الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 176245 / تحميل: 5910
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

الآيات

( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) )

التّفسير

الشرك محبط للأعمال :

آيات بحثنا تواصل التطرق للمسائل المتعلقة بالشرك والتوحيد والتي كانت قد استعرضت في الآيات السابقة أيضا.

الآية الأولى تتحدث بلهجة قاطعة وشديدة حول أخطار الشرك ، وتقول :( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) .

وبهذا الترتيب ، فإنّ للشرك نتيجتين خطيرتين ، تشملان حتى أنبياء الله في مالو أصبحوا مشركين ـ على فرض المحال ـ

١٤١

النتيجة الأولى : إحباط الأعمال ، والثانية : الخسران والضياع.

وإحباط الأعمال يعني محو آثار ثواب الأعمال السابقة ، وذلك بعد كفره وشركه بالله ، لأنّ شرط قبول الأعمال هو الاعتقاد بأصل التوحيد ، ولا يقبل أي عمل بدون هذا الاعتقاد.

فالشرك هو النّار التي تحرق شجرة أعمال الإنسان.

والشرك هو الصاعقة التي تهلك كلّ ما جمعه الإنسان خلال فترة حياته.

والشرك هو عاصفة هو جاء تدمر كلّ أعمال الإنسان وتأخذها معها ، كما ورد في الآية (١٨) من سورة إبراهيم( مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ) .

لذا ورد في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله تعالى يحاسب كلّ خلق إلّا من أشرك بالله فإنّه لا يحاسب ويؤمر به إلى النّار»(١) .

وأمّا خسارتهم فإنّها بسبب بيعهم أكبر ثروة يمتلكونها ، ألا وهي العقل والإدراك والعمر في سوق التجارة الدنيوية ، وشراؤهم الحسرة والألم بثمنها.

وهنا يطرح هذا السؤال : هل من الممكن أن يسير الأنبياء العظام في طريق الشرك حتى تخاطبهم الآية الآنفة بهذه اللهجة؟

الجواب على هذا السؤال واضح ، وهو أنّ الأنبياء لم يشركوا قطّ ، مع أنّهم يمتلكون القدرة والإختيار الكاملين في هذا الأمر ، ومعصوميتهم لا تعني سلب القدرة والإختيار منهم ، إلّا أنّ علمهم الغزير وارتباطهم المباشر والمستمر مع البارئعزوجل يمنعهم حتى من التفكير ولو للحظة واحدة بالشرك ، فهل يمكن أن يتناول السمّ طبيب عالم وحاذق ومطلع بصورة جيدة على تأثير تلك المادة السامة والخطرة ، وهو في حالة طبيعية؟!

الهدف هو اطلاع الجميع على خطر الشرك ، فعند ما يخاطب البارئعزوجل

__________________

(١) نور الثقلين ، المجلد ٤٩ ، الصفحة ٤٩٧.

١٤٢

أنبياء العظام بهذه اللهجة الشديدة ، فعلى الأمة أن تحسب حسابها ، هذا الأسلوب من قبيل ما نصّ عليه المثل المعروف (إيّاك أعني واسمعي يا جارة).

ونفس المعنى ورد في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام أثناء إجابته على سؤال وجهه إليه المأمون ، إذ قال : يا بن رسول الله أليس من قولك أن الأنبياء معصومون؟ قالعليه‌السلام : «بلى» قال : فما معنى قول الله إلى أن قال : فأخبرني عن قول الله :( عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ) .

قال الرضاعليه‌السلام : «هذا ممّا نزل بإيّاك أعني واسمعي يا جارة ، خاطب الله بذلك نبيّه وأراد به أمته» وكذلك قوله :( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) وقوله تعالى :( وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) قال : صدقت يا ابن رسول الله(١) .

الآية التالية تضيف للتأكيد أكثر( بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) (٢) .

تقديم اسم الجلالة للدلالة على الحصر ، وذلك يعني أن ذات الله المنزهة يجب أن تكون معبودك الوحيد ، ثمّ تأمر الآية بالشكر ، لأن الشكر على النعم التي أغدقت على الإنسان هي سلم يؤدي إلى معرفة الله ، ونفي كلّ أشكال الشرك ، فالشكر على النعم من الأمور الفطرية عند الإنسان ، وقبل الشكر يجب معرفة المنعم ، وهنا فإن خط الشكر يؤدي إلى خط التوحيد ، وينكشف بطلان عبادة الأصنام التي لا تهب للإنسان آية نعمة.

الآية الأخيرة في بحثنا هذا تكشف عن الجذر الرئيسي لانحرافهم ، وتقول :( وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) . ولهذا تنزلوا باسمه المقدس حتى جعلوه رديفا للأوثان!!

نعم ، فمصدر الشرك هو عدم معرفة البارئعزوجل بصورة صحيحة ، فالذي

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) (الفاء) في (فاعبد) زائدة للتأكيد على ما قيل ، وقال البعض : إنّها (فاء) الجزاء وقد حذف شرطه والتقدير (إن كنت عابدا فاعبد الله) ، ثمّ حذف الشرط ، وقدم المفعول مكانه.

١٤٣

يعلم :

أوّلا : أنّ الله مطلق وغير محدود من جميع النواحي.

وثانيا : أنّه خالق كلّ الموجودات التي تحتاج إليه في كلّ لحظة من لحظات وجودها.

وثالثا : أنّه يدير الكون ويحل كلّ عقد المشاكل ، وأنّ الأرزاق بيده ، وحتى الشفاعة إنّما يتمّ بإذنه وأمره ، فما معنى توجه من يعلم بكلّ هذه الحقائق إلى غير الله.

وأساسا فإنّ وجود مثل هذه الصفات في موجودين اثنين أمر محال ، لأنّه من غير الممكن عقلا وجود موجودين مطلقين من جميع الجهات.

ثمّ يأتي القرآن بعبارتين كنائيتين بعد العبارة السابقة ، وذلك لبيان عظمة وقدرة البارئعزوجل ، إذ يقول كلام الله المجيد :( وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) .

«القبضة» : الشيء الذي يقبض عليه بجميع الكف ، تستخدم ـ عادة ـ للتعبير عن القدرة المطلقة والتسلط التام ، مثلما نقول في الاصطلاحات اليومية الدارجة : إن المدينة الفلانية هي بيدي ، أو الملك الفلاني هو بيدي وفي قبضتي.

«مطويات» : من مادة (طي) وتعني الثني ، والتي تستعمل أحيانا كناية عن الوفاة وانقضاء العمر ، أو عن عبور شيء ما.

والعبارة المذكورة أعلاه استخدمت بصورة واضحة بشأن السماوات في الآية (١٠٤) من سورة الأنبياء( يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) .

فالذي يثني طومارا ويحمله بيده اليمنى يسيطر بصورة كاملة على الطومار الذي يحمله بتلك اليد ، وانتخبت اليد اليمنى هنا لأن أكثر الأشخاص يؤدون أعمالهم المهمّة باليد اليمنى ويحسون بأنّها ذات قوة وقدرة أكثر.

خلاصة الكلام ، أنّ كلّ هذه التشبيهات والتعابير هي كناية عن سلطة الله

١٤٤

المطلقة على عالم الوجود في العالم الآخر ، حتى يعلم الجميع أن مفتاح النجاة وحل المشاكل يوم القيامة هو بيد القدرة الإلهية ، كي لا يعمدوا إلى عبادة الأصنام وغيرها من الآلهة بذريعة أنّها ستشفع لهم في ذلك اليوم.

ولكن هل أنّ السماء والأرض ليستا في قبضته في الحياة الدنيا؟ فلم الحديث عن الآخرة؟

الجواب : إنّ قدرة البارئعزوجل تظهر وتتجلّى في ذلك اليوم أكثر من أيّ وقت مضى ، وتصل إلى مرحلة التجلّي النهائي ، وكل إنسان يدرك ويشعر أنّ كلّ شيء هو من عند الله وتحت تصرفه. إضافة إلى أنّ البعض اتجه إلى غير الله بذريعة أنّ أولئك سينقذونه يوم القيامة ، كما فعل المسيحيون ، إذ أنّهم يعبدون عيسىعليه‌السلام متصورين أنّه سينقذهم يوم القيامة ، وطبقا لهذا فمن المناسب التحدث عن قدرة البارئعزوجل في يوم القيامة.

ويتّضح بصورة جيدة ممّا تقدم أنّ طابع الكناية يطغى على هذه العبارات ، وبسبب قصور الألفاظ المتداولة فإنّنا نجد أنفسنا مضطرين إلى صبّ تلك المعاني العميقة في قو هذه الألفاظ البسيطة ، ولا يرد إمكانية تجسيم البارئعزوجل من خلالها ، إلّا إذا كان الشخص الذي يتصور ذلك ذا تفكير ساذج وعقل بسيط جدّا ، حيث نفتقد ألفاظا تبيّن مقام عظمة البارئعزوجل بصورة واضحة ، إذن فيجب الاستفادة بأقصى ما يمكن من الكنايات التي لها مفاهيم كثيرة ومتعددة.

على أية حال ، فبعد التوضيحات التي ذكرت آنفا ، يعطي البارئعزوجل في آخر الآية نتيجة مركزة وظاهرية ، إذ يقول :( سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

فلو لم يكن بنو آدم قد أصدروا أحكامهم على ذات الله المقدسة المنزهة وفق مقاييس تفكيرهم الصغيرة والمحدودة ، لما انجر أحد منهم إلى حبائل الشرك وعبادة الأصنام.

* * *

١٤٥

ملاحظتان

١ ـ مسألة إحباط الأعمال

هل يمكن حقّا أن تحبط الأعمال الصالحة للإنسان بسبب أعمال سيئة يرتكبها؟ وهل أنّ هذه المسألة لا تتعارض مع عدالة البارئعزوجل من جهة ، ومع ظواهر الآيات التي تقول :( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ؟.

البحث في هذه المسألة طويل وعريض سواء من حيث الأدلة العقلية أو النقلية ، وقد أوردنا جزاء منه في ذيل الآية (٢١٧) من سورة البقرة ، وسندكره في نهاية بعض الآيات التي تتناسب مع الموضوع في المجلدات القادمة إن شاء الله.

وممّا تجب الإشارة إليه هنا هو : إذا كان هناك شك في مسألة (إحباط الأعمال) بسبب المعاصي ، فإنّه لا ينبغي أن يشكّ أبدا في تأثير الشرك على إحباط الأعمال ، لأن آيات كثيرة في القرآن المجيد أشير إلى بعضها آنفا ـ تقول وبصراحة (إنّ الوفاة على الإيمان) هي شرط قبول الأعمال ، وبدونها لا يقبل من الإنسان أي عمل.

فقلب المشرك كالأرض السبخة التي مهما بذرت فيها أنواع بذور الورد ، ومهما هطل عليها المطر الذي هو مصدر الحياة ، فإنّ تلك البذور سوف لن تنبت أبدا.

٢ ـ هل عرف المؤمنون الله؟

قرأنا في الآيات الآنفة أنّ المشركين لم يعرفوا الله حق معرفته ، إذ أنّهم لو عرفوه لما ساروا في طريق الشرك ومعنى هذا الكلام أن المؤمنين الموحدين هم وحدهم الذين عرفوا الله حق معرفته.

وهنا يطرح هذا السؤال وهو : كيف يتلاءم هذا الكلام مع الحديث المشهور

١٤٦

لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي يقول فيه : «ما عرفناك حق معرفتك ، وما عبدناك حق عبادتك».

وللجواب على هذا السؤال يجب القول : إنّ للمعرفة مراحل ، أعلاها هي تلك المعرفة التي تخص ذات الله المقدسة ، والتي لا يمكن لأي أحد أن يعرفها أو يطلع عليها غير ذاته المقدسة التي تعرف كنه ذاته المقدسة ، والحديث الشريف المذكور يشير إلى هذا المعنى.

أمّا بقية المراحل التي تأتي بعد هذه المرحلة والتي يمكن للعقل البشري أن يتعرف عليها ، هي مرحلة معرفة صفات الله بصورة عامة ومعرفة أفعاله بصورة مفصلة ، وهذه المرحلة كما ذكرنا ممكنة بالنسبة للإنسان ، والمراد من معرفة الله الوصول إلى هذه المرحلة ، والآية مورد بحثنا تحدثت عن هذه المرحلة ، حيث أن المشركين يجهلون هذا المقدار من المعرفة أيضا.

* * *

١٤٧

الآية

( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) )

التّفسير

(النفخ في الصور) وموت وإحياء جميع العباد :

الآيات الأخيرة في البحث السابق تحدثت عن يوم القيامة ، وآية بحثنا الحالي تواصل الحديث عن ذلك اليوم مع ذكر إحدى الميزات المهمة له ، إذ تبدأ الحديث بنهاية الحياة في الدنيا ، وتقول :( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ) .

يتّضح بصورة جيدة من هذه الآية أنّ حادثتين تقعان مع نهاية العالم وعند البعث ، في الحادثة الأولى يموت الأحياء فورا ، وفي الحادثة الثانية ـ التي تقع بعد فترة من وقوع الحادثة الأولى ـ يعود كلّ الناس إلى الحياة مرّة اخرى ، ويقفون بانتظار الحساب.

القرآن المجيد عبّر عن هاتين الحادثتين بـ «النفخ في الصور» ، وهذا التعبير كناية عن الحوادث المفاجئة والمتزامنة التي ستقع و «الصور» بمعنى البوق الذي يتخذ من قرن الثور ويكون مجوفا عادة حيث يستخدم مثل هذا البوق في حركة

١٤٨

القوافل أو الجيش وتوقفها ، وطبعا هناك تفاوت بين النفخة للحركة والنفخة للتوقف.

كما يبيّن هذا التعبير سهولة الأمر ويوضح كيف أن البارئعزوجل ـ من خلال أمر بسيط وهو النفخ في الصور ـ يميت كلّ من في السماء والأرض ، وكيف أنّه يبعثهم من جديد بنفخة صور اخرى.

وقلنا سابقا إنّ الألفاظ التي نستخدمها في حياتنا اليومية عاجزة عن توضيح الحقائق المتعلقة بعالم ما وراء الطبيعة أو نهاية العالم وبدء عالم آخر بدقّة ، ولهذا السبب يجب الاستفادة من أوسع معاني الألفاظ الدارجة والمتداولة مع الالتفات إلى القرائن الموجودة.

توضيح : لقد وردت تعبيرات مختلفة في القرآن المجيد عن نهاية الحياة في هذا العالم وبدء حياة اخرى في عالم آخر ، حيث ورد الحديث عن (النفخ في الصور) في أكثر من عشر آيات(١) .

في إحداها استخدمت عبارة النفر في الناقور( فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ) (٢) .

وفي بعضها استخدمت عبارة (القارعة) كما في الآيات (١ و ٢ و ٣ من سورة القارعة)( الْقارِعَةُ ، مَا الْقارِعَةُ ، وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ ) .

وأخيرا استخدمت في بعضها عبارة «صحيحة» والتي تعني الصوت العظيم ، كما ورد ذلك في الآية (٤٩) من سورة يس( ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ) التي تتحدث عن الصيحة التي تقع في نهاية العالم وتفاجئ كل بني آدم.

__________________

(١) الآيات التي ورد فيها ما يشير إلى النفخ في الصور هي : (الكهف ـ ٩٩) و (المؤمنون ـ (١٠١) ، (يس ـ ٥١) ، (الزمر ـ ٦٨) ، (ق ـ ٢٠) ، (الحاقة ـ ١٣) ، (الأنعام ـ ٧٣) ، (طه ـ ١٠٢) ، (النمل ـ ٨٧) ، (النبأ ـ ١٨).

(٢) المدثر ، الآية ٨.

١٤٩

أمّا الآية (٥٣) من سورة يس( إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ ) فإنّها تتحدث عن صيحة (الإحياء) التي تبعث الناس من جديد وتحضرهم إلى محكمة العدل الإلهية.

من مجموع هذه الآيات يمكن أن يستشف بأن نهاية أهل السموات والأرض تتمّ بعد صيحة عظيمة وهي (صيحة الموت) وأنّهم يبعثون من جديد وهم قيام بصيحة عظيمة أيضا ، وهذه هي (صيحة بعث الحياة).

وأمّا كيف تكون هاتان الصيحتان؟

وما هي آثار الصيحة الأولى وتأثير الصيحة الثانية؟ فلا علم لأحد بهما إلّا الله سبحانه وتعالى ، ولذا ورد في بعض الرّوايات التي تصف (الصور) الذي ينفخ فيه «إسرافيل» في نهاية العالم ، عن علي بن الحسينعليه‌السلام : ـ «وللصور رأس واحد وطرفان ، وبين طرف رأس كلّ منهما إلى الآخر مثل ما بين السماء إلى الأرض» قال : فينفخ فيه نفخة فيخرج الصوت من الطرف الذي بلي الأرض فلا يبقى في الأرض ذو روح إلّا صعق ومات ، ويخرج الصوت من الطرف الذي بلي السماوات فلا يبقى في السماوات ذو روح إلّا صعق ومات إلّا إسرافيل ، قال : فيقول الله لإسرافيل : يا إسرافيل ، مت ، فيموت إسرافيل ...»(١) .

على أية حال ، فإنّ أكثر المفسّرين اعتبروا (النفخ في الصور) كناية لطيفة عن كيفية نهاية العالم وبدء البعث ، ولكن مجموعة قليلة من المفسّرين قالوا : إن (صور) هي جمع (صورة) وطبقا لهذا القول ، فقد اعتبروا النفخ في الصور يعني النفخ في الوجه ، مثل نفخ الروح في بدون الإنسان ، ووفق هذا التّفسير ينفخ مرّة واحدة في وجوه بني آدم فيموتون جميعا ، وينفخ مرة اخرى فيبعثون جميعا(٢) .

هذا التّفسير إضافة إلى كونه لا يتطابق مع ما جاء في الروايات ، فإنّه

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، المجلد ٤ ، الصفحة ٥٠٢.

(٢) يرجى الانتباه إلى أنّ (صور) هي على وزن (نور) ، و (صور) هي على وزن (زحل) هما جمع (الصورة).

١٥٠

لا يتطابق أيضا مع الآية مورد بحثنا ، لأنّ الضمير في عبارة( ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى ) مفرد مذكر يعود على الصور ، في حين لو كان يراد منه المعنى الثّاني لكان يجب استعمال ضمير المفرد المؤنث في العبارة لتصبح (نفخ فيها).

إنّ النفخ في الوجه في مجال إحياء الأموات يعد أمرا مناسبا (كما في معجزات عيسىعليه‌السلام ) إلّا أنّ هذا التعبير لا يمكن استخدامه في مجال قبض الأرواح.

* * *

بحوث

١ ـ هل أنّ النفخ في الصور يتمّ مرتين ، أو أكثر؟

المشهور بين علماء المسلمين أنّه يتمّ مرّتين فقط ، وظاهر الآية يوضّح هذا أيضا ، كما أنّ مراجعة آيات القرآن الأخرى تبيّن أنّ هناك نفختين فقط ، لكن البعض قال : إنّها ثلاث نفخات ، والبعض الآخرة قال : إنّه أربع.

وبهذا الشكل فالنفخة الأولى يقال لها نفخة (الفزع) ، وهذه العبارة وردت في الآية (٨٧) من سورة النمل( وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ) .

والنفختان الثانية والثّالثة يعتبرونها للإماتة والإحياء ، والتي أشير إليها في آيات بحثنا وفي آيات قرآنية اخرى ، أولاهما يطلقون عليها نفخة (الصعق) (الصعق تعني فقدان الإنسان حالة الشعور ، أي يغشى عليه ، وتعني أيضا الموت) والثانية يطلق عليها نفخة (القيام).

أمّا الذين احتملوا أن النفخات أربع ، فيبدو أنّهم استشفوا ذلك من الآية (٥٣) من سورة يس والتي تقول بعد نفخة الإحياء( إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ ) وهذه النفخة هي (لجمعهم وإحضارهم).

١٥١

والحقيقة أنّه ليس هناك أكثر من نفختين ، ومسألة الفزع والرعب العام في الواقع هي مقدمة لموت جميع البشر والذي يتم بعد النفخة الأولى أو الصيحة الأولى ، كما أن نفخة الجميع هي تتمة لنفخة الإحياء والبعث ، وبهذا الشكل فلا يوجد أكثر من نفختين (نفخة الموت) و (نفخة الإحياء) ، وهناك شاهد آخر على هذا القول وهو الآيتان (٦ و ٧) من سورة النازعات ، اللتان تقولان :( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ) .

٢ ـ ما هو صور إسرافيل :

هناك سؤال يتبادر إلى الذهن ، وهو : كيف تملأه أمواج الصور الصوتية كلّ العالم في نفس اللحظة؟ رغم أنّنا نعلم أنّ سرعة الأمواج الصوتية بطيئة ولا تتجاوز ال (٢٤٠) مترا في الثانية ، في حين أنّ سرعة الضوء هي أكثر بمليون مرة من هذه السرعة إذ تبلغ (٣٠٠) ألف كيلومتر في الثانية.

يجب الاعتراف في البداية بأنّ معلوماتنا بشأن هذا الموضوع هي كمعلوماتنا بشأن الكثير من المسائل المتعلقة بيوم القيامة ، فهي معلومات عامة لا أكثر ، إذ نجهل الكثير من تفاصيل ذلك اليوم كما قلنا.

والتدقيق في الروايات الواردة في المصادر الإسلامية بشأن تفسير كلمة (الصور) تبيّن عكس ما يتصور البعض من أنّ (الصور) هو (زمارة) أو (مزمار) أو (بوق) اعتيادي.

وقد جاء في رواية عن الإمام زين العابدينعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الصور قرن عظيم له رأس واحد وطرفان ، وبين الطرف الأسفل الذي يلي الأرض إلى الطرف الأعلى الذي يلي السماء مثل تخوم الأرضين إلى فوق السماء السابعة ، فيه أثقاب بعدد أرواح الخلائق»(١) .

__________________

(١) لئالي الأخبار ، الصفحة ٤٥٣.

١٥٢

وفي حديث ورد عن رسول الله ، جاء فيه : «الصور قرن من نور فيه أثقاب على عدد أرواح العباد»(١) .

طرح مسألة النور هنا بمثابة جواب على السؤال الثّاني المذكور أعلاه ، ويوضح أن الصيحة العظيمة ليست من قبيل الأمواج الصوتية الاعتيادية ، وإنّما هي صيحة أعظم وأعظم ، وتكون أمواجها ذات سرعة فائقة وغير طبيعية حتى أنّها أسرع من الضوء الذي يجتاز السماء والأرض بفترة زمنية قصيرة جدّا ، ففي المرّة الأولى تكون مميتة ، في المرة الثانية تكون باعثة للأموات.

أمّا كيف يتسبب مثل هذا الصوت في إماتة العالمين ، فإنّ كان هذا الأمر عجيبا في السابق ، فإنه غير عجيب اليوم ، لأننا سمعنا كثيرا بأن الأمواج الانفجارية تسببت في تمزق أجساد البعض وإصابة آخرين بالصميم ، ورمي آخرين إلى مسافة بعيدة عن مكانهم ، وتسببت في تدمير البيوت أيضا ، كما شاهد الكثير منّا كيف أنّ زيادة سرعة الطائرة وبعبارة اخرى (اختراق حاجز الصوت) يولّد صوتا مرعبا وأمواجا مدمّرة ، قد تحطم زجاج نوافذ الكثير من العمارات والبيوت.

فإذا كانت الأمواج الصوتية الصغيرة التي هي من صنع الإنسان تحدث مثل هذا التأثير ، فما هي الآثار التي تتركها الصيحة الإلهية العظيمة ، هي بلا شكّ انفجار عالمي كبير.

ولهذا السبب لا عجب أيضا إن قلنا بوجود أمواج تقابل تلك الأمواج ، وأنّها تهز الإنسان وتوقظه وتحييه ، رغم أنّه من العسير علينا تصور هذا المعنى ، ولكننا نرى دائما كيف يوقظ النائم من نومه بواسطة الصوت ، وكيف يعود الإنسان المغمى عليه إلى حالته الطبيعية بواسطة عدّة صعقات شديدة ، ونكرر القول مرّة اخرى ، ونقول : إنّ علمنا المحدود لا يمكنه إدراك سوى ظلّ هذه الأمور ومن بعيد.

__________________

(١) علم اليقين ، الصفحة ٨٩٢.

١٥٣

٣ ـ من هم المستثنون؟

كما مرّ علينا في الآية المبحوثة عنها فإنّ كلّ أهل السموات والأرض يموتون سوى مجموعة واحدة( إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ) فمن هي هذه المجموعة؟ هناك اختلاف بين المفسّرين بشأن هذا الأمر :

فمجموعة من المفسّرين قالوا : إنّهم ملائكة الله الكبار ، كجبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ، وقد أشارت رواية إلى هذا المعنى(١) .

البعض أضاف إلى أولئك الملائكة الكبار حملة عرش الله (كما وردت في رواية اخرى)(٢) .

ومجموعة اخرى قالت : إنّ أرواح الشهداء مستثناة من الموت ، وفقا لما جاء في آيات القرآن المجيد( أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) كما ورد في رواية تشير إلى هذا المعنى(٣) .

وبالطبع فإنّ هذه الروايات لا تتعارض مع بعضها البعض ، ولكن في كلّ الصور فإنّ هذه المجموعة المتبقية تموت في نهاية الأمر ، كما أوضحته تلك الرّوايات ، ولا يبقى أحد حيا في هذا العالم سوى البارئعزوجل إذ هو( الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) .

وعن كيفية موت الملائكة وأرواح الشهداء والأنبياء والأولياء ، فيحتمل أنّ المراد من موت أولئك هو قطع ارتباط الروح عن قالبها المثالي ، أو تعطيل نشاط الروح المستمر.

__________________

(١) مجمع البيان ذيل آيات البحث.

(٢) بحار الأنوار ، المجلد ٦ ، الصفحة ٣٢٩.

(٣) نور الثقلين ، المجلد ٤ ، الصفحة ٥٠٣ ، الحديث ١١٩.

١٥٤

٤ ـ فجائية النفختين :

آيات القرآن الكريم توضح بصورة جيدة أنّ النفختين تقعان بصورة مفاجئة ، والنفخة الأولى تكون فجائية بحيث أنّ مجموعة كبيرة من الناس تكون منشغلة بالتجارة والجدال والنقاش في أموالهم وبيعهم وشرائهم ، وفجأة يسمعون الصيحة ، فيسقطون في أماكنهم ميتين ، كما صرحت بذلك الآية (٢٩) في سورة يس( إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ) .

وأمّا (الصيحة الثانية) فإنّ آيات القرآن الكريم ـ ومنها الآية التي هي مورد بحثنا ـ تبيّن بأنّها تقع فجأة أيضا.

٥ ـ ما هي الفاصلة الزمنية بين النفختين؟

الآيات القرآنية لم تذكر توضيحا حول هذا الأمر ، سوى كلمة (ثم) التي وردت ضمن آية بحثنا والتي تدل على وجود فاصل زمني بين النفختين ، إلّا أنّ بعض الرّوايات ذكرت بأن هذه الفاصلة مقدارها (٤٠) عاما(١) . والمجهول بالنسبة لنا هو معيار هذه السنين ، فهل هي سنوات اعتيادية كالتي نعيشها نحن ، أم أنّها سنوات وأيّام كسنوات وأيّام القيامة.

على أية حال فالتفكر في نفخة الصور ونهاية العالم ، وكذلك بالنفخة الثانية وبدء عالم جديد ، ومع ملاحظة الإشارات التي وردت في القرآن المجيد ، والتفاصيل الأخرى في الرّوايات الإسلامية بهذا الشأن ، يعطي دروسا تربوبة عميقة للإنسان ، وخاصة أنّها توضح هذه الحقيقة ، وهي البقاء على استعداد دائم لاستقبال مثل هذا الحادث العظيم والرهيب في كلّ لحظة ، لأنّه لم يحدد لوقوعها تاريخ معين ، إذ يحتمل وقوعها في أية لحظة ، إضافة إلى أنّها تقع من دون مقدمات ، لذا ورد في ذيل إحدى الرّوايات الخاصة بنفخ الصور والمذكورة آنفا أنّ

__________________

(١) نور الثقلين ، المجلد ٤ ، الصفحة ٥٠٣ ، الحديث ١١٩.

١٥٥

الراوي قال ، عند ما وصل الكلام إلى هذا الأمر «رأيت علي بن الحسين يبكي عند ذلك «بكاء شديدا» ، إذ كان قلقا جدّا من مسألة نهاية العالم ويوم القيامة ، وإحضار الناس للحساب في محكمة العدل الإلهية»(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير الصافي ذيل آية البحث.

١٥٦

الآيتان

( وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠) )

التّفسير

ذلك اليوم الذي تشرق الأرض بنور ربّها :

آيتا بحثنا تواصلان استعراض الحديث عن القيامة والذي بدأ قبل عدّة آيات ، وهاتان الآيتان تضمان سبع عبارات منسجمة ، كلّ واحدة تتناول أمرا من أمور المعاد ، لتكمل بعضها البعض ، أو أنّها تقيم دليلا على ذلك.

في البداية تقول :( وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها ) .

وقد اختلف المفسّرون في معنى إشراق الأرض بنور ربها ، إذ ذكروا تفسيرات عديدة ، اخترنا ثلاثا منها ، وهي :

١ ـ قالت مجموعة : إنّ المراد من نور الرب هما الحق والعدالة ، الذي ينير بهما ربّ العالمين الأرض في ذلك اليوم ، حيث قال العلامة المجلسي في بحار الأنوار : «أي أضاءت الأرض بعدل ربها يوم القيامة ، لأن نور الأرض

١٥٧

بالعدل»(١) .

والبعض الآخر اعتبر الحديث النبوي (الظلم ظلمات يوم القيامة) شاهدا على هذا المعنى(٢) .

فيما قال «الزمخشري» في تفسير الكشاف : (وأشرقت الأرض بما يقيمه فيها من الحق والعدل ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات).

٢ ـ البعض الآخر يعتقد أنّه إشارة إلى نور غير نور الشمس والقمر ، يخلقه الله في ذلك اليوم خاصة.

٣ ـ أمّا المفسّر الكبير العلّامة الطباطبائي أعلى الله مقامه الشريف صاحب تفسير الميزان فقد قال : إنّ المراد من إشراق الأرض بنور ربّها هو ما يخصّ يوم القيامة من انكشاف الغطاء وظهور الأشياء بحقائقها وبدو الأعمال من خير أو طاعة أو معصية أو حق أو باطل للناظرين. وقد استدل العلّامة الطباطبائي على هذا الرأي بالآية (٢٢) من سورة (ق)( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) . وهذا الإشراق ـ وإن كان عاما لكل شيء يسعه النور ـ لكن لما كان الغرض بيان ما للأرض وأهلها يومئذ من الشأن خصها بالبيان.

وبالطبع فإن هذه التفاسير لا تتعارض فيما بينها ، ويمكن القول بصحتها جميعا ، مع أن التّفسيرين الأوّل والثّالث أنسب من غيرهما.

ومن دون شك فإنّ هذه الآية تتعلق بيوم القيامة ، وإن وجدنا بعض روايات أهل البيت الأطهار (عليهم‌السلام) تفسّرها على أنّها تعود إلى ظهور القائم المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف ، فهي في الواقع نوع من التطبيق والتشبيه ،

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلد ٦ ، الصفحة ٣٢١.

(٢) روح المعاني وروح البيان ذيل آية البحث.

١٥٨

وتأكيد لهذا المعنى ، وهو عند ظهور المهدي (عج) تصبح الدنيا نموذجا حيا من مشاهد القيامة ، إذ يملأ هذا الإمام بالحق ونائب الرّسول الأكرم وخليفة الله الأرض بالعدل إلى الحد الذي ترتضيه الحياة الدنيا.

ونقل (المفضل بن عمر) عن الإمام الصادقعليه‌السلام «إذا قام قائمنا أشرقت الأرض بنور ربّها واستغنى العباد عن ضوء الشمس وذهبت الظلمة»(١) .

العبارة الثّانية في هذه الآية تتحدث عن صحائف الأعمال ، إذ تقول :( وَوُضِعَ الْكِتابُ ) .

الصحائف التي تتضمن جميع صغائر وكبائر أعمال الإنسان ، وكما يقول القرآن المجيد في الآية (٤٩) من سورة الكهف( لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) .

وتضيف العبارات التي تتحدث عن الشهود( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ ) .

فالأنبياء يحضرون ليسألوا عن أدائهم لمهام الرسالة ، كما ورد في الآية (٦) من سورة الأعراف( وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) .

كما يحضر شهداء الأعمال في محكمة العدل الإلهية ليدلوا بشهاداتهم ، صحيح أن البارئعزوجل مطلع على كلّ الأمور ، ولكن للتأكيد على مقام العدالة يدعو شهداء الأعمال للحضور في تلك المحكمة.

ذكر المفسّرون آراء عديدة بشأن أولئك الشهداء على الأعمال ، حيث قال البعض : إنّهم الصالحون والطاهرون والعادلون في الأمّة ، الذين يشهدون على أداء الأنبياء لرسالتهم ، وعلى أعمال الناس الذين كانوا يعاصرونهم ، و (الأئمة المعصومون) هم في طليعة شهداء الأعمال.

__________________

(١) إرشاد المفيد والخبر ذاته في تفسير الصافي ونور الثقلين في ذيل آيات البحث ، ونفس المعنى ، ورد في المجلد الثّاني والخمسين الصفحة ٣٣٠ من بحار الأنوار للمرحوم العلّامة المجلسي ، مع شيء من الاختصار.

١٥٩

في حين يعتقد البعض الآخر بأنّ الملائكة هم الشهداء على أعمال الإنسان ، والآية (٢١) في سورة (ق) تعطي الدليل على هذا المعنى( وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ ) .

وقال البعض : إن أعضاء بدن الإنسان ومكان وزمان الطاعة والمعصية هم الذين يشهدون على الإنسان يوم القيامة.

ويبدو أن كلمة (شهداء) لها معان واسعة ، أشار كلّ مفسر إلى جانب منها في تفسيره.

واحتمل البعض أنّها تخص «الشهداء» الذين قتلوا في سبيل الله ، ولكن هذا الاحتمال غير وارد وبعيد ، لأن الحديث هو عن شهداء محكمة العدل الإلهي ، وليس عن شهداء طريق الحق ، مع إمكانية انضمامهم إلى صفوف الشهود.

العبارة الرّابعة تقول :( وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ ) .

والخامسة تضيف :( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) .

فمن البديهيات ، عند ما يكون الحاكم هو البارئعزوجل ، وتشرق الأرض بنور عدالته ، وتعرض صحائف أعمال الإنسان التي تبيّن كلّ صغيرة وكبيرة بدقّة ، ويحضر الأنبياء والشهود والعدول ، فلا يحكم البارئعزوجل إلا بالحق ، وفي مثل هذا المحاكم لا وجود للظالم والاستبداد مطلقا.

العبارة السادسة في الآية التالية أكملت الحديث بالقول :( وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ ) .

إنّ جزاء الأعمال وعواقبها سترد إليهم ، وهل هناك مكافأة ومجازاة أعلى من أن يريد عمل الإنسان بصورة كاملة إلى الإنسان نفسه (نلفت الانتباه إلى أن كلمة (وفيت) تعني الأداء بصورة كاملة) ويبقى مرافقا له إلى الأبد.

فالذي يتمكن من تنفيذ مثل هذه المناهج العادلة بدقّة ، هو الذي أحاط علمه

١٦٠

بكل شيء ، لهذا فإن العبارة السابعة والأخيرة في هذا البحث تقول :( وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ ) .

إذن فلا حاجة حتى للشهود ، لأنّ الله هو أعلم من كلّ أولئك الشهود ، ولكن لطفه وعدله يقتضيان إحضار الشهود ، نعم فهذا هو مشهد يوم القيامة ، فليستعد الجميع لذلك اليوم.

* * *

١٦١

الآيتان

( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) )

التّفسير

الذين يدخلون جهنم زمرا :

تواصل الآيات هنا بحث المعاد ، وتستعرض بالتفصيل ثواب وجزاء المؤمنين والكافرين الذي استعرض بصورة مختصرة في الآيات السابقة. وتبدأ بأهل جهنم ، إذ تقول :( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً ) .

فمن الذي يسوقهم إلى جهنم؟

كما هو معروف فإن ملائكة العذاب هي التي تسوقهم حتى أبواب جهنم ، ونظير هذه العبارة ورد في الآية (٢١) من سورة (ق) ، إذ تقول :( وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ ) .

١٦٢

عبارة «زمر» تعني الجماعة الصغيرة من الناس ، وتوضح أن الكافرين يساقون إلى جهنم على شكل مجموعات مجموعات صغيرة ومتفرقة.

و «سيق» من مادة (سوق) وتعني (الحث على أسير).

ثم تضيف( حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ) (١) .

يتّضح بصورة جيدة من خلال هذه العبارة ، أن أبواب جهنم كانت مغلقة قبل سوق أولئك الكفرة ، وهي كأبواب السجون المغلقة التي تفتح أمام المتهمين الذين يراد سجنهم ، وهذا الحدث المفاجئ يوجد رعبا ووحشة كبيرة في قلوب الكافرين ، وقبل دخولهم يتلقاهم خزنة جهنم باللوم والتوبيخ ، الذين يقولون استهجانا وتوبيخا لهم : لم كفرتم وقد هيئت لكم كافة أسباب الهداية ، ألم يرسل إليكم أنبياء منكم يتلون آيات الله عليكم باستمرار ، ومعهم معجزات من خالقكم ، وإنذار وإعلام بالأخطار التي ستصيبكم إن كفرتم بالله(٢) ؟ فكيف وصل بكم الحال إلى هذه الدرجة رغم إرسال الأنبياء إليكم؟

حقّا إنّ كلام خزنة جهنم يعد من أشد أنواع العذاب على الكافرين الذين يواجهون بمثل هذا اللوم فور دخولهم جهنم.

على أية حال ، فإنّ الكافرين يجيبون خزنة جهنم بعبارة قصيرة ملؤها الحسرات ، قائلين :( قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ ) .

مجموعة من المفسّرين الكبار اعتبروا( كَلِمَةُ الْعَذابِ ) إشارة إلى قوله تعالى حين هبط آدم على الأرض ، أو حينما قرر الشيطان إغواء بني آدم ، كما ورد في الآية (٣٩) من سورة البقرة( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

__________________

(١) «خزنة» جمع (خازن) من مادة (خزن) على وزن (جزم) وتعني حافظ الشيء ، و (خازن) تطلق على المحافظ والحارس.

(٢) «يتلون» و «ينذرون» : كليهما فعل مضارع ودليل على الاستمرارية.

١٦٣

وحينما قال الشيطان : لأغوينهم جميع إلّا عبادك المخلصين ، فأجابه البارئعزوجل ( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (١) .

وبهذا الشكل اعترفوا بأنّهم كذبوا الأنبياء وأنكروا آيات الله ، وبالطبع فإن مصيرهم لن يكون أفضل من هذا.

كما يوجد احتمال في أنّ المراد من( حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ ) هو ما تعنيه الآية السابعة في سورة (يس)( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

وهو إشارة إلى أن الإنسان يصل أحيانا ـ بسبب كثرة ذنوبه وعدائه ولجاجته وتعصبه أمام الحق ـ إلى درجة يختم معها على قلبه ولا يبقى أمامه أيّ طريق للعودة ، وفي هذه الحالة يصبح مستحقا تماما للعذاب.

وعلى أيّة حال ، فإن مصدر كلّ هذه الأمور هو عمل الإنسان ذاته ، وليس من الصحيح الاستدلال على معنى الجبر وفقدان حرية الإرادة.

هذا النقاش القصير ينتهي مع اقترابهم من عتبة جهنم( قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) .

فأبواب جهنم ـ كما أشرنا إليها من قبل ـ يمكن أن تكون قد نظمت حسب أعمال الإنسان ، وإن كلّ مجموعة كافرة تدخل جهنم من الباب الذي يتناسب مع أعمالها ، وذلك مثل أبواب الجنّة التي يطلق على أحد أبوابها اسم «باب المجاهدين» وقد جاء في كلام لأمير المؤمنين «إنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة»(٢) .

والذي يلفت النظر هو أن ملائكة العذاب تؤّكد على مسألة التكبر من بين بقية الصفات الرذيلة التي تؤدي بالإنسان إلى السقوط في نار جهنم ، وذلك إشارة إلى أن التكبر والغرور وعدم الانصياع والاستسلام أمام الحق هو المصدر الرئيسي

__________________

(١) الم السجدة ، ١٣.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة (٢٧).

١٦٤

للكفر والانحراف وارتكاب الذنب.

نعم ، فالتكبر ستار سميك يغطي عيني الإنسان ويحول دون رؤيته للحقائق الساطعة المضيئة ، ولهذا نقرأ في رواية عن الإمامين المعصومين الباقر والصادقعليهما‌السلام «لا يدخل الجنّة من في قلبه مثقال ذرة من كبر»(١) .

* * *

__________________

(١) الكافي ، المجلد الثّاني ، باب الكبر الحديث. ٦.

١٦٥

الآيات

( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥) )

التّفسير

المتقون يدخلون الجنّة أفواجا!!

هذه الآيات ـ التي هي آخر آيات سورة (الزمر) ـ تواصل بحثها حول موضوع المعاد ، حيث تتحدث عن كيفية دخول المؤمنين المتقين الجنّة ، بعد أن كانت الآيات السابقة قد استعرضت كيفية دخول الكافرين جهنم ، لتتوضح الأمور أكثر من خلال هذه المقارنة.

في البداية تقول :( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ) .

استعمال عبارة (سيق) (والتي هي من مادة (سوق) على وزن (شوق) وتعني الحث على السير). أثار التساؤل ، كما لفت أنظار الكثير من المفسّرين ، لأنّ هذا

١٦٦

التعبير يستخدم في موارد يكون تنفيذ العمل فيها من دون أي اشتياق ورغبة في تنفيذه ، ولذلك فإنّ هذه العبارة صحيحة بالنسبة لأهل جهنم ، ولكن لم استعملت بشأن أهل الجنّة الذين يتوجهون إلى الجنّة بتلهف واشتياق؟

قال البعض : إنّ هذه العبارة استعملت هنا لأنّ الكثير من أهل الجنّة ينتظرون أصدقاءهم.

والبعض الآخر قال : إنّ تلهف وشوق المتقين للقاء البارئعزوجل يجعلهم يتحينون الفرصة لذلك اللقاء بحيث لا يقبلون حتّى بالجنّة.

فيما قال البعض : إنّ هناك وسيلة تنقلهم بسرعة إلى الجنّة.

مع أنّ هذه التّفسيرات جيدة ولا يوجد أي تعارض فيما بينهما ، إلّا أنّ هناك نقطة اخرى يمكن أن تكون هي التّفسير الأصح لهذه العبارة ، وهي مهما كان حجم عشق المتقين للجنّة ، فإن الجنّة وملائكة الرحمة مشتاقة أكثر لوفود أولئك عليهم ، كما هو الحال بالنسبة إلى المستضيف المشتاق لضيف والمتلهف لوفوده عليه إذ أنّه لا يجلس لانتظاره وإنّما يذهب لجلبه بسرعة قبل أن يأتي هو بنفسه إلى بيت المستضيف ، فملائكة الرحمة هي كذلك مشتاقة لوفود أهل الجنّة.

والملاحظة أن (زمر) تعني هنا المجموعات الصغيرة ، وتبيّن أن أهل الجنّة يساقون إلى الجنّة على شكل مجموعات مجموعات كلّ حسب مقامه.

ثم تضيف الآية( حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ ) (١) .

الملفت للنظر أن القرآن الكريم يقول بشأن أهل جهنم : إنّهم حينما يصلون إلى قرب جهنم تفتح لهم الأبواب ، ويقول بشأن أهل الجنّة ، إن أبواب الجنّة مفتحة لهم

__________________

(١) ما هو جواب الجملة الشرطية (إذا جاؤها)؟ ذكر المفسّرون آراء متعددة ، أنسبها الذي يقول : إن عبارة (قال لهم خزنتها) جوابها والواو زائدة. كما احتملوا أن جواب الجملة محذوف ، والتقدير (سلام من الله عليكم) ، أو أن حذف الجواب إشارة إلى أن سعة الموضوع وعلوه لا يمكن وصفها ، والبعض قال : (فتمت) هي الجواب و (الواو) زائدة.

١٦٧

من قبل ، وهذه إشارة إلى الاحترام والتبجيل الذي يستقبلون به من قبل ملائكة الرحمة ، كالمستضيف المحب الذي يفتح أبواب بيته للضيوف قبل وصولهم ، ويقف عند الباب بانتظارهم.

وقد قرأنا في الآيات السابقة أن ملائكة العذاب يستقبلون أهل جهنم باللوم والتوبيخ الشديدين ، عند ما يقولون لهم : قد هيئت لكم أسباب الهداية ، فلم تركتموها وانتهيتم إلى هذا المصير المشؤوم؟

أمّا ملائكة الرحمة فإنّها تبادر أهل الجنّة بالسلام المرافق للاحترام والتبجيل ، ومن ثمّ تدعوهم إلى دخول الجنّة.

عبارة «طبتم» من مادة (طيب) على وزن (صيد) وتعني الطهارة ، ولأنّها جاءت بعد السلام والتحية ، فمن الأرجح القول بأن لها مفهوما إنشائيا ، وتعني : لتكونوا طاهرين مطهرين ونتمنى لكم السعادة والسرور.

وبعبارة اخرى : طابت لكم هذه النعم الطاهرة ، يا أصحاب القلوب الطاهرة.

ولكن الكثير من المفسّرين ذكروا لهذه الجملة معنى خبريا عند تفسيرها ، وقالوا : إنّ الملائكة تخاطبهم بأنّكم تطهرتم من كلّ لوث وخبث ، وقد طهرتم بإيمانكم وبعملكم الصالح قلوبكم وأرواحكم ، وتطهرتم من الذنوب والمعاصي ، ونقل البعض رواية تقول : إنّ هناك شجرة عند باب الجنّة ، تفيض من تحتها عينا ماء صافيتان ، يشرب المؤمنون من إحداهما فيتطهر باطنهم ، ويغتسلون بماء العين الأخرى فيتطهر ظاهرهم ، و، هنا يقول خزنة الجنّة لهم :( سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ ) (١) .

الملاحظ أن «الخلود» استخدم بشأن كلّ من أهل الجنّة وأهل النّار ، وذلك لكي لا يخشى أهل الجنّة من زوال النعم الإلهية ، ولكي يعلم أهل النّار بأنّه لا سبيل لهم للنجاة من النّار.

__________________

(١) تفسير القرطبي المجلد (٨) الصفحة. ٥٧٣.

١٦٨

الآية التّالية تتكون من أربع عبارات قصار غزيرة المعاني تنقل عن لسان أهل الجنّة السعادة والفرح اللذين غمراهم ، حيث تقول :( وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ) .

وتضيف في العبارة التالية( وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ ) .

المراد من الأرض هنا أرض الجنّة. واستخدام عبارة (الإرث) هنا ، إنّما جاء لكونهم حصلوا على كلّ هذه النعم في مقابل جهد قليل بذلوه ، إذ ـ كما هو معروف ـ فإنّ الميراث هو الشيء الذي يحصل عليه الإنسان من دون أي عناء مبذول.

أو أنّها تعني أن لكل إنسان مكان في الجنّة وآخر في جهنم ، فإن ارتكب عملا استحق به جهنم فإن مكانه في الجنّة سوف يمنح لغيره ، وإن عمل عملا صالحا استحق به الجنّة ، فيمنح مكانا في الجنّة ويترك مكانه في جهنم لغيره.

أو تعني أنّهم يتمتعون بكامل الحرية في الاستفادة من ذلك الإرث ، كالميراث الذي يحصل عليه الإنسان إذ يكون حرا في استخدامه.

هذه العبارة ـ في الواقع ـ تحقق عيني للوعد الإلهي الذي ورد في الآية (٦٣) من سورة مريم( تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا ) .

العبارة الثّالثة تكشف عن الحرية الكاملة التي تمنح لأهل الجنّة في الاستفادة من كافة ما هو موجود في الجنّة الواسعة ، إذ تقول :( نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ) .

يستشف من الآيات القرآنية أن في الجنّة الكثير من البساتين والحدائق وقد أطلقت عليها في الآية (٧٢) من سورة التوبة عبارة( جَنَّاتِ عَدْنٍ ) وأهل الجنّة وفقا لدرجاتهم المعنوية يسكنون فيها ، وأن لهم كامل الحرية في التحرك في تلك الحدائق والبساتين في الجنّة.

أمّا العبارة الأخيرة فتقول :( فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) .

وهذه إشارة إلى أن هذه النعم الواسعة إنّما تعطى في مقابل العمل الصالح (المتولد من الايمان طبعا) ليكون صاحبه لائقا ومستحقا لنيل مثل هذه النعم.

١٦٩

وهنا يطرح هذه السؤال وهو : هل أنّ هذا القول صادر عن أهل الجنّة ، أم أنّه كلام الله جاء بعد كلام أهل الجنّة؟

المفسّرون وافقوا الرأيين ، ولكنّهم رجحوا المعنى الأوّل الذي يقول : إنّه كلام أهل الجنّة ويرتبط بالعبارات الأخرى في الآية.

وفي النهاية تخاطب الآية ـ مورد بحثنا وهي آخر آية من سورة الزمر ـ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلة :( وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) يسبحون الله ويقدّسونه ويحمدونه.

إذ تشير إلى وضع الملائكة الحافين حول عرش الله ، أو أنّها تعبر عن استعداد أولئك الملائكة لتنفيذ الأوامر الإلهية ، أو أنّها إشارة إلى خفايا قيمة تمنح في ذلك اليوم للخواص والمقرّبين من العرش الإلهي ، مع أنّه لا يوجد أي تعارض بين المعاني الثلاثة ، إلا أن المعنى الأوّل أنسب.

ولهذا تقول العبارة التالية( وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ ) .

وباعتبار هذه الأمور هي دلائل على ربوبية البارئعزوجل واستحقاق ذاته المقدسة والمنزّهة لكل أشكال الحمد والثناء ، فإنّ الجملة الأخيرة تقول :( وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

وهنا يطرح هذا السؤال : هل أن هذا الخطاب صادر عن الملائكة ، أم عن أهل الجنّة المتقين ، أم أنّه صادر عن الاثنين؟

المعنى الأخير أنسب من غيره ، لأنّ الحمد والثناء على الله هو منهاج كلّ أولي الألباب ، ومنهاج كلّ الخواص والمقربين ، واستعمال كلمة (قيل) وهي فعل مبني للمجهول يؤيد ذلك.

نهاية سورة الزّمر

* * *

١٧٠
١٧١

سورة

المؤمن

مكيّة

وعدد آياتها خمس وثمانون آية

١٧٢

«سورة المؤمن»

نظرة مختصرة في محتوى السورة :

سورة المؤمن هي طليعة الحواميم ، والحواميم في القرآن الكريم سبع سور متتالية يلي بعضها بعضا ، نزلت جميعا في مكّة ، وهي تبدأ بـ «حم».

هذه السورة كسائر السور المكّية ، تثير في محتواها قضايا العقيدة و، تتحدث عن أصول الدين الإسلامي ومبانيه وفي ذلك تلبي حاجة المسلمين في تلك المرحلة إلى تشييد وإقامة قواعد الدين الجديد.

ومحتوى هذه السورة يضم بين دفتيه الشدة واللطف ، ويجمع في نسيجه بين الإنذار والبشارة السورة ـ إذا ـ مواجهة منطقية حادّة مع الطواغيت والمستكبرين ، كما هي نداء لطف ورحمة ومحبة بالمؤمنين وأهل الحق.

وتمتاز هذه السورة أيضا بخصوصية تنفرد بها دون سور القرآن الأخرى ، إذ تتحدّث عن «مؤمن آل فرعون» وهو مقطع من قصة موسىعليه‌السلام ، وقصد مؤمن آل فرعون لم ترد في كتاب الله سوى في سورة «المؤمن».

إنّ قصة «مؤمن آل فرعون» هي قصة ذلك الرجل المؤمن المخلص الذي كان يتحلى بالذكاء والمعرفة في الوقت الذي هو من بطانة فرعون ، ومحسوب ـ ظاهرا ـ من حاشيته ـ لقد كان هذا الرجل مؤمنا بما جاء به موسىعليه‌السلام ، وقد احتل وهو يعمل في حاشية فرعون ـ موقعا حساسا مميزا في الدفاع عن موسىعليه‌السلام وعن دينه ، حتى أنّه ـ في الوقت الذي تعرضت فيه حياة موسىعليه‌السلام

١٧٣

للخطر ـ تحرّك من موقعه بسلوك فطن وذكي وحكيم لكي يخلّص موسى من الموت المحقق الذي كان قد أحاط به.

إنّ اختصاص السورة باسم «المؤمن» يعود إلى قصة هذا الرجل الذي تحدّثت عشرون آية منها عن جهاده ، أي ما يقارب ربع السورة.

يكشف الأفق العام أنّ حديث السورة عن «مؤمن آل فرعون» ينطوي على أبعاد تربوية لمجتمع المسلمين في مكّة ، فقد كان بعض المسلمين ممّن آمن بالإسلام يحافظ على علاقات طيبة مع بعض المشركين والمعاندين ، وفي نفس الوقت فإن إسلامه وانقياده لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس عليهما غبار.

لقد كان الهدف من هذه العلاقة مع المشركين هو توظيفها في أيّام الخطر لحماية الرسالة الجديدة ودفع الضر عن أتباعها ، وفي هذا الإطار يذكر التاريخ أنّ أبا طالبعليه‌السلام عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان من جملة هؤلاء ، كما يستفاد ذلك من بعض الرّوايات الإسلامية المروية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام (١) .

وبشكل عام يمكن النظر إلى محتوى السورة في إطار ما تثيره النقاط والأقسام الآتية :

القسم الأوّل : وهو يضم طليعة آيات السورة التي تتحدث عن بعض من أسماء الله الحسنى ، خصوصا تلك التي ترتبط ببعث معاني الخوف والرجاء في القلوب ، مثل قوله تعالى:( غافِرِ الذَّنْبِ ) و( شَدِيدِ الْعِقابِ ) .

القسم الثّاني : تهديد الكفّار والطواغيت بعذاب هذه الدنيا الذي سبق وأن نال أقواما اخرى في ماضي التأريخ ، بالإضافة إلى التعرّض لعذاب الآخرة ، وتتناول بعض الصور والمشاهد التفصيلية فيه.

القسم الثّالث : بعد أن وقفت السورة على قصة موسى وفرعون ، بدأت بالحديث ـ بشكل واسع ـ عن قصة ذلك الرجل المؤمن الواعي الشجاع الذي

__________________

(١) الغدير ، المجلد الثامن ، ص ٣٨٨.

١٧٤

اصطلح عليه بـ «مؤمن آل فرعون» وكيف واجه البطانة الفرعونية وخلّص موسىعليه‌السلام من كيدها.

القسم الرّابع : تعود السورة مرّة اخرى للحديث عن مشاهد القيامة ، لتبعث في القلوب الغافلة الروح واليقظة.

القسم الخامس : تتعرض السورة المباركة فيه إلى قضيتي التوحيد والشرك ، بوصفهما دعامتين لوجود الإنسان وحياته ، وفي ذلك تتناول جانبا من دلائل التوحيد ، بالإضافة إلى ما تقف عليه من مناقشة لبعض شبهات المشركين.

القسم السّادس : تنتهي السورة ـ في محتويات القسم الأخير هذا ـ بدعوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتحمل والصبر ، ثمّ تختم بالتعرض إلى خلاصات سريعة ممّا تناولته مفصلا من قضايا ترتبط بالمبدأ والمعاد ، وكسب العبرة من هلاك الأقوام الماضية ، وما تعرضت له من أنواع العذاب الإلهي في هذه الدنيا ، ليكون ذلك تهديدا للمشركين. ثمّ تخلص السورة في خاتمتها إلى ذكر بعض النعم الإلهية.

لقد أشرنا فيما مضى إلى أنّ تسمية السورة بـ «المؤمن» يعود إلى اختصاص قسم منها بالحديث عن «مؤمن آل فرعون». أما تسميتها بـ «غافر» فيعود إلى كون هذه الكلمة هي بداية الآية الثّالثة من آيات السورة المباركة.

فضيلة تلاوة السورة :

في سلسلة الرّوايات الإسلامية المروية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، نرى كلاما واسعا من فضل تلاوة سور «الحواميم» وبالأخص سورة «غافر» منها.

ففي بعض هذه الأحاديث نقرأ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «الحواميم تاج

١٧٥

القرآن»(١) .

وعن ابن عباس ممّا يحتمل نقله عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قال : «لكل شيء لباب ولباب القرآن الحواميم»(٢) .

وفي حديث عن الإمام الصادق نقرأ قولهعليه‌السلام : «الحواميم ريحان القرآن ، فحمدوا الله واشكروه بحفظها وتلاوتها ، وإنّ العبد ليقوم يقرأ الحواميم فيخرج من فيه أطيب من المسك الأذفر والعنبر ، وإنّ الله ليرحم تاليها وقارئها ، ويرحم جيرانه وأصدقاءه ومعارفه وكلّ حميم أو قريب له ، وإنّه في القيامة يستغفر له العرش والكرسي وملائكة الله المقربون»(٣) .

وفي حديث آخر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحواميم سبع ، وأبواب جهنّم سبع ، تجيء كلّ «حاميم» منها فتقف على باب من هذه الأبواب تقول : الّلهم لا تدخل من هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرأني»(٤) .

وفي قسم من حديث مروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ «حاميم المؤمن» لم يبق روح نبيّ ولا صديق ولا مؤمن إلّا صلّوا عليه واستغفروا له»(٥) .

ومن الواضح أنّ هذه الفضائل الجزيلة ترتبط بالمحتوى الثمين للحواميم ، هذا المحتوى الذي إذا واظب الإنسان على تطبيقه في حياته والعمل به ، والالتزام بما يستلزمه من مواقف وسلوك ، فإنّه سيكون مستحقا للثواب العظيم والفضائل الكريمة التي قرأناها.

وإذا كانت الرّوايات تتحدث عن فضل التلاوة ، فإنّ التلاوة المعنية هي التي

__________________

(١) هذه الأحاديث في مجمع البيان في بداية تفسير سورة المؤمن.

(٢) المصدر السابق

(٣) مجمع البيان أثناء تفسير السورة

(٤) البيهقي طبقا لما نقله عنه الآلوسي في روح المعاني ، المجلد ٢٤ ، صفحة ٣٦.

(٥) مجمع البيان في مقدمة تفسير السورة.

١٧٦

تكون مقدمة للاعتقاد الصحيح ، فيما يكون الإعتقاد الصحيح مقدمة للعمل الصحيح. إذا التلاوة المعنية هي تلاوة الإيمان والعمل ، وقد رأينا في واحد من الأحاديث ـ الآنفة الذكر – المنقولة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعبير «من كان يؤمن بي ويقرأني».

* * *

١٧٧

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) )

التّفسير

صفات تبعث الأمل في النفوس :

تواجهنا في مطلع السورة الحروف المقطعة وهي هنا من نوع جديد لم نعهده في السور السابقة ، حيث افتتحت السورة بـ «جاء» و «ميم».

وبالنسبة للحروف المقطعة في مطلع السور كانت لنا بحوث كثيرة في معانيها ودلالاتها ، تعرضنا إليها أثناء الحديث عن بداية سورة «البقرة» ، وسورة «آل عمران» و «الأعراف» وسور اخرى.

الشيء الذي تضيفه هنا ، هو أنّ الحروف التي تبدأ به سورة المؤمن التي نحن الآن بصددها ، تشير ـ كما يستفاد ذلك من بعض الرّوايات ومن آراء المفسّرين ـ إلى أسماء الله التي تبدأ بحروف هذه السورة ، أي «حميد» و «مجيد» كما ورد ذلك

١٧٨

عن الامام الصادقعليه‌السلام (١) .

البعض الآخر ذهب إلى أنّ «ح» إشارة إلى أسمائه تعالى مثل «حميد» و «حليم» و «حنان» ، بينما «م» إشارة إلى «ملك» و «مالك» و «مجيد».

وهناك احتمال في أن حرف «الحاء» يشير إلى الحاكمية ، فيما يشير حرف «الميم» إلى المالكية الإلهية.

عن ابن عباس ، نقل القرطبي «في تفسيره» أن «حم» من أسماء الله العظمى(٢) .

ويتّضح في نهاية الفقرة أنّ ليس ثمّة من تناقض بين الآراء والتفاسير الآنفة الذكر ، بل هي تعمد جميعا إلى تفسير الحروف المقطعة بمعنى واحد.

في الآية الثّانية ـ كما جرى على ذلك الأسلوب القرآني ـ حديث عن عظمة القرآن ، وإشارة إلى أنّ هذا القرآن بكل ما ينطوي عليه من عظمة وإعجاز وتحدّ ، إنّما يتشكّل في مادته الخام من حروف الألف باء وهنا يمكن معنى الإعجاز.

يقول تعالى :( تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) .

إنّ قدرته تعالى تعجز الأشياء الأخرى عن الوقوف إزاءه ، فقدرته ماضية في كل شيء ، وعزته مبسوطة ، أمّا علمه تعالى فهو في أعلى درجات الكمال ، بحيث يستوعب كلّ احتياجات الإنسان ويدفعه نحو التكامل.

والآية التي بعدها تعدّد خمسا من صفاته تعالى ، يبعث بعضها الأمل والرجاء ، بينما يبعث البعض الآخر منها على الخوف والحذر.

ويقول تعالى :( غافِرِ الذَّنْبِ ) .

( قابِلِ التَّوْبِ ) (٣) .

__________________

(١) يلاحظ «معاني الأخبار» للشيخ الصدوق ، صفحة ٢٢ ، باب معنى الحروف المقطعة في أوائل السور.

(٢) تفسير القرطبي أثناء تفسير الآية.

(٣) «توب» يمكن أن تكون جمع «توبة» وأن تكون مصدرا (يلاحظ مجمع البيان).

١٧٩

( شَدِيدِ الْعِقابِ ) .

( ذِي الطَّوْلِ ) (١) .

( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) .

أجل إنّ من له هذه الصفات هو المستحق للعبادة وهو الذي يملك الجزاء في العقاب والثواب.

* * *

ملاحظات

تنطوي الآيات الثلاث الآنفة الذكر على مجموعة من الملاحظات ، نقف عليها من خلال النقاط الآتية :

أولا : في الآيات أعلاه (آية ٢ و ٣) بعد ذكر الله وقبل ذكر المعاد( إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) اشتملت الآيتان على ذكر سبع صفات للذات الإلهية ، بعضها من «صفات الذات» والبعض الآخر منها من «صفات الفعل» التي انطوت على إشارات للتوحيد والقدرة والرحمة والغضب ، ثمّ ذكرت «عزيز» و «عليم» وجعلتهما بمثابة القاعدة التي نزل الكتاب الإلهي (القرآن) على أساسهما.

أمّا صفات «غافر الذنب» و «قابل التوب» و «شديد العقاب» و «ذي الطول» فهي بمثابة المقدمات اللازمة لتربية النفوس وتطويعها لعبادة الواحدة الأحد.

ثانيا : ابتدأت الصفات الآنفة الذكر بصفة «غافر الذنب» أوّلا و «ذي الطول» أخيرا ، أي صاحب النعمة والفضل كصفة أخيرة. وفي موقع وسط جاءت صفة «شديد العقاب» وهكذا ذكرت الآية الغضب الإلهي بين رحمتين. ثمّ إنّنا نلاحظ أنّ

__________________

(١) «طول» على وزن «قول» بمعنى النعمة والفضل ، وبمعنى القدرة والقوة والمكنة وما يشبه ذلك. بعض المفسّرين يقول : إنّ «ذي الطول» هو الذي يبذل النعم الطويلة والجزيلة للآخرين ، ولذلك فإن معناها أخص من معنى «المنعم» كما يقول صاحب مجمع البيان.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607