الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 176236 / تحميل: 5910
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

(الأغناء المترفين) وتقريبه للمجموعة الثّانية (الفقراء المؤمنين) شكّل مجتمعا توحيديا بمعنى الكلمة ، مجتمعا تفجّرت فيه الطاقات الكامنة ، وأصبحت فيه معايير الشخصية والقيم والنبوغ ، هي التقوى والعلم والإيمان والجهاد والعمل الصالح.

واليوم ما لم نسع لبناء مثل هذا المجتمع والاقتداء بالنموذج الإسلامي الذي شيّده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهده ، وبدون نبذ الفكر الطبقي من العقول عن طريق التعليم والتربية وتدوين القوانين الصحيحة والسهر على تنفيذها بدقّة ـ بالرغم من رفض الاستكبار العالمي وتعويقه لذلك ـ فسوف لن نملك مجتمعا إنسانيا سليما أبدا.

2 ـ المقارنة بين الحياة في هذا العالم وعالم الآخرة :

لقد قلنا مرارا : إنّ تجسّد الأعمال هو من أهم القضايا المرتبطة بالمعاد. يجب أن نعلم أنّ ما هو موجود في ذلك العالم هو انعكاس واسع ومتكامل لهذا العالم ، فأعمالنا وأفكارنا وأساليبنا الاجتماعية وصفاتنا الأخلاقية المختلفة سوف تتجسّم وتتجسّد أمامنا في ذلك العالم وستبقى قرينة لنا دائما.

الآيات ـ أعلاه ـ دليل حي على هذه الحقيقة ، فالمترفون الظالمون الذين كانوا يعيشون في هذه الدنيا في ظل سرادق عالية ، وكانوا سكارى بهواهم ، وسعوا إلى فصل كل شيء يخصّهم عن المؤمنين الفقراء ، هؤلاء يملكون في ذلك العالم أيضا (سرادق) ولكنّها من النار الحارقة ، لأنّ الظلم في حقيقته نار حارقة تحرق الحياة وتذروا آمال المستضعفين المظلومين.

هناك يشربون من شراب يجسّد باطن شراب الدنيا ، وهو بالنسبة للظالمين الطغاة شراب من دماء قلوب المحرومين ، ومثل هذا الشراب يقدّم للظالمين في ذلك العالم ، وهو لا يحرق أمعاءهم وأحشاءهم فحسب ، بل يكون كالمعدن

٢٦١

المذاب الذي يشوي الوجوه قبل شربه من شدّة حرارته.

وعلى العكس من ذلك أولئك الذين تركوا الشهوات في سبيل حفظ طهارة وجودهم ورعاية أصول العدالة ، والذين اقتنعوا بحياة بسيطة ، وتحمّلوا كل الصعوبات والمنغصات في هذه الدنيا من أجل تنفيذ أصول العدالة هؤلاء تنتظرهم هناك بساتين الجنّة مع الأنهار الجارية ، وأفضل أنواع الزينة وأفخر الألبسة ، وأحبّ المجالس. وهذا في الواقع تجسيد لنياتهم النزيهة حيث كانوا يريدون كل الخير لجميع عباد الله.

3 ـ العلاقة بين عبادة الهوى والغفلة عن الله

الروح الإنسانية تخضع إمّا لله تعالى أو للأهواء ، حيث لا يمكن الجمع بين الإثنين ، فعبادة الأهواء أساس الغفلة عن الله وعبادة الله ، عبادة الهوى هي سبب الابتعاد عن جميع الأصول الأخلاقية ؛ وأخيرا فإنّ عبادة الهوى تدخل الإنسان في ذاته وتبعده عن جميع حقائق العالم.

إنّ الإنسان الذي يعبد هواه لا يفكّر إلّا في إشباع شهواته ، ولا يوجد لديه معنى للفتوّة والعفو والإيثار والتضحية والشيم المعنوية الأخرى.

وقد أوضحت الآيات محل البحت الربط والعلاقة بين الإثنين بشكل جلي في قوله تعالى :( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) .

لقد طرحت الآية أوّلا (الغفلة) عن الله تعالى ، ثمّ ذكرت بعدها (أتباع الهوى) ، والطريف أنّ نتيجة هذا الأمر هو الإفراط وبالشكل المطلق الذي ذكرته الآية.

لماذا يكون عابد الهوى مصابا بالإفراط دائما؟

قد يكون السبب أنّ الطبيعة الإنسانية تتجه في الملذات المادية نحو الزيادة دوما ، فالذي كان يشعر بالنشوة بمقدار معين من المخدرات ، لا يكفيه نفس

٢٦٢

المقدار في اليوم التالي لبلوغ نفس درجة النشوة ، بل عليه زيادة الكمية بالتدريج ، والشخص الذي كان يكفيه في السابق قصر واحد مجهّز بجميع الإمكانات وبمساحه عدة آلاف بين الأمتار ، يصبح اليوم إحساسه بهذا القصر عاديا ، فينشد الزيادة. وهكذا في جميع مصاديق الهوى والشهوة حيث أنّها دائما تنشد الزيادة حتى تهلك الإنسان نفسه.

4 ـ ملابس الزينة في العالم الآخر

قد يطرح البعض هذا السؤال : لقد ذمّ الله تعالى الزينة والتزيّن في القرآن بالنسبة لهذه الحياة ، إلّا أنّه يعد المؤمنين بمثل هذه الأمور في ذلك العالم ، إذ تنص الآيات على الذهب وملابس الحرير والإستبرق والسرر المساند الجميلة؟

قبل الإجابة على هذا السؤال ينبغي أن نوضّح بأنّنا لا نوافق على توجيه هذه الكلمات على أنّها كناية عن مفاهيم معنوية ويفسّرون الآيات على هذا الأساس ، لقد تعلمنا من القرآن الكريم أنّ المعاد ذو جانبين : معاد روحاني ومعاد جسماني.

وعلى هذا الأساس ، فإنّ لذات ذلك العالم يجب أن تكون موجودة في المجالين ، واللذات الروحية ـ طبعا ـ لا يمكن مقايستها باللذات الجسمية. ولكن لا بدّ من الاعتراف بأنّنا لا نعرف من نعم ذلك العالم سوى أشباح بعيدة ، ونسمع كلاما يشير إليها.

لماذا؟ لأنّ نسبة ذلك العالم إلى عالمنا هذا كنسبة عالمنا إلى عالم الجنين في بطن الأم ، فإذا قدّر للأم أن تقيم رابطة بينها وبين الجنين ، فلا يسعها إلّا أن توضح للجنين بالإشارات جمال هذه الدنيا بشمسها الساطعة وقمرها المنير ، والعيون الفوّارة ، والبساتين والورود وما شابهها ، حيث لا توجد ألفاظ كافية لتبيان كل هذه المفاهيم للجنين في رحم الأم كي يفهمها ويستوعبها.

كذلك فإنّ النعم المادية والمعنوية لعالم الآخرة لا يمكن توضيحها لنا بشكل

٢٦٣

كامل ونحن محاصرون في أبعاد رحم هذه الدنيا.

ومع وضوح هذه المقدمة نجيب على السؤال ونقول : إن ذم الله عز اسمه لحياة الزينة والترف في هذه الدنيا يعود إلى أن محدودية هذا العالم تسبب أن تقترن الزينة والترف مع أنواع الظلم والانحراف الذي يكون بدوره سببا للغفلة والانقطاع عن الله.

إنّ الاختلافات التي تبرز خلال هذا الطريق ستكون سببا للحقد والحسد والعداوة والبغضاء ، وأخيرا إراقة الدماء والحروب.

أمّا في ذلك العالم اللامحدود من جميع الجهات ، فإنّ الحصول على هذه الزينة لا يسبّب مشكلة ولا يكون سببا للتمييز والحرمان ، ولا للحقد والنفرة ، ولا يبعد الإنسان عن الله في ذلك المحيط المملوء بالمعنويات حيث لا حسد ولا تنافس ولا كبر ولا غرور تؤدي ابتعاد خلق الله عن الله ، كما في زينة الحياة الدنيا.

فإذا كان الحال كذلك فلما ذا يحرم أهل الجنة من هذه المواهب والعطايا الإلهية التي هي لذّات جسمية إلى جانب كونها مواهب معنوية كبيرة!

5 ـ الاقتراب من الأثرياء بسبب ثروتهم :

الدرس الآخر الذي نتعلمه من الآيات الآنفة ، هو أنّه يجب علينا أن لا نمتنع عن إرشاد وتوجيه هذه المجموعة ـ أو تلك ـ بسبب كونها ثرية أو ذات حياة مرّفهة ، بل إنّ الشيء المذموم هو أن نذهب لهؤلاء لأجل ثروتهم ودنياهم المادية ، ونصبح مصداقا لقوله تعالى :( تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) أمّا إذا كان الهدف هو الهداية والإرشاد ، أو حتى الاستفادة من إمكانياتهم من أجل تنفيذ النشاطات الإيجابية والمهمّة اجتماعيا ، فانّ مثل هذا الهدف لا يعتبر غير مذموم وحسب ، بل هو واجب.

* * *

٢٦٤

الآيات

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) )

التّفسير

تجسيد لموقف المستكبرين من المستضعفين :

في الآيات السابقة رأينا كيف أنّ عبيد الدنيا كانوا يحاولون الابتعاد في كل شيء عن رجال الحق وأهله المستضعفين ، ثمّ عرّفتنا الآيات جزاءهم في الحياة الأخرى.

الآيات التي نبحثها تشير إلى حادثة اثنين من الأصدقاء أو الإخوة الذين

٢٦٥

يعتبر كل واحد منهم نموذجا لإحدى المجموعتين ، ويوضحان طريقة تفكير وقول وعمل هاتين المجموعتين.

في البداية تخاطب الآيات الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول :( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً ) .

البستان والمزرعة كان فيهما كل شيء : العنب والتمر والحنطة وباقي الحبوب ، لقد كانت مزرعة كاملة ومكفية من كل شيء :( كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً ) .

والأهم من ذلك هو توفّر الماء الذي يعتبر سر الحياة ، وأمرا مهمّا لا غنى للبستان والمزرعة عنه ، وقد كان الماء بقدر كاف :( وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً ) .

على هذا الأساس كانت لصاحب البستان كل أنواع الثمار :( وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ ) .

ولأنّ الدنيا قد استهوته فقد أصيب بالغرور لضعف شخصيته ورأي أن الإحساس العميق بالأفضلية والتعالي على الآخرين ، حيث التفت وهو بهذه الحالة إلى صاحبه :( فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ) .

بناء على هذا فأنا أملك قوّة إنسانية كبيرة وعندي مال وثروة ، وأنا أملك ـ أيضا ـ نفوذا وموقعا اجتماعيا ، أمّا أنت (والخطاب لصاحبه) فما ذا تستطيع أن تقول ، وهل لديك ما تتكلم عنه؟!

لقد تضخّم هذا الإحساس ونما تدريجيا ـ كما هو حاله ـ ووصل صاحب البستان إلى حالة بدأ يظن معها أنّ هذه الثروة والمال والجاه والنفوذ إنّما هي أمور أبديّة ، فدخل بغرور إلى بستانه (في حين أنّه لا يعلم بأنّه يظلم نفسه) ونظر إلى أشجاره الخضراء التي كادت أغصانها أن تنحني من شدّة ثقل الثمر ، وسمع صوت الماء الذي يجري في النهر القريب من البستان والذي كان يسقي أشجاره ، وبغفلة قال : لا أظن أن يفنى هذا البستان ، وبلسان الآية وتصوير القرآن الكريم :( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ) .

٢٦٦

بل عمد إلى ما هو أكثر من هذا ، إذ بما أنّ الخلود في هذا العالم بتعارض مع البعث والمعاد ، لذا فقد فكّر في إنكار القيامة وقال :( وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ) وهذا كلام يعكس وهم قائلة وتمنياته!

ثمّ أضاف! حتى لو فرضنا وجود القيامة فإنّي بموقعي ووجاهتي سأحصل عند ربّي ـ إذا ذهبت إليه ـ على مقام وموقع أفضل. لقد كان غارقا في أوهامه( وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً ) .

لقد أخذ صاحب البستان ضمن الحالة النفسية التي يعيشها والتي صورها القرآن الكريم ، يضيف إلى نفسه في كل فترة وهما بعد آخر من أمثال ما حكت عنه الآيات آنفا ، وعند هذا الحد انبرى له صديقه المؤمن وأجابه بكلمات يشرحهما لنا القرآن الكريم.

* * *

٢٦٧

الآيات

( قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) )

التّفسير

جواب المؤمن :

هذه الآيات هي ردّ على ما نسجه من أوهام ذلك الغني المغرور العديم الإيمان ، نسمعها تجري على لسان صاحبه المؤمن.

لقد بدأ الكلام بعد أن ظلّ صامتا يستمع إلى كلام ذلك الرجل ذي الأفق الضيق والفكر المحدود ، حتى ينتهي من كلامه ، ثمّ قال له :( قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ

٢٦٨

يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ) .

وهنا قد يثار هذا السؤال ، وهو : إنّ كلام ذلك الرجل المغرور المتكبر الذي مرّ ذكره في الآيات الآنفة ، لم يصرّح فيه بإنكار الحق جلّ وعلا ، في حين أنّ جواب الإنسان المؤمن ركزّ فيه أوّلا على إنكاره للخالق!؟ لذلك فإنّه وجّه نظره أوّلا إلى قضية خلق الإنسان التي هي من أبرز أدلة التوحيد والتوجّه نحو الخالق العالم القادر. الله الذي خلق الإنسان من تراب ، حيث امتصت جذور الأشجار المواد الغذائية الموجودة في الأرض ، والأشجار بدورها أصبحت طعاما للحيوانات ، والإنسان استفاد من هذا النبات ولحم الحيوان ، وانعقدت نطفته من هذه المواد ، ثمّ سلكت النطفة طريق التكامل في رحم الأم حتى تحوّلت إلى إنسان كامل ، الإنسان الذي هو أفضل من جميع موجودات الأرض ، فهو يفكّر ويصمّم ويسخّر كلّ شيء لأجله.

نعم ، إنّ هذا التراب عديم الأهمية يتحوّل إلى هذا الموجود العجيب ، مع هذه الأجهزة المعقدة الموجودة في جسم الإنسان وروحه ، وهذا من الدلائل العظيمة على التوحيد.

وفي الجواب على السؤال المثار ذكر المفسّرون تفاسير معتدّدة نجملها فيما يلي :

1 ـ قالت مجموعة منهم : بما أنّ هذا الرجل المغرور أنكر بصراحة المعاد والبعث أو شكك فيه ، فإنّه يلزم من ذلك إنكار الخالق ، لأنّ منكر المعاد الجسماني ينكر في الواقع قدرة الله ، ولا يصدّق بأنّ هذا التراب المتلاشي سوف تعود له الحياة مرّة أخرى ، لذا فإنّ الرجل المؤمن مع ذكره للخلق الأوّل من تراب ، ثمّ من نطفة ، ثمّ بإشارته للمراحل الأخرى ـ أراد أن يلفت نظره إلى القدرة غير المتناهية للخالق حتى يعلم بأنّ قضية المعاد يمكن مشاهدتها هنا وتمثّلها بأعيننا في واقع هذه الأرض.

٢٦٩

2 ـ وقال آخرون : إنّ شركه وكفره كانا بسبب ما رآه لنفسه من استقلال في المالكية وما تصوره من دوام وأبدية هذه الملكية.

3 ـ الاحتمال الثّالث أنّه لا يبعد أن يكون الرجل قد أنكر الخالق في بعض كلامه ولم يذكر القرآن هذا المقطع من كلامه. وقد يتوضح الأمر بقرينة جواب الرجل المؤمن ، لذا نرى في الآية التي بعدها أنّ الرجل المؤمن قال لصاحب البستان ما مضمونه : إن كنت أنكرت وجود خالقك وسلكت طريق الشرك ، إلّا أنّني لا أفعل ذلك أبدا.

على أي حال ، ثمّة علاقة واضحة تربط بين الاحتمالات الثلاثة ، ويمكن أن يكون كلام الرجل المؤمن الموحّد إشارة الى هذه الاحتمالات جميعا.

ثمّ عمد الرجل الموحّد المؤمن إلى تحطيم كفر وغرور ذلك الرجل (صاحب البستان) فقال :( لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي ) (1) . وإنّي أفتخر بهذا الإعتقاد وأتباهى به ، إنّك تفتخر بأنّك تملك بستانا ومزرعة وفواكه وماءا كثيرا ؛ إلّا أنّني أفتخر بأنّ الله ربّي ، إنّه خالقي ورازقي؛إنّك تتباهى بدنياك وأنا أفتخر بعقيدتي وإيماني وتوحيدي :( وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً ) .

وبعد أن أشار إلى قضية التوحيد والشرك اللذين يعتبران من أهم المسائل المصيرية ، جدّد لومه لصاحبه قائلا :( وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ ) (2) .

فلما ذا لا تعتبر كل هذه النعم من الخالق جلّ وعلا ، ولماذا لم تشكره عليها. ولماذا لم تقل :( لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ ) .

فإذا كنت قد هيّأت الأرض وبذرت البذور وزرعت الغرس وربيت الأشجار ، وفعلت كلّ شيء في وقته المناسب حتى وصل الأمر إلى ما وصل إليه ؛

__________________

(1) كلمة (لكنّا) في الأصل كانت (لكن إنّ) ثمّ دمجت وأصبحت هكذا.

(2) جمله( ما شاءَ اللهُ ) لها محذوف إذ تكون مع التقدير : ما شاء الله كان ، أو : ما شاء الله ، فإنّ هذا هو الشيء الذي يريده الله.

٢٧٠

فإنّ كل هذه الأمور هي من قدرة الخالق جلّ وعلا ، وقد وضع سبحانه وتعالى الوسائل والإمكانات تحت تصرفك ، حيث أنّك لا تملك شيئا من عندك ، وبدونه تكون لا شيء!

ثمّ يقول له : ليس من المهم أن أكون أقل منك مالا وولدا :( إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً ) .

( فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ ) .

وليس فقط أن يعطيني أفضل ممّا عندك ، بل ويرسل صاعقة من السماء على بستانك، فتصبح الأرض الخضراء أرض محروقة جرداء :( وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً ) .

أو أنّه سبحانه وتعالى يعطي أوامره إلى الأرض كي تمنعك الماء :( أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً ) .

«حسبان» على وزن «لقمان» وهي في الأصل مأخوذة من كلمة «حساب» ، ثمّ وردت بعد ذلك بمعنى السهام التي تحسب عند رميها ، وتأتي أيضا بمعنى الجزاء المرتبط بحساب الأشخاص ، وهذا هو ما تشير إليه الآية أعلاه.

«صعيد» تعني القشرة التي فوق الأرض. وهي في الأصل مأخوذة من كلمة صعود.

«زلق» بمعنى الأرض الملساء بدون أي نباتات بحيث أنّ قدم الإنسان تنزلق عليها (الطريف ما يقوم به الإنسان اليوم حيث تتمّ عملية تثبيت الأرض والرمال المتحركة ، ومنع القرى من الاندثار تحت هذه الرمال عند هبوب العواصف الرملية ، وذلك من خلال زراعتها بالنباتات والأشجار ، أو ـ كما يصطلح عليه ـ إخراجها من حال الزلق والانزلاق).

في الواقع ، إنّ الرجل المؤمن والموحّد حذّر صديقه المغرور أن لا يطمأن لهذه النعم ، لأنّها جميعا في طريقها إلى الزوال وهي غير قابلة للاعتماد.

٢٧١

إنّه أراد أن يقول لصاحبه : لقد رأيت بعينيك ـ أو على الأقل سمعت بأذنك ـ كيف أنّ الصواعق السماوية جعلت من البساتين والبيوت والمزروعات ـ وخلال لحظة واحدة ـ تلّا من التراب والدمار وأصبحت أرضهم يابسة عديمة الماء والكلأ.

وأيضا سمعت أو رأيت بقيام هزة أرضية تطمس الأنهار وتجفّف العيون ، بحيث تكون غير قابلة للإصلاح والترميم.

وبمعرفتك لكل هذ الأمور فلم هذا الغرور؟!

أنت الذي شاهدت أو سمعت كل هذا، فلم هذا الانشداد للأرض والهوى؟

ثمّ لماذا تقول : لا أعتقد أن تزول هذه النعم وأنّها باقية وخالدة ؛ فلما ذا هذا الجهل والبلاهة!!!؟

* * *

٢٧٢

الآيات

( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) )

التّفسير

العاقبة السوداء :

أخيرا انتهى الحوار بين الرجلين دون أن يؤثر الشخص الموحّد المؤمن في أعماق الغني المغرور ، الذين رجع إلى بيته وهو يعيش نفس الحالة الروحية والفكرية ، وغافل أنّ الأوامر الإلهية قد صدرت بإبادة بساتينه ومزروعاته الخضراء ، وأنّه وجب أن ينال جزاء غروره وشركه في هذه الدنيا ، لتكون عاقبته عبرة للآخرين.

ويحتمل أنّ العذاب الإلهي قد نزل في تلك اللحظة من الليل عند ما خيّم الظلام ، على شكل صاعقة مميتة أو عاصفة هو جاء مخيفة ، أو على شكل زلزال مخرّب ومدمّر. وأيّا كان فقد دمّرت هذه البساتين الجميلة والأشجار العالية

٢٧٣

والزرع المثمر ، حيث أحاط العذاب الإلهي بتلك المحصولات من كل جانب :( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ) .

«أحيط» مشتقّة من «إحاطة» وهي في هذه الموارد تأتي بمعنى (العذاب الشامل) الذي تكون نتيجته الإبادة الكاملة.

وعند الصباح جاء صاحب البستان وتدور في رأسه الأحلام العديدة ليتفقد ويستفيد من محصولات البستان ، ولكنّه قبل أن يقترب منه واجهه منظر مدهش وموحش ، بحيث أنّ فمه بقي مفتوحا من شدة التعجّب ، وعيناه توقفتا عن الحركة والاستدارة.

لم يكن يعلم بأنّ هذا المنظر يشاهده في النوم أم في اليقظة! الأشجار جميعها ساقطة على التراب ، النباتات مدمّرة ، وليس ثمّة أي أثر للحياة هناك!

كان الأمر بشكل وكأنّه لم يكن هناك بستان ولا أراضي مزروعة ، كانت أصوات (البوم) ـ فقط ـ تدوي في هذه الخرائب ، قلبه بدأ ينبض بقوّة ، بهت لونه ، يبس الماء في فمه ، وتحطّم الكبرياء والغرور اللذان كانا يثقلان نفسه وعقله.

كأنّه صحا من نوم عميق :( فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ) .

وفي هذه اللحظة ندم على أقواله وأفكاره الباطلة :( وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ) .

والأكثر حزنا وأسفا بالنسبة له هو ما أصبح عليه من الوحدة في مقابل كل هذه المصائب والابتلاءات :( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ ) .

ولأنّه فقد ما كان يملكه من رأس المال ولم يبقي لديه شيء آخر ، فإنّ مصيره :( وَما كانَ مُنْتَصِراً ) .

لقد انهارت جميع آماله وظنونه الممزوجة بالغرور ، لقد أدت الحادثة إلى انتهاء كل شيء ، فهو من جانب كان يقول : إنّي لا أصدق بأنّ هذه الثروة العظيمة

٢٧٤

من الممكن أن تفنى ، إلّا أنّني رأيت فناءها بعيني!

ومن جانب آخر فقد كان يتعامل مع رفيقه المؤمن بكبر ويقول : إنّني أقوى منك وأكثر أنصارا ومالا ، ولكنّه بعد هذه الحادثة اكتشف أن لا أحد ينصره!

ومن جانب ثالث فإنّه كان يعتمد على قوته وقدرته الذاتية ، ويعتقد بأنّ غير قدرته محدودة ، لكنّه بعد هذه الحادثة ، وبعد أن لم يكن بمقدوره الحصول على شيء ، انتبه إلى خطئه الكبير ، لأنّه لم يعد يتملك شيئا يعوضه جانبا من تلك الخسارة الكبرى.

وعادة ، فإنّ الأصدقاء الذين يلتفون حول الإنسان لأجل المال والثروة مثلهم كمثل الذباب حول الحلوى ، وقد يفكّر الإنسان أحيانا بالاعتماد عليهم في الأيّام الصعبة ، ولكن عند ما يصاب فيما يملك يتفرق هؤلاء الخلّان من حوله ، لأنّ صداقتهم له لم تكن لرابط معنوي ، بل كانت لأسباب مادية ، فإذا زالت هذه الأسباب انتفت الرفقة!

وهكذا انتهي كل شيء ولا ينفع الندم ، لأنّ مثل هذه اليقظة الإجبارية التي تحدث عند نزول الابتلاءات العظيمة يمكن ملاحظتها حتى عند أمثال فرعون ونمرود ، وهي بلا قيمة ، لهذا فإنّها لا تؤثّر على حال من ينتبه.

صحيح أنّه ذكر عبارة( لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ) وهي نفس الجملة التي كان قد قالها له صديقه المؤمن ، إلّا أنّ المؤمن قالها في حالة السلامة وعدم الابتلاء ، بينما ردّدها صاحب البستان في وقت الضيق والبلاء.

( هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ ) نعم ، لقد اتضح أنّ جميع النعم منه تعالى ، وأنّ كل ما يريده تعالى يكون طوع إرادته ، وأنّه بدون الاعتماد على لطفه لا يمكن إنجاز عمل :( هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً ) .

إذن ، لو أراد الإنسان أن يحب أحدا ويعتمد على شيء ما ، أو يأمل بهديه من

٢٧٥

شخص ما ، فمن الأفضل أن يكون الله سبحانه محط أنظاره ، وموقع آماله ، ومن الأفضل أن يتعلق بلطفه تعالى وإحسانه.

* * *

بحثان

1 ـ غرور الثروة

في هذه القصّة نشاهد تجسيدا حيا لما نطلق عليه اسم غرور الثروة ، وقد عرفنا أنّ هذا الغرور ينتهي أخيرا إلى الشرك والكفر. فعند ما يصل الأفراد الذين يعيشون حياتهم بلا غاية وهدف إيماني إلى منزلة معينة من القدرة المالية أو الوجاهة الاجتماعية ، فإنّهم في الغالب يصابون بالغرور. وفي البداية يسعون إلى التفاخر بإمكاناتهم على الآخرين ويعتبرونها وسيلة تفوّق ، ويرون من التفاف أصحاب المصالح حولهم دليلا على محبوبيتهم ، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله :( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ) .

ويتبدّل حبّ هؤلاء للدنيا تدريجيا بفكرة الخلود فيها :( ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ) .

إنّ ظنّهم بخلود ثرواتهم المادية يجعلهم ينكرون المعاد للتضاد الواضح بين ما هم فيه وبين مبدأ البعث والمعاد ، فيكون لسان حالهم :( وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ) .

والأنكى من ذلك هو أنّهم يعتبرون مقامهم ووجاهتهم في هذه الدنيا دليلا على قرب مقامهم من محضر القدس الإلهي ، فيقولون :( وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً ) .

هذه المراحل الأربع نجدها واضحة في حياة أصحاب القدرة من عبيد الدنيا ، مع فوارق نسبية فيما بينهم ، فيبدأ مسيرهم الانحرافي من الاغترار بما

٢٧٦

لديهم من قوة وقدرة ، ويتصاعد انحرافهم إلى الشرك وعبادة الأصنام والكفر وإنكار المعاد ، لأنّهم يعبدون القدرة المادية ويجعلونها صنما دون سواها.

2 ـ دروس وعبر

هذا المصير المقترن بالعبرة والذي ذكر هنا بشكل سريع يتضمّن بالإضافة إلى الدرس الآنف ، دروسا أخرى ينبغي أن نتعلمها ، وهذه الدروس هي :

أ: مهما كانت نعم الدنيا المادية كبيرة وواسعة ، فإنّها غير مطمئنة وغير ثابتة ، فصاعقة واحدة تستطيع في ليلة أو في لحظات معدودة أن تبيد البساتين والمزارع التي يكمن فيها جهد سنين طويلة من عمر الإنسان ، وتحيلها إلى تل من تراب ورماد وأرض يابسة زلقة.

إنّ زلزلة واحدة خفيفة يمكن أن تقضي على العيون الفّوارة التي هي الأصل في هذه الحياة ، بالشكل الذي لا يمكن معه ترميمها أبدا.

ب : إنّ الأصدقاء الذين يلتفون حول الإنسان بغرض الإفادة من إمكاناته المادية هم بدرجة من اللامبالاة وعلى قدر من الغدر والخيانة بحيث أنّهم يتخلّون عنه في نفس اللحظة التي تزول فيها إمكاناته المادية ويتركونه وحيدا لهمومه :( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ ) .

هذا النوع من الأحداث الذي طالما سمعنا ورأينا له نماذج تبرهن على أنّ الإنسان لا يملك سوى التعلق بالله وحده ، وأنّ الأصدقاء الحقيقيين والأوفياء للإنسان هم الذين تصنعهم الروابط والعلائق المعنوية ، إذ يستمر ودّ هؤلاء في حال الفقر والثروة ، في الشباب والشيبة ، في الصحة والمرض ، في العز والذلة ، بل وتستمر مودّة هؤلاء إلى ما بعد الموت!

ج : لا فائدة من الصحوة بعد نزول البلاء :

لقد أشرنا مرارا إلىّ أنّ اليقظة الإجبارية لدى الإنسان ليست دليلا على يقظة

٢٧٧

داخلية حقيقية هادية ، وليست علامة على تغيير مسير الإنسان ، أو ندمه على أعماله السابقة وعلى ما كان فيها من معصية وانحراف ، بل كل ما في الأمر هو أنّ الإنسان عند ما ينزل بساحته البلاء أو يرى عمود المشنقة ، أو تحيط به أمواج البلاء والعواصف ، فهو يتأثر للحظات لا تتعدى مدة البلاء ويتخذ قرارا بتغيير مصيره ، ولكن لأنّه لا يملك أساسا متينا في أعماقه ، فإنّه بانتهاء البلاء يغفل عن صحوته هذه ويعود إلى خطّة ومسيره الأوّل.

لو تأملنا الآية (18) من سورة النساء لرأينا من خلالها أنّ أبواب التوبة تغلق أمام الإنسان عند رؤية علائم الموت ، وسبب هذا الأمر هو ما ذكرناه أعلاه.

وفي الآيات (90 ـ 91) من سورة يونس يقول القرآن حول فرعون عند ما صار مصيره إلى الغرق وعصفت به الأمواج ، فإذا به يصرخ ويقول :( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ ) إلّا أنّ هذه التوبة ترد عليه ولا تقبل منه :( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ ) !

د : لا الفقر دليل الذلة ولا الثروة دليل العزة :

وهذا درس آخر نتعلمه من الآيات أعلاه ، طبيعي أنّ المجتمعات المادية والمذاهب النفعية غالبا ما تتوهم بأنّ الفقر والثروة هما دليل الذلة والعزة ، لهذا السبب لاحظنا أنّ مشركي العصر الجاهلي يعجبون من يتمّ رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفقره ويقولون :( وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (1) .

ه : أسلوب تحطيم الغرور :

عند ما تبدأ بواعث الغرور تقترب من الإنسان وتناجي أعماقه بسبب المال والمنصب، فيجب عليه أن يقطع تلك الوسوسة من جذورها ، عليه أن يتذكر ذلك اليوم الذي كان فيه ترابا لا قيمة له ، وذلك اليوم الذي كان فيه نطفة لا قيمة لها ، عليه أن يعي اللحظة التي كان فيها وليدا ضعيفا لا يقدر على الحركة.

__________________

(1) الزخرف ، 31.

٢٧٨

لاحظنا القرآن في الآيات الآنفة كيف يعيد من خلال خطاب الرجل المؤمن ، صاحب البستان إلى وضعه العادي :( أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ) .

و: درس من عالم الطبيعة :

القرآن عند ما يصف البساتين المثمرة يقول :( وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً ) ولكنّه عند ما يتحدث عن صاحب البستان يقول :( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ) .

يعني : أيّها الإنسان ، أنظر إلى الوجود من حولك ، ولا حظ أنّ هذه الأشجار المثمرة والزراعة المباركة كيف آتت كل ما عندها بأمانة وقدمته لك ، فلا مجال عندها للاحتكار والحسد والبخل ، فعالم الوجود هو ساحة للإيثار والبذل والعفو ، فما تمتلكه الأرض تقدمه بإيثار إلى الحيوانات والنباتات ، وتضع الأشجار والنباتات كل ثمارها ومواهبها في إختيار الإنسان والأحياء الأخرى ، وقرص الشمس يضعف يوما بعد آخر وهو يشع النور والدفء والحرارة ، الغيوم تمطر والرياح تهب ، لتتسع أمواج الحياة في كل مكان.

هذا هو نظام الوجود ، ولكنّك أيّها الإنسان تريد أن تكون سيد الوجود ومع ذلك تسحق قوانينه الثابتة البيّنة. فتكون رقعة نشاز غير متناسقة في عالم الوجود تريد أن تستحوذ على كل شيء وتصادر حقوق الآخرين!

* * *

٢٧٩

الآيتان

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) )

التّفسير

بداية ونهاية الحياة في لوحة حيّة :

الآيات السابقة تحدّثت عن عدم دوام نعم الدنيا ، ولأنّ إدراك هذه الحقيقة لعمر بطول (60 ـ 80) سنة يعتبر أمرا صعبا بالنسبة للأفراد العاديين ، لذا فإنّ القرآن قد جسّد هذه الحقيقة من خلال مثال حي ومعبّر كي يستيقظ الغافلون المغرورون من غفلتهم ونومهم عند ما يشاهدون تكرار هذا الأمر عدّة مرّات خلال عمرهم.

يقول تعالى :( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ) هذه القطرات الواهبة للحياة تسقط على الجبال والصحراء ، وتعيد الحياة للبذور

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

وقد سمح له الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمبيت ليلا في المسجد ، لأنّه لا يملك مكانا للاستراحة والسكن ، وعند ما كثر عدد الغرباء ـ وكلهم سكن المسجد ـ أدى ذلك إلى وضع سلبي للمسجد ، أمر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإخراجهم من المسجد وتطهيره ، وأغلقت أبواب بيوت الصحابة التي كانت شارعة إلى المسجد بأمر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما عدا بيت علي وفاطمةعليهما‌السلام .

عندها أمر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتسقيف مكان معين بسعف النخل ليكون محلا لسكن الغرباء والفقراء ، وكان بنفسه يزورهم ويعطيهم الماء والتمر والخبز والمواد الغذائية الأخرى ، وقام باقي المسلمين بالاهتمام بهم ومساعدتهم عن طريق الزكاة وأنواع الإنفاق الأخرى.

وقد اشترك هؤلاء في المعارك الإسلامية وجاهدوا بإخلاص ، وقد وردت بعض الآيات القرآنية لتذكر فضلهم وصفاءهم وطهرهم ، وقد سمّوا (بأصحاب الصفّة) لأنّهم سكنوا تلك (الصفّة).

* * *

٥٤١

الآيات

( وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) )

التّفسير

هبوب الرياح المنتظمة وحركة السفنعليهم‌السلام

مرّة اخرى نشاهد أنّ هذه الآيات تقوم بتبيان علائم الخالق وأدلة التوحيد ، وتستمر في البحث الذي أشارت إليه الآيات السابقة بهذا الخصوص.

وهنا تذكر موضوعا يتعامل معه الإنسان كثيرا في حياته المادية ، خصوصا المسافرين عبر البحار وسكان السواحل ، حيث تقول الآية :( وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ ) .

«جوار» جمع (جارية) وهي صفة للسفن حيث لم تذكر للاختصار ، وعادة فإن

٥٤٢

الآية تقصد حركة السفن ، ولذا فقد استخدمت هذه الصفة.

ويقال للبنت الشابة «جارية» لأن الشباب والنشاط يجري في عروقها ووجودها.

«أعلام» جمع (علم) على وزن (قلم) وتعني الجبل ، إلّا أنّها في الأصل بمعنى العلامة والأثر الباقي الذي يخبر عن شيء معين ، مثل (علم الطريق) و (علم الجيش) وما شابه.

أمّا لماذا سمّي الجبل بالعلم؟ فذلك لأنّه ظاهر من بعيد ، وأحيانا كانوا يشعلون النّار فوق قمته حتى تكون منارا للسائرين ، إلّا أنّ وجود النّار وعدمها لا يؤثر في التسمية.

وعلى هذا الأساس فإنّ القرآن يعتبر حركة السفن العملاقة في هذه الآية ـ كما في الآيات المتعددة الأخرى ـ بسبب هبوب الرياح المنتظمة ، من آيات الخالق.

فليس مهمّا حركة السفينة الصغيرة أو الزوارق على سطح الماء بسبب هبوب الرياح ، المهم حركة السفن والبواخر العملاقة بحمولتها الكبيرة ومسافريها المتعددين عند هبوب الرياح ، فتقطع آلاف الأميال وتصل إلى مرساها.

فمن الذي خلق هذه المحيطات بخصوصياتها ومياهها وعمقها؟ من أعطى للخشب الذي تصنع منه السفن خاصية الطفو على سطح الماء؟

ومن يأمر الرياح بالهبوب بشكل منظم على سطح البحار والمحيطات كي يستطيع الإنسان أن يصل من نقطة إلى اخرى بالاستفادة من هذه الرياح؟

نعم ، فلو أخذنا بعين الإعتبار الخرائط التي يملكها البحارة بخصوص حركة الرياح ، والمعلومات التي يملكها البشر حول هبوب الرياح من القطبين نحو خط الإستواء ومن خط الإستواء إلى القطبين ، وأيضا هبوب الرياح المتناوبة من السواحل واليابسة نحو البحار وبالعكس ، عندها سندرك أن هذا الأمر مخطط وله

٥٤٣

نظام.

في زماننا ، تقوم المحركات الضخمة بتحريك السفن ودفعها إلى الأمام ، إلّا أنّ الرياح تبقى مؤثرة أيضا في حركة هذه السفن.

وللتأكيد أكثر تقول الآية :( إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ ) .

وكاستنتاج تضيف الآية في نهايتها :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) .

نعم ، فهبوب الرياح ، وحركة السفن ، وخلق البحار ، والنظام الخاص المتناسق الذي يتحكم بهذه الأمور كلّها آيات مختلفة للذات المقدسة.

ونعلم أن هبوب الرياح يتمّ بسبب الاختلاف في درجة الحرارة بين منطقتين على الكرة الأرضية ، لأنّ الهواء يتمدد بسبب الحرارة ويتحرك نحو الأعلى ، ويضغط على الهواء المحيط به ويقوم بتحريكه ، ومن جانب آخر يترك مكانه للهواء المجاور له عند تحركه نحو الطبقات العليا ، فلو سحب الخالق هذه الخاصية (خاصية التمدد) من الهواء ، عندها سيطغى السكون والهدوء القاتل وستقف السفن الشراعية في عرض البحار دون أية حركة.

«صبار» و (شكور) صيغتا مبالغة حيث تعطي الأولى معنى كثرة الصبر ، والثانية كثرة الشكر. وهذان الوصفان الواردان في هذه الآية ـ وفي موارد اخرى(١) ـ يشيران إلى ملاحظات لطيفة.

فهاتان الصفتان توضحان حقيقة الإيمان ، لأن المؤمن صبور في المشاكل والابتلاءات وشكور في النعم ، وقد ورد في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر»(٢) .

إضافة إلى ذلك ، فإنّ البحث في أسرار نظام الخلق يحتاج إلى الصبر والاستمرار وتخصيص الوقت الكافي ، ومن جانب ثان يستحق شكر لمنعم.

__________________

(١) إبراهيم ـ ٥ ، لقمان ـ ٣١ ، سبأ ـ ١٩ ، والآية التي نبحثها.

(٢) تفسير الصافي ، مجمع البيان ، الفخر الرازي ، والقرطبي نهاية الآية (٣١) من سورة لقمان.

٥٤٤

فمتى ما توفر هذان العاملان عندها يكون الإنسان مؤهلا للبحث في هذه الآيات ، وعادة فإنّ البحث في أسرار الخلق يعتبر بحد ذاته نوعا من الشكر.

ومن جانب ثالث ، فإنّ هاتين الصفتين تتجسدان في الإنسان أكثر من أي وقت مضى متى ما ركب في السفينة ، حيث الصبر حيال حوادث ومشاكل البحار ، والشكر عند الوصول إلى الساحل.

مرّة اخرى ، لتجسيد عظمة هذه النعمة الإلهية ، تقول الآية الأخرى :( أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا ) أيّ لو شاء لأباد هذه السفن بسبب الأعمال التي ارتكبها المسافرون.

وكما قرأنا في الآيات الماضية ، فإنّ المصائب التي تصيب الإنسان غالبا ما ما تكون بسبب أعماله.

إلّا أنّه بالرغم من ذلك فإن اللطف الإلهي يشمل الإنسان :( وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ) .

فلو لا عفو الخالق لم يكن لينجو أحد من عذاب الخالق سوى المعصومين والخواص والطاهرين ، كما نقرأ ذلك في الآية (٤٥) من سورة فاطر :( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) .

نعم ، فهو يستطيع أن يمنع الرياح من الهبوب حتى تقف السفن في وسط البحار والمحيطات ، أو يحوّل هذه الرياح إلى عواصف هو جاء تدمر هذه السفن والبواخر ، إلّا أن لطفه العام يمنع هذا العمل.

( وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ) (١) وما لهم من ملجأ سوى ذاته المنزهة.

فهؤلاء سوف لا يشملهم العفو الإلهي ، لأنّهم عارضوه بعلم ووعي ، واستمروا

__________________

(١) جملة( وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ ) كما يقول الزمخشري في كشافه : وردت منصوبة بسبب عطفها على تعليل محذوف وتقديره : لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون فالهدف أن ينتقم الخالق من هذه المجموعة ، والهدف أن يعلم المجادلون بعدم وجود طريق للنجاة.

٥٤٥

في محاربته عن عداوة وعناد ، فهؤلاء سوف لا يشملهم عفوه ورحمته ، ولا خلاص لهم من عذابه.

«محيص» مأخوذة من كلمة (حيص) على وزن (حيف) وتعني الرجوع والعدول عن أمر ما ، وبما أن (محيص) اسم مكان ، لذا وردت هذه الكلمة ، بمعنى محل الهروب أو الملجأ.

والكلام في آخر آية موجّه إلى الجميع حيث تقول :( فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ) .

فلا تتصوروا أنّه سيبقى لكم ، لأنّه كالوميض الذي يبرق ثمّ يخبو ، وكالشمعة في مهبّ الريح والفقاعة على سطح الماء ، ولكن( وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) .

فلو استطعتم أن تستبدلوا هذا المتاع الدنيوي الزائل المحدود التافه بمتاع أبدي خالد ، فتلك هي التجارة المربحة العديمة النظير.

فالمواهب في هذه الدنيا لا تخلو من المشاكل ، حيث توجد الأشواك دائما إلى جانب الورود ، والمحبطات إلى جانب الآمال ، في حين أن الأجر الإلهي لا يحتوي على أي إزعاجات ، بل هو خير خالص ومتكامل.

ومن جانب آخر فإن هذه المواهب مهما كانت فستزول حتما ، إلّا أن الجزاء الأخروي أبدي خالد ، عندها هل يقبل العقل أن يستغني الإنسان عن هذه التجارة المربحة ، أو يصاب بالغرور والغفلة وتبهره زخارف الدنيا؟

لذا فإننا نقرأ في الآية ٣٨ من سورة التوبة :( أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ) .

وأساسا ، فإنّ «الحياة الدنيا» (بالمعنى المتقدم) تشير إلى الحياة الدنية والحقيرة ، وطبيعي أن أي متاع أو وسائل للاستفادة من مثل هذه الحياة ستكون ـ أيضا ـ مثلها في القيمة.

٥٤٦

لذا فقد ورد في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «والله ما الدنيا في الآخرة إلّا مثل أن يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم ، فلينظر بم ترجع؟!»(١) .

والملفت للنظر أنّه ورد في هذه الآية التأكيد على الإيمان والتوكل ، وهذا بسبب أن نيل الأجر الإلهي هو للذين يفوضون أمورهم في جميع الأعمال ويستسلمون له تعالى إضافة إلى الإيمان ، لأن التوكل يعني تفويض الأمور.

وتقابل هذه المجموعة أشخاص يجادلون في آيات الله بسبب حب الدنيا والارتباط بالمتاع الزائل ، ويقلبون الحقائق ، وبهذا الترتيب فإن آخر آية هي بمثابة تعليل للآية التي قبلها ، والتي كانت تتحدث عن الذين يجادلون في آيات الله.

* * *

__________________

(١) روح البيان ، المجلد الثّالث ، ص ٤٢٩ (نهاية الآية ٣٨ من سورة التوبة)

٥٤٧

الآيات

( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) )

التّفسير

المؤمنون لا يستسلمون للظلم :

هذه الآيات استمرار للبحث الوارد في الآيات السابقة بخصوص الأجر الإلهي للمؤمنين المتوكلين.

فبعد ذكر الإيمان والتوكل اللذين لهما طبيعة قلبية ، تشير هذه الآيات إلى سبعة أنواع من البرامج العملية للصفتين السابقتين سواء كانت إيجابية أو سلبية ، فردية أو اجتماعية ، مادية أو معنوية ، وهذه البرامج توضح أسس المجتمع الصالح والحكومة الصالحة القوية.

والملفت للنظر أنّ هذه الآيات نزلت في مكّة ـ كما يظهر ـ وفي ذلك اليوم لم

٥٤٨

يكن قد تأسس المجتمع الإسلامي بعد ، ولم يكن هناك وجود للحكومة الإسلامية ، إلّا أن هذه الآيات أعطت التفكير الإسلامي الصحيح في هذا الخصوص منذ ذلك اليوم ، حيث كان الرّسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلّمهم ويربّيهم لغرض الاستعداد لبناء المجتمع الإسلامي في المستقبل.

فأوّل صفة تبدأ من التطهير حيث تقول الآية أن الثواب الإلهي العظيم سوف يكون من نصيب المؤمنين المتوكلين :( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ ) (١) .

«كبائر» جمع «كبيرة» وتعني الذنوب الكبيرة ، أمّا ما هو المعيار في الكبائر؟

البعض فسّرها بالذنوب التي توعد القرآن في آياته بعذاب النّار لها ، وأحيانا الذنوب التي تستوجب الحدّ الشرعي.

وقد احتمل البعض أنّها إشارة للبدع وإيجاد الشبهات الاعتقادية في أذهان الناس.

ولكننا لو رجعنا إلى المعنى اللغوي كلمة «كبيرة» فإنّها تعني الذنب الذي يكون كبيرا ومهما من وجهة نظر الإسلام ، وأحد علائم أهميته أنّه ورد في القرآن المجيد وتوعد بالعذاب عليه ، وقد ورد تفسير للكبائر في روايات أهل البيتعليهم‌السلام بأنّها : «التي أوجب اللهعزوجل عليها النّار»(٢) .

وعلى هذا الأساس فلو توضحت أهمية وعظمة الذنب بطرق اخرى ، عندها سيشمله عنوان (الكبائر).

«فواحش» جمع «فاحشة» وتعني الأعمال القبيحة للغاية والممقوتة ، وذكر هذه العبارة بعد كلمة (الكبائر) من قبيل ذكر الخاص بعد العام ، وفي الحقيقة فإنّ

__________________

(١) يعتقد غالب المفسّرين أن( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ ) عطف لـ( لِلَّذِينَ آمَنُوا ) في الآية السابقة ، بالرغم من احتمال البعض أنّها مبتدأ خبره محذوف (وفي التقدير والذين يجتنبون لهم مثل ذلك من الثواب) إلّا أن المعنى الأوّل أفضل ظاهرا.

(٢) نور الثقلين ، المجلد الأوّل ، ص ٤٧٣.

٥٤٩

التأكيد على الذنوب القبيحة للغاية بعد ذكر اجتناب المؤمنين الحقيقيين عن جميع الذنوب الكبائر ، للتأكيد على أهمية ذلك.

وعلى هذا الأساس فإنّ أوّل علائم الإيمان والتوكل هو الاجتناب عن (الكبائر) ، فكيف يمكن للإنسان أن يدعي الإيمان والتوكل على الخالق ، في حين أنّه مصاب بأنواع الذنوب وقلبه وكر من أوكار الشيطان؟!

أمّا ثاني صفة ، والتي لها طبيعة تطهيرية أيضا ، فهي السيطرة على النفس عند الغضب الذي يعتبر من أشدّ حالات الإنسان حيث تقول الآية :( وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ) .

فهؤلاء لا يفقدون السيطرة على أنفسهم عند الغضب ولا يرتكبون الجرائم عنده ، والأكثر من ذلك غسل قلوبهم وقلوب الآخرين من الحقد بواسطة مياه العفو والغفران.

وهذه الصفة لا تتوفر إلّا في ظل الإيمان الحقيقي والتوكل على الحق.

والطريف في الأمر أن الآية لا تقول : إنّهم لا يغضبون ، لأنّ الغضب من طبيعة الإنسان ، وهناك ضرورة له في بعض الأحيان خاصة عند ما يكون لله وفي طريق إحقاق الحق ، بل تقول : إنّهم لا يلوثون أنفسهم بالذنب عند الغضب ، وبكل بساطة يعفون ويغفرون ، ويحب أن يكونوا هكذا ، فكيف يمكن للإنسان أن ينتظر العفو الإلهي في حين أن أعماقه مليئة بالحق وحب الانتقام ، ولا يعترف بأي قانون عند الغضب؟ وإذا شاهدنا التأكيد على الغضب هنا ، فذلك لأنّ هذه الحالة كالنار الحارقة التي تلتهب في داخل أعماق الإنسان ، وهناك الكثيرون الذين لا يستطيعون ضبط أنفسهم في تلك الحالة ، إلّا أن المؤمنين الحقيقيين لا يستسلمون أبدا للغضب.

وورد في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «من ملك نفسه إذا رغب ، وإذا رهب ،

٥٥٠

وإذا غضب ، حرم الله جسده على النّار»(١) .

الآية الأخرى تشير إلى الصفة الثّالثة والرّابعة والخامسة والسادسة ، حيث تقول :( وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ ) .

( وَأَقامُوا الصَّلاةَ ) .

( أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ ) (٢) .

( وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) .

فالآية السابقة كانت تتحدث عن تطهير النفس من الذنوب والتغلب على الغضب ، إلّا أنّ الآية التي نبحثها تتحدث عن بناء النفس في المجالات المختلفة ، ومن أهمها إجابة دعوة الخالق ، والتسليم حيال أوامره ، حيث أن الخير كلّ الخير تجسد في هذا الأمر. فهم مستسلمون بكل وجودهم لأوامره ، وليست لهم إرادة إزاء إرادته ، ويجب أن يكونوا هكذا ، لأنّ الاستسلام والاستجابة أمران حتميان بعد تطهير القلب والروح من آثار الذنب الذي يعيق السير نحو الحق.

ونظرا لوجود بعض القضايا المهمّة في التعليمات الإلهية يجب الإشارة إليها بالخصوص ، لذا نرى أن الآية أشارت إلى بعض المواضيع المهمّة وخاصة (الصلاة) التي هي عمود الدين وحلقة الوصول بين المخلوق والخالق ومربية النفوس ، وتعتبر معراج المؤمن وتنهى عن الفحشاء والمنكر.

بعد ذلك تشير الآية إلى أهم قضية اجتماعية وهي «الشورى» فبدونها تعتبر جميع الأعمال ناقصة ، فالإنسان الواحد مهما كان قويا في فكره وبعيدا في نظره ، إلّا أنّه ينظر للقضايا المختلفة من زاوية واحدة أو عدّة زوايا ، وعندها ستختفي عنه الزوايا والأبعاد الأخرى ، إلّا أنّه وعند التشاور حول القضايا المختلفة تقوم العقول

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم ـ طبقا لنقل نور الثقلين ، المجلد الرابع ، ص ٥٨٣.

(٢) يقول بعض المفسّرين أنّه متى ما كانت (شورى) مصدرا وتعني المشاورة يجب أن تضاف لها كلمة (ذو) ويصبح تقدير الجملة (أمرهم ذو شورى بينهم) أو للمبالغة والتأكيد ، لأن ذكر (المصدر) بدلا من (الصفة) يوصل هذا المعنى عادة ، لكن إذا كانت شورى كما يقول الراغب في مفرداته بمعنى (الأمر الذي يتشاور فيه) عندها لا حاجة للتقدير (لاحظ ذلك).

٥٥١

العقول والتجارب المختلفة بمساعدة بعضها البعض ، عند ذلك ستتوضح الأمور وتقل العيوب النواقص ويقل الانحراف.

لذا فقد ورد في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «ما من رجل يشاور أحدا إلّا هدي إلى الرشد».

والملفت للنظر أن العبارة وردت هنا على شكل برنامج مستمر للمؤمنين ، ليس في عمل واحد ومؤقت ، بل يجب أن يكون التشاور في جميع الأعمال.

والطريف في الأمر أن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أيضا يتشاور مع أتباعه وأنصاره في القضايا الاجتماعية المهمّة والتنفيذية والصلح والحرب والأمور المهمّة الأخرى بالرغم من تكامل عقله وارتباطه بمصدر الوحي ، وكان يشاور أصحابه أحيانا بالرغم من المشكل التي تحصل من جراء ذلك ، لكي يكون أسوة وقدوة للناس ، لأن بركات الاستشارة أكثر بكثير من احتمالات ضررها.

وهناك تفصيلات في نهاية الآية (١٥٩) من سورة آل عمران بخصوص (الاستشارة) و (شروط الشورى) و (أوصاف الذين يجب استشارتهم) و (مسئولية المستشار) حيث لا نرى ضرورة إلى إعادة ذلك ، إلّا أنّه يجب أن نضيف بعض الملاحظات الأخرى :

أ ـ الشورى تختص بالأعمال التنفيذية ومعرفة الموضوع وليست لمعرفة الأحكام ، لأنّها يجب أن تؤخذ من مصدر الوحي ومن الكتاب والسنة ، وعبارة (أمرهم) تشير إلى هذا المعنى أيضا ، لأن الأحكام ليست من شأن الناس ، بل هي من أمر الخالق.

ولذا فلا أساس لما يقوله بعض المفسّرين كالآلوسي من أن الشورى تشمل الأحكام أيضا ، حيث لا يوجد نص خاص بذلك ، خاصة وأنّنا نعتقد بعدم وجود أي أمر في الإسلام ليس له نص عام أو خاص صادر بشأنّه ، وإلّا فما فائدة( الْيَوْمَ

٥٥٢

أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (١) [يجب قراءة تفصيلات عن هذا المعنى في كتب أصول الفقه بخصوص بطلان الاجتهاد بمعنى التقنين في الإسلام].

ب ـ قال بعض المفسّرين إن شأن نزول عبارة :( أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ ) خاص بالأنصار بخصوص الأنصار ، إما لأن أعمالهم قبل الإسلام كانت وفقا للشورى ، أو هي إشارة إلى تلك المجموعة من الأنصار الذين آمنوا قبل هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبايعوه في (العقبة) ، ودعوه إلى المدينة (لأن هذه السورة مكية ، والآيات أعلاه نزلت في مكّة كما يظهر أيضا).

وعلى أية حال ، فإن الآية لا تختص بسبب نزولها ، بل توضح برنامجا عاما وجماعيا.

وننهي هذا الكلام بحديث عن أمير المؤمنين الإمام عليعليه‌السلام حيث يقول : «لا ظهير كالمشاورة ، والاستشارة عين الهداية»(٢) .

ومن الضروري الإشارة إلى أن آخر صفة وردت في هذه الآية لا تشير إلى الإنفاق المالي فحسب ، وإنّما إنفاق كلّ ما أعطاه الخالق من الرزق كالمال والعقل والذكاء والتجربة ، والتأثير الاجتماعي ، والخلاصة : الإنفاق من كلّ شيء.

وتقول الآية بخصوص سابع صفة للمؤمنين الحقيقيين :( وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ) أيّ أنّهم إذا تعرضوا للظلم لا يستسلمون له ، بل يطلبون النصر من الآخرين.

وواضح أنّ الآخرين مكلفون بالانتصار ضد الظلم ، لأن طلب النصر دون النصرة يعتبر لغو ولا فائدة فيه ، وفي الحقيقة فإن المظلوم مكلف بمقاومة الظالم وطلب النصرة ، وأيضا فإن المؤمنين مكلفون بإجابته ، كما ورد في الآية (٧٢) من سورة الأنفال حيث نقرأ :( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ) .

__________________

(١) المائدة ، الآية ٣.

(٢) وسائل الشيعة ، المجلد الثامن ، ص ٤٢٥ (باب ٢١ من أبواب الأحكام العشرة).

٥٥٣

هذا البرنامج الإيجابي البناء يحذر الظالمين من مغبة ظلم المؤمنين ، حيث أنّهم لا يسكتون على ذلك ويقفون بوجوههم. وهو أيضا يؤمّل المظلومين بأن الآخرين سوف ينصرونكم عند استغاثتكم.

«ينتصرون» من كلمة «انتصار» وتعني طلب النصر ، إلّا أن البعض فسرها بمعنى «التناصر» والنتيجة واحدة للتوضيح الذي ذكرناه.

على أية حال ، فأي مظلوم إذا لم يستطع أن يقف بوجه الظلم بمفرده ، فعليه ألا يسكت ، بل يستفيد من طاقات الآخرين والنهوض بوجه الظلم ، ومسئولية جميع المسلمين الاستجابة لاستغاثته وندائه.

ولكن بم أنّ التناصر يجب أن لا يخرج عن حد العدل وينتهي إلى الانتقام والحقد والتجاوز عن الحد ، لذا فإن الآية التي بعدها اشترطت ذلك بالقول :( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) .

يجب أن لا تتجاوزوا عن الحد بسبب أن أصدقاءكم هم الذين ظلموا فتنقلبوا إلى أشخاص ظالمين ، وخاصة الإفراط في الرد على الظلم في مجتمعات كالمجتمع العربي في بداية الإسلام ، لذا يجب التمييز بين نصرة المظلوم والانتقام.

وعمل الظالم يجب أن يسمى بـ (سيئة) إلّا أن جزاءه وعقابه ليس (سيئة) وإذا وجدنا أنّ الآية عبّرت عن ذلك بالسيئة فبسبب التقابل بالألفاظ واستخدام القرائن ، أو أنّ الظالم يعتبرها (سيئة) لأنّه يعاقب ، أو يحتمل أن يكون استخدام لفظة (السيئة) لأنّ العقاب أليم ومؤذ ، والألم والأذى بحدّ ذاته (سيء) بالرغم من أن قصاص الظالم ومعاقبته يعتبر عملا حسنا بحد ذاته.

وهذا يشبه العبارة الواردة في الآية (١٩٤) من سورة البقرة :( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ ) .

على أية حاله ، فإنّ هذه العبارة يمكن أن تكون مقدمة للعفو الوارد في الجملة التي بعدها ، وكأنّما تريد الآية القول : إنّ العقاب مهما كان فهو نوع من الأذى ، وإذا

٥٥٤

ندم الشخص عندها يستحق العفو.

لذا ففي مثل هذه الموارد ينبغي عليكم العفو ، لأن( فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ ) .

صحيح أنّه فقد حقه ولم يحصل على شيء في الظاهر ، إلّا أنّه بسبب عفوه ، العفو الذي يعتبر أساس انسجام المجتمع والتطهّر من الأحقاد وزيادة أواصر الحب وزوال ظاهرة الانتقام والاستقرار الاجتماعي ، فقد تعهد الخالق بأن يعطيه من فضله الواسع ، ويا لها من عبارة لطيفة (على الله) حيث أن الخالق يعتبر نفسه مدينا لمثل هؤلاء الأشخاص ويقول بأن أجرهم عليّ.

وتقول الآية في نهايتها :( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) .

وقد تكون هذه الجملة إشارة إلى بعض الملاحظات :

فأوّلا : قد يكون العفو بسبب أن الإنسان لا يستطيع أحيانا السيطرة على نفسه بدقة عند العقاب والقصاص ، وقد يتجاوز الحد ويكون في عداد الظالمين.

وثانيا : إن هذا العفو ليس بمعنى الدفاع عن الظالمين ، لأن الله لا يحب الظالمين أبدا ، بل إن الهدف هو هداية الضالين وتثبيت الأواصر الاجتماعية.

وثالثا : إنّ الذين يستحقون العفو هم الذين يكفون عن الظلم ويندمون على ما ارتكبوه في الماضي ، ويقومون بإصلاح أنفسهم ، وليس للظالمين الذين يزدادون جرأة بواسطة هذا العفو.

وبعبارة أوضح ، فإنّ كلّا من العفو والعقاب له موقعه الخاص ، فالعفو يكون عند ما يستطيع الإنسان الانتقام ، وهذا يسمى العفو البناء ، لأنّه يمنح المظلوم المنتصر قابلية السيطرة على النفس وصفاء الروح ، وأيضا يفرض على الظالم المغلوب إصلاح نفسه.

والعقاب والانتقام والردّ بالمثل يكون عند ما يبقى الظالم مستمرا في غيه وضلاله ، والمظلوم لم يثبّت أركان سيطرته بعد ، فالعفو هنا يكون من موقع الضعف

٥٥٥

فيجب الردّ بالمثل.

وقد ورد في حديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إذا كان يوم القيامة نادى مناد : من كان أجره على الله فليدخل الجنّة ، فيقال : من ذا الذي أجره على الله؟

فيقال : العافون عن الناس ، فيدخلون الجنّة بغير حساب»(١) .

وهذا الحديث ـ في الحقيقة ـ هو النتيجة المستوحاة من آخر آية في هذا البحث ، والإسلام الأصيل هو هذا.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ـ نهاية الآية التي نبحثها.

٥٥٦

الآيات

( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) )

التّفسير

الظلم والإنتصار :

تعتبر هذه الآيات ـ في الحقيقة ـ تأكيدا وتوضيحا وتكميلا للآيات السابقة بشأن الإنتصار ومعاقبة الظالم والعفو في المكان المناسب ، والهدف من ذلك أن معاقبة الظالم والانتقام منه من حق المظلوم ، ولا يحق لأحد منعه عن حقه ، وفي نفس الوقت فإذا صادف أن سيطر المظلوم على الظالم وانتصر عليه ، وعند ذلك صبر ولم ينتقم فإن ذلك يعتبر فضيلة كبرى.

فأوّلا تقول الآية :( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ) (١) فلا يحق لأحد أن يمنع هذا العمل ، ولا يلوم ذلك الشخص أو يوبخه أو يعاقبه ،

__________________

(١) عبارة (ظلمه) هي من باب إضافة المصدر إلى المفعول.

٥٥٧

ولا يتوانى في نصر مثل هذا المظلوم ، لأن الإنتصار وطلب العون من الحقوق الطبيعية لأي مظلوم ، ونصر المظلومين مسئولية كلّ إنسان حر ومتيقظ الضمير.

( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ ) .

وإضافة إلى عقابهم الدنيوي( أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) ينتظرهم في الآخرة.

يقول بعض المفسّرين حول الاختلاف بين جملة( يَظْلِمُونَ النَّاسَ ) وجملة( يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ ) أن الجملة الأولى إشارة إلى موضوع (الظلم) والثانية إلى (التكبر)(١) .

البعض الآخر اعتبر الأولى إشارة إلى (الظلم) والثانية إشارة إلى (الوقوف بوجه الحكومة الإسلامية).

«بغى» تعني في الأصل الجد والمثابرة والمحاولة للحصول على شيء ما ، ولكن كثيرا ما تطلق على المحاولات لغصب حقوق الآخرين ، والتجاوز عن حدود وحقوق الخالق ، لذا فإن للظلم مفهوما خاصا وللبغي مفهوما عاما يشمل أي تعد أو تجاوز للحقوق الإلهية.

عبارة (بغير الحق) تأكيد لهذا المعنى ، وعلى هذا الأساس فإنّ الجملة الثانية من باب ذكر العام بعد ذكر الخاص.

أمّا آخر آية فتشير مرّة اخرى إلى الصبر والعفو ، لكي تؤكّد أن الانتقام والعقاب والقصاص من الظالم لا يمنع المظلوم من العفو ، حيث تقول :( وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) (٢) .

«العزم» في الأصل يعني (التصميم لإنجاز عمل معين) ، ويطلق على الإرادة القوية ، وقد تكون عبارة (عزم الأمور) إشارة إلى أن هذا العمل من الأعمال التي أمر الله بها ولا يمكن أن تنسخ ، أو أنّه من الأعمال التي يجب أن يشد الإنسان

__________________

(١) تفسير (الكشاف) ، (روح المعاني) و (روح البيان) نهاية الآيات التي نبحثها.

(٢) اللام في (لمن صبر) هي لام القسم وفي (لمن عزم الأمور) للتأكيد ، والاثنان يوضحان أهمية هذا الأمر الإلهي أي (العفو).

٥٥٨

العزم لها ، وأيا كان من المعنيين فهو يدل على أهمية هذا العمل.

والملفت للنظر ذكر (الصبر) قبل (الغفران) ، لأنّه مع عدم وجود الصبر لا يمكن أن يحصل العفو والغفران ، حيث يفقد الإنسان السيطرة على نفسه ويحاول الانتقام مهما كان.

ومرة اخرى نذكّر بهذه الحقيقة ، وهي أن العفو والغفران مطلوبان في حال القوة والاقتدار ، وأن يستفيد الطرف المقابل من ذلك بأفضل شكل أيضا ، وقد تكون عبارة «من عزم الأمور» لتأكيد هذا المعنى أيضا ، لأنّ التصميم بخصوص شيء معين يحدث عند ما يكون الإنسان قادر على إنجاز ذلك الشيء ، على أية حال فإن العفو الذي يكون مفروضا من قبل الظالم ، أو يشجعه في عمله ويجرئه على ذلك ، غير مطلوب.

بعض الرّوايات فسّرت الآيات أعلاه بثورة الإمام المهدي (عج) وانتقامه وانتصاره على الظالمين والمفسدين في الأرض. وكما قلنا عدّة مرات سابقا فإن مثل هذه التفاسير من قبيل بيان المصداق الواضح ولا تمنع من عمومية مفهوم الآية وشموليته(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، المجلد الرابع ، ص ٥٨٥.

٥٥٩

الآيات

( وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) )

التّفسير

هل من سبيل للرجعة؟

الآيات السابقة كانت تتحدث عن الظالمين ، أمّا الآيات التي نبحثها فتشير إلى عاقبة هذه المجموعة وجوانب من عقابها.

فهي تعتبرهم من الضالين الذين لا يملكون أي ولي ، فتقول :( وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ ) .

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607