الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 607
المشاهدات: 166406
تحميل: 5104


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 166406 / تحميل: 5104
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 15

مؤلف:
العربية

الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) (١) .

وعبارة (يوفي) مشتقّة من (وفى) وتعني إعطاؤه حقّه تاما كاملا. وعبارة (بغير حساب) تبيّن أن للصابرين أفضل الأجر والثواب عند الله ، ولا يوجد عمل آخر يبلغ ثوابه حجم ثواب الصبر والاستقامة.

والشاهد على هذا القول ما جاء في الحديث المعروف الذي رواه الإمام الصادقعليه‌السلام عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي جاء فيه : «إذا نشرت الدواوين ونصبت الموازين لم ينصب لأهل البلاء ميزان ، ولم ينشر لهم ديوان ، ثمّ تلا هذه الآية :( إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) (٢) .

والبعض يعتقد أنّ هذه الآية تخصّ الهجرة الأولى للمسلمين ، أي هجرة مجموعة كبيرة من المسلمين إلى أرض الحبشة تحت قيادة جعفر بن أبي طالبعليه‌السلام ، وكما قلنا مرارا رغم أنّ أسباب النّزول توضيح مفهوم الآية ، إلّا أنّها لا تحددها.

أمّا المنهج الخامس فقد ورد فيه أمر الإخلاص والتوحيد الخالي من شوائب الشرك ، وهنا تتغير لهجة الكلام بعض الشيء ، ويتحدث الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن وظائفة ومسئولياته ، إذ يقول :( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ) .

ثم يضيف :( وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ) . وهذا هو المنهج السادس الذي يعترف بأنّ النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أول الناس إسلاما وتسليما لأوامر البارئعزوجل .

أمّا المنهج السابع والأخير فيتناول مسألة الخوف من عقاب البارئعزوجل يوم القيامة ، قال تعالى :( قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ

__________________

(١) «بغير حساب» من الممكن أن تكون متعلقة بـ (يوفى) ، أو أنها (حال) لـ (أجرهم) لكن الاحتمال الأول أنسب.

(٢) تفسير مجمع البيان ذيل آيات البحث ، ونفس المعنى مع اختلاف بسيط ورد في تفسير القرطبي نقلا عن الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام عن جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤١

عَظِيمٍ ) .

التأمل في هذه الآيات يكشف بوضوح عن أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو عبد من عباد الله ، وهو مكلف أيضا بعبادة الله بإخلاص ، لأنّه ـ هو أيضا ـ يخاف العذاب الإلهي ، وهو مكلّف بإطاعة الأوامر الإلهية ، كما أنّه مكلّف بتكاليف وواجبات أثقل وأعظم من تكاليف الآخرين ، ولذا يجب أن يكون أفضل وأسمى من الآخرين.

إنّه لم يدّع الألوهية أبدأ ، ولم يخط خطوة واحدة خارج مسير العبودية ، بل إنّه يفتخر ويتباهى بهذا المقام ، ولهذا السبب كان قدوة وأسوة ، وهو (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يفضّل نفسه على الآخرين ، وهذا دليل على عظمته وأحقّيته ، فهو ليس كالمدّعين الكذّابين الذين كانوا يدعون الناس إلى عبادتهم ، ويعتبرون أنفسهم أرقى من البشر ، وأنّهم من معدن ثمين أفضل من الناس ، وأحيانا يدعون أتباعهم إلى التبرع سنويا بالذهب والجواهر بقدر وزنهم.

إنّه يقول : إنّي لست مثل السلاطين المتجبرين على رقاب الناس الذين يكلفون الناس ببعض التكاليف ويعتبرون أنفسهم «فوق تلك التكاليف» وهذا في الواقع إشارة إلى موضوع تربوي هامّ ، وهو أنّ كلّ إنسان ـ مربيا كان أم قائدا ـ عليه أن يكون السباق في تنفيذ من أجلها ما يمليه عليه نهجه ، فيجب أن يكون أوّل مؤمن بشريعته أو سنته وأكثر الساعين والمضحين كي يؤمن الناس بصدقه ، ويتخذونه أسوة وقدوة لهم في كلّ الأمور. ومن هنا يتضح أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن أوّل مسلم من حيث الزمان وحسب ، وإنّما كان أوّل إسلاما من كلّ النواحي ، من ناحية الإيمان والإخلاص ، والعمل ، والتضحية ، والجهاد ، والصمود ، والمقاومة ، وتأريخ حياة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤيد هذه الحقيقة بصورة جيدة.

بعد استعراض المناهج السبعة المذكورة في الآيات أعلاه (التقوى ، الإحسان ، الهجرة ، الصبر ، الإخلاص ، التسليم ، الخوف).

ولكون مسألة الإخلاص لها ميزات خاصة في مقابل العلل المختلفة للشرك ،

٤٢

تعود الآيات لتؤكّد عليها مرّة أخرى ، إذ تقول وبنفس اللهجة السابقة :( قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي ) (١) .

أما أنتم فاعبدوا ما شئتم من دون الله :( فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ) .

ثمّ تضيف :( قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) .

أي إنّهم لم يستثمروا طاقاتهم وعمرهم ، ولا من عوائلهم وأولادهم لإنقاذهم ، ولا لإعادة ماء الوجه المراق إليهم ، وهذا هو الخسران العظيم :( أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ) .

الآية الأخيرة في بحثنا هذا تصف إحدى صور الخسران المبين ، إذ تقول :( لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ) .

وبهذا الشكل فإنّ أعمدة النيران تحيط بهم من كلّ جانب ، فهل هناك أعظم من هذا؟ وهل هناك عذاب أشدّ من هذا؟

«ظلل» جمع (ظلّة) على وزن «سنّة» وتعني الستر الذي ينصب في الجهة العليا. وطبقا لهذا فإنّ إطلاق هذه الكلمة على ما يفرش تحت اهل النّار اطلاق مجازي ومن باب التوسع في معنى الكلمة.

بعض المفسّرين قالوا : بما أنّ أصحاب النّار يتقلبون بين طبقات جهنم ، فإنّ ستائر النّار محيط بهم من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم. والآية (٥٥) من سورة العنكبوت تشبه هذه الآية :( يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

هذا في الحقيقة تجسيد لأحوالهم وأوضاعهم في هذه الدنيا ، إذ أن الجهل والكفر والظلم محيط بكلّ وجودهم ، ومستحوذ عليهم من كلّ جانب ، ثمّ تضيف الآية مؤكّدة وواعظة إياهم :( ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ ) .

إضافة كلمة (العباد) إلى لفظ الجلالة في هذه الآية ، ولعدّة مرّات اشارة إلى أنّ

__________________

(١) تقديم (اسم الجلالة) والذي هو مفعول (اعبد) يفيد الحصر هنا ، وقوله (مخلصا له ديني) التي هي حال يؤكّد معنى الحصر.

٤٣

تهديد البارئعزوجل لعباده بالعذاب إنّما هو لطف ورحمة منه ، وذلك كي لا يبتلى عباده بمثل هذا المصير المشؤوم ، ومن هنا يتضح أنّه لا حاجة لتفسير كلمة (العباد) هنا على أنّها تخصّ المؤمنين ، فهي تشمل الجميع ، كي لا يأمن أحد من العذاب الإلهي.

* * *

ملاحظات

١ ـ حقيقة الخسران!

يرى الراغب في مفرداته أنّ الخسران يعني ذهاب رأس المال كلّه أو بعضه ، وأحيانا تنسب إلى الإنسان ، عند ما يقال : (الشخص الفلاني خسر) وأحيانا تنسب إلى العمل عند ما يقولون : (خسرت تجارته).

وتستخدم كلمة (خسران) أحيانا في حالة فقدان الثروة الظاهرية ، كالمال والجاه ، الدنيوي ، وأحيانا أخرى تستخدم في حالة فقدان ثروة معنوية كالصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب ، وهذا هو الشيء الذي سمّاه البارئعزوجل (الخسران المبين) فكلّ خسران ذكره البارئعزوجل في القرآن الكريم إنّما يشير إلى المعنى الثّاني وليس إلى الخسران الخاص بثروات الدنيا وتجارتها(١) .

وقد شبّه القرآن الإنسان بتجارة الأثرياء الذين يدخلون أسواق التجارة العالمية برؤوس أموال كبيرة ، فالبعض منهم يجني أرباحا كبيرة ، والبعض الآخر يخسر خسارة فادحة.

آيات كثيرة في القرآن المجيد تطرقت إلى مثل هذا التعبير والتشبيه ، حيث توضح الحقيقة التالية : إنّ النجاة من العذاب الإلهي لا تتحقق بالجلوس وانتظار

__________________

(١) مفردات الراغب مادة (خسر).

٤٤

هذا وذاك ، وإن السبيل الوحيد للنجاة هو الاستفادة من الثروة ، وبذل الجهود والمساعي في هذه التجارة الكبيرة ، لأنّ كلّ شيء يعطى بثمن ، ولا يعطى بالمعاذير!

وقد يتساءل البعض : ما هي أسباب وصف خسارة المشركين والمذنبين بالخسران المبين؟

الجواب هو :

أوّلا : لأنّهم باعوا أفضل ثروة لديهم ـ أي العمر والعقل والإدراك والعواطف الانسانية ـ بدون مقابل.

ثانيا : لو أنّهم باعوا تلك الثروة من دون أن يشتروا العذاب والعقاب لكان أمرا هينا بعض الشيء ، لكنّ الأمر لم يكن كذلك إذ أنّهم بخسرانهم لتلك الثروة العظيمة هيأوا لأنفسهم عذابا أليما وعظيما.

ثالثا : إنّ هذه الخسارة التي لا يمكن أن تعوّض بأيّ ثمن ، وهذه هي (الخسران المبين).

٢ ـ ما هو المراد من الآية :( فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ )

عبارة( فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ ) جاءت بصيغة أمر تهديدي ، وهذا الأسلوب يستعمل عند ما لا تؤثر النصيحة والموعظة بالشخص المجرم والمذنب ، إذ أنّ آخر ما يقال له : (افعل ما تشاء ، ولكن انتظر العقاب أيضا) ويعني أنّك وصلت إلى درجة لا تستحقّ معها النصيحة والموعظة ، وأنّ مصيرك وعلاجك هو العذاب الأليم.

٣ ـ من هم الأهل؟

الآيات المذكورة أعلاه تقول : إنّ أولئك الخاسرين لم يخسروا ثروة وجودهم فحسب ، وإنّما خسروا أهليهم أيضا.

٤٥

بعض المفسّرين قال : إنّ المراد من (أهل) هم أتباع الإنسان والسائرون على نهجه.

والبعض الآخر فسّرها بأنّها تعني الزوجات القاصرات الطرف في الجنّة ، اللواتي خسرهن المشركون والمجرمون.

والبعض الآخر يقول : إنّها تعني العائلة والأرقاب في الدنيا.

والمعنى الأخير ـ مع الالتفات إلى أنّه المعنى الأصلي لهذه الكلمة ـ يعد أنسب من الجميع ، لأن الكافر يخسر أهله يوم القيامة ، إذ ينفصلون عنه وإن كانوا مؤمنين ، وأما إذا كانوا مشركين فمضافا إلى أنّهم لا ينفعونهم ، سيكونون سببا في زيادة العذاب الأليم.

* * *

٤٦

الآيات

( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠) )

التّفسير

عباد الله الحقيقيون :

استخدم القرآن الكريم مرّة اخرى أسلوب المقارنة في هذه الآيات ، إذ قارن بين عباد الله الحقيقيين والمشركين المعاندين الذين لا مصير لهم سوى نار جهنّم ، قال تعالى :( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى ) .

ولكون كلمة (البشرى) جاءت هنا بصورة مطلقة وغير محدودة ، فتشمل كافة

٤٧

أنواع البشرى بالنعم الإلهية المادية والمعنوية ، وهذه البشرى بمعناها الواسع تختص فقط بالذين اجتنبوا عبادة الطاغوت وعمدوا إلى عبادة الله وحده من خلال إيمانهم به وعملهم الصالح.

وكلمة «طاغوت» من مادة (الطغيان) تعني الاعتداء وتجاوز الحدود ، ولذا فإنّها تطلق على كلّ متعدّ ، وعلى كلّ معبود من دون الله ، كالشيطان والحكام المتجبرين (وتستعمل هذه الكلمة للمفرد والجمع)(١) .

فعبارة( اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ ) بمعناها الواسع تعني الابتعاد عن كلّ أشكال الشرك وعبادة الأصنام وهو النفس والشيطان ، وتجنب الانصياع والاستسلام للحكام المتجبرين الطغاة.

أمّا عبارة( أَنابُوا إِلَى اللهِ ) فإنّها تجمع روح التقوى والزهد والإيمان ، وأمثال هؤلاء يستحقون البشرى.

ويجب الالتفات إلى أنّ عبادة الطاغوت لا تعني فقط الركوع والسجود له ، وإنّما تشمل كلّ طاعة له ، كما ورد في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام «من أطاع جبارا فقد عبده»(٢) .

ثم تعرج الآية على تعريف العباد الخاصّين فتقول :( فَبَشِّرْ عِبادِ (٣) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ) .

الآيتان المذكورتان بمثابة شعار إسلامي ، وقد بيّنتان حرية الفكر عند المسلمين ، وحرية الإختيار في مختلف الأمور.

__________________

(١) بعض المفسّرين ، ومنهم الزمخشري صاحب الكشّاف يعتقدون أنّ أصل كلمة (طاغوت) هو (طغوت) على وزن (فعلوت) (كملكوت) ، ثمّ تقدمت لام الفعل على عين الفعل وأصبحت (طغوت) ، وبعد إبدال الواو بالألف أصبحت (طاغوت) ويستدل صاحب الكشّاف على هذا الكلام من عدّة مصادر (تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٢٠).

(٢) مجمع البيان ، الجزء السابع ، الصفحة ٤٩٣ ، ذيل آية البحث.

(٣) (عباد) كانت في الأصل (عبادي) وقد حذفت الياء وعوض عنها بالكسرة.

٤٨

ففي البداية تقول (بشر عباد) ثمّ تعرّج على تعريف أولئك العباد المقربين بأنّهم أولئك الذين لا يستمعون لقول هذا وذاك ما لم يعرفوا خصائص وميزات المتكلم ، والذين ينتخبون أفضل الكلام من خلال قوّة العقل والإدراك ، إذ لا تعصب ولا لجاجة في أعمالهم ، ولا تحديد وجمود في فكرهم وتفكيرهم ، إنّهم يبحثون عن الحقيقة وهم متعطشون لها ، فأينما وجدوها استقبلوها بصدور رحبة ، ليشربوا من نبعها الصافي من دون أيّ حتى يرتووا.

إنّهم ليسوا طالبين للحق ومتعطشين للكلام الحسن وحسب ، بل هم يختارون الأجود والأحسن من بين (الجيد) و (الأجود) و (الحسن) و (الأحسن) ، وخلاصة الأمر فإنّهم يطمحون لنيل الأفضل والأرفع ، وهذه هي علامات المسلم الحقيقي المؤمن الساعي وراء الحق.

أمّا ما المقصود من كلمة (القول) في عبارة( يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ) فإنّ المفسّرين أعطوا عدّة آراء لتفسيرها ، منها :

البعض فسّره بأنّه يعني (القرآن) الذي يحتوي على الطاعات والمباحات ، واقتفاء الأحسن يعني اقتفاء الطاعات.

والبعض الآخر فسّرها بأنّها تعني مطلق الأوامر الإلهية المذكورة في القرآن وغير المذكورة فيه.

ولكن لم يتوفّر أيّ دليل على هذين التّفسيرين ، بل أن ظاهر الآية يشتمل كلّ قول وحديث ، فالمؤمنون هؤلاء يختارون من جميع الكلمات والأحاديث ما هو (أحسن) ، ليترجموه في أعمالهم.

والطريف في الأمر أنّ القرآن الكريم حصر في الآية المذكورة أعلاه الذين هداهم الله بأولئك القوم الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه ، كما أنّه اعتبر العقلاء ضمن هذه المجموعة ، وهذه إشارة إلى أنّ أفراد هذه المجموعة مشمولون بالهداية الإلهية الظاهرية ، والباطنية ، الهداية الظاهرية عن طريق العقل والإدراك ،

٤٩

والهداية الباطنية عن طريق النور الإلهي والإمداد الغيبي ، وهاتان مفخرتان كبيرتان للباحثين وراء الحقيقة ذوي التفكير الحرّ.

ولكون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يرغب ـ بشدّة ـ في هداية المشركين والضالين ، وكان يتألّم كثيرا لانحراف أولئك الذين لم يعطوا آذانا صاغبة للحقائق ، فأنّ الآية التالية عمدت الى مواساته بعد أن وضحت له حقيقة أنّ عالمنا هذا هو عالم الحرية والامتحان ، ومجموعة من الناس ـ في نهاية الأمر ـ يجب أن تدخل جهنم ، إذ قالت :( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ) (١) .

عبارة( حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ ) إشارة إلى آيات مشابهة ، كالآية (٨٥) من سورة ص التي تقول بشأن الشياطين وأتباعهم :( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) .

ومن البديهي أنّ حتمية تعذيب هذه المجموعة لا تحمل أيّ طابع إجباري ، بل إنّهم يعذبون بسبب الأعمال التي ارتكبوها ، ونتيجة إصرارهم على ارتكاب الظلم والذنب والفساد ، بشكل يوضح أنّ روح الإيمان والتعقل كانت ميّتة في أعماقهم ، وأنّ وجودهم كان قطعة من جهنم لا أكثر.

من هنا يتبيّن أنّ قوله تعالى :( أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ) هو إشارة إلى حقيقة أنّ كونهم من أصحاب النّار يعد أمرا مسلما به وكأنّهم الآن هم في قلب جهنم ، حتّى أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو (رحمة للعالمين) لا يستطيع إنقاذهم من العذاب ، لأنّهم قطعوا كافّة طرق الاتصال بالله سبحانه وتعالى ولم يبقوا أيّ سبيل لنجاتهم.

ولبعث السرور في قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولزيادة الأمل في قلوب المؤمنين ،

__________________

(١) في الحقيقة ، إنّ الآية تحوي جملة محذوفة تدل عليها الجملة التي تلتها ، وتقديرها (أفأنت تخلصه) إذ يصبح تقدير الجملة كالتالي (أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تخلصه (بقرينة الجملة التالية) أفأنت تنقذ من في النّار) وقال البعض الآخر : إن تقدير الآية هو كالتالي (أفمن حقت عليه كلمة العذاب ينجو منه).

٥٠

جاء في آخر الآية :( لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ ) .

فإن كان أهل جهنم مستقرين في ظلل من النّار ، كما ورد في الآية السابقة :( لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ) فإنّ لأهل الجنّة غرفا من فوقها غرف اخرى ، وقصور فوقها قصور اخرى ، لأنّ منظر الورود والماء والأنهار والبساتين من فوق الغرف يبعث على اللذة والبهجة بشكل أكثر.

«غرف» جمع «غرفة» من مادة «غرف» وعلى وزن حرف ـ بمعنى تناول الشيء ولذا يطلق على من يتناول الماء بكفه ليشربه «غرفة» ثمّ أطلقت على الطبقات العليا من المنازل.

وكشفت الآية أيضا عن أن غرف أهل الجنّة الجميلة قد زينت بأنهار تجري من تحتها( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) نعم ، هذا وعد الله( وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ ) (١) .

* * *

بحوث

١ ـ منطق حرية التفكير في الإسلام

الكثير من المذاهب الوضعية تنصح أتباعها بعدم مطالعة ومناقشة مواضيع وآراء بقية المذاهب ، إذ أنّهم يخافون من أن تكون حجّة الآخرين أقوى من حجّتهم. الضعيفة وبالتالي فقدان اتباعهم.

إلّا أنّ الإسلام ـ كما شاهدنا في الآيات المذكورة أعلاه ـ ينتهج سياسة الأبواب المفتوحة في هذا المجال ، إذ يعتبر المحققين هم عباد الله الحقيقيين الذين لا يرهبون سماع آراء الآخرين ، ولا يستسلمون لشيء من دون أي قيد أو شرط ،

__________________

(١) يقول «الزمخشري» في الكشاف :( وَعْدَ اللهِ ) منصوب لكونه مفعولا مطلقا للتأكيد ، ولأنّ عبارة( لَهُمْ غُرَفٌ ) تعني وعدهم الله غرفا.

٥١

ولا يتقبلون كلّ وسواس.

الإسلام الحنيف يبشّر الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه ، الذين لا يكتفون بترجيح الجيد على السيء ، وإنّما ينتخبون الأحسن ثمّ الأحسن من كلّ قول ورأي.

ويوبّخ ـ بشدّة ـ الجهلة الذين يضعون أصابعهم في آذانهم ويستغشون ثيابهم كلما سمعوا صوت الحق ، كما ورد في قول نوحصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما شكى قومه للبارئعزوجل :( وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً ) (١) .

وأساسا فإنّ المذهب القوي الذي يملك منطقا قويا لا يرهب أقوال الآخرين ، ولا يخاف من طرح آراء تلك المذاهب ، لأنّه أقوى منها وهي التي ينبغي أن تخافه.

هذه الآية وضعت ـ في نفس الوقت الذين يتبعون أيّ قول يقال لهم من دون أيّ تفكير في مدي صدقه ، وحتى أنّهم لا يحققون ولا يبحثون فيه بقدر ما تبحث الأغنام عن الغذاء الجيد في المراعي ، وضعتهم خارج صف (أولوا الألباب) والذين (هداهم الله). فهاتان الصفتان تختصّان بالذين لم يبتلوا الاستسلام المفرط من دون أيّ قيد أو شرط ، والذين لم يفرطوا في تعصبهم الجاهلي الأعمى.

٢ ـ الردّ على بعض الأسئلة

من الممكن أن تطرح على ضوء البحث السابق عدّة أسئلة ، منها :

١ ـ لماذا يمنع الإسلام بيع وشراء كتب الضلال.

٢ ـ لماذا يحرم إعطاء القرآن الكريم بيد الكفار.

٣ ـ كيف يمكن لإنسان ليس له إلمام بموضوع ما أن ينتخب ويميز الجيد من

__________________

(١) سورة نوح ، الآية ٧.

٥٢

السيء ، ألا يستلزم هذا المعنى الدور؟

الجواب على السؤال الأوّل واضح ، لأنّ البحث المتعلّق بالآيات المذكورة أعلاه يتناول أقوالا يؤمل منها الهداية ، ففي أي وقت يتضح بعد البحث والتحقيق أن الكتاب الفلاني هو مضل فإنّه يخرج من هذا الأمر ، فالإسلام لا يسمح بأن يسلك الناس في طريق ثبت انحرافه. وبالطبع فإنّه ما دام الأمر لم يثبت لأحد ، أي ما زال الشخص في حالة التحقيق عن المذاهب الأخرى لقبول الدين الصحيح ، لا بأس بمطالعة كلّ تلك الكتب ، ولكن بعد ثبوت ذلك الأمر يجب اعتبارها مادّة سامّة ، ويجب إبعادها عن متناول الجميع.

أمّا بالنسبة إلى السؤال الثّاني ، فإنّه لا يجوز إعطاء القرآن لغير المسلم إن كان ذلك الشخص يهدف إهانة وهتك القرآن ، ولكن إن حصل علم بأن ذلك الكافر يفكر حقّا بالتحقيق في الإسلام من خلال القرآن للوصول إلى هذا الهدف ، فإن إعطاء القرآن هنا لا يعدّ أمرا ممنوعا ، بل يعدّ واجبا ، والعلماء الذين حرّموا ذلك لا يقصدون هذا المعنى.

ولهذا فإنّ الجمعيات الإسلامية الكبيرة تصرّ بشدّة على ترجمة القرآن إلى بقية اللغات الحية في العالم ، ليوضع تحت تصرف المتعطشين لمعرفة الحقيقة.

وأمّا بشأن السؤال الثّالث ، فيجب الالتفات إلى أنّه في كثير من الأحيان لا يستطيع شخص ما إنجاز عمل ما ، ولكن عند ما ينجزه الآخرون يتمكن هو من تشخيص الجيد من الرديء في ذلك العمل.

وعلى سبيل المثال ، من الممكن أن يوجد شخص لا إطلاق له بفنّ الإعمار والبناء حتى أنّه لا يستطيع وضع لبنتين فوق بعضهما البعض بصورة صحيحة ، ولكنّه يستطيع تمييز البناء الجيد ذي الكيفية العالية من البناء السيء غير المتناسق ، كما أنّ هناك أشخاصا كثيرين ليسوا بشعراء ، إلّا أنّهم يتمكون من تقييم أشعار شعراء كبار وتميزها عن الأشعار الفارغة التي ينظمها بعض ناظمي الشعر. هناك

٥٣

أشخاص ليسوا برياضيين ولكنّهم يتمكنون من التحكيم بين الرياضيين ، وانتخاب الجيد منهم.

٣ ـ نماذج من الروايات الإسلامية التي تؤكد على حرية التفكير

وردت بعض الأحاديث الإسلامية في تفسير الآيات المذكورة أعلاه ، كما وردت أحاديث مستقلة تؤكّد على هذا الموضوع ، ومنها ما ورد عن الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ، خاطب فيه أحد أصحابه وهو هشام بن الحكم قائلا : «يا هشام ، إن الله تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه ، فقال( فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) »(١) .

وورد حديث آخر عن الأمام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية المذكورة أعلاه ، قال فيه: «هو الرجل يسمع الحديث فيحدث به كما سمعه ، لا يزيد فيه ولا ينقص»(٢) .

وبالطبع ، فإنّ تفسير( فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) هو المقصود في هذا الحديث ، لأن إحدى علامات اتباع القول الحسن ، هو أن لا يضيف الإنسان من عنده أي شيء على القول ، وينقله ذاته للآخرين.

ونقرأ في البلاغة في حقل الكلمات القصار لأمير المؤمنينعليه‌السلام : (الحكمة ضالة المؤمن ، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق»(٣) .

٤ ـ سبب النّزول

ذكر المفسّرون أسبابا لنزول هذه الآيات ، ومنها ، أنّ الآية :( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا

__________________

(١) الكافي ، المجلد الأول ، كتاب العقل الحديث (١٢).

(٢) نور الثقلين ، المجلد ٤ ، الصفحة ٤٨٦ ، الحديث ٣٤.

(٣) نهج البلاغة ، قصار الكلمات ، الخطبة (٨٠).

٥٤

الطَّاغُوتَ ) والآية التي تلتها نزلنا بحق ثلاثة أشخاص (لم يستسلموا في عهد الجاهلية لغوغاء المشركين في مكّة) كانوا يقولون لا إله إلا الله ، والثلاثة هم (سلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري وزيد بن عمرو)(١) .

وقد ورد اسم (سعيد بن زيد) بدلا (زيد بن عمرو) في بعض الرّوايات(٢) .

والبعض الآخر قال : إنّ الآية :( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ ) نزلت بشأن (أبي جهل) وأمثاله(٣) .

وغير مستبعد أن تكون هذه الرّوايات من قبيل تطبيق الآية على المصاديق الواضحة وليس أسبابا للنزول.

* * *

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ومجمع البيان ذيل آيات البحث.

(٢) الدر المنثور نقلا عن تفسير الميزان ، المجلد ١٧ ، صفحة ٢٦٧.

(٣) القول هذا أورده صاحب تفسير روح المعاني نقلا عن آخرين.

٥٥

الآيتان

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١) أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) )

التّفسير

الذين هم على مركب من نور!!

في هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم مرّة اخرى دلائل التوحيد والمعاد ، ليكمل البحوث التي تناولت مسألة الكفر والإيمان الواردة في الآيات السابقة. إذ تشرح أحد آثار عظمة وربوبية البارئعزوجل في نظام عالم الكون ، وذلك عند ما تشير إلى مسألة (نزول المطر) من السماء ، ثمّ إلى نمو آلاف الأنواع من الزرع بمختلف الألوان بعد أن تسقى من ماء عديم اللون ، وإلى مراحل نموها حتى وصولها إلى المرحلة النهائية وتقول موجهة الخطاب الى النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتباره القدوة لجميع المؤمنين( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي

٥٦

الْأَرْضِ ) (١) .

قطرات المطر التي تبعث الحياة حينما تنزل من السماء تمتصها الطبقة الأولى من طبقات الأرض ، وعند ما تنفذ إلى داخل هذه الطبقة تقف عند طبقة اخرى في الأرض ولا تتمكن من النفوذ خلالها ، لتبعث مرّة اخرى إلى سطح الأرض بصورة عيون وقنوت وآبار.

كلمة (سكله) تعني (نفوذ مياه الأمطار في داخل قشرة الأرض) وهذه إشارة مختصرة لما ذكرناه آنفا.

«ينابيع» هي جمع (ينبوع) مشتقّة من (نبع) وتعني فوران الماء من داخل الأرض. ولو كانت للأرض قشرة واحدة لا تمتلك القابلية على الامتصاص ، فإنّ مياه الأمطار النازلة سوف تتجه بأكملها بعد هطولها إلى البحار لتصب فيها من دون أن تخزن داخل قشرة الأرض ، وفي هذه الحالة ينعدم وجود العيون والقنوات والآبار. وإذا كانت الأرض ذات قشرة واحدة نفوذية تماما ، فإنّ كلّ مياه الأمطار تتجه نحو أعمق مناطق باطن الأرض ، وفي تلك الحالة يستحيل الوصول إليها واستخراجها ، فتنظيم قشرة الأرض بحيث توجد طبقتان إحداها نفوذية والأخرى غير نفوذية ، وبدرجات معينة ، كلّ ذلك ثمّ وفق حسابات خاصة ، تبيّن قدرة البارئعزوجل .

والملفت للنظر أنّ قشرة الأرض تكون أحيانا ذات طبقات متعددة ، بعضها نفوذي والبعض الأخرى غير نفوذي ، ومرتبة الواحدة فوق الأخرى ويستفاد منها في عمليات حفر الآبار (السطحية) و (العميقة) و (نصف العميقة).

وتضيف الآية فيما بعد :( ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ) ذات الأشكال المختلفة.

__________________

(١) «ينابع» على ما هو المشهور يكون منصوبا بنزع الخافض ، وهو جمع ينبوع من نبع الماء (راجع تفسير روح المعاني ، ج ٢٣ ، ص ٢٥٦ ، روح البيان ، ج ٨ ، ص ٩٣.

٥٧

أي مختلف الأنواع كالحنطة والشعير والزر والذرة ، ذات الأشكال المختلفة والألوان الظاهرية المتعددة ، فمنها الأخضر الغامق ، والأخضر الفاتح ، وبعضها ذو أوراق عريضة وكبيرة ، والبعض الآخر ذو أوراق دقيقة وصغيرة.

وممّا يذكر أن كلمة (زرع) تطلق على النباتات ذات الساق الدقيق ، فيما تطلق كلمة (شجر) على الأشجار ذات السيقان القوية ، وكلمة (زرع) ذات معان كثيرة تشمل النباتات الطبيعية التي لا يمكن الاستفادة منها للغذاء ، وأنواع الورد ونباتات الزينة والأعشاب الطبيعة التي يؤخذ منها الدواء ، وأحيانا نرى في غصن واحد ، ولربّما في وردة واحدة عدّة ألوان جميلة جذابة ، تسبح وتوحد البارئعزوجل بلسان صامت.

ثمّ تنتقل الآية إلى مرحلة اخرى من مراحل حياة هذه النباتات ، إذ تقول :( ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ) (١) حيث تعصف به الرياح من كلّ جانب لتقلعه من مكانه بسبب ضعف سيقانه ويضيف تعالى :( ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً ) .

نعم ، إن في هذا لذكرى لأصحاب القول وأهل العلم( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ ) .

هذا المشهد يذكّر الإنسان بالنظام الدقيق والعظيم الذي وضعه البارئعزوجل لعالم الوجود ، وإنّه تذكير بنهاية الحياة وانطفاء شعلتها ، ومن ثمّ بمسألة البعث وعودة الأموات إلى الحياة. فرغم أنّ هذا المشهد يتعلّق بعالم النبات ، إلّا أنّه ينبّه الإنسان إلى أن مثل هذا الأمر سوف يتكرر في حياته وعمره هو أيضا مع وجود بعض الاختلاف في مدّة الأعمار ، ولكن الأساس واحد إذ يبدأ بالولادة يتدرج إلى النشاط والشباب ، ومن ثمّ الذبول والكهولة ، وفي النهاية الموت.

وكتتمة لهذا الدرس الكبير في التوحيد والمعاد ، تنتقل الآيات إلى المقارنة

__________________

(١) «يهيج» من مادة (هيجان) ولها معنيان في اللغة ، الأوّل هو جاف النبات واصفراره ، والثّاني هو التحرك والانتفاض ، ومن الممكن أو يعود المعنيان إلى أصل واحد ، لأنّ النبات حينما يجفّ فإنه يستعد للانفصال والانتشار والتحرك والهيجان.

٥٨

بين المؤمنين والكافرين ، كي توضح حقيقة أنّ القرآن والوحي السماوي هما كقطرات المطر التي تهطل على الأرض ، وكما أنّ الأرض التي لها الاستعداد هي التي تستفيد من قطرات المطر ، فكذلك القلوب المستعدة لبناء ذاتها بالاستعانة بلطف الله ، هي ـ فقط ـ التي تستفيد من آيات الله ، وذلك طبقا لقوله تعالى :( أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ) (١) كمن هو قاسي القلب لا يهتدي بنور!!

أمّا القاسية قلوبهم ، فهم الذين لا تؤثر بهم المواعظ ولا الوعيد ولا البشرى ، ولا الآيات القرآنية المؤثرة ، ولا ينمي مطر الوحي الباعث للحياة عندهم ثمار التقوى والفضيلة ، وبصورة موجزة يمكن القول بأنّهم كالنباتات التي لا طراوة فيها ولا أوراق ولا ثمار ولا ظلّ.

نعم( أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

«القاسية» مشتقّة من (قسوة) وتعني الخشونة والصلابة والتحجر ، لذلك تطلق صفة (قاسية) على الأحجار الصلبة ، ويقال للقلوب التي لا تظهر أي استجابة لنور الحق والهداية ، ولا تلين ولا تستسلم لها ، ولا تسمح بنفوذ نور الحقّ والهداية إليها (قلوب قاسية).

على آية حال ، فإنّ هذه العبارة جاءت في مقابل (انشراح الصدر) وسعة الروح ، لأنّ الرحابة والاتساع كناية عن الاستعداد للاستقبال ، فالشارع والبيت الواسع يمكنهما أن يضمّا أناسا كثيرين ، وكذلك الصدر الواسع والروح المنشرحة ، فإنّها مستعدّة لتقبّل حقائق أكثر.

ونقرأ في إحدى الرّوايات أنّ ابن مسعود قال : سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تفسير هذه الآية :( أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ )

__________________

(١) هذه الآية تتضمّن جملة محذوفة تتضح من خلال الجملة التي تليها وعند تقديرها تصبح الآية (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربّه كمن هو قاسي القلب لا يهتدي بنور).

٥٩

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا دخل النور في القلب انشرح وانفتح».

ثم قلنا : يا رسول الله ما هي علامات انشراح الصدر؟ فقال : «الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزوله»(١) .

أمّا علي بن إبراهيم فيقول في تفسيره أن عبارة :( أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ) نزلت في حقّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام . وقد ورد في تفاسير اخرى أنّ عبارة :( فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ) نزلت بحقّ (أبي لهب وأبنائه)(٢) .

ومن الواضح أنّ أسباب النّزول هنا هي في الحقيقة من باب تطبيق المفهوم العام على المصاديق الواضحة.

إنّ ما يلفت النظر في عبارة :( فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ) أنّ النور والضياء جعل هنا بمثابه مركبة يركبها المؤمنون تفسير بهم بسرعة عجيبة ومسير واضح وقدرة على طواف العالم كلّه.

* * *

بحث

عوامل (شرح الصدر) و (قسوة القلب)

الناس ليسوا على وتيرة واحدة من حيث قبول الحق وإدراك الأمور ، فالبعض يتمكّن من إدراك الحقيقة بمجرّد إشارة واحدة أو جملة قصيرة ، وهذا يعني أنّ تذكيرا واحدا يكفي لإيقاظهم فورا ، وموعظة واحدة قادرة على إحداث صيحات في أرواحهم وفي حين أنّ البعض الآخر لا يتأثّر بأبلغ الكلمات وأوضح الأدلّة وأقوى العبارات ، وهذه المسألة ليست بالأمر السهل أو الهيّن.

__________________

(١) تفسير القرطبي ، المجلد الثامن ، الصفحة ٥٦٩١ (تفسير سورة الزمر ذيل آيات البحث) نقل هذا الحديث مع اختلاف جزئي عن (روضة الواعظين) للشيخ المفيد.

(٢) تفسير الصافي ذيل آيات البحث.

٦٠