الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 607
المشاهدات: 166341
تحميل: 5104


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 166341 / تحميل: 5104
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 15

مؤلف:
العربية

الغضب الإلهي جاء وسط حديث الآية عن ثلاث صفات من صفات الرحمة الإلهية ، وفي كلّ ذلك دليل على المعنى المكنون في «يا من سبقت رحمته غضبه».

ثالثا : لا يقتصر المعنى في جملة( إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) على عودة الجميع ورجوعهم كافة إليه تعالى في يوم القيامة ، وإنّما تشير أيضا إلى الانتهاء المطلق لكل الأمور في هذا العالم والعالم الآخر إليه تعالى ، وانتهاء سلسلة الوجود إلى قدرته وإرادته.

رابعا : جاء تعبير( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) في ختام الصفات ، وهو حكاية عن مقام التوحيد والعبودية الذي لا يليق بغير الله تعالى ، حيث تنتهي أمام عبوديته كل العبوديات الأخرى. وهكذا يكون تعبير «لا إله إلّا هو» بمثابة النتيجة النهائية الأخيرة للبيان القرآني في هذا المورد.

ولذلك نقرأ في حديث عن ابن عباس أنّه تعالى :( غافِرِ الذَّنْبِ ) للشخص الذي يقول : لا إله إلّا الله وهو تعالى :( قابِلِ التَّوْبِ ) للذي يقرّ بالعبودية ويقول : لا إله إلّا الله. وهو( شَدِيدِ الْعِقابِ ) للذي لا يقرّ ولا يقول : لا إله إلا الله. وهو( ذِي الطَّوْلِ ) وغني عن الشخص الذي لا يقول : لا إله إلا الله.

من كلّ ذلك يتّضح أن محور الصفات المذكورة هو التوحيد ، الذي يدور مدار الإعتقاد الصحيح والعمل الصالح.

خامسا : من وسائل الغفران في القرآن :

ثمّة في كتاب الله أمور كثيرة تكون أسبابا وعناوين للمغفرة ومحو الذنوب والسيئات ، وفيما يلي تشير إلى بعض هذه العناوين :

١ ـ التوبة : إذ في آية (٨) من سورة التحريم قوله تعالى :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) .

٢ ـ الإيمان والعمل الصالح : حيث نقرأ في سورة (محمّد ـ آية ٢) قوله تعالى :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) .

١٨١

٣ ـ التقوى : ونرى مصداقها في قوله تعالى :( إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) (١) .

٤ ـ الهجرة والجهاد والشهادة : ومصداقها قوله تعالى في الآية (١٩٥) من سورة «آل عمران» :( فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) .

٥ ـ صدقة السر : وذلك قوله تعالى :( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ ) (٢) .

٦ ـ الإقراض : كما في قوله تعالى :( إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) (٣) .

٧ ـ اجتناب كبائر الذنوب : حيث يقول تعالى في(٤) :( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) .

وهكذا يتبيّن لنا أن أبواب المغفرة الإلهية مفتوحة من كلّ مكان ، وأنّ عباد الله بوسعهم طرق هذه الأبواب والولوج إلى المغفرة الإلهية. وقد رأينا في الآيات الآنفة الذكر سبعة من هذه الأبواب التي تضمن الخلاص لمن يلج أي واحد منها ، أو كلّها جميعا.

* * *

__________________

(١) الأنفال ، آية ٢٩.

(٢) البقرة ، آية ٢٧١.

(٣) التغابن ، الآية ١٧.

(٤) النساء ، آية ٣١.

١٨٢

الآيات

( ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦) )

التّفسير

الأمر الإلهي الحاسم :

بعد أن تعرضت الآيات السابقة إلى نزول القرآن ، وإلى بعض الصفات الإلهية التي تستهدف بعث الخوف والرجاء ، ورد كلام في الآيات التي بين أيدينا عن قوم امتازوا بالمجادلة والمنازعة حيال آيات الله الآية الكريمة توضح مصير هذه المجموعة ضمن تعبير قصير وقاطع ، فتقول :( ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ) .

صحيح أنّ هذه المجموعة قد تملك العدة والعدد ، إلّا أنّ ذلك لن يدوم إلّا لفترة ، فلا تغتر وتنخدع إذا لتحركهم في البلاد وتنقلهم في المدن المختلفة ،

١٨٣

واستعراضهم لقوّتهم :( فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ) .

إنّها أيّام تنقضي بين الكرّ والفرّ ، ثمّ تنتهي هذه الضجة لتزول معها هذه المجموعة وتمحى تماما ، كما تزول الفقاعات من على سطح الماء ، أو كما يتلاشى الرماد عند هبوب العواصف!

«يجادل» مشتقّة من «جدل» وهي في الأصل تعني لف الحبل وإحكامه ، ثمّ عمّ استخدامها في الأبنية والحديد وما شابه ، ولهذا فإنّ كلمة (مجادلة) تطلق على عمل الأشخاص المتقابلين ويريد كلّ شخص أن يلقي حجته ويثبت كلامه ويغلب خصمه.

ولكن ينبغي الانتباه إلى أنّ كلمة (المجادلة) لا تعتبر مذمومة دائما في اللغة العربية ، بل تعتبر إيجابية ومطلوبة إذا كانت المجادلة في طريق الحق وتستند على المنطق ، وتهدف إلى تبيين الحقائق وإرشاد الأشخاص الجهلة أمّا إذا كانت على أسس واهية من التعصب والجهل والغرور ، وتستهدف خداع هذا وذاك ، فتكون عند ذلك مذمومة.

القرآن الكريم استخدم كلمة (المجادلة) في كلا مورديها ، إذ نقرأ في الآية (١٢٥) من سورة النحل قوله تعالى :( وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) .

إلّا أنّه في موارد اخرى ـ كما في الآية أعلاه وفيما بعدها ـ وردت (المجادلة) لغرض الذم ، وهناك بحث حول الجدال والمجادلة سنتعرض له فيما بعد إن شاء الله.

«تقلب» مشتقّة من «قلب» وتعني التغيير ، و «تقلّب» هنا بمعنى التصرّف في المناطق والبلاد ، المختلفة للسيطرة والتسلّط عليها ، وتعني الذهاب والإياب فيها أيضا.

إنّ هدف الآية تحذير للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين به ـ في بداية البعثة ـ من الذين كانوا من الطبقة المستضعفة المحرومة ، بأن لا يركنوا إلى الإمكانات المالية

١٨٤

أو القوّة السياسية والاجتماعية للكفار ، ويعتبرونها دليلا على حقانيتهم أو سببا لقوّتهم الحقيقية ، إذ هناك الكثير منهم في تأريخ هذه الدنيا ، وقد انكشف ضعفهم وسقطت عنهم سرابيل القوّة المزعومة ليبيّن عجزهم حيال العقاب الإلهي ، ليسقطوا كما تسقط الأوراق الخريفية الذابلة في العواصف الهوجاء.

إنّنا في عالم اليوم نشاهد الكفار والمستكبرين والظالمين وهم يقومون بشتى المحاولات ، من زيارات ومؤتمرات وأحلاف وتكتّلات ومناورات عسكرية ، وتوقيع لاتفاقات سياسية وعسكرية ، واعتماد لوسائل القمع والإرهاب إزاء المستضعفين والمحرومين في العالم ، ولكي يسلكوا من خلال ذلك طريقا إلى تحقيق أهدافهم المشؤومة. لذلك ينبغي للمؤمنين أن يكونوا يقظين وحذرين حتى لا يروحوا ضحية هذه الأساليب القديمة وحتى لا يسكتهم الرعب والخوف فيفتنون بهذا الوضع.

لذلك توضح الآية التي بعدها عاقبة بعض الأمم السابقة التي ضلّت الطريق وانكفأت عن جادة الحق والصواب ، فتقول في عبارات قاطعة واضحة تحكي عاقبة قوم نوح وحالهم ومن تلاهم من أقوام وجماعات :( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ ) .

المقصود من «الأحزاب» هم قوم عاد وثمود وحزب الفراعنة وقوم لوط ، وأمثال هؤلاء ممّن أشارات إليهم الآيتان (١٢ ـ ١٣) من سورة «ص» في قوله تعالى :( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ ) .

هؤلاء هم «الأحزاب» الذين تآزروا ووقفوا ضدّ دعوات الأنبياء الإلهيين ، لتعارض مصالحهم مع روح هذه الدعوات ومضامينها الربانية.

إنّهم لم يقتنعوا بمجرّد الوقوف ضدّ الدعوات النبوية الكريمة ، بل خططت كلّ أمّة منهم لأن تمسك بنبيّها فتسجنه وتؤذيه ، بل وحتى تقتله :( وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ

١٨٥

بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ) .

ثم لم يكتفوا بهذا القدر أيضا ، بل لجأوا إلى الكلام الباطل لأجل القضاء على الحق ومحوه ، وأصروا على إضلال الناس وصدّهم عن شريعة الله :( وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ ) (١) .

إلّا أنّ هذا الوضع لم يستمر طويلا ، ولم يبق لهم الخيرا دوما ، إذ حينما حان الوقت المناسب جاء الوعد الإلهي :( فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ ) .

لكم ـ أيّها الناس ـ أن تشاهدوا خرائب مدنهم حين سفركم وأثناء تجوالكم انظروا عاقبتهم المشؤومة المظلمة مدونة على صفحات التأريخ وفي صدور أهل العلم ، فانظروا واعتبروا!

ليس هناك أفضل من هذا المصير الذي ينتظر أشقياء مكّة من الكفار والمشركين الظالمين ، إلّا أن يثوبوا إلى أنفسهم ويعيدوا تقييم أعمالهم.

إذا ، الآية أعلاه تلخص برنامج «الأحزاب» الطاغية ومخططهم في ثلاثة أقسام هي : (التكذيب والإنكار) ثمّ (التآمر للقضاء على رجال الحق) وأخيرا (الدعاية المستمرة لإضلال عامّة الناس).

أمّا مشركو العرب على عهد البعثة النّبوية فقد قاموا بتكرار هذه الأقسام الثلاثة حيال رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحيال رسالته ، لذلك فليس ثمّة من عجب أن يهددهم القرآن الكريم بما حلّ بأسلافهم وبمن سبقهم من الأحزاب نفس العاقبة ونفس الجزاء!

الآية الأخيرة ـ في المقطع الذي بين أيدينا ـ تشير إلى الجزاء الأخروي الذي ينتظر هؤلاء ، بالإضافة إلى قسطهم من العقاب الدنيوي( كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ ) .

إنّ المعنى الظاهري للآية واسع ، يشمل جميع الكفار والمعاندين من جميع

__________________

(١) «ليدحضوا» مصدرها ثلاثي (إدحاض) وتعني الإزالة والإبطال.

١٨٦

الأقوام ، والآية بهذا المعنى لا تختص بكفار مكّة ، كما يتصور بعض المفسّرين.

إنّ حتمية العقاب الإلهي لهؤلاء القوم يعود إلى ذنوبهم المستمرة ، والأعمال التي يقومون بها بملء إرادتهم خلافا لرسالة الله ولكن العجيب أنّ بعض المفسّرين ـ كالفخر الرازي ـ يتصور أنّ هذه الآية هي من أدلة عقيدة الجبر والمصير الجبري الإلزامي للأقوام المختلفة ، ودليل سلب الإرادة عنهم ، في حين أنّنا لو دققنا في نفس الآية مع ترك التعصّب المذهبي جانبا ، فسيتوضح لنا أنّ هذا المصير الإلهي الذي ينتظرهم هو بسبب سلوكهم لطريق الانحراف المظلم ، وبسبب إصرارهم على السير ، بهذا الطريق بأرجلهم وبكامل حريتهم وملء إرادتهم.

* * *

بحثان

أوّلا : استعراض الكفار لقواهم الظاهرية

يواجهنا في الآيات القرآنية وفي أماكن متعدّدة مؤدّى يفيد أنّ المؤمنين المحرومين ينبغي لهم أن لا يتصوروا أنّ الإمكانات الكبيرة والقوى الظاهرة الواقعة في حوزة الظالمين والكفار ، هي دليل على سعادتهم ، أو شرط لانتصارهم في نهاية المطاف.

ـ ومن أجل القضاء على هذا التصور المنحرف الخاطئ الذي يلازم في العادة الضعفاء ذوي الأفكار المحدودة والأفق الإيماني الضيق ، ومن الذين يرون في إمكانات الخصم دليلا معنويا على حقانيته ، فالقرآن يعالج هذه الظاهرة من خلال تفحص واستعراض تأريخ الأقوام السابقة ، ويشير في استعراضه لهم إلى نماذج واضحة ومعروفة منهم كالفراعنة في مصر ، والنماردة في بابل ، وأقوام نوح وعاد وثمود في العراق والحجاز والشام ، حتى لا يشعر المؤمنون المستضعفون بالضعف والهوان ، ولكي ييأسوا من جدوى المواجهة في حرب هي سجال بين

١٨٧

الطرفين ، لكنّها بالوعد الإلهي الحتمي لا بدّ أن تنتهي لصالح أهل الحق.

إنّ القانون الإلهي لا يقضي دائما بتعجيل العقوبة الآنية لكل من يرتكب عملا منافيا ، أو لمن يخرج عن جادة الصواب ويحيد عن سبيل الرشد ، وإنّما الأمر كما تقول الآية (٥٩) من سورة الكهف ،( وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً ) .

وفي مكان آخر من الكتاب الإلهي العظيم نقرأ قوله تعالى :( فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ) (١) .

وفي الآية (١٧٨) من «آل عمران» نلتقي في هذا المورد مع قوله تعالى :( إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً ) .

نستطيع أن ننهي القول في أنّ الهدف من هذا «الإمهال» هو إما لإتمام الحجة على الكافرين ، أو لاختبار المؤمنين ، أو قد يكون زيادة في ذنوب الذين قطعوا جميع طرق العودة على أنفسهم.

وفي عالمنا اليوم تشبه هذه الحالة الشعور بالدونية والحقارة الذي تعيشه بعض الشعوب المسلمة المختلفة ماديا إزاء الدول الكبرى والمتقدمة ، ولكن ينبغي مكافحة هذا الشعور بشدة بأسلوب المنطق القرآني أعلاه.

علاوة على هذا يجب على هؤلاء أن يدركوا أنّ أشكال التخلف والحرمان المادي إنّما تعود بدرجة كبيرة إلى ظلم الظالمين ، فإذا ما تحطّمت سلاسل الظلم والعبودية أمكن تجاوز التخلف بالمثابرة والكدح.

ثانيا : المجادلة في القرآن الكريم

لقد وردت كلمة «المجادلة» خمس مرات في هذه السورة المباركة ، وهي جميعا تختص بالمجادلة السلبية الباطلة ، والآيات التي اشتملت على ذكر المجادلة هي (٤ ، ٥ ، ٣٥ ، ٥٦ ، ٦٩) وبهذه المناسبة لا بأس بالتعرّض إلى بحث عن

__________________

(١) الطارق ، الآية ١٧.

١٨٨

الجدال من وجهة النظر القرآنية.

«الجدال» و «المراء» موضوعان وردا كثيرا في الآيات القرآنية ، وفي الأحاديث والرّوايات الإسلامية أيضا. وكتوطئة للبحث ينبغي أولا أن نميّز أقسام الجدال (الجدال الإيجابي والجدال السلبي) وما هو المقصود من كلّ واحد منها ، وعلائم كلّ واحد منها ، وأخيرا أضرار «الجدال السلبي» وكذلك عوامل الغلبة في «الجدال الإيجابي».

وفي هذا الصدد أمامنا النقاط والعناوين الآتية :

أ ـ مفهوم «جدال» و «مراء»

«الجدال» و «المراء» و «الخصام» ثلاث مفردات متقاربة من حيث المعنى ، وفي نفس الوقت يوجد ثمّة اختلاف بينها(١) .

«الجدال» يعني في الأصل اللغوي لف الحبل ، ثمّ أخذ يطلق بعد ذلك على لفّ الطرف المقابل والنقاش الذي يتضمّن الغلبة.

«مراء» على وزن «حجاب» وتعني الكلام في شيء ما فيه مرية أو شك.

أمّا «الخصومة» والمخاصمة فتعني في الأصل إمساك شخصين كلّ منهما للآخر من جانبه ، ثمّ أطلقت بعد ذلك على التشاجر اللفظي والأخذ والرد في الكلام.

وكما يقول العلامة المجلسي في (بحار الأنوار) فإنّ الجدال والمراء أكثر ما يستخدمان في القضايا العلمية ، في حين تستخدم المخاصمة في الأمور والمعاملات الدنيوية.

ويحدّد بعضهم الاختلاف بنى الجدال والمراء في أنّ هدف المراء هو إظهار الفضل والكمال ، في حين أنّ الجدال يستهدف تعجيز وتحقير الطرف المقابل.

__________________

(١) الألفاظ الثلاثة مصدرها في باب المفاعلة.

١٨٩

وقالوا أيضا في الفرق بينهما : إن الجدال في القضايا العلمية ، والمراء أعم من ذلك.

وقالوا أخيرا : إنّ المراء ذو طابع دفاعي في قبال هجوم الخصم ، بينما الجدال أعم من الدفاع والهجوم.

ب : الجدال السلبي والإيجابي

يظهر من الآيات القرآنية أنّ للفظ الجدال معاني واسعة ، ويشمل كلّ أنواع الحديث والكلام الحاصل بين الطرفين ، سواء كان إيجابيا أم سلبيا ، ففي الآية (١٢٥) من سورة «النحل» نقرأ أمر الخالق تبارك وتعالى لرسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله تعالى :( وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) .

وفي الآية (٧٤) من سورة «هود» نقرأ عن إبراهيمعليه‌السلام :( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ ) والآية تشير إلى النوع الإيجابي من المجادلة.

ولكن أغلب الإشارات القرآنية حول المجادلة تشير إلى النوع السلبي منها ، كما نرى ذلك واضحا في سورة «المؤمن» التي نحن بصددها ، حيث أشارت إلى «المجادلة» بمعناها السلبي خمس مرّات.

وفي كلّ الأحوال يتبيّن أنّ البحث والكلام والاستدلال والمناقشة لأقوال الآخرين ، إذا كان لإحقاق الحقّ وإبانة الطريق وإرشاد لجاهل ، فهو عمل مطلوب يستحق التقدير ، وقد يندرج أحيانا في الواجبات.

فالقرآن لم يعارض أبدا البحث والنقاش الاستدلالي والموضوعي الذي يستهدف إظهار الحق ، بل حث ذلك في العديد من الآيات القرآنية.

وفي مواقف معينة طالب القرآن المعارضين بالإتيان بالدليل والبرهان فقال :

١٩٠

( هاتُوا بُرْهانَكُمْ ) (١) .

وفي المواقف التي كانت تتطلب إظهار البرهان والدليل ، ذكر القرآن أدلة مختلفة ، كما نقرأ ذلك في آخر سورة «يس» حين جاء ذلك الرجل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يمسك بيده عظما فقال له سائلا :( مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) (٢) فذكر القرآن عددا من الأدلة على لسان الرّسول الأكرم في المعاد وقدرة الخالق على إحياء الموتى.

وفي القرآن نماذج اخرى واضحة على الجدال الإيجابي ، كما في الآية (٢٥٨) من سورة البقرة ، التي تعكس كلام إبراهيمعليه‌السلام وأدلته القاطعة أمام نمرود.

والآيات (٤٧ ـ ٥٤) من سورة «طه» تعكس تحاجج موسى وفرعون.

وكذلك نجد القرآن مليء بالأدلة المختلفة التي أقامها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقابل عبدة الأصنام والمشركين وأصحاب الذرائع.

ومن جهة اخرى يذكر القرآن الكريم نماذج اخرى من مجادلات أهل الباطل لإثبات دعاواهم الباطلة من خلال استخدام السفسطات الكلامية والحجج الواهية لابطال الحق وغواية عوام الناس.

إنّ السخرية والاستهزاء والتهديد والافتراء والإنكار الذي لا يقوم على دليل ، هي مجموعة من الأساليب التي يعتمدها الظالمون الضالّون إزاء الأنبياء ودعواتهم الكريمة ، أمّا الاستدلال الممزوج بالعاطفة والحبّ والرأفة بالناس فهو أسلوب الأنبياء ، رسل السماء إلى الأرض.

في الرّوايات الإسلامية والتأريخ الإسلامي آثار كثيرة وغنية عن مناظرات الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام مع المعارضين ، وإذا ما توفر جهد معين

__________________

(١) البقرة ، الآية ١١١.

(٢) سورة يس ، الآية ٧٨.

١٩١

على جمعها وتصنيفها فإنّها ستشكّل كتابا كبيرا وضخما للغاية. (وقد قام العلّامة الشيخ الطبرسي بجمع بعضها في كتابه «الإحتجاج»).

وبالطبع لم ينحصر مقام المجادلة بالتي هي أحسن ومناظرة الخصوم على المعصومين ، بل إن الأئمّةعليهم‌السلام كانوا يحثون من يجدون فيه القدرة الكافية والمنطق القوي المتين للقيام بهذه الوظيفة ، والّا فقد تضعف جبهة الحق ويقوى عود خصومها ، ويجدون في أنفسهم الجرأة في مواجهة الحق والتمادي في عنادهم.

وفي هذا الاتجاه نقرأ في حديث ، أنّ أحد أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام يلقّب بـ «الطيار» ويدعى (حمزة بن محمّد) جاء إلى الإمام الصادقعليه‌السلام وقال له : «بلغني أنك كرهت مناظرة الناس» فأجابه الإمامعليه‌السلام بقوله : «أما مثلك فلا يكره ، من إذا طار يحسن أن يقع ، وإن وقع يحسن أن يطير ، فمن كان هذا لا نكرهه»(١) .

كلام جميع يشير بوضوح كاف إلى القوة والمتانة في قدرة الاستدلال والمناظرة وخصم الطرف المقابل لمن يريد خوض المناظرة مع الخصوم ، كي يكون بمقدوره استخلاص النتائج وإنهاء البحث ، فلا بدّ من حضور اشخاص مستعدين ولهم تسلط كاف على البحوث الاستدلالية ، حتى لا يحسب ضعف منطقهم بأنّه من ضعف دينهم ومذهبهم.

ج : الآثار السيئة للجدال السلبي

صحيح أنّ البحث والنقاش هو مفتاح لحل المشاكل ، إلّا أنّ هذا الأمر يصح في حال رغبة الطرفين في نشدان الحق والبحث عن الطريق الصحيح ، أو على الأقل يكون أحد الطرفين متمسكا بالحق ومستهدفا السبيل إليه فيما يخوض من

__________________

(١) رجال «الكشي ، صفحة ٢٩٨.

١٩٢

نقاش ومناظرة.

أمّا أن يكون النقاش والجدل بين الطرفين بهدف التفاخر واستعراض القوة ، وفرض الرأي على الطرف الثّاني عن طريق إثارة الضجة ، فإنّ عاقبة هذا الأمر لا تكون سوى الابتعاد عن الحق وعشعشة الظلمة في القلوب وتجذّر العداء والحقد لا غير.

ولهذا السبب نهت الروايات والأحاديث الإسلامية عن المراء والجدال الباطل ، وفي هذه المرويات إشارات كبيرة المعنى إلى الآثار السيئة لهذا النوع من الجدال.

ففي حديث عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب نقرأ قولهعليه‌السلام : «من ضنّ بعرضه فليدع المراء»(١) . لأنّ في هذا النوع من النقاش سوف ينحدر بالكلام تدريجيا ليصل إلى مناحى الاستهانة وعدم الاحترام وتبادل الكلام المبتذل القبيح ، وترامي الاتهامات الباطلة.

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين أيضا نقرأ وصيتهعليه‌السلام إذ يقول :

«إيّاكم والمراء والخصومة فإنّهما يمرضان القلوب على الإخوان ، وينبت عليهما النفاق»(٢) .

إنّ مثل هذا النوع من الجدال والذي يكون عادة فاقدا للالتزام بالأصول الصحيحة للبحث والاستدلال ، سيقوي روح اللجاجة والتعصّب والعناد لدى الأشخاص ، بحيث يستخدم كلّ طرف ـ بهدف التغلب على خصمه والإنتصار لنفسه ـ كلّ الأساليب حتى تلك التي تنطوي على الكذب والتهمة ، ومثل هذا العمل لا يمكن أن تكون عاقبته إلّا السوء والحقد وتنمية جذور النفاق في الصدور.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم ٣٦٢.

(٢) أصول الكافي ، المجلد الثّاني ، باب المراء والخصومة ، الحديث الأول.

١٩٣

إنّ واحدة من المفاسد الكبيرة الأخرى للجدال السلبي المنهيّ عنه ، هو تمسك الطرفين بانحرافاتهم وأخطائهم وإصرارهم على اشتباهاتهم ، في موقف عنيد بعيد عن الحق والصواب ، ذلك لأنّ كلّ طرف يحاول ما استطاع التمسّك بأي دليل والتشبّث بالباطل لفرض رأيه وإثبات كلامه ، وهو في ذلك مستعد لإنّ يتجاهل الكلام الحق الذي يصدر من خصمه ، أو أنّه ينظر إليه بعدم الرضا والقبول. وهذا بحدّ ذاته يزيد من الانحراف والاشتباه والخطأ.

د : أسلوب المجادلة بالتي هي أحسن :

لا يستهدف «الجدال الإيجابي» تحقير الطرف الآخر أو الإنتصار عليه ، بل يهدف النفوذ إلى عمق أفكاره وروحه ، لهذا فإنّ أسلوب المجادلة بالتي هي أحسن يختلف كليا عن الجدال السلبي أو الباطل.

ولكي يؤثر الطرف المجادل معنويان على الطرف الآخر ، عليه الاستفادة من الأساليب الآتية التي أشار إليها القرآن الكريم بشكل جميل :

١ ـ ينبغي عدم الإصرار على الطرف المقابل بقبول الكلام على أنّه هو الحق ، بل على المجادل إذا استطاع أن يجعل الطرف المقابل يعتقد بأنّه هو الذي توصّل إلى هذه النتيجة ، وهذا الأسلوب سيكون أكثر تأثيرا. بعبارة اخرى : من المفيد للطرف المقابل أن يعتقد بأنّ النتيجة أو الفكرة نابعة من أعماقه وهي جزاء من روحه ، كي يتمسك بها أكثر ويذعن لها بشكل كامل.

وقد يكون هذا الأمر هو سر ذكر القرآن للحقائق المهمّة كالتوحيد ونفي الشرك وغير ذلك على شكل استفهام ، أو أنّه بعد أن ينتهي من استعراض وذكر

١٩٤

أدلة التوحيد يقول :( أَإِلهٌ مَعَ اللهِ ) (١) .

٢ ـ يجب الامتناع عن كلّ من ما يثير صفة العناد واللجاجة لدى الطرف الآخر ، إذ يقول القرآن الكريم :( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) (٢) . كي لا يصر هؤلاء على عنادهم ويهينوا الخالق جلّ وعلا بتافه كلامهم.

٣ ـ يجب مراعاة منتهى الإيضاح في النقاش مع أي شخص أو أي مجموعة ، كي يشعر الطرف المقابل بأنّ المتحدّث إليه يبغي حقّا توضيح الحقائق لا غير ، فعند ما يتحدث القرآن عن مساوئ الخمر والقمار ، فهو لا يتجاهل المنافع الثانوية المادية والاقتصادية التي يمكن أن يحصل عليها البعض منهما ، فيقول :( قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) .

إنّ هذا الطراز من الحديث يحمل آثارا إيجابية كبيرة على المستمع.

٤ ـ يجب عدم الرّد بالمثل حيال المساوئ والأحقاد التي قد تطفح من الخصم ، بل يجب سلوك طريق الرأفة والحبّ والعفو ما استطاع الإنسان إلى ذلك سبيلا ، إذ أنّ الرّد بهذا الأسلوب الودود يؤثر كثيرا في تليين قلوب الأعداء المعاندين ، كما يقول القرآن الكريم ويحث على ذلك :( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) (٣) .

والخلاصة ، إنّنا عند ما ندقق في أسلوب نقاشات الأنبياءعليهم‌السلام مع الأعداء والظالمين والجبارين ، كما يعكسها القرآن الكريم ، أو كما تعكسها تلك المناظرات العقائدية بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أئمّة أهل البيت المعصومينعليهم‌السلام وبين أعدائهم وخصومهم ، ننتهي إلى دروس تربوية في هذا المجال تطوي في تضاعيفها

__________________

(١) النمل ، لآية ٦٠.

(٢) الأنعام ـ ١٠٨.

(٣) فصلت ، الآية ٣٤.

١٩٥

أدق الأساليب والوسائل النفسية التي تسهّل لنا النفوذ إلى أعماق الآخرين.

وبهذا الخصوص ينقل العلّامة المجلسي في (بحار الأنوار) رواية مفصّلة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يضمنها مناظرة طويلة بين الرّسول الأكرم وبين خمسة مجاميع مخاصمة هي : اليهود والنصارى والدهريين والثنويين (أتباع عقدية التثنية في التأليه) ومشركي العرب ، تنتهي بسبب الأسلوب الحكيم الجميل والمؤثر الذي استخدمه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى قبول هؤلاء بالحق وإذعانهم وتسليمهم له.

إنّ هذه المناظرة المربية بإمكانها أن تكون لنا درسا بناء في مناظراتنا وأساليب جدلنا ومناقشاتنا مع الآخرين(١) .

* * *

__________________

(١) يمكن ملاحظة نصّها الكامل في بحار الأنوار ، المجلد التاسع ، صفحة ٢٥٧ فما بعد.

١٩٦

الآيات

( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) )

التّفسير

دعاء حملة المستمر للمؤمنين :

يتضح من أسلوب الآيات السابقة أنّها نزلت في فترة كان فيها المسلمون قلّة محرومة ، بينما كان الأعداء في أوج قوتهم ، يتمتعون بالإمكانات الكبيرة ويسيطرون على السلطة.

بعد ذلك نزلت الآيات التي نحن بصددها لتكون بشرى للمؤمنين الحقيقيين

١٩٧

والصابرين ، بأنّكم لستم وحدكم ، فلا تشعروا بالغربة أبدا ، فحملة العرش الإلهي والمقربون منه ، وكبار الملائكة معكم يؤيدونكم ، إنّهم في دعاء دائم لكم ، ويطلبون لكم من الله النصر في الدنيا وحسن الثواب في الآخرة وهذا هو أفضل أسلوب للتعاطف مع المؤمنين في ذلك اليوم ، وهذا اليوم ، وغدا.

فالقرآن يقول :( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) .

أمّا قولهم ودعاؤهم فهو :( رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ) فأنت عالم بذنوب عبادك المؤمنين ورحيم بهم( فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ) .

يوضح هذا الكلام للمؤمنين بأنّكم لستم وحدكم الذين تعبدون الله وتسبحونه وتحمدونه ، فقبلكم الملائكة المقرّبون وحملة العرش ومن يطوف حوله ، يسبحون الخالق جلّ وعلا ويحمدونه.

وهي من جانب آخر تحذر الكفّار وتقول لهم : إنّ إيمانكم أو عدمه ليس مهمّا ، فالله غني عن العباد لا يحتاج إلى إيمان أحد ، وهناك الملائكة يسبحون بحمده ويحمدونه وهم من الكثرة بحيث لا يمكن تصوّرهم بالرغم من أنّه غير محتاج إلى حمد هؤلاء وتسبيحهم.

ومن جانب ثالث ، في الآية إخبار للمؤمنين بأنّكم لستم وحدكم في هذا العالم ـ بالرغم من أنّكم أقلية في محيطكم ـ فأعظم قوّة غيبية في العالم وحملة العرش هم معكم ويساندونكم ويدعون لكم ، وهم في نفس الوقت يسألون الله أن يشملكم بعفوه ورحمته الواسعة ، وأن يتجاوز عن ذنوبكم وينجيكم من عذاب الجحيم.

وفي هذه الآية تواجهنا مرة اخرى كلمة (العرش) حيث ورد كلام عن حملته والملائكة الذين يحيطون به ، وبالرغم من أنّنا تحدثنا عن هذا الموضوع في تفسير

١٩٨

بعض السور ، فإنّنا سنقف عليه مرّة اخرى في باب البحوث إن شاء الله(١) .

في الآية التي تليها استمرار دعاء حملة العرش للمؤمنين ، يقول تعالى :( رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ) .

وأيضا :( وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ) (٢) .

لماذا؟ لـ( إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

هذه الآية التي تبدأ بكلمة (ربّنا) التي يطلب حملة العرش والملائكة المقرّبون بها من خالقهم ـ بإصرار ـ أن يتلطف بعباده المؤمنين ، ويركّزون في هذا الطلب على مقام ربوبيته تعالى ، وهؤلاء لا يريدون من خالقهم انقاذ المؤمنين من عذاب القيامة وحسب ، بل إدخالهم في جنات خالدة ، ليس وحدهم وإنّما مع آبائهم وأزواجهم وأبنائهم السائرين على خطّهم في الاستقامة والإيمان إنّهم يطلبون الدعم من عزّته وقدرته ، أمّا الوعد الإلهي الذي أشارت إليه الآية فهو نفس الوعد الذي ورد مرارا على لسان الأنبياء لعامة الناس.

أمّا تقسيم المؤمنين إلى مجموعتين ، فهو في الواقع يكشف عن حقيقة أنّ هناك مجموعة تأتي بالدرجة الأولى ، وهي تحاول أن تتبع الأوامر الإلهية بشكل كامل.

أمّا المجموعة الأخرى فهي ليست بدرجة المجموعة الأولى ولا في مقامها ، وإنّما بسبب انتسابها إلى المجموعة الأولى ومحاولتها النسبية في اتباعها سيشملها دعاء الملائكة.

بعد ذلك تذكر الآية الفقرة الرّابعة من دعاء الملائكة للمؤمنين :( وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ) .

ثم ينتهي الدعاء بهذه الجملة ذات المعنى الكبير :( وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

__________________

(١) كما في نهاية الآية (٥٤) من الأعراف ، نهاية الآية (٧) من هود ، ونهاية الآية (٢٥٥) من البقرة.

(٢) جملة (من صلح) معطوفة على الضمير في جملة «وأدخلهم».

١٩٩

هل هناك فوز أعظم من أن تغفر ذنوب الإنسان ، ويبتعد عنه العذاب لتشمله الرحمة الإلهية ويدخل الجنّة الخالدة ، وثم يلتحق به أقرباؤه الذين يودّهم؟

* * *

بحوث

أوّلا : الأدعية الأربعة لحملة العرش

قد يطرح هنا هذا السؤال : ما هو التفاوت الموجود بين الأدعية الأربعة؟ أليس بعضها مكررا؟

عند التأمل والتدقيق يتبيّن أنّ كلّ واحد منها يشير إلى موضوع مختلف. ففي البداية يطلب الملائكة غسل المؤمنين وتطهيرهم من آثار الذنوب ، وهذا الأمر إضافة لكونه مطلوبا بذاته ، فهو يعتبر مقدمة للوصول إلى أي نعمة كبيرة. وإلّا فهل هناك موهبة أعلى من أن يشعر الإنسان بأنّه أصبح طاهرا مطهرا ، وأنّ خالقه جلّ وعلا راض عنه ، وهو أيضا راض عن خالقه الكريم؟

إنّ هذا الإحساس ـ بغض النظر عن قضية الجنّة والنّار يعتبر أمرا عظيما وفخرا كبيرا بالنسبة للعباد.

في مرحلة ثانية يطلب حملة العرش والملائكة إبعاد المؤمنين وإنقاذهم من عذاب جهنّم. وهذا الأمر بحد ذاته يعتبر من أهم وسائل تحقيق الراحة والرضا النفسيّين.

المرحلة الثّالثة تنطوي على دعاء الملائكة وحملة العرش للمؤمنين في طلب الجنّة لهم ولأقربائهم أيضا ، حيث يعتبر هؤلاء الأقرباء الصالحون عاملا من عوامل الراحة والاستقرار النفسي.

وبسبب وجود (مؤذيات) اخرى مهمّة في يوم القيامة غير نار جهنّم ، كهول المطّلع والمحشر ، والفضيحة أمام الخلائق ، وطول الوقفة للحساب وأمثال ذلك ، لذا

٢٠٠