الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 175222 / تحميل: 5845
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

القرآن والتوحيد ووجود عالم ما بعد الموت وتصرون عليه ، فأنتم لا تملكون حتما دليلا قاطعا على هذا الرفض ، لذا يبقى ثمّة احتمال في أن تكون دعوة القرآن وقضية المعاد حقيقة موجودة ، عندها عليكم أن تتصوروا المصير الأسود الموحش الذي ينتظركم لعنادكم وضلالكم ومعارضتكم الشديدة إزاء الدين الإلهي.

إنّه نفس الأسلوب الذي نقرأ عنه في محاججة أئمّة المسلمين لأمثال هؤلاء الأفراد ، كما نرى ذلك واضحا في الحادثة التي ينقلها العلّامة الكليني في «الكافي» حيث يذكر فيه الحوار الذي دار بين الإمام الصادقعليه‌السلام وابن أبي العوجاء.

فمن المعروف أنّ «عبد الكريم بن أبي العوجاء» كان من ملاحظة عصره ودهرييها ، وقد حضر الموسم (الحج) أكثر من مرّة والتقى مع الإمام الصادق في مجالس حوار ، انتهت إلى رجوع بعض أصحابه عنه إلى الإسلام ، ولكنّ ابن أبي العوجاء لم يسلم ، وقد صرح الإمام (ع) بأن سبب ذلك هو إنّه أعمى ولذلك لا يسلم.

والحادثة موضع الشاهد هنا ، هي أنّ الإمام بصر بابن أبي العوجاء في الموسم فقال له : ما جاء بك إلى هذا الموضع؟

فأجاب ابن أبي العوجاء : عادة الجسد ، وسنة البلد ، ولننظر ما الناس فيه من الجنون والحلق ورمي الحجارة!

فقال له الإمام : أنت بعد على عتوك وضلالك يا عبد الكريم(١) .

وعند ما أراد أن يبدأ بالمناقشة والجدال قال له الإمامعليه‌السلام : لا جدال في الحج.

__________________

(١) يناديه الإمام بهذا الاسم ، وهو اسمه الحقيقي مع كونه منكرا لله لكي يشعره مهانة ما هو عليه وهذا اسمه.

٤٤١

ثم قال له : إن يكن الأمر كما تقول ، وليس كما نقول ، نجونا ونجوت. وإن يكن الأمر كما نقول ، وهو كما نقول نجونا وهلكت.

فأقبل عبد الكريم على من معه وقال : وجدت في قلبي حزازة (ألم) فردّوني ، فردوه فمات(١) .

* * *

مسألة :

يثار هنا السؤال الآتي : لقد قرأنا في الآيات التي نبحثها قوله تعالى :( إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ ) ولكنّا نقرأ في سورة «الإسراء» قوله تعالى :( وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً ) (٢)

والسؤال هنا كيف نوفق بين الآيتين ، إذ المعروف أنّ الدعاء دليل الأمل ، في حين تتحدث الآية الأخرى عن يأس أمثال هؤلاء؟

أجاب بعض المفسّرين على هذا السؤال بتقسيم الناس إلى مجموعتين ، مجموعة تيأس نهائيا عند ما تصاب بالشر والبلاء ، واخرى تصر على الدعاء برغم ما بها من فزع وجزع(٣) .

البعض الآخر قال : إنّ اليأس يكون من تأمّل الخير أو دفع الشر عن طريق الأسباب المادية العادية ، وهذا لا ينافي أن يلجأ الإنسان إلى الله بالدعاء(٤) .

ويحتمل أن تكون الإجابة من خلال القول بأنّ المقصود من( فَذُو دُعاءٍ

__________________

(١) الكافي ، المجلد الأول ، ص ٧٧ ـ ٧٨ ، كتاب التوحيد باب حدوث العالم.

(٢) الإسراء ، الآية ٨٣.

(٣) تفسير روح البيان ، المجلد الثامن ، صفحة ٢٨٠.

(٤) تفسير الميزان ، مجلد ١٧ ، ص ٤٢٨ ، لكن هذا التفسير لا يناسب المقام كثيرا ، خاصة وإن الآيات أعلاه هي بصدد ذم مثل هؤلاء الأشخاص ، في حين أن قطع الأمل من الأسباب الظاهرية والتوجه نحو الله ليس عيبا وحسب ، بل يستحق التنويه والمدح.

٤٤٢

عَرِيضٍ ) هو ليس الطلب من الله ، بل الجزع والفزع الكثير ، ودليل ذلك قوله تعالى في الآية (٢٠) من سورة المعارج :( إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ) .

أو أن الآيتين تعبّران عن حالتين ، إذ أنّ هؤلاء الأفراد يقومون أولا بالدعاء وطلب الخير من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم فزعون جزعون ، ثمّ لا تمرّ فترة قصيرة إلّا ويصابون باليأس الذي يستوعب وجودهم كلّه.

* * *

٤٤٣

الآيتان

( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤) )

التّفسير

علائم الحق في العالم الكبير والصغير :

الآيتان الختاميتان في هذه السورة تشيران إلى موضوعين مهمين ، وهما بمثابة الخلاصة الأخيرة لبحوث هذه السورة المباركة.

فالآية الأولى تتحدث عن التوحيد (أو القرآن) ، والثانية عن المعاد.

يقول تعالى :( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ ) .

«آيات الآفاق» تشمل خلق الشمس والقمر والنجوم والنظام الدقيق الذي يحكمها ، وخلق أنواع الأحياء والنباتات والجبال والبحار وما فيها من عجائب وأسرار لا تعد ولا تحصى ، وما في عالم الأحياء من عجائب لا تنتهي ، إنّ كلّ هذه الآيات هي دليل على التوحيد وعلى وجود الله.

أمّا «الآيات النفسية» مثل خلق أجهزة جسم الإنسان ، والنظام المحير الذي

٤٤٤

يتحكم بالمخ وحركات القلب المنتظمة والشرايين والعظام والخلايا ، وانعقاد النطفة ونمو الجنين في ظلمات الرحم. ثمّ أسرار الروح العجيبة. إنّ كلّ ذلك هي كتاب مفتوح لمعرفة الإله الخالق العظيم.

صحيح أنّ هذه الآيات قد طرقت سابقا بمقدار كاف من قبل الله تعالى ، إلّا أنّ هذه العملية والإراءة مستمرة ، لأنّ (سنريهم) فعل مضارع يدل على الاستمرار ، وإذا عاش الإنسان مئات الآلاف من السنين ، فسوف تنكشف له في كلّ زمان علامات وآيات إلهية جديدة ، لأنّ أسرار العالم لا تنتهي.

إنّ كافة كتب وبحوث العلوم الطبيعية وما يتصل بمعرفة الإنسان في أبعاده المختلفة (التشريح ، فسلجة الأعضاء ، علم النفس ، والتحليل النفسي) وكذلك العلوم التي تختص بمعرفة النباتات والحيوانات والهيئة والطبيعة وغير ذلك ، تعتبر في الواقع كتبا وبحوثا في التوحيد ومعرفة الخالق (جلّ وعلا) لأنّها عادة ما ترفع الحجب عن الأسرار العجيبة لتبيّن قدرا من حكمة الخالق العظيم ، وقدرته الأزلية ، وعلمه الذي أحاط بكل شيء.

أحيانا يستحوذ علم واحد من هذه العلوم ، بل فرع من فروعه المتعدّدة على اهتمام عالم من العلماء فيصرف عمره في سبيله ، وفي النهاية يقرّر قائلا : مع الأسف لا زلت لا أعرف شيئا عن هذا الموضوع ، وما علمته لحد الآن تجعلني أغوص أكثر في أعماق جهلي ، نعود الآن إلى الآية التي تنتهي بجملة ذات مغزى حيث يقول تعالى :( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (١) .

وهل هناك شهادة أفضل وأعظم من هذه التي كتبت بخط القدرة التكوينية على ناصية جميع الكائنات ، على أوراق الشجر ، في الأوراد والزهور ، وبين

__________________

(١) ذهب الكثير من المفسّرين إلى أنّ «الباء» زائدة و «ربك» تقوم مقام الفاعل. وجملة «أنّه على كلّ شيء شهيد» «بدل» ذلك ، والمعنى يكون هكذا : «أولم يكفهم أن ربّك على كلّ شيء شهيد».

٤٤٥

طبقات المخ العجيبة ، وعلى الأغشية الرقيقة للعين ، وفي آفاق السماء وبواطن الأرض ، وفي كلّ شيء من الوجود تجد أثرا يدل على الخالق ، وشهادة تكوينية على وحدانيته وقدرته وحكمته وعلمه (سبحانه وتعالى).

إنّ ما قلناه أعلاه هو أحد التّفسيرين المعروفين للآية ، إذ بناء على هذا التّفسير فإن الآية بجميعها تتحدث عن قضية التوحيد ، وتجلّي آيات الحق في الآفاق والأنفس.

أمّا التّفسير الثّاني فيذهب إلى قضية إعجاز القرآن ، وخلاصته أنّ الله يريد أن يقول : لقد عرضنا معجزاتنا ودلائلنا المختلفة لا في جزيرة العرب وحسب ، وإنّما في نواحي العالم المختلفة ، وفي هؤلاء المشركين أنفسهم ، حتى يعلموا بأنّ هذا القرآن على حق.

فمن آيات الآفاق ما تمثّل بانتصار الإسلام في ميادين الحرب المختلفة ، وفي ميدان المواجهة الفكرية والمنطقية ، ثمّ انتصاره في المناطق التي فتحها وحكم فيها على أفكار الناس.

ثم إنّ نفس المجموعة من المسلمين التي كانت في مكّة ، كيف يسّر الله لها أمرها بالهجرة ، ثمّ انطلقت إلى بقاع الدنيا ، لتدين لدينها الشعوب في مناطق واسعة من العالم ورفع راية الإسلام.

ومن آيات الأنفس ما تمثل في انتصار المسلمين على مشركي مكّة في معركة بدر ، وفي يوم فتح مكّة ، ونفوذ نور الإسلام إلى قلوب العديد منهم.

إنّ هذه الآيات الآفاقية والأنفسية أثبتت أنّ القرآن على حق.

وهكذا فإنّ الخالق العظيم الذي يشهد على كلّ شيء ، شهد أيضا على حقانية القرآن عن هذا الطريق.

وبالرغم من أنّ لكل واحد من هذين التّفسيرين قرائن وأدلة ترجحه ، إلّا أن

٤٤٦

التأمل في نهاية الآية والآية التي تليها يكشف عن رجاحة التّفسير الأوّل(١) .

وثمّة أقوال اخرى في تفسير الاية تركناها لعدم جدواها.

الآية الأخيرة في السورة تشير إلى الأساس والسبب في شقاء هذه المجموعة المشركة الفاسدة ، إذ يقول تعالى عنهم :( أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ ) .

ولأنّهم لا يؤمنون بيوم الحساب والجزاء ، فهم يقومون بأنواع الجرائم والمعاصي مهما كانت ، ومهما بلغت. إنّ حجب الغفلة والغرور تهيمن على هؤلاء فتنسيهم لقاء الله ، ممّا يؤدي بهم إلى السقوط عن مصاف الإنسانية.

ولكنّهم يجب أن يعلموا :( أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ) .

إنّ جميع أعمالهم ونواياهم حاضرة في علم الله ، وكل ذلك يسجّل لمحكمة القيامة والحشر.

«مرية» على وزن «جزية» و «قرية» تعني التردّد في اتخاذ القرار ، والبعض اعتبرها بمعنى الشك والشبهة العظيمة ، والكلمة مأخوذة في الأصل من «مريت الناقة» بمعنى عصر ثدي الناقة بعد حلبها أملا بوجود بقايا الحليب فيه ، ولأنّ هذا العمل مع الشك والتردّد ، فقد وردت هذه الكلمة بهذا المعنى.

وعند ما نسمع إطلاق كلمة «المراء» على «المجادلة» فذلك لما يحاوله

__________________

(١) التّفسير الأوّل له أربعة مرجحات هي :

أولا : إنّ أكثر ما تؤكد عليه الآيات هو قضية التوحيد وأدلته.

ثانيا : إنّ تعبيري «آفاق وأنفس» أكثر تناسبا مع آيات التوحيد.

ثالثا : نشير نهاية الآية في قوله تعالى :( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) إلى قضية التوحيد ، وشهادة الله التكوينية على حقانية ذاته المنزّهة.

رابعا : الآية التي تليها تتحدث عن المعاد ، ونحن نعرف أنّ المبدأ والمعاد غالبا ما يقترن أحدهما بالآخر.

أما التّفسير الأوّل فله ثلاثة مرجحات هي :

أوّلا : إنّ ضمير «إنّه» مفرد للغائب ، في حين أنّ ضمير «آياتنا» متكلّم مع الغير ، وهذه إشارة إلى أنّ كلّ ضمير من الضميرين يختص بمتابعة موضوع خاص.

ثانيا : إنّ الآية السابقة كانت حول القرآن بالخصوص.

ثالثا : إنّ جملة «سنريهم» التي هي فعل مضارع للاستمرار ، تفيد هذا المعنى بالذات ، أي أنّ الآيات المذكورة سنعرضها فيما بعد.

٤٤٧

الإنسان من إخراج ما في ذهن الطرف الآخر.

والآية ـ في هذا الجزء منها ـ رد على شبهات الكفار بخصوص المعاد ، فهؤلاء يقولون : كيف يمكن لهذا التراب المتناثر المختلط مع بعضه البعض أن ينفصل؟ ومن يستطيع أن يجمع أجزاء الإنسان؟ والأكثر من ذلك : من الذي يحيط بنيات الناس وأعمالهم على مدى تأريخ البشرية؟

القرآن يجيب على كلّ ذلك بالقول : كيف يمكن للخالق المحيط بكل شيء أنّ لا تكون هذه الأمور طوع قدرته وواضحة بالنسبة له؟

ثم إنّ دليل إحاطة علمه بكل شيء ، هو تدبيره لكل هذه الأمور ، فكيف يجوز له أن لا يعلم بأمور ما خلق ودبّر؟

بعض المفسّرين اعتبر أنّ الآية تختص بالتوحيد وليس بالمعاد ، حيث يقول العلامة الطباطبائي في ذلك : «الذي يفيده السياق أنّ في الآية تنبيها على أنّهم لا ينتفعون بالاحتجاج على وحدانيته تعالى بكونه شهيدا على كلّ شيء ، وهو أقوى براهين التوحيد وأوضحها لمن تعقل ، لأنّهم في مرية وشك من لقاء ربّهم ، وهو تعالى غير محجوب بصفاته وأفعاله عن شيء من خلقه»(١) .

ولكن هذا التّفسير مستبعد نظرا لأنّ تعبير «لقاء الله» عادة ما يأتي للكناية على يوم القيامة.

* * *

بحوث

أوّلا : التوحيد بين دليل «النظم» ودليل «الصدّيقين»

أشار الفلاسفة في بحوثهم حول التوحيد إلى الأهمية الكبيرة لنوعين من الاستدلال على الخالق جلّ وعلا : أحدهما الاستدلال من خلال «النظم».

__________________

(١) تفسير الميزان. المجلد (١٧). صفحة (٤٠٥).

٤٤٨

والآخر دليل «الصديقين».

ودليل «النظم» كما يظهر من اسمه ، يبدأ من نظام عالم الوجود وأسراره ودقائقه ، ليرشد إلى مصدر العلم والقدرة والخلق الذي أوجد ذلك ودبره ، والقرآن الكريم مليء بهذا النوع من الاستدلال ، فهو يذكر نماذج كثيرة عن آيات الله في السماء والأرض وفي مظاهر الحياة ونظمها وما يمور فيها من كائنات ، وينتهي من هذا الطريق إلى إثبات وجود الصانع المدبّر (جلّ وعلا).

إنّ كلّ شخص يستطيع استيعاب هذا النوع من الاستدلال مهما كان مستواه وعلى قدر ما يجمل من علم وإدراك ، إذ يستفيد منه أكبر العلماء على قدر استعداده وثقافته استيعابه ، في نفس الوقت الذي يستفيد منه الأمّي وغير المتعلّم وغير المطّلع على فنون العلوم والمعرفة.

أمّا دليل «الصديقين» فهو نوع من الاستدلال يقوم بالوصول إلى (الذات) بواسطة (الذات) نفسها ، ومثل هؤلاء يعرفونه تعالى من خلال وجوب وجوده.

بعبارة اخرى : إنّ الممكنات والمخلوقات لا تكون هنا واسطة لإثبات وجوده ، بل إنّ ذاته بنفسه تدل على ذاته ، ويكون تعالى مصداقا لـ «يا من دلّ على ذاته بذاته»(١) ومصداقا أيضا لـ( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) (٢) .

إنّ هذا الاستدلال استدلال فلسفي معقد بحيث لا يستطيع أن يحيط بكنهه وبأعماقه إلّا من يحيط بمبادئه ، وليس من قصدنا هنا تبسيط الدليل فذلك شأن الكتب الفلسفية ، وإنّما أردنا من خلال هذا العرض أن نقف على آراء بعض المفسّرين من الذين يعتقدون بأنّ مطلع الآية في قوله تعالى :( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ ) يتضمّن إشارة إلى دليل «النظم» والعلة والمعلول. بينما اعتبروا نهاية الآية في قوله تعالى :( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) إشارة إلى دليل

__________________

(١) هذا المقطع من دعاء الصباح المنقول عن أمير المؤمنينعليه‌السلام .

(٢) آل عمران ، الآية ١٨.

٤٤٩

«الصديقين».

ولكن ليس ثمّة قرائن واضحة من نفس الآية تؤيد فكرة هذا الاستنتاج!

ثانيا : حقيقة إحاطة الله بكل شيء

يجب أن لا نتصور ـ مطلقا ـ أنّ إحاطة الخالق جلّ وعلا بالموجودات والكائنات تشبه إحاطة الهواء الذي يلف الكرة الأرضية ويغلّفها ، لأنّ مثل هذه الإحاطة هي دليل المحدودية ، بل الإحاطة المعنية هنا تتضمن معنى دقيقا ولطيفا يتمثل في ارتباط كلّ الكائنات والموجودات بالذات المقدسة.

وبعبارة اخرى : لا يوجد في عالم الوجود سوى وجود أصيل واحد قائم بذاته ، وبقية الموجودات والكائنات تعتمد عليه وترتبط به ، بحيث لو زال هذا الارتباط لحظة واحدة فلا يبقى شيء منها.

إنّ هذه الإحاطة نتلمّس كنهها وحقيقتها في الكلمات الواردة عن أمير المؤمنينعليه‌السلام إذ يقول : «مع كلّ شيء لا بمقارنة ، وغير كلّ شيء لا بمزايلة».

وقد نلمح هذا المعنى بعينه فيما ذكره الإمام الحسينعليه‌السلام في دعاء عرفة ذي المحتوى العميق ، إذ يقول فيه : «أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك ، حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيبا ، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيبا»(١) .

ثالثا : آيات الآفاق والأنفس

لو أتيح للإنسان أن ينكر كلّ ما يستطيع ، فهو لا يستطيع أن ينكر وجود نظام دقيق قائم يعم بنسقه عالم الوجود ، فأحيانا يقضي عالم معين كلّ عمره بالدرس

__________________

(١) مقطع من دعاء الإمام الحسينعليه‌السلام في يوم عرفة ، وهو ممّا تذخر به كتب الأدعية.

٤٥٠

والمطالعة حول تركيب العين وأسرارها أو المخ أو القلب ، ويقرأ الكتب الكثيرة ممّا كتب حول الموضوع ، إلّا أنّه أخيرا يعترف بأنّ هناك أسرارا كثيرة حول موضوعه لا تزال مجهولة.

وهنا يجب أن لا يغيب عن بالنا أنّ علوم علماء اليوم ، ليست هي سوى نتيجة متراكمة لجهود ودراسات آلاف العلماء عبر تأريخ البشر.

إنّ العالم اليوم ينطق في كلّ جزء من أجزائه بوجود قدرة أزلية تمكن وراءه ، فكل شيء يدل على الصانع لمدبّر ، وأي نبات ينبت على الأرض يهتف «وحده لا شريك له».

نستطيع هنا أن نترك الحديث عن القضايا العلمية المعقدة ، ونتجه إلى ظواهر عادية ممّا ينتشر حولنا ، لنتلمّس فيها أدلة واضحة على إثبات الصانع العظيم.

ولا بأس هنا من ذكر هذين المثالين :

المثال الأول : الجميع يعرف أنّ هناك تقوّس في أخمص قدم كلّ إنسان بحيث لا يبدو الأمر ملفتا للنظر مطلقا ، ولكنّا نسمع في معاملات الفحص الطبي الخاص بأداء الخدمة العسكرية ، أنّ الشاب الذي يفتقد مثل هذا التقوّس يعفى من الخدمة العسكرية أو يحال إلى الأعمال المكتبية الإدارية.

إنّ الإنسان الذي يفتقد مثل هذا التقوس يتعب بسرعة ، ولا يملك الاستعداد الكافي لأداء الخدمة العسكرية التي تستدعي المشي الطويل.

وهكذا كلّ شيء في هذا العالم وفي وجود الإنسان مخلوق بدقّة ونظم ، حتى التقوس البسيط في أخمص قدم الإنسان!

المثال الثّاني : في داخل فم الإنسان وعينه منابع فوّارة منتظمة ودقيقة الإفراز ، يخرج من فتحتها الصغيرة على مدى حياة الإنسان سائلان مختلفان تماما ، لولاهما لما استطاع الإنسان أن يكون قادرا على الرؤية أو التحدّث أو مضغ الطعام وبلعه.

٤٥١

بعبارة اخرى : إنّ الحياة مستحيلة بدون هذين السائلين العاديين ظاهرا!

فبدون أن يكون سطح العين رطبا بشكل دائم يستحيل دوران الحدقة التي ستصاب بآلام كثيرة والأذى بمجرّد ملامستها لأجسام صغيرة ، بل ستمنعها هذه الأجسام عن الحركة.

كذلك إذا لم يكن فم الإنسان وبلعومه رطبا ، فإنّ الكلام يصبح أمرا مستحيلا بالنسبة له ، وكذلك مضغ الطعام وبلعه. بل وحتى التنفس إذا كان الفم جافا.

وكذلك ينبغي أن تكون التجاويف الأنفية رطبة دائما حتى يسهل دخول الهواء ومروره باستمرار.

والدقيق هنا أنّ ماء العين ينزل عبر قنوات خاصة من العين إلى الأنف للمحافظة على رطوبته ، وإذا قدّر لهذا المجرى أن يغلق ليوم واحدا فقط ـ كما نشاهد ذلك في حال بعض المرضى ـ فإن الدموع ستسيل على الوجه بشكل دائم وسيكون لها منظر مزعج مؤذ.

ونفس الكلام يقال بالنسبة للغدد اللعابية في الفم ، فقلّة إفرازاتها تزيد من جفاف اللسان والفم والبلعوم ، وكثرته تعوق التحدث وتجعل اللعاب يسيل من الفم إلى الخارج.

ثم إنّ المذاق الملحي للغدد الدمعية يؤدي إلى حفظ أنسجة العين ضدّ الأجسام الغريبة بمجرّد دخولها إلى العين.

بينما يفتقد اللعاب لأي طعم ، كي يستطيع الإنسان أن يشعر بالمذاق الخاص للأطعمة ، بينما تساعد الأملاح الموجودة فيه على هضم الطعام.

وإذا تدبرنا في طبيعة التكوين الكيمياوي والفيزيائي لسوائل هذه الغدد وأنظمتها الدقيقة ومنافعها ، نتبيّن عندها أنّ وجودها لا يمكن أن يكون مجرّد صدفة عمياء لا تعقل ولا تعي ، بل هي من آيات الله الأنفسية ومصداق لقوله الحق جلّ وعلا :( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ ) .

٤٥٢

وفي إشارة عابرة لكنّها كبيرة الدلالة والمعنى ، يتحدث الإمام الصادق في الحديث المعروف بتوحيد المفضّل ، الذي هو غني جدّا في الإشارة إلى الآيات الآفاقية والأنفسية لله في الوجود ، يقولعليه‌السلام : «أي مفضل! تأمل الريق وما فيه من المنفعة ، فإنّه جعل يجري جريانا دائما إلى الفم ، ليبل الحلق واللهوات فلا يجف ، فإنّ هذه المواضع لو جعلت كذلك كان فيه هلاك الإنسان ، ثمّ كان لا يستطيع أن يسيغ طعاما إذا لم يكن في الفم بلة تنفذه ، تشهد بذلك المشاهدة»(١) .

فإذا تجاوزنا جسم الإنسان فإنّ روحه بؤرة للعجائب بحيث حيّرت جميع العلماء. وثمّة آلاف الآلاف من هذه الآيات البينات التي تشهد جميعا «أنّه الحق».

وهنا يلتقي صوتنا ـ بدون إرادة منّا ـ مع صوت الحسينعليه‌السلام ، ونقول : «عميت عين لا تراك»!!

نهاية سورة فصّلت

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلد ٣ ، صفحة ٧٧.

٤٥٣
٤٥٤

سورة الشّورى

مكيّة

وعدد آياتها ثلاث وخمسون آية

٤٥٥
٤٥٦

«سورة الشورى»

نظرة عامة في محتوى السورة :

إنّ إطلاق اسم «الشورى» على هذه السورة المباركة يعود إلى محتوى الآية (٣٨) منها والتي تدعو المسلمين إلى المشورة في أمورهم.

ولكن بالإضافة إلى هذا الموضوع ، وإلى ما تتضمنه السورة من بحوث ومضامين السور المّكية من بحث في المبدأ والمعاد ، والقرآن والنبوّة ، فإنّها تتناول قضايا اخرى يمكن الإشارة إليها مختصرا بما يلي من نقاط :

القسم الأول : وهو أهم أقسام السورة ، يشتمل البحث فيه على قضية الوحي الذي يمثل طريق ارتباط الأنبياءعليهم‌السلام بالله تبارك وتعالى.

والملاحظ أنّ هذا الموضوع يلقي بظلاله على جميع أجزاء السورة ، فالسورة تبدأ بالإشارة إليه وتنتهي به أيضا.

وكامتداد لهذا الموضوع تثير السورة بحوثا حول القرآن ونبوة نبيّ الإسلام وبداية الرسالة منذ أيام نبيّ الله نوحعليه‌السلام .

القسم الثّاني : إشارات عميقة المعنى إلى دلائل التوحيد ، وآيات الله في الآفاق والأنفس التي تكمّل البحث في موضوع الوحي.

وفي هذا القسم ثمّة بحوث حول توحيد الربوبية.

القسم الثّالث : في السورة إشارات إلى قضية المعاد ومصير الكفار في القيامة.

٤٥٧

وهو محدود قياسا إلى الأقسام الأخرى.

القسم الرابع : تشتمل السورة على مجموعة من البحوث الأخلاقية التي تعكسها السورة بشكل خاص ودقيق. فهي تدعو أحيانا إلى ملكات خاصة مثل الاستقامة والتوبة والعفو والصبر وإطفاء نار الغضب.

وتنتهي في المقابل عن الرذيلة ، والطغيان في مقابل النعم الإلهية ، أو العناد وعبادة الدنيا ، وكذلك تنهى عن الفزع والجزع عند ظهور المشاكل.

إنّ السورة تنطوي على مجموعة متكاملة من دروس الهدى هي في الواقع شفاء للصدور ومسالك نور في طريق الحق.

فضيلة تلاوة السورة :

جاء في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «من قرأ سورة حم عسق كان ممن تصلّي عليه الملائكة ، ويستغفرون له ويترحمون عليه»(١) .

وفي حديث آخر عن الصادق نقرأ قولهعليه‌السلام «من قرأ حم عسق بعثه الله يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر ، حتى يقف بين يدي اللهعزوجل فيقول : عبدي أدمنت قراءة حم عسق ولم تدر ما ثوابها ، أمّا لو دريت ما هي وما ثوابها لما مللت من قراءتها ، ولكن سأجزيك جزاءك ، أدخلوه الجنّة».

وعند ما يدخل الجنّة يرفل بأنواع النعم الإلهية التي ذكرها الإمام الصادق في الحديث الآنف بشكل مفصل(٢) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ـ ١٠ ، ص ٣١ ، طبعة دار المعرفة.

(٢) ثواب الأعمال ، نقلا عن تفسير نور الثقلين ، المجلد الرابع ، صفحة ٥٥٦.

٤٥٨

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) )

التّفسير

تكاد السماوات يتفطّرن!

مرة اخرى تواجهنا الحروف المقطّعة في مطلع السورة ، وهي هنا تنعكس بشكل مفصل ، إذ بين أيدينا خمسة حروف.

«حم» موجودة في بداية سبع سور قرآنية (المؤمن ، فصلت ، الشورى ، الزخرف ، الدخان ، الجاثية ، والأحقاف) ولكن في سورة الشورى أضيف إليها مقطع( عسق ) .

وقد ذكرنا مرارا أنّ للمفسّرين آراء وبحوثا كثيرة حول هذه الحروف ، يجملها صاحب مجمع البيان العلّامة الطبرسي في أحد عشر قولا ، وقد ذكرنا أهم

٤٥٩

تلك الأقوال في مطلع الحديث عن سور : البقرة ، آل عمران ، والأعراف ، ومريم ، وغضضنا الطرف عن غير المهم منها.

ونذكر الآن بعضا لا بأس به من هذه الأقوال بالرغم من عدم قيام دليل قاطع على صحتها.

فمنها قولهم أنّ هذه الحروف جاءت كأسلوب للفت أنظار الناس إلى القرآن ، لأنّ المشركين والمعاندين كانوا قد تواصوا فيما بينهم على عدم استماع آيات الله ، خاصّة عند ما كان رسول الله يقرؤها عليهم ، إذ كانوا يثيرون الضوضاء ، لذلك جاءت الحروف المقطعة (في ٢٩ سورة قرآنية) لتكون أسلوبا جديدا في جلب الانتباه.

وقد ذكر العلّامة الطباطبائي احتمالا آخر يمكن أن نضيفه إلى ما استخلصه العلّامة الطبرسي من الأقوال الأحد عشر ليكون المجموع اثنا عشر تفسيرا.

وما ذكره العلامة الطباطبائي وإن كان مثله مثل غيره من الأقوال ممّا لم يقم الدليل القاطع عليه ، إلّا أنّه من المفيد أن نستعرضه بإيجاز.

يقول العلّامة الطباطبائي : «إنك إن تدبرت بعض التدبّر في هذه السور التي تشترك في الحروف المفتتح بها مثل الميمات والراءات والطواسين والحواميم ، وجدت في السور المشتركة في الحروف من تشابه المضامين ، وتناسب السياقات ما ليس بينها وبين غيرها من السور».

«ويؤكّد ذلك ما في مفتتح أغلبها من تقارب الألفاظ ، كما في مفتتح الحواميم من قوله :( تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ ) أو ما هو في معناه ، وما في مفتتح الراءات من قوله :( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ ) أو ما في معناه ، ونظير ذلك في مفتتح الطواسين ، وما في مفتتح الميمات من نفي الريب عن الكتاب أو ما هو في معناه».

«ويمكن أن يحدس من ذلك أن بين هذه الحروف المقطعة وبين مضامين السور المفتتحة بها ارتباطا خاصا ، ويؤيد ذلك ما نجده في سورة الأعراف

٤٦٠

المصدّرة بـ «المص» في مضمونها كأنّها جامعة بين مضامين الميمات وص [أي ما افتتح بـ «ألم» و «ص»] وكذا سورة الرعد المصدّرة بـ «المر» في مضمونها كأنّها جامعة بين مضامين الميمات والراءات».

«ولعلّ المتدبر لو تدبر في مشتركات هذه الحروف ، وقايس مضامين السور التي وقعت فيها بعضها إلى بعض ، لتبيّن له الأمر أزيد من ذلك»(١) .

وثمّة تفسير آخر أشرنا إليه سابقا ، وهو احتمال أن تكون هذه الحروف إشارات ورموزا لأسماء الخالق ونعمه وقضايا اخرى.

مثلا ، في السورة التي نبحثها اعتبروا الحاء إشارة إلى الرحمن ، والميم إلى المجيد ، والعين إلى العليم ، والسين إلى القدوس ، والقاف إلى القاهر(٢) .

يعترض البعض على هذا الكلام بقولهم : لو كان المقصود من الحروف المقطعة أن لا يعلم بها الآخرون فإنّ ذلك غير صحيح ، لأنّ هناك آيات اخرى تصرّح بأسماء الله ، ولكن يجب الانتباه إلى أنّ الرموز والإشارات لا تعني دائما أن يبقى الموضوع أو المعنى سرّيا ، بل قد تكون أحيانا علامة للاختصار ، وهذا الأمر كان موجودا سابقا ، وهو مشهور في عصرنا الراهن ، بحيث أنّ أسماء العديد من المؤسسات والمنظمات الكبيرة ، تكون على شكل مجموعة مختصرة من الحروف المقطّعة التي يرمز كلّ منها إلى جزء من الاسم الأصيل.

بعد الحروف المقطعة تتحدث الآية الكريمة عن الوحي ، فتقول :( كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

«كذلك» إشارة إلى محتوى السورة ومضامينها.

ومصدر الوحي واحد ، وهو علم الله وقدرته ، ومحتوى الوحي في الأصول والخطوط العريضة واحد أيضا بالنسبة لجميع الأنبياء والرسالات ، بالرغم من أنّ

__________________

(١) الميزان ، للعلّامة محمد حسين الطباطبائي ، المجد ١٨ ، صفحة ٨ ـ ٩.

(٢) يستفاد هذا التّفسير عن حديث للإمام الصادقعليه‌السلام . يراجع تفسير القرطبي ، المجلد ٩ ، صفحة ٥٨٢٢.

٤٦١

هناك خصوصيات بين دعوة نبي وآخر بحسب حاجة الزمان والمسيرة التكاملية للبشر(١) .

وضروري أن نشير إلى أنّ الآيات التي نبحثها أشارت إلى سبع صفات من صفات الله الكمالية ، لكل منها دور في قضية الوحي بشكل معين ، ومن ضمنها الصفتان اللتان نقرؤهما في هذه الآية :( الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

فعزته تعالى وقدرته المطلقة تقتضي سيطرته على الوحي ومحتواه العظيم.

وحكمته تستوجب أن يكون الوحي الإلهي حكيما متناسقا مع حاجات الإنسان التكاملية في جميع الأمور والشؤون.

وتعبير «يوحى» دليل على استمرار الوحي منذ خلق الله آدمعليه‌السلام حتى عصر النّبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأن الفعل المضارع يفيد الاستمرار.

قوله تعالى :( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) .

إنّ مالكيته تعالى لما في السماء والأرض تستوجب ألّا يكون غريبا عن مخلوقاته وما يؤول إليه مصيرها ، بل يقوم بتدبير أمورها وحاجاتها عن طريق الوحي ، وهذه هي الصفة الثّالثة من الصفات السبع.

أمّا «العليّ» و «العظيم» اللذان هما رابع وخامس صفة له (سبحانه وتعالى) في هذه الآيات ، فهما يشيران إلى عدم حاجته لأي طاعة أو عبودية من عباده ، وإنّما قام تعالى بتدبير أمر العباد عن طريق الوحي من أجل أن ينعم على عباده.

الآية التي بعدها تضيف :( تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ ) (٢) وذلك بسبب نزول الوحي من قبل الله ، أو بسبب التهم الباطلة التي كان المشركون والكفّار ينسبونها إلى الذات المقدسة ويشركون الأصنام في عبادته.

__________________

(١) بالرغم من الكلام الكثير للمفسّرين حول المشار إليه في اسم الإشارة «كذلك» لكن يظهر أنّ المشار إليه هو نفس هذه الآيات النازلة على النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذا يكون مفهوم الآية : إنّ الوحي هو بهذا الشكل الذي أنزله الله عليك وعلى الأنبياء السابقين ، وقد استخدم اسم الإشارة للبعيد بالرغم من قرب المشار إليه ، وذلك للتعظيم والاحترام.

(٢) «يتفطرن» من كلمة «فطر» على وزن «سطر» وتعني في الأصل الشق الطولي.

٤٦٢

ويتّضح ممّا سلف أنّ للجملة معنيين :

الأوّل : أنّها تختص بموضوع الوحي الذي هو حديث الآيات السابقة ، وهو في الواقع يشبه ما جاء في الآية (٢١) من سورة «الحشر» في قوله تعالى :( لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ) .

إنّه كلام الله الذي يزلزل السماوات عند نزوله وتكاد تتلاشى ، فلو أنّه نزل على الجبال لتصدّعت ، لأنّه كلام عظيم من خالق حكيم.

والويل لقلب الإنسان ، فهو الوحيد الذي لا يلين ولا يستسلم ، ويصر على عناده وتكبره.

التّفسير الثّاني : أنّ السماوات تكاد تتفطّر وتتلاشى بسبب شرك المشركين وعبادتهم للأصنام من دون الله ، بل هم يساوون بين أدنى الكائنات والموجودات وبين المبدأ العظيم خالق الكون جلّ وعلا.

التّفسير الأوّل يناسب الآيات التي نبحثها والتي تنصب حول الوحي والتّفسير الثّاني يناسب ما نقرؤه في الآيتين (٩٠ ، ٩١) من سورة «مريم» حيث يقول تعالى بعد أن يذكر قول الكفار ـ وقبح قولهم ـ باتخاذه ولدا (!!) :( تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً ) .

ومن الواضح أن ليس ثمّة تعارض بين التّفسيرين.

أمّا عن كيفية انفطار السماوات وانهدام الجبال وهي موجودات جامدة ، فقد ذكروا كلاما وأقوالا متعدّدة في الموضوع تعرضنا لها في نهاية حديثنا عن الآيتين المذكورتين من سورة مريم.

وإذا أردنا أن نقف على استخلاص عام لما قلناه هناك ، فيمكن أن نلاحظ أنّ مجموعة عالم الوجود من جماد ونبات وغير ذلك لها نوع من العقل والشعور ، بالرغم من عدم إدراكنا له ، وهم على هذا الأساس يسبحون الله ويحمدونه ، ويخضعون له ويخشعون لكلامه.

٤٦٣

أو أن يكون التعبير كناية عن عظمة وأهمية الموضوع ، مثلما نقول مثلا : إنّ الحادثة الفلانية كانت عظيمة جدّا وكأنّما انطبقت معها السماء على الأرض.

بقية الآية ، قوله تعالى :( وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ ) .

أمّا الرابطة بين هذا الجزء من الآية والجزء الذي سبقه ، فهو ـ وفقا للتفسير الأوّل ـ أنّ الملائكة الذين هم حملة الوحي العظيم وواسطته ، يسبحون ويحمدون الله دائما ، يحمدونه بجميع الكمالات ، وينزهونه عن جميع النواقص ، وعند ما ينحرف المؤمنون أحيانا ، تقوم الملائكة بنصرهم ويطلبون المغفرة لهم من الله تعالى.

أمّا وفق التّفسير الثّاني ، فإنّ تسبيح الملائكة وحمدهم إنّما يكون لتنزيهه تعالى عما ينسب إليه من شرك ، وهم يستغفرون كذلك للمشركين الذين آمنوا وسلكوا طريق التوحيد ورجعوا إلى بارئهم جلّ جلاله.

وعند ما تستغفر الملائكة لمثل هذا الذنب العظيم لدى المؤمنين ، فهي حتما ـ ومن باب أولى ـ تستغفر لجميع ما لهم من ذنوب اخرى. وقد يكون الإطلاق في الآية لهذا السبب بالذات.

نقرأ نظيرا لهذه البشرى العظيمة في الآية (٧) من سورة المؤمن في قوله تعالى :( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ) .

وأخيرا تشير نهاية الآية الكريمة إلى سادس وسابع صفة من صفات الله تبارك وتعالى ، وتنصب حول الغفران والرحمة ، وتتصل بقضية الوحي ومحتواه ، وبخصوص وظائف المؤمنين ، حيث يقول تعالى :( أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

وبهذا الترتيب أتمّت الآيات الكريمات الإشارة إلى مجموعة متكاملة من

٤٦٤

الأسماء الحسنى المختصة بالله تعالى والمرتبطة بالوحي.

وفي نهاية الآية ثمّة إشارة لطيفة إلى استجابة دعاء الملائكة بخصوص استغفارهم للمؤمنين ، بل أنّه تعالى يضيف الرحمة إلى صفة الغفور ممّا يدل على عظيم فضله.

أمّا عن مسألة الوحي فسيكون لنا كلام مفصل في نهاية هذه السورة إن شاء الله عند ما نتحدّث عن الآيتين (٥١ ، ٥٢).

هل تستغفر الملائكة للجميع؟

قد يطرح السؤال الآتي حول قوله تعالى :( وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ ) .

وهو : الآية تفيد استغفار الملائكة لمطلق أهل الأرض سواء المؤمن منهم أو الكافر ، فهل يمكن ذلك؟

لقد أجابت الآية (٧) من سورة المؤمن على هذا السؤال من خلال قوله تعالى :( يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) .

وبناء على هذا فإنّ شرط الاستغفار هو الإيمان ، إضافة إلى كونهم معصومين ، وهم بذلك لا يطلبون المستحيل للذين يفتقدون إلى أرضية الغفران.

* * *

٤٦٥

الآيات

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) )

التّفسير

انطلاقة من «أم القرى» :

تحدثت الآيات السابقة عن قضية الشرك ، لذلك فإنّ الآية الأولى في المجموعة الجديدة ، تتناول بالبحث نتيجة عمل المشركين وعاقبة أمرهم حيث يقول تعالى :( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ) .

حتى يحاسبهم في الوقت المناسب ، ويعاقبهم جزاء أعمالهم.

ثم تخاطب الآية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله تعالى :( وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ) إنّ مسئوليتك هي تبليغ الرسالة وإيصال نداء الله الى جميع العباد.

٤٦٦

وثمّة في كتاب الله آيات اخرى تشير إلى هذا المعنى :

قوله تعالى :( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) (١) .

قوله تعالى :( ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ) (٢) .

قوله تعالى :( وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) (٣) .

قوله تعالى :( ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ ) (٤) .

إنّ هذه الآيات تبيّن حقيقة حرية العباد واختيارهم الطريق الذي يريدونه بإرادتهم وحريتهم ، لأنّ القيمة الحقيقة للإيمان والعمل الصالح تمكن في حرية الإختيار ، وليس للإيمان أو العمل الإجباري أي قيمة معنوية.

يعود القرآن إلى قضية الوحي مرّة اخرى ، وإذا كانت الآيات السابقة قد تحدّثت عن أصل الوحي ، فإنّ الكلام هنا ينصب حول الهدف النهائي له ، إذ يقول تعالى :( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ) و «امّ القرى» هي مكّة المكرمة ، ثمّ تنذر الناس من يوم القيامة وهو يوم الجمع الذي يجتمع فيه الناس للحساب والجزاء :( وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ ) .

وفي ذلك اليوم ينقسم الناس إلى مجموعتين :( فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) .

وقد يكون التعبير بـ «كذلك» إشارة إلى أنّه مثلما أوحينا إلى الأنبياء السابقين بلسانهم ، فإنّنا كذلك أوحينا إليك بلسانك ، هذا القرآن العربي.

وعليه تكون «كذلك» إشارة إلى :( وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ ) .

ويمكن أن تكون إشارة إلى ما بعدها ، يعني أنّا أوحيناه إليك بهذه الصورة

__________________

(١) الغاشية ، الآية ٢٢.

(٢) سورة ق ، الآية ٤٥.

(٣) الأنعام ، الآية ١٠٧.

(٤) المائدة ، الآية ٩٩.

٤٦٧

قرآنا عربيا يهدف إلى الإنذار.

صحيح أنّنا نستفيد من نهاية الآية أيّ من قوله تعالى :( فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) أنّ مسئولية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي التبشير والإنذار ، ولكن بسبب ما للإنذار من تأثير أعمق في نفوس الأفراد المعاندين والجهلة ، لذا فإنّ الآية استندت إلى «الإنذار» مرّتين فقط ، مع اختلاف بينهما ، إذ أنّ الكلام شمل في المرحلة الأولى إنذار المستمعين ، بينما شمل في الثانية تخويفهم من شيء يجب أن يخافوه ، يعني القيامة وما فيها من حساب وفضيحة ستكون مؤلمة وصعبة للغاية ، بسبب حضور الأشهاد والملائكة والناس(١) .

وقد يتساءل البعض هنا : إنّنا نستفيد من قوله تعالى :( لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ) أنّ الهدف من نزول القرآن هو لإنذار أهل مكّة وأطرافها. أفلا يتنافى هذا المعنى مع مفهوم عالمية الإسلام؟

الجواب على هذا الاستفهام يتمّ من خلال ملاحظة المعنى الذي تستبطنه( أُمَّ الْقُرى ) .

إنّ كلمة «أمّ القرى» وهي أحد أسماء مكّة المكرّمة ، مؤلّفة من كلمتين هما : «أمّ» وتعني في الأصل الأساس والبداية في كلّ شيء ، ولهذا السبب تسمى الأمّ بهذا الاسم لأنّها أساس وأصل الأبناء.

ثمّ كلمة «قرى» جمع «قرية» بمعنى أي منطقة معمورة أو مدينة ، سواء كانت المدينة كبيرة أم صغيرة ، أو مجرّد قرية.

وفي القرآن الكريم ثمّة أدلة كثيرة على هذا المعنى.

والآن لنر لماذا سمّيت «مكّة» بأمّ القرى؟

__________________

(١) ينبغي الانتباه ، إلى أنّ (تنذر) تتعدى إلى مفعولين ، وفي الآية مورد البحث ذكر مفعولها الأوّل في الجملة الأولى ، والثّاني في الجملة الثانية. وقد يصحب المفعول الثّاني بالباء فيقال : أنذره بذلك.

٤٦٨

الرّوايات الإسلامية تصرّح بأنّ الأرض كانت في البداية مغطاة جميعها بالماء ، ثمّ بدأت اليابسة تظهر بشكل تدريجي من تحت هذه المياه. (تؤيد النظريات العلمية الآن هذا المعنى).

ثمّ تخبرنا الرّوايات بأنّ منطقة الكعبة كانت أوّلا منطقة ظهرت من تحت الماء ، ثمّ بدأت اليابسة بالاتساع من جوار الكعبة ، ويعرف ذلك بدحو الأرض.

وهكذا يتّضح أن مكّة هي أصل وأساس لجميع القرى والمدن على سطح الأرض ، لذا فمتى قيل( أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ) فالمعنى سيشمل جميع الناس على سطح الكرة الأرضية(١) .

مضافا إلى ذلك ، نحن نعرف أنّ الإسلام بدأ بالانتشار تدريجيا ، ففي البداية أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإنذار المقرّبين إليه ، كما ورد في قوله تعالى :( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (٢) كي تتقوى قاعدة الإسلام وتصلب نواته ، ويكون أكثر قدرة واستعدادا للانتشار.

ثم جاءت المرحلة الثانية المتمثلة بإنذار العرب ، كما ورد في قوله تعالى :( قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) (٣) .

وكذلك في قوله تعالى :( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ) .

وعند ما ترسخت أعمدة الإسلام بين هؤلاء القوم ، وقوي عوده أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأوسع من ذلك ، أن ينذر العالم والناس كافة ، كما نقرأ في أوّل سورة الفرقان في قوله تعالى :( تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) وفي آيات اخرى.

__________________

(١) جاء هذا التعبير في سورة الأنعام كذلك الآية (٩٢) وقد ذكرنا هناك توضيحا أوسع ، فليراجع.

(٢) الشعراء ، الآية ٢١٤.

(٣) فصلت ، الآية ٣ ، إنّ ما قلناه هو في حال اعتبارنا كلمة (عربي) بمعنى اللغة العربية ، أمّا إذا فسرناها بالمعنى الفصيح فسيكون للآية مفهوم آخر.

٤٦٩

وبسبب هذا التكليف قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإرسال الرسائل إلى زعماء العالم خارج الجزيرة العربية ، ودعا كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم إلى الإسلام.

ووفق هذه التعليمات قام أتباعه من بعده بالدعوة إلى الإسلام في مختلف بقاع العالم ، ونشروا تعاليم الإسلام في جميع أرجاء المعمورة.

أمّا لماذا سمّي يوم القيامة بيوم الجمع؟ فهناك أقوال مختلفة منها :

بسبب ما يكون فيه من جمع بين الأرواح والأجساد.

أو بسبب الجمع بين الإنسان وعمله.

أو بسبب الجمع بين الظالم والمظلوم.

ولكن يظهر أنّ السبب يتمثل في الجمع بين الخلائق من الأولين والآخرين كما نقرأ ذلك واضحا في قوله تعالى :( قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ) (١) .

وبما أن قوله تعالى :( فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) يقسّم الناس إلى فئتين ، فإنّ الآية التي بعدها تضيف :( وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً ) على الهداية.

إلّا أنّ الإيمان الإجباري ليست له قيمة ، وكيف يمكن لمثل هذا الإيمان أن يكون معيارا للكمال الإنساني؟

إنّ التكامل الحقيقي هو أن يسير الإنسان بإرادته وبمنتهى الإختيار والحرية.

إنّ الآيات القرآنية مليئة بأدلة حرية الإنسان ، ومثل هذا الإختيار هو ما يميّز الإنسان عادة عن غيره من الكائنات الأخرى ، وإذا سلبت منه إرادته واختياره فكأنما سلبت منه إنسانيته.

__________________

(١) الواقعة ، الآية ٥٠.

٤٧٠

وكما أن سمة الحرية والإختيار طريق إلى التكامل ، فهي أيضا سنّة إلهية لا قبل التغيير.

ولكن العجيب أمر البعض الذين ما زالوا على عقيدة الجبر ، وهم يدعون أتباعهم للأنبياء ، في حين أنّ قبول الجبر يساوي في الواقع نفي مضمون دعوة جميع الأنبياء ، فلا معنى للتكليف حينئذ ، ولا للحساب والسؤال والجواب ، ولا النصيحة والموعظة ، وبشكل أولى الثواب والعقاب!

ومع عقيدة الجبر لا معنى لتردّد الإنسان في أعماله ، ولا معنى لندمه وعزيمته على تصحيح الأخطاء!

تشير الآية بعد ذلك إلى وصف أهل الجنّة والسعادة حيال أهل النّار ، فيقول تعالى :( وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) .

وعند ما يشخّص أهل النّار بوصف «الظلم» فيبيّن أنّ المراد من «من يشاء» في الجملة الأولى هم المجموعة التي لا ترتكب الظلم.

وعلى هذا الأساس يكون أهل العدل هم أصحاب الجنّة في مقابل أهل الظلم الذي هم أهل النّار.

ولكن ينبغي الانتباه إلى أنّ «ظالم» هنا ، وفي العديد من الآيات القرآنية الأخرى لها معنى واسع ولا تشمل الذين يظلمون غيرهم فقط ، بل تشمل الذين يظلمون أنفسهم أيضا ، وتشمل المنحرفين عقائديا ، وهل هناك ظلم أعلى من الشرك والكفر؟

يقول لقمان لابنه وهو يعظه :( يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (١) .

وفي آية اخرى نقرأ قوله تعالى :( أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ

__________________

(١) لقمان ، الآية ١٣.

٤٧١

سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ) .

وقال بعضهم في الفرق بين «ولي» و «نصير» أنّ «الولي» الذي يقوم بمساعدة الإنسان دون طلبه. أما النصير فأعلم من ذلك(١) .

ويحتمل أن تشير كلمة «ولي» إلى المشرف الذي يقوم بالحماية والمساعدة بحكم ولايته ودون أي طلب.

أمّا «النصير» فالذي يقوم بنصر الإنسان ومساعدته بعد أن يطلب العون.

* * *

__________________

(١) يلاحظ ذلك في مجمع البيان ، المجلد ٨ ، صفحة ٧٧٩ ، ذيل الآية (٢٢) من العنكبوت.

٤٧٢

الآيات

( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢) )

التّفسير

الولي المطلق :

أوضحت الآيات السابقة أن لا وليّ ولا نصير سوى الله ، والآيات التي بين أيدينا تعطي أدلة على هذه القضية ، وتنفي الولاية لما دونه سبحانه وتعالى.

تقول الآية بأسلوب التعجب والإنكار :( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ) (١) . إلا

__________________

(١) اعتبر بعض المفسّرين (كالزمخشري في الكشاف والفخر ، الرازي في التّفسير الكبير ـ أنّ «أم» هنا بمعنى الاستفهام

٤٧٣

أنّه :( فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ ) .

فلو أراد هؤلاء أن يختاروا وليا ، فعليهم أن يختاروا الله ، لأنّ أدلة ولايته واضحة في الآيات السابقة ، مع بيان أوصافه الكمالية ، فالعزيز والحكيم ، والمالك والعلي والعظيم ، والغفور والرحيم ، هذه الصفات السبع التي مرّت علينا تعتبر ـ لوحدها ـ أفضل دليل على اختصاص الولاية به.

ثم تذكر دليلا آخر فتقول :( وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى ) .

ويجب اللجوء إليه لا لغيره ، لأنّ المعاد والبعث بيده ، وأنّ أكثر ما يخشاه الإنسان هو مصيره بعد الموت.

ثم تذكر دليلا ثالثا فتقول :( وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

وهذه إشارة إلى أنّ الشرط الرئيسي للولي هو امتلاكه للقدرة الحقيقة.

الآية التي بعدها تشير إلى الدليل الرابع لولايته تعالى فتقول :( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ) . فهو التوحيد الذي يستطيع أن يحل مشاكلكم.

إنّ من اختصاصات الولاية أن يستطيع الولي إنهاء اختلافات من هم تحت ولايته بحكمه الصائب ، فهل تستطيع الأصنام والشياطين التي تعبدونها أن تقوم بذلك ، أم أنّ هذا الأمر يختص بالله الحكيم والعالم والقادر على حل مشاكل عباده ، وتنفيذه لحكمه وإرادته دون غيره؟

إذن فالله العزيز الحكيم هو الحاكم لا غيره.

لقد حاول بعض المفسّرين حصر مفهوم الاختلاف الذي تشير إليه الآية في قوله تعالى :( مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ ) في الاختلاف الوارد في الآيات المتشابهة ، أو في الاختلاف والمخاصمات الحقوقية فقط ، إلّا أنّ مفهوم الآية أوسع من ذلك ، إذ هي تشمل الاختلاف سواء كان في المعارف الإلهية والعقائد ، أم الأحكام

__________________

ـ الإنكاري ، أما البعض الآخر ـ كالطبرسي في «مجمع البيان» والقرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» ـ فقد اعتبروها بمعنى «بل».

٤٧٤

الشرعية ، أم القضايا الحقوقية والقضائية ، أم غير ذلك ممّا يحدث بين الناس لقلّة معلوماتهم ومحدوديتها ، إنّ ذلك ينبغي أن يحل عن طريق الوحي ، وبالرجوع إلى علم الله وولايته.

وبعد ذكر الدلائل المختلفة على اختصاص الولاية بالله ، تقول الآيات على لسان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي ) (١) فهو الذي يتصف بهذه الأوصاف الكمالية ولهذا السبب :( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) أيّ أعود إليه في المشكلات والشدائد والزلات.

جملة :( ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي ) تشير إلى الربوبية المطلقة لله بمعنى الحاكمية المتزامنة مع التدبير. ونحن نعلم أنّ للربوبية قسمين : القسم التكويني الذي يعود إلى إرادة نظام الوجود ، والقسم التشريعي الذي يقوم بتوضيح الأحكام ووضع القوانين وإرشاد الناس بواسطة الرسل والأنبياءعليهم‌السلام .

وعلى أساس ذلك طرحت الآية فيما بعد قضية «التوكل» و «الإنابة» حيث تعني الأولى رجوع جميع الأمور الذاتية في النظام التكويني إلى الخالق جلّ وعلا.

والثّانية تعني رجوع الأمور التشريعية إليه(٢) .

الآية التي تليها يمكن أن تكون دليلا خامسا على ولاية الله المطلقة ، أو دليلا على ربوبيته ، واستحقاقه دون غيره للتوكل والإنابة ، إذ تقول :( فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

«فاطر» من مادة «فطر» وتعني في الأصل فتق شيء ما ، ويقابلها «قط» التي تعني بقول البعض الشق العرضي.

وكأنّما الآية تشير إلى تفتق ستار العدم المظلم عند خلق الكائنات وخروج

__________________

(١) في بداية هذه الجملة تكون كلمة «قل» مقدّرة ، فهذه الجملة وما بعدها تتحدث عن لسان النبيّ فقط ، أمّا جملة( مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ ) فهي استمرار لحديث الخالق جلّ وعلا. والذين اختاروا غير ذلك لم يسلكوا الطريق الصحيح في الظاهر.

(٢) الميزان ، المجلد ١٨ ، الصفحة ٢٣.

٤٧٥

الموجودات منه.

وبهذه المناسبة فإنّ «فطر» تطلق على «طلاع» التمر عند ما يتفتق ويخرج منه التمر.

والمقصود بالسماوات والأرض هنا جميع السماوات والأرض وما فيها من كائنات وما بينها ، لأنّ الخالقية تشملها جميعا.

ثم تشير الآية إلى وصف آخر من أفعاله تعالى فتقول :( جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) (١) .

وهذه لوحدها تعتبر إحدى الدلائل الكبيرة على تدبير الله وربوبيته وولايته ، حيث خلق سبحانه وتعالى للناس أزواجا من أنفسهم ، وهو يعتبر أساسا لراحة الروح وسكون النفس ، ومن جانب آخر يعتبر الزواج أساسا لبقاء النسل واستمراره ، وتكاثره.

وبالرغم من أنّ خطاب الآية موجّه للإنسان ، والمعنى منصب عليه من خلال «يذرؤكم» إلّا أنّ هذا الأمر هو حكم سائد وسنة جارية في جميع الأنعام والموجودات الحية الأخرى التي تسري عليها التكاثر بالمثل.

وفي الواقع إنّ توجيه الخطاب للإنسان دونها يشير الى مقامه الكريم ، وأما أمر البقية فيتبيّن من خلال الإنسان كمثال.

الصفة الثّالثة التي تذكرها الآية هو قوله تعالى :( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) .

إنّ هذا الجزء من الآية يتضمّن حقيقة أساسية في معرفة صفات الله الأخرى ، وبدونها لا يمكن التوصّل إلى أي صفة من صفات الله ، لأنّ أكبر منزلق يواجه السائرين في طريق معرفة الله يتمثل في «التشبيه» حيث يشبهون الخالق جلّ وعلا بصفات مخلوقاته ، وهو أمر يؤدي للسقوط في وادي الشرك!

__________________

(١) الضمير في «فيه» يعود إلى «التدبير» أو «جعل الأزواج» و «يذرؤ» من «ذرأ» على وزن «زرع» وتعني «الخلق» لكنّه الخلق الذي يقترن ويتزامن مع إظهار الأفراد. وقد وردت أيضا بمعنى الانتشار.

٤٧٦

إنّ وجود الله تعالى ليس له نهاية ولا يحد بحد ، وكل شيء غيره له نهاية وحد من حديث القدر والعمر والعلم والحياة والإرادة والفعل ، وفي كلّ شيء.

وهذا هو خط تنزيه الخالق من نقائص الممكنات.

لذا فإنّ ما يثبت لغيره لا يصح عليه (سبحانه وتعالى) ولا ينطبق على ذاته المنزّهة ، بل ولا معنى له.

فبالنسبة إلينا تكون بعض الأمور سهلة والأخرى صعبة ، وبعض الأحداث وقع في الماضي وبعضها يقع الآن ، ومنها ما يقع في المستقبل. وبعض الأشياء صغير وبعضها كبير.

إنّ مقاييس هذه الأشياء ومدلولاتها ومفاهيمها تحتكم إلى وجودنا المحدود ، وهي تلائم إدراكنا وحاجتنا إلى مقايسة الأشياء بغيرها.

أمّا هذه المواصفات والمقاييس والمصطلحات المحدودة ، فإنّ أيا منها لا ينطبق على صفات الله ، إذ لا معنى لديه للقرب والبعد ، فالكل قريب وفي متناول إرادته ، ولا معنى للصعب والسهل ، فكل شيء سهل وطوع إرادته المطلقة ، ولا يوجد مستقبل وماض ، فكل شيء بالنسبة إليه تعالى حضور وحال.

إنّ إدراك هذه المعاني غير مستطاع من دون تفريغ الذهن وتخليته ممّا هو فيه.

لهذا السبب يقال : إنّ من السهل معرفة أصل وجود الخالق جلّ وعلا ، لكن من الصعب معرفة صفاته.

يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام في هذا الشأن : «وما الجليل واللطيف ، والثقيل والخفيف ، والقوي والضعيف في خلقه إلّا سواء»(١) .

تشير نهاية الآية إلى صفات اخرى من صفات الله :( وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) .

هو الخالق والمدبّر ، والسميع والبصير ، وفي نفس الوقت ليس له شبيه أو نظير

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة رقم ١٨٤.

٤٧٧

أو مثيل ، ولهذا لا ينبغي الاستظلال إلّا تحت ولايته ، ولا تصح العبودية والربوبية إلّا له ، وذلك لا يكون ألّا بفك قيود عبودية الغير ، وتصريفها إليه دون غيره سبحانه وتعالى.

الآية التي بعدها تتحدّث عن ثلاثة أقسام أخرى من صفات الفعل والذات حيث توضح كلّ واحدة منها قضية الولاية والربوبية في بعد خاص.

يقول تعالى :( لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

فكل ما يملكه مالك هو منه سبحانه وتعالى ، وكل ما يرغب به راغب ينبغي أن يطلبه منه ، لأنّ له تعالى خزائن السماوات والأرض وليس «مفاتيحها» وحسب( وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) (١) .

«مقاليد» جمع «مقليد» وتعني المفتاح ، وهي تستخدم ككناية للسيطرة الكاملة على كلّ شيء ما ، فيقال مثلا : إنّ مفتاح هذا الأمر بيدي ، يعني أنّ برنامجه وطريقه وشرائطه كلّها تحت قدرتي وفي يدي.(٢) .

وفي الصفة الأخرى ، والتي هي في الواقع ثمرة ونتيجة للصفة السابقة تقول الآية :( يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ) لأنّ بيده تعالى جميع خزائن السماوات والأرض فإنّ جميع الأرزاق في قبضته ، ويقسمها وفقا لمشيئته التي تصدر بمقتضى حكمته ، ويلاحظ فيها مصلحة العباد.

إنّ من مقتضيات استفادة جميع الكائنات من رزقه تعالى هو العلم بمقدار حاجتها ، ومكانها وسائر شؤون حياتها الأخرى ، لذا تضيف الآية في آخر صفة قوله تعالى :( إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .

وهناك ما يشبه هذا الأمر وهو ما جاء في الآية (٦) من سورة «هود» في قوله تعالى:( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ

__________________

(١) المنافقون ، آية ٧.

(٢) بهذا الخصوص لدينا بحث مفصل يمكن مراجعته في نهاية الحديث عن الآية (٦٣) من سورة «الزمر».

٤٧٨

فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) .

وبذلك يتّضح أنّ الآيات الأربع التي بحثناها ذكرت إحدى عشرة صفة من صفات الله الكمالية سواء الذاتية منها أو الفعلية.

فقد وصفته بصفات الولاية المطلقة ، إحياء الموتى ، قدرته على كلّ شيء ، خلقه للسماوات والأرض ، خلقه للأزواج وتكثير النسل ، لا يوجد مثيل له ، سميع ، بصير ، له خزائن السماوات والأرض ، رزاق ، وعليم بكل شيء.

إنّها صفات تكمل الواحدة منها الأخرى من حيث البيان ، وكلّها دليل على ولايته وربوبيته ، وبالنتيجة تعتبر طريقا لإثبات توحيده في العبادة.

* * *

بحوث

١ ـ معرفة صفات الله تعالى

إنّ علمنا وعلوم الكائنات جميعا محدود ، لذا لا نستطيع أن نصل إلى كنه وحقيقة ذات الخالق غير المحدودة ، لأنّ المعرفة بحقيقة شيء ما تعني الإحاطة به ، فكيف يستطيع الكائن المحدود أن يحيط بالذات غير المحدودة؟

وكذلك الحال بالنسبة لصفات الله ، إذ لا يمكن معرفتها بالنسبة لنا ، خصوصا وأنّ صفاته هي عين ذاته.

لذلك فعلمنا بذات الخالق وصفاته هو علم إجرائي ، وأكثر ما يدور حول آثاره جلّ وعلا.

من جانب آخر لا تستطيع ألفاظنا أن تبيّن ذات الله وصفاته المطلقة غير المحدودة ، لأنّ ألفاظنا موضوعة لتلبية حاجاتنا في حياتنا اليومية ، لذلك سوف نصل إلى معاني خاطئة من خلال استخدام ألفاظنا في توصيف صفات الخالق الكمالية ، كالعلم والقدرة والحياة والولاية والمالكية ، وسائر الصفات الأخرى.

٤٧٩

نقول مثلا : إنّ الله هو «الأول» وهو أيضا «الآخر» هو «الظاهر» وهو «الباطن» هو مع كلّ شيء وليس مع شيء ، وبعيد عن كلّ شيء إلّا أنّه ليس غربيا عنه.

قد يبدو في بعض هذه الألفاظ تناقض أو تضاد ، لأنّ معاني الألفاظ نقيسها على الأشياء والموجودات المحدودة ، فيمكن أن يكون هو الأوّل ولا يكون الآخر ، والظاهر ولا يكون باطن ، ولكن التفكير الدقيق في ذات الله وصفاته يوصلنا إلى إمكانية انطباق معاني هذه الألفاظ عليه ، فهو الأوّل في نفس الوقت الذي هو الآخر ، وهو الباطن في نفس الوقت الذي يكون فيه هو الظاهر أيضا.

وعلينا أن نعترف هنا بأنّ المهم في معرفة أوصافه الجمالية والجلالية هو أن ننتبه إلى حقيقة :( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) .

يشير أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام إلى هذه الحقيقة بوضوح فيقول : «ما وحده من كيفه ، ولا حقيقته أصاب من مثله ، ولا إيّاه عنى من شبهه ، ولا صمده من أشار إليه وتوهمه»(١) .

وفي مكان آخر يقولعليه‌السلام : «كل مسمّى بالوحدة غير قليل»(٢) .

خلاصة القول : يجب ولوج البحث في صفات الخالق على ضوء قوله تعالى :( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) وعلينا أن ننظر إلى ذاته المقدسة من خلال قوله تعالى:( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) وعبارة «سبحان الله» في العبادات وغيرها تشير إلى هذه الحقيقة.

٢ ـ ملاحظة أدبية

إنّ الكاف في جملة( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) للتشبيه ، وتعني المثل أيضا. لذا فإنّ هذا التكرار أصبح سببا لأن يعتبر الكثير من المفسّرين أنّها زائدة ، وأنّها جاءت

__________________

(١) الخطبة رقم (١٨٦).

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة رقم ٦٥.

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607