الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 592
المشاهدات: 166978
تحميل: 5016


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 166978 / تحميل: 5016
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 16

مؤلف:
العربية

( فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ. فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ، وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ) .

إنّ التعبير بـ «مغرقون» مع أنّهم لم يكونوا قد غرقوا بعد إشارة إلى أنّ هذا الأمر الإلهي حتمي وقطعي.

ولنر الآن ماذا جرى من الحوادث التي تدعو إلى الاعتبار بها ، بعد غرق فرعون والفراعنة.

يبيّن القرآن الكريم في الآيات التالية تركة الفراعنة العظيمة التي ورثها بنو إسرائيل ، ضمن خمسة مواضيع تكن الفهرس العام لكلّ حياة الفراعنة ، فيقول أوّلا :( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ) .

لقد كانت البساتين والعيون ثروتين من أهم وأروع ثروات هؤلاء ، لأنّ مصر كانت أرضا خصبة مليئة بالبساتين بوجود نهر النيل. وهذه العيون يمكن أن تكون إشارة الى العيون التي كانت تنبع هنا وهناك ، أو أنّها جداول كانت تستمد مياهها من النيل ، وتمر في بساتين أولئك وحدائقهم الغناء الخضراء ، وليس بعيدا إطلاق العين على هذه الجداول.

ثمّ يضيف القرآن الكريم( وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ ) وكانت هاتان ثروتين مهمتين أخريين ، فمن جهة كانت الزراعة العظيمة التي تعتمد على النيل ، حيث أنواع المواد الزراعية الغذائية وغيرها ، والمحصولات التي امتدت في جميع أنحاء مصر ، وكانوا يستخدمونها غذاء لهم ويصدرون الفائض منها إلى الخارج ، ومن جهة أخرى كانت القصور والمساكن العامرة ، حيث أنّ من أهم مستلزمات حياة الإنسان هو المسكن المناسب.

لا شك أنّ هذه القصور كريمة من الناحية الظاهرية ، ومن وجهة نظر هؤلاء أنفسهم ، وإلّا فإنّ مساكن الطواغيت المزينة هذه ، والتي تسبب الغفلة عن الله ، لا قيمة لها في منطق القرآن.

١٤١

واحتمل البعض أن يكون المراد من المقام الكريم مجالس الأنس والطرب ، أو المنابر التي كان يرتقيها المدّاحون والشعراء للثناء على فرعون.

لكن ، الظاهر أنّ المعنى الأوّل أنسب من الجميع.

ولما كان هؤلاء يمتلكون وسائل رفاه كثيرة غير الأمور الأربعة المهمّة التي مرّ ذكرها ، فقد أشار القرآن إليها جميعا في جملة مقتضبة ، فقال :( وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ ) (١) (٢) .

ثمّ يضيف( كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ ) (٣) .

والمراد من( قَوْماً آخَرِينَ ) هم بنو إسرائيل ، حيث صرّح بذلك في الآية (٩٥) من سورة الشعراء. والتعبير بالإرث إشارة إلى أنّهم حصلوا على كلّ هذه الأموال والثروات من دون أن يبذلوا أدنى جهد ، أو يتحملوا أقل تعب ومشقّة ، كما يحصل الإنسان على الإرث دون أن يشقى ويجهد في تحصيله.

والجدير بالانتباه أنّ الآية المذكورة ونظيرتها في سورة الشعراء توحيان بأنّ بني إسرائيل قد عادوا إلى مصر بعد غرق الفراعنة وورثوا ميراثهم ، وحكموا هناك ، وسير الحوادث يقتضي ـ أيضا ـ أنّ لا يدع موسىعليه‌السلام مصر تعيش فراغا سياسيا بعد انهيار دعائم حكومة الفراعنة فيها.

لكن هذا الكلام لا ينافي ما ورد في آيات القرآن الكريم من أنّ بني إسرائيل قد ساروا إلى الأرض الموعودة ، أرض فلسطين ، بعد خلاصهم من قبضة الفراعنة ، والذي جاء مفصلا في القرآن ، فمن الممكن أن تكون جماعة منهم قد أقاموا في

__________________

(١) «نعمة» بفتح النون تعني التنعم ، وبكسرها تعني الإنعام ، وقد صرح جماعة من المفسّرين وأرباب اللغة بهذا المعنى ، في حين يعتقد جمع آخر أنّ للإثنين معنى واحدا يشمل كلّ المنافع التي تستحق الالتفات والنظر.

(٢) فسّرت كلمة «فاكهين» بالاستمتاع بالفواكه تارة ، وأخر بالأحاديث الفكاهية السارة ، وثالثة بالتنعم والتلذذ ، والمعنى الأخير أجمع من الجميع.

(٣) «كذلك» خبر لمبتدأ محذوف والتقدير : الأمر كذلك ، ويستعمل هذا التعبير للتأكيد. واحتمل البعض احتمالات أخرى في تركيبها.

١٤٢

مصر بعد استيلائهم عليها كوكلاء لموسىعليه‌السلام ، وسار القسم الأعظم إلى فلسطين.

ولمزيد من الإيضاح حول هذا الكلام انظر ذيل الآية (٥٩) من سورة الشعراء.

وتقول الآية الأخيرة من هذه الآيات( فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ ) .

إنّ عدم بكاء السماء والأرض ربّما كان كناية عن حقارتهم ، وعدم وجود ولي ولا نصير لهم ليحزن عليهم ويبكيهم ، ومن المتعارف بين العرب أنّهم إذا أرادوا تبيان أهمية مكانة الميت ، يقولون : بكت عليه السماء والأرض ، وأظلمت الشمس والقمر لفقده.

واحتمل أيضا أنّ المراد بكاء أهل السماوات والأرض ، لأنّهم يبكون المؤمنين المقربين عند الله ، لا الجبابرة والطواغيت وأمثاله.

وقال البعض : إنّ بكاء السماء والأرض بكاء حقيقي ، حيث تظهر احمرارا خاصا غير احمرار الغروب والطلوع ، كما نقرأ في رواية : «لما قتل الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام بكت السماء عليه ، وبكاؤها حمرة أطرافها»(١) .

وفي رواية أخرى عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «بكت السماء على يحيى بن زكريا وعلى الحسين بن علي (عليهما‌السلام) أربعين صباحا ، ولم تبك إلّا عليهما» قلت : وما بكاؤها؟ قال : «كانت تطلع حمراء ، وتغيب حمراء»(٢) .

غير أننا نقرأ في حديث روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من مؤمن إلّا وله باب يصعد منه عمله ، وباب ينزل منه رزقه ، فإذا مات بكيا عليه»(٣) .

ولا منافاة بين هذه الرّوايات ، حيث كان لشهادة الحسينعليه‌السلام ويحيى بن زكرياعليه‌السلام صفة العموم في كلّ السماء ، ولما ورد في الرّوايات الأخيرة صفة

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ٦٥ ذيل الآية مورد البحث.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

١٤٣

الخصوص(١) .

على أي حال ، فلا تضاد بين هذه التفاسير ، ويمكن جمعها في معنى الآية.

نعم لم تبك السماء لموت هؤلاء الضالين الظالمين ، ولم تحزن عليهم الأرض ، فقد كانوا موجودات خبيثة ، وكأنّما لم تكن لهم أدنى علاقة بعالم الوجود ودنيا البشرية ، فلما طرد هؤلاء الأجانب من العالم لم يحس أحد بخلو مكانهم منهم ، ولم يشعر أحد بفقدهم ، لا على وجه الأرض ، ولا في أطراف السماء ، ولا في أعماق قلوب البشر ، ولذلك لم تذرف عين أحد دمعة لموتهم.

وننهي الكلام في هذه الآيات بذكر رواية عن أمير المؤمنينعليه‌السلام .

فقد ورد في رواية أنّ أمير المؤمنين علياعليه‌السلام لما مرّ على المدائن ، ورأى آثار كسرى مشرفة على السقوط والانهيار ، أنشد أحد أصحابه الذين كانوا معه :

جرت الرياح على رسومهم

فكأنّهم كانوا على ميعاد!

فقال أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «أفلا قلت( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ ) (٢) .

* * *

__________________

(١) روي في الدر المنثور حديث في باب الجمع بين هذه الروايات. الدر المنثور ، طبقا لنقل الميزان ، المجلد ١٨ ، صفحة ١٥١.

(٢) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٥٣١ (مادة مدن).

١٤٤

الآيات

( وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) )

التّفسير

بنو إسرائيل في بوتقة الاختبار :

كان الكلام في الآيات السابقة عن غرق الفراعنة وهلاكهم ، وانكسار شوكتهم وانتهاء حكومتهم ، وانتقالها إلى الآخرين. وتتحدث هذه الآيات في النقطة المقابلة لذلك أي نجاة بني إسرائيل وخلاصهم ، فتقول :( وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ ) من العذاب الجسمي والروحي والشاق ، والذي نفذ إلى أعماق أرواحهم من ذبح الأطفال الذكور ، واستحياء البنات لخدمة وقضاء المآرب ، من السخرة والأعمال الشاقة جدّا ، وأمثال ذلك.

فكم هو مؤلم أن يكون مصير أمة بيد هكذا عدوّ دموي شيطاني ، وأن تبتلى بهكذا ظلمة لا يعرفون الرحمة ولا الانسانية؟

نعم ، لقد نجّى الله سبحانه هذه الأمّة المظلومة من قبضة هؤلاء الظالمين ، أعظم

١٤٥

سفاكي الدماء في التأريخ ، في ظل ثورة موسى بن عمرانعليه‌السلام ، الرّبانية ، لذلك تضيف الآية( مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ ) .

ليس المراد من «عاليا» هنا علو المنزلة ، بل هو إشارة إلى استشعاره العلو ، وإنّما علوه في الإسراف والتعدي ، كما جاء ذلك أيضا في الآية (٤) من سورة القصص( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ ) حتى أنّه ادعى الألوهية ، وسمى نفسه الرب الأعلى.

و «المسرف» من مادة «إسراف» ، أي كلّ تجاوز للحدود ، سواء في الأقوال أم الأفعال ، ولذلك استعملت كلمة المسرف في آيات القرآن المختلفة في شأن المجرمين الذين يتعدون الحدود في ظلمهم وفسادهم ، وكذلك أطلقت على العصاة المسرفين ، كما نقرأ ذلك في الآية (٥٣) من سورة الزمر( قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ) .

وتشير الآية التالية إلى نعمة أخرى من نعم الله سبحانه على بني إسرائيل ، فتقول :( وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ ) إلّا أنّهم لم يعرفوا قدر هذه النعمة ، فكفروا وعوقبوا.

وعلى هذا فإنّهم كانوا الأمة المختارة في عصرهم ، لأنّ المراد من العالمين البشر في ذلك العصر والزمان لا في كلّ القرون والأعصار ، لأنّ القرآن يخاطب الأمة الإسلامية بصراحة في الآية (١١٠) من سورة آل عمران ويقول :( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) .

وكذلك الحال بالنسبة إلى الأراضي التي ورثها بنو إسرائيل ، إذ يقول القرآن الكريم في الآية (١٣٧) من سورة الأعراف( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها ) في حين أنّ بني إسرائيل لم يرثوا كلّ الأرض ، والمراد شرق منطقتهم وغربها.

ويعتقد بعض المفسّرين أنّه كان لبني إسرائيل بعض الميزات التي كانت منحصرة فيهم على مرّ التأريخ ، ومن جملتها كثرة الأنبياء ، إذ لم يظهر في أي قوم

١٤٦

هذا العدد من الأنبياء.

إلّا أنّ هذا الكلام ، إضافة إلى أنّه لا يثبت مزيتهم المطلقة هذه ، فإنّه يدل على أنّها ليست مزية أساسا ، فربّما كانت كثرة الأنبياء فيهم دليلا على غاية تمرد هؤلاء القوم وقمة عصيانهم ، كما بيّنت الحوادث المختلفة بعد ظهور موسىعليه‌السلام أنّهم لم يتركوا شيئا سيئا لم يفعلوه ضد هذا النّبي العظيم.

وعلى أية حال ، فإنّ ما ذكرناه أعلاه في تفسير الآية ، هو المقبول من قبل كثير من المفسّرين في شأن أهلية بني إسرائيل النسبية.

غير أنّ هؤلاء القوم المعاندين كانوا يؤذون أنبياءهم دائما ـ حسب ما يذكره القرآن ـ وكانوا يقفون أمام أحكام الله سبحانه بكلّ تصلب وعناد ، بل إنّهم بمجرّد أنّ نجوا من النيل وأهواله طلبوا من موسى أن يجعل لهم آلهة يعبدونها! وهذا يدلنا على إمكانية أن يكون الهدف من الآية ليس بيان خصيصة لبني إسرائيل ، بل بيان حقيقة أخرى. وعليه يصبح معنى الآية : مع أننا نعلم أنّ هؤلاء سيسيئون استغلال نعم الله ومواهبه ، فقد منحناهم التفوق لنختبرهم.

كما يستفاد من الآية التالية ـ أيضا ـ أنّ الله سبحانه قد منحهم مواهب اخرى ليبلوهم.

ولذا فإنّ هذا الاختبار الإلهي لا يدل على كونه مزية لهؤلاء ، وليس هذا وحسب ، بل هو ذم ضمني أيضا ، لأنّهم لم يشكروا هذه النعمة ، ولم يؤدّوا حقها ، ولم ينجحوا في الامتحان.

وتشير آخر آية من هذه الآيات إلى بعض المواهب الأخرى التي منحهم الله إيّاها ، فتقول :( وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ ) فمرة ظللنا عليهم الغمام في صحراء سيناء ، وفي وادي التيه وأخرى أنزلنا عليهم مائدة خاصة من المن والسلوى ، وثالثة أجرينا لهم العيون من الصخور الصماء ، ومنحناهم أحيانا نعما مادية ومعنوية أخرى. إلّا أنّ كلّ ذلك كان لغرض الابتلاء والامتحان ، لأنّ الله

١٤٧

سبحانه يختبر قوما بالمصيبة ، وآخرين بالنعمة ، كما نقرأ ذلك في الآية (١٦٨) من سورة الأعراف :( وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) .

وربّما كان الهدف من ذكر قصة بني إسرائيل للمسلمين الأوائل ، هو أنّ لا يخافوا من كثرة الأعداء ، وتعاظم قوّتهم ، وليطمئنوا بأنّ الله الذي أهلك الفراعنة ودمرهم ، وأورثت بني إسرائيل ملكهم وحكومتهم ، سيمنّ عليهم في القريب العاجل بمثل هذا النصر ، وكما اختبر أولئك بهذه المواهب ، فإنّكم ستوضعون أيضا في بوتقة الامتحان والاختبار ، ليتّضح ماذا ستفعلون بعد الانتصار وتقلد الحكم؟

وهذا تحذير لكلّ الأمم والأقوام فيما يتعلق بالانتصارات والمواهب التي يحصلون عليها بفضل الله ولطفه ، فإنّ الامتحان عندئذ عسير.

* * *

١٤٨

الآيات

( إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) )

التّفسير

لا شيء بعد الموت!

بعد أنّ جسدت الآيات السابقة مشهدا من حياة فرعون والفراعنة ، وعاقبة كفرهم وإنكارهم ، تكرر الكلام عن المشركين مرّة أخرى ، وأعادت هذه الآيات مسألة شكهم في مسألة المعاد ـ والتي مرّت في بداية السورة ـ بصورة أخرى ، فقالت :( إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى ) وسوف لا نعود إلى الحياة إطلاقا(١) وما يقوله محمّد عن المعاد والحياة بعد الموت والثواب والعقاب ، والجنّة والنّار لا حقيقة له ، فلا حشر ولا نشر أبدا! وهنا سؤال يطرح نفسه ، وهو : لماذا يؤكّد المشركون على الموتة الأولى فقط ،

__________________

(١) هنا اختلاف في مرجع ضمير (هي) فأرجعه بعض المفسّرين الى (الموتة) ، وهو المستفاد من سياق الكلام ، وبناء على هذا يكون المعنى : ما الموتة إلّا موتتنا الأولى (تفسير التبيان ومجمع البيان والكشاف). في حين اعتبر البعض الآخر مرجع الضمير هو العاقبة والنهاية ، وعلى هذا يكون المعنى : ما عاقبة أمرنا إلّا الموتة الأولى (روح المعاني والميزان) وليس بينهما من تفاوت كثير من ناحية النتيجة.

١٤٩

والتي تعني عدم وجود موت آخر بعد هذا الموت ، في حين أنّ مرادهم نفي الحياة بعد الموت ، لا إنكار الموت الثاني وبتعبير آخر فإنّ الأنبياء كانوا يخبرون بالحياة بعد الموت ، لا بالموت مرة ثانية.

ونقول في الإجابة : إنّ مرادهم عدم وجود حالة أخرى بعد الموت ، أي إنّنا نموت مرّة واحدة وينتهي كلّ شيء ، وبعد ذلك لا توجد هناك حياة أخرى ولا موت آخر ، فكل ما هو موجود هذا الموت لا غير. (فتأمل!)(١) .

وهذا يشبه كثيرا ما ورد في الآية (٢٩) من سورة الأنعام ، حيث تقول :( وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) !

ثمّ تنقل كلام هؤلاء الذين تشبثوا بدليل واه لإثبات مدعاهم ، إذا قالوا :( فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

قال البعض : إنّ هذا كان كلام أبي جهل ، حيث أنّه التفت إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : إن كنت صادقا فابعث جدك قصي بن كلاب ، فإنّه كان رجلا صادقا لنسأله عمّا يكون بعد الموت(٢) .

من البديهي أنّ كلّ ذلك كان تذرعا ، ومع أنّ سنّة الله لم تقم على أن يحيي الأموات في هذه الدنيا ليأتوا بأخبار ذلك العالم إلى هذا العالم ، لكن على فرض أن يتمّ هذا العمل من قبل الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسيعزف هؤلاء المتذرعون نغمة جديدة ، ويضربون على وتر آخر ، فيسمون ذلك الفعل سحرا مثلا ، كما طلبوا المعاجز عدّة مرات ، فلما أتاهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها أنكروها أشد إنكار.

* * *

__________________

(١) ذكر المفسّرون احتمالات أخرى في تفسير هذه الجملة ، وتبدو جميعا بعيدة ، ومن جملتها : أنّهم فسّروا الموتة الأولى بالموت قبل الحياة في هذه الدنيا ، وبناء على هذا يكون معنى الآية : إنّ الموت الذي تكون بعده حياة هو الموت الذي متنا من قبل ، أمّا الموت الثّاني فلا حياة بعده أبدا.

(٢) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ٦٦ ، وبعض التفاسير الأخرى.

١٥٠

ملاحظة

عقيدة المشركين في المعاد :

لم يكن للمشركين بعامة ـ ومشركي العرب بخاصة ـ مسلك متحد في مسائلهم العقائدية ، بل إنّهم كانوا متفاوتين فيما بينهم مع أنّهم يشتركون في الأصل في عقيدة الشرك.

فبعضهم لم يكن يعترف بالله ولا بالمعاد ، وهم الذين يتحدث القرآن عنهم بأنّهم كانوا يقولون :( ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) (١)

وبعضهم الآخر كانوا يعتقدون باللهعزوجل ، ويعتقدون أيضا أنّ الأصنام شفعاؤهم عند الله ، إلّا أنّهم كانوا ينكرون المعاد ، وهم الذين كانوا يقولون :( مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) (٢) ، فأولئك كانوا يحجون إلى الأصنام ، ويقدمون القرابين لها ، وكانوا يعتقدون بالحلال والحرام ، وكان أكثر مشركي العرب من هذه الفئة.

لكن هناك شواهد تدل على أنّ هؤلاء كانوا يعتقدون ببقاء الروح بشكل ما ، سواء على هيئة التناسخ وانتقال الأرواح إلى الأبدان جديدة أم بشكل آخر(٣) .

واعتقادهم بطير اسمه (هامة) معروف ، فقد ورد في قصص العرب أنّه كان من بين العرب من يعتقد بأنّ روح الإنسان طائر انبسط في جسمه ، وعند ما يرحل الإنسان عن هذه الدنيا أو يقتل ، يخرج هذا الطائر من جسمه ويدور حول جسده بصورة مرعبة ، وينوح عند قبره.

وكانوا يعتقدون ـ أيضا ـ أنّ هذا الطائر يكون صغيرا في البداية ثمّ يكبر حتى يصبح بحجم البوم ، وهو يعيش دائما في خوف واضطراب ، ويسكن الديار الخالية ، والخرائب ، والقبور ومصارع القتلى!

__________________

(١) الجاثية ، الآية ٢٤.

(٢) سورة يس ، الآية ٧٨.

(٣) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد المعتزلي ، المجلد ١ ، صفحة ١١٧.

١٥١

وكذلك كانوا يعتقدون أنّ شخصا إذا قتل ستصيح هامة على قبره : اسقوني فإني صدية أي عطشانة(١) .

لقد أبطل الإسلام كلّ هذه المعتقدات الخرافية ، ولذلك روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لا هامة»(٢) .

وعلى أية حال ، فيبدو أنّ هؤلاء وإن لم يكونوا يعتقدون بالمعاد وحياة الإنسان بعد موته ، إلّا أنّهم كانوا يقولون بالتناسخ وبقاء الأرواح بشكل ما.

أمّا المعاد الجسماني على الهيئة التي يذكرها القرآن الكريم ، بأنّ تراب الإنسان يجمع مرة أخرى ، ويعود إلى الحياة من جديد ، وأن لكلا الجسم والروح معادا مشتركا ، فإنّهم كانوا ينكرونه تماما ، ولا ينكرونه فحسب ، بل كانوا يخافونه. وقد أوضحه لهم القرآن بأساليب مختلفة وأثبته لهم.

* * *

__________________

(١) بلوغ الأرب ، المجلد ٢ ، صفحة ٣١١.

(٢) المصدر السابق.

١٥٢

الآيات

( أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) )

التّفسير

قوم تبع :

لقد كانت أرض اليمن ـ الواقعة في جنوب الجزيرة العربية ـ من الأراضي العامرة الغنية ، وكانت في الماضي مهد الحضارة والتمدن ، وكان يحكمها ملوك يسمّون «تبّعا» ـ وجمعها تبابعة ـ لأنّ قومهم كانوا يتبعونهم ، أو لأنّ أحدهم كان يخلف الآخر ويتبعه في الحكم.

ومهما يكن ، فقد كان قوم تبع يشكلون مجتمعا قويا في عدته وعدده ، ولهم حكومتهم الواسعة المترامية الأطراف.

وهذه الآيات تواصل البحث الذي ورد حول مشركي مكّة وعنادهم وإنكارهم

١٥٣

للمعاد ـ فتهدد أولئك المشركين من خلال الإشارة إلى قصة قوم تبع ، بأنّ ما ينتظركم ليس العذاب الإلهي في القيامة وحسب ، بل سوف تلاقون في هذه الدنيا أيضا مصيرا كمصير قوم تبّع المجرمين الكافرين ، فتقول :( أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ ) .

من المعلوم أنّ سكان الحجاز كانوا مطلعين على قصة قوم تبع الذين كانوا يعيشون في جوارهم ، ولذلك لم تفصل الآية كثيرا في أحوالهم ، بل اكتفت بالقول : أنّ احذروا أن تلاقوا نفس المصير الذي لاقاه أولئك الأقوام الآخرون الذين كانوا يعيشون قربكم وحواليكم ، وفي مسيركم إلى الشام ، وفي أرض مصر. فعلى فرض أن بإمكانكم إنكار القيامة ، فهل تستطيعون أن تنكروا العذاب الذي نزل بساحة هؤلاء القوم المجرمين العاصين؟

والمراد من( الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) أمثال قوم نوح وعاد وثمود.

وسنبحث المراد من قوم تبع ، في ما يأتي ، إن شاء الله تعالى.

ثمّ تعود الآية التي بعدها إلى مسألة المعاد مرّة أخرى ، وتثبت هذه الحقيقة باستدلال رائع ، فتقول :( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) (١) .

نعم ، فإنّ لهذا الخلق العظيم الواسع هدفا ، فإذا كان الموت بزعمكم نقطة النهاية بعد أيام من المأكل والمشرب والمنام وقضاء الشهوات الحيوانية ، وبعد ذلك ينتهي كلّ شيء بالموت ، فسيكون هذا الخلق لعبا ولهوا وعبثا ، لا فائدة من ورائه ولا هدف.

ولا يمكن التصديق بأنّ الله القادر الحكيم قد خلق هذا النظام والخلق العظيم من أجل عدّة أيّام سريعة الانقضاء لا هدف من ورائها ، مع ما تقترن به أيّام الحياة هذه من أنواع الآلام والمصائب والمصاعب ، أفينتهي كلّ شيء بانتهائها!؟ إنّ هذا

__________________

(١) «لاعب» من مادة (لعب) ، ويقول الراغب في المفردات : لعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصدا صحيحا. والتثنية في (ما بينهما) من أجل أنّ المراد جنس السماء والأرض.

١٥٤

الأمر لا ينسجم مطلقا مع حكمة الله.

بناء على هذا ، فإنّ مشاهدة وضع هذا العالم وتنظيمه ، تلزمنا التصديق بأنّه مدخل وممر إلى عالم أعظم أبدي ، فلما ذا لا تتفكرون في ذلك؟

لقد ذكر القرآن الكريم هذه الحقيقة مرارا في سور المختلفة ، فيقول في الآية (١٦) من سورة الأنبياء :( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) .

ويقول في الآية (٦٢) من سورة الواقعة :( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ ) .

وعلى أية حال ، فإنّ هنالك غاية وراء خلق هذا العالم ، وهناك عالما آخر يتبعه ، في حين أنّ المذاهب الإلحادية والمنكرة للمعاد ترى بأنّ هذا الخلق عبث لا فائدة من ورائه ولا هدف.

ثمّ تضيف الآية التي بعدها لتأكيد الكلام :( ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ ) .

إن كون هذا الخلق حقا يوجب أن يكون له هدف عقلائي ، وذلك الهدف لا يتحقق إلّا بوجود عالم آخر. إضافة إلى أنّ كونه حقا يقضي بأنّ لا يتساوى المحسنون والمسيئون ، ولما كنا نرى كل واحد من هاتين الفئتين قلّما يرى جزاء عمله في هذه الدنيا ، فلا بد من وجود عالم آخر يجري فيه الحساب والثواب والعقاب ، ليتلقى كل إنسان جزاء عمله ، خيرا أم شرا.

وخلاصة القول ، فإنّ الحق في هذه الآية إشارة إلى الهدفية في الخلق ، واختبار البشر وقانون التكامل ، وكذلك تنفيذ أصول العدالة :( وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) لأنّهم لا يعملون الفكر في التوصل إلى الحقائق ، وإلّا فإنّ أدلة المبدأ والمعاد واضحة بينة.

* * *

١٥٥

بحث

من هم قوم تبّع؟

لقد وردت كلمة (تبّع) في القرآن الكريم مرتين فقط : مرة في الآيات مورد البحث ، وأخرى في الآية ١٤ من سورة (ق) حيث تقول :( وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ) .

وكما أشرنا من قبل ، فإنّ «تبعا» كان لقبا عاما لملوك اليمن ، ككسرى لسلاطين إيران ، وخاقان لملوك الترك ، وفرعون لملوك مصر ، وقيصر لسلاطين الروم.

وكانت كلمة (تبع) تطلق على ملوك اليمن من جهة أنّهم كانوا يدعون الناس إلى اتباعهم ، أو لأنّ أحدهم كان يتبع الآخر في الحكم.

لكن يبدو أنّ القرآن الكريم يتحدث عن أحد ملوك اليمن خاصة ـ كما أنّ فرعون المعاصر لموسىعليه‌السلام ، والذي يتحدث عنه القرآن كان معينا ومحددا ـ وورد في بعض الرّوايات أنّ اسمه «أسعد أبا كرب».

ويعتقد بعض المفسّرين أنّه كان رجلا مؤمنا ، واعتبروا تعبير «قوم تبّع» الذي ورد في آيتين من القرآن دليلا على ذلك ، حيث أنّه لم يذمّ في هاتين الآيتين ، بل ذم قومه ، والرّواية المروية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاهدة على ذلك ، ففي هذه الرواية أنّه قال : لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم(١) .

وجاء في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّ تبّعا قال للأوس والخزرج : كونوا هاهنا حتى يخرج هذا النبي ، أمّا لو أدركته لخدمته وخرجت معه»(٢) .

وورد في رواية أخرى : إنّ تبعا لما قدم المدينة ـ من أحد أسفاره ـ ونزل بفنائها ، بعث إلى أحبار اليهود الذين كانوا يسكنونها فقال : إنّي مخرب هذا البلد

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ٦٦ ذيل الآية مورد البحث ، وأورد نظير هذا المعنى في تفسير الدر المنثور ، وكذلك ورد في روح المعاني ، المجلد ٢٥ ، صفحة ١١٦.

(٢) مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث.

١٥٦

حتى لا تقوم به يهودية ، ويرجع الأمر إلى دين العرب.

فقال له شامول اليهودي ـ وهو يومئذ أعلمهم ـ أيها الملك إنّ هذا بلد يكون إليه مهاجر نبي من بني إسماعيل ، مولده بمكّة اسمه أحمد. ثمّ ذكروا له بعض شمائل نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال تبّع ـ وكأنّه كان عالما بالأمر ـ ما إلى هذا البلد من سبيل ، وما كان ليكون خرابها على يدي(١) .

بل ورد في رواية في ذيل تلك القصة أنّه قال لمن كان معه من الأوس والخزرج : أقيموا بهذا البلد ، فإنّ خرج النّبي الموعود فآزروه وانصروه ، وأوصوا بذلك أولادكم ، حتى أنّه كتب رسالة أودعهم إياها ذكر فيها إيمانه بالرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) .

ويروي صاحب أعلام القرآن أنّ تبّعا كان أحد ملوك اليمن الذين فتحوا العالم ، فقد سار بجيشه إلى الهند واستولى على بلدان تلك المنطقة. وقاد جيشا إلى مكّة ، وكان يريد هدم الكعبة ، فأصابه مرض عضال عجز الأطباء عن علاجه.

وكان من بين حاشيته جمع من العلماء ، كان رئيسهم حكيما يدعى شامول ، فقال له : إنّ مرضك بسبب سوء نيتك في شأن الكعبة ، وستشفى إذا صرفت ذهنك عن هذه الفكرة واستغفرت ، فرجع تبع عما أراد ونذر أن يحترم الكعبة ، فلما تحسن حاله كسا الكعبة ببرد يماني.

وقد وردت قصّة كسوة الكعبة في تواريخ أخرى حتى بلغت حد التواتر. وكان تحرك الجيش هذا ، ومسألة كسوة الكعبة في القرن الخامس الميلادي ، ويوجد اليوم في مكّة مكان يسمى «دار التابعة»(٣) .

وعلى أية حال ، فإنّ القسم الأعظم من تأريخ ملوك التبابعة في اليمن لا يخلو

__________________

(١) روح المعاني ، المجلد الأوّل ٢٥ ، صفحة ١١٨.

(٢) المصدر السابق.

(٣) أعلام القرآن ، ص ٢٥٧ ـ ٢٥٩ (بتلخيص).

١٥٧

من الغموض من الناحية التاريخية ، حيث لا نعلم كثيرا عن عددهم ، ومدّة حكومتهم ، وربّما نواجه في هذا الباب روايات متناقضة ، وأكثر ما ورد في الكتب الإسلامية ـ سواء كتب التّفسير أو التأريخ أو الحديث ـ يتعلق بذلك الملك الذي أشار إليه القرآن في موضعين.

* * *

١٥٨

الآيات

( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) )

التّفسير

يوم الفصل!

تمثل هذه الآيات في الحقيقة نتيجة الآيات السابقة التي بحثت مسألة المعاد ، والتي استدل بها عن طريق حكمة خلق هذا العالم على وجود البعث والحياة الأخرى.

فتستنتج الآية الأولى من هذا الاستدلال :( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ) .

كم هو جميل هذا التعبير عن يوم القيامة بيوم الفصل! ذلك اليوم الذي فصل فيه الحق عن الباطل ، وتمتاز صفوف المحسنين عن المسيئين ، ويعتزل فيه الإنسان أعزّ أصدقائه ، وأقرب أخلائه نعم ، إنّه موعد كلّ المجرمين(١) .

__________________

(١) احتمل المفسّرون احتمالات عديدة في مرجع الضمير في (ميقاتهم) فالبعض أرجعه إلى كلّ البشر ، والبعض خصوص الأقوام الذين أشير إليهم في الآيات السابقة ، أي قوم تبع والعصاة من قبلهم. غير أنّ المعنى الأوّل هو الأصح.

١٥٩

ثمّ ذكرت الآية التالية شرحا موجزا ليوم الفصل هذا ، فقالت :( يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) .

أجل ، ذلك اليوم هو يوم الفصل والافتراق ، يوم يفارق الإنسان فيه كلّ شيء إلّا عمله ، ولا يملك المولى ـ بأي معنى كان ، الصاحب ، الولي ، ولي النعمة ، القريب ، الجار ، الناصر وأمثال ذلك ـ القدرة على حل أصغر مشكلة من مشاكل القيامة.

«المولى» من مادة ولاء ، وهي في الأصل تعني الاتصال بين شيئين بحيث لا يوجد بينهما حاجز ، وله مصاديق كثيرة وردت في كتب اللغة كمعان مختلفة ، تشترك جميعا في معناها الأصلي وجذرها(١) .

في ذلك اليوم لا يجيب الرفيق رفيقه ، وترى الأقارب لا يحل بعضهم مشكلة بعض ، بل وتتبخر كلّ الخطط وتتقطع جميع الأواصر الدنيوية كما نقرأ هذه الصورة في الآية (٤٦) من سورة الطور :( يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) .

أمّا ما هو الفرق بين «لا يغني» وبين «لا هم ينصرون»؟ فإنّ أحسن ما يقال هو : أنّ الأوّل إشارة إلى أنّ أي فرد لا يقدر في ذلك اليوم على حل مشكلة فرد آخر بصورة انفرادية مستقلة ، والثّاني إشارة إلى أنّهم عاجزون عن حل المشاكل حتى وإن تعاونوا فيما بينهم ، لأنّ النصرة تقال في موضع يهبّ فيه شخص لمعونة آخر ومساندته حتى ينصره على المشاكل.

لكن هناك جماعة واحدة مستثناة فقط ، وهي التي أشارت إليها الآية التالية ، فقالت :( إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) .

لا شك أنّ هذه الرحمة الإلهية لا تمنح اعتباطا ، بل تشمل الذين آمنوا وعملوا الصالحات فقط ، وإذا كانوا قد بدر منهم زلل ومعصية ، فإنّها لا تبلغ حدّا تقطع فيه

__________________

(١) لقد ذكرت للمولى معان كثيرة في اللغة ، وعدها البعض سبعة وعشرين معنى : ١ ـ الرب ٢ ـ العم ٣ ـ ابن العم ٤ ـ الابن ٥ ـ ابن الأخت ٦ ـ المعتق ٧ ـ المعتق ٨ ـ العبد ٩ ـ المالك ١٠ ـ التابع ١١ ـ المنعم عليه ١٢ ـ الشريك ١٣ ـ الحليف ١٤ ـ الصاحب ١٥ ـ الجار ١٦ ـ النزيل ١٧ ـ الصهر ١٨ ـ القريب ١٩ ـ المنعم ٢٠ ـ الفقيد ٢١ ـ الولي ٢٢ ـ الأولى بالشيء ٢٣ ـ السيد غير المالك والمعتق ٢٤ ـ المحبّ ٢٥ ـ الناصر ٢٦ ـ المتصرف في الأمر ٢٧ ـ المتولي في الأمر. (الغدير ، المجلد ١ ، صفحة ٣٦٢).

١٦٠