الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 607
المشاهدات: 166408
تحميل: 5104


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 166408 / تحميل: 5104
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 15

مؤلف:
العربية

يَشاءُ وَيَقْدِرُ ) .

ونقرأ في آية قادمة في هذا السورة :( وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ) (١) .

وواضح أن (الرزق) هنا يشمل الرزق المعنوي والمادي ، والجسماني والروحاني فعند ما يكون هو مصدر اللطف والرزق ، فلما ذا تتوجهون نحو الأصنام التي لا ترزق ولا تتلطف ، لا تحل مشاكلكم.

وتقول الآية في نهايتها :( وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) .

وعند ما يعد الله تعالى عباده بالرزق واللطف فهو قادر على إنجاز هذا الأمر ، ولهذا السبب لا يوجد أي تخلف في وعوده أبدا.

ومن الضروري الانتباه إلى هذه الملاحظة وهي أن (لطيف) لها معنيان : الأوّل : أنّه صاحب اللطف والمحبة والرحمة. والثّاني : علمه بجميع الأمور الصغيرة والخافية ، وبما أن رزق العباد يحتاج إلى الإحاطة والعلم بالجميع وفي أي مكان كانوا ، سواء في السماء أو في الأرض ، لذا فإن الآية تشير في البداية إلى لطفه ثمّ إلى رزقه ، كما أن القرآن يضيف في الآية (٦) من سورة هود وبعد أن يذكر :( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها ) قوله :( وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها ) .

وطبعا لا يوجد أي تناقض بين هذين المعنيين ، بل يكمل أحدهما الآخر ، فاللطيف هو الشخص الذي يكون كاملا من حيث المعرفة والعلم ، ومن حيث اللطف والمحبّة لعباده ، وبما أن الخالق يعلم باحتياجات عباده بشكل جيد فانه يسدد احتياجاتهم بأفضل وجه ، لذا فهو الاجدر بهذا الاسم.

على أية حال ، فإنّ الآية أعلاه أشارت إلى أربعة صفات من أوصاف الخالق : اللطف ، والرزق ، والقوّة ، والعزّة ، وهي أفضل دليل على مقام (ربوبيته) ، لأن (الرب) يجب أن تتوفر فيه هذه الصفات.

__________________

(١) الآية ٢٧ ـ نفس هذه السورة.

٥٠١

الآية التي بعدها شبّهت أفراد العالم حيال رزق الخالق وكيفية الاستفادة منه بالمزارعين الذين يقوم قسم منهم بالزراعة للآخرة والقسم الآخر للدنيا ، وتحدد عاقبة كلّ قسم منهم وفق تشبيه لطيف حيث تقول :( مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ) (١) .

إنه لتشبيه لطيف وكناية جميلة ، فجميع الناس مزارعون ، وهذه الدنيا مزرعة لنا ، أعمالنا هي البذور ، والإمكانات الإلهية هي المطر لهذه المزرعة ، إلّا أن هذه البذور تختلف كثيرا ، فبعضها غير محدودة النتاج وأبدية ، أشجارها دائمة الخضرة ومثمرة وبعضها الآخر قليل النفع جدا ، وتنتهي بسرعة ، وتحمل ثمارا مرّة.

وفي الحقيقة ، فإن عبارة (يريد) تشير إلى اختلاف الناس في النيات ، ومجموع هذه الآية يعتبر توضيحا لما جاء في الآية السابقة من المواهب والرزق الإلهي ، فالبعض يستفيد من هذه المواهب على شكل بذور للآخرة ، والبعض الآخر يستعملها للتمتع الدنيوي.

والطريف في الأمر أن الآية تقول بخصوص الذين يزرعون للآخرة :( نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ) إلّا أنّها لا تقول أنّه لا يصيبهم شيء من متاع الدنيا ، وبالنسبة لمن يزرع للدنيا تقول :( نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ) .

وعلى هذا الأساس فلا طلّاب الدنيا يصلون إلى ما يريدون ، ولا طلّاب الآخرة يحرمون من الدنيا ، ولكن مع الفارق ، وهو أن المجموعة الأولى تذهب إلى الآخرة بأيد فارغة ، والمجموعة الثانية بأيد مملوءة.

وقد جاء ما يشبه نفس هذا المعنى في الآية ١٨ و ١٩ من سورة الإسراء ، ولكن بشكل آخر :( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا

__________________

(١) مصطلح (حرث) كما يقول الراغب في مفرداته : تعني في الأصل : رمي البذر في الأرض وتهيئتها للزراعة ، وفي القرآن الكريم استخدمت عدة مرات بهذا المعنى ، ولكن لا يعلم سبب اعتبار بعض المفسرين أنها تعني (العمل والكسب).

٥٠٢

لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) .

عبارة( نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ) تتلاءم مع ما ورد في آيات قرآنية اخرى ، مثل :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) (١) و( لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) (٢) .

على أية حال ، فالآية أعلاه صورة ناطقة تعكس التفكير الإسلامي بالنسبة الى الحياة الدنيا ، الدنيا المطلوبة لذاتها ، والدنيا التي تعتبر مقدمة للعالم الآخر ومطلوبة لغيرها ، فالإسلام ينظر إلى الدنيا على أنّها مزرعة يقتطف ثمارها يوم القيامة.

والعبارات الواردة في الروايات أو في آيات قرآنية اخرى تؤّكد هذا المعنى.

فمثلا تشبّه الآية (٢١٦) من سورة البقرة المنفقين بالبذر الذي له سبعة سنابل ، وفي كلّ سنبلة مائة حبة ، وأحيانا أكثر. وهذا نموذج لمن يبذر البذور للآخرة.

ونقرأ في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . «وهل يكب الناس على مناخرهم في النّار إلّا حصائد ألسنتهم»(٣) .

وجاء في حديث آخر عن أمير المؤمنينعليه‌السلام : «إن المال والبنين حرث الدنيا ، والعمل الصالح حرث الآخرة ، وقد يجمعهما الله لأقوام»(٤) .

ويمكن أن نستفيد هذه الملاحظة من الآية أعلاه ، وهي أن الدنيا والآخرة تحتاجان إلى السعي ، ولا يمكن نيلهما دون تعب وأذى ، كما أن البذر والثمر لا يخلوان من التعب والأذى ، لذا فالأفضل للإنسان أن يزرع شجرة ويبذل جهده في تربيتها ، ليكون ثمرها حلو المذاق ودائميا وأبديا ، وليست شجرة تموت بسرعة وتفنى.

__________________

(١) الأنعام ، الآية ١٦٠.

(٢) فاطر ، الآية ٣٠.

(٣) المحجة البيضاء ، المجلد الخامس ، ص ١٩٣ (كتاب آفات اللسان).

(٤) الكافي ، وفقا لنقل نور الثقلين ، المجلد الرابع ، ص ٥٦٩.

٥٠٣

وننهي هذا الكلام بحديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «من كانت نيّته الدنيا فرق الله عليه أمره ، وجعل الفقر بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلّا ما كتب له ، ومن كانت نيّته الآخرة جمع الله شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة»(١) .

وما هو مشهور بين العلماء أن (الدنيا مزرعة الآخرة) فهو في الحقيقة اقتباس من مجموع ما ذكرناه أعلاه.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، نهاية الآيات التي نبحثها.

٥٠٤

الآيات

( أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣) )

سبب النّزول

لقد ورد في تفسير مجمع البيان سبب نزول للآيات ٢٣ وحتى ٢٦ من هذه السورة أنّه ذكر أبو حمزة الثمالي في تفسيره حدثني عثمان بن عمير عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس أنّ رسول الله حين قدم المدينة واستحكم الإسلام قالت الأنصار فيما بينها : نأتي رسول الله فنقول له إن تعروك أمور فهذه أموالنا

٥٠٥

تحكم فيها غير حرج ولا محظور عليك فأتوه في ذلك فنزلت :( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) فقرأها عليهم وقال تودون قرابتي من بعدي فخرجوا من عنده مسلّمين لقوله فقال المنافقون : إن هذا لشيء افتراه في مجلسه أراد بذلك أن يذللنا لقرابته من بعده ، فنزلت :( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ) فأرسل إليهم فتلاها عليهم فبكوا واشتد عليهم فانزل الله :( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ) الآية ، فأرسل في أثرهم فبشرهم وقال : (ويستجيب الذين ، آمنوا وهم الذين سلّموا لقوله تعالى)(١) .

التّفسير

أجر الرسالة في مودة أهل البيتعليهم‌السلام

بما أنّ الآية ١٣ من هذه السورة كانت تتحدث عن تشريع الدين من قبل الخالق بواسطة الأنبياء أولي العزم ، لذا فإن أوّل آية في هذا البحث ـ كاستمرار للموضوع ـ تقول في مجال نفي تشريع الآخرين ، وأن جميع القوانين ليست معتبرة قبال القانون الإلهي ، وأن التقنين يختص بالخالق :( أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ ) .

فهو خالق ومالك ومدبر عالم الوجود ، ولهذا السبب تنفرد ذاته المنزهة بحق التقنين ، ولا يستطيع شخص أن يتدخل في تشريعاته دون إذن ، لذا فكل شيء باطل قبال تشريعه.

وبعد ذلك يقوم القرآن بتهديد المشرعين بالباطل ، حيث تقول الآية :( وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) حيث يصدر الأمر بعذابهم.

وفي نفس الوقت يجب عليهم أن لا ينسوا هذه الحقيقة وهي :( وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٩.

٥٠٦

المقصود من (كلمة الفصل) هي المدّة المقررة المعطاة من قبل الخالق لمثل هؤلاء الأفراد ، كي تكون لهم حرية العمل وتتم الحجة عليهم.

كما أن عبارة (ظالمين) تتحدث عن المشركين الذين لهم عقائد منحرفة قبال القوانين الإلهية وذلك بسبب اتساع مفهوم الظلم ، وإطلاقه على أي عمل ليس في مورده.

ويظهر أن المقصود من (العذاب الأليم) هو عذاب يوم القيامة ، لأن هذه العبارة عادة ما تستخدم بهذا المعنى في القرآن الكريم ، والآية التي بعدها تشهد على هذه الحقيقة ، وما قاله بعض المفسّرين (كالقرطبي) من أن ذلك يشمل عذاب الدنيا والآخرة مستبعد.

ثم تذكر الآية بيانا مجملا حول (عذاب الظالمين) ثمّ بيانا مفصلا عن (جزاء المؤمنين) ، فتقول :( تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ ) .( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ ) .

«روضات» جمع (روضة) وتعني المكان الذي يشتمل على الماء والشجر الكثير ، لذا فإن كلمة (روضة) تطلق على البساتين الخضراء ، ونستفيد من هذه العبارة بشكل واضح أن بساتين الجنّة متفاوتة ، والمؤمنون من ذوي الأعمال الصالحة في أفضل بساتين الجنّة ، ومفهوم هذا الكلام أنّ المؤمنين المذنبين سيدخلون الجنّة بعد أن يشملهم العفو الإلهي بالرغم من أن مكانهم ليس في (الروضات).

إلّا أن الفضل الإلهي بخصوص المؤمنين ذوي الأعمال الصالحة لا ينتهي هنا ، فسوف يشملهم اللطف الإلهي بحيث :( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) .

ولهذا الترتيب لا يوجد أي قياس بين (العمل) و (الجزاء) ، بل إن جزاءهم غير محدود من جميع الجهات ، لأن جملة :( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ ) تكشف عن هذه الحقيقة.

والأجمل من ذلك عبارة( عِنْدَ رَبِّهِمْ ) حيث توضح اللطف الإلهي

٥٠٧

اللامتناهي بشأنّهم ، وهل هناك فوز أكبر من أن يصلوا إلى قرب مقام الخالق؟ فكما يقول بخصوص الشهداء :( بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) ، كذلك يقول بشأن المؤمنين ذوي الأعمال الصالحة :( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) .

وليس غريبا أن تقول الآية في نهايتها :( ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) .

وقد قلنا ـ مرارا ـ أنّه لا يمكن شرح نعم الجنّة من خلال الكلام ، فنحن المكبلون بقيود عالم المادة ، لا نستطيع أن ندرك المفاهيم التي تتضمّنها جملة :( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) . فما ذا يريد المؤمنون؟ وما هي الألطاف الموجودة في جوار قربه تعالى؟!

وعادة عند ما يقوم الخالق العظيم بوصف شيء ما بالفضل الكبير ، فإنّ ذلك يكشف عن مقدار العظمة بحيث يكون أعظم من كلّ ما نفكر به.

وبعبارة اخرى : سوف يصل الأمر بهؤلاء العباد الخلّص أنّه سيتوفر لهم كلّ ما يريدونه ، يعني سيظهر في وجودهم شعاع من قدرة الخالق الأزلية ، أي( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (١) ، فهل هناك فضيلة موهبة أعظم من هذه؟

ولبيان عظمة هذا الجزاء تقول الآية التي بعدها :( ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) .

يبشرهم حتى لا تصعب عندهم آلام الطاعة والعبودية ومجاهدة هوى النفس والجهاد حيال أعداء الله ، ويقوم هذا الجزاء العظيم بترغيبهم ويعطيهم القدرة والطاقة الكبيرة لسلوك طرق الحياة المليئة بالصعوبات والمشاكل للوصول إلى رضا الخالق.

وقد يتوهم أن نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد جزاء وأجرا على إبلاغ هذه الرسالة ، لذا فإنّ القرآن يأمر الرّسول بعد هذا الكلام ليقول :( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) أي حبّ اهل بيتي.

__________________

(١) سورة يس ، الآية ٨٢.

٥٠٨

ومودة ذوي القربى ومحبتهم ـ كما سيأتي بيانها بشكل مفصل ـ ترتبط بقضية الولاية وقبول قيادة الأئمة المعصومينعليهم‌السلام من آل الرّسول حيث تعتبر في الحقيقة استمرارا لقيادة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستمرارا للولاية الإلهية ، وجليّ أن قبول هذه الولاية والقيادة كقبول نبوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستكون سببا لسعادة البشرية نفسها وستعود نتائجها إليها.

* * *

توضيح

هناك بحوث متعددة وتفاسير مختلفة للمفسّرين في تفسير هذه الجملة ، بحيث إذا ما نظرنا إليها بدون أي موقف مسبق نشاهد أنّها ابتعدت عن المفهوم الأصلي للآية بسبب الدوافع المختلفة ، وذكروا احتمالات لا تتلاءم مع محتوى الآية ، ولا مع سبب نزولها ، ولا مع سائر القرائن التأريخية والروائية.

وبشكل عام هناك أربعة تفاسير معروفة للآية :

١ ـ هو ما قلناه أعلاه ، حيث أن المقصود من ذوي القربى هم أقرباء الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحبّهم يعتبر وسيلة لقبول إمامة وقيادة الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام من نسل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودعما لتطبيق الرسالة.

وقد اختار هذا المعنى جمع من المفسّرين الأوائل ، وجميع المفسّرين الشيعة ، ووردت روايات كثيرة من طرق الشيعة والسنّة في هذا المجال سنشير إليها لاحقا.

٢ ـ المقصود هو أن جزاء الرسالة وأجرها هو حب أمور معينة تقربكم من الله.

هذا التّفسير الذي ذكره بعض مفسّري أهل السنة لا يتلاءم مع ظاهر الآية أبدا ، لأن معنى الآية سيصبح هكذا : إنني أريد منكم أن تحبوا طاعة الخالق ، وتودونه في قلوبكم ، في حين أنّه يجب أن يقال : إنني أريد منكم أن تطيعوا

٥٠٩

الخالق ، (وليس مودة الطاعة الإلهية).

إضافة إلى ذلك فإنّه لا يوجد أحد بين المخاطبين في الآية لا يرغب بالتقرب من الخالق ، وحتى المشركين كانوا يرغبون بذلك ، وكانوا يظنون أن عبادة الأصنام تعتبر وسيلة لهذا الأمر.

٣ ـ المقصود حبّ أقرباءكم بعنوان أجر الرسالة ، أي بصلة الرحم. وبملاحظة هذه التّفسير لا يوجد أي ترابط بين الرسالة وأجرها ، لأنّه ماذا يستفيد الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حبّ الشخص أقرباءه؟ وكيف يمكن اعتبار هذا الأمر أجرا للرسالة؟!

٤ ـ المقصود أن أجري هو أن تحفظوا قرابتي منكم ، ولا تؤذونني ، لأني أرتبط برابطة القرابة مع أكثر قبائلكم (لأن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يرتبط بقبائل قريش نسبيا ، وبالقبائل الأخرى سببيا (عن طرق الزواج) ، وعن طريق أمه بعض أهالي المدينة من قبيلة بني النجار ، وعن طريق مرضعته بقبيلة بني سعد).

هذه العبارة هي أسوأ تفسير مذكور للآية ، لأن طلب أجر الرسالة هو من الأشخاص الذين آمنوا بها ، ومع هؤلاء الأشخاص لا توجد حاجة إلى مثل هذا الكلام ، فأولئك كانوا يحترمون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه مرسل إلهي ، ولا توجد حاجة لاحترامه بسبب قرابته ، لأن الاحترام الناشئ بسبب قبول الرسالة فوق جميع هذه الأمور ، وفي الواقع يجب اعتبار هذا التّفسير من الأخطاء الكبيرة التي أصابت بعض المفسّرين ومسخت مفهوم الآية بشكل كامل.

ولكي نفسه حقيقة محتوى الآية بشكل أفضل ، علينا طلب العون من الآيات القرآنية الأخرى :

نقرأ في العديد من آيات القرآن المجيد :( ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ) (١) .

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآية ١٠٩ ، ١٢٧ ، ١٤٥ ، ١٦٤ ، ١٨٠.

٥١٠

وهناك عبارات مختلفة تخصّ الرّسول ، فقد ورد في القرآن :( قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ ) (١) .

وفي مكان آخر نقرأ :( قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً ) .

وأخيرا :( قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) (٢) .

وعند ما نضع هذه الآيات الثلاثة إلى جانب الآية التي نبحثها ، يسهل علينا الاستنتاج : ففي مكان تنفي الآية الأجر والجزاء بشكل كامل.

وفي مكان آخر تقول الآية : إنني أطلب الأجر من الأشخاص الذين يريدون سلوك الطريق إلى الخالق.

وبخصوص الآية الثّالثة فإنّها تقول : إنّ الأجر الذي أطلبه منكم إنّما هو لكم.

وأخيرا فإن الآية التي نبحثها تضيف : إن مودّة القربى هي أجر رسالتي ، يعني أن الأجر الذي طلبته منكم ويشمل هذه الخصوصيات : لا يعود نفعه إليّ أبدا ، بل ينفعكم بالكامل ، ويعبّد الطريق أمامكم للوصول إلى الخالق.

وعلى هذا الإساس ، فهل تعني الآية شيئا آخر سوى قضية استمرار خط رسالة النّبي الكريم بواسطة القادة الإلهيين وخلفاءه المعصومين الذين كانوا جميعهم من عائلته؟ لكن لأن المودة هي أساس هذا الارتباط نرى أن الآية أشارت بصراحة إلى ذلك.

والطريف في الأمر أن هناك خمسة عشر موردا في القرآن المجيد ـ غير الذي ذكرنا ـ ذكر فيه كلمة (القربى) حيث أن جميعها تعني الأقرباء ، ومع هذا الوضع لا نعلم لماذا يصر البعض بحصر معنى كلمة القربى في (التقرب إلى الله) ويتركون المعنى الواضح والظاهر المستخدم في جميع الآيات القرآنية؟.

__________________

(١) سبأ ، الآية ٤٧.

(٢) سورة ص ، الآية ٨٦.

٥١١

ومن الضروري الإشارة إلى هذه الملاحظة ، وهي أنّه ورد في آخر الآية :

( وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ) . وهل هناك حسنة أفضل من أن يكون الإنسان دائما تحت راية القادة الإلهيين ، يحبّهم بقلبه ، ويستمر على خطهم ، يطلب منهم التوضيح للقضايا المبهمة في كلام الخالق ، يعتبرهم القدوة والأسوة وسيرتهم وعملهم هو المعيار.

* * *

الروايات الواردة في تفسير هذه الآية

الدليل الآخر على التّفسير أعلاه هو الروايات المتعددة الواردة في مصادر أهل السنة والشيعة ، والمنقولة عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث توضح أن المقصود من (القربى) هم أهل البيت والمقربون وخاصة الرّسول ، وعلى سبيل المثال نذكر :

١ ـ ينقل (أحمد بن حنبل) في فضائل الصحابة بسنده عن سعيد بن جبير عن عامر : لما نزلت :( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) قالوا : يا رسول الله! ومن قرابتك؟ من هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال : «علي وفاطمة وابناهماعليهم‌السلام ، وقالها ثلاثا»(١) .

٢ ـ ورد في (مستدرك الصحيحين) أن الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام قال : عند استشهاد أمير المؤمنين الإمام عليعليه‌السلام ، وقف الحسن بن عليعليه‌السلام يخطب في الناس ، وكان ممّا قال : إنا من أهل البيت الذين افترض الله مودتهم على كلّ مسلم ، فقال تبارك وتعالى لنبيّه :( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً ) فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت(٢) .

__________________

(١) إحقاق الحق ، المجلد الثّالث ، ص ٢ ، كما ذكر القرطبي : أيضا هذه الرواية في نهاية الآية التي نبحثها المجلد الثامن ، ص ٥٨٤٣.

(٢) مستدرك الصحيحين ، المجلد الثَّالث ، ص ١٧٢ ، وقد نقل محب الدين الطبري نفس هذا الحديث في الذخائر ص ١٣٧ ، كما ذكر ابن حجر ذلك أيضا في الصواعق المحرقة ، ص ١٠١.

٥١٢

٣ ـ ذكر (السيوطي) في (الدر المنثور) في نهاية الآية التي نبحثها عن مجاهد عن ابن عباس أنّه قال في تفسير آية :( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) : أن تحفظوني في أهل بيتي وتودوهم بي(١) .

ومن هنا يتّضح ضعف ما ينقل عن ابن عباس بطريق آخر من أن المقصود هو عدم إيذاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسبب قرابته مع القبائل العربية المختلفة.

٤ ـ ينقل (ابن جرير الطبري) في تفسيره بسنده عن (سعيد بن جبير) وبسند آخر عن (عمر بن شعيب) أن المقصود من هذه الآية هم قربى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) .

٥ – وينقل العلّامة الطبرسي عن (شواهد التنزيل) للحاكم الحسكاني ، الذي هو من المفسّرين والمحدثين المعروفين لأهل السنة ، عن (أبي أمامة الباهلي) أن رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن الله خلق الأنبياء من أشجار شتى ، وأنا وعلي من شجرة واحدة ، فأنا أصلها ، وعلي فرعها ، وفاطمة لقاحها ، والحسن والحسين ثمارها ، وأشياعنا أوراقها ـ حتى قال ـ لو أن عبدا عبد الله بين الصفا والمروة ألف عام ، ثمّ ألف عام ، ثمّ ألف عام ، حتى يصير كالشن البالي ، ثمّ لم يدرك محبتنا كبه الله على منخريه في النّار ، ثمّ تلا :( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) ».

والطريف في الأمر أن هذا الحديث اشتهر بدرجة بحيث أن الشاعر المعروف الكميت أشار إلى ذلك في أشعاره ، فقال :

وجدنا لكم في آل حاميم آية

تأوّلها منا تقيّ ومعرب(٣)

٦ – وينقل السيوطي أيضا في (الدر المنثور) عن ابن جرير عن أبي الديلم : عند ما تأسّر علي بن الحسينعليه‌السلام ، وأوقفوه في بوابة دمشق ، قال رجل من أهل الشام : الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم.

__________________

(١) الدر المنثور ، نهاية الآية التي نبحثها ، المجلد السادس ، ص ٧.

(٢) تفسير الطبري ـ المجلد ٢٥ ـ ص ١٦ و ١٧.

(٣) مجمع البيان ، المجلد التاسع ، ص ٢٩.

٥١٣

قال علي بن الحسينعليه‌السلام : هل قرأت القرآن؟

قال : نعم قال : هل قرأت سور حم.

قال : لا.

قال : ألم تقرا هذه الآية :( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) .

قال : أأنتم الذين أشارت لهم هذه الآية؟

قال : بلى(١) .

٧ ـ نقل (الزمخشري) حديثا في «تفسير الكشاف» وقد اقتبسه أيضا الفخر الرازي والقرطبي في تفسيرهما ، حيث يوضح هذا الحديث مقام آل محمّد وأهمية حبّهم ، فيقول :

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من مات على حب آل محمّد مات شهيدا

ألا ومن مات على حب آل محمّد مات مغفورا له

ألا ومن مات على حب آل محمّد مات تائبا

ألا ومن مات على حب آل محمّد مات مؤمنا مستكمل الإيمان

ألا ومن مات على حب آل محمّد بشره ملك الموت بالجنة ثمّ منكر ونكير

ألا ومن مات على حب آل محمّد فتح له في قبره بابان إلى الجنّة

ألا ومن مات على حب آل محمّد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة

ألا ومن مات على حب آل محمّد مات على السنة والجماعة

ألا ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله ألا ومن مات على بغض آل محمّد مات كافرا

__________________

(١) الدر المنثور ، المجلد السادس ، ص ٧.

٥١٤

ألا ومن مات على بغض آل محمّد لم يشم رائحة الجنّة(١) .

والطريف في الأمر أن (الفخر الرازي) بعد ذكر هذا الحديث الشريف الذي أرسله «صاحب الكشاف» إرسال المسلمات ، يقول : «وأنا أقول : آل محمّد هم الذين يؤول أمرهم إليه ، فكل من كان أمرهم إليه أشد وأكمل كانوا هم الآل ، ولا شك أن فاطمة وعليا الحسن والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول الله أشد التعلقات ، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر فوجب أن يكونوا هم الآل ، وأيضا اختلف الناس في الآل فقيل هم الأقارب وقيل هم أمته فإن حملناه على القرابة فهم الآل وإن حملناه على الأمة الذين قبلوا دعوته فهم أيضا آل ، فثبت أن على جميع التقديرات هم الآل ، وأما غيرهم فيدخلون تحت لفظ الآل؟ فمختلف فيه.

وروى فيه صاحب الكشاف أنّه لما نزلت هذه الآية قيل : يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ فقال علي وفاطمة وابناهما فثبت أن هؤلاء الأربعة أقارب النّبي ، وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم ويدل عليه وجوه :

الأول : قوله تعالى :( إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) ووجه الاستدلال به ما سبق.

الثّاني : لا شك أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحب فاطمة وقال (فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها) وثبت بالنقل المتواتر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه كان يحب عليا والحسن والحسين وإذا ثبت ذلك وجب على كلّ الأمة مثله لقوله :( وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ولقوله تعالى:( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) ولقوله :( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) ولقوله سبحانه :( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) .

الثّالث : أن الدعاء للآل منصب عظيم ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد

__________________

(١) تفسير الكشاف ، المجلد الرابع ، ص ٢٢٠ و ٢٢١ ، تفسير الفخر الرازي ، المجلد ٢٧ ، ص ١٦٥ و ١٦٦ ، تفسير القرطبي ، المجلد الثامن ، ص ٥٨٤٣ ، تفسير الثعلبي ، نهاية الآية التي نبحثها عن جليل بن عبد الله البجلي (وفقا لنقل المراجعات رسالة رقم ١٩).

٥١٥

في الصلاة وهو قوله اللهم صل على محمّد وعلى آل محمّد وأرحم محمّدا وآل محمّدا. وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل ، فكل ذلك يدل على أن حبّ آل محمّد واجب.

وقال الشافعيرضي‌الله‌عنه :

يا راكبا قف بالمحصب من منى

واهتف بساكن خيفها والناهض

سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى

فيضا كما نظم الفرات الفائض

إن كان رفضا حب آل محمّد

فليشهد الثقلان أني رافضي(١)

نعم فهذا مقام آل محمّد الذين نتمسك بهم ونؤمن بهم كقادة لنا ، وسراج لديننا ودنيانا ، ونعتبرهم أسوة وقدوة لنا ، ونرى أن استمرار خط النبوة في إمامتهم.

وطبعا ، فإن هناك روايات كثيرة اخرى غير التي ذكرناها أعلاه ، في المصادر الإسلامية ، وقد اكتفينا بسبع روايات مراعاة للاختصار ، ولكن لا بأس من ذكر هذه الملاحظة ، وهي أنّه في بعض المصادر الكلامية كإحقاق الحق وشرحه المبسوط ، ورد الحديث المعروف أعلاه بشأن تفسير الآية :( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) منقولا عن خمسين كتابا تقريبا من كتب أهل السنة ، حيث يبيّن هذا الأمر مدى انتشار هذه الرواية واشتهارها ، بغض النظر عن المصادر الكثيرة التي تنقل هذا الحديث عن طريق أهل البيتعليهم‌السلام .

* * *

بحوث

١ ـ كلام مع المفسر المعروف (الآلوسي)

في هذا المجال يطرح سؤال ذكره الآلوسي في تفسير روح المعاني بشكل اعتراض على الشيعة ، ونحن نذكر ذلك على شكل سؤال ونقوم بمناقشته : يقول :

__________________

(١) تفسير فخر الرازي ٢٧ / ١٦٦.

٥١٦

«ومن الشيعة من أورد الآية في مقام الاستدلال على إمامة علي كرم الله تعالى وجهه قال : علي كرم الله تعالى وجهه ، واجب المحبة وكل واجب المحبة واجب الطاعة وكل واجب الطاعة صاحب الإمامة ، ينتج ، عليرضي‌الله‌عنه صاحب الإمامة وجعلوا الآية دليل الصغرى ، ولا يخفى ما في كلامهم هذا من البحث

أمّا أوّلا : فلأن الاستدلال بالآية على الصغرى لا يتمّ إلّا على القول بأن معناها لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوا قرابتي وتحبوا أهل بيتي وقد ذهب الجمهور إلى المعنى الأوّل وقيل في هذا المعنى : إنّه لا يناسب شأن النبوّة لما فيه من التهمة فإن أكثر طلبة الدنيا يفعلون شيئا ويسألون عليه ما يكون فيه نفع لأولادهم وقراباتهم وأيضا فيه منافاة لقوله تعالى :( وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ )

وأمّا ثانيا : فلأنا لا نسلم أن كلّ واجب المحبة واجب الطاعة فقد ذكر ابن بابويه في كتاب الإعتقادات أن الإمامية اجمعوا على وجوب محبة العلوية مع أنّه لا يجب طاعة كلّ منهم.

وأمّا ثالثا : فلا لا نسلم إن كلّ واجب الطاعة صاحب الإمامة أي الزّعامة الكبرى وإلّا لكان كلّ نبي في زمنه صاحب ذلك ونص :( إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً ) يأبى ذلك

وأمّا رابعا : فلأن الآية تقتضي أن تكون الصغرى أهل البيت واجبو الطاعة ومتى كانت هذه صغرى قياسهم لا ينتج النتيجة التي ذكروها ولو سلمت جميع مقدماته ، بل ينتج أهل البيت صاحبوا الإمامة وهم لا يقولون بعمومه ...»(١) .

* * *

تحليل ومناقشة :

يمكن توضيح جواب العديد من هذه الإشكالات إذا راجعنا تصورنا لهذه

__________________

(١) تفسير روح المعاني ج ٢٥ ، ص ٣٢ ـ ٣٣.

٥١٧

الآية ـ التي نبحثها ـ وفقا للقرائن المتعددة القوية الموجودة في نفس هذه الآية ، وسائر الآيات القرآنية الأخرى :

قلنا : إن هذه المحبّة ليست أمرا عاديا ، بل هي جزاء للنبوّة وأجرا للرسالة ، ولا بد أن يكون الأجر والثمن مساويا للمثمن ، حتى يمكن اعتباره جزاء له.

من جانب ثان فإن الآيات القرآنية تؤّكد أنّ نفع هذه المحبة ليس شيئا يعود إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل ان حاصل ذلك يعود إلى المؤمنين أنفسهم ، أو بعبارة اخرى يعتبر أمرا معنويا يؤثر في هداية المسلمين وتكاملهم.

وبهذا الترتيب فبالرغم من أنّه لا يستفاد من الآية سوى وجوب المحبة ، إلّا أن وجوب المحبة هذه ـ بمراعاة القرائن المذكورة ـ لها علاقة بقضية الإمامة التي تعتبر السند لمقام النبوة والرسالة.

ومع هذا التوضيح المختصر سنقوم ببحث الإشكالات أعلاه :

١ ـ يجب القول أنّ بعض الترسبات الذهنية واتخاذ المواقف المسبقة كانت سببا لعدم تفسير بعض المفسّرين للآية بمودة أهل البيت ، فمثلا فسّر بعضهم (القربى) لمعنى (التقرب من الخالق) في حين أنّها وردت بمعنى الأقرباء في جميع الآيات القرآنية التي تحتوي على هذه الكلمة.

أو أنّ البعض فسّر ذلك بمعنى قرابة النّبي مع سائر القبائل العربية ، في حين أن هذا التّفسير يخل بنظام الآية بشكل كامل ، فأجر الرسالة يطلب من الذين قبلوا تلك الرسالة ، فهل توجد حاجة للاهتمام بالقرابة وغض النظر عن الأذى لمن آمن برسالة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

إضافة إلى ذلك ، لماذا نترك الرّوايات المتعددة التي تفسّر الآية بولاية أهل بيت النّبيّ؟

لذا يجب الاعتراف بأنّ هذه المجموعة من المفسّرين لم يفسروا الآية بأذهان خالية من المواقف المسبقة ، وإلّا فإنه لا يوجد موضوع معقد ضمنها.

٥١٨

ومن هنا يتوضح أن طلب مثل هذا الأجر لا يتعارض ، لا مع منزلة النبوة ، ولا يشبه تقاليد اصحاب الدنيا ، ويتناسق بشكل كامل مع الآية (١٠٤) من سورة يوسف التي تنفي أي نوع من الأجر ، لأن أجر مودة أهل البيت في الحقيقة ـ لا يستفيد منه النّبي ، بل إن المسلمين هم الذين يستفيدون منه.

٢ ـ صحيح أن وجوب المحبة العادية لا تكون دليلا أبدا على وجوب الطاعة ، لكن عند ما تكون هذه المحبة بمستوى الرسالة ، عندها سنتيقن بأنّها تشمل وجوب الطاعة ، ومن هنا يتّضح أن قول ابن بابويه (الشيخ الصدوق) لا يتعارض مع ما قلناه.

٣ ـ صحيح أن أي طاعة واجبة لا يكون دليلا على منزلة الإمامة والزعامة الكبرى ، ولكن يجب الانتباه إلى أن وجوب الطاعة التي هي أجر للرسالة بما يناسب مقامها لا يمكن أن يكون شيئا سوى الإمامة.

٤ ـ الإمام ـ بمعنى القائد ـ لا يمكن أن يكون أكثر من واحد في أي عصر ، وبناء على ذلك فإنّه لا يوجد أي معنى إمامة أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام جميعهم ، إضافة لذلك يجب الاستفادة من دور الروايات في هذا المجال لفهم معنى الآية.

والملفت للنظر أن الآلوسي نفسه يهتم كثيرا بمودة أهل البيت ، ويقول في بضع سطور قبل هذا البحث :

«والحق وجوب محبة قرابته عليه الصلاة والسلام من حيث أنّهم قرابته وكلما كانت جهة القرابة أقوى كان طلب المودّة أشدّ وآثار تلك المودة التعظيم والاحترام والقيام بأداء الحقوق أتمّ قيام وقد تهاون كثير من الناس بذلك حتى عدوا من الرفض السلوك في هاتيك المسالك. وأنا أقول قول الشافعي الشافي :

يا راكبا قف بالمحصّب من منى

واهتف بساكن خيفها والناهض

سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى

فيضا كملتطم الفرات الفائض

٥١٩

إن كان رفضا حب آل محمّد

فليشهد الثقلان أني رافضي

ومع هذا لا أعتقد الخروج عما يعتقده أكابر أهل السنة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم دينا ، وأرى حبّهم فرضا علي مبينا ، فقد أوجبه الشارع وقامت على ذلك البراهين السواطع»(١) .

٢ ـ سفينة النجاة

ذكر الفخر الرازي في نهاية هذا البحث ملاحظة ، كما ذكرها الآلوسي أيضا في روح المعاني بعنوان (ملاحظة لطيفة) وذلك نقلا عن الفخر الرازي ، حيث يعتقد أن بعض التناقضات ستزول من خلال هذه الملاحظة هي : إن الرّسول الأكرم قال من جانب : «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركب فيها نجى» ومن جانب آخر قال : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.

فنحن الآن تائهون في بحر التكاليف ، وأمواج الشبهات والشهوات تعصف بنا من كلّ جانب ، ومن يريد أن يعبر هذا البحر يحتاج إلى شيئين :

الأول : السفينة الخالية من أي عيب أو نقص.

والثّاني : النجوم المتلألئة التي توضح الطريق.

فعند ما يركب الإنسان في السفينة وتراقب عيناه النجوم الوضاءة ، عندها سيكون هناك أمل بالنجاة. وبالمثل فأي واحد من أبناء السنة عند ما يركب في سفينة حب آل محمّد وينظر إلى الأصحاب (النجوم) عندها سيكون هناك أمل بأن يوصله الخالق جل وعلا إلى السعادة والسلامة في الدنيا والآخرة(٢) .

وكلنا نقول أن هذا التشبيه الشاعري ليس دقيقا بالرغم من جماله ، لأن سفينة نوح كانت مركب النجاة في ذلك اليوم ، عند ما غطت الأمواج العاصفة والمياه كل

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢٥ ، ص ٣٢.

(٢) تفسير الفخر الرازي ، المجلد ٢٧ ، ص ١٦٧.

٥٢٠