الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 607
المشاهدات: 166382
تحميل: 5104


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 166382 / تحميل: 5104
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 15

مؤلف:
العربية

أضلّهم في الحياة الدنيا ، ويريدون الانتقام منهم.

٥ ـ الفرق بين البشارة الخامسة والسادسة ، أنّ في الخامسة يقال لهم : إنّ ما ترغبونه وتريدونه موجود هناك ، فإنّ مجرّد رغبتكم في شيء ما يتزامن مع مثوله أمامكم.

ولكن قوله تعالى في( تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ ) : يستخدم للإشارة إلى الرغبات واللذات المادية ، وإنّ قوله تعالى في( ما تَدَّعُونَ ) : يشير إلى ما تريدونه من المواهب المعنوية والعطايا والملذات الروحانية.

وخلاصة الكلام : أنّ كلّ شيء موجود هناك ، سواء كان ماديا أم معنويا.

٦ ـ «نزل» تعني كما أشرنا سابقا ، ما يقدمه المضيف إلى ضيفه ، بينما فسّرها البعض بأوّل ما يقدّم إلى الضيف. والتعبير في كلّ الأحوال يكشف عن أن جميع المؤمنين ذوي الاستقامة هم ضيوف الله ونزل رحمته وجنته ومائدته.

٧ ـ إنّ التدقيق في هذا البشائر ووعود الحق من قبل البارئ جلّ وعلا ، والتي تعطى للمؤمنين بواسطة ملائكة الله الكرام ، سوف تحرك في وجود الإنسان الدوافع نحو الإيمان والاستقامة ، تجعل الروح البشرية تتعشق السير في هذا الطريق.

وفي ظل هذه الأجواء المضيئة بالطاعة والبشرى ، استطاع الإسلام العزيز أن يصنع من عرب الجاهلية مجموعة نموذجية لا تتوانى عن الإيثار والتضحية بالغالي والعزيز في سبيل منعة الإسلام والمسلمين وانتصارهم على كلّ المشاكل والعقبات.

وينبغي أن ننتبه هنا إلى أنّ «الاستقامة» مثلها مثل «العمل الصالح» هي ثمرة لشجرة الإيمان ، إذ الإيمان يدعو الإنسان إلى الاستقامة متى ما نفذ إلى عمق الإنسان ، وتأسست قواعد وجوده النفسي على التقوى ، مثلما تعمق الاستقامة في طريق الحق والإيمان.

٤٠١

وهكذا يكون لهذين العاملين أثران متبادلان متقابلان.

والذي نستفيده ، من الآيات القرآنية الأخرى ، أنّ الإيمان والاستقامة لا يجلبان البركات المعنوية والروحية وحسب ، وإنّما يرفل الإنسان من خلالهما بالبركات المادية التي تسود عالمنا هذا ، إذ نقرأ في الآية (١٦) من سورة الجن قول الله تعالى :( وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ) وستشملهم فيما يشملهم سنوات ملأى بالخير والعطاء والبركة.

* * *

٤٠٢

الآيات

( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦) )

التّفسير

ادفع السيئة بالحسنة :

ما زالت هذه المجموعة من الآيات الكريمة تتحدث عن الصورة الأخرى ، عن المؤمنين الذين يتبعون أحسن القول.

يقول تعالى :( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) .

وبالرغم من أنّ الآية استفهامية ، إلّا أنّ الاستفهام هنا إنكاري ، بمعنى أنّه ليس هناك أفضل من كلام الشخص الذي يدعو إلى الله وينادي بالتوحيد ، ثمّ يؤكّد

٤٠٣

دعوته اللفظية هذه ويقرنها بالفعل والعمل الصالح.

إنّ اعتقاد هؤلاء بالإسلام وتسليمهم للباري جلّ وعلا ، يدعم عملهم الصالح.

إنّ الآية الكريمة هذه ترسم ثلاث صفات لذي القول الحسن هي : الدعوة إلى الله ، والعمل الصالح ، والتسليم ، حيال الحق.

إنّ أمثال هؤلاء فضلا عن تمسكهم بالأركان الإيمانية الثلاثة (الإقرار باللسان ، والعمل بالأركان ، والإيمان بالقلب) فإنّهم تمسكوا بركن رابع هو التبليغ والدعوة ونشر دين الحق ، وإقامة الدليل على أصول الدين ، ودفع آثار الشرك والتردد من قلوب عباد الله.

إنّ هؤلاء المنادين ، بصفاتهم الأربع ، يعتبرون أفضل المنادين والدعاة في العالم.

وبرغم ما ذهب إليه بعض المفسّرين من قولهم بانطباق الصفات السابقة على شخص رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو هو والأئمّة الذين يدعون إلى الحق ، أو المؤذنين خاصة. لكن من الواضح أنّ للآية مفهوما أوسع بحيث يشمل كلّ المنادين بالتوحيد ممّن تشملهم الصفات المذكورة. بالرغم من أن أفضل مصداق لذلك هو الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [خاصة في فترة نزول الآية] ثمّ يأتي بعد ذلك الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام ، وبعدهم جميع العلماء والمجاهدين في طريق الحق ، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، والداعين للإسلام من أي طائفة كانوا.

إنّ هذه الآية فخر عظيم وعزّ كبير لكل أولئك ، كي تتقوى عزائمهم ويربط على قلوبهم.

وإذا قيل بأن الآية مدح لبلال الحبشي المؤذن الخاص لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذلك بسبب أنّه أطلق نداء التوحيد في فترة من أحلك الفترات وأوحشها في تأريخ الدعوة الإسلامية ، وعرّض روحه للخطر.

ثم كمّل هذه الأوصاف بإيمانه الراسخ ، واستقامته التي لا نظير لها ، وأعماله

٤٠٤

الصالحة ، والاستمرار على نهج الإسلام الصحيح.

أمّا قوله تعالى :( وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) فللمفسّرين فيه قولان :

الأوّل : أنّ (قال) هنا من (قول) وتعني الاعتقاد ، ويكون المعنى : الذي عنده الاعتقاد الراسخ بالإسلام.

الثّاني : أنّ (قول) بمعنى الحديث والتحدّث ، وحين ذلك يكون المعنى : الذي يفتخر ويتباهى بالدين الإلهي ، وينادي بصوت مرتفع إنني من المسلمين.

المعنى الأوّل يبدو أكثر قبولا بالرغم من أنّ مفهوم الآية يتحمل المعنيين.

بعد بيان الدعوة إلى الله وأوصاف الدعاة إلى الله ، شرحت الآيات أسلوب الدعوة وطريقتها ، فقال تعالى :( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ) (١) .

في الوقت الذي لا يملك فيه أعداؤكم سوى سلاح الافتراء والاستهزاء والسخرية والكلام البذيء وأنواع الضغوط والظلم ، ويجب أن يكون سلاحكم ـ أنتم الدعاة ـ التقوى الطهر وقول الحق واللين والرفق والمحبّة.

إنّ المذهب الحق يستفيد من هذه الوسائل ، بعكس المذاهب المصطنعة الباطلة.

وبالرغم من أنّ (الحسنة) و (السيئة) تنطويان على مفهومين واسعين ، إذ تشمل الحسنة كلّ إحسان وجميل وخير وبركة ، والسيئة تشمل كلّ انحراف وقبح وعذاب ، إلّا أنّ الآية تقصد ذلك الجانب المحدّد من السيئة والحسنة ، الذي يختص بأساليب الدعوة.

لكن بعض المفسّرين فسّر الحسنة بمعنى الإسلام والتوحيد ، والسيئة بمعنى الشرك والكفر.

وقال البعض : (الحسنة) هي الأعمال الصالحة. و (السيئة) الأعمال القبيحة.

وهناك من قال : إنّ (الحسنة) هي الصفات الإنسانية النبيلة ، كالصبر والحلم

__________________

(١) تكرار «لا» في «ولا السيئة» هو لتأكيد النفي.

٤٠٥

والمداراة والعفو ، بينما السيئة بمعنى الغضب والجهل والخشونة.

ولكن التّفسير الأوّل هو الأفضل حسب الظاهر.

في حديث عن الإمام الصادق أنّهعليه‌السلام قال في تفسير الآية أعلاه : «الحسنة التقية ، السيئة الإذاعة»(١) . وطبعا فان هذا الحديث الشريف ناظر الى الموارد التي تكون فيها الاذاعة سببا في إتلاف الطاقات والكوادر الجيدة وافشاء الخطط للأعداء.

ثم تضيف الآية :( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) .

ادفع الباطل بالحق ، والجهل والخشونة بالحلم والمداراة ، وقابل الإساءة بالإحسان ، فلا ترد الإساءة بالإساءة ، والقبح بالقبح ، لأنّ هذا أسلوب من همّه الانتقام ، ثمّ إنّ هذا الأسلوب يقود إلى عناد المنحرفين أكثر.

وتشير الآية في نهايتها إلى فلسفة وعمق هذا البرنامج في تعبير قصير ، فتقول : إنّ هذا التعامل سيقود إلى :( فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) .

إنّ ما يبيّنه القرآن هنا ، مضافا إلى ما يشبهه في الآية (٩٦) من سورة المؤمنين في قوله تعالى :( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ) يعتبر من أهم وأبرز أساليب الدعوة ، خصوصا حيال الأعداء والجهلاء والمعاندين. ويؤيد ذلك آخر ما توصلت إليه البحوث والدراسات في علم النفس.

لأنّ كلّ من يقوم بالسيئة ينتظر الرد بالمثل ، خاصة الأشخاص الذين هم من هذا النمط ، وأحيانا يكون جواب السيئة الواحدة عدّة سيئات. أمّا عند ما يرى المسيء أنّ من أساء إليه لا يرد السيئة بالسيئة وحسب ، وإنّما يقابلها بالحسنة ، عندها سيحدث التغيير في وجوده ، وسيؤثر ذلك على ضميره بشدّة فيوقظه ، وستحدث ثورة في أعماقه ، سيخجل ويحس بالحقارة وينظر بعين التقدير والأكبار إلى من أساء إليه.

__________________

(١) مجمع البيان نهاية الحديث عن الآية.

٤٠٦

وهنا ستزول الأحقاد والعداوات من الداخل وتترك مكانها للحبّ والمودّة.

ومن الضروري أن نشير هنا إلى أنّ هذا الأمر لا يمثل قانونا دائما ، وإنّما هو صفة غالبة ، لأنّ هناك أقلية تحاول أن تسيء الاستفادة من هذا الأسلوب ، فما لم ينزل بها ما تستحق من عقاب فإنّها لا تترك أعمالها الخاطئة.

ولكن في نفس الوقت الذي نستخدم العقوبة والشدة ضدّ هذه الأقلية ، علينا أن لا نغفل عن أنّ القانون المتحكم بالأكثرية هو قانون : «ادفع السيئة بالحسنة».

لذلك رأينا أنّ رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقادة من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام كانوا يستفيدون دائما من هذا الأسلوب القرآني العظيم ، ففي فتح مكّة مثلا كان الأعداء ـ وحتى الأصدقاء ـ ينتظرون أن تسفك الدماء وتؤخذ الثارات من الكفار والمشركين والمنافقين الذين أذاقوا المؤمنين ألوان الأذى والعذاب في مكّة وخارجها ، من هنا رفع بعض قادة الفتح شعار «اليوم يوم الملحمة ، اليوم تسبى الحرمة ، اليوم أذلّ الله قريشا» لكن ما كان من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتنفيذا لأخلاقية «ادفع السيئة بالحسنة» إلّا أن عفا عن الجميع وأطلق كلمته المشهورة : «اذهبوا فأنتم الطلقاء». ثمّ أمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستبدل الشعار الانتقامي بشعار آخر يفيض إحسانا وكرما هو : «اليوم يوم المرحمة ، اليوم أعزّ الله قريشا»(١) .

لقد أحدث هذا الموقف النبوي الكريم عاصفة في أرض مشركي مكّة حتى أنّه على حدّ وصف كتاب الله تعالى بدأوا :( يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً ) (٢) .

لكن برغم ذلك ، نرى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استثنى بعض الأشخاص من العفو العام هذا ، كما نقله أصحاب السيرة ، لأنّهم كانوا خطرين ولم يستحقوا العفو النبوي الكريم الذي عبّر فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن خلق الإسلام ومنطق النّبيين حينما قال : «لا أقول لكم إلّا كما قال يوسف لإخوته : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلد ٢١ ، صفحة ١٠٩.

(٢) سورة النصر ، آية ٢.

٤٠٧

أرحم الراحمين»(١) .

«ولي» هنا بمعنى الصديق. و (حميم) تعني في الأصل الماء الحار المغلي ، وإذا قيل لعرق جسم الإنسان (حميم) فذلك لحرارته ، ولهذا السبب يطلق اسم «الحمّام» على أماكن الغسل ، ويقال أيضا للأصدقاء المخلصين والمحبين للشخص «حميم» والآية تقصد هذا المعنى.

وضروري أن نشير إلى أنّ قوله تعالى :( كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) حتى وإن لم تكن تعني أنّ الشخص لم يكن كذلك حقا ، إلا أنّ ظاهره سيكون كذلك على الأقل.

إنّ هذا الأسلوب من التعامل مع المعارضين والأعداء ليس بالأمر العادي السهل ، والوصول إليه يحتاج إلى بناء أخلاقي عميق ، لذلك فإنّ الآية التي بعدها تبين الأسس الأخلاقية لمثل هذا التعامل في تعبير قصير ينطوي على معاني كبيرة ، حيث يقول تعالى :( وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ) (٢) .

وكذلك :( وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) .

على الإنسان أن يجاهد نفسه مدّة طويلة حتى يستطيع أن يسيطر على غضبه ، يجب أن تكون روحه قوية في ظلّ الإيمان والتقوى حتى لا يستطيع أن يتأثر بسرعة وبسهولة بإيذاء الأعداء ، ولا يطغى عنده حب الانتقام ، فتلزمه الروح الواسعة وانشراح الصدر بالمقدار الكافي ، حتى يصل الإنسان إلى هذه المرحلة من الكمال بحيث يقابل السيئات بالإحسان. وعليه أن يتجاوز مرحلة العفو ليصل إلى منزلة «دفع السيئة بالحسنة» وأن يحتسب كلّ ذلك في سبيل الله تعالى بغية تحقيق الأهداف المقدّسة.

وهنا أيضا ـ كما تلاحظون ـ تواجهنا قضية «الصبر» بوصف هذه الخصلة الأساس المتين لكل الملكات الأخلاقية الفاضلة ، وهي شرط في التقدم المعنوي

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلد ٢١ ، صفحة ١٣٢.

(٢) يرجع ضمير (يلقاها) إلى (الخصلة) أو (الوصية) المستفادة من الجملة السابقة.

٤٠٨

والمادي(١) .

إنّ هناك ـ بلا شك ـ موانع تحول دون الوصول إلى هذا الهدف العظيم ، وإنّ وساوس الشيطان تمنع الإنسان من تحقيق ذلك بوسائل مختلفة ، لذلك نرى الآية الأخيرة تخاطب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوصفه الأسوة والقدوة فتقول له :( وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (٢) .

«نزغ» تعني الدخول في عمل ما لإفساده ، ولهذا السبب يطلق على الوساوس الشيطانية «نزغ» وهذا التحذير بسبب ما يراود ذهن الإنسان من مفاهيم مغلوطة خطرة ، إذ يقوم بعض أدعياء الصلاح بتوجيه النصائح على شاكلة قولهم : لا يمكن إصلاح الناس إلّا بالقوّة. أو يجب غسل الدم بالدم. أو الترحم على الذئب ظلم للخراف وأمثال ذلك من الوساوس التي تنتهي إلى مقابلة السيئة بالسيئة.

القرآن الكريم يقول : إيّاكم والسقوط في مهاوي هذه الوساوس ، ولا تلجأوا إلى القوّة إلّا في موارد معدودة ، وعند ما يواجهكم أمثال هذا الكلام فاستعينوا بالله واعتمدوا عليه لأنّه يسمع الكلام ويعلم النيات.

وأخيرا ، تتضمّن الآية الدعوة إلى الاستعاذة بالله على مفهوم واسع ، وما ذكر هو أحد المصاديق لذلك.

* * *

ملاحظتان

أوّلا : برنامج الدعاء إلى الله

لقد تضمّنت الآيات الأربع ـ أعلاه ـ أربعة بحوث بالنسبة إلى كيفية الدعوة

__________________

(١) اعتقد بعض المفسّرين أن قوله تعالى :( وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) إشارة إلى الثواب العظيم لمثل هؤلاء الأشخاص العافين الذي ينالهم في الآخرة ، لكن هذا التّفسير مستبعد بسبب أنّ الآية تريد أن تبين الأساس الأخلاقي لهذا العمل العظيم.

(٢) «نزغ» في الآية الكريمة يمكن أن تكون بنفس معناها المصدري أو أن تكون «اسم فاعل».

٤٠٩

إلى الله تعالى. والخطوات الأربع هي :

أوّلا : البناء الذاتي للدعاة من حيث الإيمان والعمل الصالح.

ثانيا : الاستفادة من أسلوب «دفع السيئة بالحسنة».

ثالثا : تهيئة الأرضية الأخلاقية لإنجاز هذا الأسلوب والعمل به.

رابعا : رفع الموانع من الطريق ومحاربة الوساوس الشيطانية.

لقد قدّم لنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة من أهل بيتهعليهم‌السلام خير أسوة وقدوة في تنفيذ هذا البرنامج والالتزام به ، والالتزام بهذا البرنامج يعتبر أحد الأسباب التي أدّت بالإسلام في ذلك العصر المظلم الى الاتساع والانتشار.

واليوم يشهد علم النفس العديد من البحوث والدراسات حول وسائل التأثير على الآخرين ، إلّا أنّها تعتبر شيئا تافها في مقابل عظمة الآيات أعلاه ، خصوصا وأن البحوث هذه عادة ما تتعامل مع ظواهر الإنسان وتستهدف الكسب السريع العاجل ولو من خلال التمويه والخداع ، لكن البرنامج القرآني يخوض في أعماق النفس البشرية ويؤسس قواعد تأثيره على مضمون الإيمان والتقوى.

واليوم ، ما أحلى أن يلتزم المسلمون ببرنامج دينهم ، ويعمدون إلى نشر الإسلام في عالم متلهف إلى قيم السماء.

أخيرا تنهي هذه الفقرة بإضاءة نبوية نقتبسها عن تفسير «علي بن إبراهيم» الذي ورد فيه : «أدّب الله نبيّه فقال :( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ، قال : ادفع سيئة من أساء إليك بحسنتك ، حتى يكون( الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) »(١) .

ثانيا : الإنسان في مواجهة عواصف الوسواس :

ثمّة منعطفات صعبة في حياة المؤمنين يمكن فيها الشيطان ، ويحاول أن ينزغ

__________________

(١) نور الثقلين ، المجلد الرابع ، صفحة ٥٤٩.

٤١٠

ويحيد بالإنسان عن طريق السعادة وكسب رضا الله تعالى.

وعلى الإنسان في مقابل وسواس الشيطان أن يعتمد في تجاوزها على الله ، وإلّا فإنّه لا يستطيع ذلك لوحده ، فعليه أن يتوكل على الله ليجتاز عقبات الطريق ومخاطره ، ويتمسك بحبل الله المتين.

لقد ورد ، في الحديث أن شخصا أساء لآخر في محضر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فثار الغضب في قلبه واشتعلت فيه هواجس الثار ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّي لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم».

فقال الرجل : أمجنونا تراني؟

فاستند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى القرآن وتلا قوله تعالى :( وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ) (١) .

وهذه إشارة إلى أنّ ثورة الغضب من وساوس الشيطان ، مثلما تعتبر ثورة الشهوة والهوى من وسواسه أيضا.

ونقرأ في كتاب «الخصال» أنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام علّم أصحابه أربعمائة باب تنفع المسلمين في الدين والدنيا ، من ضمنها قولهعليه‌السلام لهم : «إذا وساوس الشيطان إلى أحدكم فليستعذ بالله وليقل : آمنت بالله مخلصا له الدين»(٢) .

* * *

__________________

(١) روح المعاني ، المجلد ٢٤ ، صفحة ١١١.

(٢) نور الثقلين ، المجلد ٤ ، صفحة ١٥٥١.

٤١١

الآيات

( وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) )

التّفسير

السّجدة لله تعالى :

تعتبر هذه الآيات بداية فصل جديد في هذه السورة ، فهي تختص بقضايا التوحيد والمعاد ، ودلائل النبوة وعظمة القرآن ، وهي في الواقع مصداق واضح للدعوة إلى الله في مقابل دعوة المشركين إلى الأصنام.

تبدأ أوّلا من قضية التوحيد ، فتدعو الناس إلى الخالق عن طريق الآيات

٤١٢

الآفاق(١) :( وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ) فالليل وظلمته للراحة ، والنهار وضوءه للحركة.

وهذان التوأمان يقومان بإدارة عجلة حياة الناس بشكل متناوب ومنظم ، بحيث لو كان أحدهما دائميا أو استمر لمدة أطول ، فستصاب جميع الكائنات بالفناء ، لذا فإنّ الحياة تنعدم على سطح القمر حيث تعادل لياليه (١٥) ليلة أرضية ونهاره بهذا المقدار أيضا.

إنّ لياليه المظلمة الباردة تجعل كلّ شيء جامدا ، أمّا نهاره الطويل الحار فإنّه يحرق كلّ شيء ، لذلك لا يستطيع الإنسان وكائنات أرضنا أن تعيش على القمر.

أمّا الشمس فهي مصدر كلّ البركات المادية في منظومتنا ، فالضوء والحرارة والحركة ونزول المطر ، ونمو النباتات ونضج الفواكه ، وحتى ألوان الورود الجميلة ، كل ذلك يدين في وجوده إلى الشمس.

القمر يقوم بدوره بإضاءة الليالي المظلمة ، وضوءه دليل السائرين في دروب الصحراء ، وهو يجلب الخيرات بتأثيره على مياه البحار وحدوث الجزر والمد فيه.

ولعلّ البعض قام بالسجود لهذين الكوكبين السماويين وبعبادتهما بسبب الخيرات والبركات الآنفة الذكر ، فتاهوا في عالم الأسباب ، ولم يستطيعوا الوصول إلى مسبّب الأسباب.

ولذلك نرى القرآن بعد هذا البيان يقول مباشرة :( لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) (٢) .

فما ذا لا تتوجهوا بالسجود والعبادة إلى خالق الشمس والقمر؟

__________________

(١) ينبغي الالتفات إلى أنّ السجدة هنا واجبة في حال سماع الآية أو تلاوتها.

(٢) يرجع ضمير التأنيث في (خلقهن) إلى الليل والنهار والشمس والقمر كما يقول علماء اللغة وأصحاب التّفسير ، إذ أنّ ضمير جمع المؤنث العاقل قد يعود أحيانا إلى جمع غير العاقل كما يقال مثلا (الأقلام بريتهنّ) والبعض يعتقد أنّ الضمير هنا يرجع للآيات التي هي جمع مؤنث لغير العاقل. واحتمل البعض أن الضمير يعود على الشمس والقمر فقط باعتبار آنها جنس تشمل جميع الكواكب وكأنّها تتمتع بعقل وشعور.

٤١٣

ولماذا تعبدون كائنات هي نفسها خاضعة لقوانين الخلقة ونظام الوجود ، ولها شروق وغروب وتخضع التغييرات؟

إنّ السجود لا ينبغي إلّا لله خالق هذه الموجودات! إنّ خالق هذه الموجودات ومودع النظم والقوانين فيها لا يغرب ولا يأفل ولا تمتد يد التغيير إلى محضر كبريائهعزوجل .

وبهذا الشكل تنفي الآيات أحد الفروع الواسعة لانتشار الشرك وعبادة الأصنام المتمثلة في عبادة الكائنات الطبيعية النافعة ، فينبغي للجميع أن يبحثوا عن علة العلل وأن لا يتوقفوا عند المعلول ، نعم ينبغي البحث عن خالق هذه الموجودات!

إنّ هذه الآية تستدل ـ في الواقع ـ على وجود الخالق الواحد عن طريق النظام الواحد الذي يتحكم بالشمس والقمر والليل والنهار ، وإن حاميته تعالى على هذه الموجودات تعتبر دليلا على وجوب عبادته.

قوله تعالى :( إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) فيه إشارة إلى ملاحظة مؤدّاها : إذا كنتم تريدون عبادة الخالق فعليكم إلغاء غيره من الشركاء في العبادة ، لأنّ عبادته لا تكون إلى جانب عبادة غيره.

وإذا لم يؤثر هذا الدليل المنطقي في أفكار هؤلاء ، واستمروا مع ذلك في عبادة الأصنام والموجودات الأخرى ، ونسوا المعبود الحقيقي ، فالله تعالى يخاطبهم بعد ذلك بقوله :( فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ ) (١) .

فليس مهما أن لا تسجد مجموعة من الجهلة والغافلين حيال جبروت الله

__________________

(١) «لا يسأمون» : من كلمة (السئامة) وتعني التعب من الاستمرار في العمل أو في موضوع معين. ضمنا فإنّ جملة (فإن استكبروا) جملة شرطية جزاؤها محذوف ، والتقدير هو : فإن استكبروا عن عبادة الله وتوحيده فإن ذلك لا يضرّه شيئا».

٤١٤

وذاته المقدّسة الطاهرة ، فهذا العالم الواسع مليء بالملائكة المقرّبين الذين يركعون ويسجدون ويسبحون له دائما ولا يفترون أبدا.

ثم إنّ هؤلاء هم بحاجة إلى عبادة الله ولا يحتاج تعالى لعبادتهم ، لأنّ فخرهم وكمالهم لا يتمّ إلّا في ظل العبودية له سبحانه وتعالى.

ولقد ذكرنا أنّ الآيات أعلاه هي من آيات السجدة ، ، وثمّة اختلاف بين فقهاء أهل السنة في أنّ السجدة هل تكون واجبة بعد بداية الآية الأولى (تعبدون) أو أنّها تكون كذلك بعد تمام الآيتين (يسأمون)؟

ذهب الشافعي ومالك إلى الاحتمال الأول ، بينما رجح آخرون كأبي حنيفة وأحمد بن حنبل الاحتمال الثّاني.

إلّا أنّ موقع السجدة الواجبة حسب اعتقاد علماء الإمامية ، وفقا للرّوايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، هي الآية الأولى (تعبدون) والآية الكريمة هي من آيات السجدة الواجبة في القرآن الكريم.

وضروري أن نشير هنا إلى أنّ الواجب هو أصل السجدة ، أمّا الذكر فهو مستحب ، ونقرأ في رواية أنّ أقل هذا الذكر في السجدة هو القول : «لا إله إلّا الله حقّا حقّا ، لا إله إلا الله إيمانا وتصديقا ، لا إله إلا الله عبودية ورقا سجدت لك يا ربّ تعبدا ورقا ، لا مستنكفا ولا مستكبرا بل أنا عبد ذليل خائف مستجير»(١) .

نعود مرّة اخرى إلى آيات التوحيد التي تعتبر الأرضية للمعاد ، وإذا كان الحديث قد شمل في السابق الشمس والقمر والآيات السماوية ، فإنّ الحديث هنا يدور حول الآيات الأرضية.

يقول تعالى :( وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ) .

هذه الأرض الميتة اليابسة الخالية من الحركة وآثار الحياة ، أي قدرة حولتها

__________________

(١) وسائل الشيعة ، كتاب الصلاة ، المجلد الرابع ، صفحة ٨٨٤ ، [باب ٤٦ من أبواب قراءة القرآن ، حديث رقم (٢)].

٤١٥

إلى نبض دائم يمور بالحياة والحركة ، إنّه الماء ، وإنّه لدليل كبير على قدرة الله الأزلية ، وعلامة على وجود ذاته المقدّسة.

ثم تنتقل الآية من قضية التوحيد المتمثلة هنا بالحياة التي ما زالت تحيطها الكثير من الأسرار والخفايا والغموض ، إلى قضية المعاد ، حيث يقول تعالى :( إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى ) .

نعم :( إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

فدلائل قدرته واضحة في كلّ مكان ، ومع هذا الوضع فكيف نشكّ بالمعاد ونعتبره محالا ، أليس هذا سوى الجهل والغفلة؟

«خاشعة» من (الخشوع) وتعني في الأصل التضرع والتواضع الملازم للأدب.

واستخدام هذا التعبير بخصوص الأرض الميتة اليابسة ، يعتبر نوعا من الكناية.

فالأرض اليابسة الفاقدة للماء ستخلو من أي نوع من أنواع الثبات ، وستشبه الإنسان الساقط أرضا أو الميت الذي لا حراك فيه ، إلّا أن نزول المطر سيهب لها الحياة ويجعلها تتحرك وتنمو.

«ربت» من (ربو) على وزن (غلو) وتعني الزيادة والنمو ، والربا مشتق من نفس هذه الكلمة ، لأنّ المرابي يطلب دينه مع الزيادة.

«اهتزت» من «هز» على وزن «حظ» وتعني التحريك الشديد.

وحول «المعاد الجسماني» وأدلته وكيفية استدلال عليه من عالم النبات تقدم بحث مفصّل في نهاية سورة «يس» من هذا التّفسير.

* * *

٤١٦

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) )

التّفسير

محرفوا آيات الحق :

المجموعة التي بين أيدينا من آيات السورة الكريمة ، بدأت بتهديد الذين يقومون بتحريف علائم التوحيد ، وتضليل الناس ، حيث يقول تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا ) .

من الممكن لهؤلاء أن يضلّوا الناس بأسلوب المغالطة وباستخدام السفسطة الكلامية ، ويخفوا ذلك عن الناس. إلّا أنّه ليس بوسعهم إخفاء ذرّة ممّا يقومون به عن الله تبارك وتعالى.

«يلحدون» من (إلحاد) وهي في الأصل من (لحد) على وزن (عهد) وتعني

٤١٧

الحفرة الواقعة في جانب واحد ، ولهذا السبب يطلق على الحفرة في جانب القبر اسم «اللحد».

ثمّ أطلقت كلمة (إلحاد) على أي عمل يتجاوز الحد الوسط إلى الإفراط أو التفريط ، وهي لذلك تطلق لوصف الشرك وعبادة الأصنام ، ويقال لمن لا يؤمن بالله تعالى (الملحد).

والمقصود من «الإلحاد في آيات الله» هو إيجاد الوساوس والتموية في أدلة التوحيد والمعاد التي ذكرتها الآيات السابقة بعنوان «ومن آياته» أو جميع الآيات الإلهية ، سواء منها الآيات التكوينية السابقة أو الآيات التشريعية النازلة في القرآن الكريم والكتب السماوية الأخرى.

إنّ المذاهب المادية والإلحادية في عالمنا اليوم التي تعتبر الدين وليد الجهل أو الخوف أو نتاج العامل الاقتصادي والأمور الأخرى لإضلال الناس ، هي بلا شك من مصاديق الخطاب في هذه الآية الكريمة.

القرآن الكريم أوضح جزاء هؤلاء في إطار مقارنة واضحة فقال تعالى :( أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ ) ؟

الأشخاص الذين يحرقون ايمان الناس وعقائدهم بنيران الشبهات والتشكيكات سيكون جزاؤهم نار جهنّم ، بعكس الذين أوجدوا المحيط الآمن للناس بهدايتهم الى التوحيد والإيمان ، فإنّهم سيكونون في أمان يوم القيامة أليس ذلك اليوم هو يوم تتجسد فيه أعمال الإنسان في هذه الدنيا؟

وقال بعض المفسّرين : إنّ الآية تقصد «أبا جهل» «أبو جهل» كنموذج للغواية ولأهل النّار ، وفي الجانب المقابل ذكروا «حمزة» عم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو «عمار بن ياسر» لكن من الواضح أنّ هذا القول لا يعدو أن يكون مصداقا للآية ذات المفهوم الواسع.

والطريق في هذا الجزء من الآية أنّ التعبير القرآني يستخدم كلمة (إلقاء) في

٤١٨

مخاطبة أهل النّار كدليل على عدم امتلاكهم الخيار في أمرهم ، بينما يستخدم كلمة «يأتي» في مخاطبة أهل الجنّة ، كدليل على احترامهم وحريتهم وإرادتهم في اختيار الأمن والهدوء.

وفوق كلّ هذا فقد استخدمت الآية تعبير الأمان من العذاب كناية عن الجنّة ، بينما استخدمت نار جهنم بشكل مباشر ، وفي ذلك إشارة إلى أنّ أهم قضية في ذلك اليوم هي «الأمن».

وعند ما ييأس الإنسان من هداية شخص يخاطبه بقوله : افعل ما شئت. لذا فالآية تقول لأمثال هؤلاء :( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ ) .

لكن عليكم أن تعلموا :( إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) .

لكن هذا الأمر لا يعني أنّ لهم الحرية في أن يعملوا ما يشاءون ، أو أن يتصرفوا بما يرغبون ، بل هو تهديد لهم بأنّهم لا يصغون لكلام الحق ، إنّه تهديد يتضمّن توعّد هؤلاء والصبر على أعمالهم إلى حين.

الآية التي بعدها تتحول من الحديث عن التوحيد والمعاد إلى القرآن والنبوّة ، وتحذّر الكفار المعاندين بقوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ ) (١) .

إنّ إطلاق وصف «الذكر» على القرآن يستهدف تذكير الإنسان وإيقاظه ، وشرح وتفصيل الحقائق له بشكل إجمالي عن طريق فطرته ، وقد ورد نظير ذلك في الآية (٩) من سورة «الحجر» في قوله تعالى :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) .

ثمّ تنعطف الآية لبيان عظمة القران فتقول :( وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ) .

إنّه كتاب لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو أن يتغلب عليه ، ومنطقه عظيم

__________________

(١) لقد ذكر المفسّرون عدّة احتمالات حول خبر «إنّ الذين» أنسبها أن تقول بأنّ الخبر هو جملة (لا يخفون علينا) حيث حذف بقرينة الآية السابقة. وقال البعض : إنّ الخبر هو جملة «يلقون في النّار» المستفادة من الآية السابقة ، بينما قال البعض بأنّه جملة «أولئك ينادون من مكان بعيد» التي ترد في الآيات القادمة ، لكن الرأي الأوّل أرجح.

٤١٩

واستدلاله قوي ، وتعبيره بليغ منسجم وعميق ، تعليماته جذرية ، وأحكامه متناسقة متوافقة مع الاحتياجات الواقعية للبشر في أبعاد الحياة المختلفة.

ثم تذكر الآية صفة اخرى مهمّة حول عظمة القرآن وحيويته ، فيقول تعالى :( لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) لأنّه :( تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) .

أفعال اللهعزوجل لا تكون إلّا وفق الحكمة وفي غاية الكمال. لهذا فهو أهل للحمد دون غيره.

لقد ذكر المفسّرون عدّة احتمالات حول قوله تعالى :( لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ ) إلّا أن أشملها هو أنّ أي باطل لا يأتيه ، من أي طريق كان ، ومهما كان الأسلوب ، وهذا يعني عدم وجود تناقض في مفاهيمه ، ولا ينقض بشيء من العلوم ، أو بحقائق الكتب السابقة ، ولا يعارض كذلك بالاكتشافات العلمية المستقبلية.

لا يستطيع أحد أن يبطل حقائقه ، ولا يمكن أن ينسخ في المستقبلية.

لا يوجد أي تعارض في معارفه وقوانينه ووصاياه وأخباره ، ولا يكون ذلك في المستقبل أيضا.

لم تصل إليه يد التحريف بزيادة أو نقص في آية أو كلمة ، ولن يطاله ذلك مستقبلا.

إنّ هذه الآية تعبير آخر لمضمون الآية (٩) من سورة «الحجر» حيث قوله تعالى :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) (١) .

ومن خلال ما قلناه نستنتج أن قوله تعالى :( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) كناية عن جميع الجوانب والجهات ، بمعنى أنه لن يصيبه البطلان أو الفساد من جميع الأوجه والجوانب ، وما ذهب إليه البعض من أن ذلك كناية للحال والمستقبل ، فان

__________________

(١) لقد اختيار هذا التّفسير الزمخشري في كشافه ، وللعلّامة الطباطبائي حديث يشبه هذا في تفسير الميزان ، في حين حدّد بعض المفسّرين مصطلح الباطل بالشيطان أو المحرفين ، أو الكذب ، وما شابه ، وقد ورد في حديث عن الباقر والصادق قولهماعليهما‌السلام : «إنّه ليس في أخباره عما مضى باطل ، ولا في أخباره عمّا يكون في المستقبل باطل» كما نقل عنهماعليهما‌السلام صاحب مجمع البيان ، وواضح أن ما ذكر هو مصاديق لمفهوم الآية.

٤٢٠