الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 176206 / تحميل: 5908
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

والحيوان(١) .

لكن هذا التّفسير فضلا عن أنّه لا يلائم الآيات أعلاه ، فإنّه أيضا يقصر «اليوم» فيما يتعلق بالأرض ولمواد الغذائية وحسب ، لأنّ معناه يتعلق بالفصول الأربعة فقط ، بينما لا حظنا أن «يوم» في معنى خلق السماوات والأرض يعني بداية مرحلة!

مضافا لذلك تكون النتيجة اختصاص يومين من الأيّام الستة لخلق الأرض ، ويومين آخرين لخلق السماوات ، أمّا اليومان الباقيان اللذيان يتعلقان بخلق الكائنات بين السماء والأرض «ما بينهما» فليس هناك إشارة إليهما!

من كلّ ذلك يتبيّن أنّ التّفسير الأوّل أجود.

وقد لا تكون هناك حاجة للقول بأنّ «اليوم» في الآيات أعلاه هو حتما غير اليوم العادي ، لأنّ اليوم بالمعنى العادي لم يكن قد وجد قبل خلق السماوات والأرض ، بل المقصود بذلك هو مراحل الخلق التي استنفذت من الزمن أحيانا ملايين بل وبلايين السنين.(٢)

* * *

ملاحظتات

تبقى أمامنا ملاحظتان ينبغي أن نشير إليهما :

أوّلا : ما هو المقصود من قوله تعالى :( بارَكَ فِيها ) ؟

الظاهر أنّها إشارة إلى المعادن والكنوز المستودعة في باطن الأرض ، وما على الأرض من أشجار وأنهار ونباتات ومصادر للماء الذي هو أساس الحياة والبركة ، حيث تستفيد منها جميع الاحياء الأرضية.

__________________

(١) ثمّة حديث بهذا المضمون في تفسير علي بن إبراهيم.

(٢) راجع الآية (٥٤) من سورة الأعراف.

٣٦١

ثانيا : بما تتعلق الأيام الاربعة في عبارة :( فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ) ؟

بعض المفسّرين يعتقد أنّها تخص «الأقوات» فقط. لكنّها ليست كذلك ، بل تشمل الأقسام الثلاثة المذكورة في الآية (أي خلق الجبال ، خلق المصادر وبركات الأرض ، خلق الموارد الغذائية) لأنّه ـ خلافا لذلك ـ فإنّ بعض هذه الأمور سوف لا تدخل في الأيام الواردة في الآيات أعلاه ، وهذا أمر لا يتناسب مع نظم الآيات ونظامها.

بعد الانتهاء من الكلام عن خلق الأرض ومراحلها التكاملية ، بدأ الحديث عن خلق السماوات حيث تقول الآية :( ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ) .

فكانت الإجابة :( قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) .

وفي هذه الأثناء :( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ) ثم :( وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ) وأخيرا :( وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ) نعم :( ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) .

في الآيتين المتقدمتين تستلفت النظر عشر ملاحظات سنقف عليها خلال النقاط الآتية ، التي ننهي من خلالها البحث في هذه المجموعة من الآيات ، وهي :

أولا : كلمة «ثم» تأتي عادة للإشارة إلى التأخير في الزمان ، وتأتي أحيانا للدلالة على التأخير في البيان. فإذا كان المعنى الأوّل هو المقصود فسيكون المفهوم هو أنّ خلق السماوات تمّ بعد خلق الأرض وخلق الجبال والمعادن والمواد الغذائية. أما إذا كان المعنى الثّاني هو المقصود ، فليس هناك مانع من أن تكون السماوات قد خلقت وبعدها تمّ خلق الأرض ، ولكن عند البيان ذكرت الآية أوّلا خلق الأرض والأرزاق ومصادرها التي يحتاجها البشر ، ثمّ عرجت إلى ذكر قضية خلق السماء.

المعنى الثّاني بالإضافة إلى أنّه أكثر تناسقا وانسجاما مع الاكتشافات العلمية ،

٣٦٢

فهو أيضا يتفق مع الآيات القرآنية الأخرى ، كقوله تعالى في الآيات (٢٧ ـ ٣٣) من سورة «النازعات» :( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ ) .

إنّ هذه المجموعة من الآيات الكريمة تكشف بوضوح أنّ دحو وتوسيع الأرض وتفجر العيون ونبات الأشجار والموارد الغذائية ، قد تمّ جميعا بعد خلق السماوات. أما لو فسّرنا معنى «ثم» بالتأخير في الزمان ، فعلينا أن نقول : إنّ كلّ تلك قد تكونت قبل خلق السماء ، وهذا يتنافى مع المعنى الواضح للمراد من قوله تعالى :( بَعْدَ ذلِكَ ) أي أن كلّ ما ذكر قد تم خلقه بعد ذلك (أي بعد السماوات).

وبذلك نفهم أن (ثم) هنا قد استخدمت للتدليل على التأخير البياني(١) .

ثانيا : «استوى» من «استواء» وتعني الاعتدال أو مساواة شيئين ببعضهما ، ولكن ذهب علماء اللغة والتّفسير إلى أنّ هذه الكلمة عند ما تتعدّى بـ «على» يصبح معناها الاستيلاء والتسلّط على شيء ما مثل( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (٢) .

وعند ما تتعدى بـ «إلى» فهي تعني القصد ، كما في الآية التي نبحثها( ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ ) اي قصد الى السماء.

ثالثا : جملة «هي دخان» تبيّن أن بداية خلق السماوات كان من سحب الغازات الكثيفة الكثيرة ، وهذا الأمر يتناسب مع آخر ما توصلت إليه البحوث العلمية بشأن بداية الخلق والعالم.

والآن فإنّ الكثير من النجوم السماوية هي على شكل سحب مضغوطة من الغازات والدخان.

__________________

(١) أما ما نقل عن ابن عباس من قوله : إنّ خلق الأرض كان قبلا ، وأما «دحو الأرض» فجاء بعد ذلك ، فهو لا يحل المشكلة ، وكأن ابن عبّاس لم يهتم عما بعد الآية من حديث عن خلق الجبال والمواد الغذائية!

(٢) طه ، الآية ٥.

٣٦٣

رابعا : قوله تعالى :( فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ) لا تعني أن كلاما قد جرى باللفظ ، وإنّما قول الخالق وأمره هو نفسه الأمر التكويني ، وهو عين إرادته في الخلق. أما التعبير بـ «طوعا أو كرها» فهو إشارة إلى أنّ الإرادة الإلهية الحتمية قد ارتبطت يتكوّن السماوات والأرض. والمعنى أنّه يجب أن يحدث هذا الأمر شاءت أم أبت.

خامسا : الجملة في قوله تعالى :( أَتَيْنا طائِعِينَ ) تشير إلى أنّ المواد التي تتشكل منها السماء والأرض من ناحية التكوين والخلقة ، كانت مستسلمة تماما لإرادة الله وأمره ، فتقبلت شكلها المطلوب ولم تعترض أمام هذا الأمر الإلهي مطلقا.

ومن الواضح أنّ هذا الأمر وهذا الامتثال ليس لهما طبيعة تكليفية وتشريعية ، بل حدثت بمحض التكوين فقط.

سادسا : قوله تعالى :( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ) يشير إلى وجود مرحلتين في خلق السماوات ، كلّ مرحلة استمرت لملايين أو مليارات السنين ، وكل مرحلة تتضمن مراحل اخرى ، ومن المحتمل أن تكون هاتان المرحلتان هما مرحلة تبديل الغازات المضغوطة إلى سوائل ومواد مذابة ، ثمّ مرحلة تبديل المواد المذابة إلى مواد جامدة.

كلمة «يوم» استخدمت هنا ـ كما أشرنا سابقا ـ بمعنى مرحلة ، وهو ممّا يشبع استخدامه في عدّة لغات ، ويشبع استخدامه أيضا في كلامنا اليومي ، فعند ما تقول مثلا : يوم لك ويوم عليك ، إنّما تشير إلى مراحل الحياة المختلفة. (هناك بحث مفصل حول هذا الموضوع في نهاية تفسير الآية (٥٤) من سورة الأعراف).

سابعا : إنّ العدد «سبع» ربّما جاء هنا للكثرة ، بمعنى أنّ هناك سماوات كثيرة وأجرام كثيرة. ومن المحتمل أن يكون الرقم للعدد ، أي إن عدد السماوات هي سبع بالتحديد. ومع هذا التقييد فإنّ جميع ما نرى من كواكب ونجوم ثابتة وسيّارة هي

٣٦٤

من السماء الأولى ، وبذلك يكون عالم الخلقة متشكلا من سبع مجموعات كبرى ، واحدة منها فقط أمام أنظار البشرية ، وإنّ الأجهزة العلمية الفلكية الدقيقة وبحوث الإنسان ، لم تتوصل إلى ما هو أبعد من السماء الأولى.

ولكن كيف تكون العوالم الستة لأخرى؟ وممّ تتشكّل؟ فهو أمر لا يعلمه إلّا الله تعالى.

والمعتقد هنا أنّ هذا التّفسير هو الأصح. (في هذا الموضوع يمكن مراجعة نهاية تفسير الآية (٢٩) من سورة البقرة).

ثامنا : قوله تعالى :( وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ) تشير إلى أنّ المسألة لم تنته بخلق السماوات وحسب ، بل إنّ في كل منها مخلوقات وكائنات ونظام خاص وتدبير معين ، بحيث أن كلّ واحدة تعتبر بحد ذاتها دليلا على العظمة والقدرة والعلم.

تاسعا : قوله تعالى :( وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ ) تدل على أنّ جميع النجوم زينة للسماء الأولى ، وتبدو في نظر الإنسان كالمصابيح المعلقة في سقف هذه السماء الزرقاء ، وهي ليست للزينة وحسب ، حيث تجذب بتلألؤها الخاص المتعاقب قلوب عشاق أسرار الخلقة ، بل في الليالي المعتمة تكون مصابيح للتائهين وأدلة لمن يسير في الطريق ، تعينهم على تعيين اتجاه الحركة.

أمّا «الشهب» التي تظهر كنجوم سريعة تظهر في السماء بوميض سريع قبل أن تنطفئ ، فهي في الواقع سهام تستقر في قلوب الشياطين وتحفظ السماء من نفوذهم. (راجع تفسير الآية ١٧ من سورة الحجر ونهاية الآية السابعة من سورة الصافات).

عاشرا : قوله تعالى :( ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) تكملة للجمل التسع السابقة ، وتشكل بمجموعها عشرة كاملة ، تقول : إنّ ما حدث في السماء والأرض منذ بداية الخلق إلى مرحلة التشكّل والنظام الدقيق ، كان وفق برنامج محسوب ومقدّر ، تمّ

٣٦٥

تنظيمه من قبل المبدأ الأزلي ذي العلم والقدرة المطلقتين ، وإن أي تفكير في أي بحر من هذه البحور يقودنا نحو المبدأ العظيم جلّت قدرته.

* * *

٣٦٦

الآيات

( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) )

التّفسير

أحذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود!

بعد البحث المهم الذي تضمّنته الآيات السابقة حول التوحيد ومعرفة الخالق جلّ وعلاه تنذر الآيات ـ التي بين أيدينا ـ المعارضين والمعاندين الذين تجاهلوا كلّ هذه الدلائل الواضحة والآيات البينات ، وتحذرهم أن نتيجة الإعراض نزول

٣٦٧

العذاب بهم ، يقول تعالى :( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ) (١) .

عليكم أن تخافوا هذه الصاعقة المميتة المحرقة التي إذا نزلت بساحتكم تنفيكم وتحل بداركم الدمار.

لاحظنا في بداية هذه السورة المباركة أنّ بعض زعماء الشرك في مكّة مثل «الوليد بن المغيرة» وبرواية اخرى «عتبة بن ربيعة» جاءوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتحقيق حول القرآن ودعوة الرّسول وطرحوا عليه بعض الأسئلة وفي سياق إجابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم تلا عليهم الآيات الاولى من هذه السورة ، وعند ما وصل النّبي في تلاوته إلى الآيات أعلاه وهدّدهم بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ، ارتعشت أجسادهم وأصيبوا بالخوف بحيث أنّهم لم يكونوا قادرين على الاستمرار في الكلام ، لذلك عادوا إلى قومهم وذكروا لهم تأثرهم العميق واضطرابهم ووجلهم من هذه الكلمات.

«الصاعقة» كما يقول الراغب في المفردات ، تعني الصوت المهيب في السماء ، ويشتمل على النّار أو الموت أو العذاب. (ولهذا السبب تطلق الصاعقة على الموت أحيانا ، وعلى النّار وفي أحيان اخرى).

والصاعقة ـ وفقا للتحقيقات العلمية الراهنة ـ هي شرارة كهربائية عظيمة تحدث بين مجموعة من الغيوم التي تحمل الشحنات الكهربائية الموجبة ، وبين الأرض التي تكون شحنتها «سالبة» وتصيب عادة قمم الجبال والأشجار وأي شيء مرتفع ، وفي الصحاري المسطحة تصيب الإنسان والأنعام ، كما أن حرارتها شديدة للغاية بحيث أنّها تحيل أي شيء تصيبه إلى رماد ، وتحدث صوتا مهيبا وهزّة أرضية قوية في المكان الذي تضربه.

__________________

(١) «الفاء» في «فإن اعرضوا» هي «فاء التفريع» كما قيل ، بناء على ذلك فإنّ هذا الإنذار الحاسم يعتبر فرعا ونتيجة للإعراض عن الآيات التوحيدية السابقة.

٣٦٨

الله تبارك وتعالى ـ كما تنص على ذلك آيات القرآن ـ عاقب بعض الأقوام الأشقياء من الأمم السابقة بالصاعقة.

والطريف هنا أنّ عالم اليوم برغم التقدم الهائل في العلوم ، بقي عاجزا عن اكتشاف وسيلة لمنع الصاعقة.

وسيبقى هذا السؤال : لماذا ذكر هنا قوم عاد وثمود من بين جميع الأقوام السابقة؟

السبب يعود إلى أنّ العرب كانوا على اطّلاع بخبر أولئك الأقوام ، وكانوا قد شاهدوا بأعينهم آثار مدنهم المدمّرة ، إضافة إلى أنّهم كانوا يعرفون أخطار الصواعق ، لأنّهم يعيشون في الصحراء والبادية.

يواصل الحديث القرآني سياقه بالقول :( إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) .

إنّ استخدام تعبير( مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ) هو إشارة إلى ما ذكرناه أعلاه من أنّ الأنبياء قد استخدموا جميع الوسائل والأساليب لهدايتهم ، وحاولوا طرق كلّ الأبواب حتى ينفذوا إلى قلوبهم المظلمة.

وقد يكون التعبير إشارة إلى الأنبياء الذين بعثوا خلال أزمنة مختلفة إلى هؤلاء الأقوام ، وطرحوا عليهم نداء التوحيد.

لكن لنرى ماذا كان جوابهم حيال هذه الجهود العظيمة الواسعة لرسل الله تعالى؟

يقول تعالى :( قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ) لإبلاغ رسالته بدلا من إرسال الناس.

والآن وما دام الأمر كذلك :( فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ) . وما جئتم به لا نعتبره من الله.

إنّ مفهوم هذا الكلام لا يعني إيمان هؤلاء بأنّ هؤلاء رسل الله حقّا ، و. أنّهم

٣٦٩

لا يؤمنون بهم ، وإنّما مفهوم الكلام رفض هؤلاء دعوة الرسل في أنّهم مبلغوا رسالات الله من الأساس ، حيث حملوهم على الكذب والادّعاء. (ذلك فإنّ جملة( بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ ) هي للاستهزاء أو السخرية ، أو أن يكون المقصود بها هو : طبقا لادعائكم بأنّكم رسل الله تبلغون عنه).

إنّها نفس الذريعة التي ينقلها القرآن مرارا على لسان منكري النبوات ورسالات الله ومكذبي الرسل ، من الذين كانوا يتوقعون أن يكون الأنبياء دائما ملائكة ، وكأنما البشر لا يستحقون مثل هذا المقام.

مثال ذلك قولهم في الآية (٧) من سورة الفرقان :( وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ) .

إنّ قائد البشر يجب أن يكون من صنف البشر ، كي يعرف مشاكل الإنسان واحتياجاته ويحس آلامهم ويتفاعل مع قضاياهم ، وكي يستطع أن يكون القدوة والأسوة ، لذلك يصرح القرآن في الآية (٩) من سورة «الأنعام» بقوله تعالى :( وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ) .

بعد المجمل الذي بينته الآيات أعلاه ، تعود الآيات الآن ـ كما هو أسلوب القرآن الكريم ـ إلى تفصيل ما أوجز من خبر قوم عاد وثمود ، فتقول :( فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ) .

إنّ هؤلاء القوم كانوا يعيشون في أرض «الأحقاف» من (حضرموت) جنوب الجزيرة العربية ، وكانوا يتصفون بوضع استثنائي فريد من حيث القوّة الجسمانية والمالية والتمدّن المادي ، فكانوا يبنون القصور الجميلة والقلاع المحكمة ، خاصة في الأماكن المرتفعة ، حيث يرمز ذلك إلى قدرتهم ويكون وسيلة لاستعلائهم.

لقد كانوا رجالا مقاتلين أشدّاء ، فأصيبوا بالغرور بسبب قدراتهم الظاهرية ومجدهم المادي ، حتى ظنّوا أنّهم أفضل من الجميع ، وأنّ قوّتهم لا تقهر ، ولذلك قاموا بتكذيب الرسل والإنكار عليهم ، وتكالبوا على نبيّهم «هود».

٣٧٠

لكن القرآن يرد على هؤلاء ودعواهم بالقول :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ) .

أليس الذي خلقهم خلق السماوات والأرض؟

بل هل يمكن المقايسة بين هاتين القدرتين ، فأين القدرة المحدودة الفانية من القدرة المطلقة اللامتناهية الأزلية؟!

ما للتراب وربى الأرباب(١) ؟!

تضيف الآية في النهاية قوله تعالى :( وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ ) .

نعم ، إنّ الإنسان الضعيف المحدود سوف يطغى بمجرّد أن يشعر بقليل من القدرة والقوة ، وأحيانا بدافع من جهله ، فيتوهم أنّه يصارع الله جلّ وعلا!!

لكن ما أسهل أن يبدل الله عوامل حياته إلى موت ودمار ، كما تخبرنا الآية عن مآل قوم عاد :( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) .

إنّ هذه الريح الصرصر ، وكما تصرح بذلك آيات اخرى ، كانت تقتلعهم من الأرض بقوّة ثمّ ترطمهم بها ، بحيث أصبحوا كأعجاز النخل الخاوية. (يلاحظ الوصف في سورة «القمر» الآية ١٩ ـ ٢٠ وسورة الحاقة الآية ٦ فما بعد).

لقد استمرت هذه الريح سبع ليال وثمانية أيّام ، وحطّمت كيانهم وكل وسائل عيشهم ، نكالا بما ركبوا من حماقة وعلوا وغرور ، ولم يبق منهم سوى أطلال تلك القصور العظيمة ، وآثار تلك الحياة المرفهة.

هذا في الدنيا ، وهناك في الآخرة :( وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى ) .

إنّ العذاب الأخروي هو في الواقع كالشرارة في مقابل بحر لجي من النّار.

__________________

(١) إنّ هذا التعبير يشبه في الواقع جملة : «الله أكبر» حيث تقوم بتعريف الله (جلّ وعلا) بأنّه أعظم وأكبر من جميع الموجودات ، ذلك أنّنا نعلم أن لا قياس بين الإثنين (التراب ورب الأرباب) ولكن الله يتحدّث إليها بلساننا ، لذلك نرى أمثال هذه الألفاظ والتعابير في كلامه تعالى

٣٧١

والأنكى من ذلك أن ليس هناك من ينصرهم :( وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ ) .

فبعد عمر من الجد والعمل في سبيل التظاهر بالعظمة والعلو ، يصيبهم الله تعالى بعذاب أذلهم في هذه الدنيا ، وفي العالم الآخر ينتظرهم ما هم أشد وأصعب!

«صرصر» : على وزن (دفتر) مشتقّة في الأصل من كلمة «صرّ» على وزن «شرّ» وتعني الغلق بإحكام ، لذا تستعمل كلمة «صرّه» للكيس الذي يحتوي على المال وهو مغلق بشكل جيّد. ثمّ أطلقت على الرياح الباردة جدا ، أو التي فيها صوت عال ، أو الرياح المسمومة القاتلة. وقد تكون الرياح العجيبة التي شملت قوم «عاد» تحمل كلّ هذه الصفات جميعا.

( أَيَّامٍ نَحِساتٍ ) تعني الأيام المشؤومة التي اعتبرها البعض بأنّها الأيّام المليئة بالتراب والغبار ، أو الأيّام الباردة جدا ، وهذه المعاني يمكن أن تكون مرادة من الآيات التي نحن بصددها.

لقد أشار أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام في خطب نهج البلاغة إلى قصة عاد ، كي تكون درسا أخلاقيا تربويا يتعظ منه الآخرون. يقولعليه‌السلام : «واتعظوا فيها بالذين قالوا : من أشدّ منّا قوّة؟ حملوا إلى قبورهم ، فلا يدعون ركبانا ، وأنزلوا الأجداث فلا يدعون ضيفانا ، وجعل لهم من الصفيح أجنان ، ومن التراب أكفان ، ومن الرفات جيران»(١) .

* * *

ملاحظتان

أوّلا : ما هي وسيلة فناء قوم عاد؟

وفقا للآية (١٣) من هذه السورة ، فإنّ قوم عاد وثمود أهلكوا بالصاعقة. في حين أنّ الآيات التي نبحثها تقول : إنّهم أبيدوا بالريح الصرصر العاتية ، فهل هناك

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة رقم (١١١).

٣٧٢

تعارض بين الاثنين؟

في الجواب ذكر المفسّرون وعلماء اللغة معنيين للصاعقة ، أحدهما عام ، والآخر خاص.

فالصاعقة بمعناها العام تعني أي شيء يهلك الإنسان ، وهي كما يقول العلّامة الطبرسي في مجمع البيان : «المهلكة من كلّ شيء».

أمّا المعنى الخاص ، فالصاعقة شرارة عظيمة من النّار تنزل من السماء ، وتحرق كلّ ما يوجد في طريقها ، كما وضحنا ذلك آنفا.

بناء على هذا ، لو كانت الصاعقة بالمعنى الأوّل فلا تعارض بينها وبين الرياح القوية.

يقول الراغب في المفردات : «قال بعض أهل اللغة : الصاعقة على ثلاثة أوجه : الموت كقوله :( فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ) وقوله :( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ ) والعذاب كقوله :( أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ) والنّار كقوله :( وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ ) وما ذكره فهو أشياء حاصلة من الصاعقة فإن الصاعقة هي الصوت الشديد من الجوّ ، ثمّ يكون منه نار فقط أو عذاب أو موت وهي في ذاتها شيء واحد وهذه الأشياء تأثيرات منها».

وثمة احتمال آخر ، هو أن قوم عاد قد شملهم نوعان من العذاب : الأوّل الرياح الشديدة التي دمّرت كلّ شيء والتي سلطها الله عليهم أيّاما عديدة ، ثم جاء بعد ذلك دور الصاعقة النّارية المميتة التي شملتهم بأمر الله.

لكن المعنى الأوّل يبدو أكثر تناسبا مع الموضوع ، خصوصا إذا لا حظنا الآيات الأخرى التي تتحدث عن عقاب قوم عاد وهلاكهم. (راجع الآيات في سورة الذاريات ـ آية ٤١ ، وسورة الحاقة ـ آية ٦ ، والقمر الآيتان (١٨) و (١٩)).

٣٧٣

ثانيا : أيام قوم عاد النحسة

البعض يعتقد أنّ أيّام السنة نوعان : أيّام نحسة مشؤومة ، وأيام سعيدة مباركة.

ويستدلون على ذلك بالآيات أعلاه ، فيقولون : هناك تأثيرات مجهولة تؤثر في الليالي والأيّام ، ونشعر نحن بآثار ذلك ، بينما أسبابها ما تزال مبهمة بالنسبة لنا.

وقال البعض : إنّ الأيام النحسة في الآية التي نبحثها هي الأيّام المملوءة بالتراب والغبار.

وقوم عاد قد أصيبوا بمثل هذه الرياح الشديدة بحيث باتوا لا يرى أحدهم الآخر ، كما تفيد ذلك الآيتان (٢٤ ـ ٢٥) من سورة «الأحقاف» في قوله تعالى :( فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ) .

وسوف نقوم ببحث مفصل حول مفهوم الأيّام النحسة والأيّام السعيدة ، في نهاية حديثنا عن الآية (١٩) من سورة القمر ، إن شاء الله تعالى.

* * *

٣٧٤

الآيتان

( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨) )

التّفسير

عاقبة قوم ثمود :

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن قوم عاد ، تبحث هاتان الآيتان في قضية قوم ثمود ومصيرهم ، حيث تقول : إنّ الله قد بعث الرسل والأنبياء لهم مع الدلائل البينة ، إلّا أنّهم :( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ) .

لذلك :( فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .

وهؤلاء مجموعة تسكن «وادي القرى» (منطقة بين الحجاز والشام) وقد وهبهم الله أراضي خصبة خضراء مغمورة ، وبساتين ذات نعم كثيرة وكانوا يبذلون الكثير من جهدهم في الزراعة. ولقد وهبهم الله العمر الطويل والأجسام القوية ، وكانوا مهرة في البناء القوي المتماسك ، حيث يقول القرآن عنهم في ذلك :( وَكانُوا

٣٧٥

يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ ) (١) .

لقد جاءهم نبيّهم بمنطق قوي وقلب ملؤه الحبّ ، ومعه المعاجز الإلهية ، إلّا أنّ هؤلاء القوم المغرورين المستعلين لم يرفضوا دعوته ـ وحسب ـ بل آذوه وأتباعه القليلين ، لذلك شملهم الله بعقابه في الدنيا ، ولن يغني ذلك عن عذاب الآخرة شيئا.

نقرأ في الآية (٧٨) من سورة الأعراف أنّهم أصيبوا بزلزلة عظيمة ، فبقيت أجسادهم في المنازل بدون حراك :( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ) .

وفي الآية (٥) من سورة الحاقة قوله تعالى بشأنهم :( فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ) .

أمّا الآية (٦٧) من سورة هود فتقول عنهم :( وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ) .

أمّا الآية التي نحن بصددها فقد استخدمت تعبير «صاعقة».

قد يتصور البعض أن هناك تعارضا بين هذه التعابير ، ولكن عند التدقيق يظهر أنّ الكلمات الأربع أعلاه (رجفة ، طاغية ، صيحة ، صاعقة) ترجع جميعا إلى حقيقة واحدة ، لأنّ الصاعقة ، ـ كم قلنا سابقا ـ لها صوت مخيف ، بحيث يمكن أن نسميها بالصيحة السماوية ، ولها أيضا نارا محرقة ، وهي عند ما تسقط على منطقة معينة تحدث هزّة شديدة ، وكذلك هي وسيلة للتخريب.

في الواقع إنّ البلاغة القرآنية تستوجب أن تبيّن الأبعاد المختلفة للعذاب الإلهي بتعابير مختلفة وفي سياق آيات عديدة كيما تخلّف أثرا عميقا في نفس الإنسان.

وهؤلاء القوم قد واجهتهم عوامل مختلفة للموت في إطار حادثة واحدة ، بحيث أن كلّ عامل لوحده يكفي لإبادتهم كالصيحة المميتة مثلا ، أو الهزة الأرضية

__________________

(١) الحجر ، الآية ٨٢.

٣٧٦

القاتلة ، أو النّار المحرقة ، وأخيرا الصاعقة المخفية.

ولكن قد يتساءل عن مصير الأشخاص الذين آمنوا بصالحعليه‌السلام بين هذه الأمواج القاتلة من الصواعق ، فهل احترقوا بنيران غيرهم؟

القرآن يجيبنا على ذلك بقول اللهعزوجل :( وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ) .

لقد أنجى هذه المجموعة إيمانها وتقواها ، بينما شمل العذاب تلك الكثرة الطاغية بسبب كفرها وعنادها ، والمجموعتان يمكن أن تكونا نموذجا لفئات من هذه الأمة.

قال بعض المفسّرين : لقد آمن بنبيّ الله صالح (١١٠) أشخاص من بين مجموع القوم ، ولقد أنقذ الله هؤلاء وأنجاهم في الوقت المناسب.

* * *

ملاحظة

أنواع الهداية الإلهية :

الهداية على نوعين : أوّلا «الهداية التشريعة» وهي تشمل إبانة الطريق والكشف عنه بجميع العلائم. ثمّ هناك «الهداية التكوينية» التي هي في واقعها إيصال إلى المطلوب أو الوصول إلى الهدف.

لقد تجمعت الهدايتان معا في الآيات التي نبحثها ، فالآيات تتحدث أولا عن هداية ثمود وهذه هي الهداية التشريعية التي استبانوا من خلالها الطريق.

ثم أضافت الآية عن وصف حالهم بأنّهم استحبوا العمى على الهدى ، وهذه هي عين الهداية التكوينية والتوصّل نحو الهدف.

وهكذا فإنّ الهداية بمعناه الأوّل قد تمّت من خلال بعثة الرسل والأنبياء ، أمّا الهداية بمعناها الثّاني والتي ترتبط بإرادة واختيار أي إنسان ، فلم تتمّ بسبب غرور

٣٧٧

القوم وتكبرهم وعلوهم ، لأنّهم :( فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ) .

إنّ هذا ـ بحدّ ذاته ـ دليل على مبدأ «حرية الإرادة الإنسانية» وعدم الجبر.

ولكن ـ برغم صراحة ووضوح الآيات ـ نرى أنّ بعض المفسّرين كالفخر الرازي يصرون على إنكار دلالة الآية ، وذكروا كلاما لا يليق بمنزلة الباحث المحقق ، وذلك بسبب ميولهم نحو عقيدة الجبر(١) !!

* * *

__________________

(١) يلاحظ الفخر الرازي في التّفسير الكبير في نهاية حديثه عن هذه الآية.

٣٧٨

الآيات

( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) )

التّفسير

كانت الآيات السابقة تتحدث عن الجزاء الدنيوي للكفار المغرورين والظالمين والمجرمين. أمّا الآيات التي نبحثها الآن فتتحدث عن العذاب الأخروي ، وعن مراحل مختلفة من عقاب أعداء الله.

يقول تعالى :( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ ) .

٣٧٩

وكي تتصل الصفوف ببعضها يتمّ تأخير الصفوف(١) حتى تلتحق بها الصفوف الأخرى :( فَهُمْ يُوزَعُونَ ) .

وحينذاك :( حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (٢) .

يا لهم من شهود؟ فأعضاء الإنسان تشهد بنفسها عليه ولا يمكن إنكار شهادتها ، لأنّها كانت حاضرة في جميع المشاهد والمواقف وناظرة لكل الأعمال ، وهي إذ تتحدث فبأمر الله تعالى.

وهنا يثار سؤال : هل تعني شهادة هذه الأعضاء من جسم الإنسان أنّ الله تبارك وتعالى يخلق فيها قدرة الإحساس والإدراك والشعور ، وبالتالي القدرة على الكلام؟

أم أنّ آثار الذنوب سوف تظهر في ذلك اليوم (يوم البروز) لأنّها مطبوعة عليها طوال عمر الإنسان ، كما نقول في تعبيراتنا الشائعة : إن صفحة وجهه تحكي وتخبر ما يخفيه فلان في سرّه؟

أو أنّ الأمر يكون كما في حال الشجرة التي أوجد الله تعالى فيها الصوت وأسمعه موسىعليه‌السلام ؟

في الواقع يمكن قبول كلّ هذه التفاسير ، وقد جاءت مبثوثة في تفاسير المفسّرين.

طبعا لا يوجد مانع من أن يقوم تعالى بخلق الإدراك والشعور في الأعضاء ، فتشهد في محضر الله تعالى عن علم ومعرفة ، خصوصا وأن ظاهر الآيات يشير للوهلة الأولى إلى هذا المعنى. وهو ما يعتقده البعض فيما يخص تسبيح وحمد

__________________

(١) «يوزعون» من «وزع» وهي بمعنى المنع ، وعند ما تستخدم للجنود أو الصفوف الأخرى ، فإن مفهومها يعني أن يبقى المجموع إلى أن يلتحق بهم آخر نفر.

(٢) «ما» في قوله تعالى :( إِذا ما جاؤُها ) زائدة ، وهي هنا للتأكيد.

٣٨٠

وسجود ذرات العالم وكائنات الوجود بين يدي الله تبارك وتعالى.

والمعنى الثّاني محتمل أيضا لأننا نعلم أنّ أي كائن في هذا العالم لا يفنى من الوجود ، وأنّ آثار أقوالنا وأفعالنا سوف تبقى في أعضائنا وجوارحنا ، ومن الطبيعي أن تعتبر «الشهادة التكوينية» هذه من أوضح الشهادات وأجلاها ، إذ لا مجال لإنكارها ، كما في اصفرار الوجه ـ الذي يعتبر عادة دليلا ـ على الخوف لا يمكن إنكاره ، واحمراره دليل على الغضب أو الخجل.

وإطلاق النطق على هذا المعنى يكون مقبولا أيضا.

أمّا الاحتمال الأخير في أن تنطق الأعضاء بإذن الله تعالى دون أن يكون لها شعور بذلك أو يظهر منها اثر تكويني ، فإنّ ذلك بعيد ظاهرا ، لأنّه في مثل هذه الحالة لا تعتبر الحالة مصداقا للشهادة التشريعية ولا مصداقا للشهادة التكوينية ، فلا عقل هناك ولا شعور ، ولا الأثر الطبيعي للعمل ، وسوف تفقد قيمة الشهادة في المحكمة الإلهية الكبرى.

ومن الضروري الانتباه إلى أنّ قوله تعالى :( حَتَّى إِذا ما جاؤُها ) يبيّن أنّ شهادة أعضاء الإنسان تتمّ في محكمة النّار ، فهل مفهوم ذلك أنّ الشهادة تتمّ في النّار ، في حين أنّ النّار هي نهاية المطاف ، أم أنّ المحكمة تنعقد بالقرب من النّار؟

الاحتمال الثّاني هو الأقرب كما يظهر.

ثمّ ما هو المقصود من (جلود) بصيغة الجمع؟

الظاهر أنّ المقصود بذلك هو جلود الأعضاء المختلفة للجسم ، جلد اليد والرجل والوجه وغير ذلك.

أمّا الروايات التي تفسّر ذلك بـ «الفروج» فهي في الحقيقة من باب بيان المصداق ، وليس حصر مفهوم الجلود في ذلك.

ومن جانب آخر ربّ سائل يسأل : لماذا تشهد العين والأذن والجلود فقط ، دون أعضاء الجسم الأخرى؟ وهل الشهادة مقتصرة على هذه الأعضاء ، أو أنّ

٣٨١

هناك أعضاء اخرى تشهد؟

ما نستفيده من الآيات القرآنية الأخرى أنّ هناك أعضاء اخرى في جسم الإنسان تشهد عليه ، إذ نقرأ في الآية (٦٥) من سورة «يس» قوله تعالى :( وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .

وفي الآية (٢٤) من سورة «النور» قوله تعالى :( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ ) .

وهكذا يتضح أنّ هناك أعضاء اخرى تقوم بالإدلاء بالشهادة ، إلّا أنّ ما تذكره الآية التي بين أيدينا من أعضاء تعتبر في الدرجة الأولى ، لأنّ معظم أعمال الإنسان تتم بمساعدة العين والأذن ، وإنّ الجلود هي أول من يقوم بملامسة الأعمال.

المجرمون يستغربون هذه الظاهرة ، وآية استغرابهم قوله تعالى :( وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا ) .

لسان حالهم يقول : لقد كنّا لسنين مديدة نحافظ عليكم من الحر والبرد ونعتني بنظافتكم ، فلما ذا أنتم هكذا؟

وفي الجواب يقولون :( قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) .

لقد أعطانا الله مهمّة القيام بالشهادة على أعمالكم في هذه المحكمة العظيمة ، ولا نملك نحن سوى الطاعة ، فالذي أعطى غيرنا من الكائنات قابلية النطق أعطانا ـ أيضا ـ هذه القابلية(١) .

والطريف هنا أن أولئك يسألون جلودهم دون باقي الأعضاء من الشهود كالعين والأذن.

__________________

(١) هذا التّفسير وارد عند ما يكون معنى الآية :( أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) ناطق ولكن يحتمل أن يكون معنى أنطق كل شيء بالمعنى المطلق ، بمعنى أنّ الله الذي أنطق جميع الموجودات ، وهو يكشف عن جميع الأسرار اليوم ، هو الذي أنطقنا ، فلا تتعجبوا من كلامنا فجميع كائنات العالم ستنطق في هذا اليوم.

٣٨٢

قد يكون السبب في ذلك أنّ شهادة الجلود هي أغرب وأعجب من جميع الأعضاء الأخرى ، وأوسع منها جميعا ، فتلك الجلود التي يجب عليها أن تذوق طعم العذاب الإلهي ـ قبل غيرها من الأعضاء ـ تقوم بمثل هذه الشهادة ، وهذا الأمر محيّر حقّا!

ثم تستمر الآية بقوله تعالى :( وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

ومرة اخرى تضيف :( وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ ) .

وإنّ سبب إخفائكم لأعمالكم هو :( وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ ) .

كنتم غافلين عن أنّ الله يسمع ويرى ، يشهد أعمالكم في كلّ حال ومكان ، ويعلم أسراركم ما بطن منها وما ظهر ، ثمّ هناك عناصر الرقابة التي ترافقكم وهي معكم في كلّ مكان ، فهل تستطيعون إنجاز عمل مخفي عن أعينكم وآذانكم وجلودكم؟

إنّكم في قبضة القدرة الإلهية وتحت نظر الشهود المستترين والظاهرين حتى أدوات ذنبكم تشهد ضدكم؟!

يروي المفسّرين أنّ الآية أعلاه نزلت في ثلاثة نفر من كفار قريش وطائفة من بني ثقيف ذوي بطون كبيرة ورؤوس صغيرة اجتمعوا بجوار الكعبة وهم يتسارّون ، فقال أحدهم : أتظنون أن الله يسمع كلامنا وحديثنا هذا؟

فأجاب آخر : تكلّم بهدوء واخفض صوتك ، فإذا تحدثنا بصوت عال فهو (أي الله جلّ جلاله) يسمعه ، وإذا خفضنا أصواتنا فلا يسمعنا.

فقال الثّالث : إذا كان الله يسمع الكلام العالي فهو حتما يسمع الصوت الضعيف أيضا.

٣٨٣

وهنا نزلت الآية الكريمة :( وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ ) (١) .

ثم يقول تعالى :( وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ ) (٢) (٣) .

هل أن هذا الحديث هو من قبل الله تعالى ، وأن كلام الأعضاء والجوارح ينتهي إلى قوله تعالى :( أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) ، أم أنّ ما يليه استمرار له؟

المعنى الثّاني يبدو أكثر توافقا ، وعبارات الآية تتلاءم معه أكثر ، بالرغم من أن أعضاء الجسم وجوارحه إنّما تتحدث هنا بأمر الله تعالى وبإرادته ، والمعنى في الحالتين واحد تقريبا.

* * *

بحثان

الأوّل : حسن الظن وسوء الظن بالله تعالى

توضح الآيات بشكل قاطع خطورة سوء الظن بالله تعالى ، ومآل ذلك إلى الهلاك والخسران.

وبعكس ذلك فإنّ حسن الظن بالله تعالى سبب للنجاة في الدنيا والآخرة.

وفي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام يقول : «ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفا كأنّه يشرف على النّار ، ويرجوه رجاء كأنّه من أهل الجنّة ، إنّ الله تعالى يقول :( وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ ) ثم قال : إنّ الله عند ظن عبده ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر»(٤) .

__________________

(١) نقل هذه الحادثة (باختلاف) الكثير من المفسّرين ، منهم : القرطبي ، الطبرسي ، الفخر الرازي ، الألوسي ، المراغي ، وكذلك نقل الحادثة كلّ من البخاري ومسلم والترمذي ، وما أوردناه أعلاه مأخوذ عن القرطبي مع التصرّف. المجلد الثامن ، صفحة ٥٧٩٥.

(٢) «ذلكم» مبتدأ و (ظنكم) خبر له. لكن البعض احتمل أنّ (ظنكم) بدل و (أرداكم) خبر (ذلكم).

(٣) «أرداكم» من «ردى» على وزن «رأى» وتعني الهلاك.

(٤) عن مجمع البيان نهاية تفسير الآية مورد البحث.

٣٨٤

وروي عن الصادقعليه‌السلام عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ الله إذا حاسب الخلق يبقى رجل قد فضلت سيئاته على حسناته ، فتأخذه الملائكة إلى النّار وهو يلتفت ، فيأمر الله بردّه ، فيقول له : لم التفت؟ ـ وهو تعالى أعلم به ـ فيقول : يا ربّ ما كان هذا ظنّي بك ، فيقول الله تعالى : يا ملائكتي! وعزّتي وجلالي والائي وعلوي وارتفاع مكاني ، ما ظن بي عبدي هذا ساعة من خير قط ، ولو ظنّ بي ساعة من خير ما ودعته بالنّار ، أجيزوا له كذبه وأدخلوه الجنّة». ثمّ أضاف رسول الله : ليس من عبد يظن باللهعزوجل خيرا إلّا كان عند ظنّه به وذلك قولهعزوجل :( وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ ) (١) .

الثّاني : الشهود في محكمة القيامة

عند ما تقول : إنّ جميع الناس سيحاكمون في العالم الآخر ، فقد يتبادر إلى الذهن أنّ المحكمة هناك تشبه محاكم هذه الدنيا ، إذ سيحضر كلّ فرد أمام القاضي وبيده ملفه ، وثمّة شهود في القضية ، ثمّ يبدأ السؤال والجواب قبل أن يصدر الحكم النهائي.

وقد أشرنا مرارا إلى أنّ الألفاظ سيكون لها مفهوم أعمق في ذلك العالم بحيث يصعب أو يستحيل علينا تصوّر مداليلها ، لأننا سجناء هذه الدنيا ومقاييسها.

ولكن نستطيع ـ مع ذلك ـ أن نقترب من بعض حقائق العالم الآخر من خلال ما نستفيده من الآيات القرآنية والأحاديث المروية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة المسلمين من أهل بيتهعليهم‌السلام ، وتبيّن لنا آثار عن عظمة وعمق الحياة في ذلك العالم ومحكمة يوم البعث ، ولو بشكل إجمالي.

فمثلا عند ما يقال : «ميزان الأعمال» قد ينصرف الذهن إلى المعنى الذي نتصوّر فيه أعمالنا في ذلك اليوم خفيفة أو ثقيلة ، حيث توزن في ميزان ذي كفتين.

__________________

(١) عن تفسير علي بن إبراهيم كما نقل عنه تفسير نور الثقلين ، المجلد الرابع ، صفحة ٥٤٤.

٣٨٥

ولكن عند ما نقرأ في روايات المعصومينعليهم‌السلام أنّ أمير المؤمنين عليعليه‌السلام هو ميزان الأعمال ، بمعنى أنّ قيمة الأعمال وشخصية الأفراد ستقاس بمقياس يكون مركزه شخصيا الإمام العظيم وبمقدار مشابهة الإنسان لسلوك هذا الإمام العظيم واقترابه منه سيكون له وزن أكثر ، وبمقدار بعده عنه سيكون خفيفا في ميزان أعماله وحسابه.

ومن خلال هذا المعنى نفهم ماذا يعني ميزان الأعمال هناك.

وفي مسألة «الشهود» فإنّ الآيات القرآنية تكشف لنا الستار ـ كذلك ـ عن حقائق اخرى ، إذ يتبيّن أنّ مفهوم الشهود هناك يختلف عن شهود محاكم هذه الدنيا.

وفي قضية الشهود ـ بالذات ـ نستفيد من آيات القرآن الكريم أنّ هناك ستة أنواع من الشهود في تلك المحكمة :

١ ـ أنّ أول الشهود وأعلاهم شأنا هو الذات الإلهية الطاهرة :( وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ) (١) .

إنّ شهادة الله تكفي لكل شيء ، إلّا أنّ مقتضى اللطف الإلهي والعدالة الربوبية تستوجب أن يضع تعالى شهودا آخرين.

٢ ـ الأنبياء والأوصياء : يقول القرآن الكريم :( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ) (٢) .

ونقرأ في حديث ورد في (الكافي) عن الإمام الصادقعليه‌السلام حول نزول هذه الآية وهو قولهعليه‌السلام : «نزلت في أمّة محمّد خاصة ، في كلّ قرن منهم إمام منّا ، شاهد

__________________

(١) يونس ، الآية ٦١.

(٢) النساء ، الآية ٤١.

٣٨٦

عليهم ومحمّد شاهد علينا»(١) .

٣ ـ شهادة اللسان واليد والرجل والعين والاذن : كما في قوله تعالى :( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (٢) .

ومن الآية التي نحن بصددها نستفيد أنّ العين والأذن هما من قائمة الشهود أيضا ، ونستفيد كذلك من بعض الرّوايات أنّ كلّ أعضاء الجسم ستقوم بدورها بالشهادة على الأعمال التي قامت بها(٣) .

٤ ـ شهادة الجلود : لقد تحدثت الآيات التي نحن بصددها عن هذا الموضوع بصراحة ، بل وأضافت أنّ المذنبين لم يكونوا يتوقعون أن تشهد عليهم جلودهم ، فخاطبوها بالقول :( لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا ) ؟ فيأتي الجواب من جلودهم :( أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (٤) .

٥ ـ الملائكة : يقول تعالى :( وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ ) (٥) . ومفهوم الآية الكريمة أنّ كلّ إنسان يحشر إلى القيامة ، يكون معه ملك يسوقه نحو الحساب وتشهد الملائكة عليه.

٦ ـ الأرض : إنّ الأرض التي تحت أقدامنا ، وتؤمن لنا مختلف البركات والنعم ، تقوم أيضا بمراقبتنا بدقّة ، وتحدّث في ذلك اليوم ما كان منّا عليها ، يقول تعالى :( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها ) (٦) .

٧ ـ شهادة الزمان : بالرغم من عدم إشارة نصوص الآيات القرآنية إلى هذه الشهادة ، ولكن نستفيد هذه الشهادة من أحاديث الأئمة المعصومينعليهم‌السلام ، فعن أمير

__________________

(١) أصول الكافي ، المجلد الأول ، صفحة ١٩٠

(٢) النور ، الآية ٢٤.

(٣) لئالي الأخبار ، صفحة ٤٦٢.

(٤) فصلت ، الآية ٢١.

(٥) سورة ق ، الآية ٢١.

(٦) الزلزال ، الآية ٤.

٣٨٧

المؤمنين علي بن أبي طالب قولهعليه‌السلام : «ما من يوم يمرّ على ابن آدم إلّا قال له ذلك اليوم : يا ابن آدم! أنا يوم جديد ، وأنا عليك شهيد ، فقل فيّ خيرا واعمل فيّ خيرا ، أشهد لك يوم القيامة»(١) .

ما أعجب هذه الشهود التي تشهد علينا في تلك المحكمة! إنّه خليط عجيب من الملائكة وأعضاء الجسم والأنبياء والأوصياء ، والأعظم من ذلك هي شهادة الله تبارك وتعالى علينا الذي يسمع ويرى ويحيط علمه بكل شيء ، فيراقب أعمالنا ويشهد علينا لكنّا لا نبالي!!؟

ألا يكفي الإيمان بوجود مثل هؤلاء الشهود أن يسير الإنسان في طريق الحق والعدالة والتقوى والنزاهة!؟

* * *

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلد الثّاني ، مادة يوم.

٣٨٨

الآيتان

( فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥) )

التّفسير

قرناء السوء :

في أعقاب البحث السابق الذي تحدثت في الآيات الكريمة عن مصير «أعداء الله» جاءت الآيتان أعلاه لتشيران إلى نوعين من العقاب الأليم الذي ينتظر هؤلاء في الدنيا والآخرة.

يقول تعالى :( فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ) (١) ولا يمكنهم الخلاص منها لأنّها مصيرهم سواء صبروا أو لم يصبروا.

«مثوى» من «ثوى» على وزن «هوى» وتعني المقر ومحل الاستقرار.

والآية الكريمة هذه تشبه الآية (١٦) من سورة «الطور» حيث قوله تعالى :

__________________

(١) يكون التقدير هكذا : «فإن يصبروا أو لا يصبروا فالنار مثوى لهم».

٣٨٩

اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ ) .

وكذلك تشبه الآية (٢١) من سورة «إبراهيم» حيث قوله تعالى :( سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ ) .

وللتأكيد على هذا الأمر تضيف الآية :( وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ) .

«يستعتبون» مأخوذه في الأصل من (العتاب) وتعني إظهار الخشونة ، ومفهوم ذلك أنّ الشخص المذنب سيستسلم للوم صاحب الحق كي يعفو عنه ويرضى عنه ، لذلك فإنّ كلمة (استعتاب) تعني الاسترضاء وطلب العفو(١) .

ثم تشير الآية الثانية إلى العذاب الدنيوي لهؤلاء فتقول :( وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ) حيث قام هؤلاء الجلساء بتصوير المساوئ لهم حسنات.

«قيضنا» من (قيض) على وزن (فيض) وتعني في الأصل قشرة البيضة الخارجية ، ثمّ قيلت لوصف الأشخاص الذين يسيطرون على الإنسان بشكل كامل ، كسيطرة القشرة على البيضة.

وهذه إشارة إلى أنّ أصدقاء السوء والرفاق الفاسدين يحيطون بهم من كل مكان ، حيث يصادرون أفكارهم ، ويهيمنون عليهم بحيث يفقدون معه قابلية الإدراك والإحساس المستقل ، وعندها ستكون الأمور القبيحة السيئة جميلة حسنة في نظرهم ، وبذلك ينتهي الإنسان إلى الوقوع في مستنقع الفساد وتغلق بوجهه أبواب النجاة.

في بعض الأحيان تستخدم كلمة «قيضنا» لتبديل شيء مكان شيء آخر ، ووفقا لهذا المعنى سيكون مقصود الآية ، هو أنّنا سنأخذ منهم الأصدقاء الصالحين ونسلب منهم رفاق الخير ، لنبدلهم بأصدقاء السوء والقرناء الفاسدين.

لقد ورد فهذا المعنى بشكل أوضح في الآيتين (٣٦ ـ ٣٧) من سورة «الزخرف»

__________________

(١) يلاحظ «مفردات الراغب» و «لسان العرب» في مادة «عتب».

٣٩٠

في قوله تعالى :( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) .

إنّ التمعّن بالمجتمعات الفاسدة والفئات المنحرفة الضالة ينتهي بنا ـ بسهولة ـ إلى اكتشاف آثار أقدام الشياطين في حياتهم ، إذ يحاصرهم رفاق السوء وقرناء الشر من كلّ جانب وصوب ، ويسيطرون على أفكارهم ويقلبون لهم الحقائق.

قوله تعالى :( ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ) لعله إشارة لإحاطة الشياطين من كل جانب وتزيين الأمور لهم.

وقيل أيضا في تفسيرها أنّ( ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ) إشارة إلى لذات الدنيا وزخارفها ،( وَما خَلْفَهُمْ ) هو إنكار القيامة والبعث.

وقد يكون( ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ) إشارة إلى وضعهم الدنيوي( وَما خَلْفَهُمْ ) إلى المستقبل الذي سينتظرهم وأبناءهم ، إذ عادة ما يرتكب هذه الجرائم تحت شعار تأمين المستقبل.

وبسبب هذا الوضع تضيف الآية بأن الأمر الالهي صدر بعذابهم وان مصيرهم هو مصير الأمم السالفة :( وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ) (١) .

ثم تنتهي الآية بقوله تعالى :( إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ ) .

إنّ هذه الآيات تعتبر ـ في الواقع ـ الصورة المقابلة والوجه الآخر ، وسوف تتحدث الآيات القادمة عن المؤمنين الصالحين المنصورين في الدنيا والآخرة بالملائكة التي تبشرهم بكل خير ، وتكشف عنهم الغم والحزن.

* * *

__________________

(١) «في أمم» متعلقة بفعل محذوف ، وفي التقدير تكون الجملة : «كائنين في أمم قد خلت». ومن المحتمل أن تكون «في» هنا بمعنى «مع».

٣٩١

الآيات

( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩) )

التّفسير

الضجيج في مقابل صوت القرآن!!

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن الأقوام الماضين كقوم عاد وثمود ، وتحدثت عن جلساء السوء وقرناء الشر ، تتحدث المجموعة التي بين أيدينا من الآيات البينات عن جانب من جوانب الانحراف لمشركي عصر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقد ورد في بعض الرّوايات أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أن يرفع صوته في مكّة ليتلو القرآن بصوته الجميل وأسلوبه الخاشع ، حتى كان المشركون يقومون بإبعاد الناس

٣٩٢

عنه ويقولون : أطلقوا الصفير وارفعوا أصواتكم بالشعر حتى لا تسمعوا كلامه(١) ! القرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى في هذه الآيات ، حيث يقول :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) .

هذا الأسلوب في مواجهة تأثير الحق ونفوذه بالرغم من كونه أسلوبا قديما ، إلّا أنّه يستخدم اليوم بشكل أوسع وأخطر لصرف أفكار الناس وخنق أصوات المنادين بالحق والعدالة ، فهؤلاء يقومون بملء المجتمع بالضوضاء حتى لا يسمع صوت الحق. ومع الالتفات الى أن معنى كلمة «والغوا» المشتقة من «لغو» لها معنى واسع يشمل أي كلام فارغ ، ندرك جيدا سعة هذا المنهج المتبع.

فتارة يتمّ اللغو بواسطة الضجة والضوضاء والصفير.

واخرى بواسطة القصص الكاذبة والخرافية.

وثالثة بواسطة قصص الحب والعشق المثيرة للشهوات!

وقد يتجاوز مكرهم مرحلة القول فيقومون بتأسيس مراكز خاصة بالفساد وأنواع الأفلام المبتذلة والمطبوعات المنحرفة الرخيصة ، ، والألاعيب السياسية الكاذبة والمثيرة ، إنّهم يعمدون إلى الاستعانة بأي أسلوب يؤدي إلى حرف أفكار الناس واهتماماتهم عن الحق.

والانكى من ذلك طرح بعض البحوث والقضايا الفارغة التافهة في الاوساط العلمية لتثأر حولها ضجة تهيمن على اهتمامات الناس ووعيهم ، وتصدّهم عن التفكير بالقضايا الأساسية والأمور المهمّة.

لكن هل استطاع المشركون التغلّب على القرآن الكريم بأعمالهم هذه؟! لقد عمّهم الفناء وذهبت أساليبهم الشريرة ادراج الرياح ، وامتد القرآن واتسع في تأثيره حتى استوعب أرجاء الدنيا.

الآية الأخرى تشير إلى عذاب هؤلاء فتقول :( فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً

__________________

(١) تفسير المراغي ، المجلد ٢٤ ، صفحة ١٢٥ ، وتفسير روح المعاني ، المجلد ٢٤ ، أيضا ، صفحة ١٠٦.

٣٩٣

شَدِيداً ) خاصة أولئك الذين يمنعون الناس من سماع آيات الله.

وهذا العذاب يمكن أن يشملهم في الدنيا بأن يقتلوا على أيدي أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو يقعوا في أسرهم ، وقد يكون في الآخرة ، أو يكون العذاب في الدنيا والآخرة معا.

قوله تعالى :( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

فهل لهؤلاء عمل أسوأ من الكفر والشرك وإنكار آيات الله ومنع الناس وصدّهم عن سماع كلام الحق؟

لكن لماذا أشارت الآية إلى «أسوأ» بالرغم من أنّهم يرون جزاء كلّ أعمالهم؟ قد يكون هذا التعبير للتأكيد على موضوع الجزاء والتهديد به بيان حديثه ، وفيه إشارة لمنعهم الناس عن سماع كلام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

كما أنّ قوله تعالى :( كانُوا يَعْمَلُونَ ) دليل على أنّه سيتمّ التأكيد على الأعمال التي كانوا يقومون بها دائما ، وبعبارة اخرى : إنّ ما يعملونه لم يكن أمرا مؤقتا بل كانت سنتهم وسيرتهم الدائمة.

وللتأكيد على قضية العذاب ، يأتي قوله تعالى :( ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ ) (١) .

وهذه النّار ليست مؤقتة زائلة بل :( لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ ) نعم ، فذلك :( جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ ) (٢) .

إنهم لم ينكروا الآيات الإلهية وحسب ، بل منعوا الآخرين من سماعها.

«يجحدون» من «جحد» على وزن «عهد» وتعني في الأصل كما يرى «الراغب» في «المفردات» : إلغاء ونفي شيء ثابت في القلب ، أو إثبات شيء منفي في القلب. أو هو بعبارة اخرى : إنكار الحقائق مع العلم بها ، وهذا من أسوأ أنواع

__________________

(١) «النّار» يمكن أن تكون «عطف بيان» أو «بدل» لـ «جزاء» أو أن تكون (خيرا لمبتدأ محذوف) والتقدير هو النّار».

(٢) «جزاء» يمكن أن تكون مفعولا لفعل محذوف تقديره «يجزون جزاء» أو أن تكون مفعولا لأجله.

٣٩٤

الكفر (راجع نهاية الآية (١٤) من سورة النمل).

إنّ الإنسان عند ما يصاب ببلاء معين ، خاصة إذا كان بلاء شديدا ، فإنّه يفكر بمسببه الأصلي كي يعثر عليه وينتقم منه ، وأحيانا يود تقطيعه قطعة قطعة إذا استطاع ذلك.

لذلك تشير الآية التالية إلى هذا المعنى الذي سيشمل الكفار وهم في الجحيم فيقول :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ) .

إنّ أولئك كانوا ينهونا عن سماع قول النّبي وكانوا يقولون : إنّه ساحر مجنون ، ثم كانوا يكثرون من اللغو حتى لا نسمع صوته وكلامه ، وبدلا عن ذلك كانوا يشغلوننا بأساطيرهم وأكاذيبهم.

أمّا الآن وقد فهمنا أن كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو روح الحياة الخالدة ، وأنّ نغمات صوته حياة النفوس الميتة ، ولكن «ولات ساعة ندم».

لا ريب أنّ المقصود من الجن والإنس ـ في الآية هم الشياطين ، والناس الذين يقومون بالغواية مثل الشياطين ، وليس هما شخصان معينان.

ولا مانع من تثنية الفعل عند ما يكون الفاعل مجموعتان ، كما في قوله تعالى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

قال بعض المفسّرين في تفسير قوله تعالى :( لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ) : المقصود أنّ المضلين من الجن والإنس سيكونون في أسفل درك من الجحيم ، ولكن الأظهر منه أنّ شدة غضبهم يدفعهم إلى وضع من أغواهم تحت أقدامهم ليركلونهم ويكونوا في أدنى مقام في مقابل ما كان لهم من مقام ومكانة عليا في الحياة الدنيا.

* * *

٣٩٥

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) )

التّفسير

نزول الملائكة على المؤمنين الصامدين :

يعتمد القرآن الكريم في أسلوبه وضع صور متقابلة ومتعارضة للحالات التي يتناولها كي يوضحها بشكل جيد من خلال المقايسة والمقارنة فبعد أن تحدث عن المنكرين المعاندين الذين يصدون عن آيات الله ، وأبان جزاءهم وعقوبتهم ، بدأ الآن (في الصورة المقابلة) في الحديث عن المؤمنين الراسخين في إيمانهم ، وأشار إلى سبعة أنواع من الثواب الذي يشملهم جزاء ومثوبة لهم.

يقول تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا ) .

٣٩٦

إنّه تعبير جميل وشامل يتضمّن كلّ الخير والصفات الحميدة ، فأولا يوجّه القلب إلى الله ويوثق الإيمان به تعالى ويقويه ، ثمّ سيطرة هذا الإيمان وهيمنته على كلّ مرافق الحياة ، وثبات السير في هذا الطريق ، طريق الاستقامة(١) .

هناك الكثير من الذين يدّعون محبة الله ، إلّا أنّنا لا نرى الاستقامة واضحة في عملهم وسلوكهم ، فهم ضعفاء وعاجزون بحيث عند ما يشملهم طوفان الشهوة يودّعون الإيمان ويشركون في عملهم ، وعند ما تكون منافعهم في خطر يتنازلون عن إيمانهم الضعيف ذلك.

ففي حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه بعد أن تلا الآية قال : «قد قالها الناس ثمّ كفر أكثرهم فمن قالها حتى يموت فهو ممن استقام عليها»(٢) .

وفي نهج البلاغة يفسّر الإمام عليعليه‌السلام هذه الآية بعبارات حيّة وناطقة عميقة المعنى يقولعليه‌السلام : «وقد قلتم «ربنا الله» فاستقيموا على كتابه ، وعلى منهاج أمره ، وعلى الطريقة الصالحة من عبادته ، ثمّ لا تمرقوا منها ، ولا تبتدعوا فيها ، ولا تخالفوا عنها»(٣) .

وفي مكان آخر نرى أنّ الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام أجاب في تفسير معنى الاستقامة بقوله : «هي والله ما أنتم عليه»(٤) .

وهذا لا يعني أنّ الاستقامة تختص بالولاية فقط ، بل إنّ قبول قيادة أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام سيضمّن بقاء خط التوحيد ، والطريق الإسلامي الأصيل ، واستمرار العمل الصالح ، وهذا هو تفسيرهعليه‌السلام لمعنى الاستقامة.

وخلاصة القول أن قيمة الإنسان هي بالإيمان والعمل الصالح ، وهذه القيمة

__________________

(١) «استقاموا» من «الاستقامة» وتعني الثبات على الطريق المستقيم الخط الصحيح. وفسرها بعض علماء اللغة بمعنى «الاعتدال» ولا يستبعد الجمع بين المعنيين.

(٢) مجمع البيان في نهاية الحديث عن الآية.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة رقم ١٧٦.

(٤) مجمع البيان في نهاية الحديث عن الآية.

٣٩٧

يتحدث عنها الله تبارك وتعالى بقوله :( قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ) .

لذلك فقد روي أنّ رجلا جاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له : أخبرني بأمر أعتصم به؟ فقال رسول الله : «قل ربّي الله ثمّ استقم».

ثم سأل الرجل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أخطر شيء ينبغي عليه أن يخشاه. فمسك رسول الله لسانه وقال : هذا(١) .

والآن لنر ما هي المواهب الإلهية التي سيشمل من يتمسك بهذين الأصلين؟ القرآن الكريم يشير إلى سبع مواهب عظيمة تبشرهم ملائكة الله بها عند ما تهبط عليهم. ففي ظل الإيمان والاستقامة يصل الإنسان إلى مرحلة بحيث تنزل عليه الملائكة وتعلمه.

فبعد البشارتين الأولى والثانية والمتمثلتين بعدم (الخوف) و (الحزن) تصف الآية المرحلة الثّالثة بقوله تعالى :( وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) .

والبشارة الرّابعة يتضمّنها قوله تعالى :( نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ) فلن نترككم وحيدين ، بل نعينكم في الخير وتعصمكم عن الانحراف حتى تدخلوا الجنّة.

والبشارة الخامسة قوله تعالى :( وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ ) أي في الجنّة.

أمّا البشارة السادسة فلا تختص بالنعم المادية وما تريدونه. بل الاستجابة إلى العطايا والمواهب المعنوية :( وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ ) .

أمّا البشارة السابعة والأخيرة فهي أنّكم ستحلون ضيوفا لدى البارئعزوجل وفي جنته الخالدة ، وستقدم لكم كلّ النعم تماما مثلما يتمّ الترحيب بالضيف العزيز من قبل المضيف :( نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ) .

* * *

__________________

(١) روح البيان ، المجلد الثامن ، صفحة ٢٥٤.

٣٩٨

ملاحظات

في طيات هذه الآيات المبينة ، والتعابير القرآنية القصيرة البليغة ذات المعاني الكبيرة ، ثمّة ملاحظات دقيقة ولطيفة نقف عليها من خلال النقاط الآتية :

١ ـ هل نزول الملائكة على المؤمنين المستقيمين يتمّ أثناء الموت والانتقال من هذا العالم إلى العالم الآخر ، كما يحتمل ذلك بعض المفسّرين ، أم أن نزولهم يكون في ثلاثة مواطن ، عند (الموت) وعند (دخول القبر) وعند (الإحياء والبعث والنشور) ، أو إنّ هذه البشائر تكون دائمة ومستمرة ، وتتمّ بواسطة الإلهام المعنوي ، حيث تستقر الحقائق في أعماق المؤمنين بالرغم من أنّها في لحظة الموت ولحظة الحشر تكون بشائر الملائكة أجلى وأوضح؟

يبدو أن المعنى الأخير أنسب ، وذلك لعدم وجود قيد أو شرط في الآية.

ويؤيد ذلك أنّ الملائكة تقول في البشارة الرّابعة :( نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ) وهذا دليل على أنّ المؤمنين من ذوي الاستقامة يسمعون هذا الكلام من الملائكة في الدنيا عند ما يكونون أحياء ، إلّا أنّ ذلك لا يكون باللسان واللفظ ، بل يسمعون ذلك بأذان قلوبهم بما يشعرون به من هدوء واستقرار وسكينة وإحساس كبير بالراحة عند المشاكل والصعاب.

صحيح أنّ بعض الروايات قيدت نزول الملائكة وحضورهم عند الموت ، إلّا أن ثمّة روايات اخرى إشارات إلى معنى أوسع يشمل الحياة أيضا(١) .

ويمكن أن نستنتج من مجموع الروايات أنّ ذكر خصوص الموت هو بعنوان المصداق لهذا المفهوم الواسع ، ونعرف هنا أنّ التفاسير الواردة في الروايات غالبا ما توضح المصاديق.

إنّ بشائر الملائكة ستشع في أرواح المؤمنين وأعماق ذوي الاستقامة حتى تهبهم القوّة والقدرة على مواجهة أعاصير الحياة ومشقاتها ، وتثبّت أقدامهم من

__________________

(١) يمكن ملاحظة ذلك في نور الثقلين ، المجلد الرابع ، الصفحات ٥٤٦ و ٥٤٧ الروايات رقم : ٣٨ ـ ٤٠ ـ ٤٥ ـ ٤٦.

٣٩٩

السقوط والانحراف.

٢ ـ قال بعض المفسّرين في التفريق بين الخوف والحزن ، أنّ (الخوف) يختص بالحوادث التي تثير القلق لدى الإنسان لكنّها تقع في المستقبل ، فيبقى الإنسان قلقا حذرا إزاءها ومنتظر وقوعها. أمّا (الحزن) فهو ممّا يختص بالحوادث المؤسفة التي وقعت في الماضي.

وعلى أساس هذا المعنى يأتي خطاب الملائكة : أن لا تقلقوا من الصعوبات التي تنتظركم ، سواء في هذه الدنيا أو عند الموت أو في مراحل البعث ، ولا تحزنوا على ذنوبكم الماضية أو الأبناء الذين سيبقون بعدكم.

وتقديم (الخوف) على (الحزن) قد يكون بسبب أنّ المؤمن أكثر ما يكون قلقا إزاء حوادث المستقبل ، خاصة ما يتعلق منها بالحشر والجزاء واليوم الآخر.

وقال البعض أيضا : إنّ (الخوف) من العذاب ، بينما (الحزن) على ما فات من الثواب ، والملائكة تقوم بزرع الأمل عندهم في الحالتين بواسطة الألطاف الإلهية والمواهب والعطايا الربانية.

٣ ـ قوله تعالى :( كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) هو تعبير جامع تتداعى فيه كلّ صفات الجنّة في ذهن المؤمنين ذوي الاستقامة ، بمعنى أنّ الجنّة كلّها وبكل ما سمعتم عنها وعن نعيمها مسخّرة لكم ، ومن حورها وقصورها إلى مواهبها الكثيرة وعطاياها المعنوية التي لا يدركها الإنسان ، ولم تخطر ببال أحد :( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) (١) .

٤ ـ في البشارة الرّابعة تعرّف الملائكة نفسها بأنّها تلتزم جانب المؤمنين في الدنيا والآخرة ، تقوم بنصرهم وإنزال السكينة عليهم ، وهي صورة تقابل الآيات السابقة من هذه السورة المباركة عند ما وصفت أعداء الله من الكفار من المعاندين والمكذبين ، وكيف أنّهم يتأوهون من عذاب النّار ويمتلئون غيظا وغضبا على من

__________________

(١) الم سجدة ، الآية ١٧.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607