الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 176228 / تحميل: 5909
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الحركات الرجعيّة

1

7

الجهميّة

قد عرفت أنّ المتّهمين بالقدرية كانوا دعاة الحرّية، لا نُفاة القضاء والقدر، بل كانوا قائلين بأنّه سبحانه تبارك وتعالى قدّر وقضى، ومع ذلك، لم يسلب الاختيار عن الإنسان، فخيّره بين الإيمان والكفر، بين الخير والشّر، فلو قدّر الخير فلعلم منه بأنّه يختار الخير عن اختيار، أو قدّر الشر فلعلم منه أنّ الفاعل يختار الشر كذلك، وهو نفس صميم الإسلام ولبّه، قال سبحانه: ( فَمَن شَاءَ فَلْيُوْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكُفُرْ ) (1) .

لكن ظهرت في القرن الثاني والثالث حركات رجعيّة استهدفت أركان الإسلام والعودة بالأُمّة إلى الأفكار الجاهلية الّتي سادت قبل الإسلام، من القول بالجبر والتجسيم، وإليك أبرز ممثّلي هذه الحركات الرجعية.

____________________

(1) الكهف: 29.

٨١

الجهميّة:

إنّ سمات الجهميّة، هي: القول بالجبر والتعطيل، أسّسها جهم بن صفوان السمرقندي (المتوفّى 128هـ).

قال الذهبي: جهم بن صفوان أبو محرز السمرقندي الضال المبتدع، رأس الجهميّة في زمان صغار التابعين، وما علِمْته روى شيئاً، لكنّه زرع شرّاً عظيماً.

وقال المقريزي: الجهميّة،أتباع جهم بن صفوان الترمذي، مولى راسب، وقُتل في آخر دولة بني أُميّة، وتتلخّص عقائده في الأُمور التالية:

1 - ينفي الصفات الإلهيّة كلّها، ويقول: لا يجوز أن يوصف الباري بصفة يوصف بها خَلْقه.

2 - إنّ الإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالقدرة ولا بالاستطاعة.

3 - إنّ الجنّة والنّار يفنيان، وتنقطع حركات أهلهما.

4 - إنّ من عرف الله ولم ينطق بالإيمان لم يكفر؛ لأنّ العلم لا يزول بالصمت، وهو مؤمن مع ذلك.

وقد كفّره المعتزلة في نفي الاستطاعة، وكفّره أهل السنّة بنفي الصفات وخلق القرآن ونفي الرؤية.

5 - وانفرد بجواز الخروج على السلطان الجائر.

6 - وزعم أنّ علم الله حادث لا بصفة يوصف بها غيره. (1)

____________________

(1). الخطط المقريزيّة: 3/349، ولاحظ: ص351.

٨٢

أقول: الظاهر أنّ قاعدة مذهبه أمران:

الأوّل: الجبر ونفي الاستطاعة، فجهم بن صفوان رأس الجبر وأساسه، ويُطْلق على أتباعه الجبريّة الخالصة، في مقابل غير الخالص منها.

الثاني: تعطيل ذاته سبحانه، عن التوصيف بصفات الجلال والجمال، ومن هنا نجمت المعطّلة.

وأمّا غير هذين الأمرين فمشكوك جداً.

التطورات الّتي مرّ بها مفهوم الجهمي:

لمّا كان نفي الصفات عن الله والقول بخلق القرآن ونفي الرؤية ممّا نسب إلى منهج الجهم، صار لفظ الجهمي رمزاً لكلِّ من قال بأحد هذه الأُمور، وإن كان غير قائل بالجبر ونفي القدر؛ ولأجل ذلك ربّما تطلق الجهميّة ويراد بها المعتزلة أو القدريّة، يقول أحد بن حنبل:

والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله ووقف، ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق، فهو أخبث من الأوّل، ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة، والقرآن كلام الله، فهو جهمي، ومن لم يكفّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم. (1)

____________________

(1) السنّة: 49.

٨٣

الحركات الرجعيّة

2

8

المجسّمة

إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد، والبرهان عن التفكير، ألحق أضراراً جسيمة بالمجتمع الإسلامي، حيث ظهرت فيه حركات هدّامة ترمي إلى تقويض الأُسس الدينية والأخلاقيّة.

ومن تلك الحركات المجسّمة؛ الّتي رفع لواءها مقاتل بن سليمان المجسم (1) (المتوفّى عام 150هـ)، ونشر أقاصيص الأحبار والرهبان في القرن الثالث، فهو وجهم بن صفوان، مع تشاطرهما في دفع الأُمّة الإسلامية إلى حافة الجاهلية،على طرفي نقيض في مسألة التنزيه والتشبيه.

____________________

(1) مقاتل بن سليمان بن بشر الأزدي بالولاء، البلخي، أبو الحسن، من المفسرين، أصله من بلخ، انتقل إلى البصرة ودخل بغداد وحدّث بها، وتوفّي بالبصرة، كان متروك الحديث، من كتبه (التفسير الكبير)، و(نوادر التفسير)، و(الرّد على القدريّة)، و(متشابه القرآن)، و(الناسخ والمنسوخ)، و(القراءات)، و(الوجوه والنظائر)، [الأعلام: 7/281].

٨٤

أمّا صفوان، فقد بالغ في التنزيه حتّى عطّل وصف ذاته بالصفات.

وأمّا مقاتل، فقد أفرط في التشبيه فصار مجسّماً، وقد نقل المفسرون آراء مقاتل في كتب التفاسير.

فليعرف القارئ مكانه في الوثاقة وتنزيه الربّ عن صفات الخلق.

قال ابن حبّان: كان يأخذ من اليهود والنصارى - في علم القرآن - الّذي يوافق كتبهم، وكان يشبّه الربّ بالمخلوقات، وكان يكذب في الحديث.

وقال أبو حنيفة: أفرط جهم في نفي التشبيه، حتّى قال إنّه تعالى ليس بشيء، وأفرط مقاتل في الإثبات حتى جعله مثل خلقه. (1)

____________________

(1) لاحظ: ميزان الاعتدال، 4/173. وراجع تاريخ بغداد، 13/166.

٨٥

الحركات الرجعية

3

9

الكرّاميّة

وهذه الفرقة منسوبة إلى محمد بن كرام السجستاني (المتوفّى عام 255هـ) شيخ الكرامية.

قال الذهبي: ساقط الحديث على بدعته، أكَثَر عن أحمد الجويباري، ومحمد بن تميم السعدي؛ وكانا كذّابين.

وقال ابن حبّان: خذل، حتّى التقط من المذاهب أردأها، ومن الأحاديث أوهاها... وجعل الإيمان قولاً بلا معرفة.

وقال ابن حزم: قال ابن كرام: الإيمان قول باللسان، وإن اعتقد الكفر بقلبه، فهو مؤمن. ومن بِدَع الكرّاميّة قولهم في المعبود تعالى إنّه جسم لا كالأجسام، وقد سقت أخبار ابن كرّام في تاريخي الكبير، وله أتباع ومؤيّدون، وقد سجن في نيسابور لأجل بدعته ثمانية أعوام، ثُمَّ أُخرج وسار

٨٦

إلى بيت المقدس، ومات بالشام سنة 255هـ. (1)

إنّ للكرّامية نظريات في موضوعات أُخر، ذكرها البغدادي، وقد بلغت جُرأتهم في باب النبوّة حتّى قال بعضهم: إنّ النبي أخطأ في تبليغ قوله[ تعالى]: ( وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرَى ) ، حتّى قال بعده: (تلك الغرانيق العلى، وان شفاعتها لترتجى). (2)

مع أنّ قصة الغرانيق أُقصوصة ابتدعها قوم من أهل الضلالة، وقد أوضحنا حالها في كتابنا (سيد المرسلين (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم».

ونكتفي بهذا النزر في بيان عقائدهم، وكلّها وليد إقصاء العقل والمنطق عن ساحة العقائد، والاكتفاء بالروايات مع ما فيها من أباطيل وترّهات وضعها الأعداء واختلقتها الأهواء، فهي من أسوأ الحركات الرجعيّة الظاهرة في أواسط القرن الثالث.

____________________

(1) ميزان الاعتدال: 4/21.

(2) الفرق بين الفِرق: 222.

٨٧

الحركات الرّجعيّة

4

10

الظاهرية

وهذا المذهب منسوب إلى داود بن علي الأصفهاني الظاهري (200 - 270هـ).

وقد أسّس مذهباً في الفروع، فالمصدر الأصلي في الفقه عنده هو النصوص، بلا رأي في حكم من أحكام الشرع، فهم يأخذون بالنصوص وحدها، فإذا لم يكن بالنص، أخذوا بالإباحة الأصليّة.

ما هو السبب لظهور هذا المذهب؟

إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد يستلزم طرده عن ساحة الفقه بوجه أولى، لأنّ أساسه هو التعبُّد بالنصوص، وعدم الإفتاء بشيء لا يوجد له أصل في الكتاب والسنّة، لكن الجمود على حرفيّة النصوص شيء، والتعبّد بالنصوص وعدم الإفتاء في مورد لا يوجد فيه أصل ودلالة في المصدرين الرئيسيّين شيء آخر،

٨٨

فالظاهرية على الأوّل، والفقهاء على الثاني، ولأجل إيضاح الحال نأتي بمثالين:

1 - إنّ الشكّل الأوّل من الأشكال الأربعة ضروري الإنتاج، من غير فرق بين الأُمور التكوينيّة أو الأحكام الشرعيّة؛ فكما أنّ الحكم بحدوث العالم نتيجة حتمية لقولنا: العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث، فهكذا الحكم بحرمة كلّ مسكر، نتيجة قطعيّة لقولنا: الفقاع مسكر، وكل مسكر حرام، فالفقاع حرام؛ لكنّ الظاهري يقبل المقدّمتين، ولكن لا يفتي بالنتيجة؛ بحجة أنّها غير مذكورة في النصوص.

2 - ما يسمّيه الفقهاء بلحن الخطاب، وإن كان شيئاً غير مذكور في نفس الخطاب، لكنّه من اللوازم البيّنة له، بحيث يتبادر إلى الذّهن من سماعه، فإذا خاطبنا سبحانه بقوله: ( فَلَا تَقُل لَهُمَا أُفٍ ) (1) ، يتوجّه الذهن إلى حرمة ضربهما وشتمهما بطريق أولى، ولكن الفقيه الظاهري يأبى عن الأخذ به بحجّة كونه غير منصوص.

قال سبحانه: ( قُل لِلّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنّتُ الْأَوّلِينَ ) (2) .

فالموضوع للحكم (مغفرة ما سلف عند الانتهاء)؛ وإن كان هو الكافر، لكن الذهن السليم يتبادر إلى فهم شيء آخر، لازم لهذا الحكم بالضرورة، وهو تعميم الحكم إلى المسلم أيضاً بوجه آكد، ولكنّ الظاهري يتركه؛ بحجة أنّه غير مذكور في النص.

____________________

(1) الإسراء: 23.

(2) الأنفال: 38.

٨٩

وهذا النوع من الجمود يجعل النصوص غير كافلة لاستخراج الفروع الكثيرة، وتصبح الشريعة ناقصة من حيث التشريع والتقنين، وغير صالحة لجميع الأجيال والعصور، وفاقدة للمرونة اللازمة الّتي عليها أساس خاتميّة نبوّة نبيّناً محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وكتابه وسنّته.

ثمَّ إنّ الاكتفاء بظاهر الشريعة؛ وأخذ الأحكام من ظواهر النصوص؛ له تفسيران: أحدهما صحيح جداً، والآخر باطل، فإن أُريد منه نفي الظنون؛ الّتي لم يدلّ على صحة الاحتجاج بها دليل، فهو نفس نص الكتاب العزيز، قال سبحانه: ( قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (1) ، فالشيعة الإماميّة، وبفضل النصوص الوافرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) المتّصلة اسنادها إلى الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، استطاعت أن تستخرج أحكام الحوادث والموضوعات الكثيرة منها، وامتنعت عن العمل بالقياس والاستحسان وغيرهما من الأدلّة الظنية؛ الّتي لم يقم الدليل القطعي على صحّة الاحتجاج بها، بل قام الدليل على حرمة العمل على بعضها، كالقياس، وقد ورد في نصوص أئمتهم (عليهم السلام): «إنّ السنّة إذا قيست مُحق الدين» (2) .

وإن أُريد بها لوازم الخطاب؛ أي ما يكون في نظر العقلاء، كالمذكور أخذاً بقولهم: (الكناية أبلغ من التصريح)، ويكون التفكيك بينهما أمراً غير صحيح، فليس ذلك عملاً بغير المنصوص. نعم ليس عملاً بالظاهر الحرفي، ولكنّه عمل بها بما يفهمه المخاطبون بها.

____________________

(1) يونس: 59.

(2) الوسائل: 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10.

٩٠

أُفول نجمه:

إنّ هذا المذهب لأجل حرفيته قد أفل نجمه بسرعة.

نعم قد تبعه فقيه آخر باسم ابن حزم (384 - 458هـ)، وأعاد هذا المذهب إلى الساحة، وألّف حوله كتباً ورسائل، وخدمه بالتآليف التالية:

1 - الإحكام في أُصول الأحكام: بيّن فيه أُصول المذهب الظاهري.

2 - النُّبَذ: وهو خلاصة ذلك الكتاب.

3 - المحلّى: وهو كتاب كبير نشر في عشرة أجزاء، جمع أحاديث الأحكام وفقه علماء الأمصار، طبع في بيروت بتحقيق أحمد محمد شاكر، وله آراء شاذة - كبطلان الاجتهاد في استخراج الأحكام الفقهية، وجواز مس المصحف للمجنب، وقاتل الإمام عليّ كان مجتهداً - ذكرناها في موسوعتنا. (1)

وقد ذكرنا هذا المذهب، مع أنّه فقهي؛ لأجل اشتراكه مع ما سبق في الرجعيّة، وإقصاء العقل عن ساحة الاجتهاد الفقهي.

____________________

(1) بحوث في الملل والنحل: 3/141 - 146.

٩١

11

المعتزلة

المعتزلة بين المدارس الكلاميّة المختلفة؛ مدرسة فكريّة عقليّة أعطت للعقل القسط الأوفر، ومن المؤسف أنّ هوى العصبية، بل يد الخيانة، لعبت بكثير من مخلّفاتهم الفكريّة، فأطاحت به فأضاعتها بالخرق والتمزيق، فلم يبق فيما بأيدينا من آثارهم إلاّ الشيء القليل، وأكثرها يرجع إلى كتب عبد الجبار المعتزلي (المتوفّى عام 415هـ)، ولأجل ذلك فقد اعتمد في تحرير هذا المذهب غير واحد من الباحثين على كتب خصومهم كالأشاعرة، ومن المعلوم أنّ الاعتماد على كتاب الخصم لا يُورث يقيناً.

وقد اهتمّ المستشرقون في العصور الأخيرة بدراسة مذهب الاعتزال، ولقد أُعجبوا بمنهج الاعتزال في حرّية الإنسان وأفعاله، وصار ذلك سبباً لرجوع المعتزلة إلى الساحة من قبل المفكّرين الإسلاميّين، ولذلك نُشرت في هذه الآونة الأخيرة كتباً حول المعتزلة.

ومؤسّس المذهب هو واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري، نقل الشهرستاني أنّه دخل شخص على الحسن البصري، فقال: يا إمام الدين!، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم تُخرج به

٩٢

عن الملّة، وهم وعيديّة الخوارج، وجماعة يُرجئون أصحاب الكبائر، ويقولون لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأُمّة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟

فتفكّر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب، قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً، ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثُمّ قام واعتزل إلى اسطوانة المسجد؛ يقرّر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنّا واصل، فسمّي هو وأصحابه: معتزلة. (1)

سائر ألقاب المعتزلة:

إنّ للمعتزلة ألقاباً أُخر:

1 - العدليّة: لقولهم بعدل الله سبحانه وحكمته.

2 - الموحّدة: لقولهم لا قديم مع الله، وينفون قدم القرآن.

3 - أهل الحق: لأنّهم يعتبرون أنفسهم أهل الحق.

4 - القدريّة: يُعبَّر عن المعتزلة في الكتب الكلاميّة بالقدريّة، والمعتزلة يطلقونها على خصومهم، وذلك لما رُوي عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «أنّ القدريّة مجوس هذه الأُمّة». فلو قلنا بأنّ القدريّة منسوبة إلى القدر؛ عِدْل القضاء، فتنطبق على

____________________

(1) الملل والنحل: 1/62.

٩٣

خُصَماء المعتزلة؛ القائلين بالقدر السالب للاختيار. ولو قلنا بأنّها منسوبة إلى القدرة؛ أي القائلين بتأثير قدرة الإنسان في فعله واختياره وتمكّنه في إيجاده، فتنطبق - على زعم الخُصَماء - على المعتزلة؛ لقولهم بتأثير قدرة الإنسان في فعله. وقد طال الكلام بين المتكلّمين في تفسير الحديث وذِكْر كلِّ طائفة وجهاً لانطباقه على خصمها. (1)

5 - الثنويّة: ولعلّ وجهه ما يتراءى من بعضهم من نسبة الخير إلى الله والشر إلى العبد.

6 - الوعيدية: لقولهم إنّ الله صادق في وعده، كما هو صادق في وعيده، وإنّه لا يغفر الذنوب إلاّ بعد التوبة، فلو مات بدونها يكون معذّباً قطعاً ويخلَّد في النار.

7 - المعطّلة: لتعطيل ذاته سبحانه عن الصفات الذاتية، ولكن هذا اللقب أُلصق بالجهميّة، وأمّا المعتزلة فلهم في الصفات مذهبان:

أ - القول بالنيابة، أي خلو الذات عن الصفات، ولكن تنوب الذّات مكان الصفات في الآثار المطلوبة منها، وقد اشتهر قولهم: (خُذ الغايات واترك المبادئ)، وهذا مخالف لكتاب الله والسنّة والعقل. فإنّ النقل يدلّ بوضوح على اتّصافه سبحانه بالصفات الكماليّة، وأمّا العقل، فحدِّث عنه ولا حرج؛ لأنّ الكمال يساوق الوجود، وكلّما كان الوجود أعلى وأشرف، تكون الكمالات فيه آكد.

____________________

(1) كشف المراد: 195، شرح المقاصد للتفتازاني: 2/143.

٩٤

ب - عينيّة الصفات مع الذّات واشتمالها على حقائقها، من دون أن يكون ذات وصفة، بل الذّات بلغت في الكمال إلى درجة صار نفس العلم قدرة.

8 - الجهميّة، وهذا اللّقب منحه أحمد بن حنبل لهم، فكل ما يقول: قالت الجهميّة، أو يصف القائل بأنّه جهميّ؛ يُريد به المعتزلة، لِمَا وجد من موافقتهم الجهميّة في بعض المسائل.

9 - المفنية.

10 - اللّفظيّة.

وهذان اللّقبان ذكرهما المقريزي وقال: إنّهم يوصفون بالمفنية، لما نسب إلى أبي الهذيل من فناء حركات أهل الجنة والنار؛ واللفظية لقولهم: ألفاظ القرآن مخلوقة. (1)

الأُصول الخمسة عند المعتزلة:

اشتهرت المعتزلة بأُصول خمسة، فمن دان بها فهو معتزلي، ومن نقص منها أو زاد عليها فليس منهم، وتلك الأُصول المرتبة حسب أهميتها عبارة عن: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فمن دان بها، ثُمَّ خالف بقية المعتزلة في تفاصيلها، لم يخرج بذلك عنهم.

وإليك تفصيل هذه الأُصول بنحو موجز:

____________________

(1) الخطط المقريزيّة: 4/169.

٩٥

إيعاز إلى الأُصول الخمسة

وقبل كلّ شيء نطرح هذه الأُصول على وجه الإجمال، حتّى يُعلم ماذا يريد منها المعتزلة، ثُمَّ نأخذ بشرحها واحداً بعد احد؛ فنقول:

1 - التوحيد: ويراد منه العلم بأنّ الله واحد، لا يشاركه غيره فيما يستحقُّ من الصفات نفياً وإثباتاً على الحدّ الّذي يستحقّه. والتوحيد عندهم رمز لتنزيهه سبحانه عن شوائب الإمكان ووهم المثليّة وغيرهما ممّا يجب تنزيه ساحته عنه، كالتجسيم والتشبيه وإمكان الرؤية وطروء الحوادث عليه. غير أنّ المهمّ في هذا الأصل؛ هو الوقوف على كيفيّة جريان صفاته عليه سبحانه، ونفي الرؤية، وغيرهما يقع في الدّرجة الثانية من الأهمية في هذا الأصل؛ لأنّ كثيراً منها لم يختلف المسلمون فيه، إلاّ القليل منهم.

2 - العدل: إذا قيل إنّه تعالى عادل، فالمراد أنّ أفعاله كلّها حسنة، وأنّه لا يفعل القبيح، وأنّه لا يَخِلّ بما هو واجب عليه. وعلى ضوء هذا: لا يكذب في خبره، ولا يجور في حكمه، ولا يعذِّب أطفال المشركين بذنوب آبائهم، ولا يُظهر المعجزة على أيدي الكذّابين، ولا يكلِّف العباد وما لا يطيقون، وما لا يعلمون، بل يُقْدِرهم على ما كلّفهم، ويعلِّمهم صفة ما كلّفهم، ويدلّهم على ذلك، ويبيّن لهم ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى‏ مَنْ حَيّ عَنْ بَيّنَةٍ ) (1) ، وأنّه إذا كلّف المكلّف وأتى بما كلّف على الوجه الّذي كُلِّف، فإنّه يثيبه لا محالة، وأنّه سبحانه إذا آلم وأسقم، فإنّما فعله لصلاحه ومنافعه، وإلاّ كان مخلاًّ بواجب...

3 - الوعد والوعيد: والمراد منه أنّ الله وعد المطيعين بالثواب، وتوعّد

____________________

(1) الأنفال: 42.

٩٦

العصاة بالعقاب، وأنّه يفعل ما وعد به وتوعّد عليه لا محالة. ولا يجوز الخُلف، لأنّه يستلزم الكذب. فإذا أخبر عن الفعل، ثُمَّ تركه، يكون كذباً. ولو أخبر عن العزم، فبما أنّه محال عليه، كان معناه الإخبار عن نفس الفعل، فيكون الخُلف كذباً. وعلى ضوء هذا الأصل، حكموا بتخليد مرتكب الكبائر في النار؛ إذا مات بلا توبة.

4 - المنزلة بين المنزلتين: وتلقّب بمسألة الأسماء والأحكام؛ وهي أنّ صاحب الكبيرة ليس بكافر كما عليه الخوارج، ولا منافق كما عليه الحسن البصري، ولا مؤمن كما عليه بعضهم، بل فاسق لا يحكم عليه بالكفر ولا بالإيمان.

5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: والمعروف: كلّ فعل عرف فاعله حسنه أو دلّ عليه، والمنكر: كلّ فعل عرف فاعله قبحه أو دلّ عليه. ولا خلاف بين المسلمين في وجوبهما؛ إنّما الخلاف في أنّه هل يُعلم عقلاً أو لا يُعلم إلاّ سمعاً؟، ذهب أبو عليّ (المتوفّى 303هـ) إلى أنّه يُعلم عقلاً وسمعاً، وأبو هاشم (المتوفّى 321هـ) إلى أنّه يُعلم سمعاً، ولوجوبه شروط تُذكر في محلّها، ومنها أن لا يؤدّي إلى مضرّة في ماله أو نفسه، إلاّ أن يكون في تحمّله لتلك المذلّة إعزاز للدّين.

قال القاضي: وعلى هذا يحمل ما كان من الحسين بن عليّ (عليهما السّلام)؛ لِمَا كان في صبره على ما صبر، إعزاز لدين الله عزّ وجلّ، ولهذا نباهي به سائر الأُمم، فنقول: لم يبق من ولْد الرّسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلاّ سبط واحد، فلم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتّى قتل دون ذلك. (1)

____________________

(1) الأُصول الخمسة: 142، نقلاً عن، بحوث في الملل والنحل: 3/254 - 255.

٩٧

سبب الاقتصار على هذه الأُصول الخمسة:

هناك سؤال يطرح نفسه، وهو:

لماذا اقتصروا على هذه الأُصول، مع أنّ أمر النبوّة والمعاد أولى بأن يُعدَّ من الأُصول؟

وقد ذكروا في وجه ذلك أُموراً لا يُعتمد عليها، والحق أن يقال: إنّ الأُصول الخمسة الّتي يتبنّاها المعتزلة، مؤلّفة من أُمور تعدُّ من أُصول الدين كالتوحيد والعدل على وجه، ومن أُصول كلاميّة أنتجوها من البحث والنقاش، وأقحموها في الأُصول لغاية ردِّ الفرق المخالفة؛ الّتي لا توافقهم في هذه المسائل الكلامية.

وعند ذلك يستنتج القارئ أنّ ما اتّخذته المعتزلة من الأُصول، وجعلته في صدر آرائها، ليست إلاّ آراء كلاميّة لهذه الفرقة، تظاهروا بها للردّ على المجبّرة والمشبّهة والمرجئة والإماميّة وغيرهم من الفرق، على نحو لو لا تلكم الفِرَق لما سمعت من هذه الأُصول ذكراً.

أئمة المعتزلة:

المراد بأئمتهم؛ مشايخهم الكبار؛ الّذين نضج المذهب بأفكارهم وآرائهم، ووصل إلى القمة في الكمال.

نعم، في مقابل أئمة المذهب، أعلامهم الّذين كان لهم دور في تبيين هذا المنهج من دون أن يتركوا أثراً يستحق الذكر في الأُصول الخمسة، وها نحن نذكر من الطائفيتن نماذج:

٩٨

1. واصل بن عطاء (80 - 131هـ):

أبو حذيفة واصل بن عطاء، مؤسّس الاعتزال، المعروف بالغزّال، يقول ابن خلّكان: كان واصل أحد الأعاجيب، وذلك أنّه كان ألثغ، قبيح اللثغة في الرّاء، فكان يُخلِّص كلامه من الرّاء ولا يُفطن لذلك، لاقتداره على الكلام وسهولة ألفاظه، ففي ذلك يقول أبو الطروق؛ يمدحه بإطالة الخطب واجتنابه الراء على كثرة تردّدها في الكلام، حتّى كأنّها ليست فيه.

عـليم بـإبدال الحروف وقامع

لـكلّ خطيب يغلب الحقَّ باطلُه

وقال الآخر:

ويـجعل البرّ قمحاً في تصرّفه

وخالف الرّاء حتّى احتال للشعر

ولـم يطق مطراً والقول يعجله

فـعاذ بالغيث اشفاقاً من المطر

من آرائه ومصنّفاته:

إنّ واصل هو أوّل من أظهر المنزلة بين المنزلتين؛ لأنّ الناس كانوا في أسماء أهل الكبائر من أهل الصلاة على أقوال: كانت الخوارج تسمّيهم بالكفر والشرك، والمرجئة تسمّيهم بالإيمان، وكان الحسن وأصحابه يسمّونهم بالنفاق.

مؤلّفاته:

ذكر ابن النديم في (الفهرست)، وتبعه ابن خلّكان: إنّ لواصل التصانيف التالية:

٩٩

1 - كتاب أصناف المرجئة.

2 - كتاب التوبة.

3 - كتاب المنزلة المنزلتين.

4 - كتاب خطبه الّتي أخرج منها الرّاء.

5 - كتاب معاني القرآن.

6 - كتاب الخُطب في التوحيد والعدل.

ومن المحتمل أنّه قام بجمع خطب الإمام عليّ (عليه السّلام) في التوحيد والعدل فأفرده تأليفاً.

7 - كتاب ما جرى بينه وبين عمرو بن عبيد.

8 - كتاب السبيل إلى معرفة الحق.

9 - كتاب في الدعوة.

10 - كتاب طبقات أهل العلم والجهل. (1)

2. عمرو بن عبيد (80 - 143هـ):

وهو الإمام الثاني للمعتزلة بعد واصل بن عطاء، وكان من أعضاء حلقة الحسن البصري، مثل واصل، لكن التحق به بعد مناظرة جرت بينهما في مرتكب الكبيرة.

روى ابن المرتضى، عن الجاحظ، أنّه قال: صلَّى عمرو أربعين عاماً صلاة

____________________

(1) فهرست ابن النديم: 203، الفن الأوّل من المقالة الخامسة.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

الغضب الإلهي جاء وسط حديث الآية عن ثلاث صفات من صفات الرحمة الإلهية ، وفي كلّ ذلك دليل على المعنى المكنون في «يا من سبقت رحمته غضبه».

ثالثا : لا يقتصر المعنى في جملة( إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) على عودة الجميع ورجوعهم كافة إليه تعالى في يوم القيامة ، وإنّما تشير أيضا إلى الانتهاء المطلق لكل الأمور في هذا العالم والعالم الآخر إليه تعالى ، وانتهاء سلسلة الوجود إلى قدرته وإرادته.

رابعا : جاء تعبير( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) في ختام الصفات ، وهو حكاية عن مقام التوحيد والعبودية الذي لا يليق بغير الله تعالى ، حيث تنتهي أمام عبوديته كل العبوديات الأخرى. وهكذا يكون تعبير «لا إله إلّا هو» بمثابة النتيجة النهائية الأخيرة للبيان القرآني في هذا المورد.

ولذلك نقرأ في حديث عن ابن عباس أنّه تعالى :( غافِرِ الذَّنْبِ ) للشخص الذي يقول : لا إله إلّا الله وهو تعالى :( قابِلِ التَّوْبِ ) للذي يقرّ بالعبودية ويقول : لا إله إلّا الله. وهو( شَدِيدِ الْعِقابِ ) للذي لا يقرّ ولا يقول : لا إله إلا الله. وهو( ذِي الطَّوْلِ ) وغني عن الشخص الذي لا يقول : لا إله إلا الله.

من كلّ ذلك يتّضح أن محور الصفات المذكورة هو التوحيد ، الذي يدور مدار الإعتقاد الصحيح والعمل الصالح.

خامسا : من وسائل الغفران في القرآن :

ثمّة في كتاب الله أمور كثيرة تكون أسبابا وعناوين للمغفرة ومحو الذنوب والسيئات ، وفيما يلي تشير إلى بعض هذه العناوين :

١ ـ التوبة : إذ في آية (٨) من سورة التحريم قوله تعالى :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) .

٢ ـ الإيمان والعمل الصالح : حيث نقرأ في سورة (محمّد ـ آية ٢) قوله تعالى :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) .

١٨١

٣ ـ التقوى : ونرى مصداقها في قوله تعالى :( إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) (١) .

٤ ـ الهجرة والجهاد والشهادة : ومصداقها قوله تعالى في الآية (١٩٥) من سورة «آل عمران» :( فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) .

٥ ـ صدقة السر : وذلك قوله تعالى :( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ ) (٢) .

٦ ـ الإقراض : كما في قوله تعالى :( إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) (٣) .

٧ ـ اجتناب كبائر الذنوب : حيث يقول تعالى في(٤) :( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) .

وهكذا يتبيّن لنا أن أبواب المغفرة الإلهية مفتوحة من كلّ مكان ، وأنّ عباد الله بوسعهم طرق هذه الأبواب والولوج إلى المغفرة الإلهية. وقد رأينا في الآيات الآنفة الذكر سبعة من هذه الأبواب التي تضمن الخلاص لمن يلج أي واحد منها ، أو كلّها جميعا.

* * *

__________________

(١) الأنفال ، آية ٢٩.

(٢) البقرة ، آية ٢٧١.

(٣) التغابن ، الآية ١٧.

(٤) النساء ، آية ٣١.

١٨٢

الآيات

( ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦) )

التّفسير

الأمر الإلهي الحاسم :

بعد أن تعرضت الآيات السابقة إلى نزول القرآن ، وإلى بعض الصفات الإلهية التي تستهدف بعث الخوف والرجاء ، ورد كلام في الآيات التي بين أيدينا عن قوم امتازوا بالمجادلة والمنازعة حيال آيات الله الآية الكريمة توضح مصير هذه المجموعة ضمن تعبير قصير وقاطع ، فتقول :( ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ) .

صحيح أنّ هذه المجموعة قد تملك العدة والعدد ، إلّا أنّ ذلك لن يدوم إلّا لفترة ، فلا تغتر وتنخدع إذا لتحركهم في البلاد وتنقلهم في المدن المختلفة ،

١٨٣

واستعراضهم لقوّتهم :( فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ) .

إنّها أيّام تنقضي بين الكرّ والفرّ ، ثمّ تنتهي هذه الضجة لتزول معها هذه المجموعة وتمحى تماما ، كما تزول الفقاعات من على سطح الماء ، أو كما يتلاشى الرماد عند هبوب العواصف!

«يجادل» مشتقّة من «جدل» وهي في الأصل تعني لف الحبل وإحكامه ، ثمّ عمّ استخدامها في الأبنية والحديد وما شابه ، ولهذا فإنّ كلمة (مجادلة) تطلق على عمل الأشخاص المتقابلين ويريد كلّ شخص أن يلقي حجته ويثبت كلامه ويغلب خصمه.

ولكن ينبغي الانتباه إلى أنّ كلمة (المجادلة) لا تعتبر مذمومة دائما في اللغة العربية ، بل تعتبر إيجابية ومطلوبة إذا كانت المجادلة في طريق الحق وتستند على المنطق ، وتهدف إلى تبيين الحقائق وإرشاد الأشخاص الجهلة أمّا إذا كانت على أسس واهية من التعصب والجهل والغرور ، وتستهدف خداع هذا وذاك ، فتكون عند ذلك مذمومة.

القرآن الكريم استخدم كلمة (المجادلة) في كلا مورديها ، إذ نقرأ في الآية (١٢٥) من سورة النحل قوله تعالى :( وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) .

إلّا أنّه في موارد اخرى ـ كما في الآية أعلاه وفيما بعدها ـ وردت (المجادلة) لغرض الذم ، وهناك بحث حول الجدال والمجادلة سنتعرض له فيما بعد إن شاء الله.

«تقلب» مشتقّة من «قلب» وتعني التغيير ، و «تقلّب» هنا بمعنى التصرّف في المناطق والبلاد ، المختلفة للسيطرة والتسلّط عليها ، وتعني الذهاب والإياب فيها أيضا.

إنّ هدف الآية تحذير للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين به ـ في بداية البعثة ـ من الذين كانوا من الطبقة المستضعفة المحرومة ، بأن لا يركنوا إلى الإمكانات المالية

١٨٤

أو القوّة السياسية والاجتماعية للكفار ، ويعتبرونها دليلا على حقانيتهم أو سببا لقوّتهم الحقيقية ، إذ هناك الكثير منهم في تأريخ هذه الدنيا ، وقد انكشف ضعفهم وسقطت عنهم سرابيل القوّة المزعومة ليبيّن عجزهم حيال العقاب الإلهي ، ليسقطوا كما تسقط الأوراق الخريفية الذابلة في العواصف الهوجاء.

إنّنا في عالم اليوم نشاهد الكفار والمستكبرين والظالمين وهم يقومون بشتى المحاولات ، من زيارات ومؤتمرات وأحلاف وتكتّلات ومناورات عسكرية ، وتوقيع لاتفاقات سياسية وعسكرية ، واعتماد لوسائل القمع والإرهاب إزاء المستضعفين والمحرومين في العالم ، ولكي يسلكوا من خلال ذلك طريقا إلى تحقيق أهدافهم المشؤومة. لذلك ينبغي للمؤمنين أن يكونوا يقظين وحذرين حتى لا يروحوا ضحية هذه الأساليب القديمة وحتى لا يسكتهم الرعب والخوف فيفتنون بهذا الوضع.

لذلك توضح الآية التي بعدها عاقبة بعض الأمم السابقة التي ضلّت الطريق وانكفأت عن جادة الحق والصواب ، فتقول في عبارات قاطعة واضحة تحكي عاقبة قوم نوح وحالهم ومن تلاهم من أقوام وجماعات :( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ ) .

المقصود من «الأحزاب» هم قوم عاد وثمود وحزب الفراعنة وقوم لوط ، وأمثال هؤلاء ممّن أشارات إليهم الآيتان (١٢ ـ ١٣) من سورة «ص» في قوله تعالى :( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ ) .

هؤلاء هم «الأحزاب» الذين تآزروا ووقفوا ضدّ دعوات الأنبياء الإلهيين ، لتعارض مصالحهم مع روح هذه الدعوات ومضامينها الربانية.

إنّهم لم يقتنعوا بمجرّد الوقوف ضدّ الدعوات النبوية الكريمة ، بل خططت كلّ أمّة منهم لأن تمسك بنبيّها فتسجنه وتؤذيه ، بل وحتى تقتله :( وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ

١٨٥

بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ) .

ثم لم يكتفوا بهذا القدر أيضا ، بل لجأوا إلى الكلام الباطل لأجل القضاء على الحق ومحوه ، وأصروا على إضلال الناس وصدّهم عن شريعة الله :( وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ ) (١) .

إلّا أنّ هذا الوضع لم يستمر طويلا ، ولم يبق لهم الخيرا دوما ، إذ حينما حان الوقت المناسب جاء الوعد الإلهي :( فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ ) .

لكم ـ أيّها الناس ـ أن تشاهدوا خرائب مدنهم حين سفركم وأثناء تجوالكم انظروا عاقبتهم المشؤومة المظلمة مدونة على صفحات التأريخ وفي صدور أهل العلم ، فانظروا واعتبروا!

ليس هناك أفضل من هذا المصير الذي ينتظر أشقياء مكّة من الكفار والمشركين الظالمين ، إلّا أن يثوبوا إلى أنفسهم ويعيدوا تقييم أعمالهم.

إذا ، الآية أعلاه تلخص برنامج «الأحزاب» الطاغية ومخططهم في ثلاثة أقسام هي : (التكذيب والإنكار) ثمّ (التآمر للقضاء على رجال الحق) وأخيرا (الدعاية المستمرة لإضلال عامّة الناس).

أمّا مشركو العرب على عهد البعثة النّبوية فقد قاموا بتكرار هذه الأقسام الثلاثة حيال رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحيال رسالته ، لذلك فليس ثمّة من عجب أن يهددهم القرآن الكريم بما حلّ بأسلافهم وبمن سبقهم من الأحزاب نفس العاقبة ونفس الجزاء!

الآية الأخيرة ـ في المقطع الذي بين أيدينا ـ تشير إلى الجزاء الأخروي الذي ينتظر هؤلاء ، بالإضافة إلى قسطهم من العقاب الدنيوي( كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ ) .

إنّ المعنى الظاهري للآية واسع ، يشمل جميع الكفار والمعاندين من جميع

__________________

(١) «ليدحضوا» مصدرها ثلاثي (إدحاض) وتعني الإزالة والإبطال.

١٨٦

الأقوام ، والآية بهذا المعنى لا تختص بكفار مكّة ، كما يتصور بعض المفسّرين.

إنّ حتمية العقاب الإلهي لهؤلاء القوم يعود إلى ذنوبهم المستمرة ، والأعمال التي يقومون بها بملء إرادتهم خلافا لرسالة الله ولكن العجيب أنّ بعض المفسّرين ـ كالفخر الرازي ـ يتصور أنّ هذه الآية هي من أدلة عقيدة الجبر والمصير الجبري الإلزامي للأقوام المختلفة ، ودليل سلب الإرادة عنهم ، في حين أنّنا لو دققنا في نفس الآية مع ترك التعصّب المذهبي جانبا ، فسيتوضح لنا أنّ هذا المصير الإلهي الذي ينتظرهم هو بسبب سلوكهم لطريق الانحراف المظلم ، وبسبب إصرارهم على السير ، بهذا الطريق بأرجلهم وبكامل حريتهم وملء إرادتهم.

* * *

بحثان

أوّلا : استعراض الكفار لقواهم الظاهرية

يواجهنا في الآيات القرآنية وفي أماكن متعدّدة مؤدّى يفيد أنّ المؤمنين المحرومين ينبغي لهم أن لا يتصوروا أنّ الإمكانات الكبيرة والقوى الظاهرة الواقعة في حوزة الظالمين والكفار ، هي دليل على سعادتهم ، أو شرط لانتصارهم في نهاية المطاف.

ـ ومن أجل القضاء على هذا التصور المنحرف الخاطئ الذي يلازم في العادة الضعفاء ذوي الأفكار المحدودة والأفق الإيماني الضيق ، ومن الذين يرون في إمكانات الخصم دليلا معنويا على حقانيته ، فالقرآن يعالج هذه الظاهرة من خلال تفحص واستعراض تأريخ الأقوام السابقة ، ويشير في استعراضه لهم إلى نماذج واضحة ومعروفة منهم كالفراعنة في مصر ، والنماردة في بابل ، وأقوام نوح وعاد وثمود في العراق والحجاز والشام ، حتى لا يشعر المؤمنون المستضعفون بالضعف والهوان ، ولكي ييأسوا من جدوى المواجهة في حرب هي سجال بين

١٨٧

الطرفين ، لكنّها بالوعد الإلهي الحتمي لا بدّ أن تنتهي لصالح أهل الحق.

إنّ القانون الإلهي لا يقضي دائما بتعجيل العقوبة الآنية لكل من يرتكب عملا منافيا ، أو لمن يخرج عن جادة الصواب ويحيد عن سبيل الرشد ، وإنّما الأمر كما تقول الآية (٥٩) من سورة الكهف ،( وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً ) .

وفي مكان آخر من الكتاب الإلهي العظيم نقرأ قوله تعالى :( فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ) (١) .

وفي الآية (١٧٨) من «آل عمران» نلتقي في هذا المورد مع قوله تعالى :( إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً ) .

نستطيع أن ننهي القول في أنّ الهدف من هذا «الإمهال» هو إما لإتمام الحجة على الكافرين ، أو لاختبار المؤمنين ، أو قد يكون زيادة في ذنوب الذين قطعوا جميع طرق العودة على أنفسهم.

وفي عالمنا اليوم تشبه هذه الحالة الشعور بالدونية والحقارة الذي تعيشه بعض الشعوب المسلمة المختلفة ماديا إزاء الدول الكبرى والمتقدمة ، ولكن ينبغي مكافحة هذا الشعور بشدة بأسلوب المنطق القرآني أعلاه.

علاوة على هذا يجب على هؤلاء أن يدركوا أنّ أشكال التخلف والحرمان المادي إنّما تعود بدرجة كبيرة إلى ظلم الظالمين ، فإذا ما تحطّمت سلاسل الظلم والعبودية أمكن تجاوز التخلف بالمثابرة والكدح.

ثانيا : المجادلة في القرآن الكريم

لقد وردت كلمة «المجادلة» خمس مرات في هذه السورة المباركة ، وهي جميعا تختص بالمجادلة السلبية الباطلة ، والآيات التي اشتملت على ذكر المجادلة هي (٤ ، ٥ ، ٣٥ ، ٥٦ ، ٦٩) وبهذه المناسبة لا بأس بالتعرّض إلى بحث عن

__________________

(١) الطارق ، الآية ١٧.

١٨٨

الجدال من وجهة النظر القرآنية.

«الجدال» و «المراء» موضوعان وردا كثيرا في الآيات القرآنية ، وفي الأحاديث والرّوايات الإسلامية أيضا. وكتوطئة للبحث ينبغي أولا أن نميّز أقسام الجدال (الجدال الإيجابي والجدال السلبي) وما هو المقصود من كلّ واحد منها ، وعلائم كلّ واحد منها ، وأخيرا أضرار «الجدال السلبي» وكذلك عوامل الغلبة في «الجدال الإيجابي».

وفي هذا الصدد أمامنا النقاط والعناوين الآتية :

أ ـ مفهوم «جدال» و «مراء»

«الجدال» و «المراء» و «الخصام» ثلاث مفردات متقاربة من حيث المعنى ، وفي نفس الوقت يوجد ثمّة اختلاف بينها(١) .

«الجدال» يعني في الأصل اللغوي لف الحبل ، ثمّ أخذ يطلق بعد ذلك على لفّ الطرف المقابل والنقاش الذي يتضمّن الغلبة.

«مراء» على وزن «حجاب» وتعني الكلام في شيء ما فيه مرية أو شك.

أمّا «الخصومة» والمخاصمة فتعني في الأصل إمساك شخصين كلّ منهما للآخر من جانبه ، ثمّ أطلقت بعد ذلك على التشاجر اللفظي والأخذ والرد في الكلام.

وكما يقول العلامة المجلسي في (بحار الأنوار) فإنّ الجدال والمراء أكثر ما يستخدمان في القضايا العلمية ، في حين تستخدم المخاصمة في الأمور والمعاملات الدنيوية.

ويحدّد بعضهم الاختلاف بنى الجدال والمراء في أنّ هدف المراء هو إظهار الفضل والكمال ، في حين أنّ الجدال يستهدف تعجيز وتحقير الطرف المقابل.

__________________

(١) الألفاظ الثلاثة مصدرها في باب المفاعلة.

١٨٩

وقالوا أيضا في الفرق بينهما : إن الجدال في القضايا العلمية ، والمراء أعم من ذلك.

وقالوا أخيرا : إنّ المراء ذو طابع دفاعي في قبال هجوم الخصم ، بينما الجدال أعم من الدفاع والهجوم.

ب : الجدال السلبي والإيجابي

يظهر من الآيات القرآنية أنّ للفظ الجدال معاني واسعة ، ويشمل كلّ أنواع الحديث والكلام الحاصل بين الطرفين ، سواء كان إيجابيا أم سلبيا ، ففي الآية (١٢٥) من سورة «النحل» نقرأ أمر الخالق تبارك وتعالى لرسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله تعالى :( وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) .

وفي الآية (٧٤) من سورة «هود» نقرأ عن إبراهيمعليه‌السلام :( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ ) والآية تشير إلى النوع الإيجابي من المجادلة.

ولكن أغلب الإشارات القرآنية حول المجادلة تشير إلى النوع السلبي منها ، كما نرى ذلك واضحا في سورة «المؤمن» التي نحن بصددها ، حيث أشارت إلى «المجادلة» بمعناها السلبي خمس مرّات.

وفي كلّ الأحوال يتبيّن أنّ البحث والكلام والاستدلال والمناقشة لأقوال الآخرين ، إذا كان لإحقاق الحقّ وإبانة الطريق وإرشاد لجاهل ، فهو عمل مطلوب يستحق التقدير ، وقد يندرج أحيانا في الواجبات.

فالقرآن لم يعارض أبدا البحث والنقاش الاستدلالي والموضوعي الذي يستهدف إظهار الحق ، بل حث ذلك في العديد من الآيات القرآنية.

وفي مواقف معينة طالب القرآن المعارضين بالإتيان بالدليل والبرهان فقال :

١٩٠

( هاتُوا بُرْهانَكُمْ ) (١) .

وفي المواقف التي كانت تتطلب إظهار البرهان والدليل ، ذكر القرآن أدلة مختلفة ، كما نقرأ ذلك في آخر سورة «يس» حين جاء ذلك الرجل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يمسك بيده عظما فقال له سائلا :( مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) (٢) فذكر القرآن عددا من الأدلة على لسان الرّسول الأكرم في المعاد وقدرة الخالق على إحياء الموتى.

وفي القرآن نماذج اخرى واضحة على الجدال الإيجابي ، كما في الآية (٢٥٨) من سورة البقرة ، التي تعكس كلام إبراهيمعليه‌السلام وأدلته القاطعة أمام نمرود.

والآيات (٤٧ ـ ٥٤) من سورة «طه» تعكس تحاجج موسى وفرعون.

وكذلك نجد القرآن مليء بالأدلة المختلفة التي أقامها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقابل عبدة الأصنام والمشركين وأصحاب الذرائع.

ومن جهة اخرى يذكر القرآن الكريم نماذج اخرى من مجادلات أهل الباطل لإثبات دعاواهم الباطلة من خلال استخدام السفسطات الكلامية والحجج الواهية لابطال الحق وغواية عوام الناس.

إنّ السخرية والاستهزاء والتهديد والافتراء والإنكار الذي لا يقوم على دليل ، هي مجموعة من الأساليب التي يعتمدها الظالمون الضالّون إزاء الأنبياء ودعواتهم الكريمة ، أمّا الاستدلال الممزوج بالعاطفة والحبّ والرأفة بالناس فهو أسلوب الأنبياء ، رسل السماء إلى الأرض.

في الرّوايات الإسلامية والتأريخ الإسلامي آثار كثيرة وغنية عن مناظرات الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام مع المعارضين ، وإذا ما توفر جهد معين

__________________

(١) البقرة ، الآية ١١١.

(٢) سورة يس ، الآية ٧٨.

١٩١

على جمعها وتصنيفها فإنّها ستشكّل كتابا كبيرا وضخما للغاية. (وقد قام العلّامة الشيخ الطبرسي بجمع بعضها في كتابه «الإحتجاج»).

وبالطبع لم ينحصر مقام المجادلة بالتي هي أحسن ومناظرة الخصوم على المعصومين ، بل إن الأئمّةعليهم‌السلام كانوا يحثون من يجدون فيه القدرة الكافية والمنطق القوي المتين للقيام بهذه الوظيفة ، والّا فقد تضعف جبهة الحق ويقوى عود خصومها ، ويجدون في أنفسهم الجرأة في مواجهة الحق والتمادي في عنادهم.

وفي هذا الاتجاه نقرأ في حديث ، أنّ أحد أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام يلقّب بـ «الطيار» ويدعى (حمزة بن محمّد) جاء إلى الإمام الصادقعليه‌السلام وقال له : «بلغني أنك كرهت مناظرة الناس» فأجابه الإمامعليه‌السلام بقوله : «أما مثلك فلا يكره ، من إذا طار يحسن أن يقع ، وإن وقع يحسن أن يطير ، فمن كان هذا لا نكرهه»(١) .

كلام جميع يشير بوضوح كاف إلى القوة والمتانة في قدرة الاستدلال والمناظرة وخصم الطرف المقابل لمن يريد خوض المناظرة مع الخصوم ، كي يكون بمقدوره استخلاص النتائج وإنهاء البحث ، فلا بدّ من حضور اشخاص مستعدين ولهم تسلط كاف على البحوث الاستدلالية ، حتى لا يحسب ضعف منطقهم بأنّه من ضعف دينهم ومذهبهم.

ج : الآثار السيئة للجدال السلبي

صحيح أنّ البحث والنقاش هو مفتاح لحل المشاكل ، إلّا أنّ هذا الأمر يصح في حال رغبة الطرفين في نشدان الحق والبحث عن الطريق الصحيح ، أو على الأقل يكون أحد الطرفين متمسكا بالحق ومستهدفا السبيل إليه فيما يخوض من

__________________

(١) رجال «الكشي ، صفحة ٢٩٨.

١٩٢

نقاش ومناظرة.

أمّا أن يكون النقاش والجدل بين الطرفين بهدف التفاخر واستعراض القوة ، وفرض الرأي على الطرف الثّاني عن طريق إثارة الضجة ، فإنّ عاقبة هذا الأمر لا تكون سوى الابتعاد عن الحق وعشعشة الظلمة في القلوب وتجذّر العداء والحقد لا غير.

ولهذا السبب نهت الروايات والأحاديث الإسلامية عن المراء والجدال الباطل ، وفي هذه المرويات إشارات كبيرة المعنى إلى الآثار السيئة لهذا النوع من الجدال.

ففي حديث عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب نقرأ قولهعليه‌السلام : «من ضنّ بعرضه فليدع المراء»(١) . لأنّ في هذا النوع من النقاش سوف ينحدر بالكلام تدريجيا ليصل إلى مناحى الاستهانة وعدم الاحترام وتبادل الكلام المبتذل القبيح ، وترامي الاتهامات الباطلة.

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين أيضا نقرأ وصيتهعليه‌السلام إذ يقول :

«إيّاكم والمراء والخصومة فإنّهما يمرضان القلوب على الإخوان ، وينبت عليهما النفاق»(٢) .

إنّ مثل هذا النوع من الجدال والذي يكون عادة فاقدا للالتزام بالأصول الصحيحة للبحث والاستدلال ، سيقوي روح اللجاجة والتعصّب والعناد لدى الأشخاص ، بحيث يستخدم كلّ طرف ـ بهدف التغلب على خصمه والإنتصار لنفسه ـ كلّ الأساليب حتى تلك التي تنطوي على الكذب والتهمة ، ومثل هذا العمل لا يمكن أن تكون عاقبته إلّا السوء والحقد وتنمية جذور النفاق في الصدور.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم ٣٦٢.

(٢) أصول الكافي ، المجلد الثّاني ، باب المراء والخصومة ، الحديث الأول.

١٩٣

إنّ واحدة من المفاسد الكبيرة الأخرى للجدال السلبي المنهيّ عنه ، هو تمسك الطرفين بانحرافاتهم وأخطائهم وإصرارهم على اشتباهاتهم ، في موقف عنيد بعيد عن الحق والصواب ، ذلك لأنّ كلّ طرف يحاول ما استطاع التمسّك بأي دليل والتشبّث بالباطل لفرض رأيه وإثبات كلامه ، وهو في ذلك مستعد لإنّ يتجاهل الكلام الحق الذي يصدر من خصمه ، أو أنّه ينظر إليه بعدم الرضا والقبول. وهذا بحدّ ذاته يزيد من الانحراف والاشتباه والخطأ.

د : أسلوب المجادلة بالتي هي أحسن :

لا يستهدف «الجدال الإيجابي» تحقير الطرف الآخر أو الإنتصار عليه ، بل يهدف النفوذ إلى عمق أفكاره وروحه ، لهذا فإنّ أسلوب المجادلة بالتي هي أحسن يختلف كليا عن الجدال السلبي أو الباطل.

ولكي يؤثر الطرف المجادل معنويان على الطرف الآخر ، عليه الاستفادة من الأساليب الآتية التي أشار إليها القرآن الكريم بشكل جميل :

١ ـ ينبغي عدم الإصرار على الطرف المقابل بقبول الكلام على أنّه هو الحق ، بل على المجادل إذا استطاع أن يجعل الطرف المقابل يعتقد بأنّه هو الذي توصّل إلى هذه النتيجة ، وهذا الأسلوب سيكون أكثر تأثيرا. بعبارة اخرى : من المفيد للطرف المقابل أن يعتقد بأنّ النتيجة أو الفكرة نابعة من أعماقه وهي جزاء من روحه ، كي يتمسك بها أكثر ويذعن لها بشكل كامل.

وقد يكون هذا الأمر هو سر ذكر القرآن للحقائق المهمّة كالتوحيد ونفي الشرك وغير ذلك على شكل استفهام ، أو أنّه بعد أن ينتهي من استعراض وذكر

١٩٤

أدلة التوحيد يقول :( أَإِلهٌ مَعَ اللهِ ) (١) .

٢ ـ يجب الامتناع عن كلّ من ما يثير صفة العناد واللجاجة لدى الطرف الآخر ، إذ يقول القرآن الكريم :( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) (٢) . كي لا يصر هؤلاء على عنادهم ويهينوا الخالق جلّ وعلا بتافه كلامهم.

٣ ـ يجب مراعاة منتهى الإيضاح في النقاش مع أي شخص أو أي مجموعة ، كي يشعر الطرف المقابل بأنّ المتحدّث إليه يبغي حقّا توضيح الحقائق لا غير ، فعند ما يتحدث القرآن عن مساوئ الخمر والقمار ، فهو لا يتجاهل المنافع الثانوية المادية والاقتصادية التي يمكن أن يحصل عليها البعض منهما ، فيقول :( قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) .

إنّ هذا الطراز من الحديث يحمل آثارا إيجابية كبيرة على المستمع.

٤ ـ يجب عدم الرّد بالمثل حيال المساوئ والأحقاد التي قد تطفح من الخصم ، بل يجب سلوك طريق الرأفة والحبّ والعفو ما استطاع الإنسان إلى ذلك سبيلا ، إذ أنّ الرّد بهذا الأسلوب الودود يؤثر كثيرا في تليين قلوب الأعداء المعاندين ، كما يقول القرآن الكريم ويحث على ذلك :( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) (٣) .

والخلاصة ، إنّنا عند ما ندقق في أسلوب نقاشات الأنبياءعليهم‌السلام مع الأعداء والظالمين والجبارين ، كما يعكسها القرآن الكريم ، أو كما تعكسها تلك المناظرات العقائدية بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أئمّة أهل البيت المعصومينعليهم‌السلام وبين أعدائهم وخصومهم ، ننتهي إلى دروس تربوية في هذا المجال تطوي في تضاعيفها

__________________

(١) النمل ، لآية ٦٠.

(٢) الأنعام ـ ١٠٨.

(٣) فصلت ، الآية ٣٤.

١٩٥

أدق الأساليب والوسائل النفسية التي تسهّل لنا النفوذ إلى أعماق الآخرين.

وبهذا الخصوص ينقل العلّامة المجلسي في (بحار الأنوار) رواية مفصّلة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يضمنها مناظرة طويلة بين الرّسول الأكرم وبين خمسة مجاميع مخاصمة هي : اليهود والنصارى والدهريين والثنويين (أتباع عقدية التثنية في التأليه) ومشركي العرب ، تنتهي بسبب الأسلوب الحكيم الجميل والمؤثر الذي استخدمه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى قبول هؤلاء بالحق وإذعانهم وتسليمهم له.

إنّ هذه المناظرة المربية بإمكانها أن تكون لنا درسا بناء في مناظراتنا وأساليب جدلنا ومناقشاتنا مع الآخرين(١) .

* * *

__________________

(١) يمكن ملاحظة نصّها الكامل في بحار الأنوار ، المجلد التاسع ، صفحة ٢٥٧ فما بعد.

١٩٦

الآيات

( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) )

التّفسير

دعاء حملة المستمر للمؤمنين :

يتضح من أسلوب الآيات السابقة أنّها نزلت في فترة كان فيها المسلمون قلّة محرومة ، بينما كان الأعداء في أوج قوتهم ، يتمتعون بالإمكانات الكبيرة ويسيطرون على السلطة.

بعد ذلك نزلت الآيات التي نحن بصددها لتكون بشرى للمؤمنين الحقيقيين

١٩٧

والصابرين ، بأنّكم لستم وحدكم ، فلا تشعروا بالغربة أبدا ، فحملة العرش الإلهي والمقربون منه ، وكبار الملائكة معكم يؤيدونكم ، إنّهم في دعاء دائم لكم ، ويطلبون لكم من الله النصر في الدنيا وحسن الثواب في الآخرة وهذا هو أفضل أسلوب للتعاطف مع المؤمنين في ذلك اليوم ، وهذا اليوم ، وغدا.

فالقرآن يقول :( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) .

أمّا قولهم ودعاؤهم فهو :( رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ) فأنت عالم بذنوب عبادك المؤمنين ورحيم بهم( فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ) .

يوضح هذا الكلام للمؤمنين بأنّكم لستم وحدكم الذين تعبدون الله وتسبحونه وتحمدونه ، فقبلكم الملائكة المقرّبون وحملة العرش ومن يطوف حوله ، يسبحون الخالق جلّ وعلا ويحمدونه.

وهي من جانب آخر تحذر الكفّار وتقول لهم : إنّ إيمانكم أو عدمه ليس مهمّا ، فالله غني عن العباد لا يحتاج إلى إيمان أحد ، وهناك الملائكة يسبحون بحمده ويحمدونه وهم من الكثرة بحيث لا يمكن تصوّرهم بالرغم من أنّه غير محتاج إلى حمد هؤلاء وتسبيحهم.

ومن جانب ثالث ، في الآية إخبار للمؤمنين بأنّكم لستم وحدكم في هذا العالم ـ بالرغم من أنّكم أقلية في محيطكم ـ فأعظم قوّة غيبية في العالم وحملة العرش هم معكم ويساندونكم ويدعون لكم ، وهم في نفس الوقت يسألون الله أن يشملكم بعفوه ورحمته الواسعة ، وأن يتجاوز عن ذنوبكم وينجيكم من عذاب الجحيم.

وفي هذه الآية تواجهنا مرة اخرى كلمة (العرش) حيث ورد كلام عن حملته والملائكة الذين يحيطون به ، وبالرغم من أنّنا تحدثنا عن هذا الموضوع في تفسير

١٩٨

بعض السور ، فإنّنا سنقف عليه مرّة اخرى في باب البحوث إن شاء الله(١) .

في الآية التي تليها استمرار دعاء حملة العرش للمؤمنين ، يقول تعالى :( رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ) .

وأيضا :( وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ) (٢) .

لماذا؟ لـ( إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

هذه الآية التي تبدأ بكلمة (ربّنا) التي يطلب حملة العرش والملائكة المقرّبون بها من خالقهم ـ بإصرار ـ أن يتلطف بعباده المؤمنين ، ويركّزون في هذا الطلب على مقام ربوبيته تعالى ، وهؤلاء لا يريدون من خالقهم انقاذ المؤمنين من عذاب القيامة وحسب ، بل إدخالهم في جنات خالدة ، ليس وحدهم وإنّما مع آبائهم وأزواجهم وأبنائهم السائرين على خطّهم في الاستقامة والإيمان إنّهم يطلبون الدعم من عزّته وقدرته ، أمّا الوعد الإلهي الذي أشارت إليه الآية فهو نفس الوعد الذي ورد مرارا على لسان الأنبياء لعامة الناس.

أمّا تقسيم المؤمنين إلى مجموعتين ، فهو في الواقع يكشف عن حقيقة أنّ هناك مجموعة تأتي بالدرجة الأولى ، وهي تحاول أن تتبع الأوامر الإلهية بشكل كامل.

أمّا المجموعة الأخرى فهي ليست بدرجة المجموعة الأولى ولا في مقامها ، وإنّما بسبب انتسابها إلى المجموعة الأولى ومحاولتها النسبية في اتباعها سيشملها دعاء الملائكة.

بعد ذلك تذكر الآية الفقرة الرّابعة من دعاء الملائكة للمؤمنين :( وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ) .

ثم ينتهي الدعاء بهذه الجملة ذات المعنى الكبير :( وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

__________________

(١) كما في نهاية الآية (٥٤) من الأعراف ، نهاية الآية (٧) من هود ، ونهاية الآية (٢٥٥) من البقرة.

(٢) جملة (من صلح) معطوفة على الضمير في جملة «وأدخلهم».

١٩٩

هل هناك فوز أعظم من أن تغفر ذنوب الإنسان ، ويبتعد عنه العذاب لتشمله الرحمة الإلهية ويدخل الجنّة الخالدة ، وثم يلتحق به أقرباؤه الذين يودّهم؟

* * *

بحوث

أوّلا : الأدعية الأربعة لحملة العرش

قد يطرح هنا هذا السؤال : ما هو التفاوت الموجود بين الأدعية الأربعة؟ أليس بعضها مكررا؟

عند التأمل والتدقيق يتبيّن أنّ كلّ واحد منها يشير إلى موضوع مختلف. ففي البداية يطلب الملائكة غسل المؤمنين وتطهيرهم من آثار الذنوب ، وهذا الأمر إضافة لكونه مطلوبا بذاته ، فهو يعتبر مقدمة للوصول إلى أي نعمة كبيرة. وإلّا فهل هناك موهبة أعلى من أن يشعر الإنسان بأنّه أصبح طاهرا مطهرا ، وأنّ خالقه جلّ وعلا راض عنه ، وهو أيضا راض عن خالقه الكريم؟

إنّ هذا الإحساس ـ بغض النظر عن قضية الجنّة والنّار يعتبر أمرا عظيما وفخرا كبيرا بالنسبة للعباد.

في مرحلة ثانية يطلب حملة العرش والملائكة إبعاد المؤمنين وإنقاذهم من عذاب جهنّم. وهذا الأمر بحد ذاته يعتبر من أهم وسائل تحقيق الراحة والرضا النفسيّين.

المرحلة الثّالثة تنطوي على دعاء الملائكة وحملة العرش للمؤمنين في طلب الجنّة لهم ولأقربائهم أيضا ، حيث يعتبر هؤلاء الأقرباء الصالحون عاملا من عوامل الراحة والاستقرار النفسي.

وبسبب وجود (مؤذيات) اخرى مهمّة في يوم القيامة غير نار جهنّم ، كهول المطّلع والمحشر ، والفضيحة أمام الخلائق ، وطول الوقفة للحساب وأمثال ذلك ، لذا

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607