الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 175171 / تحميل: 5845
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

الفصل السابع عشر

فيما نذكره من نوافل الزوال وبعض اسرار تلك الحال

يقول السيد الامام العالم العامل الفقيه العلامة رضى الدين ركن الاسلام أبو القاسم على بن موسى بن جعفر بن محمد بن محمد الطاوس شرف الله قدره وقدس في الملاء الاعلى ذكره.

اعلم ان هذا الفصل يشتمل على عدة معان منها ما نذكره من اسرار الصلوات ومن المراقبة فيها بالنيات ولزوم الاداب وحفظ الحركات والسكنات ومنها ما نذكره من كون صلوة نوافل الزوال تسمى صلوة الاوابين وان الدعاء فيها مقبول عند ارحم الراحمين ومنها ما نذكره من ان الاستخارة عند نوافل الزوال كما ستأتي الرواية به في تلك الحال.

ذكر ما نذكره من اسرار الصلوة.

اعلم ان الصلوة تشتمل على نية الصلوة ولفظ تكبير ولفظ وجهت وجهى للذى فطر السموات والارض وعلى تحميد وتمجيد ودعوى العبادة والاستعانة بالله جل جلاله ودعوات وقرائة القرآن وخضوع وركوع وسجود وخشوع وشهادة لله جل جلاله بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وآله رسوله بالرسالة الربانية وصلوات عليه وعلى آله وتسليم.

ذكر نية الصلوة اما نية الصلوة فانك ان كنت عبدا معاملا لله جل جلاله في جميع الحركات والسكنات عارفا بمعنى قوله جل جلاله في محكم الايات وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون فانت إذا كنت كذلك لازلت متهيئا لاوامره فتمتثل امره بالصلوة وتعبده لانه يستحق العبادة لذاته كما لو كنت متهيئا لدخول شخص عزيز عليك فانك حيث

١٠١

تراه تقوم لاكرامه وتقبل عليه بمقتضى مشاهدة ذاته أو لو كنت متهيئا لقدوم رسول اليك ممن يعز عليك فانه إذا وقع نظرك عليه ونظره عليك وسمعت رسالة الرسول فانك تبادر إلى قبوله من غير تردد فكر ولا روية ولا تحتاج إلى تجديد زيادة نية واما ان كنت عن ربك غافلا ولدنياك وهواك معاملا فتحتاج عند الحضور للصلوات ان تحضر شارد قلبك بزمام عقلك ولبك وتقفه بين يدى مولاك وتذكره انه دعاك وانه يراك وتقصد بعقلك وقلبك انك تعبده لانه اهل للعبادة وتدخل حضرة مناجاته دخول اهل السعادة وهذه الصلوة ان كانت واجبة اداء فتقصد العبادة لوجه وجوبها اداء وان كانت قضاء فتقصد ذلك وان كانت اداء أو قضاء فتقصد بذلك العبادة لله جل جلاله.

ذكر تكبيرة الاحرام ينبغى إذا قلت الله اكبر ان يكون هذا القول منك معاملة لله جل جلاله وعبادة ولا يكون تلفظا بالغفلة على العادة وتكون صادقا فيه فاما قولك الله اكبر فقد روى ابن بابويه عن الصادق عليه السلام في كتاب التوحيد باسناده ان رجلا قال عنده يعنى عند الصادق عليه السلام الله اكبر فقال الله اكبر من أي شئ فقال من كل شئ فقال أبو عبد الله عليه السلام حددته فقال الرجل كيف اقول فقال قل الله اكبر من ان يوصف.

يقول السيد الامام العالم العامل الفقيه العلامة رضى الدين ركن الاسلام أبو القاسم على بن موسى بن جعفر بن محمد بن محمد الطاوس الحسينى بلغه الله مناه وكبت اعداه قوله عليه السلام حددته لانه إذا كان الله جل جلاله اكبر من كل شئ فكل الاشياء غيره فهى محدثات وكل محدث محدود فكان المعتقد لذلك قد جعل الله جل جلاله محدودا

١٠٢

وقوله عليه السلام اكبر من ان يوصف لانه جل جلاله لا تحيط الصفات به على التحقيق وانما لما ضاقت العبادات على اهل التوفيق والتصديق علمهم الله جل جلاله ورسوله عليه السلام الفاظا في وصف جلال الله على قدر قصور علوم العباد.

اقول ومعنى قولى ان يكون هذا قولك عبادة ومعاملة أي ان يكون الله جل جلاله في قلبك وعند عقلك عظيما على قدر ما وهبك من معرفة ذاته وصفاته الكاملة فتقصد بهذا الاعتقاد في عظمته وبهذا اللفظ في قولك الله اكبر مجرد عبادته لانه اهل للعبادة.

اقول واما قولى ان يكون صادقا فاريد بذلك ان يكون فعلك لقولك موافقا بحيث إذا قلت الله اكبر تكون سريرتك موافقة لعلانيتك في انه لا شئ من اعظم منه جل جلاله في قلبك وعقلك ونفسك ونيتك ولا يكون شئ اعز عليك منه ولا يشغلك في تلك الحال شئ عنه كما قال جل جلاله في تهديده لمن يؤثر عليه بصريح القرآن المبين قل ان كان آباؤكم وابناؤكم واخوانكم وازواجكم وعشيرتكم واموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها احب اليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى ياتي الله بامره والله لا يهدى القوم الفاسقين.

اقول فإذا وجدت عقلك وقلبك ونفسك تؤثر على الله جل جلاله غيره فاعلم انك داخل تحت تهديد سلطان العالمين ولعلك تكون من قد غضب الله جل جلاله عليك فلا يهديك لفسقك وسماك من الفاسقين. اقول وقد روى نحو ذلك في النقل بزيادة كشف لما في القرآن والعقل كما روى الحسين بن سيف صاحب الصادق عليه السلام في كتاب اصله

١٠٣

الذى اسنده إليه قال سمعت ابا عبد الله عليه السلام يقول لا يمحض رجل الايمان بالله حتى يكون الله احب الله من نفسه وابيه وامه وولده واهله وماله من الناس كلهم.

اقول وقد روى ابلغ من ذلك في ان الناس لا يحصل لهم الايمان حتى لا يؤثروا على رسوله صلوات الله عليه ما تضمنه الحديث الذى نرويه باسنادنا إلى ابي جعفر محمد بن بابويه فيما رواه باسناده في كتاب اماليه عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال لا يؤمن عبد حتى اكون احب إليه من نفسه واهلى إليه احب من اهله وعترتي احب إليه من عترته وذاتي احب إليه من ذاته.

اقول فإذا كان رسوله صلوات الله عليه لا يصح الايمان مع هذا الايثار عليه فكيف يحصل الايمان مع الايثار على الله جل جلاله وترجيح غيره عليه.

ذكر التوجه اما التوجه فقد روى أبو جعفر محمد بن بابويه في كتاب زهد مولينا على ابن ابى طالب عليه السلام باسناده إلى ابي عبد الله عليه السلام كان على إذا قام إلى الصلوة فقال وجهت وجهى للذى فطر السموات والارض تغير لونه حتى يعرف ذلك في وجهه.

اقول وروى صاحب كتاب زهرة المهج وتواريخ الحجج باسناده عن الحسن بن محبوب عن عبد العزيز العبدى عن عبد الله بن ابى يعفور قال قال مولينا الصادق عليه السلام كان على بن الحسين عليه السلام إذا حضرت الصلوة اقشعر جلده واصفر لونه وارتعد كالسعفة.

وروى عنه عليه السلام عند قوله في الصلوة وجهت وجهى مثل الذى رويناه عن مولينا على صلوات الله عليهما وكانا إذا دخلا في التوجه

١٠٤

اصفر لونهما وظهر الخوف من الله جل جلاله عليهما لانهما عليهما السلام عرفا وعلما هيبة الملك الذى يقومان بين يديه.

وسيأتى في هذا الكتاب من خوف النبي صلى الله عليه وآله في الصلوات وخوف عترته المعصومين ما تعلم يقينا انك لست تابعا لهم وانك على خلاف ما كانوا عليه من معاملة سلطان العالمين.

اقول وقد كان فرضنا جميعا ان نخاف الله جل جلاله للهيبة والحرمة التى يستحقها لذاته فبلغت الغفلة بنا إلى اننا لا نخاف لذلك ولا نخاف لاجل خوف المعصومين الذين نقتدى بهم في عباداته ولا نخاف لاجل ما تجدد منا من مخالفاته في اراداته وتهويننا بجلالة امره ونهيه وبمقدس حبه وقربه ومناجاته وهذا جهل عظيم منا بالمعبود كاد ان يقرب من جهل اهل الجحود فإذا قال العبد وجهت وجهى للذى فطر السموات والارض ينبغى ان يتحقق انه في مقام العرض وانه ما مراد الله جل جلاله منه ومراد رسوله عليه السلام بقوله وجهت وجهى أي وجهت صورة وجهى إلى القبلة فحسب للذى فطر السموات والارض ولكن المراد منه ان يكون قد وجه قلبه وعقله عن الالتفات إلى سواه جل جلاله من ساير المرادات والمكروهات.

ولقد قيل لبعض العارفين ما احسن ما تقبل بوجهك على الصلوات فقال ان كان وجهى لا يلتفت فان وجه قلبى كثير الالتفات.

اقول فإذا كان وجه القلب مقبلا ومتوجها إلى الله جل جلاله بالكلية كانت الجوارح مقبلة على الله جل جلاله فيما خلقت له لانها مع القلب كالرعية وعند هذه الحال يكون دخوله في هذه الصلوة دخول اهل الاقبال فان استمر على ذلك إلى حين الفراغ من الصلوة

١٠٥

فقد ظفر ببلوغ الامال وان تعثر في اذيال الالتفات عن موليه وهو يراه فحاله حال اهل التعثير الذين يقع احدهم تارة ويقوم تارة في خطاه وربما افسد تعثيره عليه دنياه واخراه وفاته اقبال ربه جل جلاله ورضاه وان قال وجهت وجهى للذى فطر السموات والارض وهى في تلك الحال غافل أو متغافل عن هيبة العرض وحرمة الفرض فيكون في قوله وجهت وجهى للذى فطر السموات والارض كاذبا قد افتتح صلوته بالجنايات بالكذب والبهتان وكيف حال من اول صلوته تصريح بالكذب والزور والعدوان اما يكون مستحقا للهوان وان كان في حال قيامه إلى الصلوة ودخوله فيها على صفة المتكاسل والمتثاقل فلينظر حال الذين يقومون إلى الصلوة كسالى في صريح القرآن ويفكر انه لو دخل عليه قبل ان يدخل في تلك الصلوة صديق أو بعض من يحبه من اعوان السلطان كيف كان يقوم إليه ويقبل عليه بغير تكاسل ولا تثاقل وليتحقق من نفسه ان الله جل جلاله اهون عنده من عبد من عبيده ويا له من خطر هايل.

ذكر ادبه في التحميد والتمجيد قد مضى في خطبة كتابنا ان التحميد والتمجيد من وظايف من خلص فيما بينه وبين الله جل جلاله من الجنايات فاما من كان عليه فرض مضيق من المهمات فالبدأة لازمة له بالاهم فالاهم والاهم عليه التوبة واداء الفروض المتعينة قبل الدخول في الصلوة والتحميدات والتمجيدات سواء كانت الفروض على قبله أو بدنه أو ماله أو في شئ من اعماله.

اقول ومن ادب الانسان عند تحميده وتمجيده ان يكون تلذذه وتعلق خواطره بحمده لله جل جلاله وتمجيده ومدح الله جل جلاله على ذلك وشكره له سبحانه الذّ عنده واجب اليه من مدحه لكل من

١٠٦

يعز عليه من العباد ومن مدح اهل الدنيا وثنائهم عليه في الاصدار والايراد ويكون ترجيح حبه لمدحه الله جل جلاله وشكر الله جل جلاله بقدر ما بين الله جل جلاله وبين عباده من تفاوت جلالته وحق انعامه وارفاده فان عجز العبد عن هذا المقام فلا اقل من ان يكون حبه لمدحة الله جل جلاله ولشكر الله جل جلاله ارحج في قلبه من مدحه لاهل الانعام من الانام أو لشكر من يشكره من ملوك الاسلام.

فاما ان نقص حال العبد عن هذا المقام وكان في مدح الله جل جلاله وشكره سبحانه اهون من مماليكه وعبيده فقد استخف استخفافا عظيما بتحميده وتمجيده وكان مستحقا لما تضمنه هوله ووعيده وتهديده.

ذكر ادبه عند قوله مالك يوم الدين.

اعلم ان يوم الدين يوم الحساب والعرض على سلطان العالمين واظهار السراير بمحضر من كان يسترها من الخلائق اجمعين فينبغي ان يكون عند هذه الحال خائفا لما يخافه على نفسه يوم الحساب والسؤال.

فقد روى محمد بن يعقوب الكليني ما معناه ان مولينا زين العابدين وهو صاحب المقام المكين كان إذا قال مالك يوم الدين يكررها في قرائته حتى يظن من يراه انه قد اشرف على مماته وما لخوف منه يحذرون ولا الخنا عليهم ولكن هيبة هي ماهيا.

وقد عرفت ان مولينا زين العابدين قدوة لك في امور الدنيا والدين فسر في اثاره بهداية الله جل جلاله وبانواره على مطايا اليقين فان الله جل جلاله قادر ان يبلغك ما هو سبحانه اهله من مقامات العارفين.

١٠٧

ذكر ادب العبد في قوله اياك نعبد واياك نستعين.

اعلم ان ينبغى ان يكون العبد صادقا في قوله اياك نعبد ومعنى قولى ان يكون صادقا لانه إذا قال اياك نعبد وكان انما يعبد الله جل جلاله لما يرجوه منه سبحانه من نفع عاجل أو ثواب آجل أو دفع محذور في الدنيا أو في يوم النشور فانما يكون على الحقيقة كانك تعبد نفسك وتكون عبادتك لاجلها ولاجل شهواتك ولذاتك ولا تكون عابد الله جل جلاله لانه اهل للعبادة فيكون قولك اياك نعبد كذبا وبهتانا ومانعا لك من الظفر بالسلامة والسعادة ويثبت اسمك في ديوان الكذابين ويكون قد جعلت نفسك في من الهالكين اما تسمع كلام المقدس الميمون انما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون.

اقول وكذا ينبغى ان تكون صادقا في قولك واياك نستعين فلا يكون في قلبك عند ذلك القول مستعان لك سواه جل جلاله على التحقيق واليقين فانك ان كنت مستعينا عند تلك الحال بحولك وقوتك ودنياك أو مالك أو رجالك أو غيره من امالك واحوالك فانت في قولك اياك نستعين إذا قصدت به انه لامستعان لك سواه كاذب مخاطر مستخف مباهت مستحق لما يستحقه العبد المستخف بموليه.

ذكر ادبه في الدعوات في الصلوة عند قوله اهدنا الصراط المستقيم وفى كل موضع يراد منه ان يدعو فيه في الصلوة بقلب سليم.

قد قدمنا طرفا مما يحتاج إليه اهل الضراعات مما شرحناه بالمعقول والمنقول من الروايات فاياك ان تهمل تهذيب نفسك وقلبك خاصة عند مخاطبة مولاك وربك فانك إذا دعوت الله جل جلاله وقلبك في تلك الحال فارع منه أو مشغول بالغفلة عنه أو بقصور احترام وتهوين

١٠٨

منك بجلالة ذلك المقام كنت كانك تخاطب ملكا من ملوك الدنيا في حاجة إليه وظهرك إليه.

اما تعلم انك إذا خاطبت الملوك وظهرك إليهم أو انت مشغول عنهم بالغفلة والتهوين بهم عن الاقبال عليهم فانك تعلم انك تستحق ان يكون جوابك منهم ان يخرجوك من حضرتهم مطرودا عن رحمتهم مصدودا وربما لو حملوك إلى الحبوس وزيادة البؤس اعتقدت ان الذنب لك فيما يجرى عليك منهم من النكال.

ورأيت مع ان الذنب منك انك مستحق للمؤاخذة على ما وقع منك من الاهمال فلا يكون عندك حرمة مالك الدنيا والاخرة اقل من حرمة الملوك الذين هم مماليكه في هذه الدنيا الحقيرة الداثرة وإذا تأخرت عنك اجابة الدعوات وانت على ما ذكرناه من الغفلات فالذنب لك وقد احسن الله جل جلاله اليك كيف عفى لك عن عقاب تلك الجنايات.

واياك ان يخطر بقلبك أو تقول بلسانك كما تسمع من بعض الغافلين الذين ما دخل في قلبهم حقيقة الايمان والدين فيقولون قد دعونا الله وما نرى الاجابة كما ذكر في القرآن.

ويقولون هذا على سبيل الاستزادة وكان الله جل جلاله عندهم قد اخلف وعده باجابة الدعاء وهذا كالكفر عند اهل الايمان فانهم لو كانوا عارفين بالله جل جلاله على اليقين ما اقدموا على ان يقولوا بحضرته المذهلة للالباب انك وعدتنا باجابة الدعاء واخلفتنا في الجواب وانما هذا قولهم بذلك على انهم ما كانوا عند الدعاء عارفين أو ما كانوا ذاكرين عند المواقفة منهم لله جل جلاله انهم بحضرة مالك الدنيا والدين وهؤلاء اهل

١٠٩

ان يعرض الله جل جلاله عن دعواتهم واجاباتهم وحسبهم عفو الله جل جلاله عن مؤاخذتهم على غفلاتهم وجهلاتهم.

وقد روى عن مولانا الصادق صلوات الله عليه انه قيل له ما بالنا ندعوا الله جل جلاله فلا يستجاب لنا فقال لانكم تدعون من لا تعرفون.

ذكر ادب العبد في قرائة القرآن في الصلوة على سبيل الجملة في ساير الايات.

اعلم ان من ادب العبد في تلاوته كلام موليه الذى يعلم انه يراه ان يكون ذاكرا لجلالته وانه في حضرته ويكون متشرفا ومتلذذا باستماع محادثته ومتأدبا مع عظمته فيتلو كلامه المقدس بنية انه نائب عن الله جل جلاله في قرائة كلامه وان الله جل جلاله مقبل عليه يستمع كلامه المقدس منه فلا يكن حالك عند تلك التلاوات دون حالك لو قرئت بعض الكتب المصنفات على من صنفها ممن تريد التقرب إليه في قرائة تصنيفه عليه وانت محتاج في كل امورك إليه فانك تعلم انك كنت تبذل جهدك في احضار قلبك بغاية امكانك وتبالغ في تهذيب لسانك وتقبل عليه وعلى قرائة تصنيفه بجميع جنانك وبحفظ نفسك في الحركات والسكنات فلا يكن الله جل جلاله عندك في قرائة كلامه دون صاحب المصنفات فانك ان جعلت الله جل جلاله دون هذه الحال كنت اقرب إلى الهلاك واستحقاق النكال واقتد بمن تذكر انت وتدعى انك مهتد بانواره ومقتد باثاره.

فقد روى ان مولينا جعفر بن محمد الصادق عليه السلام كان يتلو القرآن في صلوته فغشى عليه فلما افاق سئل ما الذى اوجب ما انتهت حالك إليه فقال ما معناه ما زلت اكرر آيات القرآن حتى بلغت إلى حال

١١٠

كأنني سمعت مشافهة ممن انزلها على المكاشفة والعيان فلم تقم القوة البشرية بمكاشفة الجلالة الالهية واياك يامن لا تعرف حقيقة ذلك ان تستبعده أو يجعل الشيطان في تجويز الذى رويناه عندك شكا بل كن به مصدقا اما سمعت الله جل جلاله يقول فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا.

وقد ذكر محمد بن يعقوب الكليني ان الصادق عليه السلام سئل كيف كان النبي صلى الله عليه وآله يصلى بهم ويقرء القرآن ولا تخشع له قلوب اهل الايمان فقال عليه السلام ان النبي صلوات الله عليه كان يقرء القرآن عليهم بقدر ما يحتمله حالهم والحديث مختصر وسيأتى من صفات حال الابرار في التلاوات في مواضع من هذا الكتاب ما فيه تعريف كاف لذوى الالباب ذكر ادبه في الركوع والخضوع ينبغى للعبد إذا كبر تكبيرة الركوع ان يركع بذل واستكانة وخضوع ويكون مستحضرا بقلبه ونيته انه معامل في عبادته وركوعه لله مالك دنياه وآخرته فيقابل في حال ركوعه كمال تلك الجلالة الالهية بذل العبودية ولله در القائل.

إذا كان من تهوى عزيزا ولم تكن

ذليلا له قاقر السلام على الوصل

افلا ترى ان من ادب العبد مع المملوك في دار الزوال انهم إذا تلقوهم واقبلوا عليهم يركعون لهم على سبيل التعظيم والاجلال ويكونون في تلك الحال مستحضرين انهم بين ايديهم وانهم يقصدونهم بذلك التعظيم فكيف تركع انت وتخضع للعالم بالاسرار وهو اعظم من كل عظيم وقلبك خال من حضورك بين يديه ومن ذلك له ومن اقبالك عليه.

اقول ومن ادب الراكع في الصلوة إذا كان ممن يقول في ركوعه

١١١

لك خشعت وبك امنت ولك اسلمت وعليك توكلت وانت ربى خشع لك سمعي وبصرى ومخى وعصبي وعظامي وما اقلته قدماى لله رب العالمين ان يكون العبد ذاكرا انه قد ادعى في هذا القول صفات المقبلين على مالك يوم الدين بجميع جوارحه على الحقيقة واليقين وصفة المستسلمين والمتوكلين فاياك ان يكون شئ منك غير خاضع ولا خاشع أو غير مستسلم لله جل جلاله أو غير متوكل على الله في شئ من امور الدنيا والدين فتكون في قولك من الكاذبين فاى صلوة تبقى لك إذ صليتها بالكذب والبهت لمالك الاولين والاخرين.

اقول ومن ادب الراكع في الصلوة انه لا يستعجل برفع رأسه من الركوع قبل استيفاء اقسام ذل العبودية لمولاه كما رويناه عمن يقتدى به وكما رويناه باسنادنا إلى ابي جعفر بن بابويه فيما رويناه من كتاب زهد مولينا على بن ابي طالب صلوات الله عليه عن الحسين بن سعيد عن عثمان بن سعيد عن الفضل بن صالح عن ابى الصباح عن ابي عبد الله قال كان على عليه السلام يركع فيسيل عرقه حتى يطاء في عرقه من طول قيامه.

اقول انا لك فيا ايها المشفق على روحه وقلبه وجسده وكبده اولئك الذين هدى الله فبهديم اقتده.

ومن ادب الراكع انه إذا رفع رأسه بعد ما ذكرناه فليكن رفع رأسه بوقار وسكينة فان موليه يراه فإذا قال سمع الله لمن حمده اهل الكبرياء والعظمة والجود والجبروت انه يمد يديه عند ذكر الكبرياء والعظمة والجبروت بالذل للمعبود ويبسطهما بالرجاء عند ذكر الجود.

ذكر ادبه في السجود اعلم انه من ادب العبد في سجوده ان يكون

١١٢

على زيادة عما ذكرناه في الركوع من الذل لمعبوده فاياه ان يكون قلبه خاليا من اذكار نفسه انه حاضر بين يدى الله جل جلاله وانه جل جلاله على ما هو عليه من العظمة والجلالة التى لا يحيط بها مقال كل ذى مقالة وان هذا العبد على صفة من الضعف والفقر والمسكنة والذنوب التى قد اوقعته في الرذالة فيهوى إلى السجود على ابلغ ما ذكرناه في الركوع من الذل والخضوع والخشوع فانه ان سجد وقلبه خال من الذكر لهذه الحال وانما يسجد على العادة ومراعاة صورة السجود من غير استحضار لمعاملة موليه بالاقبال عليه وبين يديه فهو كالذى يلعب في سجوده أو كالمعرض أو كالمستهزئ بمالكه ومعبوده وقد عرف اهل العلم ان ذلك الركوع وهذا السجود من اركان الصلوات وانهما متى تركهما العبد في صلوته عامدا أو ناسيا بطلت صلوته بمقتضى الفتوى والروايات وصاحب الشريعة صلوات الله عليه وآله ما بعث إلى العباد بمعاملة وعبودية لغير معبود فإذا خلا خاطرك من المقصود بهذه الذلة والعبودية عند الركوع والسجود فما الفرق بينك وبين اهل الجحود وما الفرق بينك وبين الساهي واللاهى وانما جاء محمد صلوات الله عليه وآله يدعو إلى المعبود قبل العادة فاياك ان تكون ممن خلا قلبه من ذل العبودية له وصار يقوم ويركع ويسجد فارغ القلب منه جل جلاله بحسب العرف والعادة.

اقول وان كنت ممن يقول في سجوده اللهم لك سجدت وبك امنت ولك اسلمت وعليك توكلت وانت ربى سجد لك سمعي وبصرى وشعرى وعصبي ومخى وعظامي وسجد وجهى البالى الفاني للذى خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك الله احسن الخالقين.

١١٣

فانك ان قلت هذا واعضاؤك غير ساجدة جميعا على معنى الذل والاستسلام والتوكل والخضوع والخشوع للمعبود فكانك غايب عن معنى السجود ويكون قولك ودعواك كذبا وبهتا لموليك فكيف تصح صلوتك يا مسكين إذا كان عبادتك بالكذب والبهت والتهوين.

ثم اقول لك ان كنت تجد في سجودك ما يجده المحب من الروح والسرور إذا قرب من اهل الحب والا فسجودك ذميم مدخول وقلبك سقيم معلول لانك قد عرفت صريح القرآن تضمن واسجد واقترب فجعل السجود من علامات القرب إلى علام الغيوب فطالب نفسك بانها تجد عند السجود ما يجد المحب بقرب المحبوب فان حبك لله جل جلاله من ثمرة قوة معرفتك بجلاله وعظيم نواله وافضاله قال الله جل جلاله في قوم يثنى عليهم ممن كانوا يعرفونه يحبهم ويحبونه وقال جل جلاله في وصفه لاهل النجاة والذين آمنوا اشد حبا لله ولا يغرنك قول من يقول ان حبك لله جل جلاله طاعته فان ذلك ان كان قاله من قول قدوة فلعله لتقية أو لضعف السامع عن معرفة الاسرار الربانية لان حبك لله جل جلاله ان كنت عارفا به كان قبل طاعتك له لانك عرفته منعما فاحببته ثم وجدته يستحق الطاعة فاطعته والا فكيف عقلت معنى الرواية المتفق عليها جبلت القلوب على حب من احسن إليها افتكون القلوب على حب (1)

__________________

(1) ولقد وجدت مكتوبا في ظهر بعض الكتب عن الرضا (ع) جبلت القلوب على حب من احسن إليها وبغض من اساء إليها والظاهر انه اشارة إلى ذلك ثم قال فكيف تكون القلوب على حب العبد المحسن مجبولة وتكون عند احسان الله جل جلاله عن حبه معزولة محمد حسين عفى عنه.

١١٤

العبد المحسن مجبولة وتكون عند احسان الله جل جلاله عن حبه معزولة هذا لا تقبله الا عقول سقيمة معلولة.

وقد عرفت ان حبك لله جل جلاله من عمل القلوب وطاعتك له تكون من عمل القلب فحسب ومن عمل القلب ومن عمل الجوارح الظاهرة وكيف صارت الطاعة التى تكون تارة بالقلب وتارة بالقلب والجوارح الظاهرة وهما قسمان قسما واحدا هذا كالمكابرة للعيان وكيف صار العمل بالجوارح الظاهرة هو العمل بالقلوب هذا مستحيل عند من عقله غير محجوب.

فصل ثم وقد يعمل الانسان الطاعات وهى تشق عليه ويكون قلبه كارها لها أو للتكليف بها فلو كان حب العبد جل جلاله طاعته كان في هذه الحال كارها لحب الله بل كارها لله جل جلاله بل باغضا لله جل جلاله لان ضد الحب البغض فإذا بغض العبد طاعة الله جل جلاله فقد بغض حب الله جل جلاله وصار باغضا لله جل جلاله فيكون على هذا كل من كره طاعة الله جل جلاله باغضا لله جل جلاله ويكون كافرا فهل تجد لك على هذا القول من المسلمين العارفين عاذرا أو ناصرا وهل يقبل عقلك ان معنى قوله جل جلاله الذى قدمناه قل ان كان آباؤكم وابناؤكم واخوانكم وازواجكم وعشيرتكم واموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها احب اليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بامره والله لا يهدى القوم الفاسقين أو عقل عاقل ان قوله احب اليكم من هذه الاشياء التى عددها سبحانه ان المراد به الطاعة وهبك (ن ل هب) جوزت هذا في آبائهم وابنائهم

١١٥

واخوانهم وازواجهم وعشيرتهم فهل تجوز في قوله جل جلاله واموال اقترفتموها وتجارة وتخشون كسادها ومساكن ترضونها ان الحب لهذه الاشياء بمعنى الطاعة فاياك ان تحمل على المعقول ما لايدخل تحت الاستطاعة ودع عنك تقليد من قال ان حب العبد لله جل جلاله طاعته واقبل الحق ممن قاله فقد انكشف لك براهينه وحجته فهذا بيان ان حب العبد لله جل جلاله بالقلوب وهو مما يثمره قوة معرفة بالله جل جلاله وقوة المعرفة باحسانه الذين يسوقان عقل العبد وقلبه إلى حب مولاه قبل ان يعرف العبد هل هو مكلف بحب الله جل جلاله ام لا فكيف إذا عرف انه مأمور ايضا بحبه عقلا ونقلا لان الكامل في ذاته محبوب لكماله والمحسن محبوب لاحسانه وافضاله قبل معرفة التكليف بهذا الحب المذكور والله جل جلاله اعظم شأنا واعم احسانا من ان يحيط بجلاله وصفنا لكماله ووصفنا لاحسانه ولافضاله بل هو جل جلاله اعظم كمالا وابلغ احسانا وافضالا فوجب ان يكون محبوبا بالقلوب إلى من عرفه على اليقين وعرف احسانه في امور الدنيا والدين.

فصل واما حب الله جل جلاله لعبده إذا طاعه وغضبه عليه إذا عصاه فلعلك تجد في الروايات والمقالات ان حب الله جل جلاله للعبد أو رضاه عنه هو ثوابه له وان غضب الله جل جلاله على عبده العاصى هو عذابه له فاما المقالات لذلك فلا يجوز تقليدهم في المعقول واما حديث الرواية والمنقول فان سلمت من الطعن عليها وكانت عن معصوم فلعل ذلك قالوه على سبيل التقية فانهم عليهم السلام كانوا في تقية هايلة وقد كشفنا تقيتهم فيما ذكرنا في الاعتذار لمضمون كتاب الكشى فان هذا القول كثير في مذهب المخالفين لهم أو لعل ذلك قالوه للتقريب على السائلين

١١٦

والسامعين فان كثيرا من المستمعين تقصر افهامهم عن اسرار صفات سلطان العالمين فلعلهم خافوا عليهم انهم إذا قالوا لهم ان الله جل جلاله يحب ويرضى ويغضب ويسخط ان يسبق إلى خواطر من يسمع ذلك انه جل جلاله يحب ويرضى مثل الحب والرضا من الطباع البشرية أو يغضب ويسخط مثل الغضب والسخط من القلوب الترابية فحدثوا عليهم السلام بما تبلغ إليه عقول السائلين والسامعين وإذا اعتبرت بعض الروايات في ذلك وجدتها شاهدة بانهم نفوا عن الله جل جلاله الحب والرضا والغضب والسخط الذين تتغير الامزجة بهما ولا يصحان الا على الاجسام القابلة لهما حتى قربوا على بعض السائلين وقالوا لهم ما معناه ان غضب الله جل جلاله ورضاه اشارة إلى غضب اوليائه وخاصته ورضاهم وهذا صحيح عند العارفين وان خواصه جل جلاله ما يغضبون وما يرضون الا بعد غضبه سبحانه ورضاه لانهم عليهم السلام له جل جلاله تابعون لا يسبقونه بالقول وهم بامره يعملون.

فصل والا فالعقول الصحيحة شاهدة وجدانا وعيانا ان معنى لفظ الحب والرضا غير معنى لفظ الثواب وكذلك معنى الغضب غير معنى العقاب سواء كان ذلك في العباد أو رب الارباب.

وقد عرفنا ذلك قوله جل جلاله ان الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وقوله جل جلاله ان الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص وقوله جل جلاله يحبهم ويحبونه عن قوم كانوا حقا ويقينا يعرفونه وقال جل جلاله في الغضب فلما اسفونا انتقمنا منهم.

وذكر جماعة من اهل اللغة ومن المفسرين ان معنى قوله جل جلاله

١١٧

أي اغضبونا فقال الجوهرى في كتاب الصحاح ما هذا لفظه واسف عليه اسفا أي غضب واسفه اغضبه.

وقال الطبرسي في تفسير القرآن فلما اسفونا أي اغضبونا وغضبه سبحانه ارادة عقابهم وما قال الطبرسي ان غضبه عقابهم فجعل الله جل جلاله في ههذه الاية الاسف الذى هو الغضب منه جل جلاله عليهم قبل عقابه لهم الذى هو الانتقام.

وهذا واضح كيف يخفى مثله على ذوى الافهام وقال جل جلاله ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما افلا ترى انه جل جلاله قدم الغضب على العذاب بل قبل اعداد عذابه بجهنم في صريح الكتاب على مقتضى مفهوم الالباب.

فصل ويزيدك بيانا انك ترى الاحاديث والادعية متظاهرة بما معناه أو لفظه اللهم ان لم ترض عنى فاعف عنى فقد يعفو المولى عن عبده وهو غير راض عنه.

ثم أو ما تعلم ان الكفار الذين علم الله جل جلاله منهم انهم يموتون على كفرهم كانوا يستحقون في حكم العقل عقوبتهم في حال حيوتهم.

ثم تعلم ان الله جل جلاله غضبان عليهم في حال كفرهم قطعا ان كنت مسلما فعفى الله جل جلاله عن تعجيل عقوبتهم واخر عقابهم إلى بعد وفاتهم مع كونهم مذ كفروا وعلم استمرارهم على كفرهم كان قد غضب عليهم.

فهذا يكشف لك ان الغضب من الله جل جلاله قبل العقاب لانه

١١٨

إذا كان الله جل جلاله يعفو عن عقاب العبد وهو غير راض عن العبد كما تضمنته الادعية في عفوه عن المؤمن وهو غير راض عنه وحال الكفار الذين يموتون على كفرهم وتأخير عقوبتهم وهو غضبان عليهم كما قلناه لانه إذا كان غير راض كان غضبانا ولا يخلو عن مقام الرضا والغضب في وقت واحد على وجه واحد فلو كان الغضب هو العقاب استحال ان يعفو عن عبد ويكون في حال عفوه عنه غضبانا عليه وكان متى عفى عن العبد المسلم أو الكافر قبل وفاته زال غضبه عنهم وهذا خلاف المعلوم من دين اهل الحق والصدق.

فصل ولكن حبه جل جلاله أو رضاه حيث قد نطق القرآن الصريح والنقل الصحيح بهما وبغضبه وسخطه جل جلاله وثبوت هاتين الصفتين له جل جلاله فانه يكون لحبه سبحانه أو رضاه وغضبه أو سخطه وجه معلوم غير ما نعرفه من رضا الاجسام وحبها وغضبها وسخطها وغير ما فسروه بان حبه ورضاه ثوابه وغضبه عقابه كما كان تفسير ساير صفاته جل جلاله غير صفات الاجسام فان كون احدنا قادرا يقتضى قوة زائدة وحالا متجددة غير كونه عاجزا وكذا كون احدنا عالما وحيا وساير صفاتنا يقتضى تجدد حالات وتغيرات علينا وهذه المعاني مستحيلة على الله جل جلاله ولكن هذه الصفات في الله كما يليق بذاته المقدسة التى لامثل لها وكما يليق بصفاته المنزهة التى لاشبه لها وكذا يكون تفسير الحب منه جل جلاله والرضا والغضب والسخط وهذا يكشف ما قلناه لاهل الريب ويزيل العجب.

(اقول ووجدت بعد تصنيف هذا الكتاب بسنتين في الجزء الاول من تفسير القرآن للطبري عن قوم من المفسرين انهم ذكروا في غضب

١١٩

الله كما ذكرناه واخترناه).

فصل اقول ومن ادب العبد في السجود انه لا يستعجل في رفع رأسه من ذلك الخضوع والخشوع للمعبود فقد قلنا لك معنى ما ذكره الله جل جلاله في كتابه ان السجود من مقامات القرب إلى مولاك فعلى أي شئ تستعجل أو تكره قربه وهو يريك وكما انك لا تكره قربك من محبوبك في دنياك ولا تستعجل بالتباعد عنه فكذا كان مع ربك جل جلاله الذى لابد لك منه كما رويناه باسنادنا إلى محمد بن يعقوب الكليني فيما رواه باسناده إلى الفضيل بن يسار وهو من اعيان الاخيار وخواص الاطهار عن ابي عبد الله عليه السلام قال كان على بن الحسين عليهما السلام إذا قام إلى الصلوة تغير لونه فإذا سجد لم يرفع رأسه حتى يرفض عرقا.

ذكر الشهادة لله جل جلاله بالوحدانية في الصلوة.

اقول المهم ان يكون تلفظك بالشهادة معاملة لله جل جلاله وعبادة ولا يكون قصدك انه جل جلاله في نفس الامر واحد فحسب وانما يراد منك انك تعتقد انه جل جلاله واحد في نفس الامر وانه لا اله لك تعبده سواه ولا لك شئ تؤثره على رضاه فانك ان اثرت شيئا عليه جل جلاله كان ذلك الذى تؤثره ارجح منه جل جلاله عندك ومعبودا لك من دونه فيما تؤثره فيه عليه وما تكون كامل الصدق في الشهادة بانك لا اله لك سواه افلا ترى قوله جل جلاله فيمن رجح عليه هواه فقال سبحانه اتخذ الهه هواه.

وروى في تفسير قوله جل جلاله اتخذوا احبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله انهم ما صاموا ولا صلوا لهم ولكن اطاعوهم في معصية الله فصار حكمهم بذلك حكم من اتخذهم الهة فاياك ان تشرك به

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

للتأكيد. وأمثال ذلك كثير في الكلمات الفصحى.

ولكن ثمّة تفسير أجمل ، وهو أن يقال أحيانا : مثلك لا يهرب من ساحة الأحداث. أيّ أنّ الذي يملك الشجاعة والعقل والذكاء مثلك ، لا ينبغي عليه الهرب (والخلاصة أن من يملك مثل صفاتك يجب أن يكون هكذا وهكذا).

وفي الآية التي نبحثها سيكون المعنى هكذا : مثل الخالق الذي ذكرنا أوصافه ـ كالعلم الواسع والقدرة العظيمة اللامتناهية ليس له مثل».

ذهب أرباب اللغة وعلماؤها إلى أنّ هناك بعض المصطلحات لها نفس معنى (مثل) إلّا أنّها ليست مثلها فى ـ المفهوم من زاوية عموميتها وشموليتها ، مثلا :

«ند» على وزن «ضد» وتقال عند ما يكون القصد من التشبيه الإشارة إلى المشابهة في الجوهر والماهية.

«شبه» وتقال عند ما يكون الكلام عن الكيفية فقط.

«مساوي» وتقال عند ما يكون الكلام عن الكمية فقط.

«شكل» وتقال عند ما يكون الكلام في التشبيه عن المقدار والمساحة.

إلّا أنّ «مثل» لها مفهوم أوسع وأكثر عمومية ، بحيث تشمل جميع المفاهيم الآنفة الذكر.

لذا فإنّ الله عند ما يريد أن ينفي عن ذاته أي شبيه أو نظير يقول :( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (١) .

٣ ـ بعض الملاحظات حول الرزق الإلهي :

أ: معيار بسط الرزق وتقديره :

يجب أن لا نتصوّر أبدا أن بسط الرزق يعني محبة الله لنا ، أو أن تضييق المعيشة هي دليل غضبه ، لأنّ الله قد يختبر الإنسان بواسطة البسط في رزقه ،

__________________

(١) لاحظ مفردات الراغب مادة «مثل».

٤٨١

وأحيانا يريد أن يمتحن صبره ومقاومته عن طريق التضييق بالمعيشة عليه.

وعن هذا الطريق يصار إلى تربية الإنسان.

إنّ الثروة الكبيرة قد تكون أحيانا سببا لعذاب أهلها وتعبهم وسلب استقرارهم وراحتهم النفسية ، حيث يقول القرآن في الآية (٥٥) من سورة التوبة :( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ ) .

وفي الآيتين (٥٥ ـ ٥٦) من سورة المؤمنين ، نقرأ قوله تعالى :( أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ ) .

ب : تحديد الأرزاق لا يتعارض مع بذل الجهود :

إنّ الآيات التي تتحدث عن تحديد مقدار الرزق لا تتنافي مع سعي الإنسان في مجال تحصيله للرزق. وينبغي أن لا يكون الأمر مبعثا للخمول والكسل والهروب من تحمل مسئوليات الجهاد الفردي الاجتماعي ، إذ هناك آيات قرآنية كثيرة تؤّكد أهمية وقيمة السعي الإنساني.

إنّ الهدف هو أن ندرك أنّنا رغم سعينا وعملنا فهناك يد خفية تقوم أحيانا بحجب نتائج هذه الجهود ، وتقوم في بعض الأحيان بعكس ذلك ، حتى لا ينسى الناس في حياتهم الاجتماعية الطويلة أن ثمّة قدرة اخرى هي قدرة مسبب الأسباب وهي التي تدبر شؤون العالم.

وينبغي هنا أن لا نلقي تبعات الكسل والإهمال والتقاعس على مفهوم الرزق الإلهي المحدود لكل إنسان ، لأنّه تعالى صرّح بأن عطاء الرزق يساوي ما يبذله الفرد من جهد وعناء.

٤٨٢

ج : عدم اقتصار الرزق على المفهوم المادي :

للرزق معنى واسع بحيث يشمل الرزق المعنوي ، بل إنّ الرزق الأصلي هو الرزق المعنوي ، وفي الأدعية نلتقي مع أمثلة كثيرة تؤكّد ذلك ، فنقول حول الحج مثلا :

«اللهم ارزقني حج بيتك الحرام».

وفي أدعية طلب الطاعة تقول :

«اللهم ارزقني توفيق الطاعة وبعد المعصية».

وفي أدعية أيام شهر رمضان نقول :

«اللهم ارزقني فيه طاعة الخاشعين»

(دعاء اليوم الخامس عشر).

وهكذا بالنسبة للهبات المعنوية الأخرى.

د : القرآن والأسباب التي تؤدي إلى زيادة الرزق :

لقد ذكر القرآن الكريم بعض الأمور التي تعتبر بحدّ ذاتها درسا لتربية الإنسان وبنائه ، ففي الآية(٧) من سورة «إبراهيم» نقرأ قوله تعالى :( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ) .

وفي الآية(١٥) من سورة «الملك» قوله تعالى :( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ) .

وفي سورة الأعراف ، آية(٩٦) قوله تعالى :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) .

ه : التضييق في الرزق والقضية التربوية :

أحيانا يكون ضيق الرزق لمنع الناس عن الطغيان ، كما نقرأ في قوله تعالى :( وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ) (١) .

__________________

(١) الشورى ، الآية ٢٧.

٤٨٣

ز : الرّزاق هو الله

يؤكّد القرآن الكريم أنّ الذي يعطي الرزق للناس هو الله ، وعليهم أن لا يطلبوا من غيره ، وعليهم بعد الإيمان والتوكل أن يعتمدوا على وسعهم وطاقاتهم ، كما ورد في الآية (٣) من سورة «فاطر» في قوله تعالى :( هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) .

والآية(١٧) من «العنكبوت» في قوله تعالى :( فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ ) .

وهكذا تقطع التربية القرآنية روح الحاجة لدى الإنسان إلى عباد مثله ، وتجعله مرتبطا بخالقه وبارئه ورازقه ، فتنمي فيه روح الإباء ، والعبودية والانقطاع إلى الله.

ولدينا بحيث مفصل بخصوص الأرزاق والسعي للحياة ، وأسباب الرزق ومصادره في نهاية تفسير الآية(٧١) من سورة «النحل» وكذلك في نهاية تفسير الآية(٦) من سورة «هود» ، فليراجع هناك.

* * *

٤٨٤

الآيتان

( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) )

التّفسير

الإسلام عصارة شرائع جميع الأنبياء :

بما أن العديد من بحوث هذه السورة تتعلق بالمشركين ، وأن الآيات السابقة كانت تتحدث عن نفس هذا الموضوع أيضا ، لذا فإنّ الآيات التي نبحثها تبيّن هذه الحقيقة ، وهي أن دعوة الإسلام إلى التوحيد ليست دعوة جديدة ، إنّها دعوة جميع الأنبياء أولي العزم ، وليس أصل التوحيد فحسب ، بل إن جميع دعوات الأنبياء في

٤٨٥

القضايا الأساسية وفي مختلف الأديان السماوية كانت واحدة.

تقول الآية :( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ) والذي هو أوّل نبيّ من أولي العزم.

وأيضا :( وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى ) .

وبهذا الشكل فما كان موجودا في شرائع جميع الأنبياء موجود في شريعتك أيضا و «ما يمتلكه الصالحون جميعا تملكه لوحدك».

إنّ عبارة (من الدين) تبيّن أن التنسيق بين جميع الشرائع السماوية لم يكن بخصوص التوحيد أو أصول العقائد فحسب ، بل في كلّ مجموعة الدين الإلهي ، فمن حيث الأساس والجذور كانت واحدة ، بالرغم من أن تكامل المجتمع الإنساني يقتضي أن تكون التشريعات والقوانين الفرعية متناسقة مع تكامل الناس ، وتسير نحو التكامل حتى تصل إلى الحد النهائي وتختتم الأديان.

لهذا السبب هناك أدلة كثيرة في آيات قرآنية اخرى تبيّن أن الأصول العامة للعقائد والقوانين والتعليمات واحدة في جميع الأديان.

فمثلا نقرأ في القرآن الكريم بخصوص شرح حال العديد من الأنبياء ، أنّ أوّل دعوة لهم كانت :( يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ) (١) .

وفي مكان آخر نقرأ :( وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ) .

وأيضا فقد ورد الإنذار بالبعث في دعوة العديد من الأنبياء (الأنعام ١٣٠ ، الأعراف ٥٩ ، الشعراء ١٣٥ ، طه ١٥ ، مريم ٣١).

أمّا موسى وعيسى وشعيبعليه‌السلام فيتحدثون عن الصلاة (طه ١٤ ، مريم ٣١ ، هود ٨٧).

وإبراهيم يدعو إلى الحج (الحج ٢٧).

وكان الصوم مشرّعا عند جميع الأقوام السابقين (البقرة ١٨٣).

__________________

(١) الأعراف (٥٩ ، ٦٥ ، ٧٣ ، ٨٥) هود (٥٠ ، ٦١ ، ٨٤) حيث جاءت بالترتيب بخصوص نوح ، هود وصالحعليهم‌السلام .

٤٨٦

لذا ، وكتعليمات عامّة لجميع الأنبياء العظام تقول الآية في الجملة الأخرى :( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) .

فهي توصي بأمرين مهمّين :

الأوّل : إقامة دين الخالق في كلّ الأرض (وليس العمل فحسب ، بل إقامته وإحياؤه ونشره).

الثّاني : الاحتراز عن البلاء العظيم ، يعني الفرقة والنفاق في الدين.

وبعد ذلك تقول :( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) .

فلقد تطبع هؤلاء على الشرك وعبادة الأصنام بسبب الجهل والتعصب لسنين طويلة ، وعشعش ذلك في أعماقهم بحيث أصبحت الدعوة إلى التوحيد تخيفهم وتوحشهم ، إضافة لذلك فإن مصالح زعماء المشركين اللامشروعة محفوظة في الشرك ، في حين أن التوحيد هو أساس ثورة المستضعفين ، ويقف حائلا دون أهواء الطغاة ومظالمهم.

وكما أن انتخاب الأنبياء بيد الخالق ، كذلك فإنّ هداية الناس بيده أيضا :( اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ) .

* * *

ملاحظات

وهناك ملاحظات في هذه الآية يجب الانتباه إليها :

١ ـ (شرع) من كلمة (شرع) وهي في الأصل تعني الطريق الواضح ، حيث يقال (الشريعة) للطريق المؤدي إلى النهر ، ثمّ استخدمت هذه الكلمة بخصوص الأديان الإلهية والشرائع السماوية ، لأن طريق السعادة الواضح يتمثل فيها ، وهي طريق الوصول إلى الإيمان والتقوى والصلح والعدالة.

وبما أنّ الماء هو أساس النظافة والطهارة والحياة ، لذا فإنّ لهذا المصطلح

٤٨٧

تناسب واضح مع الدين الإلهي الذي يؤدّي نفس هذه الأعمال من الناحية المعنوية مع روح الإنسان والمجتمع البشري(١) .

٢ ـ لقد أشارت هذه الاية إلى خمسة من الأنبياء الإلهيين فقط (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّدعليهم‌السلام ) لأنّ هؤلاء الخمسة هم الأنبياء أولو العزم ، أيّ أصحاب الدين والشرائع ، وفي الحقيقة فإنّ الآية تشير إلى انحصار الشريعة بهؤلاء الخمسة من الأنبياء.

٣ ـ في البداية ذكرت الآية نوحا ، لأنّ أوّل شريعة (أو الدين الذي يحتوي على كلّ القوانين العبادية والاجتماعية) نزلت عن طريقه ، وكانت هناك تعليمات وبرامج محدودة للأنبياء الذين سبقوه(٢) .

ولهذا السبب لم يشر القرآن ولا الرّوايات الإسلامية إلى الكتب السماوية قبل نوحعليه‌السلام .

٤ ـ من الضروري أن نشير إلى أنّه عند ذكر هؤلاء الخمسة ، ثمّ ذكر نوحعليه‌السلام في البداية ثمّ نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد ذلك إبراهيمعليه‌السلام وموسىعليه‌السلام وعيسىعليه‌السلام ، وهذا الترتيب بسبب أن نوحا كان هو البادئ والفاتح ، ونبيّ الإسلام ذكر بعد ذلك بسبب عظمته ، وذكر الآخرون حسب الترتيب الزمني لظهورهم.

٥ ـ من الضروري أيضا أن نشير إلى هذه الملاحظة ، وهي أن القرآن يستخدم عبارة :( أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ) بخصوص نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّه استخدم عبارة «وصيّنا» بالنسبة الى الآخرين ، قد يكون هذا الاختلاف في التعبير بسبب أهمية الإسلام بالنسبة لسائر الأديان السماوية الأخرى.

٦ ـ وردت عبارة (من يشاء) بالنسبة الى كيفية انتخاب الأنبياء في نهاية الآية ، والتي قد تكون إشارة مجملة للمؤلهات الذاتية للرسل الإلهيين.

__________________

(١) لقد جاء هذا المعنى بشكل مجمل في لسان العرب والمفردات للراغب وبقية كتب اللغة.

(٢) هناك شرح أوردناه بهذا الخصوص في نهاية الآية ٢١٣ من سورة البقرة.

٤٨٨

أمّا بخصوص الأمم فقد تم استخدام عبارة (من ينيب) «والتي تعني الرجوع إلى الخالق والتوبة عن الذنب» حتى يتّضح معيار الهداية الإلهية وشرائطها للجميع ، ويعثروا على طريق الوصول إلى بحر رحمته.

جاء في الحديث القدسي «من تقرب منّي شبرا تقربت منه ذراعا ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة»(١) .

وقد ورد هذا الاحتمال أيضا في تفسير الجملة الأخيرة ، وهو أن (الاجتباء) لا يختص بالأنبياء فحسب ، بل يشمل جميع العباد المخلصين الذين لهم المقام المحمود عند الخالق.

وبما أن أحد أركان دعوة الأنبياء أولى العزم هو عدم التفريق في الدين ، فقد كانوا يدعون لذلك حتما ، لذا فقد يطرح هذا السؤال : ما هو أساس كلّ هذه الاختلافات المذهبية؟

وقد أجابت الآية الأخرى على هذا السؤال وذكرت أساس الاختلافات الدينية بأنّه :( وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) ، فالاختلافات لم تحدث إلّا بسبب حب الدنيا والمنصب والظلم والحسد والعداوة.

نعم ، فعبيد الدنيا الظلمة والحسودون الحاقدون وقفوا حيال أديان الأنبياء جميعا ، ودفعوا كلّ مجموعة باتجاه معين كيما يثبتوا أركان زعامتهم ويؤمّنوا مصالحهم الدنيوية ، ويكشفوا ـ علانية ـ حسدهم وعداوتهم للمؤمنين الحقيقيين دين الأنبياء ، ولكن كلّ هذا حصل بعد إتمام الحجة.

وبهذا الترتيب فإنّ أساس التفرق في الدين لم يكن الجهل ، بل كان الظلم والبغي والانحراف عن الحق ، والأهواء والآراء الشخصية.

«فالعلماء الذين يطلبون الدنيا» و «والحاقدون من الناس والمتعصبون» اتحدوا معا لزرع هذه الاختلافات.

__________________

(١) التّفسير الكبير للفخر الرازي ، المجلد ٢٧ ، ص ١٥٧ (نهاية الآيات التي نبحثها).

٤٨٩

وتعتبر هذه الآية ردّا واضحا على الذين يقولون بأن الدين أوجد الاختلاف بين البشر ، وأدى الى إراقة دماء كثيرة على مدى التاريخ ، فلو دققوا في الأمر لوجدوا أن الدين دائما هو أساس لوحدة والاتحاد في المجتمع (كما حصل للإسلام وقبائل الحجاز وحتى الأقوام في خارج الجزيرة حيث انتهت الاختلافات وأصبحوا أمة واحدة).

إلّا أن السياسات الاستعمارية هي التي أوجدت الفرقة بين الناس ، وحرضت على الاختلافات ، وكانت أساسا لإراقة الدماء ، ففرض سياساتها وأهوائها على الأديان السماوية كان عاملا كبيرا آخر في إيجاد الفرقة ، وهذا بحد ذاته ينبع من (البغي) أيضا.

«البغي» كما يكشف أساسه اللغوي ، يعني (طلب التجاوز والانحراف عن خط الوسط والميل نحو الإفراط أو التفريط) سواء تمّ تطبيق هذا الطلب أم لا ، وتختلف كميته وكيفيته ، ولهذا السبب فغالبا ما يستخدم بمعنى الظلم.

وأحيانا يقال لأي طلب بالرغم من كونه أمرا جيدا ومرغوبا.

لذا فإنّ الراغب في مفرداته يقسم (البغي) إلى نوعين : (ممدوح) و (مذموم) فالأوّل يتجاوز حد العدالة ويصل إلى الإحسان والإيثار ، وتجاوز الواجبات والوصول إلى المستحبات ، والثّاني يتجاوز الحق نحو الباطل.

ثم يضيف القرآن الكريم :( وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) حيث يهلك أتباع الباطل وينصر أتباع الحق.

نعم ، فالدنيا هي محل الاختبار والتربية والتكامل ، ولا يحصل هذا بدون حرية العمل ، وهذا هو الأمر التكويني الإلهي الذي كان موجودا منذ بدء خلق الإنسان ولا يقبل التغيير. إن هذه هي طبيعة الحياة الدنيوية ، ولكن ما يمتاز به عالم الآخرة هو أن جميع هذه الاختلافات ستنتهي وسوف تصل الإنسانية إلى الوحدة الكاملة ، ولهذا السبب يتمّ استخدام عبارة (يوم الفصل) للقيامة.

٤٩٠

أمّا آخر جملة فتقوم بتوضيح حال الأشخاص الذين جاؤوا بعد هذه المجموعة ، أي الذين لم يدركوا عصر الرسل ، بل جاؤا في فترة طبع فيها المنافقون والمفرقون المجتمع البشري بطابعهم الشيطاني ، لذا لم يستطيعوا إدراك الحق بشكل جيد ، حيث تقول :( وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ) (١) .

وقد ذكروا في حقيقة معنى كلمة (ريب) أن هذه الكلمة تطلق على الشك الذي يتبدل إلى الحقيقة أخيرا بعد أن يزال الستار عنه ، وقد يكون هذا الأمر إشارة إلى ظهور نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالأدلة الواضحة ، حيث محى آثار الشك والريب من قلوب طلّاب الحق.

* * *

ملاحظة

نقل تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادقعليه‌السلام في قول الله تعالى :( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ) قال الأمام ،( وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) كناية عن أمير المؤمنين الإمام عليعليه‌السلام ثمّ قال :( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) من أمر ولاية علي( اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ ) كناية عن علي (ع)(٢) .

وبديهي أنّ المقصود ليس تحديد الدين في ولاية علي عليه أفضل الصلاة والسلام ، بل الهدف هو بيان هذه الحقيقة ، وهي أنّ قضية ولاية أمير المؤمنين الإمام عليعليه‌السلام تعتبر من أركان الدين أيضا.

* * *

__________________

(١) وفقا لهذا التّفسير الذي يتناسق بشكل كامل مع الجمل السابقة ، فإن ضمير (بعدهم) يعود إلى الأمم الأولى التي أوجدت الفرقة بين المذاهب والأديان ، وليس إلى الأنبياء المذكورين في الآية السابقة (فدقق ذلك).

(٢) تفسير نور الثقلين ، المجلد الرابع ، ص ٥٦٧.

٤٩١

الآية

( فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) )

التّفسير

فاستقم كما أمرت!

بما أن الآيات السابقة تحدثت عن تفرق الأمم بسبب البغي والظلم والانحراف ، لذا فإنّ الآية التي نبحثها تأمر النّبي بمحاولة حل الاختلافات وإعادة الحياة إلى دين الأنبياء ، وأن يبذل منتهى الاستقامة في هذا الطريق ، فتقول :( فَلِذلِكَ فَادْعُ ) (١) أي ادعوهم إلى الدين الإلهي الواحد وامنع الاختلافات.

ثم تأمره بالاستقامة في هذا الطريق ، فتقول :( وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ) .

ولعل جملة «كما أمرت» إشارة إلى المرحلة العالية من الاستقامة ، أو إلى أن

__________________

(١) بعض المفسّرين اعتبر «اللام» في «لذلك» بمعنى «إلى» ، والبعض الآخر بمعنى (التعليل) وفي الحالة الأولى تكون كلمة (ذلك) إشارة إلى دين الأنبياء السابقين ، وفي الحالة الثانية إشارة إلى اختلاف الأمم.

٤٩٢

الاستقامة يجب أن تكون من حيث الكمية والكيفية والزمن والخصوصيات الأخرى مطابقة للقانون الإلهي.

وبما أن أهواء الناس تعتبر من الموانع الكبيرة في هذا الطريق ، لذا تقول الآية في ثالث أمر لها :( وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) ، لأن كلّ مجموعة ستدعوك إلى أهوائها ومصالحها الشخصية ، تلك الدعوة التي يكون مصيرها الفرقة والاختلاف والنفاق ، فعليك القضاء على هذه الأهواء ، وجمع الكل في ظل الدين الإلهي الواحد.

وبما أن لكل دعوة نقطة بداية ، لذا فإن نقطة البداية هي شخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث تقول الآية في رابع أمر لها :( وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ ) . فأنا لا أفرّق بين الكتب السماوية ، اعترف بها جميعا ، وكلها تدعو إلى التوحيد والمعارف الدينية الطاهرة والتقوى والحق والعدالة ، وفي الحقيقة فإن ديني جامع لها ومكملها.

فأنا لست مثل أهل الكتاب حيث يقوم كلّ واحد بإلغاء الآخرين ، فاليهود يلغون المسيحيين ، والمسيحيون يلغون اليهود ، وحتى أن أتباع كلّ دين أيضا يقبلون ما يتلاءم مع حاجاتهم ورغباتهم من كتبهم الدينية ، فانا أقبل بالكل لأن الكل له أصول أساسية واحدة.

وبما أن رعاية (أصل العدالة) ضروري لإيجاد الوحدة ، لذا فإن الآية تطرح ذلك في خامس أمر لها فتقول :( وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) ، سواء في القضاء والحكم ، أو في الحقوق الاجتماعية والقضايا الأخرى(١) .

وبهذا الشكل فإنّ الآية التي نبحثها مؤلفة من خمس تعليمات مهمّة ، حيث تبدأ من أصل الدعوة ، ثمّ تطرح وسيلة انتشارها ـ يعني الاستقامة ـ ثمّ تشير إلى الموانع في الطريق «كعبادة الأهواء» ثمّ تبين نقطة البداية التي تبدأ من النفس ، وأخيرا الهدف النهائي والذي هو توسيع وتعميم العدالة.

__________________

(١) بعض المفسّرين حدّد (العدالة) هنا بالقضاء ، في حين أنّه لا توجد قرينة على هذه المحدودية في الآية.

٤٩٣

بعد هذه التعليمات الخمس ، تشير إلى المشتركات بين الأقوام والتي تتلخص بخمس فقرات ، حيث تقول :( اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ ) وكل واحد مسئول عن اعماله( لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ ) وليس بيننا نزاع وخصومة ، ولا امتياز لأحدنا على الآخر وليست لدينا أغراض شخصية اتجاهكم.

وعادة لا توجد حاجة إلى الاستدلال والإحتجاج ، لأن الحق واضح ، إضافة إلى ذلك فإننا جميعا سوف نجتمع في مكان واحد :( اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا ) (١) .

والذي سوف يقضي بيننا في ذلك اليوم هو الأحد الذي :( وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) .

وعلى هذا الأساس فإنّ إلهنا واحد ، ونهايتنا ستكون في مكان واحد ، والقاضي الذي إليه المصير واحد ، وبالرغم من كلّ هذا فإننا مسئولون جميعا حيال أعمالنا ، وليس هناك فرق لإنسان على آخر إلّا بالإيمان والعمل الصالح.

وننهي هذا البحث بحديث جامع ، فقد ورد في حديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ثلاث منجيات ، وثلاث مهلكات ، فالمنجيات : العدل في الرضا والغضب ، والقصد في الغنى والفقر ، وخشية الله في السر والعلانية ، والمهلكات : شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه»(٢) .

* * *

__________________

(١) الضمير المتكلم مع الغير في (بيننا) يشير إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، وضمير الجمع في (بينكم) يشير إلى جميع الكفار ، سواء كانوا أهل الكتاب أو المشركين.

(٢) مجمع البيان ، نهاية الآيات التي نبحثها. وتحف العقول كلمات الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤٩٤

الآيات

( وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) )

التّفسير

لا تستعجلوا بالساعة!!

الآيات السابقة كانت تتحدث عن واجبات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كاحترامه لمحتوى الكتب السماوية ، وتطبيق العدالة بين جميع الناس وترك أي محاججة أو خصومة بينه وبينهم. أمّا الآيات التي نبحثها ، فلكي تكمّل البحث السابق وتثبت أن حقانية نبيّ الإسلام لا تحتاج إلى دليل ، تقول :( وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) وبما أن نقاشهم ومحاججتهم ليس لكشف الحقيقة ، بل للعناد والإصرار تقول الاية( وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ ) .

٤٩٥

( وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ) لعدم وجود غير هذا الجزاء للمعاندين.

وقد ذكر المفسّرون تفاسير مختلفة حول المقصود من جملة :( مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ ) .

فقالوا : إنّ المقصود هو استجابة عامة الناس من ذوي القلوب الطاهرة ، والذين ليست لهم نوايا خبيثة ، يستسلمون للحق ويخضعون له مستلهمين ذلك من الفطرة الإلهية ومشاهدة محتوى الوحي والمعاجز المختلفة للنبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقد يكون المقصود بها استجابة دعاء الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحق معارضيه كما في يوم معركة بدر ، حيث أدى ذلك إلى فناء قسم عظيم من جيش العدو وانكسار شوكته.

وأحيانا اعتبروا ذلك إشارة إلى قبول أهل الكتاب ، حيث كانوا ينتظرون نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل ظهوره ، ويذكرون علامات ظهوره للناس من خلال كتبهم ، وكانوا يظهرون الإيمان والحب له ، إلّا أنّه بعد ظهور الإسلام أنكروا كلّ ذلك ، لأن مصالحهم غير المشروعة أصبحت في خطر.

ويبدو أن التّفسير الأوّل هو الأفضل ، لأن التّفسير الثّاني يقتضي أن تكون هذه الآيات نازلة بعد معركة بدر ، في حين أنّه لا دليل على هذا الأمر ، ويظهر أن جميع هذه الآيات نزلت في مكّة.

والتّفسير الثّالث لا يتلاءم مع أسلوب الآية ، لأنّه يجب أن يقال : «من بعد ما استجابوا له».

إضافة إلى أن ظاهر جملة :( يُحَاجُّونَ فِي اللهِ ) يشير إلى محاججة المشركين بخصوص الخالق ، وليس أهل الكتاب بالنسبة الى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن ما هي المواضيع المطروحة المشار إليها في هذه المحاججة الباطلة؟ هناك اختلاف بين المفسّرين :

فقال البعض : إنّ المقصود هو ادعاء اليهود الذين يقولون بأن دينهم كان

٤٩٦

موجودا قبل الإسلام وإن اسبقيته دليل على أفضليته.

أو ، ما دمتم تدّعون الوحدة فتعالوا وآمنوا بدين موسىعليه‌السلام لأن الطرفين يقبلانه.

ولكن ـ كما قلنا ـ فإن من المستبعد أن يكون الكلام في هذه الآيات مع اليهود أو أهل الكتاب ، لأن «المحاججة في الله» أكثر ما تخص المشركين ، لذا فإنّ الجملة أعلاه تشير إلى الأدلة الواهية للمشركين في قبولهم بالشرك ، والتي منها شفاعة الأصنام أو اتباع دين الآباء والأجداد.

على أية حال ، فالمعاندون الذين يصرون على عنادهم بعد وضوح الحق ، سيفتضح أمرهم بين خلق الله ، وسيشملهم غضب الخالق في هذا العالم والعالم الآخر.

ثم يشير القرآن إلى أحد أدلة التوحيد وقدرة الخالق ، وفي نفس الوقت يتضمّن إثبات النبوة حيال المتحاججين ذوي المنطق الواهي ، حيث تقول الآية :( اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ ) .

«الحق» كلمة جامعة تشمل المعارف والعقائد الحقة ، والأخبار الصحيحة والبرامج المتطابقة مع الحاجة الفطرية والاجتماعية ، وما شابه ذلك ، لأن الحق هو الشيء الموجود الذي يطابق مصداقه الخارجي ، وليس له جنبة ذهنية وخيالية.

وأمّا «الميزان» فله معنى عام في مثل هذه الموارد ، بالرغم من أن معناه اللغوي هو وسيلة لقياس الوزن ، إلّا أنّه في معناه الكنائي يطلق على أي معيار للقياس والقانون الإلهي الصحيح ، وحتى شخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام ، حيث أن وجودهم معيار لتشخيص الحق من الباطل وميزان يوم القيامة ، والميزان في القيامة يراد به هذا المعنى.

بناء على هذا فإنّ الخالق أنزل كتابا على نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحيث يعتبر هو الحق ، والميزان للتقييم ، والتدقيق في محتوى هذا الكتاب سواء معارفه وعقائده ،

٤٩٧

واستدلالاته المنطقية ، أو قوانينه الاجتماعية ، وحتى برامجه لتهذيب النفوس وتكامل البشر كلّ ذلك يعتبر دليلا على حقانيته.

إنّ هذا المحتوى العظيم ـ بهذا العمق ـ من شخص أمّي لا يعرف القراءة والكتابة ، وقد نشا في مجتمع يعتبر من أكثر المجتمعات تخلفا ، يعتبر بحدّ ذاته دليلا على عظمة الخالق ، ووجود عالم ما وراء الطبيعة ، وحقانية من جاء به.

وهكذا فإنّ الجملة أعلاه تعتبر جوابا للمشركين ولأهل الكتاب.

وبما أن نتيجة كلّ هذه الأمور ، خاصة ظهور الحق بشكل كامل والعدالة والميزان تتّضح في يوم القيامة ، لذا فإن الآية تقول في نهايتها :( وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ) .

فالقيامة عند ما تقام يحضر الجميع في محكمة عدله ، ويواجهون الميزان الذي يقيس حتى حبّة الخردل أو أصغر منها.

ثم يشير القرآن إلى موقف الكفار والمؤمنين حيال القيامة ، فتقول الآية :( يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها ) .

فهؤلاء لا يقولون ذلك بسبب عشقهم للقيامة والوصول إلى لقاء المحبوب أبدا ، إنّ كلامهم هذا من قبيل الاستهزاء والإنكار ، ولو كانوا يعلمون ما سيحل عليهم يوم القيامة لم يطلبوا مثل هذا الأمر.

( وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ ) (١) .

طبعا لحظة قيام القيامة خافية على الجميع ، حتى بالنسبة للأنبياء المرسلين والملائكة المقربين ، ليكون هذا الأمر أسلوبا تربويا مستمرا للمؤمنين ، واختبارا وإتمام حجة للمنكرين ، ولكن لا يوجد أي شك في أصل وقوعها.

__________________

(١) «مشفقون» من كلمة (إشفاق) وتعني العلاقة المقترنة مع الخوف ، فمتى ما تعدت بحرف (من) يطغى جانب الخوف عليها ، وعند ما تتعدى بحرف (على) يطغى جانب الانتباه والمراقبة عليها ، ولذا فإن الإنسان يقول لصاحبه وصديقه : «أنا مشفق عليك» (تفسير روح المعاني ومفردات الراغب).

٤٩٨

ومن هنا يتّضح مدى التأثير التربوي العميق للإيمان بالقيامة ومحكمة العدل الإلهي الكبيرة على المؤمنين خاصة في احتمالهم حصول هذا الأمر في أية لحظة من اللحظات.

وكإعلان عام ، تقول الآية في نهايتها :( أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) لأن نظام هذا العالم يعتبر ـ بحد ذاته ـ دليلا على أنّه مقدمة لعالم آخر وبدونه سيكون خلق هذا العالم عبثا وليس له أي معنى ، وهذا لا يتناسب مع حكمة الخالق ولا مع عدالته.

وتشير عبارة (ضلال بعيد) إلى أنّ الإنسان قد يضل الطريق أحيانا ، إلّا أنّه لا يبتعد عنه كثيرا ، وبقليل من البحث والجهد يمكنه أن يكتشف الطريق وأحيانا يكون البعد كبيرا جدا بحيث يصعب ـ أو يستحيل ـ عليه العثور على الطريق مرّة اخرى.

والطريف في الأمر أنّنا نقرأ في حديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سأل رجل رسول الله في إحدى سفراته وبصوت مرتفع : يا محمّد ، فأجابه الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبصوت مرتفع مثل صوته «ما تقول؟».

قال الرجل : متى الساعة؟

قال الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّها كائنة فما أعددت لها؟».

قال الرجل : حبّ الله ورسوله!

قال الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنت مع من أحببت»(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير المراغي ، المجلد الخامس والعشرون ، ص ٣٢.

٤٩٩

الآيتان

( اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) )

التّفسير

مزرعة الدنيا والآخرة :

بما أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن العذاب الإلهي الشديد وعن طلب منكري المعاد للتعجيل بقيام القيامة ، لذا فإنّ أوّل آية نبحثها هنا تقرن «الغضب» الالهي مع «اللطف» الالهي في معرض ردها على استعجال منكري المعاد :( اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ ) .

فعند ما يهددهم بالعذاب الشديد في موضع ، يعدهم باللطف في موضع آخر ، ذلك اللطف الواسع غير المحدود ولا يعجّل في عقاب الجاهلين المغرورين.

ثم تطرح الآية أحد مظاهر لطفه العام وهو الرزق ، فتقول :( يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ ) . وهذا لا يعني أن هناك جماعة محرومون من رزقه ، بل المقصود البسط في الرزق لمن يشاء ، كما جاء في الآية ٢٦ من سورة الرعد :( اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607