الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177273 / تحميل: 5797
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

في شهر رمضان وليلة القدر ، الأمر الذي يخالف ظاهر الآيات.

وأضعف منه قول القائل : لما كانت سورة الحمد ـ التي هي خلاصة لمجموع القرآن ـ قد نزلت في ليلة القدر ، فقد عبر بـ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) .

إن كل هذه الاحتمالات مخالفة لظاهر الآيات ، لأن ظاهرها أن كل القرآن قد نزل في ليلة القدر.

الشيء الوحيد الذي يبقى هنا هو ما نقرؤه في روايات عديدة رويت في تفسير علي بن إبراهيم. عن الإمام الباقر والصادق وأبي الحسن موسى بن جعفرعليهم‌السلام أنّهم قالوا في تفسير( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) : «هي ليلة القدر ، أنزل اللهعزوجل القرآن فيها إلى البيت المعمور جملة واحدة ، ثمّ نزل من البيت المعمور على رسول الله في طول عشرين سنة».(١)

(التفتوا جيدا إلى أن الرواية قد عبرت عن النّزول جملة واحد بـ (أنزل) وعن النّزول التدريجي بـ (نزل).

وأين هو «البيت المعمور»؟ صرحت روايات عديدة ـ سيأتي تفصيلها في ذيل الآية (٤) من سورة الطور ، إن شاء الله تعالى ـ بأنه بيت في السماوات بمحاذاة الكعبة ، وهو محل عبادة الملائكة ، ويحج إليه كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة.

لكن في أي سماء هو؟ الرّوايات مختلفة ، ففي كثير منها أنه في السماء الرابعة ، وفي بعضها أنه في السماء الأولى ـ السماء الدنيا ـ وجاء في بعضها أنه في السماء السابعة.

ونطالع في الحديث الذي نقله العلّامة الطبرسي في مجمع البيان في تفسير سورة الطور عن عليعليه‌السلام : «هو البيت في السماء الرابعة بحيال الكعبة ، تعمره

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، المجلد ٤ ، ص ٦٢٠. وقد ذكر هذا الحديث أن القرآن نزل تدريجيا في عشرين سنة ، في حين أننا نعلم فترة النبوة التي نزل فيها القرآن كانت (٢٣) سنة ، ولعله هذا القول اشتباه من الراوي ، أو غلط في نسخ الحديث.

١٢١

الملائكة بما يكون منها فيه من العبادة ، ويدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثمّ لا يعودون إليه أبدا»(١) .

وعلى أية حال ، فإنّ نزول القرآن جملة واحدة إلى البيت المعمور في ليلة القدر لا ينافي علم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به مطلقا ، فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا سبيل له إلى اللوح المحفوظ الذي هو مكنون علم الله ، إلّا أنّه عالم بالعوالم الأخرى.

وبتعبير آخر ، فإن ما استفدناه وفهمناه من الآيات السابقة ، بأن القرآن نزل على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرتين : نزولا دفعيا في ليلة القدر ، ونزولا تدريجيا طوال (٢٣) عاما ، لا ينافي الحديث المذكور الذي يقول : إنّه نزل في ليلة القدر إلى البيت المعمور ، لأن قلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطلع على البيت المعمور.

وقد اتضح من خلال ما قيل في الجواب عن هذا السؤال ، الإجابة عن سؤال آخر يقول : إذا كان القرآن نزل في ليلة القدر ، فكيف كانت بداية بعثة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السابع والعشرين من شهر رجب طبقا للروايات المشهورة؟ حيث كان لنزوله في رمضان صفة الجمع والكلية ، في حين أن أوّل آياته نزلت في (٢٧) رجب ، كبداية للنزول التدريجي ، وبذلك فلا مشكلة من هذه الناحية.

والآية التالية وصف وتوضيح لليلة القدر ، حيث تقول :( فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) .

التعبير بـ (يفرق) إشارة إلى أن كل الأمور والمسائل المصيرية تقدر في تلك الليلة ، والتعبير بـ «الحكيم» بيان لاستحكام هذا التقدير ، وعدم تغيره ، وكونه حكيما. غاية ما في الباب أن هذه الصفة تذكر عادة لله سبحانه ، ووصف الأمور الأخرى بها من باب التأكيد.(٢) .

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ١٦٣. وقد جمع العلّامة المجلسي في بحار الأنوار ، المجلد ٥٨ ، صفحة ٥٥ وما بعدها ، الروايات المتعلقة بالبيت المعمور.

(٢) ذكر في تفسير الميزان تفسير آخر لهذه الآية ، خلاصته ، إن الأمور هذا العالم مرحلتين : مرحلة الإجمال والإبهام ، والتي عبر عنها بـ (حكيم) ، ومرحلة التفصيل والكثرة ، والتي عبر عنها بـ (يفرق) المجلد ١٨ ، صفحة ١٤٠.

١٢٢

وهذا البيان ينسجم مع الرّوايات الكثيرة التي تقول : إنّ مقدرات كل بني آدم لمدّة سنة تقدر في ليلة القدر ، وكذلك تفرق الأرزاق والآجال والأمور الأخرى في تلك الليلة.

وسيأتي تفصيل الكلام في هذا البحث والمسائل الأخرى التي ترتبط بليلة القدر ، وعدم التناقض بين هذا التقدير ، وبين حرية البشر ، في تفسير سورة القدر ، إن شاء الله تعالى.

وتقول الآية الأخرى لتأكيد أنّ القرآن منزل من قبل الله تعالى :( أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) .(١)

ولأجل تبيان العلة الأساسية لنزول القرآن وإرسال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكون المقدرات في ليلة القدر ، تضيف الآية :( رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) .(٢)

نعم ، فإن رحمته التي لا تحدّ توجب أن لا يترك العباد وشأنهم ، بل يجب أن ترسل إليهم التعليمات اللازمة لترشدهم في سيرهم إلى الله عبر ذلك المسير التكاملي المليء بالالتواءات والتعرجات ، فإن كل عالم الوجود يصدر عن رحمته الواسعة وينبع منها ، والبشر أكثر تنعما بهذه الرحمة من كل الموجودات.

وتذكر نهاية هذه الآية ـ والآيات التالية ـ سبع صفات لله سبحانه ، وكلها تبين توحيده ووحدانيته ، فتقول :( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) فهو يسمع طلبات العباد ، وهو عليم بأسرار قلوبهم.

ثمّ تقول ، مبينة للصفة الثالثة( رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ

__________________

(١) هناك احتمالات مختلفة في محل جملة (أمرا من عندنا ..) من الإعراب ، وإلى أي من بحوث الآيات السابقة تنظر؟ وأنسب هذه الاحتمالات أن تكون جملة (أمرا من عندنا) حالا لضمير مفعول (إنا أنزلناه) ، أي : إنا أرسلنا القرآن ، وكان ذلك أمرا من عندنا. وهذا الاحتمال ينسجم في هذه الصورة تماما من جملة (إنا كنا مرسلين) والتي تتحدث عن إرسال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ويحتمل أيضا أن يكون توضيحا بـ (كل أمر حكيم) ونصبها على الاختصاص ، فيكون المعنى : أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا.

(٢) (رحمة من ربك) مفعول لأجله بـ (إنا أنزلناه) ، أو لـ (يفرق كل أمر حكيم) ، أو لكليهما.

١٢٣

مُوقِنِينَ ) (١) (٢)

لمّا كان كثير من المشركين يعتقدون بوجود آلهة وأرباب عديدين ، وكانوا يظنون أن لكل موجود من الموجودات إله. ولمّا كان التعبير بـ (ربّك) في الآية السابقة يمكن أن يوهم أن ربّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير ربّ الموجودات الأخرى ، فإن هذه الآية أبطلت كل هذه الأوهام بجملة( رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ) وأثبتت أن ربّ كل موجودات العالم واحد.

وجملة( إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ) التي وردت هنا بصيغة الجملة الشرطية ، تبعث على التساؤل : هل أن كون ربّ العالم ربّا ، مشروط بمثل هذا الشرط؟

الظاهر أن المراد من ذكر هذه الجملة هو بيان أحد معنيين أو كليهما :

الأوّل : إذا كنتم طلاب يقين ، فإنّ السبيل إلى ذلك هو أن تتفكروا في ربوبية الله المطلقة.

والآخر : إذا كنتم من أهل اليقين فإن أفضل مورد لتحصيل هذا اليقين هو أن تتفكروا في آثار رحمة الله ، فإنّكم إذا نظرتم إلى الآثار في كل عالم الوجود دلتكم على أن الله ربّ كل شيء ، وإذا فلقتم قلب كل ذرّة رأيتم فيه دلالة على هذه الربوبية ، ثمّ إذا لم توقنوا بعد هذا بكونه تعالى ربا ، فبأي شيء في هذا العالم يمكن أن توقنوا وتؤمنوا؟

وتقول في الصفة الرابعة والخامسة والسادسة( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ) (٣) فحياتكم ومماتكم بيده ، وهو سبحانه ربكم ورب العالمين ، وعلى هذا فلا إله سواه ، أو يكون من ليس له مقام الربوبية ولا أهليتها ، ولا يملك الحياة والموت ربّا

__________________

(١) كلمة (ربّ) في هذه الآية بدل من (ربّ) في الآية السابقة.

(٢) جزاء الجملة الشرطية (إن كنتم موقنين) محذوف ، وتقدير الكلام : إن كنتم من أهل اليقين ، أو في طلب اليقين ، علمتم أن الله ربّ السماوات والأرض وما بينهما.

(٣) يمكن أن تكون جملة (لا إله إلا هو) استئنافية ، أو خبرا لمبتدأ محذوف تقديره : هو لا إله إلا هو لا. إلا أن الاحتمال الأول هو الأنسب.

١٢٤

ومعبودا؟!

وتضيف في الصفة السابعة( وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ) فإذا قلتم : إنّكم إنّما تعبدون الأصنام ، لأنّ الأصنام ، لأن آباءكم كانوا يعبدونها ، فاعلموا أن ربّهم هو الله الواحد الأحد أيضا ، وعلاقتكم بآبائكم وارتباطكم بهم يوجب عليكم أن لا تعبدوا إلّا الله ، وأن لا تخضعوا إلّا له ، وإذا كان سبيلهم غير هذا السبيل فقد كانوا على خطأ بلا ريب.

من الواضح أنّ مسألة الحياة والموت من شؤون الله وتدبيره ، وإذا كانت الآية قد ذكرتها بالخصوص ، فلأن لها أهمية فائقة من جهة ، ولأنّها إشارة ضمنية إلى مسألة المعاد من جهة أخرى ، وليست هذه هي المرة الأولى التي يؤكّد فيها القرآن على مسألة الحياة والموت ، بل بيّنها مرارا على أنّها من الأفعال المختصة بالله تعالى ، لأن مسألة الحياة والموت أكثر المسائل تأثيرا في حياة البشر ومصائرهم ، وهي في الوقت نفسه أعقد مسائل عالم الوجود ، وأوضح دليل على قدرة الله تعالى.

* * *

ملاحظة

علاقة القرآن بليلة القدر :

ممّا يجدر الانتباه إليه أنه ورد في هذه الآيات تلميحا ، وفي آيات سورة القدر تصريحا ، أن القرآن نزل في ليلة القدر ، وكم هو عميق هذا الكلام؟! ففي تلك الليلة التي تقدر فيها مقدرات العباد وأرزاقهم ، ينزل القرآن الكريم على قلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطاهر ، ألا يدل هذا على أن هناك علاقة صميمية بين مقدراتكم ومصائركم وبين محتوى هذا الكتاب السماوي؟

ألا يعني هذا الكلام أن هناك علاقة لا تقبل الانفصال بين القرآن وبين حياتكم

١٢٥

المعنوية ، بل وحتى حياتكم المادية؟ فقد أدّى الى انتصاركم على الأعداء ، وشموخكم وحريتكم واستقلالكم ، وعمران مدنكم ورقيكم.

أجل ، في تلك الليلة التي كانت تقدر فيها المقدرات ، أنزل القرآن أيضا.

* * *

١٢٦

الآيات

( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦) )

التّفسير

الدّخان القاتل :

لما كان الكلام في الآيات السابقة في أنّ هؤلاء إن كانوا طلّاب يقين ، فإنّ سبل تحصيله كثيرة ، وتضيف أوّل آية من هذه الآيات( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ) فإنّ شك هؤلاء في حقانية هذا الكتاب السماوي وفي نبوّتك ، ليس نابعا من كون المسألة معقدة صعبة ، بل من عدم جديتهم في التعامل معها ، فهم يتعاملون معها بهزل ، فيستهزءون ويسخرون تارة ، ويصفون أنفسهم بعدم الاطلاع والإلمام وبالجهل

١٢٧

تارة أخرى ، ويشغلون أنفسهم كل يوم بأسلوب لعب جديد.

«يلعبون» من مادة اللعاب ـ على قول الراغب ـ وهو البزاق السائل ، ولما لم يكن للإنسان هدف مهم من اللعب ، فقد شبه بالبزاق الذي يبصقه الفرد لا إراديا.

ومهما كان ، فإن الحقيقة هي أن التعامل الجدي مع المسائل يعين الإنسان في معرفة الحقائق ، أمّا التعامل الهازل الفارغ فإنّه يلقي الحجب عليها ويمنعه من الوصول إليها.

ثمّ انتقلت الآية التالية إلى تهديد هؤلاء المنكرين المعاندين المتعصبين ، في الوقت الذي وجهت الخطاب إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت :( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

عند ذلك سيعم الخوف والاضطراب كل وجودهم ، وتزول الحجب من أمام أعينهم ، فيقفون على خطئهم الكبير ، ويتجهون إلى الله تعالى بالقول :( رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ) .

إلّا أنّ اللهعزوجل يرفض طلب هؤلاء ويقول :( أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ) رسول كان واضحا في نفسه وتعليماته وبرامجه وآياته ومعجزاته ، ومبينا لها جميعا.

غير أنّ هؤلاء بدل أن يذعنوا له ، ويؤمنوا بالله الواحد الأحد ، ويتقبلوا أوامره بكل وجودهم ، أعرضوا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ) .

فكانوا يقولون تارة : إنّ غلاما روميا سمع قصص الأنبياء وأخبارهم يعلمه إياها ، وهذه الآيات من اختراعه وإملائه على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) (١)

ويقولون تارة أخرى : إنّه مصاب بالاختلال الفكري والعقلي ، وهذه الكلمات وليدة فقدانه التوازن الفكري.

__________________

(١) النحل ، الآية ١٠٣.

١٢٨

ثمّ تضيف الآية التالية :( إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ ) ومن هنا يتّضح أنّهم عند ما يقعون في قبضة العذاب ، ندمون على ما بدر منهم من أفعال ، ويصممون على تعديل سلوكهم وإصلاحه ، إلّا أن هذا الموقف الجديد مؤقت وسريع الزوال ، فما أن تهدأ عاصفة الأحداث حتى يعودوا لما كانوا عليه من قبل.

ويقول سبحانه في آخر آية من هذه الآيات( يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ) .(١)

«البطش» هو تناول الشيء بصولة ، وهنا بمعنى الأخذ للانتقام الشديد ، ووصف البطشة بالكبرى إشارة إلى العقوبة الشديدة التي تنتظر هذه الفئة.

والخلاصة : أنّه على فرض تخفيف العقوبات المؤقتة في حق هؤلاء ، فإن العقوبات النهائية العسيرة تنتظرهم ، ولا مفرّ لهم منها.

«منتقمون» من مادة الانتقام ، وكما قلنا سابقا فإنّها تعني العقوبة والجزاء ، وإن كانت كلمة الانتقام تعطي معنى آخر في محادثاتنا اليومية في عصرنا الحاضر ، حيث تعني العقوبة المقترنة بإخماد نار الغضب وتفريغ ما في القلب من انفعال وحب الانتقام ، إلّا أن هذا الأمر لا وجود له في المعنى اللغوي للكلمة.

* * *

ملاحظة

ما المراد من الدخان المبين؟

هناك أقوال بين المفسّرين حول المراد من الدخان الذي ذكر في هذه الآيات كتعبير عن العذاب الإلهي ، وتوجد هنا نظريتان أساسيتان :

__________________

(١) احتمل المفسّرون في تركيب هذه الجملة احتمالات كثيرة ، وأكثرها قبولا من قبل المفسّرين ، وهو المناسب أيضا لسياق الآية : إن (يوم) متعلق بفعل (ننتقم) الذي يفهم من جملة (إنا منتقمون) وعلى هذا يكون التقدير : ننتقم منهم يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون.

١٢٩

١ ـ إنّه إشارة إلى العقاب والعذاب الذي ابتلي به كفار قريش في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه لعنهم ودعا عليهم قال : «اللهم سنين كسني يوسف». وبعد ذلك أصاب مكّة قحط شديد ، حتى أنّهم كانوا يرون كأن بين السماء والأرض عمودا من الدخان من شدة الجوع والعطش ، وعسر الأمر عليهم حتى أكلوا الميتة وعظام الحيوانات الميتة.

فأتوا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : يا محمّد ، تأمرنا بصلة الرحم وقد هلك قومك! لئن رفع عنا العذاب لنؤمنن. فدعا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فارتفع العذاب وعم الخير والنعمة الوفيرة ، لكنّهم لم يعتبروا بذلك ، بل عادوا إلى الكفر مرة أخرى.(١)

طبقا لهذا التّفسير فقد اعتبرت غزوة بدر هي البطشة الكبرى ـ أي العقوبة الشديدة ـ لأن المشركين تلقوا من المسلمين في بدر ضربات مهلكة ماحقة.

وطبقا لهذا التّفسير لم يكن للدخان وجود في الحقيقة ، بل إن السماء قد بدت للناس العطاشى الجائعين كعمود الدخان ، وعلى هذا فذكر الدخان هنا من باب المجاز ، وهو يشير إلى تلك الحالة الصعبة المؤلمة.

وقال البعض : إنّ الدخان يستعمل عادة في كلام العرب كناية عن الشر والبلاء الذي يعم ويغلب.(٢)

ويعتقد بعض آخر أنّه حين القحط وقلّة المطر تغطي السماء عادة أعمدة الغبار ، وقد عبر هنا عن هذه الحالة بالدخان ، لأن المطر ينزل بالغبار إلى الأرض فيصفو الأفق.(٣) ومع كل هذه الصفات ، فإنّ استعمال كلمة الدخان هنا مجازا طبقا لهذا التّفسير.

٢ ـ إن المراد من «الدخان المبين» هو ذلك الدخان الغليظ الذي سيغطي السماء

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ٦٢ ، ذيل الآيات مورد البحث.

(٢) يقول الفخر الرازي : إنّ العرب يسمّون الشر الغالب بالدخان. المجلد ٢٧ ، صفحة ٢٤٢.

(٣) روح المعاني ، المجلد ٢٥ ، ص ١٠٧.

١٣٠

في نهاية العالم ، وعلى أعتاب القيامة ، فهو علامة لحلول اللحظات الأخيرة لهذه الدنيا ، وبداية عذاب الله أليم للظالمين والمفسدين.

عند ذلك سينتبه هؤلاء الظالمون من نوم غفلتهم ، ويطلبون رفع العذاب والرجوع إلى الحياة الدنيوية العادية ، لكن أيديهم ترد في أفواههم.

وطبقا لهذا التّفسير فإنّ الدخان معناه الحقيقي ، ويكون مضمون هذه الآيات هو نفس ما ورد في آيات القرآن الأخرى ، وهو أنّ المجرمين والكافرين يرجون وهم على أعتاب القيامة أو فيها ـ رفع العذاب عنهم ، والرجوع إلى الدنيا ، لكن ذلك لا يقبل منهم ولا يحقق رجاؤهم.(١)

الإشكال الوحيد الذي يرد على هذا التّفسير أنّه لا ينسجم مع جملة( إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ ) لأنّ العذاب الإلهي لا يخفف عند انتهاء الدنيا أو في القيامة ليعود الناس إلى حالة الكفر والمعصية.

أما إذا اعتبرنا هذه الجملة قضية شرطية ـ وإن كان ذلك يخالف الظاهر ـ فسيرتفع الإشكال حينئذ ، لأن معنى الآية يصبح : كلما كشفنا عنهم قليلا من العذاب فإنّهم يعودون إلى طريقتهم الأولى ، وهذا في الواقع شبيه بالآية (٢٨) من سورة الأنعام( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ) .

اضافة إلى أنّ تفسير «البطشة الكبرى» بأحداث يوم بدر ، يبدو بعيدا عن الصواب ، لكن تفسيرها بعقوبات القيامة(٢) مع الآية تماما.

والشاهد الآخر للتفسير الثّاني هو الروايات الواردة عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي تفسّر الدخان بالدخان الذي سيملأ العالم على أعتاب قيام القيامة ، كالرواية التي يرويها حذيفة بن اليمان عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه ذكر أربع علامات لاقتراب القيامة : الأولى ظهور الدجال ، والأخرى نزول عيسىعليه‌السلام ، والثالثة النّار التي تظهر

__________________

(١) تراجع الآيات ٢٧ ـ ٣٠ ، من سورة الأنعام.

(٢) يقول الراغب في المفردات ، البطش : هو تناول الشيء بصولة ، وهو مقدمة العقوبة عادة.

١٣١

من أرض عدن ، والدّخان.

فسأل حذيفة ، يا رسول الله ، وما الدّخان؟ فتلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ ) يملأ ما بين المشرق والمغرب ، يمكث أربعين يوما وليلة ، أمّا المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة ، وأمّا الكافر فبمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره»(١) .

وجاء في حديث آخر عن أبي مالك الأشعري عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ ربّكم أنذركم ثلاثا : الدخان يأخذ منه المؤمن كالزكمة ، ويأخذ الكافر فينفخ حتى يخرج من كل مسمع منه ، والثانية الدابة ، والثالثة الدجال»(٢)

وقد قدمنا توضيحا كافيا حول دابة الأرض في ذيل الآية (٨٢) من سورة النمل.

وروي شبيه هذا المعنى حول الدخان عن أبي سعيد الحذري عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .(٣)

ويلاحظ نظير هذه التعبيرات ، بصورة أكثر تفصيلا ، في الروايات الواردة عن طرق أهل البيتعليهم‌السلام ، ومن جملتها ما نقرأه في رواية عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «عشر قبل الساعة لا بدّ منها : السفياني ، والدجال ، والدخان ، والدّابة ، وخروج القائم ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونزول عيسى ، وخسف بالمشرق ، وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر».(٤)

ومن مجموع ما قيل ، نستنتج أن التّفسير الثّاني هو الأنسب.

* * *

__________________

(١) تفسير الدر المنثور ، الجزء ٦ ، صفحة ٢٩.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

(٤) بحار الأنوار ، المجلد ٥٢ ، صفحة ٢٠٩.

١٣٢

الآيات

( وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) )

التّفسير

إذا لم تؤمنوا فلا تصدّوا الآخرين عن الإيمان :

متابعة للآيات السابقة التي كانت تتحدث حول تمرد مشركي العرب وعدم إذعانهم للحق ، تشير هذه الآيات إلى نموذج من الأمم الماضية التي سارت في نفس هذا المسير ، وابتليت أخيرا بالعذاب الأليم والهزيمة النكراء ، ليكون ذلك تسلية للمؤمنين ، وتحذيرا للمنكرين المعاندين. وذلك النموذج هو قصّة موسى وفرعون ، حيث تقول الآية :( وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ ) .

«فتنّا» من مادة فتنة ، وهي في الأصل تعني وضع الذهب في فرن النّار لتخليصه من الشوائب ، ثمّ أطلقت على كل امتحان واختبار يجري لمعرفة نسبة خلوص

١٣٣

البشر ذلك الاختبار الذي يعم كل حياة الإنسان والمجتمعات البشرية ، وبتعبير آخر ، فإن كل مراحل حياة الإنسان في هذه الدنيا تطوى في هذه الاختبارات ، فإن هذه الدنيا دار امتحان وابتلاء.

لقد كان قوم فرعون يعيشون أوج قوتهم وعظمتهم بامتلاكهم حكومة قوية ، وثروات ضخمة ، وإمكانيات واسعة ، فغرتهم هذه القدرة العظيمة ، وتلوثوا بأنواع المعاصي والظلم والجور.

ثمّ تضيف الآية( وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ) فهو كريم من ناحية الخلق والطبيعة ، وكريم من ناحية العظيمة والمنزلة عند الله ، وكريم من ناحية الأصل والنسب ، ولم يكن هذا الرّسول إلّا موسى بن عمرانعليه‌السلام .(١)

لقد خاطبهم موسىعليه‌السلام بأسلوبه المؤدب جدّا ، الملي بالود والمحبة ، فقال :( أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ ) .(٢)

وطبقا لهذا التّفسير ، فإنّ( عِبادَ اللهِ ) بحكم المخاطب ، والمراد منهم الفراعنة ، وبالرغم من أنّ هذا التعبير يستعمل في آيات القرآن في شأن العباد الصالحين ، إلا أنّه أطلق أيضا في موارد عديدة على الكفار والمجرمين ، من أجل تحريك وجدانهم ، وجذب قلوبهم نحو الحق(٣) .

بناء على هذا ، فإنّ المراد من( أَدُّوا ) إطاعة أمر الله سبحانه وتنفيذ أوامره.

وقد ذكر جماعة من المفسّرين تفسيرا آخر لهذه الجملة ، فقالوا : المراد من( عِبادَ اللهِ ) بنو إسرائيل ، ومن( أَدُّوا ) إيداعهم بيد موسى ، ورفع الذلة والعبودية

__________________

(١) يقول الراغب في المفردات : الكرم إذا وصف الله تعالى به فهو اسم لإحسانه وإنعامه ، نحو قوله :( فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) وإذا وصف ربّه الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه. ولقد ورد هذا الوصف لأمور أخرى أيضا القرآن المجيد ، مثل : كتاب كريم ، كل زوج كريم ، رزق كريم مقام كريم ، أجر كريم

(٢) «أن» في جملة :( أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ ) تفسير لفعل مقدر يفهم من الكلام السابق ، والتقدير : (جئتكم أن أدّوا إليّ عباد الله).

(٣) كالآية ١٧ ـ الفرقان ، و ١٣ ـ سبأ ، و٥٨ ـ الفرقان ، وغيرها.

١٣٤

عنهم ، كما جاء في الآية (١٧) من سورة الإسراء( أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ ) وورد نظير هذا المعنى في الآية ١٠٥ ـ الأعراف ، و٤٧ ـ طه أيضا.

والأمر الذي لا ينسجم مع هذا التّفسير ، هو أن جملة( أَدُّوا ) تستعمل عادة في أداء الأموال والأمانات والتكاليف ، لا في مورد إيداع الأشخاص ، ويتّضح هذا الموضوع جيدا بملاحظة موارد استعمال هذه الكلمة.

وعلى أية حال ، فإنّه يضيف في بقية الآية( إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) وذلك لنفي كل اتهام عن نفسه.

إنّ هذا التعبير ـ في الحقيقة ـ داحض للاتهامات الباطلة التي ألصقها به الفراعنة ، كالسحر ، والسعي إلى التفوق واستلام الحكم في أرض مصر ، وطرد أصحابها الأصليين ، والتي أشير إليها في الآيات المختلفة.

ثمّ يقول لهم موسىعليه‌السلام بعد أن دعاهم إلى طاعة الله سبحانه ، أو إطلاق سراح بني إسرائيل وتحريرهم : إنّ مهمّتي الأخرى أن أقول لكم :( وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) معجزاته بينة ، وأدلته منطقية واضحة.

والمراد من عدم العلو على الله سبحانه ، هو عدم القيام بأي عمل لا ينسجم مع أصول العبودية ، من المخالفة والتمرد ، وحتى إيذاء رسل الله ، أو ادعاء الألوهية وأمثال ذلك.

ولما كان المستكبرون وعبيد الدنيا لا يدعون أي تهمة وافتراء ، إلّا وألصقوهما بمن يرونه مخالفا لمنافعهم ومصالحهم اللامشروعة بل لا يتورعون حتى عن قتله وإعدامه ، لذا فإنّ موسىعليه‌السلام يضيف للحد من مسلكهم هذا( وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ) .

إنّ هذا التعبير لعله إشارة إلى أنّي لا أخاف تهديداتكم ، وسأصمد حتى آخر نفس ، والله حافظي وحارسي ، وكانت مثل هذه التعبيرات تمنع القادة الإلهيين حزما أكبر في دعوتهم ، وتزيد في انهيار إرادة الأعداء ومعنوياتهم ، وتزيد من

١٣٥

جانب آخر ثبات المحبين والمؤمنين واستقامتهم ، لأنّهم يعلمون أن إمامهم وقائدهم يقاوم حتى اللحظات الأخيرة.

وربّما كان التأكيد على مسألة الرجم من جهة أن كثيرا من رسل الله قبل موسىعليه‌السلام قد هددوا بالرجم ، ومن جملتهم نوحعليه‌السلام ( قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ) (١)

وكذلك الحال بالنسبة إلى إبراهيمعليه‌السلام لما هدده آزر وقال له :( لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ) (٢) ، وشعيب لما هدده الوثنيون قالوا له :( وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ ) (٣)

أمّا اختيار الرجم من بين أنواع القتل ، فلأنّه أشدّها جميعا. وعلى قول بعض أرباب اللغة فإن هذه الكلمة جاءت بمعنى مطلق القتل أيضا.(٤)

واحتمل كثير من المفسّرين أن يكون الرجم بمعنى الاتهام وإساءة الكلام ، لأن هذه الكلمة قد استعملت في هذا المعنى أيضا. وكانت هذه الاستعاذة في الحقيقة مانعا من تأثير التهم التي اتهموا بها موسى فيما بعد.

ويمكن أن تكون هذه الكلمة قد استعملت في معناها الواسع الذي يشمل كلا المعنيين.

وتخاطب الآية الأخيرة هؤلاء القوم فتقول :( وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ) لأن موسىعليه‌السلام كان واثقا من نفوذه بين أوساط الناس ، ومختلف طبقاتهم ، بامتلاكه تلك المعجزات الباهرات ، والأدلة القوية ، والسلطان المبين ، وأن ثورته ستؤتي أكلها بعد حين ، ولذلك كان يرضى من هؤلاء القوم أن يتنحوا عن طريقه ولا يكونوا حاجزا بينه وبين الناس.

لكن ، هل يمكن أن يهدأ هؤلاء الجبابرة المغرورون وهم يرون الخطر يهدد

__________________

(١) الشعراء ، الآية ١١٦.

(٢) مريم ، الآية ٤٦.

(٣) هود ، الآية ٩١.

(٤) لسان العرب ، ماده رجم.

١٣٦

مصالحهم وثرواتهم اللامشروعة ، ويقبلوا مثل هذا الاقتراح ويدعوا موسى وشأنه؟

الآيات الآتية كفيلة بأن تبيّن تتمة هذه الأحاديث.

* * *

١٣٧

الآيات

( فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) )

التّفسير

تركوا القصور والبساتين والكنوز وارتحلوا!

لقد استخدم موسىعليه‌السلام كلّ وسائل الهداية للنفوذ إلى قلوب هؤلاء المجرمين الظلمة ، إلّا أنّها لم تؤثر فيهم أدنى تأثير ، وطرق كلّ باب ما من مجيب.

لذلك يئس منهم ، ولم ير لهم علاجا إلّا لعنهم والدعاء عليهم ، لأنّ الفاسدين الذين لا أمل في هدايتهم لا يستحقون الحياة في قانون الخلقة ، بل يجب أن ينزل عليهم عذاب الله ويجتثهم ويطهر الأرض من دنسهم ، لذلك تقول الآية الأولى من هذه الآيات :( فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ ) .

١٣٨

انظر إلى أدب الدعاء ، إنّه لا يقول : اللهم افعل كذا وكذا ، بل يكتفي بأنّ يقول : اللهمّ إن هؤلاء قوم مجرمون لا أمل في هدايتهم وحسب!

وقد استجاب الله سبحانه دعاءه ، وكمقدمة لنزول العذاب على الفراعنة ، ونجاة بني إسرائيل منهم ، أمر موسىعليه‌السلام أنّ( فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ) لكن لا تقلق من ذلك ، فيجب أن يتبعكم هؤلاء ليلاقوا المصير الذي ينتظرهم.

إنّ موسىعليه‌السلام مأمور بأنّ يتحرك ليلا بصحبة عباد الله المؤمنين ، أي بني إسرائيل ، وجماعة من أهل مصر الذين مالت قلوبهم إلى الإيمان ولبّت دعوة موسى ، وأن يأتي النيل ، ويعبره بطريقة إعجازية ، ثمّ يسير إلى الأرض الموعودة ، «فلسطين».

صحيح أنّ حركة موسى وأنصاره قد تمّت ليلا ، إلّا أنّ من المحتم أنّ لا تبقى حركة جماعية عظيمة كهذه خافية ، عن أنظار الفراعنة مدة طويلة ، وربّما لم تمض عدّة ساعات حتى أوصل جواسيس فرعون هذا الخبر المهور ـ أو قل فرار العبيد الجماعي ـ إلى مسامعه ، فأمر بمطاردتهم بجيش جرار.

والطريف أنّ كلّ هذه الأمور التي حدثت جاءت ضمن إشارة موجزة في الآيات أعلاه( إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ) .

إن ما حذف هنا من أجل الاختصار وضّح في آيات أخرى من القرآن بعبارات موجزة ، فمثلا نقرأ في الآية (٧٧) من سورة طه( وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى ) .

ثمّ تضيف الآية التي بعدها : عند ما تصل إلى الساحل الآخر عليك أن تترك البحر بهدوء( وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً ) والمراد من البحر في هذه الآيات هو نهر النيل العظيم.

لقد ذكر المفسّرون وأرباب اللغة معنيين للرهو : هما الهدوء ، والسعة والانفتاح ، ولا مانع هنا من اجتماعهما.

١٣٩

لكن لماذا صدر مثل هذا الأمر لموسىعليه‌السلام ؟

من الطبيعي أنّ موسىعليه‌السلام وبني إسرائيل كانوا راغبين في أن يجتازوا البحر حتى تتصل المياه مرّة أخرى وتملأ هذا الفراغ ، ويبتعدوا بسرعة عن منطقة الخطر ، ويتجهوا بسلامة إلى الوطن الموعود ، إلّا أنّهم أمروا أنّ لا يعجلوا أثناء عبورهم نهر النيل ، بل ليدعوا فرعون وآخر جندي من جنوده يردون النيل ، فإنّ أمر إهلاكهم وإماتتهم قد صدر إلى أمواج النيل المتلاطمة الغاضبة ، ولذلك تقول الآية في ختامها( إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ) .

هذا هو أمر اللهعزوجل الحتمي الصادر بحق هؤلاء القوم ، بأنّهم يجب أن يغرقوا جميعا في نهر النيل العظيم ، الذي كان أساس ثروتهم وقوّتهم! وبأمر إلهي واحد تحول هذا النهر الذي كان عصب حياتهم إلى أداة فنائهم وموتهم.

نعم ، عند ما وصل فرعون وجنوده إلى شاطئ النيل كان بنو إسرائيل قد خرجوا من الجانب الآخر ، وكان ظهور مثل ذلك الطريق اليابس وسط النيل كافيا وحده لأن يلفت نظر حتى الطفل الساذج إلى تحقق إعجاز إلهي عظيم في البحر ، إلّا أنّ كبر أولئك الحمقى وغرورهم لم يسمح لهم بإدراك هذه الحقيقة الواضحة فيقفوا على اشتباهاتهم وأخطائهم ، ويتوجهوا إلى الله سبحانه!

ربّما كانوا يظنون أنّ هذا التغير الذي طرأ على النيل قد تمّ بأمر فرعون أيضا! وربّما قال هذا الكلام لجنوده ، ثمّ ورد بنفسه ذلك الطريق فتبعه جنوده حتى الجندي الأخير!

لكن ، أمواج النيل تلاطمت فجأة وانهالت عليهم كبناء شاهق انهدمت قواعده فانهار إلى الأرض ، فغرقوا جميعا.

ولنكتة التي تلفت النظر في هذه الآيات ، هي اختصارها الفائق ، وكونها بليغة ومعبرة في الوقت نفسه ، فقد ذكر قصة مفصلة في ثلاث آيات ـ أو جمل ـ بحذف الجمل الإضافية التي تفهم من القرائن أو الجمل الأخرى ، ونراها اكتفت بالقول :

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

مطاه أي ظهره، و المراد بتمطّيه في ذهابه التبختر و الاختيال استعارة.

و المعنى: فلم يصدّق هذا الإنسان الدعوة فيما فيها من الاعتقاد و لم يصلّ لربّه أي لم يتّبعها فيما فيها من الفروع و ركنها الصلاة و لكن كذّب بها و تولّى عنها ثمّ ذهب إلى أهله يتبختر و يختال مستكبراً.

قوله تعالى: ( أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى‏ ثُمَّ أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى‏ ) لا ريب أنّه كلمة تهديد كرّرت لتأكيد التهديد، و لا يبعد - و الله أعلم - أن يكون قوله:( أَوْلى‏ لَكَ ) خبراً لمبتدإ محذوف هو ضمير عائد إلى ما ذكر من حال هذا الإنسان و هو أنّه لم يصدّق و لم يصلّ و لكن كذّب و تولّى ثمّ ذهب إلى أهله متبختراً مختالاً، و إثبات ما هو فيه من الحال له كناية عن إثبات ما هو لازمه من التبعة و العقاب.

فيكون الكلام و هي كلمة ملقاة من الله تعالى إلى هذا الإنسان كلمة طبع طبع الله بها على قلبه حرم بها الإيمان و التقوى و كتب عليه أنّه من أصحاب النار، و الآيتان تشبهان بوجه قوله تعالى:( فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى‏ لَهُمْ ) سورة محمّد: 20.

و المعنى: ما أنت عليه من الحال أولى و أرجح لك فأولى ثمّ أولى لك فأولى لتذوق وبال أمرك و يأخذك ما اُعدّ لك من العذاب.

و قيل: أولى لك اسم فعل مبنيّ و معناه وليك شرّ بعد شرّ.

و قيل: أولى فعل ماض دعائيّ من الولي بمعنى القرب و فاعل الفعل ضمير مستتر عائد إلى الهلاك و اللّام مزيدة و المعنى أولاك الهلاك.

و قيل: الفاعل ضمير مستتر راجع إليه تعالى و اللّام مزيدة، و المعنى أولاك الله ما تكرهه، أو غير مزيدة و المعنى أدناك الله ممّا تكرهه.

و قيل: معناه الذمّ أولى لك من تركه إلّا أنّه حذف و كثر في الكلام حتّى صار بمنزلة الويل لك و صار من المحذوف الّذي لا يجوز إظهاره.

٢٠١

و قيل: المعنى أهلكك الله هلاكاً أقرب لك من كلّ شرّ و هلاك.

و قيل: أولى أفعل تفضيل بمعنى الأحرى، و خبر لمبتدإ محذوف يقدّر كما يليق بمقامه فالتقدير هنا النار أولى لك أي أنت أحقّ بها و أهل لها فأولى.

و هي وجوه ضعيفة لا تخلو من تكلّف و الوجه الأخير قريب ممّا قدّمنا و ليس به.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ) مختتم فيه رجوع إلى ما في مفتتح السورة من قوله:( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ) .

و الاستفهام للتوبيخ، و السدي المهمل، و المعنى أ يظنّ الإنسان أن يترك مهملاً لا يعتنى به فلا يبعث بإحيائه بعد الموت و لازمه أن لا يكلّف و لا يجزى.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى‏ ) اسم كان ضمير راجع إلى الإنسان، و إمناء المنيّ صبّه في الرحم.

قوله تعالى: ( ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ) أي ثمّ كان الإنسان - أو المنيّ - قطعة من دم منعقد فقدّره فصوّره بالتعديل و التكميل.

قوله تعالى: ( فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى) أي فجعل من الإنسان الصنفين: الذكر و الاُنثى.

قوله تعالى: ( أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى‏ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى‏ ) احتجاج على البعث الّذي ينكرونه استبعاداً له بعموم القدرة و ثبوتها على الخلق الابتدائيّ و الإعادة لا تزيد على الابتداء مئونة بل هي أهون، و قد تقدّم الكلام في تقريب هذه الحجّة في تفسير الآيات المتعرّضة لها مراراً.

٢٠٢

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج الطيالسيّ و أحمد و عبد بن حميد و البخاريّ و مسلم و الترمذي و النسائيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن الأنباريّ في المصاحف و الطبرانيّ و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقيّ معاً في الدلائل عن ابن عبّاس قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعالج من التنزيل شدّة، و كان يحرّك به لسانه و شفتيه مخافة أن ينفلت منه يريد أن يحفظه فأنزل الله( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) قال: إنّ علينا أن نجمعه في صدرك ثمّ نقرأه( فَإِذا قَرَأْناهُ‏ ) يقول: إذا أنزلناه عليك( فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏ ) فاستمع له و أنصت( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) بيّنه( نبيّنه ظ) بلسانك، و في لفظ علينا أن نقرأه فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل أطرق - و في لفظ استمع - فإذا ذهب قرأ كما وعده الله.

و فيه، أخرج ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا اُنزل عليه القرآن تعجّل بقراءته ليحفظه فنزلت هذه الآية( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ‏ ) .

و كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يعلم ختم سورة حتّى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم.

أقول: و روي ما في معنى صدر الحديث في المجمع، عن ابن جبير و في معناه غير واحد من الروايات، و قد تقدّم أنّ في انطباق هذا المعنى على الآيات خفاء.

و في تفسير القمّيّ قوله تعالى:( كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ) قال: الدنيا الحاضرة( وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) قال: تدعون( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ) أي مشرقة( إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) قال: ينظرون إلى وجه الله أي رحمة الله و نعمته.

و في العيون، في باب ما جاء عن الرضاعليه‌السلام من أخبار التوحيد بإسناده إلى إبراهيم بن أبي محمود قال: قال عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ

٢٠٣

ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) يعني مشرقة تنتظر ثواب ربّها.

أقول: و رواه في التوحيد، و الاحتجاج، و المجمع، عن عليّعليه‌السلام ، و قد اعترض على أخذ ناظرة بمعنى منتظرة بأنّ الانتظار لا يتعدّى بإلى بل هو متعدّ بنفسه، و ردّ عليه في مجمع البيان بالاستشهاد بقول جميل بن معمر:

و إذا نظرت إليك من ملك

و البحر دونك جدتني نعما

و قول الآخر:

إنّي إليك لما وعدت لناظر

نظر الفقير إلى الغني الموسر

و عدّ في الكشّاف إطلاق النظر في الآية بمعنى الانتظار استعمالاً كنائيّاً و هو معنى حسن.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و الترمذي و ابن جرير و ابن المنذر و الآجريّ في الشريعة و الدارقطنيّ في الرؤية و الحاكم و ابن مردويه و اللالكائيّ في السنّة و البيهقيّ عن ابن عمر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أدنى أهل الجنّة منزلاً لمن ينظر إلى جنانه و أزواجه و نعيمه و خدمه و سرره مسيرة ألف سنة و أكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة و عشيّة.

ثمّ قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ) قال: البياض و الصفاء( إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) قال: ينظر كلّ يوم في وجهه.

أقول: الرواية تقبل الانطباق على المعنى الّذي أوردناه في تفسير الآية، و مع الغضّ عنه تقبل الحمل على رحمته و فضله و كرمه تعالى و سائر صفاته الفعليّة فإنّ وجه الشي‏ء ما يستقبل به الشي‏ء غيره و ما يستقبل به الله سبحانه خلقه هو صفاته الكريمة فالنظر إلى رحمة الله و فضله و كرمه و صفاته الكريمة نظر إلى وجه الله الكريم.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قول الله:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) قال: ينظرون إلى ربّهم بلا كيفيّة و لا حدّ محدود و لا صفة معلومة.

أقول: و الرواية تؤيّد ما قدّمنا في تفسير الآية أنّ المراد به النظر القلبيّ

٢٠٤

و رؤية القلب دون العين الحسّيّة، و هي تفسّر ما ورد في عدّة روايات من طرق أهل السنّة ممّا ظاهره التشبيه و أنّ الرؤية بالعين الحسّيّة الّتي لا تفارق المحدوديّة.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ) قال: يعني النفس إذا بلغت الترقوة( وَ قِيلَ مَنْ راقٍ‏ ) قال: يقال له: من يرقيك( وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ ) علم أنّه الفراق‏.

و في الكافي، بإسناده إلى جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله عزّوجلّ:( وَ قِيلَ مَنْ راقٍ وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ‏ ) قال: فإنّ ذلك ابن آدم إذا حلّ به الموت قال: هل من طبيب( وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ ) أيقن بمفارقة الأحبّة( وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) قال: التفت الدنيا بالآخرة( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) قال: المسير إلى ربّ العالمين.

و في تفسير القمّيّ:( وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) قال: التفّت الدنيا بالآخرة( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) قال: يساقون إلى الله.

و في العيون، بإسناده عن عبدالعظيم الحسنيّ قال، سألت محمّد بن عليّ الرضاعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى‏ ثُمَّ أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى) قال: يقول الله عزّوجلّ بعداً لك من خير الدنيا و بعداً لك من خير الآخرة.

أقول: يمكن إرجاعه إلى ما قدّمناه من معنى الآيتين، و كذا إلى بعض ما قيل فيه.

و في المجمع، و جاءت الرواية: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ بيد أبي جهل ثمّ قال له: أولى لك فأولى ثمّ أولى لك فأولى. فقال أبوجهل: بأيّ شي‏ء تهدّدني لا تستطيع أنت و ربّك أن تفعلاً بي شيئاً، و إنّي لأعزّ أهل هذا الوادي، فأنزل الله سبحانه كما قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: و روي ما في معناه في الدرّ المنثور، عن عدّة عن قتادة قال: ذكر لنا و ساق الحديث.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ) قال:

٢٠٥

لا يحاسب و لا يعذّب و لا يسأل عن شي‏ء.

و في العلل، بإسناده إلى مسعدة بن زياد قال: قال رجل لجعفر بن محمّدعليه‌السلام ، يا أباعبدالله إنّا خلقنا للعجب قال: و ما ذلك لله أنت؟ قال: خلقنا للفناء فقال يا ابن أخ خلقنا للبقاء، و كيف يفنى جنّة لا تبيد و نار لا تخمد؟ و لكن قل: إنّما نتحوّل من دار إلى دار.

و في المجمع، و جاء في الحديث عن البراء عن عازب قال: لمّا نزلت هذه الآية( أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى‏ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سبحانك اللّهمّ و بلى: و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهم‌السلام .

أقول: و روي في الدرّ المنثور، عن أبي هريرة و غيره: أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قرأ الآية قال: سبحانك اللّهمّ و بلى‏، و كذا في العيون، عن الرضاعليه‌السلام : أنّه كان إذا قرأ السورة قال عند الفراغ سبحانك اللّهمّ بلى.

٢٠٦

( سورة الدهر مدنيّة و هي إحدى و ثلاثون آية)

( سورة الإنسان الآيات 1 - 22)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا ( 1 ) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ( 2 ) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ( 3 ) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ( 4 ) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ( 5 ) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ( 6 ) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ( 7 ) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ( 8 ) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ( 9 ) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ( 10 ) فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ( 11 ) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ( 12 ) مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ( 13 ) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا ( 14 ) وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا ( 15 ) قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ( 16 ) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا ( 17 ) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلًا ( 18 ) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا ( 19 ) وَإِذَا

٢٠٧

رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ( 20 ) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ( 21 ) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا ( 22 )

( بيان‏)

تذكر السورة خلق الإنسان بعد ما لم يكن شيئاً مذكوراً ثمّ هدايته السبيل إمّا شاكراً و إمّا كفوراً و أنّ الله اعتد للكافرين أنواع العذاب و للأبرار ألوان النعم - و قد فصّل القول في وصف نعيمهم في ثمان عشرة آية و هو الدليل على أنّه المقصود بالبيان -.

ثمّ تذكر مخاطباً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ القرآن تنزيل منه تعالى عليه و تذكرة فليصبر لحكم ربّه و لا يتّبع الناس في أهوائهم و ليذكر اسم ربّه بكرة و عشيّاً و ليسجد له من الليل و ليسبّحه ليلاً طويلاً.

و السورة مدنيّة بتمامها أو صدرها - و هي اثنتان و عشرون آية من أوّلها - مدنيّ، و ذيلها - و هي تسع آيات من آخرها - مكّيّ و قد أطبقت روايات أهل البيتعليهم‌السلام على كونها مدنيّة، و استفاضت بذلك روايات أهل السنّة.

و قيل بكونها مكّيّة بتمامها، و سيوافيك تفصيل القول في ذلك في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) الاستفهام للتقرير فيفيد ثبوت معنى الجملة و تحقّقه أي قد أتى على الإنسان إلخ و لعلّ هذا مراد من قال من قدماء المفسّرين: إنّ( هَلْ ) في الآية بمعنى قد، لا على أنّ ذلك أحد معاني( هل ) كما ذكره بعضهم.

و المراد بالإنسان الجنس: و أمّا قول بعضهم: إنّ المراد به آدمعليه‌السلام فلا

٢٠٨

يلائمه قوله في الآية التالية:( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ ) .

و الحين قطعة من الزمان محدودة قصيرة كانت أو طويلة، و الدهر الزمان الممتدّ من دون تحديد ببداية أو نهاية.

و قوله:( شَيْئاً مَذْكُوراً ) أي شيئاً يذكر باسمه في المذكورات أي كان يذكر مثلاً الأرض و السماء و البرّ و البحر و غير ذلك و لا يذكر الإنسان لأنّه لم يوجد بعد حتّى وجد فقيل: الإنسان فكونه مذكوراً كناية عن كونه موجوداً بالفعل فالنفي في قوله:( لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) متوجّه إلى كونه شيئاً مذكوراً لا إلى أصل كونه شيئاً فقد كان شيئاً و لم يكن شيئاً مذكوراً و يؤيّده قوله:( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ ) إلخ فقد كان موجوداً بمادّته و لم يتكوّن بعد إنساناً بالفعل و الآية و ما يتلوها من الآيات واقعة في سياق الاحتجاج يبيّن بها أنّ الإنسان حادث يحتاج في وجوده إلى صانع يصنعه و خالق يخلقه، و قد خلقه ربّه و جهّزه التدبير الربوبيّ بأدوات الشعور من السمع و البصر يهتدي بها إلى السبيل الحقّ الّذي من الواجب أن يسلكه مدى حياته فإن كفر فمصيره إلى عذاب أليم و إن شكر فإلى نعيم مقيم.

و المعنى هل أتى - قد أتى - على الإنسان قطعة محدودة من هذا الزمان الممتدّ غير المحدود و الحال أنّه لم يكن موجوداً بالفعل مذكوراً في عداد المذكورات.

قوله تعالى: ( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) النطفة في الأصل بمعنى الماء القليل غلب استعماله في ماء الذكور من الحيوان الّذي يتكوّن منه مثله، و أمشاج جمع مشيج أو المشج بفتحتين أو بفتح فكسر بمعنى المختلط الممتزج، و وصفت بها النطفة باعتبار أجزائها المختلفة أو اختلاط ماء الذكور و الإناث.

و الابتلاء نقل الشي‏ء من حال إلى حال و من طور إلى طور كابتلاء الذهب في البوتقة، و ابتلاؤه تعالى الإنسان في خلقه من النطفة هو ما ذكره في مواضع من كلامه أنّه يخلق النطفة فيجعلها علقة و العلقة مضغة إلى آخر الأطوار الّتي تتعاقبها حتّى ينشئه خلقاً آخر.

٢٠٩

و قيل: المراد بابتلائه امتحانه بالتكليف، و يدفعه تفريع قوله:( فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) على الابتلاء و لو كان المراد به التكليف كان من الواجب تفريعه على جعله سميعاً بصيراً لا بالعكس، و الجواب عنه بأنّ في الكلام تقديماً و تأخيراً و التقدير إنّا خلقناه من نطفة أمشاج فجعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه، لا يصغي إليه.

و قوله:( فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) سياق الآيات و خاصّة قوله:( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ) إلخ يفيد أنّ ذكر جعله سميعاً بصيراً للتوسّل به في التدبير الربوبيّ إلى غايته و هي أن يرى آيات الله الدالّة على المبدإ و المعاد و يسمع كلمة الحقّ الّتي تأتيه من جانب ربّه بإرسال الرسل و إنزال الكتب فيدعوه البصر و السمع إلى سلوك سبيل الحقّ و السير في مسير الحياة بالإيمان و العمل الصالح فإن لزم السبيل الّذي هدي إليه أداه إلى نعيم الأبد و إلّا فإلى عذاب مخلّد.

و ذكر الإنسان في الآية من وضع الظاهر موضع الضمير و النكتة فيه تسجيل أنّه تعالى هو خالقه و مدبّر أمره.

و المعنى: إنّا خلقنا الإنسان من نطفة هي أجزاء مختلطة ممتزجة و الحال أنّا ننقله من حال إلى حال و من طور إلى طور فجعلناه سميعاً بصيراً ليسمع ما يأتيه من الدعوة الإلهيّة، و يبصر الآيات الإلهيّة الدالّة على وحدانيّته تعالى و النبوّة و المعاد.

قوله تعالى: ( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) الهداية بمعنى إراءة الطريق دون الإيصال إلى المطلوب و المراد بالسبيل السبيل بحقيقة معنى الكلمة و هو المؤدّي إلى الغاية المطلوبة و هو سبيل الحقّ.

و الشكر استعمال النعمة بإظهار كونها من منعمها و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( وَ سَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) آل عمران: 144 أنّ حقيقة كون العبد شاكراً لله كونه مخلصاً لربّه، و الكفران استعمالها مع ستر كونها من المنعم.

و قوله:( إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) حالان من ضمير( هَدَيْناهُ ) لا من( السَّبِيلَ ) كما قاله بعضهم، و( إِمَّا ) يفيد التقسيم و التنويع أي إنّا هديناه السبيل حال كونه

٢١٠

منقسماً إلى الشاكر و الكفور أي إنّه مهديّ سواء كان كذا أو كذلك.

و التعبير بقوله:( إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) هو الدليل أوّلاً: على أنّ المراد بالسبيل السنّة و الطريقة الّتي يجب على الإنسان أن يسلكها في حياته الدنيا لتوصله إلى سعادته في الدنيا و الآخرة و تسوقه إلى كرامة القرب و الزلفى من ربّه و محصّله الدين الحقّ و هو عندالله الإسلام.

و به يظهر أنّ تفسير بعضهم السبيل بسبيل الخروج من الرحم غير سديد.

و ثانياً: أنّ السبيل المهديّ إليه سبيل اختياريّ و أنّ الشكر و الكفر اللّذين يترتّبان على الهداية المذكورة واقعان في مستقرّ الاختيار للإنسان أن يتلبّس بأيّهما شاء من غير إكراه و إجبار كما قال تعالى:( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) عبس: 20، و ما في آخر السورة من قوله تعالى:( فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) إنّما يفيد تعلّق مشيّته تعالى بمشيّة العبد لا بفعل العبد الّذي تعلّقت به مشيّة العبد حتّى يفيد نفي تأثير مشيّة العبد المتعلّقة بفعله، و قد تقدّمت الإشارة إلى هذا المعنى في هذا الكتاب مراراً.

و الهداية الّتي هي نوع إيذان و إعلام منه تعالى للإنسان هداية فطريّة هي تنبيه بسبب نوع خلقته و ما جهّز به وجوده بإلهام من الله سبحانه على حقّ الاعتقاد و صالح العمل قال تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) الشمس: 8 و أوسع مدلولاً منه قوله تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم: 30.

و هداية قوليّة من طريق الدعوة يبعث الأنبياء و إرسال الرسل و إنزال الكتب و تشريع الشرائع الإلهيّة، و لم يزل التدبير الربوبيّ تدعم الحياة الإنسانيّة بالدعوة الدينيّة القائم بها أنبياؤه و رسله، و يؤيّد بذلك دعوة الفطرة كما قال:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ - إلى أن قال -رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) النساء: 165.

٢١١

و من الفرق بين الهدايتين أنّ الهداية الفطريّة عامّة بالغة لا يستثني منها إنسان لأنها لازم الخلقة الإنسانيّة و هي في الأفراد بالسويّة غير أنّها ربّما تضعف أو يلغو أثرها لعوامل و أسباب تشغل الإنسان و تصرفه عن التوجّه إلى ما يدعو إليه عقله و يهديه إليه فطرته أو ملكات و أحوال رديئة سيّئة تمنعه عن إجابة نداء الفطرة كالعناد و اللجاج و ما يشبه ذلك قال تعالى:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى‏ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى‏ بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ ) الجاثية: 23، و الهداية المنفيّة في الآية بمعنى الإيصال إلى المطلوب دون إراءة الطريق بدليل قوله:( وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) .

و أمّا الهداية القوليّة و هي التي تتضمّنها الدعوة الدينيّة فإنّ من شأنها أن تبلغ المجتمع فتكون في معرض من عقول الجماعة فيرجع إليها من آثر الحقّ على الباطل و أمّا بلوغها لكلّ واحد واحد منهم فإنّ العلل و الأسباب الّتي يتوسّل بها إلى بيان أمثال هذه المقاصد ربّما لا تساعد على ذلك على ما في الظروف و الأزمنة و البيئات من الاختلاف و كيف يمكن لإنسان أن يدعو كلّ إنسان إلى ما يريد بنفسه أو بوسائط من نوعه؟ فمن المتعذّر ذلك جدّاً.

و إلى المعنى الأوّل أشار تعالى بقوله:( وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ ) فاطر: 24، و إلى الثاني بقوله:( لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ ) يس: 6.

فمن بلغته الدعوة و انكشف له الحقّ فقد تمّت عليه الحجّة و من لم تبلغه الدعوة بلوغاً ينكشف به له الحقّ فقد أدركه الفضل الإلهيّ بعدّه مستضعفاً أمره إلى الله إن يشأ يغفر له و إن يشأ يعذّبه قال تعالى:( إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ) النساء: 98.

ثمّ من الدليل على أنّ الدعوة الإلهيّة و هي الهداية إلى السبيل حقّ يجب على الإنسان أن يتّبعها فطرة الإنسان و خلقته المجهّزة بما يهدي إليها من الاعتقاد و العمل، و وقوع الدعوة خارجاً من طريق النبوّة و الرسالة فإنّ سعادة كلّ موجود و كماله في الآثار و الأعمال الّتي تناسب ذاته و تلائمها بما جهّزت به من القوى

٢١٢

و الأدوات فسعادة الإنسان و كماله في اتّباع الدين الإلهيّ الّذي هو سنّة الحياة الفطرية و قد حكم به العقل و جاءت به الأنبياء و الرسل عليهم السلام.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَ أَغْلالًا وَ سَعِيراً ) الاعتاد التهيئة، و سلاسل جمع سلسلة و هي القيد الّذي يقاد به المجرم، و أغلال جمع غلّ بالضمّ قيل هي القيد الّذي يجمع اليدين على العنق، و قال الراغب: فالغلّ مختصّ بما يقيّد به فيجعل الأعضاء وسطه. انتهى. و السعير النار المشتعلة، و المعنى ظاهر.

و الآية تشير إلى تبعة الإنسان الكفور المذكور في قوله:( إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) و قدّم بيان تبعته على بيان جزاء الإنسان الشاكر لاختصار الكلام فيه.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً ) الكأس إناء الشراب إذا كان فيه شراب، و المزاج ما يمزج به كالحزام لما يحزم به، و الكافور معروف يضرب به المثل في البرودة و طيب الرائحة، و قيل: هو اسم عين في الجنّة.

و الأبرار جمع برّ بفتح الباء صفة مشبهة من البرّ و هو الإحسان و يتحصّل معناه في أن يحسن الإنسان في عمله من غير أن يريد به نفعاً يرجع إليه من جزاء أو شكور فهو يريد الخير لأنّه خير لا لأنّ فيه نفعاً يرجع إلى نفسه و إن كرهت نفسه ذلك فيصبر على مرّ مخالفة نفسه فيما يريده و يعمل العمل لأنّه خير في نفسه كالوفاء بالنذر أو لأنّ فيه خيراً لغيره كإطعام الطعام للمستحقّين من عباد الله.

و إذ لا خير في عمل و لا صلاح إلّا بالإيمان بالله و رسوله و اليوم الآخر كما قال تعالى:( أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ ) الأحزاب: 19 إلى غير ذلك من الآيات.

فالأبرار مؤمنون بالله و رسوله و اليوم الآخر، و إذ كان إيمانهم إيمان رشد و بصيرة فهم يرون أنفسهم عبيداً مملوكين لربّهم، له خلقهم و أمرهم، لا يملكون لأنفسهم نفعاً و لا ضرّاً عليهم أن لا يريدوا إلّا ما أراده ربّهم و لا يفعلوا إلّا ما يرتضيه فقدّموا إرادته على إرادة أنفسهم و عملوا له فصبروا على مخالفة أنفسهم فيما تهواه

٢١٣

و تحبّه و كلفة الطاعة، و عملوا ما عملوه لوجه الله، فأخلصوا العبوديّة في مرحلة العمل لله سبحانه.

و هذه الصفات هي الّتي عرّف سبحانه الأبرار بها كما يستفاد من قوله:( يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ ) و قوله:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) و قوله:( وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا ) و هي المستفادة من قوله في صفتهم:( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ ) الخ البقرة: 177 و قد مرّ بعض الكلام في معنى البرّ في تفسير الآية و سيأتي بعضه في قوله:( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ) المطفّفين: 18.

و الآية أعني قوله:( إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ ) إلخ بما يتبادر من معناها من حيث مقابلتها لقوله:( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ ) إلخ المبيّن لحال الكافرين في الآخرة، تبيّن حال الأبرار في الآخرة في الجنّة، و أنّهم يشربون من شراب ممزوج بالكافور بارداً طيّب الرائحة.

قوله تعالى:: ( عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ) ( عَيْناً ) منصوب بنزع الخافض و التقدير من عين أو بالاختصاص و التقدير أخصّ عينا، و الشرب - على ما قيل - يتعدّى بنفسه و بالباء فشرب بها و شربها واحد، و التعبير عنهم بعباد الله للإشارة إلى تحلّيهم بحلية العبوديّة و قيامهم بلوازمها على ما يفيده سياق المدح.

و تفجير العين شقّ الأرض لإجرائها، و ينبغي أن يحمل تفجيرهم العين على إرادتهم جريانها لأنّ نعم الجنّة لا تحتاج في تحقّقها و التنعّم بها إلى أزيد من مشيّة أهلها قال تعالى:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها ) ق: 35.

و الآيتان - كما تقدّمت الإشارة إليه - تصفان تنعّم الأبرار بشراب الجنّة في الآخرة، و بذلك فسّرت الآيتان.

و لا يبعد أن تكون الآيتان مسوقتين على مسلك تجسّم الأعمال تصفان حقيقة عملهم الصالح من الإيفاء بالنذر و إطعام الطعام لوجه الله، و أنّ أعمالهم المذكورة بحسب باطنها شرب من كأس مزاجها كافور من عين لا يزالون يفجّرونها بأعمالهم الصالحة

٢١٤

و ستظهر لهم بحقيقتها في جنّة الخلد و إن كانت في الدنيا في صورة الأعمال فتكون الآيتان في مجرى أمثال قوله تعالى:( إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) يس: 8.

و يؤيّد ذلك ظاهر قوله( يَشْرَبُونَ ) و( يَشْرَبُ بِها ) و لم يقل: سيشربون و سيشرب بها، و وقوع قوله: يشربون و يوفون و يخافون و يطعمون متعاقبة في سياق واحد، و ذكر التفجير في قوله:( يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ) الظاهر في استخراج العين و إجرائها بالتوسّل بالأسباب.

و لهم في مفردات الآيتين و إعرابها أقاويل كثيرة مختلفة مذكورة في المطولات فليراجعها من أراد الوقوف عليها.

قوله تعالى: ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) المستطير اسم فاعل من استطار إذا فشا و انتشر في الأقطار غاية الانتشار و هو أبلغ من طار كما قيل: يقال: استطار الحريق و استطار الفجر إذا اتّسعا غايته، و المراد باستطارة شرّ اليوم و هو يوم القيامة بلوغ شدائده و أهواله و ما فيه من العذاب غايته.

و المراد بالإيفاء بالنذر ما هو ظاهره المعروف من معناه، و قول القائل: إنّ المراد به ما عقدوا عليه قلوبهم من العمل بالواجبات أو ما عقدوا عليه القلوب من اتّباع الشارع في جميع ما شرّعه خلاف ظاهر اللفظ من غير دليل يدل عليه.

قوله تعالى: ( وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى‏ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً ) ضمير( عَلى‏ حُبِّهِ ) للطعام على ما هو الظاهر، و المراد بحبّه توقان النفس إليه لشدّة الحاجة، و يؤيّد هذا المعنى قوله تعالى:( لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) آل عمران: 92.

و قيل: الضمير لله سبحانه أي يطعمون الطعام حبّاً لله لا طمعاً في الثواب، و يدفعه أنّ قوله تعالى حكاية منهم:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) يغني عنه.

و يليه في الضعف ما قيل: إنّ الضمير للإطعام المفهوم من قوله:( وَ يُطْعِمُونَ )

٢١٥

وجه الضعف أنّه إن اُريد بحب الإطعام حقيقة معناه فليس في حبّ الإطعام في نفسه فضل حتّى يمدحوا به، و إن اُريد به كون الإطعام بطيب النفس و عدم التكلّف فهو خلاف الظاهر، و رجوع الضمير إلى الطعام هو الظاهر.

و المراد بالمسكين و اليتيم معلوم، و المراد بالأسير ما هو الظاهر منه و هو المأخوذ من أهل دار الحرب.

و قول بعضهم: إنّ المراد به اُسارى بدر أو الأسير من أهل القبلة في دار الحرب بأيدي الكفّار أو المحبوس أو المملوك من العبيد أو الزوجة كلّ ذلك تكلّف من غير دليل يدلّ عليه.

و الّذي يجب أن يتنبّه له أنّ سياق هذه الآيات سياق الاقتصاص تذكر قوماً من المؤمنين تسمّيهم الأبرار و تكشف عن بعض أعمالهم و هو الإيفاء بالنذر و إطعام مسكين و يتيم و أسير و تمدحهم و تعدهم الوعد الجميل.

فما تشير إليه من القصّة سبب النزول، و ليس سياقها سياق فرض موضوع و ذكر آثارها الجميلة، ثمّ الوعد الجميل عليها، ثمّ إنّ عدّ الأسير فيمن أطعمه هؤلاء الأبرار نعم الشاهد على كون الآيات مدنيّة فإنّ الأسر إنّما كان بعد هجرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ظهور الإسلام على الكفر و الشرك لا قبلها.

قوله تعالى: ( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً ) وجه الشي‏ء هو ما يستقبل به غيره، و وجهه تعالى صفاته الفعليّة الكريمة الّتي يفيض بها الخير على خلقه من الخلق و التدبير و الرزق و بالجملة الرحمة العامّة الّتي بها قيام كلّ شي‏ء، و معنى كون العمل لوجه الله على هذا كون الغاية في العمل هي الاستفاضة من رحمة الله و طلب مرضاته بالاقتصار على ذلك و الإعراض عمّا عند غيره من الجزاء المطلوب، و لذا ذيّلوا قولهم:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) بقولهم:( لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً ) .

و وراء ذلك صفاته الذاتيّة الكريمة الّتي هي المبدأ لصفاته الفعليّة و لما يترتّب

٢١٦

عليها من الخير في العالم، و مرجع كون العمل لوجه الله على هذا هو الإتيان بالعمل حبّاً لله لأنّه الجميل على الإطلاق، و إن شئت فقل: عبادته تعالى لأنّه أهل للعبادة.

و ابتغاء وجه الله بجعله غاية داعية في الأعمال مذكور في مواضع من كلامه تعالى كقوله:( وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) الكهف: 28، و قوله:( وَ ما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ ) البقرة: 272، و في هذا المعنى قوله:( وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) البيّنة: 5، و قوله:( فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) المؤمن: 65، و قوله:( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ) الزمر: 3.

و قوله:( لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً ) الجزاء مقابلة العمل بما يعادله إن خيراً فخيراً و إن شرّاً فشرّاً، و يعمّ الفعل و القول لكن المراد به في الآية بقرينة مقابلته الشكور مقابلة إطعامهم عملاً لا لساناً.

و الشكر و الشكور ذكر النعمة و إظهارها قلباً أو لساناً أو عملاً، و المراد به في الآية و قد قوبل بالجزاء الثناء الجميل لساناً.

و الآية أعني قوله:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) إلخ خطاب منهم لمن أطعموه من المسكين و اليتيم و الأسير إمّا بلسان المقال فهي حكاية قولهم أو بتقدير القول و كيف كان فقد أرادوا به تطييب قلوبهم أن يأمنوا المنّ و الأذى، و إمّا بلسان الحال و هو ثناء من الله عليهم لما يعلم من الإخلاص في قلوبهم.

قوله تعالى: ( إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ) عدّ اليوم و هو يوم القيامة عبوساً من الاستعارة، و المراد بعبوسه ظهوره على المجرمين بكمال شدّته، و القمطرير الصعب الشديد على ما قيل.

و الآية في مقام التعليل لقولهم المحكي:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) إلخ ينبّهون بقولهم هذا أنّ قصرهم العمل في ابتغاء وجه الله تعالى إخلاصاً للعبوديّة لمخافتهم ذاك اليوم

٢١٧

الشديد، و لم يكتفوا بنسبة المخافة إلى اليوم حتّى نسبوه نحواً من النسبة إلى ربّهم فقالوا:( نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً ) إلخ لأنّهم لمّا لم يريدوا إلّا وجه ربّهم فهم لا يخافون غيره كما لا يرجون غيره و إنّما يخافون و يرجون ربّهم فلا يخافون يوم القيامة إلّا لأنّه من ربّهم يحاسب فيه عباده على أعمالهم فيجزيهم بها.

و أمّا قوله قبلاً:( وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) حيث نسب خوفهم إلى اليوم فإنّ الواصف فيه هو الله سبحانه و قد نسب اليوم بشدائده إلى نفسه قبلاً حيث قال:( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ ) إلخ.

و بالجملة ما ذكروه من الخوف مخافة في مقام العمل لما يحاسب العبد على عمله فالعبوديّة لازمة للإنسان لا تفارقه و إن بلغ ما بلغ قال تعالى:( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) الغاشية: 26.

قوله تعالى: ( فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً ) الوقاية الحفظ و المنع من الأذى و لقّي بكذا يلقّيه أي استقبله به و النضرة البهجة و حسن اللون و السرور مقابل المساءة و الحزن.

و المعنى: فحفظهم الله و منع عنهم شرّ ذلك اليوم و استقبلهم بالنضرة و السرور، فهم ناضرة الوجوه مسرورون يومئذ كما قال:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ) القيامة: 22.

قوله تعالى: ( وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً ) المراد بالصبر صبرهم عند المصيبة و على الطاعة و عن المعصية فإنّهم ابتغوا في الدنيا وجه ربّهم و قدّموا إرادته على إرادتهم فصبروا على ما قضى به فيهم و أراده من المحن و مصائب الدنيا في حقّهم، و صبروا على امتثال ما أمرهم به و صبروا على ترك ما نهاهم عنه و إن كان مخالفاً لأهواء أنفسهم فبدّل الله ما لقوه من المشقّة و الكلفة نعمة و راحة.

قوله تعالى: ( مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً ) الأرائك جمع أريكة و هو ما يتّكئ عليه، و الزمهرير البرد الشديد، و المعنى حال كونهم

٢١٨

متّكئين في الجنّة على الأرائك لا يرون فيها شمساً حتّى يتأذّوا بحرّها و لا زمهريراً حتّى يتأذّوا ببرده.

قوله تعالى: ( وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا ) الظلال جمع ظلّ، و دنوّ الظلال عليهم قربها منهم بحيث تنبسط عليهم فكانّ الدنوّ مضمّن معنى الانبساط و قطوف جمع قطف بالكسر فالسكون و هو الثمرة المقطوفة المجتناة، و تذليل القطوف لهم جعلها مسخّرة لهم يقطفونها كيف شاؤا من غير مانع أو كلفة.

قوله تعالى: ( وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا ) الآنية جمع إناء كأكسية جمع كساء و هو الوعاء، و أكواب جمع كوب و هو إناء الشراب الّذي لا عروة له و لا خرطوم و المراد طواف الولدان المخلّدين عليهم بالآنية و أكواب الشراب كما سيأتي في قوله:( وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ ) الآية.

قوله تعالى: ( قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً ) بدل من قوارير في الآية السابقة، و كون القوارير من فضّة مبنيّ على التشبيه البليغ أي إنّها في صفاء الفضّة و إن لم تكن منها حقيقة، كذا قيل. و احتمل أن يكون بحذف مضاف و التقدير من صفاء الفضّة.

و ضمير الفاعل في( قَدَّرُوها) للأبرار و المراد بتقديرهم الآنية و الأكواب كونها على ما شاؤا من القدر ترويهم بحيث لا تزيد و لا تنقص كما قال تعالى:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها ) ق: 35 و قد قال تعالى قبل:( يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ) .

و يحتمل رجوع الضمير إلى الطائفين المفهوم من قوله:( يُطافُ عَلَيْهِمْ ) و المراد بتقديرهم الآنية و الأكواب إتيانهم بها على قدر ما أرادوا محتوية على ما اشتهوا قدر ما اشتهوا.

قوله تعالى: ( وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا ) قيل: إنّهم كانوا يستطيبون الزنجبيل في الشراب فوعد الأبرار بذلك و زنجبيل الجنّة أطيب و ألذّ.

قوله تعالى: ( عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا ) أي من عين أو التقدير أعني أو أخصّ

٢١٩

عينا.

قال الراغب: و قوله:( سَلْسَبِيلًا ) أي سهلاً لذيذاً سلساً حديد الجرية.

قوله تعالى: ( وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً ) أي ولدان دائمون على ما هم عليه من الطراوة و البهاء و صباحة المنظر، و قيل: أي مقرّطون بخلدة و هي ضرب من القرط.

و المراد بحسبانهم لؤلؤاً منثوراً أنّهم في صفاء ألوانهم و إشراق وجوههم و انعكاس أشعّة بعضهم على بعض و انبثاثهم في مجالسهم كاللؤلؤ المنثور.

قوله تعالى: ( وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً ) ( ثَمَّ ) ظرف مكان ممحّض في الظرفيّة، و لذا قيل: إنّ معنى( رَأَيْتَ ) الأوّل: رميت ببصرك، و المعنى و إذا رميت ببصرك ثمّ يعني الجنّة رأيت نعيماً لا يوصف و ملكاً كبيراً لا يقدّر قدره.

و قيل:( ثَمَّ ) صلة محذوفة الموصول و التقدير و إذا رأيت ما ثمّ من النعيم و الملك، و هو كقوله:( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ) الأنعام: 94 و الكوفيّون من النحاة يجوّزون حذف الموصول و إبقاء الصلة و إن منعه البصريّون منهم.

قوله تعالى: ( عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ ) إلخ الظاهر أنّ( عالِيَهُمْ ) حال من الأبرار الراجعة إليه الضمائر و( ثِيابُ ) فاعله، و السندس - كما قيل - ما رقّ نسجه من الحرير، و الخضر صفة ثياب و الإستبرق ما غلظ نسجه من ثياب الحرير، و هو معرّب كالسندس.

و قوله:( وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ ) التحلية التزيين، و أساور جمع سوار و هو معروف، و قال الراغب: هو معرّب دستواره.

و قوله:( وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً ) أي بالغاً في التطهير لا تدع قذارة إلّا أزالها و من القذارة قذارة الغفلة عن الله سبحانه و الاحتجاب عن التوجّه إليه فهم غير محجوبين عن ربّهم و لذا كان لهم أن يحمدوا ربّهم كما قال:( وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) يونس: 10 و قد تقدّم في تفسير سورة الحمد أنّ الحمد وصف لا يصلح له إلّا المخلصون من عباد الله تعالى لقوله:( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات: 160.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592