المالية المهمّة بيد الدول الكبيرة في العالم يأتي عن طريق تربيه وتكثير هذه الحيوانات.

ثمّ تتطرق الآيات إلى حلقة اخرى من حلقات خلق الله ، وهي عملية نمو الجنين إذ تقول الآية :( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ) .

يتضح أنّ المقصود من( خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) هو الخلق المتكرر والمستمر ، وليس الخلق مرتين فقط.

«يخلقكم» : فعل مضارع يعطي معنى الاستمرارية ، وهو هنا بمثابة إشارة قصيرة ذات معان عميقة إلى التحولات العجيبة والصور المختلفة التي تطرأ على الجنين في مراحل وجوده المختلفة في بطن الأم. وطبقا لأقوال علماء علم الأجنّة

٢٥

فإنّ عملية خلق ونمو الجنين في بطن الأمّ تعدّ من أعجب وأدقّ صور خلق البارئعزوجل ، ونادرا ما نلاحظ أنّ المطلعين على دقائق هذه القضايا لا تلهج ألسنتهم بحمد الخالق وثنائه.

وقوله( ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ) إشارة إلى ظلمة بطن الأمّ وظلمة الرحم وظلمة المشيمة (الكيس الخاص الذي يستقر فيه الجنين) التي هي في الحقيقة ثلاثة أغلفة سميكة تغطي الجنين.

فالمصورون ـ الآن ـ بحاجة إلى ضوء ساطع ونور من أجل التصوير ، أمّا خالق الإنسان فيخطط في تلك الظلمة بشكل عجيب ويصور بشكل يدهش العقول ، ويمدّه بأسباب العيش في مكان لا يمكن لأحد أن يوصل إليه رزقه الذي هو في أمسّ الحاجة إليه للنمو.

الإمام الحسينعليه‌السلام سيد الشهداء يقول في دعائه المعروف بدعاء عرفه ، الذي يعدّ دورة دراسية كاملة وعالية في التوحيد ، يقول عند استعراضه للنعم التي منّ بها الباريعزوجل عليه : «وابتدعت خلقي من مني يمنى ، ثمّ أسكنتني في ظلمات ثلاث : بين لحم وجلد ودم لم تشهدني خلقي ، ولم تجعل إليّ من أمري ثمّ أخرجتني إلى الدنيا تامّا سويّا»(١) .

(ممّا يذكر أنّنا قد تطرقنا إلى عجائب خلق الجنين ومراحل خلقه في ذيل الآية (٦) من سورة آل عمران وفي ذيل الآية (٥) من سورة الحج).

وفي نهاية الآية ، بعد ذكر الحلقات التوحيدية الثلاث الخاصة بخلق الإنسان والأنعام ومراحل خلق الجنين ، يقول البارئعزوجل :( ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) .

__________________

(١) دعاء عرفة ، مصباح الزائر ، ابن طاووس.

٢٦

فأحيانا يصل الإنسان بعد مشاهدته لهذه الآثار التوحيدية العظيمة إلى مقام الشهود. ثمّ أشار تعالى إلى ذاته القدسية ، حيث يقول :( ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ ) حقّا لو كانت هناك عين بصيرة فيمكنها أن تراه إنّه وراء هذه الآثار فعين الجسم ترى الآثار ، وعين القلب ترى خالق الآثار.

عبارتي «ربّكم» و «له الملك» تدلان في الحقيقة على حصر الربوبية بذاته الطاهرة المقدسة ، والذي اتضح بصورة جيدة في عبارة( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) فعند ما يكون هو الخالق والمالك والمربي والحاكم لكلّ عالم الوجود ، فما هو دور غيره في هذا العالم كي يستحق العبودية؟!

وهنا تصرخ الآية بوجه مجموعة من النائمين والغافلين قائلة :( فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) أي كيف ضللتم وانحرفتم عن سبيل التوحيد(١) ؟

بعد ذكر هذه النعم الكبرة التي منّ بها البارئعزوجل على عباده ، تتطرق الآية التالية إلى مسألة الشكر والكفر ، وتناقش جوانب من هذه المسألة. وفي البداية تقول :( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ) اي إن تكفروا أن تشكروا فإنّ نتائجه تعود عليكم ، والله غني عنكم في حال كفركم وشكركم.

ثمّ تضيف ، إنّ غناه وعدم احتياجه لا يمنعان من أن تشكروا وتتجنبوا الكفر ، لأنّ التكليف إنّما هو لطف ونعمة إلهية ، نعم ، قال تعالى :( وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) (٢) .

وبعد استعراض هاتين النقطتين تستعرض الآية نقطة ثالثة وهي

__________________

(١) نلفت الانتباه إلى أن (أنّى) تأتي أحيانا بمعنى (اين) وأحيانا أخرى بمعنى (كيف).

(٢) وفق القراءات المشهورة ، فإن (يرضه) تقرأ بضم الهاء وبدون إشباع الضمير ، لأنّها كانت في الأصل (يرضاه) وقد أسقطت الألف بسبب الجزم وأصبحت (يرضه) والضمير فيها يعود على الشكر. ورغم أن كلمة (شكر) لم ترد من العبارة السابقة بصورة صريحة ، إلّا أن عبارة (إن تشكروا) تدل عليها ، كما هو الحال بالنسبة إلى الضمير في( اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ) الذي يعود على العدالة.

٢٧

تحمل شخص مسئولية أعماله ، لأن قضية التكليف لا يكتمل معناها بدون هذا الأمر ، قال تعالى :( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) .

ولأنّه لا معنى للتكليف إن لم يكن هناك عقاب وثواب ، فالآية تشير في المرحلة الرّابعة إلى قضية المعاد ، وتقول :( ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

ولكون مسألة الحساب والعقاب لا يمكن أن تتمّ ما لم يكن هناك اطلاع وعلم كاملين بالأسرار الخفية للإنسان ، تختتم الآية بالقول :( إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) .

بهذا الشكل ، ومن خلال جمل قصار ، استعرضت فلسفة التكليف وخصوصياته ومسئولية الإنسان ومسألة العقاب والجزاء والثواب. وهذه الآية جواب قاطع لمن يتولى المذهب الجبري ، الذي انتشر ـ ممّا يؤسف له ـ في صفوف بعض الطوائف الإسلامية ، لأنّ الآيات الكريمة تقول وبصراحة :( وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ) .

وهذا دليل واضح على أن إرادة الكفر لم تفرض على الكافرين (كما يقول بذلك أتباع المذهب الجبري) لأنّ من البديهي أنّ من لا يرتضي شيئا لا يأتي به ، فهل يمكن أنّ تكون إرادة الله منفصلة عن رضاه؟ متعصبو المذهب الجبري يثيرون العجب عند ما يعمدون إلى ستر هذه العبارة الواضحة من خلال حصر كلمة (العباد) بالمؤمنين أو المعصومين ، في حين أنّها كلمة ذات معنى مطلق وتشمل بصورة واضحة كلّ العباد ، نعم ، فالباري ،عزوجل لا يرتضي الكفر لأحد من عباده ، مثلما يرتضي الشكر لكلّ عباده من دون أي استثناء(١) .

__________________

(١) هناك بحث مفصل في ذيل الآية (٥) من سورة إبراهيم ـ عن أهمية وفلسفة الشكر وعن مفهومها الحقيقي وأبعادها.

٢٨

وهذه النقطة تلفت الانتباه ، وهي أنّ أساس تحمّل كلّ إنسان لمسؤولية أعماله يعدّ من الأسس المنطقية والمسلم بها في كلّ الأديان السماوية(١) .

وبالطبع يمكن أحيانا أن يكون الإنسان مشتركا في ذنوب الآخرين ، وذلك عند ما يكون مضطلعا أو مساهما مع آخرين في تهيئة مقدمات أو أسس ذلك العمل ، كالذين يبتدعون البدع أو السنن الضالة ، في هذه الحالة تكون ذنوب أي شخص يرتكب تلك المحرمات في ذمة مسببها الرئيسي دون أن تقل ذنوب ذلك الشخص الذي ارتكب الذنب(٢) .

* * *

__________________

(١) بهذا الخصوص هناك بحث في ذيل الآية (١٥) من سورة الإسراء.

(٢) هناك بحث بهذا الشأن في ذيل الآية (١٤) من سورة الأنعام.

٢٩

الآيتان

( وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩) )

التّفسير

هل العلماء والجهلة متساوون؟

الآيات السابقة تحدث بالأدلة والبراهين عن توحيد ومعرفة البارئعزوجل ، وذلك من خلال عرض بعض الظواهر العظيمة له في الآفاق والأنفس ، أما آيات بحثنا فتتحدث في البداية عن التوحيد الفطري وتوضح أن ما يدركه الإنسان عن طريق العقل أو الفهم أو المطالعة في شؤون الخلق موجود بصورة فطرية في أعماقه ، وأنّه يظهر أثناء المشاكل وأعاصير الحوادث التي تعصف به ، ولكن هذا الإنسان الكثير النسيان يبتلى مرّة اخرى بالغفلة والغرور فور ما تهدأ

٣٠

العواصف والمشاكل وتقول الآية الكريمة :( وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ) ونادما من ذنوبه وغفلته.

وعند ما يمنّ الله على الإنسان بالنعم ينسى المشاكل والابتلاءات السابقة التي دعا اللهعزوجل من أجل كشفها عنه ، قال تعالى :( ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ ) (١) .

إذ يجعل لله أندادا وشركاء ويعمد إلى عبادتها ، ولا يكتفي بعبادتها بل يعمد ـ أيضا ـ لإضلال وحرف الناس عن سبيل الله :( وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ) .

المقصود هنا من (الإنسان) هم الناس العاديون الذين لم يتربّوا في ظل إشعاعات أنوار تعاليم الأنبياء ، ولا يشمل هذا الكلام المؤمنين الذين يذكرون الله في السراء والضراء ويطلبون العون من لطفه دائما.

المراد من (ضر) هنا كلّ أذى أو محنة أو ضرر يصيب الجسم أو الروح.

«خولناه» : من مادة (خول) على وزن (عمل) وتعني المراقبة المستمرة لشيء ما ، المراقبة والتوجّه الخاص يستلزم العطاء والبذل ، فقد استخدمت هنا بمعنى الهبة.

وقال البعض : إنّ (خول) على وزن (عمل) وتعني الخادم ، ولهذا فإنّ كلمة «خوله» تعني الخادم الذين وهب لصاحبه ، ثمّ استعملت في كافة أشكال هبة النعم بالتخويل.

والبعض الآخر قال : إنّها تعني الفخر والتباهي ، ولهذا فإنّ العبارة المذكورة

__________________

(١) هناك اختلاف بين المفسّرين حول المعنى الذي تعطيه (ما) في عبارة :( نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ ) البعض يعتقد أن (ما) موصولة تشير إلى (ضر) ولكون هذا المعنى هو الأنسب ، فقد قدم على المعاني الأخرى ، وقال البعض أيضا : إن (ما) موصولة والمراد منها هو الله سبحانه وتعالى : ومجموعة أخرى قالت : إن (ما) مصدرية وتعني الدعاء ، وإمعان النظر في الآية (١٢) من سورة يونس :( وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ ) يبيّن أن هذه الآية شاهد على صحة المعنى الأوّل.

٣١

أعلاه تعني حصول الإنسان على الفخر عن طريق منحه وهبته النعم(١) .

ويصورة عامة فإنّ هذه الجملة تعكس إضافة إلى العطاء والهبة ، اهتمام البارئعزوجل الخاصّ بعبده.

عبارة( مُنِيباً إِلَيْهِ ) تبيّن أنّ الإنسان في الحالات الصعبة يضع كافّة ستائر غروره وغفلته جانبا ، ويترك وراءه كلّ ما كان يعبده أو يتمسك به من دون الله ، ويعود إلى الباري ،عزوجل ، ويستشفّ من مفهوم (الإنابة) هذه الحقيقة وهي أن مبدأ الإنسان ومقصده وغايته هو الله تعالى.

«أندادا» : جمع (ند) على وزن (ضد) وتعني الشبيه والمثيل ، مع وجود بعض الاختلاف وهو أنّ (مثل) لها مفهوم واسع ، ولكن (ند) لها معنى واحد ، وهو المماثلة في الذات والجوهر.

عبارة (جعل) تبيّن أن تصورات وخيالات الإنسان تصنع مثيلا وشبيها لله ، الأمر الذي لا يمكن أن ينطبق مع الواقع.

وعبارة( لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ) تبيّن أن الضالين المغرورين لا يقتنعون بإضلال أنفسهم ، وإنّما يعمدون لجر الآخرين إلى وادي الضلال.

وعلى أية حال ، فإنّ آيات القرآن المجيد أشارت ـ مرّات عديدة ـ إلى العلاقة الموجودة بين (التوحيد الفطري) و (الحوادث الصعبة في الحياة) كما عكست اضطراب الإنسان المغرور الذي يلجأ إلى الله ويوحده بإخلاص فور ما تعصف به العواصف والأعاصير ، وكيف أنّه ينسى الله ويعود إلى غروره ولجاجته فور هدوء العاصفة ليسير من جديد في طريق الشرك والضلال.

وما أكثر أمثال هؤلاء الأشخاص المتلونون ، وما أقل من ينقلب ويتغير عند ما يمنّ البارئعزوجل عليه بالنصر والنعم والاستقرار.

نعم ، فأبسط نسمة هواء تمرّ على حوض ماء تجعل مياه مضطربة ، أمّا المحيط

__________________

(١) يراجع (لسان العرب) و (مفردات الراغب) وتفسير (روح المعاني).

٣٢

الهادي فإنّه لا يتأثر أبدا بأشدّ الأعاصير ولذا سمّي المحيط الهادي.

نهاية الآية تخاطب مثل أولئك الأشخاص بلغة ملؤها التهديد الصريح والحازم والقاطع :( قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ ) .

فهل يمكن أن يكون لإنسان كهذا مصير أفضل من هذا؟!

الآية التالية استخدمت أسلوب المقارنة ، الأسلوب الذي طالما استخدمه القرآن المجيد لإفهام الآخرين القضايا المختلفة ، حيث تقول : هل أن مثل هذا الشخص انسان لائق وذو قيمه :( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ ) (١) .

أين ذلك الإنسان المشرك والغافل والمتلون والضالّ والمضلّ من هذا الإنسان ذو القلب اليقظ الطاهر الساطع بالنور ، الذي يسجد لله في جوف الليل والناس نيام ، ويدعو ربّه خائفا راجيا؟!

فهؤلاء في حال النعمة لا يدعون أنفسهم في مأمن من العقاب والعذاب ، وفي حال البلاء لا ييأسون من رحمته ، وهذان العاملان يرافقان وجودهم أثناء حركتهم المستمرة بحذر واحتياط نحو معشوقهم.

«قانت» من مادة «قنوت» بمعنى ملازمة الطاعة المقرونة بالخشوع والخضوع.

«آناء» هي جمع (انا) ـ على وزن كذا ـ وتعني ساعة أو مقدارا من الوقت.

التأكيد هنا على ساعات الليل ، لأنّ تلك الساعات يحضر فيها القلب أكثر ، وتقلّ نسبة تلوثه بالرياء أكثر من أيّ وقت آخر.

قدمت الآية السجود على القيام ، وذلك لكون السجود من أعلى درجات العبادة ، وإطلاق الرحمة وعدم تقيّدها بالآخرة دليل على سعة الرحمة الإلهية التي تشمل الحياة الدنيا والآخرة.

__________________

(١) في هذه العبارة شق محذوف ، والتقدير (أهذا الذي ذكرنا خير أمن هو قانت آناء الليل).

٣٣

وفي حديث ورد في كتاب «علل الشرائع» وفي كتاب «الكافي» نقلا عن الإمام الباقرعليه‌السلام ، إنّه فسّر هذه الآية :( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ) بأنّها صلاة الليل(١) .

من الواضح أن هذا التّفسير يشبه الكثير من التفاسير الأخرى التي بيّنت في ذيل آيات مختلفة في القرآن الكريم من قبيل ذكر مصاديقها الواضحة ، ولا ينحصر مفهوم الآية بصلاة الليل.

وتتمة الآية تخاطب الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقول :( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) .

كلا ، إنّهم غير متساوين :( إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) .

لا شك في أن السؤال المذكور أعلاه سؤال شامل ، وأنّه يقارن ما بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، أي بين العلماء والجهلة ، لأنّه قبل طرح هذا السؤال ، كان هناك سؤال آخر قد طرح ، وهو : هل يستوي المشركون والمؤمنون الذين يحيون الليل بالعبادة ، فالسؤال الثّاني يشير أكثر إلى هذه المسألة وهو : هل أن الذين يعلمون بأن المشركين المعاندين لا يتساوون مع المؤمنين الطاهرين ، يتساوون مع الذين لا يعلمون بهذه الحقيقة الواضحة؟

وعلى أية حال فهذه العبارة التي تبدأ باستفهام استنكاري ، توضح أحد شعارات الإسلام الأساسية وهو سمو وعلو منزلة العلم والعلماء في مقابل الجهل والجهلة. ولأنّ عدم التساوي ـ هذا ـ ذكر بصورة مطلقة ، فمن البديهي أن تكون هاتان المجموعتان غير متساويتين عند البارئ ،عزوجل ، وغير متساويين في وجهة نظر العقلاء ، ولا يقفون في صفّ واحد من الدنيا ، ولا في الآخرة وأنّهم مختلفون ظاهرا وباطنا.

* * *

__________________

(١) علل الشرائع ، والكافي نقلا عن نور الثقلين ، المجلد ٤ ، الصفحة ٤٧٩.

٣٤

ملاحظة

تتضمّن هاتان الآيتان إشارات لطيفة إلى نقاط مهمّة :

١ ـ في الآية الأولى ، ذكرت فلسفة الحوادث المرّة والصعبة ، وانشكاف ستائر الغرور والغفلة عن عين القلب ، وصيرورة شعاع الإيمان شعلة وهّاجة ، والعودة والإنابة إلى لله سبحانه وتعالى ، وأجابت الآية في نفس الوقت أولئك الذين يتصورون أنّ وجود مثل تلك الحوادث الصعبة في الحياة إنّما هي نقص في مسألة نظام الخلق وفي عدالة البارئعزوجل .

٢ ـ الآية الثّانية تبدأ بالدعوة إلى العمل وبناء الذات وتنتهي بالعلم والمعرفة ، لأنّ من لم يبن ذاته ، لا تشع أنوار المعرفة من قلبه ، حيث لا يمكن أصلا فصل العلم عن بناء الذات.

٣ ـ قوله تعالى :( قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ) وردت هنا بصيغة اسم فاعل ، وكلمة (الليل) جاءت مطلقة لتشير إلى استمرار عبودية وخضوع أولئك لله سبحانه ، لأنّ العمل إذا لم يستمر فيكون ضعيف جدّا.

٤ ـ إنّ العلم الاضطراري المتولّد من نزول البلاء والذي يربط الإنسان بخالقه ، لا يكون مصداقا حقيقيا للعلم الّا إذا استمر إلى ما بعد هدوء العاصفة. لذا فإنّ الآيات المذكورة أعلاه تجعل الإنسان الذي يستيقظ حال نزول البلاء ويعود إلى غفلته عند زواله تجعله في عداد الجهلة. إذن فإنّ العلماء الحقيقيين هم المتوجهون إليه تعالى في كلّ الحالات.

٥ ـ ممّا يلفت الانتباه أنّ نهاية الآية الأخيرة تقول : إنّ الفرق بين الجاهل والعالم لا يدركه سوى أولي الألباب! لأنّ الجاهل لا يدرك قيمة العلم! وفي الحقيقة إنّ كلّ مرحلة من مراحل العلم هي مقدمة لمرحلة أخرى.

٦ ـ العلم في هذه الآية وبقية الآيات لا يعني معرفة مجموعة من المصطلحات ، أو العلاقة المادية بين الأشياء ، وإنّما يقصد به المعرفة الخاصة التي

٣٥

تدعو الإنسان إلى (القنوت) أي إلى طاعة البارئعزوجل والخوف من محكمته وعدم اليأس من رحمته ، هذه هي حقيقة العلم ، وإن كانت العلوم الدنيوية تؤدي إلى ما ذكرناه آنفا ، فهي علم أيضا. وإلّا فهي سبب الغفلة والظلم والغرور والفساد في الأرض ، ولا يحصل منها سوى «القيل والقال» وليس «الكيفية والحال».

٧ ـ على عكس ما يعتقد به الجهلة الذين يعدّون الذين مخدرا (أفيونا) ، فإنّ أهم ما يدعوا إليه الأنبياء هو طلب بالعلم والمعرفة ، وقد أعلنوا عداءهم للجهل أينما كان ، وإضافة إلى أنّ القرآن الحكيم استغل الكثير من المناسبات كي يوضح هذا الأمر ، كما وردت في الروايات الإسلامية أحاديث تصور عدم وجود شيء أفضل من العلم.

فقد ورد في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا خير في العيش إلّا لرجلين : عالم مطاع ، أو مستمع واع»(١) .

كما ورد حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، جاء فيه : «إنّ العلماء ورثة الأنبياء وذاك أنّ الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا ، وإنّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم ، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظا وافرا ، فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه فإن فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولا ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين»(٢) .

٨ ـ الآية الأخيرة تتحدث عن ثلاث مجموعات ، هم العلماء والجهلة وأولو الألباب ، وقد شخصهم الإمام الصادقعليه‌السلام في حديث له ، عند ما قال : «نحن الذين يعلمون ، وعدوّنا الذين لا يعلمون ، وشيعتنا أولوا الألباب»(٣) .

٩ ـ ورد في الحديث خرج أمير المؤمنينعليه‌السلام ذات ليلة من مسجد الكوفة

__________________

(١) الكافي ، المجلد الأوّل ، باب صفة العلم وفضله الحديث (٧).

(٢) الكافي ، المجلد الأوّل ، باب صفة العلم وفضله الحديث (٢).

(٣) تفسير مجمع البيان ذيل آيات البحث.

٣٦

متوجّها إلى داره وقد مضى ربع من اللّيل ومعه كميل بن زياد رحمة الله وكان من خيار شيعته ومحبّيه فوصل في الطّريق إلى باب رجل يتلو القرآن في ذلك الوقت ويقرأ قوله تعالى( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ) الآية بصوت شجي حزين فاستحسن كميل ذلك في باطنه وأعجبه حال الرّجل من غير أن يقول شيئا ، فالتفت صلوات الله عليه إليه وقال : يا كميل لا يعجبك طنطنة الرّجل إنّه من أهل النّار سأنبئك بعد ، فيما يصدر فتحيّر كميل مكاشفة له على ما في باطنه ولشهادته بدخول النّار مع كونه في هذا الأمر وتلك الحالة الحسنة ومضى مدّة متطاولة إلى أن ال حال الخوارج إلى ما ال وقاتلهم أمير المؤمنينعليه‌السلام وكانوا يحفظون القرآن كما أنزل ، فالتفت أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى كميل وهو واقف بين يديه والسيف في يده يقطر دما ورؤوس أولئك الكفرة الفجرة مجلقة على الأرض فوضع رأس السيف على رأس من تلك الرؤوس وقال : يا كميل أمّن هو قانت الآية أي هو ذلك الشخص الذي كان يقرأ القرآن في تلك الليلة فأعجبك حاله قبّل كميل قدميهعليه‌السلام واستغفر الله(١) .

* * *

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلد الثّاني ، الصفحة ٤٩٦ أحوال كميل.

٣٧

الآيات

( قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) )

التّفسير

الخطوط الرئيسة لمناهج العباد المخلصين :

تتمة لما جاء في بحث الآيات السابقة التي قارنت بين المشركين المغرورين والمؤمنين المطيعين لله ، وبين العلماء والجهلة ، فإنّ آيات بحثنا هذا تبحث

٣٨

الخطوط الرئيسية لمناهج عباد الله الحقيقيين المخلصين وذلك ضمن سبعة مناهج وردت في عدّة آيات تبدأ بكلمة (قل).

الآية الأولي تحثّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على التقوى :( قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ) (١) .

نعم ، فالتقوى هي الحاجز الذي يصدّ الإنسان عن الذنوب ، وتجعله يحسّ بالمسؤولية وبتكاليفه أمام البارئ ،عزوجل ، هي المنهج الأوّل لعباد الله المؤمنين والمخلصين ، فالتقوى هي الدرع الذي يقي الإنسان من النّار ، والعامل الرئيسي الذي يردعه عن الانحراف ، فالتقوى هي ذخيرته الكبيرة في سوق القيامة ، وهي ميزان شخصية وكرامة الإنسان عند البارئعزوجل .

المنهج الثّاني يختص بالإنسان والعمل الصالح في هذه الدنيا التي هي دار العمل ، وقد شجعت الآية الناس وحثتهم على عمل الإحسان ، من خلال بيان نتيجة ذلك العمل :( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ ) (٢) .

نعم فالإحسان بصورة مطلقة في هذه الدنيا ـ سواء كان في الحديث ، أو في العمل ، أو في نوع التفكر والتفكير بالأصدقاء والغرباء ـ يؤدّي إلى نيل ثواب عظيم في الدنيا والآخرة ، لأنّ جزاء الإحسان هو الإحسان.

وفي الواقع فإنّ التقوى عامل ردع ، والإحسان عامل صلاح ، وكلاهما يشمل (ترك الذنب) و (أداء الفرائض والمستحبات).

المنهج الثّالث يدعو إلى الهجرة من مواطن الشرك والكفر الملوثة بالذنوب ، قال تعالى :( وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ ) .

__________________

(١) من البديهي أنّ الخطاب بعبارة «يا عبادي» هو من الله ، وإن كان المخاطب هو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالمقصود هنا أن أبلغهم خطابي.

(٢) أغلب المفسّرين اعتبروا عبارة (في هذه الدنيا) تعود على عبارة (أحسنوا) ، واستنادا لهذا فإن «حسنة» مطلقة تشمل كل حسنة في الدنيا والآخرة ، ومع انتباه إلى أن استعمال التنوين في مثل هذه الموارد إنّما هو لإعطاء الكلمة طابع التفخيم والعظمة ، فإنه يفيد بيان عظمة الثواب.

٣٩

هذه الآية ـ في الحقيقة ـ ردّ على ذوي الإرادة الضعيفة والمتذرعين بمختلف الذرائع الذين يقولون : إنّنا عاجزون عن أداء الأحكام الإلهية لأنّنا في أرض مكّة التي يحكمها المشركون ، والقرآن يردّ عليهم بأن أرض الله لا تقتصر على مكّة ، فإن لم تتمكنوا من أداء فرائضكم في مكّة فالمدينة موجودة ، بل إن الأرض كلها لله ، هاجروا من المواطن الملوثة بالشرك والكفر والظلم التي لا يمكنكم فيها أداء الأحكام الإلهية بحرية إلى آخر.

مسألة الهجرة هي إحدى أهم المسائل التي لم تلعب دورا أساسيا في صدر الإسلام بانتصار الحكومة الإسلامية فحسب ، بل إنّ لها أهمية في كلّ زمان ، لأنّها من جهة تمنع مجموعة من المؤمنين أن يستسلموا لضغط وكبت محيطهم ، ومن جهة اخرى تكون عاملان مساعدا لتصدير الإسلام إلى نقاط مختلفة في أنحاء العالم.

والقرآن المجيد يقول :( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً ) (١) .

وهذا يوضح ـ بصورة جيدة ـ أنّ المؤمن الذي تحيط به الضغوط والكبت ، ويستطيع أن يهاجر في سبيل الله عليه أن يهاجر ، وإلّا فإنّه غير معذور أمام الله.

(بشأن أهمية الهجرة في الإسلام وأبعادها المختلفة كانت لنا بحوث مختلفة ومفصلة في ذيل الآية (١٠٠) من سورة النساء ، وفي ذيل الآية (٧٢) من سورة الأنفال).

ولأنّ الهجرة ترافقها بصورة طبيعية مشكلات كثيرة في مختلف جوانب الحياة ، فالمنهج الرابع إذن يتعلق بالصبر والاستقامة ، قال تعالى :( إِنَّما يُوَفَّى

__________________

(١) النساء ، ٩٧.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607