الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 592
المشاهدات: 166930
تحميل: 5016


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 166930 / تحميل: 5016
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 16

مؤلف:
العربية

في شهر رمضان وليلة القدر ، الأمر الذي يخالف ظاهر الآيات.

وأضعف منه قول القائل : لما كانت سورة الحمد ـ التي هي خلاصة لمجموع القرآن ـ قد نزلت في ليلة القدر ، فقد عبر بـ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) .

إن كل هذه الاحتمالات مخالفة لظاهر الآيات ، لأن ظاهرها أن كل القرآن قد نزل في ليلة القدر.

الشيء الوحيد الذي يبقى هنا هو ما نقرؤه في روايات عديدة رويت في تفسير علي بن إبراهيم. عن الإمام الباقر والصادق وأبي الحسن موسى بن جعفرعليهم‌السلام أنّهم قالوا في تفسير( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) : «هي ليلة القدر ، أنزل اللهعزوجل القرآن فيها إلى البيت المعمور جملة واحدة ، ثمّ نزل من البيت المعمور على رسول الله في طول عشرين سنة».(١)

(التفتوا جيدا إلى أن الرواية قد عبرت عن النّزول جملة واحد بـ (أنزل) وعن النّزول التدريجي بـ (نزل).

وأين هو «البيت المعمور»؟ صرحت روايات عديدة ـ سيأتي تفصيلها في ذيل الآية (٤) من سورة الطور ، إن شاء الله تعالى ـ بأنه بيت في السماوات بمحاذاة الكعبة ، وهو محل عبادة الملائكة ، ويحج إليه كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة.

لكن في أي سماء هو؟ الرّوايات مختلفة ، ففي كثير منها أنه في السماء الرابعة ، وفي بعضها أنه في السماء الأولى ـ السماء الدنيا ـ وجاء في بعضها أنه في السماء السابعة.

ونطالع في الحديث الذي نقله العلّامة الطبرسي في مجمع البيان في تفسير سورة الطور عن عليعليه‌السلام : «هو البيت في السماء الرابعة بحيال الكعبة ، تعمره

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، المجلد ٤ ، ص ٦٢٠. وقد ذكر هذا الحديث أن القرآن نزل تدريجيا في عشرين سنة ، في حين أننا نعلم فترة النبوة التي نزل فيها القرآن كانت (٢٣) سنة ، ولعله هذا القول اشتباه من الراوي ، أو غلط في نسخ الحديث.

١٢١

الملائكة بما يكون منها فيه من العبادة ، ويدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثمّ لا يعودون إليه أبدا»(١) .

وعلى أية حال ، فإنّ نزول القرآن جملة واحدة إلى البيت المعمور في ليلة القدر لا ينافي علم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به مطلقا ، فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا سبيل له إلى اللوح المحفوظ الذي هو مكنون علم الله ، إلّا أنّه عالم بالعوالم الأخرى.

وبتعبير آخر ، فإن ما استفدناه وفهمناه من الآيات السابقة ، بأن القرآن نزل على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرتين : نزولا دفعيا في ليلة القدر ، ونزولا تدريجيا طوال (٢٣) عاما ، لا ينافي الحديث المذكور الذي يقول : إنّه نزل في ليلة القدر إلى البيت المعمور ، لأن قلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطلع على البيت المعمور.

وقد اتضح من خلال ما قيل في الجواب عن هذا السؤال ، الإجابة عن سؤال آخر يقول : إذا كان القرآن نزل في ليلة القدر ، فكيف كانت بداية بعثة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السابع والعشرين من شهر رجب طبقا للروايات المشهورة؟ حيث كان لنزوله في رمضان صفة الجمع والكلية ، في حين أن أوّل آياته نزلت في (٢٧) رجب ، كبداية للنزول التدريجي ، وبذلك فلا مشكلة من هذه الناحية.

والآية التالية وصف وتوضيح لليلة القدر ، حيث تقول :( فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) .

التعبير بـ (يفرق) إشارة إلى أن كل الأمور والمسائل المصيرية تقدر في تلك الليلة ، والتعبير بـ «الحكيم» بيان لاستحكام هذا التقدير ، وعدم تغيره ، وكونه حكيما. غاية ما في الباب أن هذه الصفة تذكر عادة لله سبحانه ، ووصف الأمور الأخرى بها من باب التأكيد.(٢) .

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ١٦٣. وقد جمع العلّامة المجلسي في بحار الأنوار ، المجلد ٥٨ ، صفحة ٥٥ وما بعدها ، الروايات المتعلقة بالبيت المعمور.

(٢) ذكر في تفسير الميزان تفسير آخر لهذه الآية ، خلاصته ، إن الأمور هذا العالم مرحلتين : مرحلة الإجمال والإبهام ، والتي عبر عنها بـ (حكيم) ، ومرحلة التفصيل والكثرة ، والتي عبر عنها بـ (يفرق) المجلد ١٨ ، صفحة ١٤٠.

١٢٢

وهذا البيان ينسجم مع الرّوايات الكثيرة التي تقول : إنّ مقدرات كل بني آدم لمدّة سنة تقدر في ليلة القدر ، وكذلك تفرق الأرزاق والآجال والأمور الأخرى في تلك الليلة.

وسيأتي تفصيل الكلام في هذا البحث والمسائل الأخرى التي ترتبط بليلة القدر ، وعدم التناقض بين هذا التقدير ، وبين حرية البشر ، في تفسير سورة القدر ، إن شاء الله تعالى.

وتقول الآية الأخرى لتأكيد أنّ القرآن منزل من قبل الله تعالى :( أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) .(١)

ولأجل تبيان العلة الأساسية لنزول القرآن وإرسال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكون المقدرات في ليلة القدر ، تضيف الآية :( رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) .(٢)

نعم ، فإن رحمته التي لا تحدّ توجب أن لا يترك العباد وشأنهم ، بل يجب أن ترسل إليهم التعليمات اللازمة لترشدهم في سيرهم إلى الله عبر ذلك المسير التكاملي المليء بالالتواءات والتعرجات ، فإن كل عالم الوجود يصدر عن رحمته الواسعة وينبع منها ، والبشر أكثر تنعما بهذه الرحمة من كل الموجودات.

وتذكر نهاية هذه الآية ـ والآيات التالية ـ سبع صفات لله سبحانه ، وكلها تبين توحيده ووحدانيته ، فتقول :( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) فهو يسمع طلبات العباد ، وهو عليم بأسرار قلوبهم.

ثمّ تقول ، مبينة للصفة الثالثة( رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ

__________________

(١) هناك احتمالات مختلفة في محل جملة (أمرا من عندنا ..) من الإعراب ، وإلى أي من بحوث الآيات السابقة تنظر؟ وأنسب هذه الاحتمالات أن تكون جملة (أمرا من عندنا) حالا لضمير مفعول (إنا أنزلناه) ، أي : إنا أرسلنا القرآن ، وكان ذلك أمرا من عندنا. وهذا الاحتمال ينسجم في هذه الصورة تماما من جملة (إنا كنا مرسلين) والتي تتحدث عن إرسال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ويحتمل أيضا أن يكون توضيحا بـ (كل أمر حكيم) ونصبها على الاختصاص ، فيكون المعنى : أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا.

(٢) (رحمة من ربك) مفعول لأجله بـ (إنا أنزلناه) ، أو لـ (يفرق كل أمر حكيم) ، أو لكليهما.

١٢٣

مُوقِنِينَ ) (١) (٢)

لمّا كان كثير من المشركين يعتقدون بوجود آلهة وأرباب عديدين ، وكانوا يظنون أن لكل موجود من الموجودات إله. ولمّا كان التعبير بـ (ربّك) في الآية السابقة يمكن أن يوهم أن ربّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير ربّ الموجودات الأخرى ، فإن هذه الآية أبطلت كل هذه الأوهام بجملة( رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ) وأثبتت أن ربّ كل موجودات العالم واحد.

وجملة( إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ) التي وردت هنا بصيغة الجملة الشرطية ، تبعث على التساؤل : هل أن كون ربّ العالم ربّا ، مشروط بمثل هذا الشرط؟

الظاهر أن المراد من ذكر هذه الجملة هو بيان أحد معنيين أو كليهما :

الأوّل : إذا كنتم طلاب يقين ، فإنّ السبيل إلى ذلك هو أن تتفكروا في ربوبية الله المطلقة.

والآخر : إذا كنتم من أهل اليقين فإن أفضل مورد لتحصيل هذا اليقين هو أن تتفكروا في آثار رحمة الله ، فإنّكم إذا نظرتم إلى الآثار في كل عالم الوجود دلتكم على أن الله ربّ كل شيء ، وإذا فلقتم قلب كل ذرّة رأيتم فيه دلالة على هذه الربوبية ، ثمّ إذا لم توقنوا بعد هذا بكونه تعالى ربا ، فبأي شيء في هذا العالم يمكن أن توقنوا وتؤمنوا؟

وتقول في الصفة الرابعة والخامسة والسادسة( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ) (٣) فحياتكم ومماتكم بيده ، وهو سبحانه ربكم ورب العالمين ، وعلى هذا فلا إله سواه ، أو يكون من ليس له مقام الربوبية ولا أهليتها ، ولا يملك الحياة والموت ربّا

__________________

(١) كلمة (ربّ) في هذه الآية بدل من (ربّ) في الآية السابقة.

(٢) جزاء الجملة الشرطية (إن كنتم موقنين) محذوف ، وتقدير الكلام : إن كنتم من أهل اليقين ، أو في طلب اليقين ، علمتم أن الله ربّ السماوات والأرض وما بينهما.

(٣) يمكن أن تكون جملة (لا إله إلا هو) استئنافية ، أو خبرا لمبتدأ محذوف تقديره : هو لا إله إلا هو لا. إلا أن الاحتمال الأول هو الأنسب.

١٢٤

ومعبودا؟!

وتضيف في الصفة السابعة( وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ) فإذا قلتم : إنّكم إنّما تعبدون الأصنام ، لأنّ الأصنام ، لأن آباءكم كانوا يعبدونها ، فاعلموا أن ربّهم هو الله الواحد الأحد أيضا ، وعلاقتكم بآبائكم وارتباطكم بهم يوجب عليكم أن لا تعبدوا إلّا الله ، وأن لا تخضعوا إلّا له ، وإذا كان سبيلهم غير هذا السبيل فقد كانوا على خطأ بلا ريب.

من الواضح أنّ مسألة الحياة والموت من شؤون الله وتدبيره ، وإذا كانت الآية قد ذكرتها بالخصوص ، فلأن لها أهمية فائقة من جهة ، ولأنّها إشارة ضمنية إلى مسألة المعاد من جهة أخرى ، وليست هذه هي المرة الأولى التي يؤكّد فيها القرآن على مسألة الحياة والموت ، بل بيّنها مرارا على أنّها من الأفعال المختصة بالله تعالى ، لأن مسألة الحياة والموت أكثر المسائل تأثيرا في حياة البشر ومصائرهم ، وهي في الوقت نفسه أعقد مسائل عالم الوجود ، وأوضح دليل على قدرة الله تعالى.

* * *

ملاحظة

علاقة القرآن بليلة القدر :

ممّا يجدر الانتباه إليه أنه ورد في هذه الآيات تلميحا ، وفي آيات سورة القدر تصريحا ، أن القرآن نزل في ليلة القدر ، وكم هو عميق هذا الكلام؟! ففي تلك الليلة التي تقدر فيها مقدرات العباد وأرزاقهم ، ينزل القرآن الكريم على قلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطاهر ، ألا يدل هذا على أن هناك علاقة صميمية بين مقدراتكم ومصائركم وبين محتوى هذا الكتاب السماوي؟

ألا يعني هذا الكلام أن هناك علاقة لا تقبل الانفصال بين القرآن وبين حياتكم

١٢٥

المعنوية ، بل وحتى حياتكم المادية؟ فقد أدّى الى انتصاركم على الأعداء ، وشموخكم وحريتكم واستقلالكم ، وعمران مدنكم ورقيكم.

أجل ، في تلك الليلة التي كانت تقدر فيها المقدرات ، أنزل القرآن أيضا.

* * *

١٢٦

الآيات

( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦) )

التّفسير

الدّخان القاتل :

لما كان الكلام في الآيات السابقة في أنّ هؤلاء إن كانوا طلّاب يقين ، فإنّ سبل تحصيله كثيرة ، وتضيف أوّل آية من هذه الآيات( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ) فإنّ شك هؤلاء في حقانية هذا الكتاب السماوي وفي نبوّتك ، ليس نابعا من كون المسألة معقدة صعبة ، بل من عدم جديتهم في التعامل معها ، فهم يتعاملون معها بهزل ، فيستهزءون ويسخرون تارة ، ويصفون أنفسهم بعدم الاطلاع والإلمام وبالجهل

١٢٧

تارة أخرى ، ويشغلون أنفسهم كل يوم بأسلوب لعب جديد.

«يلعبون» من مادة اللعاب ـ على قول الراغب ـ وهو البزاق السائل ، ولما لم يكن للإنسان هدف مهم من اللعب ، فقد شبه بالبزاق الذي يبصقه الفرد لا إراديا.

ومهما كان ، فإن الحقيقة هي أن التعامل الجدي مع المسائل يعين الإنسان في معرفة الحقائق ، أمّا التعامل الهازل الفارغ فإنّه يلقي الحجب عليها ويمنعه من الوصول إليها.

ثمّ انتقلت الآية التالية إلى تهديد هؤلاء المنكرين المعاندين المتعصبين ، في الوقت الذي وجهت الخطاب إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت :( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

عند ذلك سيعم الخوف والاضطراب كل وجودهم ، وتزول الحجب من أمام أعينهم ، فيقفون على خطئهم الكبير ، ويتجهون إلى الله تعالى بالقول :( رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ) .

إلّا أنّ اللهعزوجل يرفض طلب هؤلاء ويقول :( أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ) رسول كان واضحا في نفسه وتعليماته وبرامجه وآياته ومعجزاته ، ومبينا لها جميعا.

غير أنّ هؤلاء بدل أن يذعنوا له ، ويؤمنوا بالله الواحد الأحد ، ويتقبلوا أوامره بكل وجودهم ، أعرضوا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ) .

فكانوا يقولون تارة : إنّ غلاما روميا سمع قصص الأنبياء وأخبارهم يعلمه إياها ، وهذه الآيات من اختراعه وإملائه على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) (١)

ويقولون تارة أخرى : إنّه مصاب بالاختلال الفكري والعقلي ، وهذه الكلمات وليدة فقدانه التوازن الفكري.

__________________

(١) النحل ، الآية ١٠٣.

١٢٨

ثمّ تضيف الآية التالية :( إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ ) ومن هنا يتّضح أنّهم عند ما يقعون في قبضة العذاب ، ندمون على ما بدر منهم من أفعال ، ويصممون على تعديل سلوكهم وإصلاحه ، إلّا أن هذا الموقف الجديد مؤقت وسريع الزوال ، فما أن تهدأ عاصفة الأحداث حتى يعودوا لما كانوا عليه من قبل.

ويقول سبحانه في آخر آية من هذه الآيات( يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ) .(١)

«البطش» هو تناول الشيء بصولة ، وهنا بمعنى الأخذ للانتقام الشديد ، ووصف البطشة بالكبرى إشارة إلى العقوبة الشديدة التي تنتظر هذه الفئة.

والخلاصة : أنّه على فرض تخفيف العقوبات المؤقتة في حق هؤلاء ، فإن العقوبات النهائية العسيرة تنتظرهم ، ولا مفرّ لهم منها.

«منتقمون» من مادة الانتقام ، وكما قلنا سابقا فإنّها تعني العقوبة والجزاء ، وإن كانت كلمة الانتقام تعطي معنى آخر في محادثاتنا اليومية في عصرنا الحاضر ، حيث تعني العقوبة المقترنة بإخماد نار الغضب وتفريغ ما في القلب من انفعال وحب الانتقام ، إلّا أن هذا الأمر لا وجود له في المعنى اللغوي للكلمة.

* * *

ملاحظة

ما المراد من الدخان المبين؟

هناك أقوال بين المفسّرين حول المراد من الدخان الذي ذكر في هذه الآيات كتعبير عن العذاب الإلهي ، وتوجد هنا نظريتان أساسيتان :

__________________

(١) احتمل المفسّرون في تركيب هذه الجملة احتمالات كثيرة ، وأكثرها قبولا من قبل المفسّرين ، وهو المناسب أيضا لسياق الآية : إن (يوم) متعلق بفعل (ننتقم) الذي يفهم من جملة (إنا منتقمون) وعلى هذا يكون التقدير : ننتقم منهم يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون.

١٢٩

١ ـ إنّه إشارة إلى العقاب والعذاب الذي ابتلي به كفار قريش في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه لعنهم ودعا عليهم قال : «اللهم سنين كسني يوسف». وبعد ذلك أصاب مكّة قحط شديد ، حتى أنّهم كانوا يرون كأن بين السماء والأرض عمودا من الدخان من شدة الجوع والعطش ، وعسر الأمر عليهم حتى أكلوا الميتة وعظام الحيوانات الميتة.

فأتوا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : يا محمّد ، تأمرنا بصلة الرحم وقد هلك قومك! لئن رفع عنا العذاب لنؤمنن. فدعا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فارتفع العذاب وعم الخير والنعمة الوفيرة ، لكنّهم لم يعتبروا بذلك ، بل عادوا إلى الكفر مرة أخرى.(١)

طبقا لهذا التّفسير فقد اعتبرت غزوة بدر هي البطشة الكبرى ـ أي العقوبة الشديدة ـ لأن المشركين تلقوا من المسلمين في بدر ضربات مهلكة ماحقة.

وطبقا لهذا التّفسير لم يكن للدخان وجود في الحقيقة ، بل إن السماء قد بدت للناس العطاشى الجائعين كعمود الدخان ، وعلى هذا فذكر الدخان هنا من باب المجاز ، وهو يشير إلى تلك الحالة الصعبة المؤلمة.

وقال البعض : إنّ الدخان يستعمل عادة في كلام العرب كناية عن الشر والبلاء الذي يعم ويغلب.(٢)

ويعتقد بعض آخر أنّه حين القحط وقلّة المطر تغطي السماء عادة أعمدة الغبار ، وقد عبر هنا عن هذه الحالة بالدخان ، لأن المطر ينزل بالغبار إلى الأرض فيصفو الأفق.(٣) ومع كل هذه الصفات ، فإنّ استعمال كلمة الدخان هنا مجازا طبقا لهذا التّفسير.

٢ ـ إن المراد من «الدخان المبين» هو ذلك الدخان الغليظ الذي سيغطي السماء

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ٦٢ ، ذيل الآيات مورد البحث.

(٢) يقول الفخر الرازي : إنّ العرب يسمّون الشر الغالب بالدخان. المجلد ٢٧ ، صفحة ٢٤٢.

(٣) روح المعاني ، المجلد ٢٥ ، ص ١٠٧.

١٣٠

في نهاية العالم ، وعلى أعتاب القيامة ، فهو علامة لحلول اللحظات الأخيرة لهذه الدنيا ، وبداية عذاب الله أليم للظالمين والمفسدين.

عند ذلك سينتبه هؤلاء الظالمون من نوم غفلتهم ، ويطلبون رفع العذاب والرجوع إلى الحياة الدنيوية العادية ، لكن أيديهم ترد في أفواههم.

وطبقا لهذا التّفسير فإنّ الدخان معناه الحقيقي ، ويكون مضمون هذه الآيات هو نفس ما ورد في آيات القرآن الأخرى ، وهو أنّ المجرمين والكافرين يرجون وهم على أعتاب القيامة أو فيها ـ رفع العذاب عنهم ، والرجوع إلى الدنيا ، لكن ذلك لا يقبل منهم ولا يحقق رجاؤهم.(١)

الإشكال الوحيد الذي يرد على هذا التّفسير أنّه لا ينسجم مع جملة( إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ ) لأنّ العذاب الإلهي لا يخفف عند انتهاء الدنيا أو في القيامة ليعود الناس إلى حالة الكفر والمعصية.

أما إذا اعتبرنا هذه الجملة قضية شرطية ـ وإن كان ذلك يخالف الظاهر ـ فسيرتفع الإشكال حينئذ ، لأن معنى الآية يصبح : كلما كشفنا عنهم قليلا من العذاب فإنّهم يعودون إلى طريقتهم الأولى ، وهذا في الواقع شبيه بالآية (٢٨) من سورة الأنعام( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ) .

اضافة إلى أنّ تفسير «البطشة الكبرى» بأحداث يوم بدر ، يبدو بعيدا عن الصواب ، لكن تفسيرها بعقوبات القيامة(٢) مع الآية تماما.

والشاهد الآخر للتفسير الثّاني هو الروايات الواردة عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي تفسّر الدخان بالدخان الذي سيملأ العالم على أعتاب قيام القيامة ، كالرواية التي يرويها حذيفة بن اليمان عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه ذكر أربع علامات لاقتراب القيامة : الأولى ظهور الدجال ، والأخرى نزول عيسىعليه‌السلام ، والثالثة النّار التي تظهر

__________________

(١) تراجع الآيات ٢٧ ـ ٣٠ ، من سورة الأنعام.

(٢) يقول الراغب في المفردات ، البطش : هو تناول الشيء بصولة ، وهو مقدمة العقوبة عادة.

١٣١

من أرض عدن ، والدّخان.

فسأل حذيفة ، يا رسول الله ، وما الدّخان؟ فتلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ ) يملأ ما بين المشرق والمغرب ، يمكث أربعين يوما وليلة ، أمّا المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة ، وأمّا الكافر فبمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره»(١) .

وجاء في حديث آخر عن أبي مالك الأشعري عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ ربّكم أنذركم ثلاثا : الدخان يأخذ منه المؤمن كالزكمة ، ويأخذ الكافر فينفخ حتى يخرج من كل مسمع منه ، والثانية الدابة ، والثالثة الدجال»(٢)

وقد قدمنا توضيحا كافيا حول دابة الأرض في ذيل الآية (٨٢) من سورة النمل.

وروي شبيه هذا المعنى حول الدخان عن أبي سعيد الحذري عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .(٣)

ويلاحظ نظير هذه التعبيرات ، بصورة أكثر تفصيلا ، في الروايات الواردة عن طرق أهل البيتعليهم‌السلام ، ومن جملتها ما نقرأه في رواية عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «عشر قبل الساعة لا بدّ منها : السفياني ، والدجال ، والدخان ، والدّابة ، وخروج القائم ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونزول عيسى ، وخسف بالمشرق ، وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر».(٤)

ومن مجموع ما قيل ، نستنتج أن التّفسير الثّاني هو الأنسب.

* * *

__________________

(١) تفسير الدر المنثور ، الجزء ٦ ، صفحة ٢٩.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

(٤) بحار الأنوار ، المجلد ٥٢ ، صفحة ٢٠٩.

١٣٢

الآيات

( وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) )

التّفسير

إذا لم تؤمنوا فلا تصدّوا الآخرين عن الإيمان :

متابعة للآيات السابقة التي كانت تتحدث حول تمرد مشركي العرب وعدم إذعانهم للحق ، تشير هذه الآيات إلى نموذج من الأمم الماضية التي سارت في نفس هذا المسير ، وابتليت أخيرا بالعذاب الأليم والهزيمة النكراء ، ليكون ذلك تسلية للمؤمنين ، وتحذيرا للمنكرين المعاندين. وذلك النموذج هو قصّة موسى وفرعون ، حيث تقول الآية :( وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ ) .

«فتنّا» من مادة فتنة ، وهي في الأصل تعني وضع الذهب في فرن النّار لتخليصه من الشوائب ، ثمّ أطلقت على كل امتحان واختبار يجري لمعرفة نسبة خلوص

١٣٣

البشر ذلك الاختبار الذي يعم كل حياة الإنسان والمجتمعات البشرية ، وبتعبير آخر ، فإن كل مراحل حياة الإنسان في هذه الدنيا تطوى في هذه الاختبارات ، فإن هذه الدنيا دار امتحان وابتلاء.

لقد كان قوم فرعون يعيشون أوج قوتهم وعظمتهم بامتلاكهم حكومة قوية ، وثروات ضخمة ، وإمكانيات واسعة ، فغرتهم هذه القدرة العظيمة ، وتلوثوا بأنواع المعاصي والظلم والجور.

ثمّ تضيف الآية( وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ) فهو كريم من ناحية الخلق والطبيعة ، وكريم من ناحية العظيمة والمنزلة عند الله ، وكريم من ناحية الأصل والنسب ، ولم يكن هذا الرّسول إلّا موسى بن عمرانعليه‌السلام .(١)

لقد خاطبهم موسىعليه‌السلام بأسلوبه المؤدب جدّا ، الملي بالود والمحبة ، فقال :( أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ ) .(٢)

وطبقا لهذا التّفسير ، فإنّ( عِبادَ اللهِ ) بحكم المخاطب ، والمراد منهم الفراعنة ، وبالرغم من أنّ هذا التعبير يستعمل في آيات القرآن في شأن العباد الصالحين ، إلا أنّه أطلق أيضا في موارد عديدة على الكفار والمجرمين ، من أجل تحريك وجدانهم ، وجذب قلوبهم نحو الحق(٣) .

بناء على هذا ، فإنّ المراد من( أَدُّوا ) إطاعة أمر الله سبحانه وتنفيذ أوامره.

وقد ذكر جماعة من المفسّرين تفسيرا آخر لهذه الجملة ، فقالوا : المراد من( عِبادَ اللهِ ) بنو إسرائيل ، ومن( أَدُّوا ) إيداعهم بيد موسى ، ورفع الذلة والعبودية

__________________

(١) يقول الراغب في المفردات : الكرم إذا وصف الله تعالى به فهو اسم لإحسانه وإنعامه ، نحو قوله :( فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) وإذا وصف ربّه الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه. ولقد ورد هذا الوصف لأمور أخرى أيضا القرآن المجيد ، مثل : كتاب كريم ، كل زوج كريم ، رزق كريم مقام كريم ، أجر كريم

(٢) «أن» في جملة :( أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ ) تفسير لفعل مقدر يفهم من الكلام السابق ، والتقدير : (جئتكم أن أدّوا إليّ عباد الله).

(٣) كالآية ١٧ ـ الفرقان ، و ١٣ ـ سبأ ، و٥٨ ـ الفرقان ، وغيرها.

١٣٤

عنهم ، كما جاء في الآية (١٧) من سورة الإسراء( أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ ) وورد نظير هذا المعنى في الآية ١٠٥ ـ الأعراف ، و٤٧ ـ طه أيضا.

والأمر الذي لا ينسجم مع هذا التّفسير ، هو أن جملة( أَدُّوا ) تستعمل عادة في أداء الأموال والأمانات والتكاليف ، لا في مورد إيداع الأشخاص ، ويتّضح هذا الموضوع جيدا بملاحظة موارد استعمال هذه الكلمة.

وعلى أية حال ، فإنّه يضيف في بقية الآية( إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) وذلك لنفي كل اتهام عن نفسه.

إنّ هذا التعبير ـ في الحقيقة ـ داحض للاتهامات الباطلة التي ألصقها به الفراعنة ، كالسحر ، والسعي إلى التفوق واستلام الحكم في أرض مصر ، وطرد أصحابها الأصليين ، والتي أشير إليها في الآيات المختلفة.

ثمّ يقول لهم موسىعليه‌السلام بعد أن دعاهم إلى طاعة الله سبحانه ، أو إطلاق سراح بني إسرائيل وتحريرهم : إنّ مهمّتي الأخرى أن أقول لكم :( وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) معجزاته بينة ، وأدلته منطقية واضحة.

والمراد من عدم العلو على الله سبحانه ، هو عدم القيام بأي عمل لا ينسجم مع أصول العبودية ، من المخالفة والتمرد ، وحتى إيذاء رسل الله ، أو ادعاء الألوهية وأمثال ذلك.

ولما كان المستكبرون وعبيد الدنيا لا يدعون أي تهمة وافتراء ، إلّا وألصقوهما بمن يرونه مخالفا لمنافعهم ومصالحهم اللامشروعة بل لا يتورعون حتى عن قتله وإعدامه ، لذا فإنّ موسىعليه‌السلام يضيف للحد من مسلكهم هذا( وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ) .

إنّ هذا التعبير لعله إشارة إلى أنّي لا أخاف تهديداتكم ، وسأصمد حتى آخر نفس ، والله حافظي وحارسي ، وكانت مثل هذه التعبيرات تمنع القادة الإلهيين حزما أكبر في دعوتهم ، وتزيد في انهيار إرادة الأعداء ومعنوياتهم ، وتزيد من

١٣٥

جانب آخر ثبات المحبين والمؤمنين واستقامتهم ، لأنّهم يعلمون أن إمامهم وقائدهم يقاوم حتى اللحظات الأخيرة.

وربّما كان التأكيد على مسألة الرجم من جهة أن كثيرا من رسل الله قبل موسىعليه‌السلام قد هددوا بالرجم ، ومن جملتهم نوحعليه‌السلام ( قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ) (١)

وكذلك الحال بالنسبة إلى إبراهيمعليه‌السلام لما هدده آزر وقال له :( لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ) (٢) ، وشعيب لما هدده الوثنيون قالوا له :( وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ ) (٣)

أمّا اختيار الرجم من بين أنواع القتل ، فلأنّه أشدّها جميعا. وعلى قول بعض أرباب اللغة فإن هذه الكلمة جاءت بمعنى مطلق القتل أيضا.(٤)

واحتمل كثير من المفسّرين أن يكون الرجم بمعنى الاتهام وإساءة الكلام ، لأن هذه الكلمة قد استعملت في هذا المعنى أيضا. وكانت هذه الاستعاذة في الحقيقة مانعا من تأثير التهم التي اتهموا بها موسى فيما بعد.

ويمكن أن تكون هذه الكلمة قد استعملت في معناها الواسع الذي يشمل كلا المعنيين.

وتخاطب الآية الأخيرة هؤلاء القوم فتقول :( وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ) لأن موسىعليه‌السلام كان واثقا من نفوذه بين أوساط الناس ، ومختلف طبقاتهم ، بامتلاكه تلك المعجزات الباهرات ، والأدلة القوية ، والسلطان المبين ، وأن ثورته ستؤتي أكلها بعد حين ، ولذلك كان يرضى من هؤلاء القوم أن يتنحوا عن طريقه ولا يكونوا حاجزا بينه وبين الناس.

لكن ، هل يمكن أن يهدأ هؤلاء الجبابرة المغرورون وهم يرون الخطر يهدد

__________________

(١) الشعراء ، الآية ١١٦.

(٢) مريم ، الآية ٤٦.

(٣) هود ، الآية ٩١.

(٤) لسان العرب ، ماده رجم.

١٣٦

مصالحهم وثرواتهم اللامشروعة ، ويقبلوا مثل هذا الاقتراح ويدعوا موسى وشأنه؟

الآيات الآتية كفيلة بأن تبيّن تتمة هذه الأحاديث.

* * *

١٣٧

الآيات

( فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) )

التّفسير

تركوا القصور والبساتين والكنوز وارتحلوا!

لقد استخدم موسىعليه‌السلام كلّ وسائل الهداية للنفوذ إلى قلوب هؤلاء المجرمين الظلمة ، إلّا أنّها لم تؤثر فيهم أدنى تأثير ، وطرق كلّ باب ما من مجيب.

لذلك يئس منهم ، ولم ير لهم علاجا إلّا لعنهم والدعاء عليهم ، لأنّ الفاسدين الذين لا أمل في هدايتهم لا يستحقون الحياة في قانون الخلقة ، بل يجب أن ينزل عليهم عذاب الله ويجتثهم ويطهر الأرض من دنسهم ، لذلك تقول الآية الأولى من هذه الآيات :( فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ ) .

١٣٨

انظر إلى أدب الدعاء ، إنّه لا يقول : اللهم افعل كذا وكذا ، بل يكتفي بأنّ يقول : اللهمّ إن هؤلاء قوم مجرمون لا أمل في هدايتهم وحسب!

وقد استجاب الله سبحانه دعاءه ، وكمقدمة لنزول العذاب على الفراعنة ، ونجاة بني إسرائيل منهم ، أمر موسىعليه‌السلام أنّ( فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ) لكن لا تقلق من ذلك ، فيجب أن يتبعكم هؤلاء ليلاقوا المصير الذي ينتظرهم.

إنّ موسىعليه‌السلام مأمور بأنّ يتحرك ليلا بصحبة عباد الله المؤمنين ، أي بني إسرائيل ، وجماعة من أهل مصر الذين مالت قلوبهم إلى الإيمان ولبّت دعوة موسى ، وأن يأتي النيل ، ويعبره بطريقة إعجازية ، ثمّ يسير إلى الأرض الموعودة ، «فلسطين».

صحيح أنّ حركة موسى وأنصاره قد تمّت ليلا ، إلّا أنّ من المحتم أنّ لا تبقى حركة جماعية عظيمة كهذه خافية ، عن أنظار الفراعنة مدة طويلة ، وربّما لم تمض عدّة ساعات حتى أوصل جواسيس فرعون هذا الخبر المهور ـ أو قل فرار العبيد الجماعي ـ إلى مسامعه ، فأمر بمطاردتهم بجيش جرار.

والطريف أنّ كلّ هذه الأمور التي حدثت جاءت ضمن إشارة موجزة في الآيات أعلاه( إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ) .

إن ما حذف هنا من أجل الاختصار وضّح في آيات أخرى من القرآن بعبارات موجزة ، فمثلا نقرأ في الآية (٧٧) من سورة طه( وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى ) .

ثمّ تضيف الآية التي بعدها : عند ما تصل إلى الساحل الآخر عليك أن تترك البحر بهدوء( وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً ) والمراد من البحر في هذه الآيات هو نهر النيل العظيم.

لقد ذكر المفسّرون وأرباب اللغة معنيين للرهو : هما الهدوء ، والسعة والانفتاح ، ولا مانع هنا من اجتماعهما.

١٣٩

لكن لماذا صدر مثل هذا الأمر لموسىعليه‌السلام ؟

من الطبيعي أنّ موسىعليه‌السلام وبني إسرائيل كانوا راغبين في أن يجتازوا البحر حتى تتصل المياه مرّة أخرى وتملأ هذا الفراغ ، ويبتعدوا بسرعة عن منطقة الخطر ، ويتجهوا بسلامة إلى الوطن الموعود ، إلّا أنّهم أمروا أنّ لا يعجلوا أثناء عبورهم نهر النيل ، بل ليدعوا فرعون وآخر جندي من جنوده يردون النيل ، فإنّ أمر إهلاكهم وإماتتهم قد صدر إلى أمواج النيل المتلاطمة الغاضبة ، ولذلك تقول الآية في ختامها( إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ) .

هذا هو أمر اللهعزوجل الحتمي الصادر بحق هؤلاء القوم ، بأنّهم يجب أن يغرقوا جميعا في نهر النيل العظيم ، الذي كان أساس ثروتهم وقوّتهم! وبأمر إلهي واحد تحول هذا النهر الذي كان عصب حياتهم إلى أداة فنائهم وموتهم.

نعم ، عند ما وصل فرعون وجنوده إلى شاطئ النيل كان بنو إسرائيل قد خرجوا من الجانب الآخر ، وكان ظهور مثل ذلك الطريق اليابس وسط النيل كافيا وحده لأن يلفت نظر حتى الطفل الساذج إلى تحقق إعجاز إلهي عظيم في البحر ، إلّا أنّ كبر أولئك الحمقى وغرورهم لم يسمح لهم بإدراك هذه الحقيقة الواضحة فيقفوا على اشتباهاتهم وأخطائهم ، ويتوجهوا إلى الله سبحانه!

ربّما كانوا يظنون أنّ هذا التغير الذي طرأ على النيل قد تمّ بأمر فرعون أيضا! وربّما قال هذا الكلام لجنوده ، ثمّ ورد بنفسه ذلك الطريق فتبعه جنوده حتى الجندي الأخير!

لكن ، أمواج النيل تلاطمت فجأة وانهالت عليهم كبناء شاهق انهدمت قواعده فانهار إلى الأرض ، فغرقوا جميعا.

ولنكتة التي تلفت النظر في هذه الآيات ، هي اختصارها الفائق ، وكونها بليغة ومعبرة في الوقت نفسه ، فقد ذكر قصة مفصلة في ثلاث آيات ـ أو جمل ـ بحذف الجمل الإضافية التي تفهم من القرائن أو الجمل الأخرى ، ونراها اكتفت بالقول :

١٤٠