الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 176257 / تحميل: 5912
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

لم يكن جيش فرعون مانعا من العذاب الإلهي ، ولم تكن سعة مملكتهم وأموالهم وثراؤهم سببا لرفع هذا العذاب ، ففي النهاية أغرقوا في أمواج النيل المتلاطمة إذ أنّهم كانوا يتباهون بالنيل ، فبماذا تفكرون لأنفسكم وأنتم أقل عدّة وعددا من فرعون وأتباعه وأضعف؟! وكيف تغترون بأموالكم وأعدادكم القليلة؟!

«الوبيل» : من (الوبل) ويراد به المطر الشديد والثقيل ، وكذا يطلق على كل ما هو شديد وثقيل بالخصوص في العقوبات ، والآية تشير إلى شدّة العذاب النازل كالمطر.

ثمّ وجه الحديث إلى كفّار عصر بنيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحذرهم بقوله :( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ) (١) (٢) .

بلى إنّ عذاب ذلك اليوم من الشدّة والثقيل بحيث يجعل الولدان شيبا ، وهذه كناية عن شدّة ذلك اليوم.

هذا بالنسبة لعذاب الآخرة ، وهناك من يقول : إنّ الإنسان يقع أحيانا في شدائد العذاب في الدنيا بحيث يشيب منها الرأس في لحظة واحدة.

على أي حال فإنّ الآية تشير إلى أنّكم على فرض أنّ العذاب الدنيوي لا ينزل عليكم كما حدث للفراعنة؟ فكيف بكم وعذاب يوم القيامة؟

في الآية الاخرى يبيّن وصفا أدقّ لذلك اليوم المهول فيضيف :( السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ) .

إنّ الكثير من الآيات الخاصّة بالقيامة وأشراط الساعة تتحدث عن

__________________

(١) يوما مفعول به لتتقون ، و «تتقون» ذلك اليوم يراد به تتقون عذاب ذلك اليوم ، وقيل (يوم) ظرف لـ (تتقون) أو مفعول به لـ (كفرتم) والاثنان بعيدان.

(٢) «شيب» جمع (أشيب) ويراد به المسن ، وهي من أصل مادة شيب ـ على وزن عيب ـ والمشيب يعني تغير لون الشعر إلى البياض.

١٤١

انفجارات عظيمة وزلازل شديدة ومتغيرات سريعة ، والآية أعلاه تشير إلى جانب منها.

فما حيلة الإنسان الضعيف العاجز عند ما يرى تفطر السموات بعظمتها لشدّة ذلك اليوم؟!(١)

وفي النّهاية يشير القرآن إلى جميع التحذيرات والإنذارات السابقة فيقول تعالى :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ) .

إنّكم مخيرون في اختيار السبيل ، فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلا ، ولا فضيلة في اتّخاذ الطريق إلى الله بالإجبار والإكراه ، بل الفضيلة أن يختار الإنسان السبيل بنفسه وبمحض إرادته.

والخلاصة أنّ الله تعالى هدى الإنسان إلى النجدين ، وجعلهما واضحين كالشمس المضيئة في وضح النهار ، وترك الإختيار للإنسان نفسه حتى يدخل في طاعته سبحانه بمحض إرادته ، وقد احتملت احتمالات متعددة في سبب الإشارة إلى التذكرة ، فقد قيل أنّها إشارة إلى المواعظ التي وردت في الآيات السابقة ، وقيل هي إشارة إلى السورة بكاملها ، أو إشارة إلى القرآن المجيد.

ولعلها إشارة إلى إقامة الصلاة وقيام الليل كما جاء في الآيات من السورة ، والمخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والآية تدل على توسعة الخطاب وتعميمه لسائر المسلمين ، ولهذا فإنّ المراد من «السبيل» في الآية هو صلاة الليل ، والتي تعتبر سبيل خاصّ ومهمّة تهدي إلى الله تعالى ، كما ذكرت في الآية (٢٦) من سورة الدهر بعد أن أشير إلى صلاة الليل بقوله تعالى :( وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ) .

ويقول بعد فاصلة قصيرة :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً )

__________________

(١) «المنفطر» : من الانفطار بمعنى الإنشقاق ، والضمير (به) يعود لليوم ، والمعنى السماء منشقة بسبب ذلك اليوم والسماء جائزة للوجهين أي أنّه تذكر وتؤنث.

١٤٢

وهي بعينها الآية التي نحن بصدد البحث فيها(١) .

وبالطبع هذا التّفسير مناسب ، والأنسب منه أن تكون الآية ذات مفهوم أوسع حيث تستوعب هذه السورة جميع مناهج صنع الإنسان وتربيته كما أشرنا إلى ذلك سابقا.

* * *

ملاحظة

المراحل الأربع للعذاب الإلهي

الآيات السابقة تهدد المكذبين المغرورين بأربعة أنواع من العذاب الأليم : النكال ، الجحيم ، الطعام ذو الغصّة ، والعذاب الأليم ، هذه العقوبات في الحقيقة هي تقع في مقابل أحوالهم في هذه الحياة الدنيا.

فمن جهة كانوا يتمتعون بالحرية المطلقة.

الحياة المرفهة ثانيا.

لما لهم من الأطعمة السائغة من جهة ثالثة.

والجهة الرابعة لما لهم من وسائل الراحة ، وهكذا سوف يجزون بهذه العقوبات لما قابلوا هذه النعم بالظلم وسلب الحقوق والكبر والغرور والغفلة عن الله تعالى.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٤٧.

١٤٣

الآية

( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠) )

التّفسير

فاقرؤوا ما تيسر من القرآن :

هذه الآية هي من أطول آيات هذه السورة وتشتمل على مسائل كثيرة ، وهي مكملة لمحتوى الآيات السابقة ، وهناك أقوال كثيرة للمفسّرين حول ما إذا كانت

١٤٤

هذه الآية ناسخة لحكم صدر السورة أم لا ، وكذلك في مكّيتها أو مدنيتها ، ويتّضح لنا جواب هذه الأسئلة بعد تفسير الآية.

فيقول تعالى :( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ) (١) .

الآية تشير إلى نفس الحكم الذي أمر به الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدر السورة من قيام الليل والصلاة فيه ، وما أضيف في هذه الآية هو اشتراك المؤمنين في العبادة مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بصيغة حكم استحبابي أو باحتمال حكم وجوبي لأنّ ظروف صدر الإسلام كانت تتجاوب مع بناء ذواتهم والاستعداد للتبليغ والدفاع عنه بالدروس العقائدية المقتبسة من القرآن المجيد ، وكذا بالعمل والأخلاق وقيام الليل ، ولكن يستفاد من بعض الرّوايات أنّ المؤمنين كانوا قد وقعوا في إشكالات ضبط الوقت للمدة المذكورة (الثلث والنصف والثلثين) ولذا كانوا يحتاطون في ذلك ، وكان ذلك يستدعي استيقاظهم طول الليل والقيام حتى تتورم أقدامهم ، ولذا بني هذا الحكم على التخفيف ، فقال :( عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) .

«لن تحصوه» : من (الإحصاء) وهو عد الشيء ، أي علم أنّكم لا تستطيعون إحصاء مقدار الليل الذي أمرتم بقيامه والإحاطة بالمقادير الثلاثة.

وقال البعض : إنّ معنى الآية أنّكم لا تتمكنون من المداومة على هذا العمل طيلة أيّام السنة ، ولا يتيسر لعامّة المكلّفين إحصاء ذلك لاختلاف الليالي طولا وقصرا ، مع وجود الوسائل التي توقظ الإنسان.

والمراد بـ( فَتابَ عَلَيْكُمْ ) خفف عليكم التكاليف ، وليس التوبة من الذنب ، ويحتمل أنّه في حال رفع الحكم الوجوبي لا يوجد ذنب من الأساس ، والنتيجة

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أنّ (نصفه) و (ثلثه) معطوف على أدنى وليس على (ثلثي الليل) فيكون المعنى أنّه يعلم أنّك تقوم بعض الليالي أدنى من ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه ،. كذا الالتفات إلى أن أدنى تقال لما يقرب من الشيء ، وهنا إشارة إلى الزمن التقريبي.

١٤٥

تكون مثل المغفرة الإلهية.

وأمّا عن معنى الآية :( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) فقد قيل في تفسيرها أقوال ، فقال بعضهم : إنّها تعني صلاة الليل التي تتخللها قراءة الآيات القرآنية ، وقال الآخرون : إنّ المراد منها قراءة القرآن ، وإن لم تكن في أثناء الصلاة ، وفسّرها البعض بخمسين آية ، وقيل مائة آية ، وقيل مائتان ، ولا دليل على ذلك ، بل إنّ مفهوم الآية هو قراءة ما يتمكن عليه الإنسان.

وبديهي أنّ المراد من قراءة القرآن هو تعلم الدروس لبناء الذات وتقوية الإيمان والتقوى.

ثمّ يبيّن دليلا آخرا للتخفيف فيضيف تعالى :( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) ، وهذا تخفيف آخر كما قلنا في الحكم ، ولذا يكرر قوله «فاقرؤوا ما تيسر منه» ، والواضح أنّ المرض والأسفار والجهاد في سبيل الله ذكرت بعنوان ثلاثة أمثلة للأعذار الموجهة ولا تعني الحصر ، والمعنى هو أنّ الله يعلم أنّكم سوف تلاقون ، كثيرا من المحن والمشاكل الحياتية ، وبالتالي تؤدي إلى قطع المنهج الذي أمرتم به ، فلذا خفف عليكم الحكم.

وهنا يطرح هذا السؤال ، وهو : هل أنّ هذا الحكم ناسخ للحكم الذي ورد في صدر السورة ، أم هو حكم استثنائي؟ طاهر الآيات يدل على النسخ ، وفي الحقيقة أنّ الغرض من الحكم الأوّل في صدر السورة هو إقامة المنهج العبادي ، وهذا ما حصل لمدّة معينة ثمّ نسخ بعد ذلك بهذه الآية ، وأصبح أخف من ذي قبل ، لأنّ ظاهر الآية يدل على وجود معذورين ، فلذا حفف الحكم على الجميع ، وليس للمعذورين فحسب ، ولذا لا يمكن أن يكون حكما استثنائيا بل هو حكم ناسخ.

ويرد سؤال آخر ، هو : هل أنّ الحكم المذكور بقراءة ما تيسّر من القرآن واجب أم مستحب؟ إنّه مستحب ، واحتمل البعض الآخر الوجوب ، لأنّ قراءة القرآن تبعث على معرفة دلائل التوحيد ، وإرسال الرسل ، وواجبات الدين ، وعلى

١٤٦

هذا الأساس تكون القراءة واجبة.

ولكن يجب الالتفات إلى أنّ الإنسان لا يلزم بقراءة القرآن ليلا أثناء صلاة الليل ، بل يجب على المكلّف أن يقرأ بمقدار ما يحتاجه للتعليم والتربية لمعرفة اصول وفروع الإسلام وحفظه وإيصاله إلى الأجيال المقبلة ، ولا يختص ذلك بزمان ومكان معينين ، والحقّ هو وجوب القراءة لما في ظاهر الأمر (فاقرؤا كما هو مبيّن في اصول الفقه) إلّا أن يقال بقيام الإجماع على عدم الوجوب ، فيكون حينها مستحبا ، والنتيجة هي وجوب القراءة في صدر الإسلام لوجود الظروف الخاصّة لذلك ، واعطي التخفيف بالنسبة للمقدار والحكم ، وظهر الاستحباب بالنسبة للمقدار الميسّر ، ولكن صلاة الليل بقيت واجبة على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة حياته (بقرينة سائر الآيات والرّوايات).

ونقرأ في حديث ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام حيث يقول : «... متى يكون النصف والثلث نسخت هذه الآية( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) واعلموا أنّه لم يأت نبيّ قط إلّا خلا بصلاة الليل ، ولا جاء نبي قط صلاة الليل في أوّل الليل»(١) .

والملاحظ في الآية ذكر ثلاثة نماذج من الأعذار ، أحدها يتعلق بالجسم (المرض) ، والآخر بالمال (السفر) ، والثالث بالدين (الجهاد في سبيل الله) ، ولذا قال البعض : إنّ المستفاد من الآية هو السعي للعيش بمثابة الجهاد في سبيل الله! وقالوا : إنّ هذه الآية مدنيّة بدليل سياقها في وجوب الجهاد ، إلّا أنّ الجهاد لم يكن في مكّة ، ولكن بالالتفات إلى قوله :( سَيَكُونُ ) يمكن أن تكون الآية مخبرة على تشريع الجهاد في المستقبل ، أي بسبب ما لديكم من الأعذار وما سيكون من الأعذار ، لم يكن هذا الحكم دائميا ، وبهذا الصورة يمكن أن تكون الآية مكّية ولا منافاة في ذلك.

ثمّ يشير إلى أربعة أحكام اخرى ، وبهذه الطريقة يكمل البناء الروحي للإنسان فيقول:( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ٤٥١.

١٤٧

تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

هذه الأوامر الأربعة (الصلاة ، الزكاة ، القروض المستحبة ، الاستغفار) مع الأمر بالقراءة والتدبر في القران الذي ورد من قبل تشكّل بمجموعها منهجا للبناء الروحي ، وهذا مهم للغاية بالخصوص لمن كان في عصر صدر الإسلام.

والمراد من «الصلاة» هنا الصلوات الخمس المفروضة ، والمراد من «الزكاة» الزكاة المفروضة ومن إقراض الله تعالى هو إقراض الناس ، وهذه من أعظم العبارات المتصورة في هذا الباب ، فإنّ مالك الملك يستقرض بمن لا يملك لنفسه شيئا ، ليرغبهم بهذه الطريقة للإنفاق والإيثار واكتساب الفضائل منها وليتربى ويتكامل بهذه الطريقة.

وذكر «الاستغفار» في آخر هذه الأوامر يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى وإيّاكم والغرور إذا ما أنجزتم هذه الطاعات ، وبأنّ تتصوروا بأنّ لكم حقّا على الله ، بل اعتبروا أنفسكم مقصرين على الدوام واعتذروا لله.

ويرى البعض أنّ التأكيد على هذه الأوامر هو لئلا يتصور المسلّم أنّ التخفيف سار على جميع المناهج والأوامر الدينية كما هو الحال في التخفيف الذي امر به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه في قيام وقراءة القرآن ، بل إنّ المناهج والأوامر الدينية باقية على متانتها وقوّتها(١) .

وقيل إنّ ذكر الزكاة المفروضة في هذه الآية هو دليل آخر على مدنيّة هذه الآية ، لأنّ حكم الزكاة نزل بالمدينة وليس في مكّة ، ولكن البعض قال : إنّ حكم الزكاة نزل في مكّة من غير تعيين نصاب ومقدار لها ، والذي فرض بالمدينة تعيين الأنصاب والمقادير.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٥٦.

١٤٨

ملاحظات

١ ـ ضرورة الاستعداد العقائدي والثقافي

لغرض إيجاد ثورة واسعة في جميع الشؤون الحياتية أو إنجاز عمل اجتماعي ذي أهمية لا بدّ من وجود قوّة عزم بشرية قبل كل شيء ، وذلك مع الإعتقاد الراسخ ، والمعرفة الكاملة ، والتوجيه والفكري والثقافي الضروري والتربوي ، والتربية الأخلاقية ، وهذا ما قام به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة في السنوات الاولى للبعثة ، بل في مدّة حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولوجود هذا الأساس المتين للبناء أخذ الإسلام بالنمو السريع والرشد الواسع من جميع الجهات.

وما جاء في هذه السورة هو نموذج حي ومنطقي لهذا المنهج المدروس ، فقد خلّف القيام لثلثي الليل أو ثلثه وقراءة القرآن والتمعن فيه أثرا بالغا في أرواح المؤمنين ، وهيأهم لقبول القول الثقيل والسبح الطويل ، وتطبيق هذه الأوامر التي هي أشدّ وطأ وأقوم قيلا كما يعبّر عنه القرآن ، هي التي أعطتهم هذه الموفقية ، وجهزت هذه المجموعة المؤمنة القليلة ، والمستضعفة والمحرومة بحيث أهلتهم لإدارة مناطق واسعة من العالم ، وإذا ما أردنا نحن المسلمين إعادة هذه العظمة والقدرة القديمة علينا أن نسلك هذا الطريق وهذا المنهج ، ولا يجب علينا إزالة حكومة الصهاينة بالاعتماد على أناس عاجزين وضعفاء لم يحصلوا على ثقافة أخلاقية.

٢ ـ قراءة القرآن والتفكر

يستفاد من الرّوايات الإسلامية أنّ فضائل قراءة القرآن ليس بكثرة القراءة ، بل في حسن القراءة والتدبر والتفكر فيها ، ومن الطريف أنّ هناك رواية

وردت عن الإمام الرضاعليه‌السلام في تفسير ذيل الآية :( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) رواها عن

١٤٩

جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما تيسّر منه لكم فيه خشوع القلب وصفاء السر»(١) ، لم لا يكون كذلك والهدف الأساس للقراءة هو التعليم والتربية.

والرّوايات في هذا المعنى كثيرة.

٣ ـ السعي للعيش كالجهاد في سبيل الله

كما عرفنا من الآية السابقة فإنّ السعي لطلب الرزق جعل مرادفا للجهاد في سبيل الله ، وهذا يشير إلى أنّ الإسلام يعير أهمية بالغه لهذا الأمر ، ولم لا يكون كذلك فلأمّة الفقيرة والجائعة المحتاجة للأجنبي لا يمكن لها أن تحصل على الاستقلال والرفاه ، والمعروف أنّ الجهاد الاقتصادي هو قسم من الجهاد مع الأعداء ، وقد نقل في هذا الصدد قول عن الصحابي المشهور عبد الله بن مسعود : «أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء» ثمّ قرأ :( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ ) (٢) .

اللهم! وفقنا للجهاد بكلّ أبعاده.

ربّنا! وفقنا لقيام الليل وقراءة القرآن الكريم وتهذيب أنفسنا بواسطة هذا النور السماوي.

ربّنا! منّ على مجتمعنا الإسلامي بمقام الرفعة والعظمة بالإلهام من هذه السورة العظيمة.

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة المزّمل

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٢.

(٢) مجمع البيان ، وتفسير أبي الفتوح ، وتفسير القرطبي ، ذيل الآية مورد البحث وقد نقل القرطبي حديثا عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشابه هذه الحديث ، فيستفاد من ذلك أنّ عبد الله بن مسعود قد ذكر الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس هو من قوله.

١٥٠
١٥١

سورة

المدّثّر

مكيّة

وعدد آياتها ستّ وخمسون آية

١٥٢

«سورة المدّثّر»

محتوى السورة :

لا شك أنّ هذه السورة هي من السور المكّية ولكن هناك تساؤل عن أنّ هذه السورة هل هي الاولى النازلة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم نزلت بعد سورة العلق؟

يتّضح من التمعن في محتوى سورة العلق والمدثر أنّ سورة العلق نزلت في بدء الدعوة ، وأنّ سورة المدثر نزلت في زمن قد امر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه بالدعوة العلنية ، وانتهاء فترة الدعوة السرّية ، لذا قال البعض أنّ سورة العلق هي أوّل سورة نزلت في صدر البعثة ، والمدثر هي السورة الاولى التي نزلت بعد الدعوة العلنية ، وهذا الجمع هو الصحيح.

ومهما يكن فإنّ سياق السور المكّية التي تشير إلى الدعوة وإلى المبدأ والمعاد ومقارعة الشرك وتهديد المخالفين وإنذارهم بالعذاب الإلهي واضح الوضوح في هذه السورة.

يدور البحث في هذه السورة حول سبعة محاور وهي :

١ ـ يأمر الله تعالى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإعلان الدعوة العلنية ، ويأمر أن ينذر المشركين ، وتمسك بالصبر والاستقامة في هذا الطريق والاستعداد الكامل لخوض هذا الطريق.

٢ ـ تشير إلى المعاد وأوصاف أهل النّار الذين واجهوا القرآن بالتكذيب والإعراض عنه.

١٥٣

٣ ـ الإشارة إلى بعض خصوصيات النّار مع إنذار الكافرين.

٤ ـ التأكيد على المعاد بالأقسام المكررة.

٥ ـ ارتباط عاقبة الإنسان بعمله ، ونفي كل أنواع التفكر غير المنطقي في هذا الإطار.

٦ ـ الإشارة إلى قسم من خصوصيات أهل النّار وأهل الجنّة وعواقبهما.

٧ ـ كيفية فرار الجهلة والمغرورين من الحقّ.

فضيلة السورة :

ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأ سورة المدثر اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بمحمّد وكذب به بمكّة»(١) .

وورد في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال : «من قرأ في الفريضة سورة المدثر كان حقّا على الله أن يجعله مع مجمّد في درجته ، ولا يدركه في حياة الدنيا شقاء أبدا»(٢)

وبديهي أنّ هذه النتائج العظيمة لا تتحقق بمجرّد قراءة الألفاظ فحسب ، بل لا بدّ من التمعن في معانيها وتطبيقها حرفيا.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٣.

(٢) المصدر السابق.

١٥٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) )

التّفسير

قم وانذر النّاس :

لا شك من أنّ المخاطب في هذه الآيات هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن لم يصرح باسمه ، ولكن القرائن تشير إلى ذلك ، فيقول أوّلا :( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ) فلقد ولى زمن النوم الاستراحة ، وحان زمن النهوض والتبليغ ، وورد التصريح هنا بالإنذار مع أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبشر ونذير ، لأنّ الإنذار له أثره العميق في إيقاظ الأرواح النائمة خصوصا في بداية العمل.

وأورد المفسّرون احتمالات كثيرة عن سبب تدثرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعوته إلى القيام والنهوض.

١ ـ اجتمع المشركون من قريش في موسم الحج وتشاور الرؤساء منهم

١٥٥

كأبي جهل وأبي سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وغيرهم في ما يجيبون به عن أسئلة القادمين من خارج مكّة وهم يناقشون أمر النّبي الذي قد ظهر بمكّة ، وفكروا في وأن يسمّي كلّ واحد منهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسم ، ليصدوا الناس عنه ، لكنّهم رأوا في ذلك فساد الأمر لتشتت أقوالهم ، فاتفقوا في أن يسمّوه ساحرا ، لأنّ أحد آثار السحرة الظاهرة هي التفريق بين الحبيب وحبيبه ، وكانت دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أثّرت هذا الأثر بين الناس! فبلغ ذلك النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتأثر واغتم لذلك ، فأمر بالدثار وتدثر ، فأتاه جبرئيل بهذه الآيات ودعاه إلى النهوض ومقابلة الأعداء.

٢ ـ إنّ هذه الآيات هي الآيات الأولى التي نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نقله جابر بن عبد الله قال : جاوزت بحراء فلمّا قضيت جواري نوديت يا محمّد ، أنت رسول الله ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فملئت منه رعبا ، فرجعت إلى خديجة وقلت : «دثروني دثروني ، واسكبوا عليّ الماء البارد» ، فنزل جبرئيل بسورة :( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) .

ولكن بلحاظ أن آيات هذه السورة نظرت للدعوة العلنية ، فمن المؤكّد أنّها نزلت بعد ثلاث سنوات من الدعوة الخفية ، وهذا لا ينسجم والروية المذكورة ، إلّا أن يقال بأنّ بعض الآيات التي في صدر السورة قد نزلت في بدء الدعوة ، والآيات الأخرى مرتبطة بالسنوات التي تلت الدعوة.

٣ ـ إنّ النّبي كان نائما وهو متدثر بثيابه فنزل عليه جبرائيلعليه‌السلام موقظا إيّاه ، ثمّ قرأ عليه الآيات أن قم واترك النوم واستعد لإبلاغ الرسالة.

٤ ـ ليس المراد بالتدثر التدثر بالثياب الظاهرية ، بل تلبسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنبوّة والرسالة كما قيل في لباس التقوى.

١٥٦

٥ ـ المراد به اعتزالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانزواؤه واستعد لإنذار الخلق وهداية العباد(١) والمعني الأوّل هو الأنسب ظاهرا.

ومن الملاحظ أنّ جملة (فانذر) لم يتعين فيها الموضوع الذي ينذر فيه ، وهذا يدل على العمومية ، يعني إنذار الناس من الشرك وعبادة الأصنام والكفر والظلم والفساد ، وحول العذاب الإلهي والحساب المحشر إلخ (ويصطلح على ذلك بأن حذف المتعلق يدل على العموم). ويشمل ضمن ذلك العذاب الدنيوي والعذاب الاخروي والنتائج السيئة لأعمال الإنسان التي سيبتلى بها في المستقبل.

ثم يعطي للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمسة أوامر مهمّة بعد الدعوة إلى القيام والإنذار ، تعتبر منهاجا يحتذي به الآخرون ، والأمر الأوّل هو في التوحيد ، فيقول :( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) (٢) .

ذلك الربّ الذي هو مالكك مربيك ، وجميع ما عندك فمنه تعالى ، فعليك أن تضع غيره في زاوية النسيان وتشجب على كلّ الآلهة المصطنعة ، وامح كلّ آثار الشرك وعبادة الأصنام.

ذكر كلمة (ربّ) وتقديمها على (كبّر) الذي هو يدل على الحصر ، فليس المراد من جملة «فكبر» هو (الله أكبر) فقط ، مع أنّ هذا القول هو من مصاديق التكبير كما ورد من الرّوايات ، بل المراد منه أنسب ربّك إلى الكبرياء والعظمة اعتقادا وعملا ، قولا فعلا وهو تنزيهه تعالى من كلّ نقص وعيب ، ووصفه

__________________

(١) أورد الفخر الرازي هذه التفاسير الخمسة بالإضافة إلى احتمالات أخرى في تفسيره الكبير ، واقتبس منه البعض الآخر من المفسّرين (تفسير الفخر الرازي ، ج ٣٠ ، ص ١٨٩ ـ ١٩٠).

(٢) الفاء من (فكبر) زائدة للتأكيد بقول البعض ، وقيل لمعنى الشرط ، والمعنى هو : لا تدع التكبير عند كلّ حادثة تقع ، (يتعلق هذا القول بالآيات الاخرى الآتية أيضا).

١٥٧

بأوصاف الجمال ، بل هو أكبر من أن يوصف ، ولذا ورد في الرّوايات عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام في معنى الله أكبر : «الله أكبر من أن يوصف» ، ولذا فإنّ التكبير له مفهوم أوسع من التسبيح الذي هو تنزيهه من كل عيب ونقص.

ثمّ صدر الأمر الثّاني بعد مسألة التوحيد ، ويدور حول الطهارة من الدنس فيضيف :( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) ، التعبير بالثوب قد يكون كناية عن عمل الإنسان ، لأنّ عمل الإنسان بمنزلة لباسه ، وظاهره مبين لباطنه ، وقيل المراد منه القلب والروح ، أي طهر قلبك وروحك من كلّ الأدران ، فإذا وجب تطهير الثوب فصاحبه اولى بالتطهير.

وقيل هو اللباس الظاهر ، لأنّ نظافة اللباس دليل على حسن التربية والثقافة ، خصوصا في عصر الجاهلية حيث كان الاجتناب من النجاسة قليلا وإن ملابسهم وسخة غالبا ، وكان الشائع عندهم تطويل أطراف الملابس (كما هو شائع في هذا العصر أيضا) بحيث كان يسحل على الأرض ، وما ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في معنى أنّه : «ثيابك فقصر»(١) ، ناظر إلى هذا المعنى.

وقيل المراد بها الأزواج لقوله تعالى :( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ ) (٢) ، والجمع بين هذه المعاني ممكن ، والحقيقة أنّ الآية تشير إلى أنّ القادة الإلهيين يمكنهم إبلاغ الرسالة عند طهارة جوانبهم من الأدران وسلامة تقواهم ، ولذا يستتبع أمر إبلاغ الرسالة ولقيام بها أمر آخر ، هو النقاء والطهارة.

ويبيّن تعالى الأمر الثّالث بقوله :( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) المفهوم الواسع للرجز كان سببا لأن تذكر في تفسيره أقوال مختلفة ، فقيل : هو الأصنام ، وقيل : المعاصي ، وقيل : الأخلاق الرّذيلة الذميمة ، وقيل : حبّ الدنيا الذي هو رأس كلّ خطيئة ، وقيل هو العذاب الإلهي النازل بسبب الترك والمعصية ، وقيل : كل ما يلهي

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٥.

(٢) البقرة ، ١٨٧.

١٥٨

عن ذكر الله.

والأصل أنّ معنى «الرجز» يطلق على الاضطراب والتزلزل(١) ثمّ اطلق على كل أنواع الشرك ، عبادة الأصنام ، والوساوس الشيطانية والأخلاق الذميمة والعذاب الإلهي التي تسبب اضطراب الإنسان ، فسّره البعض بالعذاب(٢) ، وقد اطلق على الشرك والمعصية والأخلاق السيئة وحبّ الدّنيا تجلبه من العذاب.

وما تجدر الإشارة إليه أنّ القرآن الكريم غالبا ما استعمل لفظ «الرجز» بمعنى العذاب(٣) ، ويعتقد البعض أنّ كلمتي الرجز والرجس مرادفان(٤) .

وهذه المعاني الثلاثة ، وإن كانت متفاوتة ، ولكنّها مرتبطة بعضها بالآخر ، وبالتالي فإنّ للآية مفهوما جامعا ، وهو الانحراف والعمل السيء ، وتشمل الأعمال التي لا ترضي اللهعزوجل ، والباعثة على سخر الله في الدنيا والآخرة ، ومن المؤكّد أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد هجر واتقى ذلك حتى قبل البعثة ، وتاريخه الذي يعترف به العدو والصديق شاهد على ذلك ، وقد جاء هذا الأمر هنا ليكون العنوان الأساس في مسير الدعوة إلى الله ، وليكون للناس أسوة حسنة.

ويقول تعالى في الأمر الرّابع :( وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) .

هنا التعلق محذوف أيضا ، ويدل على سعة المفهوم كليته ، ويشمل المنّة على الله والخلائق ، أي فلا تمنن على الله بسعيك واجتهادك ، لأنّ الله تعالى هو الذي منّ عليك بهذا المقام المنيع.

ولا تستكثر عبادتك وطاعتك وأعمالك الصالحة ، بل عليك أن تعتبر نفسك مقصرا وقاصرا ، واستعظم ما وفقت إليه من العبادة.

__________________

(١) مفردات الراغب.

(٢) الميزان ، في ظلال القرآن.

(٣) راجع الآيات ، ١٣٤ ـ ١٣٥ من سورة الأعراف ، والآية ٥ من سورة سبأ ، والآية ١١ من سورة الجاثية ، والآية ٥٩ من سورة البقرة ، والآية ١٦٢ من سورة الأعراف ، والآية ٣٤ من سورة العنكبوت.

(٤) وذكر ذلك في تفسير الفخر الرازي بصورة احتمال ، ج ٣٠ ، ص ١٩٣.

١٥٩

وبعبارة أخرى : لا تمنن على الله بقيامك بالإنذار ودعوتك إلى التوحيد وتعظيمك لله وتطهيرك ثيابك وهجرك الرجز ، ولا تستعظم كل ذلك ، بل أعلم أنّه لو قدمت خدمة للناس سواء في الجوانب المعنوية كالإرشاد والهداية ، أم في الجوانب المادية كالإنفاق والعطاء فلا ينبغي أن تقدمها مقابل منّة ، أو توقع عوض أكبر ممّا أعطيت ، لأنّ المنّة تحبط الأعمال الصالحة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) (١) .

«لا تمنن» من مادة «المنّة» وتعني في هذه الموارد الحديث عن تبيان أهمية النعم المعطاة للغير ، وهنا يتّضح لنا العلاقة بينه وبين الاستكثار ، لأنّ من يستصغر عمله لا ينتظر المكافأة ، فكيف إذن بالاستكثار ، فإنّ الامتنان يؤدي دائما إلى الاستكثار ، وهذا ممّا يزيل قيمة النعم ، وما جاء من الرّوايات يشير لهذا المعنى : «لا تعط تلتمس أكثر منها»(٢) كما جاء في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية : «لا تستكثر ما عملت من خير لله»(٣) وهذا فرع من ذلك المفهوم.

ويشير في الآية الأخرى إلى الأمر الأخير في هذا المجال فيقول :( وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) ، ونواجه هنا مفهوما واسعا عن الصبر الذي يشمل كلّ شيء ، أي اصبر في طريق أداء الرسالة ، واصبر على أذى المشركين الجهلاء ، واستقم في طريق عبودية الله وطاعته ، واصبر في جهاد النفس وميدان الحرب مع الأعداء.

ومن المؤكّد أنّ الصبر هو ضمان لإجراء المناهج السابقة ، والمعروف أنّ الصبر هو الثروة الحقيقية لطريق الإبلاغ والهداية ، وهذا ما اعتمده القرآن الكريم

__________________

(١) البقرة ، ٢٦٤.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٥٤ ، وتفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٠٠.

(٣) المصدر السابق.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

قولهم هذا مصداق للمفهوم الأول.

«الباطل» كما يرى الراغب في مفرداته : هو ما يقابل الحق ، ولكن قد يفسّر أو يراد به أحيانا أحد مصاديقه كالشرك والشيطان والمعدوم والساحر.

ويطلق على الشجاع بـ «البطل» لأنّه يبطل أعداءه ويقتلهم أو يلقي بهم خارجا.

لكن «باطل» في الآية تنطوي على مفهوم مطلق غير محدّد بمصداق معين.

والتعبير الأخير في الآية( تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) دليل واضح على عدم وصول الباطل بأي طريق من الطرق إلى القرآن الكريم ، فالباطل قد يسري الى الكلام الذي يصدر من الأفراد ذوي العلم المحدود والقدرات النسبية.

أمّا الذي يتصف بالعلم المطلق والحكمة المطلقة ويجمع كلّ الصفات الكمالية التي تجعله أهلا للحمد ، فلا يطرأ على كلامه التناقض والاختلاف ، ولا ينسخ أو ينقض ، أو تمتد إليه يد التحريف ، ولا يتناقض كلامه مع الكتب السماوية والحقائق السابقة ، ولا يعارض بالمكتشفات العلمية الراهنة ، أو تلك التي يكشفها المستقبل.

وأخيرا ، الآية واضحة الدلالة على نفي التحريف عن القرآن الكريم ، سواء من جهة الزيادة أو النقصان (هناك بحث مفصل حول نفي التحريف أوردناه في نهاية الحديث عن الآية (٩) من سورة «الحجر».

سؤال :

قد يقال : إذا كان الباطل هو ما أشرنا إليه ، أي كلّ ما يتصف بأنّه «المخالف الحق» فإننا في التفسير الآية (وكذلك المفسّرين الآخرين) فسّرناه بمعنى «المبطل» فكيف يتسق ذلك؟

الإجابة على هذا السؤال تكمن في ملاحظة دقيقة في الأسلوب القرآني ، فالقرآن لا يقول : سوف لا يأتي باطل بعد هذا الكتاب السماوي ، بل يقول لا يأتي الباطل إلى هذا الكتاب (أي القرآن) [ينبغي الانتباه إلى ضمير جملة : يأتيه].

٤٢١

ومعنى الكلام أن لا شيء يستطيع أن يصل إليه ويبطله. (فدقق في ذلك).

* * *

٤٢٢

الآيات

( ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦) )

التّفسير

كتاب الهداية والشفاء :

قام الكفار والمشركون بمحاربة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتكذيبه ، والتصدي للإسلام والقرآن والآيات السابقة كانت تحكي عن الحادهم وكفرهم بآيات الله لذلك جاءت الآية الأولى من الآيات التي بين أيدينا لمواساة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وارشاد

٤٢٣

المسلمين الذين يواجهون الأذى بأنّ لا محيص لهم عن الاستقامة والصبر.

يقول تعالى :( ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ) .

فإذا كانوا يتهمونك بالجنون والكهانة والسحر ، فقد أطلقوا هذه الأوصاف على من قبلك من الأنبياء والمرسلين.

إنّ دعوتك لدين الحق ليست جديدة ، وإنّ ما تواجهه وأنت تدعو للدين الجديد ليس جديدا أيضا ، لذلك ما عليك ـ يا رسول الله ـ إلّا أن ترابط بقوّة وتلزم ما أنت عليه ولا تهتم بكلام هؤلاء ، لأنّ الله معك.

احتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من الآية هو : أنّ الكلام الذي قيل لك من قبل الله هو نفس الكلام الذي قيل لمن قبلك من الأنبياء(١) .

لكن المعنى الأوّل أنسب في المقام ، خاصة مع ملاحظة سياق الآيات القادمة.

يقول الله تبارك وتعالى في نهاية الآية :( إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ ) .

فرحمته ومغفرته للمصدّقين ، وعذابه للمكذبين والمعارضين.

وهذا الجزء من الآية هو بشارة للمؤمنين وتشويق لهم ، وإنذار للكفار وتهديد لهم.

إنّ تقديم (المغفرة) على (العقاب) يشبه ـ في الواقع ـ الموارد الأخرى ، وهو دليل على تقدّم رحمته تعالى على غضبه ، كما جاء في المأثور من الدعاء : «يا من سبقت رحمته غضبه»(٢) .

الآية التي بعدها تتحدث عن ذرائع هؤلاء المعاندين ، وترد على واحدة منها ، إذ هم كانوا يقولون : لماذا لم ينزل القرآن بلسان الأعاجم حتى نهتم به أكثر ويستفيد منه غير العرب؟

__________________

(١) هذا الاحتمال يمكن ملاحظته في تفسير «مجمع البيان» و «التّفسير الكبير» ولكنّ كليهما رجح التفسير الأوّل.

(٢) عن دعاء الجوشن الكبر. الفصل (١٩) الجملة الثامنة.

٤٢٤

إنّها حجّة عجيبة!

ولعلّهم كانوا يستهدفون منها عدم فهم الناس القرآن حتى لا يضطروا إلى منعهم عنه ، كما حكى القرآن عن سلوكهم هذا في آية سابقة في قوله تعالى :( لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ) (١) .

هنا يجيب القرآن على هذا القول بقوله :( وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ) .

ثم يضيفون : يا للعجب قرآن أعجمي من رسول عربي؟ :( ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ ) .

أو يقولون : كتاب أعجمي لأمّة تنطق بالعربية؟!

والآن وبالرغم من نزوله بلسان عربي ، والجميع يدرك معانيه بوضوح ويفهم عمق دعوة القرآن ، إلّا أنّهم ومع ذلك نراهم يصرخون :( لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ) .

إنّ الآية تتحدث في الواقع عن المرض الكامن في نفوس هؤلاء وعجزهم عن مواكبة الهدى والنور الذي أنزل عليهم من ربّهم ، فإذا جاءهم بلسانهم العربي قالوا : هو السحر و، الأسطورة ، وإذا جاءهم بلسان أعجمي فإنّهم سيعتبرونه غير مفهوم ، وإذا جاءهم مزيجا من الألفاظ العربية والأعجمية عندها سيقولون بأنّه غير موزون(٢) !!

وينبغي الانتباه هنا إلى أنّ كلمة (أعجمي) من «عجمة» على وزن «لقمة» وتعني عدم الفصاحة والإبهام في الكلام ، وتطلق «عجم» على غير العرب لأن العرب لا يفهمون كلامهم بوضوح ، وتطلق «أعجم» على من لا يجيد الحديث والكلام سواء كان عربيا أو غير عربي.

بناء على هذا فإنّ (أعجمي) هي (أعجم) منسوبة بالياء.

__________________

(١) في تفسير الفخر الرازي نقرأ قوله : نقلوا في سبب نزول هذه الآية أنّ الكفار لأجل التعنت قالوا : لو نزل القرآن بلغة العجم».

(٢) بعض المفسّرين فسّر قوله تعالى :( ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ ) بنفس معناه المباشر أي مزيج وخليط بين العربي والأعجمي.

٤٢٥

ثم يخاطب القرآن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقول :( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ ) .

أمّا لغيرهم :( وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ ) أيّ «ثقل» ولذلك لا يدركونه.

ثم إنّه :( وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ) (١) . أيّ أنّهم لا يرونه بسبب عماهم ، فهؤلاء كالاشخاص الذين ينادون من بعيد :( أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ) .

ومن الواضح أنّ مثل هؤلاء الأشخاص لا يسمعون ولا يبصرون. فلأجل العثور على الطريق والوصول إلى الهدف لا يكفي وجود النور وحده ، فيجب أن تكون هناك عن تبصر ، كذلك يقال في مسألة التعلّم ، حيث لا يكفي وجود المبلّغ والداعية الفصيح ، بل ينبغي أن تكون هناك أذن تسمع وتعي ، فلا شك في بركة المطر وتأثيره في نمو النباتات. ولكن المسألة في الأرض. طيبة أم خبيثة!!

فالذين يتعاملون مع القرآن بروح تبحث عن الحقيقة سيهتدون وستشفى نفوسهم وصدورهم به ، حيث يعالج القرآن الكريم الأمراض الأخلاقية والروحية ، ثم يشدّون الرحال للسفر نحو الآفاق العالية في ظل نور القرآن وهداه.

أمّا ماذا يستفيد المعاندون والمتعصبون وأعداء الحق والحقيقة وأعداء الأنبياء والرسل ، من كتاب الله تعالى ، فهم في الواقع مثلهم مثل الأعمى والأصم ومن ينادى من مكان بعيد ، فهل تراه يسمع النداء أو يستجيب لهداه ، إنّهم كمن أصيب بالعمى والصمم المضاعف ، وهو بعد ذلك في مكان بعيد!!

ونقل بعض المفسّرين أنّ أهل اللغة يقولون لمن يفهم : أنت تسمع من قريب.

ويقولون لمن لا يفهم : أنت تنادى من بعيد(٢) .

«وثمّة شرح مفصل حول شفاء القرآن ومعالجته لآلام الإنسان الروحية ،

__________________

(١) بعض المفسّرين ذهب إلى القول بأنّ الجملة أعلاه معناها هو : أنّ القرآن هو سبب في عمى هذه الفئة وعدم رؤيتها» في حين أنّ الراغب في المفردات وابن منظور في لسان العرب اعتبروا قول العرب «عمي عليه» بمعنى أنّه «اشتبه حتى صار الإضافة إليه كالأعمى» وبناء على هذا يكون المراد من الآية هو ما ذهبنا إليه في المتن.

(٢) يلاحظ ذلك في تفسير القرطبي حديثه عن الآية.

٤٢٦

يمكن مراجعته ذيل الآية (٨٢) من سورة الإسراء.»

الآية التالية تستمر في مواساة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين معه وتقول لهم : إنّ للعناد والإنكار تأريخ طويل في حياة النبوات :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ) .

وإذ ترى أنّنا لا نعجل في عقاب هؤلاء الأعداء المعاندين ، فذلك لأنّ المصلحة ، تقتضي أن يكونوا أحرارا حتى تتمّ الحجّة عليهم :( وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) أي لكان العقاب قد شملهم بسرعة.

إنّ التأجيل الإلهي إنما يتم هنا لمصلحة الناس ومن أجل المزيد من فرص الهداية والنور ، وبغية إتمام الحجة عليهم ، وهذه السنّة كانت نافذة في جميع الأقوام السابقة ، وهي تجري في قومك أيضا.

لكنّهم لم يصدّقوا بهذه الحقيقة بعد :( وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ) .

«مريب» من «ريب» بمعنى الشك الممزوج بسوء الظن والقلق ، لذلك فمعنى الآية : إنّ المشركين لا يشكون في كلامك وحسب ، بل يزعمون وجود القرائن على بطلانه والتي تؤدي بزعمهم إلى الريب.

بعض المفسّرين احتمل أنّ مراد الجملة الأخيرة هم اليهود وكتاب موسىعليه‌السلام ، بمعنى أنّ هؤلاء القوم لا يزالون يشكون في التوراة ، لكن بعد هذا المعنى يرجح التّفسير الأول(١) .

في الآية الأخيرة ـ من المجموعة ـ نقف أمام قانون عام يرتبط بأعمال الناس ، وقد أكّده القرآن مرارا. وهذا القانون يكمل البحث السابق بشأن استفادة المؤمنين من القرآن ، بينما يحرم غير المؤمنين أنفسهم من فيض النور الإلهي والهدى الرّباني.

يقول تعالى في هذا القانون :( مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما

__________________

(١) ينبغي أن يلاحظ أن الآية بعينها وردت في سورة هود آية (١١٠).

٤٢٧

رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) .

لذا فإنّ من لم يؤمن بهذا الكتاب والدين العظيم فسوف لن يضروا الله تعالى ولا يضروك ، لأن الحسنات والسيئات تعود إلى أصحابها ، وهم الذين سينالون حلاوة أعمالهم ومرارتها.

* * *

مسائل :

أوّلا : الإختيار والعدالة

قوله تعالى :( وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) دليل واضح على قانون الإختيار وحربة الإرادة ، وفيه حقيقة أنّ الله لا يعاقب أحدا بدون سبب ، ولا يزيد في عقاب أحد دون دليل ، فسياسته في عباده العدالة المحضة ، لأنّ الظلم يكون بسبب النقص والجهل والأهواء النفسية ، والذات الإلهية المقدسة منزّهة عن كلّ هذه العيوب والنواقص.

كلمة «ظلّام» والتي هي صيغة مبالغة بمعنى «كثير الظلم» ، يمكن أن تشير ـ هنا وفي آيات قرآنية اخرى ـ إلى أنّ العقاب دون سبب من قبل الخالق العظيم يعتبر مصداقا للظلم الكثير ، لأنّه تعالى منزّه عن هذا الفعل.

وذهب بعضهم الى أن الله تعالى له عباد كثر ، فلو أراد أن يظلم كلّ واحد منهم بجزء يسير قليل ، عندها سيكون مصداقا لـ «ظلّام».

وهذان التّفسيران لا يتعارضان فيما بينهما.

المهم هنا أنّ القرآن وفي هذه الآيات البينات نفى الجبر الذي يؤدي الى اشاعة الفساد وارتكاب أنواع القبائح ، والاعتقاد به يؤدي إلى إلغاء أي نوع من المسؤولية والتكليف ، بينما الجميع مسئولون عن أعمالهم ، نتائجها تعود بالدرجة الأولى عليهم.

٤٢٨

لذلك نقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في الإجابة على هذا السؤال : هل يجبر الله عباده على المعاصي؟

فقال : «لا ، بل يخيرهم ويمهلهم حتى يتوبوا».

فسئلعليه‌السلام مجددا : هل كلف عباده ما لا يطيقون؟

أجاب الإمامعليه‌السلام : «كيف يفعل ذلك وهو يقول :( وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) ».

ثم أضاف الإمام الرضاعليه‌السلام : «إنّ أبي موسى بن جعفر نقل عن أبيه جعفر بن محمّد من زعم أنّ الله يجبر عباده على المعاصي أو يكلفهم ما لا يطيقون فلا تأكلوا ذبيحته ، ولا تقبلوا شهادته ، ولا تصلوا وراءه ولا تعطوه من الزكاة شيئا»(١) .

إنّ هذا الحديث الشريف يشير ـ ضمنا ـ إلى هذه الملاحظة الدقيقة. وهي إنّ الجبريين ينتهون في عقيدتهم إلى القول بـ «التكليف بما لا يطاق» لأنّ الإنسان إذا كان مجبورا على الذنب من ناحية ، وممنوعا عنه من ناحية اخرى ، فهذا يكون مصداقا واضحا للتكليف بما لا يطاق.

ثانيا : الذنوب وسلب النعم

في حديث عميق الدلالة لأمير المؤمنين نقرأ قولهعليه‌السلام : «وأيم الله! ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش فزال عنهم إلّا بذنوب اجترحوها ، لأنّ الله ليس بظلام للعبيد».

ثم أضافعليه‌السلام :

«ولو أنّ الناس حين تنزل بهم النقم ، وتزول عنهم النعم ، فزعوا إلى ربّهم بصدق من نياتهم ، ووله من قلوبهم ، لردّ عليهم كلّ شارد ، وأصلح لهم كلّ فاسد.»(٢) .

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ، نقلا عن نور الثقلين ، المجلد ٤ ، صفحة ٥٥٥.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٨.

٤٢٩

إنّ هذا النص العلوي الكريم يوضح ـ بجلاء ـ علاقة الذنوب بسلب النعم وزوالها.

ثالثا : لماذا كلّ هذا التحجج؟!

لا شك أنّ اللغة العربية أغنى اللغات وأوسعها ، ولكن مع هذا فإنّ عظمة القرآن ليست لأنّه باللغة العربية ، بل تعود عربية القرآن إلى أنّ الله يرسل الرسل بلسان قومهم كي يؤمنوا أولا ، ثمّ ينتشر الدين إلى الآخرين.

لكن أصحاب الذرائع والحجج يطرحون في كلّ موقف حجة أو ذريعة غير منطقية ، وهم يعلمون أنّهم بأسلوبهم هذا لا يبحثون عن الحقيقة ولا ينشدونها.

إنّهم يقولون مرّة : لماذا نزل القرآن بالعربية؟ ألم يكن من الأفضل أن ينزل كلّه أو جزء منه بلغة اخرى حتى يفهمه الآخرون؟ (في حين أنّهم كانوا يهدفون إلى تحقيق شيء آخر هو أن لا ينجذب عامة العرب نحو القرآن الكريم).

ولو حقّق لهم هذا الطلب فسيقولون : كيف يكون الرّسول عربيا وكتابه غير عربي؟

هؤلاء إنّما يهربون من الحق من خلال هذا التذرّع. وعادة ما يكون أسلوب التذرّع وإثارة الحجج دليلا على وجود علة اخرى وهدف آخر يخفيه الإنسان ويغطّي عليه ، وعلّة هؤلاء القوم كانت أنّ عامة الناس شغفوا بالقرآن الكريم وانجذبوا إليه ، فأصبحت مصالحهم في خطر ، لذا فقد استخدموا كلّ الوسائل المتاحة لهم لمواجهة الإسلام دعوة وكتابا ونبيّا.

* * *

٤٣٠
٤٣١

بداية الجزء الخامس والعشرون

من

القرآن الكريم

٤٣٢

الآيات

( إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) )

التّفسير

الله العالم بكلّ شيء :

الآية الأخيرة ـ في المجموعة السابقة ـ تحدثت عن قانون تحمّل الإنسان لمسؤولية أعماله خيرا كانت أم شرا ، وعودة آثار أعماله على نفسه ، وهي إشارة ضمنية لقضية الثواب والعقاب في يوم القيامة.

وهنا يطرح المشركون هذا السؤال : متى تكون هذه القيامة التي تتحدّث عنها؟ الآيتان اللتان نبحثهما تجيبان أولا عن هذا السؤال ، إذ يقول القرآن : إنّ الله وحده يختص بعلم قيام الساعة :( إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ ) .

فلا يعلم بذلك نبيّ مرسل ولا ملك مقرّب ، ويجب أن يكون الأمر كذلك لأغراض تربوية يكون فيها المكلّف على استعداد دائم للمحاسبة في أي ساعة.

٤٣٣

ثم تضيف الآية : ليس علم الساعة لوحدها من مختصات العلم الإلهي فحسب ، بل يندرج معها أشياء اخرى مثل أسرار هذا العالم ، وما يختص بالكائنات الظاهرة والمخفية :( وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ) (١) . إنّ النباتات لا تنمو ، والحيوانات لا تتكاثر ، ولا يضع الإنسان نطفة إلّا بأمر الخالق العظيم و، بمقتضى علمه وحكمته.

«أكمام» جمع «كم» على وزن «جم» وتعني الغلاف الذي يغطّي الفاكهة و «كم» على وزن «قم» تعني الجزء من الرداء الذي يغطّي اليد. أمّا «كمة» على وزن «قبة» فهي القلنسوة على الرأس(٢) .

قال العلّامة الطبرسي في مجمع البيان : تكمم الرجل في ثوبة ، أي غطّى الشخص نفسه بلباسة.

أمّا الفخر الرازي فيفسّر «الأكمام» بمعنى القشرة التي تغطي الفاكهة.

وهناك من المفسّرين من فسروها بأنّها : «وعاء الثمرة»(٣) .

ويبدو أنّ جميع هذه الآراء تعود إلى معنى واحد ، ولأنّ أدق المراحل في عالم الكائن الحي هي مرحلة النمو في الرحم والولادة ، لذلك أكّد القرآن على هاتين القضيتين ، سواء في عالم الإنسان والحيوان ، أم في عالم النبات.

فالله هو الذي يعلم بالنطف وزمان انعقادها في الأرحام ولحظة ولادتها ، ويعلم متى تتشكل الثمار وتنمو ، ومتى تخرج من أغلفتها.

ثم يضيف السياق القرآني : إنّ هذه المجموعة التي تنكر القيامة وتستهزئ بها ، ستتعرض إلى مشهد يقال لهم فيه :( وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ) (٤) .

__________________

(١) «من» في «من الثمرات» و «من أثنى» وكذلك في «من شهيد» تأتي في نهاية الآية كلّها ، زائدة جاءت هنا للتأكيد.

(٢) يلاحظ الراغب في المفردات.

(٣) تفسير الميزان وتفسير المراغي.

(٤) «آذناك» من «إيذان» بمعنى الإعلان ، وجملة «يوم يناديهم» تتعلق بمحذوف. والتقدير : «اذكر يوم يناديهم ...».

٤٣٤

فما كنّا نقوله هو كلام باطل كان كلاما نابعا من الجهل والعناد والتقليد والأعمى ، واليوم عرفنا مدى بطلان ادعاءاتنا الواهية.

وهؤلاء في نفس الوقت الذي يسجلون اعترافهم السابق ، فهم أيضا لا يشاهدون أثرا للمعبودات التي كانوا يعبدونها من دون الله من قبل :( وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ ) .

إنّ مشهد القيامة مشهد موحش مهول بحيث يأخذ منهم الألباب ، فينسون خواطر تلك الأصنام والمعبودات التي كانوا يعبدونها ويسجدون لها ويذبحون لها القرابين ، بل وكانوا أحيانا يضحون بأرواحهم في سبيلهم ، وكانوا يظنون أنّها تحل لهم مشكلاتهم وتنفعهم يوم الحاجة إنّ كلّ ذلك أصبح وهما كالسراب.

ففي ذلك اليوم سيعلمون :( وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ) .

«محيص» من «حيص» على وزن «حيف» وتعني العدول والتنازل عن شيء ، ولأنّ (محيص) اسم مكان ، فهي تعني هنا الملجأ والمفر.

«ظنوا» من «ظنّ» ولها في اللغة معنى واسع ، فهي أحيانا بمعنى اليقين ، وتأتي أيضا بمعنى الظن. وفي الآية مورد البحث جاءت بمعنى اليقين ، إذ أنّهم سيحصل لهم في ذلك اليوم اليقين حيث لا مفرّ ولا نجاة من عذاب الله.

يقول الراغب الأصفهاني في المفردات : «ظن» تعني الاعتقاد الحاصل من الدليل والقرينة ، وهذا الاعتقاد قد يكون قويا في بعض الأحيان ويصل إلى مرحلة اليقين ، وأحيانا يكون ضعيفا لا يتجاوز حدّ الظن.

* * *

__________________

ـ لقد ذكروا لهذه الجملة تفسيرا آخر هو : لا يوجد بيننا اليوم من يشهد بوجود شريك لك ، والكل ينكر وجود الشريك.

٤٣٥

الآيات

( لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) )

التّفسير

في نفس الاتجاه الذي تحدّثت فيه الآيات السابقة ، نلتقي مع مضمون المجموعة الجديدة من الآيات التي بين أيدينا ، والتي تواصل حديثها عن صور اخرى حيّة وناطقة من حياة أناس من عديمي الإيمان وضعافه ، الذين يحملون أفكارا غير ناضجة ومواقف مهزوزة ولا يمتلكون القدرة على تحمل الصعاب.

٤٣٦

يقول تعالى :( لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ ) .

فليس لحرص الإنسان من نهاية ، فكلما يحصل على شيء يطالب بالمزيد ، ومهما يعطى لا يكتفي بذلك.

ولكنّه :( وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ ) .

والمقصود بالإنسان هنا الإنسان غير المتربي بعد بأصول التربية الإسلامية ، والذي لم يتنور قلبه بالمعرفة الإلهية والإيمان بالله ، ولم يحسّ بالمسؤولية بشكل كامل. إنّها كناية عن الناس المتقوقعين في عالم المادة بسبب الفلسفات الخاطئة ، فهم لا يملكون الروح العالية التي تؤهلهم للصبر والثبات ، وتجاوز الحدود المادية إلى ما وراءها من القيم العظيمة.

هؤلاء يفرحون إذا أقبلت الدنيا عليهم ، وييأسون ويحزنون إذا ما أدبرت عنهم ، ولا يملكون ملجأ يلجأون إليه ، ولا يدخل نور الأمل والهداية إلى قلوبهم.

وينبغي أن نشير أيضا إلى أنّ «دعاء» تأتي أحيانا بمعنى المناداة ، وأحيانا بمعنى الطلب ، وفي الآية التي نبحثها جاءت بالمعنى الثّاني.

لذا فقوله تعالى :( لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ ) يعني لا يمل ولا يتعب الإنسان أبدا من طلب الخير والجميل.

وثمّة بيّن المفسّرين اختلاف في الرأي حول «يؤوس» و «قنوط» فيما إذا كانا بمعنى واحد أم لا؟

يرى البعض أنّهما بمعنى واحد ، والتكرار للتأكيد(١) .

وقال البعض الآخر : «يؤوس» من «يئس» بمعنى اليأس في القلب ، أمّا «قنوط» فتعني إظهار اليأس على الوجه وفي العمل(٢) .

أمّا «الطبرسي» فقد قال في مجمع البيان : إنّ الأوّل هو اليأس من الخير ، بينما

__________________

(١) تفسير الميزان ، المجلد ١٧ ، صفحة ٤٢٦.

(٢) الفخر الرازي في التّفسير الكبير ، المجلد ٢٧ ، صفحة ١٣٧ ، وروح المعاني ، المجلد ٢٥ ، صفحة ٤.

٤٣٧

الثّاني هو اليأس من الرحمة(١) .

ولكن الذي نستفيد ، من الاستخدام القرآني أنى الاثنين يستخدمان تقريبا للدلالة على معنى واحد ، فنقرأ في قصة يوسف ـ مثلا ـ أنّ يعقوبعليه‌السلام حذّر أبناءه من اليأس من رحمة الله ، في حين كانت قلوبهم يائسة من العثور على يوسف ، وكانوا أيضا يظهرون علامات اليأس.(٢) .

وفي حالة إبراهيمعليه‌السلام نرى أنّه عجب من البشارة التي زفتها إليه الملائكة بالولد ، لكن الملائكة قالت له :( بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ ) (٣) .

الآية التالية تشير إلى صفة اخرى من صفات الإنسان الجاهل البعيد عن العمل والإيمان متمثلة بالغرور :( وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي ) (٤) أي إنّني مستحق ولائق لمثل هذه المواهب والمقام.

إنّ الإنسان المغرور ينسى أنّ البلاء كان من الممكن أن يشمله عوضا عن النعمة ، تماما كما قال قارون :( قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي ) (٥) .

تضيف الآية بعد ذلك أنّ هذا الغرور يقود الإنسان في النهاية إلى إنكار الآخرة حيث يقول :( وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ) . ولنفرض أنّ هناك قيامة فإنّ حالي سيكون أحسن من هذا :( وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى ) .

إنّ هذه الحالة تشابه ما استمعنا إليه في سورة الكهف من قصة الرجلين الذين كان أحدهما غنيا مغرورا ، والثّاني عارفا مؤمنا ، حيث حكت الآية على لسان الثري المغرور قوله :( ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ١٨.

(٢) يوسف ، الآية ٨٧ فما فوق.

(٣) الحجر ـ ٥٥.

(٤) ذهب بعض المفسرين للقول بأن جملة «هذا لي» تعني أن هذه النعمة ستبقى دائما لي ، أي إنها في الحقيقة توضح دوام ذلك ، إلا أن التفسير الذي عرضناه أعلاه أنسب بالرغم من إمكان الجمع بين الإثنين ، أي إنهم يعتبرون أنفسهم مستحقين للنعم ، ويتصورونها دائمة لهم أيضا.

(٥) القصص ، الآية ٧٨.

٤٣٨

إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً ) (١) .

لكنّ الله يحذّر أمثال هؤلاء بقوله تعالى :( فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ ) .

«العذاب الغليظ» هو العذاب الشديد المتراكم.

نفس هذا المعنى لاحظناه في مكان آخر من القرآن ، في قوله تعالى في الآية (١٠) من سورة هود :( وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ) .

الآية التي بعدها تذكر حالة ثالثة لمثل هؤلاء ، هي حالة النسيان عند النعمة وفزع والجزع عند المصيبة.

يقول تعالى :( وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ ) أما :( وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ ) .

«نآ» من «نأي» على وزن «رأي» وتعني الابتعاد ، وعند ما تقترن مع كلمة «بجانبه» فتكون كناية عن التكبر والغرور ، لأنّ المتكبرين ينأون بوجوههم دون اهتمام ويبتعدون.

«العريض» مقابل الطويل ، ويستخدم العرب هاتين الكلمتين للدلالة على الزيادة والكثرة.

وفي الاية (١٢) من سورة يونس نرى معاني شبيهة لما نحن بصدده ، حيث يقول تعالى :( وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

إنّ الإنسان الذي يفتقد الإيمان والتقوى يكون عرضة لمثل هذه الحالات ، فهو مع إقبال النعم مغرور ناس لله ، وإذا أدبرت عنه قنوط يائس كثير الجزع.

وفي الجانب المقابل نرى أنّ رجال الحق وأتباع الأنبياء والرسل لا يتغيرون

__________________

(١) الكهف ، الآيات ، ٣٥ ـ ٣٧.

٤٣٩

إذا أقبلت عليهم النعم ، ولا يهنون أو ييأسون أن يجزعون عند إدبارها ، إنّهم مصداق قوله تعالى :( رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ) فأربح التجارة لا تنسيهم ربّهم ، إنّهم عارفون حق المعرفة بفلسفة النعمة والبلاء في هذه الدنيا ، يعلمون أنّ الابتلاءات ناقوس خطر لهم ، بينما النعم اختبار وامتحان إلهي لهم.

ومن الابتلاء ما يكون أحيانا عقوبة للغفلة والنسيان ، والنعم لإثارة دوافع الشكر لدى العباد.

ويلفت النظر هنا طرافة الاستخدام القرآني لكلمتي «أذقنا» و «مسه» والتي تعني أنّهم مع قليل جدا من إقبال الدنيا عليهم يتغيرون وينسون ويصابون بالغرور ، وهؤلاء مع «مسّة» قليلة من ضرر أو بلاء يصابون باليأس والقنوط.

من هنا نقف على قيمة سعة الروح ، وتدفق النفس بالإيمان ، واتساع آفاق الفكر ، وانشراح الصدر ، واستعداد الإنسان لمواجهة المشاكل والصعاب ، وتحدي المزالق والأهواء ، التي تعتبر جميعا من ثمار الإيمان والتقى.

يقول شهيد المحراب الإمام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في أحد أدعيته التي تعتبر درسا لأصحابه : «نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإيّاكم ممن لا تبطره نعمة ، ولا تقصر به عن طاعة ربّه غاية ، ولا تحل به بعد الموت ندامة وكئابة»(١) .

الآية الأخيرة تتضمن الخطاب الأخير لهؤلاء ، وتبيّن لهم ـ بوضوح ـ الأصل العقلي المعروف بدفع الضرر المحتمل ، حيث تخاطب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ ) (٢) .

ومن الواضح أن هذا الكلام إنّما يقال للاشخاص الذين لا ينفع معهم أيّ دليل منطقي لشدّة عنادهم وتعصبهم. فالآية تقول لهؤلاء : إذا كنتم ترفضون حقانية

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة رقم ٦٤.

(٢) «أرأيتم» تأتي عادة بمعنى «أخبروني» وتفسّر بنفس المعنى.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607