الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 176120 / تحميل: 5905
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

هم الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، فبهم يتقرّب ويتوسل إلى اللَّه عزّ وجلّ، وبمودّتهم وولايتهم تقبل الطاعات، ومحبّتهم ركن ركين في الدين لا يعرض عنه إلّا كافر أو مشرك، ومن هنا جعل النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عدل الرسالة وأجرها المودّةَ في القربى كما في قوله تعالى: ( قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (1) .

ومن ذلك كلّه يتضح أن من تمام الحجّ وسائر العبادات لقاء الإمام وإظهار المودّة والنصرة والتولّي له، وإلّا فلا حجّ ولا طواف ولا صلاة مقبولة عند اللَّه تعالى، فالتوحيد في العبادة هو الإقرار بولاية أهل البيت عليهم‌السلام .

ومن هنا أيضاً يتضح المراد من قول الإمام الباقر عليه‌السلام : (تمام الحجّ لقاء الإمام) (2) .

وكذا قول الإمام الصادق عليه‌السلام : (ابدؤوا بمكّة واختموا بنا) (3) .

وقول الإمام الباقر عليه‌السلام : (إنما أمروا أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها، ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم) (4) .

وكذا قال عندما رأى الناس يحجّون بمكّة: (فعال كفعال الجاهلية، أمَا واللَّه ما أمروا بهذا، وما أمروا إلّا أن يقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم فيمرّوا بنا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم) (5) .

____________________

(1) الشورى: 23.

(2) الكليني، الكافي، ج4، ص549.

(3) المصدر، ص550.

(4) المصدر، ص549.

(5) المصدر، ج1، ص392.

١٠١

6 - الولاية من شرائط المغفرة:

قال تعالى: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) (1) ، فلا تحصل المغفرة ولا التوبة ولا الإيمان ولا يقبل العمل الصالح إلّا بشرط الهداية، والمراد من الهداية في هذه الآية المباركة مقام الإمامة؛ لأنها تعني الإيصال إلى المطلوب، وهي مرحلة بعد مقام النبوّة الذي هو إراءة الطريق فقط. فإن مجرّد إراءة الطريق شأن النبيّ والرسول، قال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) (2) .

وأمَّا مقام الإمامة، فنجد أن القرآن الكريم كلّما تعرّض إليه تعرض معه لذكر الهداية بياناً وتفسيراً، قال تعالى: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) (3) ، وقال أيضاً عزّ وجلّ: ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (4) ، فوصف اللَّه عزّ وجلّ الإمامة بالهداية وصف بيان وتعريف وتفسير، هذا في إمامة الحقّ.

كذلك في إمامة الباطل والكفر، فإن فرعون الذي هو من أئمة الكفر قال تعالى في حقّه: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) (5) ، فإمامة الكفر أيضاً فيها هداية وإيصال، ولكن إلى الضلال وخلاف المقصود من الكمال الإنساني؛ ولذا

____________________

(1) طه: 82.

(2) إبراهيم: 4.

(3) الأنبياء: 72 - 73.

(4) السجدة: 24.

(5) القصص: 41.

١٠٢

قال تعالى: ( وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ) (1) ، فإمامة الحقّ هي الهداية والإيصال إلى المطلوب وولاية على الناس في أعمالهم بأمر ملكوتي من اللَّه عزّ وجلّ كما يستفاد من قوله تعالى: ( يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ، وإمامة الباطل أيضاً هداية وإيصال، ولكن إلى الضلال وخلاف المقصود.

والحاصل: أن مقام الهداية الإلهية الحقّة - بقول مطلق - يساوق مقام الإمامة والخلافة الربّانية؛ وهذا يعني أن هناك مقاماً ثالثاً غير الشهادة الأولى والشهادة الثانية لابدّ أن يعتقد به المسلم لكي يكون مهتدياً مؤمناً، فقوله تعالى: ( آمَنَ ) إشارة إلى الشهادة الأولى والثانية، وقوله: ( وَعَمِلَ صَالِحًا ) إشارة إلى الإيمان والعمل بالشريعة الذي هو مقام النبوّة، وقوله: ( ثُمَّ اهْتَدَى ) إشارة إلى ذلك المقام الثالث والشهادة الثالثة؛ وهي الولاية والإمامة.

سورة الحمد وإمامة أهل البيت عليهم‌السلام :

وإذا لم يعتقد بها الشخص ولم يجعلها واسطة بينه وبين ربّه لا يتحقّق منه الإيمان ولا العمل الصالح، فولاية وإمامة أهل البيت عليهم‌السلام واسطة ووسيلة يتوسَّل بها العبد إلى اللَّه عزّ وجلّ لقبول عقيدته وعبادته، وهذا ما صرّحت به سورة الحمد، التي يقرؤها المسلم في اليوم والليلة عشر مرّات على أقل تقدير.

فإن سورة الحمد تعرّضت للشهادة الأولى والشهادة الثانية والشهادة الثالثة،

____________________

(1) طه: 79.

١٠٣

فقوله تعالى: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) (1) إشارة إلى الشهادة الأولى، وهي كلمة (لا إله إلّا اللَّه)، وقوله تعالى: ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) (2) إشارة إلى أصل المعاد، الذي هو من أصول الدين، وقوله تعالى: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) (3) إشارة إلى مقام التشريع والنبوّة؛ لأن العبادة لا تتحقّق إلّا بالسير على خطى النبوّة والرسالة، وقوله تعالى: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) (4) إشارة إلى مقام الإمامة في الأمة، فهناك مجموعة في الأمة الإسلامية ندعو اللَّه عزّ وجلّ في اليوم والليلة أن يهدينا صراطهم المستقيم، المنزّه عن الغضب في العمل وعن الضلال في العلم؛ أي صراط المعصومين علماً وعملاً، وهؤلاء الهداة الهادون إلى الصراط المستقيم وصفهم اللَّه تعالى بثلاثة نعوت:

الأول: أنهم منْعَم عليهم بنعمة خاصّة دون بقية الأمة وسائر البشر، نظير ما أنعم اللَّه على النبيِّين.

الثاني: أنهم لا يغضب اللَّه عليهم قطّ، وإلّا لَمَا كانت لهم صلاحية الهداية لجميع الأمة.

الثالث: أنهم لا يضلّون قط، وإلّا لم يكونوا هداة هادين لكل الأمة.

ولم يحدّثنا القرآن عن ثلّة عن هذه الأمة قد خصصوا بنعمة وحظوة وحبوة

____________________

(1) الحمد: 2 - 3.

(2) الحمد: 4.

(3) الحمد: 5.

(4) الحمد: 6 - 7.

١٠٤

إلهية خاصة دون بقية الأمة إلّا أهل البيت عليهم‌السلام كما في ولاية الفي‏ء في قوله تعالى: ( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (1) ، وكما في ولاية الخمس في قوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (2) ، وكذا التطهير في قوله تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً ) (3) ، والمودّة والولاية في قوله تعالى: ( قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (4) وقوله تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (5) ، وعلم الكتاب في قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) (6) وغيرها من الآيات المخصِّصة

لهم عليهم‌السلام بمقامات دون سائر الأمة إلى يوم القيامة، فلا توجد مجموعة في الأمة الإسلامية معصومة عن الغضب والضلال سوى أهل البيت عليهم‌السلام ، الذين أنعم اللَّه عزّ وجلّ عليهم بالطهارة من الرجس والغواية في العلم والعمل كما قال تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً ) (7) .

ويتحصّل من ذلك: أن سورة الحمد اشتملت على أصول الدين من التوحيد والمعاد والنبوّة والإمامة، وقارئ الحمد يطلب من اللَّه تعالى الهداية إلى الصراط

____________________

(1) سورة الحشر: 7.

(2) سورة الأنفال: 41.

(3) سورة الأحزاب: 33.

(4) سورة الشورى: 23.

(5) سورة المائدة: 55.

(6) سورة الواقعة: 77 - 79.

(7) الأحزاب: 33.

١٠٥

المستقيم، وأن يجعل له هداة وأئمة يهتدي بهم، وهذا يعني أن ضمّ الشهادة الثالثة بالإمامة إلى الشهادة الثانية بالرسالة والنبوّة للنبيّ

الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يوجب الخروج عن الشرك وقبول الإيمان والعبادة.

ومن ذلك كلّه يتضح المراد من قول الإمام الباقر عليه‌السلام لسدير وهو مستقبل البيت: (يا سدير، إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا، وهو قول اللَّه: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) (1) - ثم أومأ إلى صدره - إلى ولايتنا) (2) .

إذن تمام الحجّ وسائر العبادات بالهداية إلى ولاية أهل البيت عليهم‌السلام والتوسّل والتوجّه بهم إلى اللَّه عزّ وجل.

7 - الوفود على ولي اللَّه من شرائط الحجّ:

قال تعالى: ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود × وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) (3) .

فهذه الآية المباركة تنصّ على أن اللَّه عزّ وجلّ جعل مكان البيت مبوّءاً وسكناً لإبراهيم عليه‌السلام ، وأن إبراهيم عليه‌السلام هو المتكلّم الأوّل والناطق الرسمي عن اللَّه تعالى في الندبة إلى الحجّ، فهو يأمر الناس بحجّ بيت اللَّه الحرام كما نصّت على ذلك روايات الفريقين.

____________________

(1) طه: 82.

(2) أصول الكافي، ج 1، ص 393.

(3) الحج: 26 - 27.

١٠٦

ثم إن التعبير الآخر في الآية المباركة بعد الأذان في الناس بالحجّ ( يَأْتُوكَ رِجَالاً ) ، فالمجي‏ء ليس إلى البيت ولا إلى اللَّه عزّ وجلّ مباشرة، بل المجي‏ء أوّلاً إلى إبراهيم عليه‌السلام .

فالإتيان إلى الحجّ تلبية وإجابة للنداء الإلهي إنما يتمّ بالوفادة على وليّ اللَّه، ويكون الحجّ الذي هو القصد إلى اللَّه عزّ وجلّ بواسطة الإتيان إلى إبراهيم عليه‌السلام ، الذي هو وجيه عند اللَّه تعالى يتوجّه إليه ويُقصد لإقامة الصلاة والطواف وسائر مناسك الحجّ العبادية، فلابدّ من الوفود على إبراهيم عليه‌السلام ومحبّته وهويّ الأفئدة إليه.

وهذه الآية المباركة تتوافق في المضمون مع ما تقدّم من قوله تعالى: ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الُْمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) (1) ، فإبراهيم عليه‌السلام وذرّيته أسكنهم اللَّه عزّ وجلّ البيت الحرام وبوّأهم فيه لإقامة الصلاة وتشييد الدين وتطهير البيت للطائفين والقائمين والرّكع السجود، والإيذان في الناس بالحجّ، ولكن لا قيمة للحجّ ولا مقبولية عند اللَّه عزّ وجلّ إلّا بالمجي‏ء إلى إبراهيم عليه‌السلام وذريّته من ولد إسماعيل عليه‌السلام ، وهويّ القلوب والأفئدة إليهم ومحبّتهم ومودّتهم وتولّيهم وإبراز الطاعة لهم وجعلهم واسطة في القصد إلى اللَّه تعالى.

فتبويء اللَّه عزّ وجلّ لإبراهيم البيت، وإسكان إبراهيم ذريَّته فيه من أجل الوفود عليهم ومودّتهم، هو الذي جعل من البيت الحرام مكاناً ومقصداً لإقامة العبادة فيه، والأحجار بما هي أحجار لولا ذلك تكون وثناً يعبد من دون اللَّه

____________________

(1) إبراهيم: 37.

١٠٧

عزّ وجلّ كما كان الحجّ في الجاهلية. ولذا ورد أن من المستحبّات عند الدخول إلى البيت الحرام إلقاء التحيّة والسلام على سيّد الأنبياء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم السلام على النبيّ إبراهيم عليه‌السلام (1) .

فعن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام قال: (فإذا انتهيت إلى باب المسجد فقم وقل: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، بسم اللَّه وباللَّه ومن اللَّه وما شاء اللَّه، والسلام على أنبياء اللَّه ورسله والسلام على رسول اللَّه، والسلام على إبراهيم والحمد للَّه رب العالمين) (2) .

فالمجي‏ء إلى النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم إلى إبراهيم عليه‌السلام مجي‏ء وإتيان وقصد إلى اللَّه عزّ وجل، وكذا أهل البيت عليهم‌السلام ؛ لأنهم الذريّة والأمة المسلمة الذين دعا إبراهيم والنبيّ الأكرم إلى مودّتهم ومحبّتهم.

إذن، الأنبياء والأوصياء هم أبواب اللَّه التي يتّجه إلى اللَّه تعالى بها، ولولا ذلك لا يكون الحجّ حجّاً إبراهيمياً، بل حجّ الجاهلية.

8 - الأنبياء مصدر البركة:

قال تعالى حكاية عن قول عيسى عليه‌السلام : ( وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاة وَالزَّكَوةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ) (3) .

وهذا يعني أن عيسى عليه‌السلام جعله اللَّه عزّ وجلّ مصدر البركة والتبرّك أين ما حل؛ ولذا كان ببركته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن اللَّه تعالى، فهو

____________________

(1) ابن حمزة، الوسيلة، ص172.

(2) الصدوق، المقنع، ص255.

(3) مريم: 31.

١٠٨

وجيه وواسطة في قضاء الحوائج في كلّ مكان حلّ فيه، فما بالك بخاتم الأنبياء عليه‌السلام وأهل بيته الأطهار ومَن يصلّي عيسى خلفه عند نزوله ويكون وزيراً له؟!

وكذا ورد في الآيات المباركة أن الماء مصدر البركة والخيرات كما في قوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ) (1) ، فإذا كان اللَّه تعالى ببركة الماء المنزل من السماء ينبت الجنان ويحيي الأرض بعد موتها، فكيف بك بأنبياء اللَّه ورسله وخلفائه الأوصياء؟!

9 - البقعة المباركة:

وهي الطائفة من الروايات التي تعرّضت لذكر البقعة المقدّسة والمباركة التي كلّم اللَّه عزّ وجلّ فيها موسى عليه‌السلام كقوله تعالى: ( وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَ نَارًا فَقَالَ ِلأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّى آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِىَ يَا مُوسَى * إِنِّى أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (2) ، وقوله تعالى: ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (3) ، وكذا قوله تعالى: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ) (4) .

____________________

(1) ق: 9.

(2) طه: 9 - 12.

(3) النازعات: 15 - 16.

(4) مريم: 51 - 52.

١٠٩

وقوله عزّ وجلّ: ( فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ ِلأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِي‏ءِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (1) .

وقد أقسم اللَّه عزّ وجلّ بهذه البقعة المباركة لعظمتها، بالإضافة إلى بقع ثلاث أخرى، وذلك في قوله تعالى: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) (2) ، وهذا قسم من اللَّه عزّ وجلّ ببلد التين، وهو المدينة، وبلد الزيتون وهو بيت المقدس، وطور سينين الكوفة، والبلد الأمين، وهو مكّة، كما ورد ذلك عن الإمام الكاظم عليه‌السلام ؛ حيث قال: (واختار من البلدان أربعة؛ فقال عزّ وجلّ: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) فالتين المدينة، والزيتون بيت المقدس، وطور سنين الكوفة، وهذا البلد الأمين مكّة) (3) .

هذا من طرقنا.

وكذلك من طرق السنّة، ولكن بتفسير التين بالبيت الحرام، وتفسير الطور بأنه الجبل الذي كلّم اللَّه عزّ وجلّ فيه موسى عليه‌السلام (4) ، ولا تنافي في ذلك إذ لعلّ ذلك هو الوادي المقدّس بين جبل طور والكوفة كما ذكر ذلك بعض المفسّرين.

____________________

(1) القصص:29 - 30.

(2) التين: 1 - 3.

(3) الصدوق، الخصال، ص225، والنيسابوري، روضة الواعظين، ص405.

(4) ابن الجوزي، زاد المسير، ج8، ص275.

١١٠

وقد ورد في الحديث أن محلّ قبر أمير المؤمنين عليه‌السلام أوّل طور سيناء. عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال: (كان في وصيّة أمير المؤمنين عليه‌السلام : أن أخرجوني إلى الظهر [أي ظهر الكوفة]، فإذا تصوّبتْ أقدامكم واستقبلتكم ريح، فادفنوني؛ وهو أوّل طور سيناء. ففعلوا ذلك) (1) .

والحاصل: إن القرآن يؤكّد أن هناك بقعة مقدّسة مباركة، فيها هبطت الملائكة بالوحي على موسى عليه‌السلام ، ولابدّ أن تقدّس وتُعظّم ويُتقرّب فيها إلى اللَّه عزّ وجلّ ويكلّم اللَّه تعالى فيها الأنبياء.

قال القرطبي في تفسيره قوله تعالى ( إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (2) :

(المقدّس: المطهّر، والقدس: الطهارة، والأرض المقدّسة أي المطهّرة) إلى أن قال: (وقد جعل اللَّه تعالى لبعض الأماكن زيادة فضل على بعض، كما قد جعل لبعض الأزمان زيادة فضل على بعض) (3) .

وهذا يعني أن هناك أماكن مقدّسة فيها ينزل الوحي وتفتح أبواب السماء، وفيها يزداد الأجر ويقبل الدعاء ويتوجّه إلى اللَّه عزّ وجل.

10 - وجوب تعظيم الأنوار الإلهيّة:

خلقة الأنوار الخمسة لأصحاب الكساء في سورة النور؛ قال تعالى: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا

____________________

(1) تهذيب الأحكام، ج 6، ص 34.

(2) طه: 12.

(3) تفسير القرطبي، ج11، ص175.

١١١

شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِي‏ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) (1) .

إن هذه الآية المباركة تنصّ على وجود بيوت خاصّة أذن اللَّه أن ترفع وتعظّم ويذكر فيها اسمه، وفي تلك البيوت يسبّح للَّه عزّ وجلّ وتقبل العبادة ويسمع الذكر، وتحت قبّتها يرفع الدعاء وتفتّح أبواب السماء وتحصل القربة إلى اللَّه تعالى، فهي بيوت مباركة ومقدّسة جعلها اللَّه تبارك وتعالى وسيلة وواسطة ومحلّاً لقبول العبادة والذكر والتسبيح آناء الليل وأطراف النهار.

ومن الجدير بالذكر أن تلك البيوت بيوتاً خاصّة، وهي مهبط الوحي والقداسة والطهارة. والشاهد على ذلك أن الجار والمجرور في قوله تعالى: ( فِي بُيُوتٍ ) متعلّق بذلك النور الذي ضربه اللَّه عزّ وجلّ مثلاً للناس، فالنور في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، وقد ذكرت الآية المباركة أن هذا النور نور السماوات والأرض، أي محيط بهما ومهيمن عليهما وأشرف منهما في الخلقة والرتبة الوجودية.

ثمّ إن ذلك النور مخلوق من مخلوقات اللَّه تعالى، أُضيف إليه عزّ وجلّ في الآية إضافة الفعل إلى فاعله، وهو عبارة عن أنوار خمسة شامخة، ضرب اللَّه تعالى لكلّ واحد منها مثلاً حسّياً لتقريب الفكرة وتنزيل الحقيقة إلى رقيقة

____________________

(1) النور: 35 -37.

١١٢

يفهمها البشر، وليس هذا النور عين الذات الإلهية؛ لأنها أحدية المعنى لا تعدّد ولا تكثّر فيها، والنور المذكور في الآية المباركة متعدّد منشعب إلى خمسة أنوار، مستقل بعضها عن البعض الآخر.

والأنوار الخمسة التي ضُربت مثلاً هي:

أولاً: المشكاة.

ثانياً: المصباح.

ثالثاً: الزجاجة.

رابعاً: الكوكب الدُّرِّي

خامساً: الشجرة المباركة.

ثم تقول الآية الكريمة بعد ذلك: ( نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) .

وفي اللغة العربية يقول علماء البلاغة: كل تشبيه جملة مستقلة برأسها، وتفيد معنىً ومغزىً مستقلاً، فالآية بصدد التعرض إلى خلقة النور، وأن أحد مراحل الخلقة الإلهية هي المخلوقات النورية، وهي أنوار خمسة، تعظم في الخلقة الملائكةَ والروح والجنّ والإنس ومطلق الموجودات الأخرى، وهي أنوار مشتقّ بعضها من بعض، ومرتبط بعضها بالبعض الآخر كما هو ظاهر الآية المباركة.

وهذه الأنوار المباركة المحيطة بالسماوات والأرض، هي الأسماء والكلمات التي لم تعلم بها الملائكة، مع أن الملائكة ملأت أركان السماوات والأرض؛ لأنها هي التي تدبّرها وتدير شؤونها، وهو المشار إليه في تعليم آدم الأسماء وعرض اللَّه تعالى لها على الملائكة، فلم يعلموا بها، فأنبأهم آدم بها،

١١٣

ووصفها اللَّه بأنها غيب السماوات والأرض (1) ، وكما ورد هذا المعنى في روايات الفريقين (2) .

ولو كانت تلك الأسماء من عالم السماء والأرض، لعلمت بها الملائكة، ومن ذلك يعلم أن الأسماء التي علّمها اللَّه عزّ وجلّ آدم وجهلتها الملائكة، كانت مخلوقات محيطة بعالم السماوات والأرض.

وهذا نوع من أنواع التشاهد بين الآيات القرآنية، فالأنوار الخمسة المذكورة في سورة النور هي الأسماء التي خفيت عن الملائكة وعلّمها اللَّه تعالى آدم، وهي كما سيأتي موجودات حيّة عاقلة شاعرة من عالم النور كما عبّر عنها في سورة البقرة بضمير (هم) واسم الإشارة (هؤلاء)، وهما لفظتان لا تستعملان في الذوات الجامدة، بل في الذوات الحيّة الشاعرة العاقلة.

ويتحصّل من ذلك وجود مخلوقات خمسة نورية محيطة بالسماوات والأرض، أفضل من الملائكة ولا تحيط الملائكة بها علماً، بل إن اللَّه تعالى شرّف آدم على جميع مخلوقاته، بما فيهم المقرّبين من كبار الملائكة، كجبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل بفضل تلك الأنوار، وبفضلها أيضاً استحقّ مقام الخلافة الإلهية، وسجد له الملائكة كلّهم أجمعون.

ومن ذلك يتضح أن هذه الأنوار الخمسة هي باطن (غيب) وملكوت السماوات والأرض؛ لأن نور كلّ شي‏ء بمنزلة الروح له، ومن دونه يكون ظلمانياً، والنور في المقام ليس هو النور الحسّي الذي يظهر الصفات العارضة

____________________

(1) سورة البقرة: 31 - 33.

(2) بصائر الدرجات، ص89، الطبراني، المعجم الأوسط، ج4، ص44.

١١٤

على الشي‏ء، بل هو نور الخلقة الذي يوجد الشي‏ء ويكوّنه ويظهره من كتم العدم إلى الوجود، فنور السماوات والأرض أي ملكوتهما وباطنهما ومظهرهما من ظلمة العدم إلى نور الوجود، وهو اسم اللَّه الأعظم الذي هو غير المسمّى، يفوق في القدرة والعظمة كافّة المخلوقات في السماوات والأرض.

وسيأتي أن تلك الأنوار الخمسة المباركة - وهي الأسماء التي علّمها اللَّه تعالى آدم وتاب بفضلها عليه من خطيئته، وابتلى بها إبراهيم لنيل مقام الإمامة - هم خمسة أصحاب الكساء وأهل آية المباهلة: محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، فهم أهل البيت، وهم النور الإلهي الذي حلّ في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، لتكون محلّاً للذكر والتسبيح والعبادة والتوجّه إلى اللَّه عزّ وجلّ وتشييد معالم الدين.

ولذا أخرج السيوطي في الدرّ المنثور عن ابن مردويه عن أنس ابن مالك وبريدة، قال: قرأ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الآية ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول اللَّه؟ قال: (بيوت الأنبياء)، فقام إليه أبو بكر، فقال: يا رسول اللَّه، هذا البيت منها؟ وأشار إلى بيت عليّ وفاطمة عليهم‌السلام ، قال: (نعم، من أفاضلها) (1) .

وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه‌السلام عن قول اللَّه عزّ وجلّ: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) قال: (هي بيوت النبي صلَّى الله عليه وآله) (2) .

كذلك عن جابر عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، في قوله: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ

____________________

(1) الدرّ المنثور، ج 5، ص50.

(2) الكافي، ج8، ص331، ح510.

١١٥

تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) قال: (هي بيوت الأنبياء، وبيت علي منها) (1) .

وقد تقدّم رواية الحاكم في المستدرك أن من الكلمات التي تاب اللَّه بها على آدم (وهي الأسماء التي شُرّف آدم بها على الملائكة كخليفة، لأن الكلمات أعظم مقاماً من آدم إذ بها تاب اللَّه عليه)، أن من أعظم تلك الكلمات والأسماء هو خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد ورد في المستدرك أنه لولاه لَمَا خلق آدم ولا الجنة ولا النار (2) ويتشاهد هذان الحديثان النبويان على أن أوّل الأنوار الخمسة والأسماء التي تعلّمها آدم وتوسّل بها هو خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله .

هذا بالنسبة إلى الأنوار الخمسة المباركة.

الأئمة التسعة من ولد الحسين عليه‌السلام في آية النور:

وأمَّا قوله تعالى: ( نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) ، فهو إشارة إلى استمرار وديمومة قانون الإمامة والخلافة الإلهية بعد تلك الأنوار الخمسة إلى يوم القيامة، نور على نور يهدي اللَّه لنوره من يشاء، و(على)؛ أي على إثر وعقب، لغة في أحد المعاني المستعملة في لفظ (على) بالتضمين لمعنى الإثر؛ والشاهد على ذلك ما تقدّم من أن الهداية هي الإيصال إلى المطلوب، وقد جاء ذكر الهداية تفسيراً وبياناً لمقام الإمامة والولاية كما في قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ، فالتعبير بالهداية في الآية المباركة يراد منه الإمامة، وهو مقتضى معنى النور أيضاً؛ إذ هو الهادي إلى صراط اللَّه تعالى.

____________________

(1) تفسير القمي: ج2 ص79.

(2) المستدرك، ج 2، ص 671 و 672

١١٦

ولذا ورد عن الإمام محمّد بن علي بن الحسين عليه‌السلام في قوله تعالى ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) قال: (يعني إماماً مؤيّداً بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك من لدن آدم إلى يوم القيامة) (1) .

وعن الفضيل بن يسار عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه‌السلام ، قال: قلت ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) ؟ قال: (الإمام في إثر الإمام) (2) .

وورد أيضاً عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام في قوله تعالى ( يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) قال: (يهدي لولايتنا من أحبّ) (3) .

بيان آخر للآية المباركة:

هناك بيان آخر للآية الكريمة التي نحن بصدد الاستدلال بها، أدقّ وأعمق وأدلّ على المطلوب من البيان الأول؛ وهو:

بعد أن تبيّن أن قوله تعالى: ( فِي بُيُوتٍ ) متعلّق بالنور، وأن النور في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، نقول:

إن الآية الثالثة التي ذكرناها في المقام، وهو قوله تعالى: ( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) ، هذه الجملة من المبتدأ والخبر كلّها بدل من قوله تعالى ذكره: ( فِي بُيُوتٍ ) ، أي أنها في محلّ جرّ بدل من البيوت؛ ويكون المعنى على ذلك: أن البيوت رجال لا تلهيهم تجارة، وليست هي

____________________

(1) توحيد الصدوق، ص158، ح4.

(2) المصدر، ص157، ح3.

(3) مناقب ابن المغازلي، ص263، ح361.

١١٧

بيوت حجارة، ولا طين.

والشواهد على ذلك من نفس الآيات المباركة كثيرة نشير إلى بعضها:

أ - قوله تعالى: ( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ ) ليس فاعلاً لقوله عزّ وجل: ( يُسَبِّحُ ) ؛ وذلك طبقاً لقراءة أهل البيت عليه‌السلام ، حيث إن قراءتهم لكلمة يسبَّح (بفتح الباء) مبني للمجهول، وبناءً على هذا لا تكون كلمة ( رِجَالٌ ) فاعلاً لـ (يسبَّح) وإنما تكون مبتدءاً والجملة التي بعدها خبر، والجملة بتمامها عطف بدل على بيوت، فالبيوت هي رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع، وإلى ذلك يشير قول الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه‌السلام إلى قتادة البصري(فقيه أهل البصرة) عندما سأله قائلاً:

(أصلحك اللَّه، واللَّه لقد جلست بين يدي الفقهاء، وقدّام ابن عبَّاس، فما اضطرب قلبي قدّام واحدٍ منهم ما اضطرب قدّامك؟

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : (ويحك أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي ( بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ ) فأنت ثَمَّ، ونحن أولئك)، فقال له قتادة: صدقت واللَّه، جعلني اللَّه فداك، واللَّه ما هي بيوت حجارة ولا طين) (1) .

وكذلك ما ورد عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه‌السلام ؛ حيث قال: (إنّه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردى، وصل اللَّه طاعة وليّ أمره بطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وطاعة رسوله بطاعته، فمَن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع اللَّه ولا رسوله، وهو الإقرار بما نزل من عند اللَّه: ( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) والتمسوا البيوت التي أذن اللَّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فإنه أخبركم أنهم

____________________

(1) الكافي، ج6، ص256، ح1.

١١٨

( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) (1) .

ثم إن تلك القراءة بفتح الباء في (يسبَّح) قرأ بها أيضاً ابن عامر وأبو بكر وابن شاهي عن حفص (2) .

إذن، يتحصّل أن النور في بيوت هي رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع.

أهل البيت عليهم‌السلام معصومون بأعالي درجات العصمة:

ب - قوله عزّ وجل: ( لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ ) . فإن هذا المقطع من الآية المباركة يشير إلى أن هؤلاء الرجال معصومون بأعلى درجات العصمة، وهي عصمة السرّ التي هي فوق عصمة الجوارح؛ إذ لا يلهون برهة من حياتهم عن ذكر اللَّه، فهم في ذكر دائم، وهذا يعني أن أولئك الرجال ثلّة خاصة في الأمة الإسلامية يتميّزون عن بقيّة المسلمين وأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذين انفضّ أكثرهم من حوله وتركوه قائماً عندما سمعوا بالتجارة كما نصّت على هذه الحادثة سورة الجمعة؛ وذلك في قوله تعالى: ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (3) .

ففي الروايات لم يبقَ مع النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا اثني عشر أو ثمانية رجال،

____________________

(1) الكافي، ج1، ص182، ح6.

(2) الطوسي، لاحظ التبيان، ج7، ص439، وابن الجوزي، زاد المسير، ج5، ص364.

(3) الجمعة: 11.

١١٩

وانفضّ الباقون إلى اللّهو والتجارة (1) .

وفي بعض الروايات لم يبقَ إلّا علي عليه‌السلام (2) .

ولا شك أنه لا يوجد ثلّة معصومة في هذه الأمة غير أهل آية التطهير، الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فنالوا بذلك أعلى درجات العصمة والطهارة.

وهذا يعني أن تلك الأنوار الخمسة المباركة في بيوت وأبدان طاهرة، وهم رجال معصومون من الغفلة عن ذكر اللَّه عزّ وجل، يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.

وتلك البيوت والرجال أذن اللَّه أن يرفع ذكرهم، كما قال اللَّه تعالى لنبيّه: ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) ، ولا شك أن معنى ذلك هو وجوب التعظيم والطاعة لهم والانقياد لولايتهم والتوجّه بهم إلى اللَّه تعالى في العبادة، كما أمر اللَّه عزّ وجلّ الملائكة بالخضوع والسجود لآدم وجعل الخضوع واسطة للانقياد إلى الأوامر الإلهية.

إذن، لا يقبل اللَّه عزّ وجلّ من العباد الطاعة، إلّا برفع تلك البيوت وتعظيم أولئك الرجال، والإتيان بالطاعات امتثالاً لأمر اللَّه وأمر رسوله وأمر أُولي الأمر من هذه الأمة.

قال تعالى: ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ

____________________

(1) لاحظ: الطبري، جامع البيان، ج28، ص132.

(2) شرف الدين، تأويل الآيات، ج2، ص693.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

وقد سمح له الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمبيت ليلا في المسجد ، لأنّه لا يملك مكانا للاستراحة والسكن ، وعند ما كثر عدد الغرباء ـ وكلهم سكن المسجد ـ أدى ذلك إلى وضع سلبي للمسجد ، أمر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإخراجهم من المسجد وتطهيره ، وأغلقت أبواب بيوت الصحابة التي كانت شارعة إلى المسجد بأمر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما عدا بيت علي وفاطمةعليهما‌السلام .

عندها أمر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتسقيف مكان معين بسعف النخل ليكون محلا لسكن الغرباء والفقراء ، وكان بنفسه يزورهم ويعطيهم الماء والتمر والخبز والمواد الغذائية الأخرى ، وقام باقي المسلمين بالاهتمام بهم ومساعدتهم عن طريق الزكاة وأنواع الإنفاق الأخرى.

وقد اشترك هؤلاء في المعارك الإسلامية وجاهدوا بإخلاص ، وقد وردت بعض الآيات القرآنية لتذكر فضلهم وصفاءهم وطهرهم ، وقد سمّوا (بأصحاب الصفّة) لأنّهم سكنوا تلك (الصفّة).

* * *

٥٤١

الآيات

( وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) )

التّفسير

هبوب الرياح المنتظمة وحركة السفنعليهم‌السلام

مرّة اخرى نشاهد أنّ هذه الآيات تقوم بتبيان علائم الخالق وأدلة التوحيد ، وتستمر في البحث الذي أشارت إليه الآيات السابقة بهذا الخصوص.

وهنا تذكر موضوعا يتعامل معه الإنسان كثيرا في حياته المادية ، خصوصا المسافرين عبر البحار وسكان السواحل ، حيث تقول الآية :( وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ ) .

«جوار» جمع (جارية) وهي صفة للسفن حيث لم تذكر للاختصار ، وعادة فإن

٥٤٢

الآية تقصد حركة السفن ، ولذا فقد استخدمت هذه الصفة.

ويقال للبنت الشابة «جارية» لأن الشباب والنشاط يجري في عروقها ووجودها.

«أعلام» جمع (علم) على وزن (قلم) وتعني الجبل ، إلّا أنّها في الأصل بمعنى العلامة والأثر الباقي الذي يخبر عن شيء معين ، مثل (علم الطريق) و (علم الجيش) وما شابه.

أمّا لماذا سمّي الجبل بالعلم؟ فذلك لأنّه ظاهر من بعيد ، وأحيانا كانوا يشعلون النّار فوق قمته حتى تكون منارا للسائرين ، إلّا أنّ وجود النّار وعدمها لا يؤثر في التسمية.

وعلى هذا الأساس فإنّ القرآن يعتبر حركة السفن العملاقة في هذه الآية ـ كما في الآيات المتعددة الأخرى ـ بسبب هبوب الرياح المنتظمة ، من آيات الخالق.

فليس مهمّا حركة السفينة الصغيرة أو الزوارق على سطح الماء بسبب هبوب الرياح ، المهم حركة السفن والبواخر العملاقة بحمولتها الكبيرة ومسافريها المتعددين عند هبوب الرياح ، فتقطع آلاف الأميال وتصل إلى مرساها.

فمن الذي خلق هذه المحيطات بخصوصياتها ومياهها وعمقها؟ من أعطى للخشب الذي تصنع منه السفن خاصية الطفو على سطح الماء؟

ومن يأمر الرياح بالهبوب بشكل منظم على سطح البحار والمحيطات كي يستطيع الإنسان أن يصل من نقطة إلى اخرى بالاستفادة من هذه الرياح؟

نعم ، فلو أخذنا بعين الإعتبار الخرائط التي يملكها البحارة بخصوص حركة الرياح ، والمعلومات التي يملكها البشر حول هبوب الرياح من القطبين نحو خط الإستواء ومن خط الإستواء إلى القطبين ، وأيضا هبوب الرياح المتناوبة من السواحل واليابسة نحو البحار وبالعكس ، عندها سندرك أن هذا الأمر مخطط وله

٥٤٣

نظام.

في زماننا ، تقوم المحركات الضخمة بتحريك السفن ودفعها إلى الأمام ، إلّا أنّ الرياح تبقى مؤثرة أيضا في حركة هذه السفن.

وللتأكيد أكثر تقول الآية :( إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ ) .

وكاستنتاج تضيف الآية في نهايتها :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) .

نعم ، فهبوب الرياح ، وحركة السفن ، وخلق البحار ، والنظام الخاص المتناسق الذي يتحكم بهذه الأمور كلّها آيات مختلفة للذات المقدسة.

ونعلم أن هبوب الرياح يتمّ بسبب الاختلاف في درجة الحرارة بين منطقتين على الكرة الأرضية ، لأنّ الهواء يتمدد بسبب الحرارة ويتحرك نحو الأعلى ، ويضغط على الهواء المحيط به ويقوم بتحريكه ، ومن جانب آخر يترك مكانه للهواء المجاور له عند تحركه نحو الطبقات العليا ، فلو سحب الخالق هذه الخاصية (خاصية التمدد) من الهواء ، عندها سيطغى السكون والهدوء القاتل وستقف السفن الشراعية في عرض البحار دون أية حركة.

«صبار» و (شكور) صيغتا مبالغة حيث تعطي الأولى معنى كثرة الصبر ، والثانية كثرة الشكر. وهذان الوصفان الواردان في هذه الآية ـ وفي موارد اخرى(١) ـ يشيران إلى ملاحظات لطيفة.

فهاتان الصفتان توضحان حقيقة الإيمان ، لأن المؤمن صبور في المشاكل والابتلاءات وشكور في النعم ، وقد ورد في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر»(٢) .

إضافة إلى ذلك ، فإنّ البحث في أسرار نظام الخلق يحتاج إلى الصبر والاستمرار وتخصيص الوقت الكافي ، ومن جانب ثان يستحق شكر لمنعم.

__________________

(١) إبراهيم ـ ٥ ، لقمان ـ ٣١ ، سبأ ـ ١٩ ، والآية التي نبحثها.

(٢) تفسير الصافي ، مجمع البيان ، الفخر الرازي ، والقرطبي نهاية الآية (٣١) من سورة لقمان.

٥٤٤

فمتى ما توفر هذان العاملان عندها يكون الإنسان مؤهلا للبحث في هذه الآيات ، وعادة فإنّ البحث في أسرار الخلق يعتبر بحد ذاته نوعا من الشكر.

ومن جانب ثالث ، فإنّ هاتين الصفتين تتجسدان في الإنسان أكثر من أي وقت مضى متى ما ركب في السفينة ، حيث الصبر حيال حوادث ومشاكل البحار ، والشكر عند الوصول إلى الساحل.

مرّة اخرى ، لتجسيد عظمة هذه النعمة الإلهية ، تقول الآية الأخرى :( أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا ) أيّ لو شاء لأباد هذه السفن بسبب الأعمال التي ارتكبها المسافرون.

وكما قرأنا في الآيات الماضية ، فإنّ المصائب التي تصيب الإنسان غالبا ما ما تكون بسبب أعماله.

إلّا أنّه بالرغم من ذلك فإن اللطف الإلهي يشمل الإنسان :( وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ) .

فلو لا عفو الخالق لم يكن لينجو أحد من عذاب الخالق سوى المعصومين والخواص والطاهرين ، كما نقرأ ذلك في الآية (٤٥) من سورة فاطر :( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) .

نعم ، فهو يستطيع أن يمنع الرياح من الهبوب حتى تقف السفن في وسط البحار والمحيطات ، أو يحوّل هذه الرياح إلى عواصف هو جاء تدمر هذه السفن والبواخر ، إلّا أن لطفه العام يمنع هذا العمل.

( وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ) (١) وما لهم من ملجأ سوى ذاته المنزهة.

فهؤلاء سوف لا يشملهم العفو الإلهي ، لأنّهم عارضوه بعلم ووعي ، واستمروا

__________________

(١) جملة( وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ ) كما يقول الزمخشري في كشافه : وردت منصوبة بسبب عطفها على تعليل محذوف وتقديره : لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون فالهدف أن ينتقم الخالق من هذه المجموعة ، والهدف أن يعلم المجادلون بعدم وجود طريق للنجاة.

٥٤٥

في محاربته عن عداوة وعناد ، فهؤلاء سوف لا يشملهم عفوه ورحمته ، ولا خلاص لهم من عذابه.

«محيص» مأخوذة من كلمة (حيص) على وزن (حيف) وتعني الرجوع والعدول عن أمر ما ، وبما أن (محيص) اسم مكان ، لذا وردت هذه الكلمة ، بمعنى محل الهروب أو الملجأ.

والكلام في آخر آية موجّه إلى الجميع حيث تقول :( فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ) .

فلا تتصوروا أنّه سيبقى لكم ، لأنّه كالوميض الذي يبرق ثمّ يخبو ، وكالشمعة في مهبّ الريح والفقاعة على سطح الماء ، ولكن( وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) .

فلو استطعتم أن تستبدلوا هذا المتاع الدنيوي الزائل المحدود التافه بمتاع أبدي خالد ، فتلك هي التجارة المربحة العديمة النظير.

فالمواهب في هذه الدنيا لا تخلو من المشاكل ، حيث توجد الأشواك دائما إلى جانب الورود ، والمحبطات إلى جانب الآمال ، في حين أن الأجر الإلهي لا يحتوي على أي إزعاجات ، بل هو خير خالص ومتكامل.

ومن جانب آخر فإن هذه المواهب مهما كانت فستزول حتما ، إلّا أن الجزاء الأخروي أبدي خالد ، عندها هل يقبل العقل أن يستغني الإنسان عن هذه التجارة المربحة ، أو يصاب بالغرور والغفلة وتبهره زخارف الدنيا؟

لذا فإننا نقرأ في الآية ٣٨ من سورة التوبة :( أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ) .

وأساسا ، فإنّ «الحياة الدنيا» (بالمعنى المتقدم) تشير إلى الحياة الدنية والحقيرة ، وطبيعي أن أي متاع أو وسائل للاستفادة من مثل هذه الحياة ستكون ـ أيضا ـ مثلها في القيمة.

٥٤٦

لذا فقد ورد في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «والله ما الدنيا في الآخرة إلّا مثل أن يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم ، فلينظر بم ترجع؟!»(١) .

والملفت للنظر أنّه ورد في هذه الآية التأكيد على الإيمان والتوكل ، وهذا بسبب أن نيل الأجر الإلهي هو للذين يفوضون أمورهم في جميع الأعمال ويستسلمون له تعالى إضافة إلى الإيمان ، لأن التوكل يعني تفويض الأمور.

وتقابل هذه المجموعة أشخاص يجادلون في آيات الله بسبب حب الدنيا والارتباط بالمتاع الزائل ، ويقلبون الحقائق ، وبهذا الترتيب فإن آخر آية هي بمثابة تعليل للآية التي قبلها ، والتي كانت تتحدث عن الذين يجادلون في آيات الله.

* * *

__________________

(١) روح البيان ، المجلد الثّالث ، ص ٤٢٩ (نهاية الآية ٣٨ من سورة التوبة)

٥٤٧

الآيات

( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) )

التّفسير

المؤمنون لا يستسلمون للظلم :

هذه الآيات استمرار للبحث الوارد في الآيات السابقة بخصوص الأجر الإلهي للمؤمنين المتوكلين.

فبعد ذكر الإيمان والتوكل اللذين لهما طبيعة قلبية ، تشير هذه الآيات إلى سبعة أنواع من البرامج العملية للصفتين السابقتين سواء كانت إيجابية أو سلبية ، فردية أو اجتماعية ، مادية أو معنوية ، وهذه البرامج توضح أسس المجتمع الصالح والحكومة الصالحة القوية.

والملفت للنظر أنّ هذه الآيات نزلت في مكّة ـ كما يظهر ـ وفي ذلك اليوم لم

٥٤٨

يكن قد تأسس المجتمع الإسلامي بعد ، ولم يكن هناك وجود للحكومة الإسلامية ، إلّا أن هذه الآيات أعطت التفكير الإسلامي الصحيح في هذا الخصوص منذ ذلك اليوم ، حيث كان الرّسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلّمهم ويربّيهم لغرض الاستعداد لبناء المجتمع الإسلامي في المستقبل.

فأوّل صفة تبدأ من التطهير حيث تقول الآية أن الثواب الإلهي العظيم سوف يكون من نصيب المؤمنين المتوكلين :( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ ) (١) .

«كبائر» جمع «كبيرة» وتعني الذنوب الكبيرة ، أمّا ما هو المعيار في الكبائر؟

البعض فسّرها بالذنوب التي توعد القرآن في آياته بعذاب النّار لها ، وأحيانا الذنوب التي تستوجب الحدّ الشرعي.

وقد احتمل البعض أنّها إشارة للبدع وإيجاد الشبهات الاعتقادية في أذهان الناس.

ولكننا لو رجعنا إلى المعنى اللغوي كلمة «كبيرة» فإنّها تعني الذنب الذي يكون كبيرا ومهما من وجهة نظر الإسلام ، وأحد علائم أهميته أنّه ورد في القرآن المجيد وتوعد بالعذاب عليه ، وقد ورد تفسير للكبائر في روايات أهل البيتعليهم‌السلام بأنّها : «التي أوجب اللهعزوجل عليها النّار»(٢) .

وعلى هذا الأساس فلو توضحت أهمية وعظمة الذنب بطرق اخرى ، عندها سيشمله عنوان (الكبائر).

«فواحش» جمع «فاحشة» وتعني الأعمال القبيحة للغاية والممقوتة ، وذكر هذه العبارة بعد كلمة (الكبائر) من قبيل ذكر الخاص بعد العام ، وفي الحقيقة فإنّ

__________________

(١) يعتقد غالب المفسّرين أن( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ ) عطف لـ( لِلَّذِينَ آمَنُوا ) في الآية السابقة ، بالرغم من احتمال البعض أنّها مبتدأ خبره محذوف (وفي التقدير والذين يجتنبون لهم مثل ذلك من الثواب) إلّا أن المعنى الأوّل أفضل ظاهرا.

(٢) نور الثقلين ، المجلد الأوّل ، ص ٤٧٣.

٥٤٩

التأكيد على الذنوب القبيحة للغاية بعد ذكر اجتناب المؤمنين الحقيقيين عن جميع الذنوب الكبائر ، للتأكيد على أهمية ذلك.

وعلى هذا الأساس فإنّ أوّل علائم الإيمان والتوكل هو الاجتناب عن (الكبائر) ، فكيف يمكن للإنسان أن يدعي الإيمان والتوكل على الخالق ، في حين أنّه مصاب بأنواع الذنوب وقلبه وكر من أوكار الشيطان؟!

أمّا ثاني صفة ، والتي لها طبيعة تطهيرية أيضا ، فهي السيطرة على النفس عند الغضب الذي يعتبر من أشدّ حالات الإنسان حيث تقول الآية :( وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ) .

فهؤلاء لا يفقدون السيطرة على أنفسهم عند الغضب ولا يرتكبون الجرائم عنده ، والأكثر من ذلك غسل قلوبهم وقلوب الآخرين من الحقد بواسطة مياه العفو والغفران.

وهذه الصفة لا تتوفر إلّا في ظل الإيمان الحقيقي والتوكل على الحق.

والطريف في الأمر أن الآية لا تقول : إنّهم لا يغضبون ، لأنّ الغضب من طبيعة الإنسان ، وهناك ضرورة له في بعض الأحيان خاصة عند ما يكون لله وفي طريق إحقاق الحق ، بل تقول : إنّهم لا يلوثون أنفسهم بالذنب عند الغضب ، وبكل بساطة يعفون ويغفرون ، ويحب أن يكونوا هكذا ، فكيف يمكن للإنسان أن ينتظر العفو الإلهي في حين أن أعماقه مليئة بالحق وحب الانتقام ، ولا يعترف بأي قانون عند الغضب؟ وإذا شاهدنا التأكيد على الغضب هنا ، فذلك لأنّ هذه الحالة كالنار الحارقة التي تلتهب في داخل أعماق الإنسان ، وهناك الكثيرون الذين لا يستطيعون ضبط أنفسهم في تلك الحالة ، إلّا أن المؤمنين الحقيقيين لا يستسلمون أبدا للغضب.

وورد في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «من ملك نفسه إذا رغب ، وإذا رهب ،

٥٥٠

وإذا غضب ، حرم الله جسده على النّار»(١) .

الآية الأخرى تشير إلى الصفة الثّالثة والرّابعة والخامسة والسادسة ، حيث تقول :( وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ ) .

( وَأَقامُوا الصَّلاةَ ) .

( أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ ) (٢) .

( وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) .

فالآية السابقة كانت تتحدث عن تطهير النفس من الذنوب والتغلب على الغضب ، إلّا أنّ الآية التي نبحثها تتحدث عن بناء النفس في المجالات المختلفة ، ومن أهمها إجابة دعوة الخالق ، والتسليم حيال أوامره ، حيث أن الخير كلّ الخير تجسد في هذا الأمر. فهم مستسلمون بكل وجودهم لأوامره ، وليست لهم إرادة إزاء إرادته ، ويجب أن يكونوا هكذا ، لأنّ الاستسلام والاستجابة أمران حتميان بعد تطهير القلب والروح من آثار الذنب الذي يعيق السير نحو الحق.

ونظرا لوجود بعض القضايا المهمّة في التعليمات الإلهية يجب الإشارة إليها بالخصوص ، لذا نرى أن الآية أشارت إلى بعض المواضيع المهمّة وخاصة (الصلاة) التي هي عمود الدين وحلقة الوصول بين المخلوق والخالق ومربية النفوس ، وتعتبر معراج المؤمن وتنهى عن الفحشاء والمنكر.

بعد ذلك تشير الآية إلى أهم قضية اجتماعية وهي «الشورى» فبدونها تعتبر جميع الأعمال ناقصة ، فالإنسان الواحد مهما كان قويا في فكره وبعيدا في نظره ، إلّا أنّه ينظر للقضايا المختلفة من زاوية واحدة أو عدّة زوايا ، وعندها ستختفي عنه الزوايا والأبعاد الأخرى ، إلّا أنّه وعند التشاور حول القضايا المختلفة تقوم العقول

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم ـ طبقا لنقل نور الثقلين ، المجلد الرابع ، ص ٥٨٣.

(٢) يقول بعض المفسّرين أنّه متى ما كانت (شورى) مصدرا وتعني المشاورة يجب أن تضاف لها كلمة (ذو) ويصبح تقدير الجملة (أمرهم ذو شورى بينهم) أو للمبالغة والتأكيد ، لأن ذكر (المصدر) بدلا من (الصفة) يوصل هذا المعنى عادة ، لكن إذا كانت شورى كما يقول الراغب في مفرداته بمعنى (الأمر الذي يتشاور فيه) عندها لا حاجة للتقدير (لاحظ ذلك).

٥٥١

العقول والتجارب المختلفة بمساعدة بعضها البعض ، عند ذلك ستتوضح الأمور وتقل العيوب النواقص ويقل الانحراف.

لذا فقد ورد في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «ما من رجل يشاور أحدا إلّا هدي إلى الرشد».

والملفت للنظر أن العبارة وردت هنا على شكل برنامج مستمر للمؤمنين ، ليس في عمل واحد ومؤقت ، بل يجب أن يكون التشاور في جميع الأعمال.

والطريف في الأمر أن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أيضا يتشاور مع أتباعه وأنصاره في القضايا الاجتماعية المهمّة والتنفيذية والصلح والحرب والأمور المهمّة الأخرى بالرغم من تكامل عقله وارتباطه بمصدر الوحي ، وكان يشاور أصحابه أحيانا بالرغم من المشكل التي تحصل من جراء ذلك ، لكي يكون أسوة وقدوة للناس ، لأن بركات الاستشارة أكثر بكثير من احتمالات ضررها.

وهناك تفصيلات في نهاية الآية (١٥٩) من سورة آل عمران بخصوص (الاستشارة) و (شروط الشورى) و (أوصاف الذين يجب استشارتهم) و (مسئولية المستشار) حيث لا نرى ضرورة إلى إعادة ذلك ، إلّا أنّه يجب أن نضيف بعض الملاحظات الأخرى :

أ ـ الشورى تختص بالأعمال التنفيذية ومعرفة الموضوع وليست لمعرفة الأحكام ، لأنّها يجب أن تؤخذ من مصدر الوحي ومن الكتاب والسنة ، وعبارة (أمرهم) تشير إلى هذا المعنى أيضا ، لأن الأحكام ليست من شأن الناس ، بل هي من أمر الخالق.

ولذا فلا أساس لما يقوله بعض المفسّرين كالآلوسي من أن الشورى تشمل الأحكام أيضا ، حيث لا يوجد نص خاص بذلك ، خاصة وأنّنا نعتقد بعدم وجود أي أمر في الإسلام ليس له نص عام أو خاص صادر بشأنّه ، وإلّا فما فائدة( الْيَوْمَ

٥٥٢

أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (١) [يجب قراءة تفصيلات عن هذا المعنى في كتب أصول الفقه بخصوص بطلان الاجتهاد بمعنى التقنين في الإسلام].

ب ـ قال بعض المفسّرين إن شأن نزول عبارة :( أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ ) خاص بالأنصار بخصوص الأنصار ، إما لأن أعمالهم قبل الإسلام كانت وفقا للشورى ، أو هي إشارة إلى تلك المجموعة من الأنصار الذين آمنوا قبل هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبايعوه في (العقبة) ، ودعوه إلى المدينة (لأن هذه السورة مكية ، والآيات أعلاه نزلت في مكّة كما يظهر أيضا).

وعلى أية حال ، فإن الآية لا تختص بسبب نزولها ، بل توضح برنامجا عاما وجماعيا.

وننهي هذا الكلام بحديث عن أمير المؤمنين الإمام عليعليه‌السلام حيث يقول : «لا ظهير كالمشاورة ، والاستشارة عين الهداية»(٢) .

ومن الضروري الإشارة إلى أن آخر صفة وردت في هذه الآية لا تشير إلى الإنفاق المالي فحسب ، وإنّما إنفاق كلّ ما أعطاه الخالق من الرزق كالمال والعقل والذكاء والتجربة ، والتأثير الاجتماعي ، والخلاصة : الإنفاق من كلّ شيء.

وتقول الآية بخصوص سابع صفة للمؤمنين الحقيقيين :( وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ) أيّ أنّهم إذا تعرضوا للظلم لا يستسلمون له ، بل يطلبون النصر من الآخرين.

وواضح أنّ الآخرين مكلفون بالانتصار ضد الظلم ، لأن طلب النصر دون النصرة يعتبر لغو ولا فائدة فيه ، وفي الحقيقة فإن المظلوم مكلف بمقاومة الظالم وطلب النصرة ، وأيضا فإن المؤمنين مكلفون بإجابته ، كما ورد في الآية (٧٢) من سورة الأنفال حيث نقرأ :( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ) .

__________________

(١) المائدة ، الآية ٣.

(٢) وسائل الشيعة ، المجلد الثامن ، ص ٤٢٥ (باب ٢١ من أبواب الأحكام العشرة).

٥٥٣

هذا البرنامج الإيجابي البناء يحذر الظالمين من مغبة ظلم المؤمنين ، حيث أنّهم لا يسكتون على ذلك ويقفون بوجوههم. وهو أيضا يؤمّل المظلومين بأن الآخرين سوف ينصرونكم عند استغاثتكم.

«ينتصرون» من كلمة «انتصار» وتعني طلب النصر ، إلّا أن البعض فسرها بمعنى «التناصر» والنتيجة واحدة للتوضيح الذي ذكرناه.

على أية حال ، فأي مظلوم إذا لم يستطع أن يقف بوجه الظلم بمفرده ، فعليه ألا يسكت ، بل يستفيد من طاقات الآخرين والنهوض بوجه الظلم ، ومسئولية جميع المسلمين الاستجابة لاستغاثته وندائه.

ولكن بم أنّ التناصر يجب أن لا يخرج عن حد العدل وينتهي إلى الانتقام والحقد والتجاوز عن الحد ، لذا فإن الآية التي بعدها اشترطت ذلك بالقول :( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) .

يجب أن لا تتجاوزوا عن الحد بسبب أن أصدقاءكم هم الذين ظلموا فتنقلبوا إلى أشخاص ظالمين ، وخاصة الإفراط في الرد على الظلم في مجتمعات كالمجتمع العربي في بداية الإسلام ، لذا يجب التمييز بين نصرة المظلوم والانتقام.

وعمل الظالم يجب أن يسمى بـ (سيئة) إلّا أن جزاءه وعقابه ليس (سيئة) وإذا وجدنا أنّ الآية عبّرت عن ذلك بالسيئة فبسبب التقابل بالألفاظ واستخدام القرائن ، أو أنّ الظالم يعتبرها (سيئة) لأنّه يعاقب ، أو يحتمل أن يكون استخدام لفظة (السيئة) لأنّ العقاب أليم ومؤذ ، والألم والأذى بحدّ ذاته (سيء) بالرغم من أن قصاص الظالم ومعاقبته يعتبر عملا حسنا بحد ذاته.

وهذا يشبه العبارة الواردة في الآية (١٩٤) من سورة البقرة :( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ ) .

على أية حاله ، فإنّ هذه العبارة يمكن أن تكون مقدمة للعفو الوارد في الجملة التي بعدها ، وكأنّما تريد الآية القول : إنّ العقاب مهما كان فهو نوع من الأذى ، وإذا

٥٥٤

ندم الشخص عندها يستحق العفو.

لذا ففي مثل هذه الموارد ينبغي عليكم العفو ، لأن( فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ ) .

صحيح أنّه فقد حقه ولم يحصل على شيء في الظاهر ، إلّا أنّه بسبب عفوه ، العفو الذي يعتبر أساس انسجام المجتمع والتطهّر من الأحقاد وزيادة أواصر الحب وزوال ظاهرة الانتقام والاستقرار الاجتماعي ، فقد تعهد الخالق بأن يعطيه من فضله الواسع ، ويا لها من عبارة لطيفة (على الله) حيث أن الخالق يعتبر نفسه مدينا لمثل هؤلاء الأشخاص ويقول بأن أجرهم عليّ.

وتقول الآية في نهايتها :( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) .

وقد تكون هذه الجملة إشارة إلى بعض الملاحظات :

فأوّلا : قد يكون العفو بسبب أن الإنسان لا يستطيع أحيانا السيطرة على نفسه بدقة عند العقاب والقصاص ، وقد يتجاوز الحد ويكون في عداد الظالمين.

وثانيا : إن هذا العفو ليس بمعنى الدفاع عن الظالمين ، لأن الله لا يحب الظالمين أبدا ، بل إن الهدف هو هداية الضالين وتثبيت الأواصر الاجتماعية.

وثالثا : إنّ الذين يستحقون العفو هم الذين يكفون عن الظلم ويندمون على ما ارتكبوه في الماضي ، ويقومون بإصلاح أنفسهم ، وليس للظالمين الذين يزدادون جرأة بواسطة هذا العفو.

وبعبارة أوضح ، فإنّ كلّا من العفو والعقاب له موقعه الخاص ، فالعفو يكون عند ما يستطيع الإنسان الانتقام ، وهذا يسمى العفو البناء ، لأنّه يمنح المظلوم المنتصر قابلية السيطرة على النفس وصفاء الروح ، وأيضا يفرض على الظالم المغلوب إصلاح نفسه.

والعقاب والانتقام والردّ بالمثل يكون عند ما يبقى الظالم مستمرا في غيه وضلاله ، والمظلوم لم يثبّت أركان سيطرته بعد ، فالعفو هنا يكون من موقع الضعف

٥٥٥

فيجب الردّ بالمثل.

وقد ورد في حديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إذا كان يوم القيامة نادى مناد : من كان أجره على الله فليدخل الجنّة ، فيقال : من ذا الذي أجره على الله؟

فيقال : العافون عن الناس ، فيدخلون الجنّة بغير حساب»(١) .

وهذا الحديث ـ في الحقيقة ـ هو النتيجة المستوحاة من آخر آية في هذا البحث ، والإسلام الأصيل هو هذا.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ـ نهاية الآية التي نبحثها.

٥٥٦

الآيات

( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) )

التّفسير

الظلم والإنتصار :

تعتبر هذه الآيات ـ في الحقيقة ـ تأكيدا وتوضيحا وتكميلا للآيات السابقة بشأن الإنتصار ومعاقبة الظالم والعفو في المكان المناسب ، والهدف من ذلك أن معاقبة الظالم والانتقام منه من حق المظلوم ، ولا يحق لأحد منعه عن حقه ، وفي نفس الوقت فإذا صادف أن سيطر المظلوم على الظالم وانتصر عليه ، وعند ذلك صبر ولم ينتقم فإن ذلك يعتبر فضيلة كبرى.

فأوّلا تقول الآية :( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ) (١) فلا يحق لأحد أن يمنع هذا العمل ، ولا يلوم ذلك الشخص أو يوبخه أو يعاقبه ،

__________________

(١) عبارة (ظلمه) هي من باب إضافة المصدر إلى المفعول.

٥٥٧

ولا يتوانى في نصر مثل هذا المظلوم ، لأن الإنتصار وطلب العون من الحقوق الطبيعية لأي مظلوم ، ونصر المظلومين مسئولية كلّ إنسان حر ومتيقظ الضمير.

( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ ) .

وإضافة إلى عقابهم الدنيوي( أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) ينتظرهم في الآخرة.

يقول بعض المفسّرين حول الاختلاف بين جملة( يَظْلِمُونَ النَّاسَ ) وجملة( يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ ) أن الجملة الأولى إشارة إلى موضوع (الظلم) والثانية إلى (التكبر)(١) .

البعض الآخر اعتبر الأولى إشارة إلى (الظلم) والثانية إشارة إلى (الوقوف بوجه الحكومة الإسلامية).

«بغى» تعني في الأصل الجد والمثابرة والمحاولة للحصول على شيء ما ، ولكن كثيرا ما تطلق على المحاولات لغصب حقوق الآخرين ، والتجاوز عن حدود وحقوق الخالق ، لذا فإن للظلم مفهوما خاصا وللبغي مفهوما عاما يشمل أي تعد أو تجاوز للحقوق الإلهية.

عبارة (بغير الحق) تأكيد لهذا المعنى ، وعلى هذا الأساس فإنّ الجملة الثانية من باب ذكر العام بعد ذكر الخاص.

أمّا آخر آية فتشير مرّة اخرى إلى الصبر والعفو ، لكي تؤكّد أن الانتقام والعقاب والقصاص من الظالم لا يمنع المظلوم من العفو ، حيث تقول :( وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) (٢) .

«العزم» في الأصل يعني (التصميم لإنجاز عمل معين) ، ويطلق على الإرادة القوية ، وقد تكون عبارة (عزم الأمور) إشارة إلى أن هذا العمل من الأعمال التي أمر الله بها ولا يمكن أن تنسخ ، أو أنّه من الأعمال التي يجب أن يشد الإنسان

__________________

(١) تفسير (الكشاف) ، (روح المعاني) و (روح البيان) نهاية الآيات التي نبحثها.

(٢) اللام في (لمن صبر) هي لام القسم وفي (لمن عزم الأمور) للتأكيد ، والاثنان يوضحان أهمية هذا الأمر الإلهي أي (العفو).

٥٥٨

العزم لها ، وأيا كان من المعنيين فهو يدل على أهمية هذا العمل.

والملفت للنظر ذكر (الصبر) قبل (الغفران) ، لأنّه مع عدم وجود الصبر لا يمكن أن يحصل العفو والغفران ، حيث يفقد الإنسان السيطرة على نفسه ويحاول الانتقام مهما كان.

ومرة اخرى نذكّر بهذه الحقيقة ، وهي أن العفو والغفران مطلوبان في حال القوة والاقتدار ، وأن يستفيد الطرف المقابل من ذلك بأفضل شكل أيضا ، وقد تكون عبارة «من عزم الأمور» لتأكيد هذا المعنى أيضا ، لأنّ التصميم بخصوص شيء معين يحدث عند ما يكون الإنسان قادر على إنجاز ذلك الشيء ، على أية حال فإن العفو الذي يكون مفروضا من قبل الظالم ، أو يشجعه في عمله ويجرئه على ذلك ، غير مطلوب.

بعض الرّوايات فسّرت الآيات أعلاه بثورة الإمام المهدي (عج) وانتقامه وانتصاره على الظالمين والمفسدين في الأرض. وكما قلنا عدّة مرات سابقا فإن مثل هذه التفاسير من قبيل بيان المصداق الواضح ولا تمنع من عمومية مفهوم الآية وشموليته(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، المجلد الرابع ، ص ٥٨٥.

٥٥٩

الآيات

( وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) )

التّفسير

هل من سبيل للرجعة؟

الآيات السابقة كانت تتحدث عن الظالمين ، أمّا الآيات التي نبحثها فتشير إلى عاقبة هذه المجموعة وجوانب من عقابها.

فهي تعتبرهم من الضالين الذين لا يملكون أي ولي ، فتقول :( وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ ) .

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607