الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177177 / تحميل: 5793
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

( فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ. فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ، وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ) .

إنّ التعبير بـ «مغرقون» مع أنّهم لم يكونوا قد غرقوا بعد إشارة إلى أنّ هذا الأمر الإلهي حتمي وقطعي.

ولنر الآن ماذا جرى من الحوادث التي تدعو إلى الاعتبار بها ، بعد غرق فرعون والفراعنة.

يبيّن القرآن الكريم في الآيات التالية تركة الفراعنة العظيمة التي ورثها بنو إسرائيل ، ضمن خمسة مواضيع تكن الفهرس العام لكلّ حياة الفراعنة ، فيقول أوّلا :( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ) .

لقد كانت البساتين والعيون ثروتين من أهم وأروع ثروات هؤلاء ، لأنّ مصر كانت أرضا خصبة مليئة بالبساتين بوجود نهر النيل. وهذه العيون يمكن أن تكون إشارة الى العيون التي كانت تنبع هنا وهناك ، أو أنّها جداول كانت تستمد مياهها من النيل ، وتمر في بساتين أولئك وحدائقهم الغناء الخضراء ، وليس بعيدا إطلاق العين على هذه الجداول.

ثمّ يضيف القرآن الكريم( وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ ) وكانت هاتان ثروتين مهمتين أخريين ، فمن جهة كانت الزراعة العظيمة التي تعتمد على النيل ، حيث أنواع المواد الزراعية الغذائية وغيرها ، والمحصولات التي امتدت في جميع أنحاء مصر ، وكانوا يستخدمونها غذاء لهم ويصدرون الفائض منها إلى الخارج ، ومن جهة أخرى كانت القصور والمساكن العامرة ، حيث أنّ من أهم مستلزمات حياة الإنسان هو المسكن المناسب.

لا شك أنّ هذه القصور كريمة من الناحية الظاهرية ، ومن وجهة نظر هؤلاء أنفسهم ، وإلّا فإنّ مساكن الطواغيت المزينة هذه ، والتي تسبب الغفلة عن الله ، لا قيمة لها في منطق القرآن.

١٤١

واحتمل البعض أن يكون المراد من المقام الكريم مجالس الأنس والطرب ، أو المنابر التي كان يرتقيها المدّاحون والشعراء للثناء على فرعون.

لكن ، الظاهر أنّ المعنى الأوّل أنسب من الجميع.

ولما كان هؤلاء يمتلكون وسائل رفاه كثيرة غير الأمور الأربعة المهمّة التي مرّ ذكرها ، فقد أشار القرآن إليها جميعا في جملة مقتضبة ، فقال :( وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ ) (١) (٢) .

ثمّ يضيف( كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ ) (٣) .

والمراد من( قَوْماً آخَرِينَ ) هم بنو إسرائيل ، حيث صرّح بذلك في الآية (٩٥) من سورة الشعراء. والتعبير بالإرث إشارة إلى أنّهم حصلوا على كلّ هذه الأموال والثروات من دون أن يبذلوا أدنى جهد ، أو يتحملوا أقل تعب ومشقّة ، كما يحصل الإنسان على الإرث دون أن يشقى ويجهد في تحصيله.

والجدير بالانتباه أنّ الآية المذكورة ونظيرتها في سورة الشعراء توحيان بأنّ بني إسرائيل قد عادوا إلى مصر بعد غرق الفراعنة وورثوا ميراثهم ، وحكموا هناك ، وسير الحوادث يقتضي ـ أيضا ـ أنّ لا يدع موسىعليه‌السلام مصر تعيش فراغا سياسيا بعد انهيار دعائم حكومة الفراعنة فيها.

لكن هذا الكلام لا ينافي ما ورد في آيات القرآن الكريم من أنّ بني إسرائيل قد ساروا إلى الأرض الموعودة ، أرض فلسطين ، بعد خلاصهم من قبضة الفراعنة ، والذي جاء مفصلا في القرآن ، فمن الممكن أن تكون جماعة منهم قد أقاموا في

__________________

(١) «نعمة» بفتح النون تعني التنعم ، وبكسرها تعني الإنعام ، وقد صرح جماعة من المفسّرين وأرباب اللغة بهذا المعنى ، في حين يعتقد جمع آخر أنّ للإثنين معنى واحدا يشمل كلّ المنافع التي تستحق الالتفات والنظر.

(٢) فسّرت كلمة «فاكهين» بالاستمتاع بالفواكه تارة ، وأخر بالأحاديث الفكاهية السارة ، وثالثة بالتنعم والتلذذ ، والمعنى الأخير أجمع من الجميع.

(٣) «كذلك» خبر لمبتدأ محذوف والتقدير : الأمر كذلك ، ويستعمل هذا التعبير للتأكيد. واحتمل البعض احتمالات أخرى في تركيبها.

١٤٢

مصر بعد استيلائهم عليها كوكلاء لموسىعليه‌السلام ، وسار القسم الأعظم إلى فلسطين.

ولمزيد من الإيضاح حول هذا الكلام انظر ذيل الآية (٥٩) من سورة الشعراء.

وتقول الآية الأخيرة من هذه الآيات( فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ ) .

إنّ عدم بكاء السماء والأرض ربّما كان كناية عن حقارتهم ، وعدم وجود ولي ولا نصير لهم ليحزن عليهم ويبكيهم ، ومن المتعارف بين العرب أنّهم إذا أرادوا تبيان أهمية مكانة الميت ، يقولون : بكت عليه السماء والأرض ، وأظلمت الشمس والقمر لفقده.

واحتمل أيضا أنّ المراد بكاء أهل السماوات والأرض ، لأنّهم يبكون المؤمنين المقربين عند الله ، لا الجبابرة والطواغيت وأمثاله.

وقال البعض : إنّ بكاء السماء والأرض بكاء حقيقي ، حيث تظهر احمرارا خاصا غير احمرار الغروب والطلوع ، كما نقرأ في رواية : «لما قتل الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام بكت السماء عليه ، وبكاؤها حمرة أطرافها»(١) .

وفي رواية أخرى عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «بكت السماء على يحيى بن زكريا وعلى الحسين بن علي (عليهما‌السلام) أربعين صباحا ، ولم تبك إلّا عليهما» قلت : وما بكاؤها؟ قال : «كانت تطلع حمراء ، وتغيب حمراء»(٢) .

غير أننا نقرأ في حديث روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من مؤمن إلّا وله باب يصعد منه عمله ، وباب ينزل منه رزقه ، فإذا مات بكيا عليه»(٣) .

ولا منافاة بين هذه الرّوايات ، حيث كان لشهادة الحسينعليه‌السلام ويحيى بن زكرياعليه‌السلام صفة العموم في كلّ السماء ، ولما ورد في الرّوايات الأخيرة صفة

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ٦٥ ذيل الآية مورد البحث.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

١٤٣

الخصوص(١) .

على أي حال ، فلا تضاد بين هذه التفاسير ، ويمكن جمعها في معنى الآية.

نعم لم تبك السماء لموت هؤلاء الضالين الظالمين ، ولم تحزن عليهم الأرض ، فقد كانوا موجودات خبيثة ، وكأنّما لم تكن لهم أدنى علاقة بعالم الوجود ودنيا البشرية ، فلما طرد هؤلاء الأجانب من العالم لم يحس أحد بخلو مكانهم منهم ، ولم يشعر أحد بفقدهم ، لا على وجه الأرض ، ولا في أطراف السماء ، ولا في أعماق قلوب البشر ، ولذلك لم تذرف عين أحد دمعة لموتهم.

وننهي الكلام في هذه الآيات بذكر رواية عن أمير المؤمنينعليه‌السلام .

فقد ورد في رواية أنّ أمير المؤمنين علياعليه‌السلام لما مرّ على المدائن ، ورأى آثار كسرى مشرفة على السقوط والانهيار ، أنشد أحد أصحابه الذين كانوا معه :

جرت الرياح على رسومهم

فكأنّهم كانوا على ميعاد!

فقال أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «أفلا قلت( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ ) (٢) .

* * *

__________________

(١) روي في الدر المنثور حديث في باب الجمع بين هذه الروايات. الدر المنثور ، طبقا لنقل الميزان ، المجلد ١٨ ، صفحة ١٥١.

(٢) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٥٣١ (مادة مدن).

١٤٤

الآيات

( وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) )

التّفسير

بنو إسرائيل في بوتقة الاختبار :

كان الكلام في الآيات السابقة عن غرق الفراعنة وهلاكهم ، وانكسار شوكتهم وانتهاء حكومتهم ، وانتقالها إلى الآخرين. وتتحدث هذه الآيات في النقطة المقابلة لذلك أي نجاة بني إسرائيل وخلاصهم ، فتقول :( وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ ) من العذاب الجسمي والروحي والشاق ، والذي نفذ إلى أعماق أرواحهم من ذبح الأطفال الذكور ، واستحياء البنات لخدمة وقضاء المآرب ، من السخرة والأعمال الشاقة جدّا ، وأمثال ذلك.

فكم هو مؤلم أن يكون مصير أمة بيد هكذا عدوّ دموي شيطاني ، وأن تبتلى بهكذا ظلمة لا يعرفون الرحمة ولا الانسانية؟

نعم ، لقد نجّى الله سبحانه هذه الأمّة المظلومة من قبضة هؤلاء الظالمين ، أعظم

١٤٥

سفاكي الدماء في التأريخ ، في ظل ثورة موسى بن عمرانعليه‌السلام ، الرّبانية ، لذلك تضيف الآية( مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ ) .

ليس المراد من «عاليا» هنا علو المنزلة ، بل هو إشارة إلى استشعاره العلو ، وإنّما علوه في الإسراف والتعدي ، كما جاء ذلك أيضا في الآية (٤) من سورة القصص( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ ) حتى أنّه ادعى الألوهية ، وسمى نفسه الرب الأعلى.

و «المسرف» من مادة «إسراف» ، أي كلّ تجاوز للحدود ، سواء في الأقوال أم الأفعال ، ولذلك استعملت كلمة المسرف في آيات القرآن المختلفة في شأن المجرمين الذين يتعدون الحدود في ظلمهم وفسادهم ، وكذلك أطلقت على العصاة المسرفين ، كما نقرأ ذلك في الآية (٥٣) من سورة الزمر( قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ) .

وتشير الآية التالية إلى نعمة أخرى من نعم الله سبحانه على بني إسرائيل ، فتقول :( وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ ) إلّا أنّهم لم يعرفوا قدر هذه النعمة ، فكفروا وعوقبوا.

وعلى هذا فإنّهم كانوا الأمة المختارة في عصرهم ، لأنّ المراد من العالمين البشر في ذلك العصر والزمان لا في كلّ القرون والأعصار ، لأنّ القرآن يخاطب الأمة الإسلامية بصراحة في الآية (١١٠) من سورة آل عمران ويقول :( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) .

وكذلك الحال بالنسبة إلى الأراضي التي ورثها بنو إسرائيل ، إذ يقول القرآن الكريم في الآية (١٣٧) من سورة الأعراف( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها ) في حين أنّ بني إسرائيل لم يرثوا كلّ الأرض ، والمراد شرق منطقتهم وغربها.

ويعتقد بعض المفسّرين أنّه كان لبني إسرائيل بعض الميزات التي كانت منحصرة فيهم على مرّ التأريخ ، ومن جملتها كثرة الأنبياء ، إذ لم يظهر في أي قوم

١٤٦

هذا العدد من الأنبياء.

إلّا أنّ هذا الكلام ، إضافة إلى أنّه لا يثبت مزيتهم المطلقة هذه ، فإنّه يدل على أنّها ليست مزية أساسا ، فربّما كانت كثرة الأنبياء فيهم دليلا على غاية تمرد هؤلاء القوم وقمة عصيانهم ، كما بيّنت الحوادث المختلفة بعد ظهور موسىعليه‌السلام أنّهم لم يتركوا شيئا سيئا لم يفعلوه ضد هذا النّبي العظيم.

وعلى أية حال ، فإنّ ما ذكرناه أعلاه في تفسير الآية ، هو المقبول من قبل كثير من المفسّرين في شأن أهلية بني إسرائيل النسبية.

غير أنّ هؤلاء القوم المعاندين كانوا يؤذون أنبياءهم دائما ـ حسب ما يذكره القرآن ـ وكانوا يقفون أمام أحكام الله سبحانه بكلّ تصلب وعناد ، بل إنّهم بمجرّد أنّ نجوا من النيل وأهواله طلبوا من موسى أن يجعل لهم آلهة يعبدونها! وهذا يدلنا على إمكانية أن يكون الهدف من الآية ليس بيان خصيصة لبني إسرائيل ، بل بيان حقيقة أخرى. وعليه يصبح معنى الآية : مع أننا نعلم أنّ هؤلاء سيسيئون استغلال نعم الله ومواهبه ، فقد منحناهم التفوق لنختبرهم.

كما يستفاد من الآية التالية ـ أيضا ـ أنّ الله سبحانه قد منحهم مواهب اخرى ليبلوهم.

ولذا فإنّ هذا الاختبار الإلهي لا يدل على كونه مزية لهؤلاء ، وليس هذا وحسب ، بل هو ذم ضمني أيضا ، لأنّهم لم يشكروا هذه النعمة ، ولم يؤدّوا حقها ، ولم ينجحوا في الامتحان.

وتشير آخر آية من هذه الآيات إلى بعض المواهب الأخرى التي منحهم الله إيّاها ، فتقول :( وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ ) فمرة ظللنا عليهم الغمام في صحراء سيناء ، وفي وادي التيه وأخرى أنزلنا عليهم مائدة خاصة من المن والسلوى ، وثالثة أجرينا لهم العيون من الصخور الصماء ، ومنحناهم أحيانا نعما مادية ومعنوية أخرى. إلّا أنّ كلّ ذلك كان لغرض الابتلاء والامتحان ، لأنّ الله

١٤٧

سبحانه يختبر قوما بالمصيبة ، وآخرين بالنعمة ، كما نقرأ ذلك في الآية (١٦٨) من سورة الأعراف :( وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) .

وربّما كان الهدف من ذكر قصة بني إسرائيل للمسلمين الأوائل ، هو أنّ لا يخافوا من كثرة الأعداء ، وتعاظم قوّتهم ، وليطمئنوا بأنّ الله الذي أهلك الفراعنة ودمرهم ، وأورثت بني إسرائيل ملكهم وحكومتهم ، سيمنّ عليهم في القريب العاجل بمثل هذا النصر ، وكما اختبر أولئك بهذه المواهب ، فإنّكم ستوضعون أيضا في بوتقة الامتحان والاختبار ، ليتّضح ماذا ستفعلون بعد الانتصار وتقلد الحكم؟

وهذا تحذير لكلّ الأمم والأقوام فيما يتعلق بالانتصارات والمواهب التي يحصلون عليها بفضل الله ولطفه ، فإنّ الامتحان عندئذ عسير.

* * *

١٤٨

الآيات

( إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) )

التّفسير

لا شيء بعد الموت!

بعد أنّ جسدت الآيات السابقة مشهدا من حياة فرعون والفراعنة ، وعاقبة كفرهم وإنكارهم ، تكرر الكلام عن المشركين مرّة أخرى ، وأعادت هذه الآيات مسألة شكهم في مسألة المعاد ـ والتي مرّت في بداية السورة ـ بصورة أخرى ، فقالت :( إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى ) وسوف لا نعود إلى الحياة إطلاقا(١) وما يقوله محمّد عن المعاد والحياة بعد الموت والثواب والعقاب ، والجنّة والنّار لا حقيقة له ، فلا حشر ولا نشر أبدا! وهنا سؤال يطرح نفسه ، وهو : لماذا يؤكّد المشركون على الموتة الأولى فقط ،

__________________

(١) هنا اختلاف في مرجع ضمير (هي) فأرجعه بعض المفسّرين الى (الموتة) ، وهو المستفاد من سياق الكلام ، وبناء على هذا يكون المعنى : ما الموتة إلّا موتتنا الأولى (تفسير التبيان ومجمع البيان والكشاف). في حين اعتبر البعض الآخر مرجع الضمير هو العاقبة والنهاية ، وعلى هذا يكون المعنى : ما عاقبة أمرنا إلّا الموتة الأولى (روح المعاني والميزان) وليس بينهما من تفاوت كثير من ناحية النتيجة.

١٤٩

والتي تعني عدم وجود موت آخر بعد هذا الموت ، في حين أنّ مرادهم نفي الحياة بعد الموت ، لا إنكار الموت الثاني وبتعبير آخر فإنّ الأنبياء كانوا يخبرون بالحياة بعد الموت ، لا بالموت مرة ثانية.

ونقول في الإجابة : إنّ مرادهم عدم وجود حالة أخرى بعد الموت ، أي إنّنا نموت مرّة واحدة وينتهي كلّ شيء ، وبعد ذلك لا توجد هناك حياة أخرى ولا موت آخر ، فكل ما هو موجود هذا الموت لا غير. (فتأمل!)(١) .

وهذا يشبه كثيرا ما ورد في الآية (٢٩) من سورة الأنعام ، حيث تقول :( وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) !

ثمّ تنقل كلام هؤلاء الذين تشبثوا بدليل واه لإثبات مدعاهم ، إذا قالوا :( فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

قال البعض : إنّ هذا كان كلام أبي جهل ، حيث أنّه التفت إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : إن كنت صادقا فابعث جدك قصي بن كلاب ، فإنّه كان رجلا صادقا لنسأله عمّا يكون بعد الموت(٢) .

من البديهي أنّ كلّ ذلك كان تذرعا ، ومع أنّ سنّة الله لم تقم على أن يحيي الأموات في هذه الدنيا ليأتوا بأخبار ذلك العالم إلى هذا العالم ، لكن على فرض أن يتمّ هذا العمل من قبل الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسيعزف هؤلاء المتذرعون نغمة جديدة ، ويضربون على وتر آخر ، فيسمون ذلك الفعل سحرا مثلا ، كما طلبوا المعاجز عدّة مرات ، فلما أتاهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها أنكروها أشد إنكار.

* * *

__________________

(١) ذكر المفسّرون احتمالات أخرى في تفسير هذه الجملة ، وتبدو جميعا بعيدة ، ومن جملتها : أنّهم فسّروا الموتة الأولى بالموت قبل الحياة في هذه الدنيا ، وبناء على هذا يكون معنى الآية : إنّ الموت الذي تكون بعده حياة هو الموت الذي متنا من قبل ، أمّا الموت الثّاني فلا حياة بعده أبدا.

(٢) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ٦٦ ، وبعض التفاسير الأخرى.

١٥٠

ملاحظة

عقيدة المشركين في المعاد :

لم يكن للمشركين بعامة ـ ومشركي العرب بخاصة ـ مسلك متحد في مسائلهم العقائدية ، بل إنّهم كانوا متفاوتين فيما بينهم مع أنّهم يشتركون في الأصل في عقيدة الشرك.

فبعضهم لم يكن يعترف بالله ولا بالمعاد ، وهم الذين يتحدث القرآن عنهم بأنّهم كانوا يقولون :( ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) (١)

وبعضهم الآخر كانوا يعتقدون باللهعزوجل ، ويعتقدون أيضا أنّ الأصنام شفعاؤهم عند الله ، إلّا أنّهم كانوا ينكرون المعاد ، وهم الذين كانوا يقولون :( مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) (٢) ، فأولئك كانوا يحجون إلى الأصنام ، ويقدمون القرابين لها ، وكانوا يعتقدون بالحلال والحرام ، وكان أكثر مشركي العرب من هذه الفئة.

لكن هناك شواهد تدل على أنّ هؤلاء كانوا يعتقدون ببقاء الروح بشكل ما ، سواء على هيئة التناسخ وانتقال الأرواح إلى الأبدان جديدة أم بشكل آخر(٣) .

واعتقادهم بطير اسمه (هامة) معروف ، فقد ورد في قصص العرب أنّه كان من بين العرب من يعتقد بأنّ روح الإنسان طائر انبسط في جسمه ، وعند ما يرحل الإنسان عن هذه الدنيا أو يقتل ، يخرج هذا الطائر من جسمه ويدور حول جسده بصورة مرعبة ، وينوح عند قبره.

وكانوا يعتقدون ـ أيضا ـ أنّ هذا الطائر يكون صغيرا في البداية ثمّ يكبر حتى يصبح بحجم البوم ، وهو يعيش دائما في خوف واضطراب ، ويسكن الديار الخالية ، والخرائب ، والقبور ومصارع القتلى!

__________________

(١) الجاثية ، الآية ٢٤.

(٢) سورة يس ، الآية ٧٨.

(٣) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد المعتزلي ، المجلد ١ ، صفحة ١١٧.

١٥١

وكذلك كانوا يعتقدون أنّ شخصا إذا قتل ستصيح هامة على قبره : اسقوني فإني صدية أي عطشانة(١) .

لقد أبطل الإسلام كلّ هذه المعتقدات الخرافية ، ولذلك روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لا هامة»(٢) .

وعلى أية حال ، فيبدو أنّ هؤلاء وإن لم يكونوا يعتقدون بالمعاد وحياة الإنسان بعد موته ، إلّا أنّهم كانوا يقولون بالتناسخ وبقاء الأرواح بشكل ما.

أمّا المعاد الجسماني على الهيئة التي يذكرها القرآن الكريم ، بأنّ تراب الإنسان يجمع مرة أخرى ، ويعود إلى الحياة من جديد ، وأن لكلا الجسم والروح معادا مشتركا ، فإنّهم كانوا ينكرونه تماما ، ولا ينكرونه فحسب ، بل كانوا يخافونه. وقد أوضحه لهم القرآن بأساليب مختلفة وأثبته لهم.

* * *

__________________

(١) بلوغ الأرب ، المجلد ٢ ، صفحة ٣١١.

(٢) المصدر السابق.

١٥٢

الآيات

( أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) )

التّفسير

قوم تبع :

لقد كانت أرض اليمن ـ الواقعة في جنوب الجزيرة العربية ـ من الأراضي العامرة الغنية ، وكانت في الماضي مهد الحضارة والتمدن ، وكان يحكمها ملوك يسمّون «تبّعا» ـ وجمعها تبابعة ـ لأنّ قومهم كانوا يتبعونهم ، أو لأنّ أحدهم كان يخلف الآخر ويتبعه في الحكم.

ومهما يكن ، فقد كان قوم تبع يشكلون مجتمعا قويا في عدته وعدده ، ولهم حكومتهم الواسعة المترامية الأطراف.

وهذه الآيات تواصل البحث الذي ورد حول مشركي مكّة وعنادهم وإنكارهم

١٥٣

للمعاد ـ فتهدد أولئك المشركين من خلال الإشارة إلى قصة قوم تبع ، بأنّ ما ينتظركم ليس العذاب الإلهي في القيامة وحسب ، بل سوف تلاقون في هذه الدنيا أيضا مصيرا كمصير قوم تبّع المجرمين الكافرين ، فتقول :( أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ ) .

من المعلوم أنّ سكان الحجاز كانوا مطلعين على قصة قوم تبع الذين كانوا يعيشون في جوارهم ، ولذلك لم تفصل الآية كثيرا في أحوالهم ، بل اكتفت بالقول : أنّ احذروا أن تلاقوا نفس المصير الذي لاقاه أولئك الأقوام الآخرون الذين كانوا يعيشون قربكم وحواليكم ، وفي مسيركم إلى الشام ، وفي أرض مصر. فعلى فرض أن بإمكانكم إنكار القيامة ، فهل تستطيعون أن تنكروا العذاب الذي نزل بساحة هؤلاء القوم المجرمين العاصين؟

والمراد من( الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) أمثال قوم نوح وعاد وثمود.

وسنبحث المراد من قوم تبع ، في ما يأتي ، إن شاء الله تعالى.

ثمّ تعود الآية التي بعدها إلى مسألة المعاد مرّة أخرى ، وتثبت هذه الحقيقة باستدلال رائع ، فتقول :( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) (١) .

نعم ، فإنّ لهذا الخلق العظيم الواسع هدفا ، فإذا كان الموت بزعمكم نقطة النهاية بعد أيام من المأكل والمشرب والمنام وقضاء الشهوات الحيوانية ، وبعد ذلك ينتهي كلّ شيء بالموت ، فسيكون هذا الخلق لعبا ولهوا وعبثا ، لا فائدة من ورائه ولا هدف.

ولا يمكن التصديق بأنّ الله القادر الحكيم قد خلق هذا النظام والخلق العظيم من أجل عدّة أيّام سريعة الانقضاء لا هدف من ورائها ، مع ما تقترن به أيّام الحياة هذه من أنواع الآلام والمصائب والمصاعب ، أفينتهي كلّ شيء بانتهائها!؟ إنّ هذا

__________________

(١) «لاعب» من مادة (لعب) ، ويقول الراغب في المفردات : لعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصدا صحيحا. والتثنية في (ما بينهما) من أجل أنّ المراد جنس السماء والأرض.

١٥٤

الأمر لا ينسجم مطلقا مع حكمة الله.

بناء على هذا ، فإنّ مشاهدة وضع هذا العالم وتنظيمه ، تلزمنا التصديق بأنّه مدخل وممر إلى عالم أعظم أبدي ، فلما ذا لا تتفكرون في ذلك؟

لقد ذكر القرآن الكريم هذه الحقيقة مرارا في سور المختلفة ، فيقول في الآية (١٦) من سورة الأنبياء :( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) .

ويقول في الآية (٦٢) من سورة الواقعة :( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ ) .

وعلى أية حال ، فإنّ هنالك غاية وراء خلق هذا العالم ، وهناك عالما آخر يتبعه ، في حين أنّ المذاهب الإلحادية والمنكرة للمعاد ترى بأنّ هذا الخلق عبث لا فائدة من ورائه ولا هدف.

ثمّ تضيف الآية التي بعدها لتأكيد الكلام :( ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ ) .

إن كون هذا الخلق حقا يوجب أن يكون له هدف عقلائي ، وذلك الهدف لا يتحقق إلّا بوجود عالم آخر. إضافة إلى أنّ كونه حقا يقضي بأنّ لا يتساوى المحسنون والمسيئون ، ولما كنا نرى كل واحد من هاتين الفئتين قلّما يرى جزاء عمله في هذه الدنيا ، فلا بد من وجود عالم آخر يجري فيه الحساب والثواب والعقاب ، ليتلقى كل إنسان جزاء عمله ، خيرا أم شرا.

وخلاصة القول ، فإنّ الحق في هذه الآية إشارة إلى الهدفية في الخلق ، واختبار البشر وقانون التكامل ، وكذلك تنفيذ أصول العدالة :( وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) لأنّهم لا يعملون الفكر في التوصل إلى الحقائق ، وإلّا فإنّ أدلة المبدأ والمعاد واضحة بينة.

* * *

١٥٥

بحث

من هم قوم تبّع؟

لقد وردت كلمة (تبّع) في القرآن الكريم مرتين فقط : مرة في الآيات مورد البحث ، وأخرى في الآية ١٤ من سورة (ق) حيث تقول :( وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ) .

وكما أشرنا من قبل ، فإنّ «تبعا» كان لقبا عاما لملوك اليمن ، ككسرى لسلاطين إيران ، وخاقان لملوك الترك ، وفرعون لملوك مصر ، وقيصر لسلاطين الروم.

وكانت كلمة (تبع) تطلق على ملوك اليمن من جهة أنّهم كانوا يدعون الناس إلى اتباعهم ، أو لأنّ أحدهم كان يتبع الآخر في الحكم.

لكن يبدو أنّ القرآن الكريم يتحدث عن أحد ملوك اليمن خاصة ـ كما أنّ فرعون المعاصر لموسىعليه‌السلام ، والذي يتحدث عنه القرآن كان معينا ومحددا ـ وورد في بعض الرّوايات أنّ اسمه «أسعد أبا كرب».

ويعتقد بعض المفسّرين أنّه كان رجلا مؤمنا ، واعتبروا تعبير «قوم تبّع» الذي ورد في آيتين من القرآن دليلا على ذلك ، حيث أنّه لم يذمّ في هاتين الآيتين ، بل ذم قومه ، والرّواية المروية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاهدة على ذلك ، ففي هذه الرواية أنّه قال : لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم(١) .

وجاء في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّ تبّعا قال للأوس والخزرج : كونوا هاهنا حتى يخرج هذا النبي ، أمّا لو أدركته لخدمته وخرجت معه»(٢) .

وورد في رواية أخرى : إنّ تبعا لما قدم المدينة ـ من أحد أسفاره ـ ونزل بفنائها ، بعث إلى أحبار اليهود الذين كانوا يسكنونها فقال : إنّي مخرب هذا البلد

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ٦٦ ذيل الآية مورد البحث ، وأورد نظير هذا المعنى في تفسير الدر المنثور ، وكذلك ورد في روح المعاني ، المجلد ٢٥ ، صفحة ١١٦.

(٢) مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث.

١٥٦

حتى لا تقوم به يهودية ، ويرجع الأمر إلى دين العرب.

فقال له شامول اليهودي ـ وهو يومئذ أعلمهم ـ أيها الملك إنّ هذا بلد يكون إليه مهاجر نبي من بني إسماعيل ، مولده بمكّة اسمه أحمد. ثمّ ذكروا له بعض شمائل نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال تبّع ـ وكأنّه كان عالما بالأمر ـ ما إلى هذا البلد من سبيل ، وما كان ليكون خرابها على يدي(١) .

بل ورد في رواية في ذيل تلك القصة أنّه قال لمن كان معه من الأوس والخزرج : أقيموا بهذا البلد ، فإنّ خرج النّبي الموعود فآزروه وانصروه ، وأوصوا بذلك أولادكم ، حتى أنّه كتب رسالة أودعهم إياها ذكر فيها إيمانه بالرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) .

ويروي صاحب أعلام القرآن أنّ تبّعا كان أحد ملوك اليمن الذين فتحوا العالم ، فقد سار بجيشه إلى الهند واستولى على بلدان تلك المنطقة. وقاد جيشا إلى مكّة ، وكان يريد هدم الكعبة ، فأصابه مرض عضال عجز الأطباء عن علاجه.

وكان من بين حاشيته جمع من العلماء ، كان رئيسهم حكيما يدعى شامول ، فقال له : إنّ مرضك بسبب سوء نيتك في شأن الكعبة ، وستشفى إذا صرفت ذهنك عن هذه الفكرة واستغفرت ، فرجع تبع عما أراد ونذر أن يحترم الكعبة ، فلما تحسن حاله كسا الكعبة ببرد يماني.

وقد وردت قصّة كسوة الكعبة في تواريخ أخرى حتى بلغت حد التواتر. وكان تحرك الجيش هذا ، ومسألة كسوة الكعبة في القرن الخامس الميلادي ، ويوجد اليوم في مكّة مكان يسمى «دار التابعة»(٣) .

وعلى أية حال ، فإنّ القسم الأعظم من تأريخ ملوك التبابعة في اليمن لا يخلو

__________________

(١) روح المعاني ، المجلد الأوّل ٢٥ ، صفحة ١١٨.

(٢) المصدر السابق.

(٣) أعلام القرآن ، ص ٢٥٧ ـ ٢٥٩ (بتلخيص).

١٥٧

من الغموض من الناحية التاريخية ، حيث لا نعلم كثيرا عن عددهم ، ومدّة حكومتهم ، وربّما نواجه في هذا الباب روايات متناقضة ، وأكثر ما ورد في الكتب الإسلامية ـ سواء كتب التّفسير أو التأريخ أو الحديث ـ يتعلق بذلك الملك الذي أشار إليه القرآن في موضعين.

* * *

١٥٨

الآيات

( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) )

التّفسير

يوم الفصل!

تمثل هذه الآيات في الحقيقة نتيجة الآيات السابقة التي بحثت مسألة المعاد ، والتي استدل بها عن طريق حكمة خلق هذا العالم على وجود البعث والحياة الأخرى.

فتستنتج الآية الأولى من هذا الاستدلال :( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ) .

كم هو جميل هذا التعبير عن يوم القيامة بيوم الفصل! ذلك اليوم الذي فصل فيه الحق عن الباطل ، وتمتاز صفوف المحسنين عن المسيئين ، ويعتزل فيه الإنسان أعزّ أصدقائه ، وأقرب أخلائه نعم ، إنّه موعد كلّ المجرمين(١) .

__________________

(١) احتمل المفسّرون احتمالات عديدة في مرجع الضمير في (ميقاتهم) فالبعض أرجعه إلى كلّ البشر ، والبعض خصوص الأقوام الذين أشير إليهم في الآيات السابقة ، أي قوم تبع والعصاة من قبلهم. غير أنّ المعنى الأوّل هو الأصح.

١٥٩

ثمّ ذكرت الآية التالية شرحا موجزا ليوم الفصل هذا ، فقالت :( يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) .

أجل ، ذلك اليوم هو يوم الفصل والافتراق ، يوم يفارق الإنسان فيه كلّ شيء إلّا عمله ، ولا يملك المولى ـ بأي معنى كان ، الصاحب ، الولي ، ولي النعمة ، القريب ، الجار ، الناصر وأمثال ذلك ـ القدرة على حل أصغر مشكلة من مشاكل القيامة.

«المولى» من مادة ولاء ، وهي في الأصل تعني الاتصال بين شيئين بحيث لا يوجد بينهما حاجز ، وله مصاديق كثيرة وردت في كتب اللغة كمعان مختلفة ، تشترك جميعا في معناها الأصلي وجذرها(١) .

في ذلك اليوم لا يجيب الرفيق رفيقه ، وترى الأقارب لا يحل بعضهم مشكلة بعض ، بل وتتبخر كلّ الخطط وتتقطع جميع الأواصر الدنيوية كما نقرأ هذه الصورة في الآية (٤٦) من سورة الطور :( يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) .

أمّا ما هو الفرق بين «لا يغني» وبين «لا هم ينصرون»؟ فإنّ أحسن ما يقال هو : أنّ الأوّل إشارة إلى أنّ أي فرد لا يقدر في ذلك اليوم على حل مشكلة فرد آخر بصورة انفرادية مستقلة ، والثّاني إشارة إلى أنّهم عاجزون عن حل المشاكل حتى وإن تعاونوا فيما بينهم ، لأنّ النصرة تقال في موضع يهبّ فيه شخص لمعونة آخر ومساندته حتى ينصره على المشاكل.

لكن هناك جماعة واحدة مستثناة فقط ، وهي التي أشارت إليها الآية التالية ، فقالت :( إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) .

لا شك أنّ هذه الرحمة الإلهية لا تمنح اعتباطا ، بل تشمل الذين آمنوا وعملوا الصالحات فقط ، وإذا كانوا قد بدر منهم زلل ومعصية ، فإنّها لا تبلغ حدّا تقطع فيه

__________________

(١) لقد ذكرت للمولى معان كثيرة في اللغة ، وعدها البعض سبعة وعشرين معنى : ١ ـ الرب ٢ ـ العم ٣ ـ ابن العم ٤ ـ الابن ٥ ـ ابن الأخت ٦ ـ المعتق ٧ ـ المعتق ٨ ـ العبد ٩ ـ المالك ١٠ ـ التابع ١١ ـ المنعم عليه ١٢ ـ الشريك ١٣ ـ الحليف ١٤ ـ الصاحب ١٥ ـ الجار ١٦ ـ النزيل ١٧ ـ الصهر ١٨ ـ القريب ١٩ ـ المنعم ٢٠ ـ الفقيد ٢١ ـ الولي ٢٢ ـ الأولى بالشيء ٢٣ ـ السيد غير المالك والمعتق ٢٤ ـ المحبّ ٢٥ ـ الناصر ٢٦ ـ المتصرف في الأمر ٢٧ ـ المتولي في الأمر. (الغدير ، المجلد ١ ، صفحة ٣٦٢).

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

كما أن من الطبيعي أن يثير دهشتهم، ويذهلهم.. بعد أن لم يكن بينهم رجالات كفاة، يدركون ألاعيب السياسة، ودهاء ومكر الرجال. وقد عبر عن دهشتهم هذه نفس الخليفة الذي اختاروه، واستعاضوا به عن المأمون. فلقد قال ابن شكلة معاتبا العباسيين:

فـلا جزيت بنو العباس خيراً

على رغمي ولا اغتبطت بري

أتـوني مـهطعين، وقد أتاهم

بـوار الـدهر بالخبر الجلي

وقد ذهل الحواضن عن بنيها

وصـد الثدي عن فمه الصبي

وحـل عصائب الأملاك منها

فـشدت فـي رقاب بني علي

فضجت أن تشد على رؤوس

تـطالبها بـميراث النبي(١)

ب ـ ولكن دهشتهم وغضبهم لا قيمة لهما، في جانب ذهاب الخلافة عنهم بالكلية، وسفك دمائهم.. وقد أوضح لهم ذلك في رسالة منه إليهم، حيث قال: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم.). والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.

وقريب من ذلك ما جاء في وثيقة العهد، مخاطباً (أهل بيت أمير المؤمنين) حيث قال لهم: (.. راجين عائدته في ذلك (أي في البيعة للرضاعليه‌السلام ) في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم.) فليغضبوا إذن قليلاً، فإنهم سوف يفرحون في نهاية الأمر كثيراً، وذلك عندما يعرفون الأهداف الحقيقية، التي كانت تكمن وراء تلك اللعبة، وأنها لم تكن إلا من أجل الإبقاء عليهم، واستمرار وجودهم في الحكم، والقضاء على أخطر خصومهم، الذين لن يكون الصدام المسلح معهم في صالحهم، إنهم دون شك عندما تؤتي تلك اللعبة ثمارها سوف يشكرونه، ويعترفون له بالجميل، ويعتبرون أنفسهم مدينين له مدى الحياة، ولسوف يذكرون دائما قوله لهم في رسالته المشار إلها آنفاً: (.. فإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم (يعني للعلويين) عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم، ولعقبكم، ولأبنائكم من بعدكم.).

____________

(١) التنبيه والإشراف ص ٣٠٣، والولاة والقضاة للكندي ص ١٦٨.

١٨١

ومضمون هذه العبارة بعينه ـ تقريباً ـ قد جاء في وثيقة العهد، حيث قال فيها، موجها كلامه للعباسيين، رجاء أن يلتفتوا لما يرمي إليه من لعبته تلك.. فبعد أن طلب منهم بيعة منشرحة لها صدورهم ـ قال ـ: (.. عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر طاعة الله، والنظر لنفسه، ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين، من قضاء حقه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم، وصلاحكم، راجين عائدته في ذلك في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم إلخ. ما قومناه..).

لا شك أنه إذا غضب عليه العباسيون، فإنه يقدر على إرضائهم في المستقبل، (وقد حدث ذلك بالفعل) عندما يطلعهم على حقيقة نواياه، ومخططاته، وأهدافه، ولكنه إذا خسر مركزه، وخلافته، فإنه لا يستطيع ـ فيما بعد ـ أن يستعيدها بسهولة، أو أن يعتاض عنها بشيء ذي بال.

ج ـ: إن من الإنصاف هنا أن نقول: إن اختيار المأمون للرضاعليه‌السلام ولياً للعهد، كان اختياراً موفقاً للغاية، كما سيتضح، وإنه لخير دليل على حنكته ودهائه، وإدراكه للأسباب الحقيقية للمشاكل التي كان يواجهها المأمون، ويعاني منها ما يعاني.

د ـ: إن من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا هو أن اختيار المأمون لولي عهده، الذي لم يقبل إلا بعد التهديد بالقتل.. كان ينطوي في بادئ الرأي على مغامرة لا تنسجم مع ما هو معروف عن المأمون من الدهاء والسياسة، إذا ما أخذت مكانة الإمامعليه‌السلام ، ونفوذه بنظر الاعتبار، سيما مع ملاحظة: أنه هو الذي كان يشكل أكبر مصدر للخطر على المأمون، ونظام حكمه، حيث إنه كان يحظى بالاحترام والتقدير، والتأييد الواسع في مختلف الفئات والطبقات في الأمة الإسلامية.

ولكننا إذا دققنا الملاحظة نجد أن المأمون لم يقدم على اختيار الإمام وليا للعهد، إلا وهو على ثقة من استمرار الخلافة في بني أبيه، حيث كان الإمامعليه‌السلام يكبره بـ (٢٢) سنة، وعليه فجعل ولاية العهد لرجل بينه، وبين الخليفة الفعلي هذا الفارق الكبير بالسن، لم يكن يشكل خطراً على الخلافة، إذ لم يكن من المعروف، ولا المألوف أن يعيش ولي العهد ـ وهو بهذه السن المتقدمة ـ لو فرض سلامته من الدسائس والمؤامرات!.. إلى ما بعد الخليفة الفعلي، فإن ذلك من الأمور التي يبعد احتمالها جداً.

١٨٢

ه‍ ـ: ولهذا.. ولأن ما أقدم عليه لم يكن منتظراً من مثله، وهو الذي قتل أخاه من أجل الخلافة والملك، ولأنه من تلك السلالة المعادية لأهل البيتعليهم‌السلام .. احتاج المأمون إلى أن يثبت صدقه، وإخلاصه فيما أقدم عليه، وأن يقنع الناس بصفاء نيته، وسلامة طويته.. فأقدم لذلك. على عدة أعمال:

فأولاً: أقدم على نزع السواد شعار العباسيين، ولبس الخضرة شعار العلويين وكان يقول: إنه لباس أهل الجنة(١) . حتى إذا ما انتهى دور هذه الظاهرة بوفاة الإمام الرضاعليه‌السلام وتمكنه هو من دخول بغداد عاد إلى لبس السواد شعار العباسيين، بعد ثمانية أيام فقط من وصوله، على حد قول أكثر المؤرخين، وقيل: بل بقي ثلاثة أشهر. نزع الخضرة رغم أن العباسيين، تابعوه، وأطاعوه في لبسها، وجعلوا يحرقون كل ملبوس يرونه من السواد، على ما صرح به في مآثر الإنافة، والبداية والنهاية، وغير ذلك.

____________

(١) الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٦٢ عن ابن الأثير.

١٨٣

وثانياً: ولنفس السبب(١) أيضاً نراه قد ضرب النقود باسم الإمام الرضاعليه‌السلام .

وثالثاً: أقدم للسبب نفسه على تزويج الإمام الرضاعليه‌السلام ابنته، رغم أنها كانت بمثابة حفيدة له، حيث كان يكبرها الإمامعليه‌السلام بحوالي أربعين سنة. كما أنه زوج ابنته الأخرى للإمام الجوادعليه‌السلام الذي كان لا يزال صغيراً، أي ابن سبع سنين(٢) .

ومن يدري: فلعله كان يهدف من تزويجهما أيضاً إلى أن يجعل عليهما رقابة داخلية. وأن يمهد السبيل، لكي تكون الأداة الفعالة، التي

____________

(١) التربية الدينية ص ١٠٠.

(٢) راجع مروج الذهب ج ٣ / ٤٤١، وغيره من كتب التاريخ. وفي الطبري ج ١١ / ١١٠٣، طبع ليدن، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٦٩: أنهعليه‌السلام لم يدخل بها إلا في سنة ٢١٥ للهجرة، ولكن يظهر من اليعقوبي ج ٢ / ٤٥٤ ط صادر: أنه زوج الجواد ابنته بعد وصوله إلى بغداد، وأمر له بألفي ألف درهم، وقال: إني أحببت أن أكون جداً لامرئ ولده رسول الله، وعلي بن أبي طالب، فلم تلد منه انتهى. وهذا يدل على أنه قد بادر إلى تزويج الجواد بعد قتل أبيه الرضاعليه‌السلام ليبرئ نفسه من الاتهام بقتل الرضاعليه‌السلام ، حيث إن الناس كانوا مقتنعين تقريباً بذلك ومطمئنين إليه، وسيأتي في أواخر الكتاب البحث عن ظروف وملابسات وفاتهعليه‌السلام ويلاحظ: أن كلمة المأمون هذه تشبه إلى حد بعيد كلمة عمر بن الخطاب حينما أراد أن يبرر إصراره غير الطبيعي على الزواج بأم كلثوم بنت عليعليه‌السلام حتى لقد استعمل أسلوباً غير مألوف في التهديد والوعيد من أجل الوصول إلى ما يريد.

١٨٤

يستعملها في القضاء على الإمامعليه‌السلام ، كما كان الحال بالنسبة لولده الإمام الجواد، الذي قتل بالسم الذي دسته إليه ابنة المأمون، بأمر من عمها المعتصم(١) ، فيكون بذلك قد أصاب عدة عصافير بحجر واحد. كما يقولون..

ويجب أن نتذكر هنا: أن المأمون كان قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع وزيره الفضل بن سهل، فألح عليه أن يزوجه ابنته فرفض، وكان الرأي العام معه، فلم يستطع المأمون أن يفعل شيئاً، كما سنشير إليه.. لكن الإمامعليه‌السلام لم يكن له إلى الرفض سبيل، ولم يكن يستطيع أن يصرح بمجبوريته على مثل هكذا زواج. لأن الرأي العام لا يقبل ذلك منه بسهولة.. بل ربما كان ذلك الرفض سبباً في تقليل ثقة الناس بالإمام، حيث يرون حينئذٍ أنه لا مبرر لشكوكه تلك، التي تجاوزت ـ بنظرهم حينئذٍ ـ كل الحدود المألوفة والمعروفة..

وعلى كل حال: فإن كل الشواهد والدلائل تشير إلى أن زواج الإمام من ابنة المأمون كان سياسياً، مفروضاً إلى حد ما.. كما أننا لا نستبعد أن يكون زواج المأمون من بوران بنت الحسن بن سهل سياسياً أيضاً، حيث أراد بذلك أن يوثق علاقاته مع الإيرانيين، ويجعلهم يطمئنون إليه، خصوصاً بعد عودته إلى بغداد، وتركه مروا، وليبرئ نفسه من دم الفضل بن سهل، ويكتسب ثقة أخيه الحسن بن سهل، المعرف بثرائه ونفوذه.

ورابعاً: وللسبب نفسه أيضاً كان يظهر الاحترام والتبجيل للإمامعليه‌السلام ـ وإن كان يضيق عليه في الباطن(٢) ـ وكذلك كانت الحال بالنسبة لإكرامه للعلويين، حيث قد صرح هو نفسه بأن إكرامه لهم ما كان إلا سياسة منه ودهاء، ومن أجل الوصول إلى أهداف سياسية معينة، فقد قال في رسالته للعباسيين، المذكورة في أواخر هذا الكتاب: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى.. فما كان ذلك مني، إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفيء، بيسير ما يصيبهم منه.).

____________

(١) ولعله قد استفاد ذلك من سلفه معاوية، وما جرى له مع الإمام الحسن السبطعليه‌السلام .

(٢) وقد سبقه إلى مثل ذلك سليمان عم الرشيد، عندما أرسل غلمانه، فأخذوا جنازة الكاظمعليه‌السلام من غلمان الرشيد، وطردوهم. ثم نادوا عليه بذلك النداء المعروف، اللائق بشأنه، فمدحه الرشيد، واعتذر إليه، ولام نفسه، حيث لم يأخذ في اعتباره ما يترتب على ما أقدم عليه من ردة فعل لدى الشيعة، ومحبي أهل البيتعليهم‌السلام ، والذين قد لا يكون للرشيد القدرة على مواجهتهم. وتبعه أيضاً المتوكل، حيث جاء بالإمام الهاديعليه‌السلام إلى سامراء، فكان يكرمه في ظاهر الحال، ويبغي له الغوائل في باطن الأمر، فلم يقدره الله عليه.. على ما صرح به ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص ٢٢٦، والمجلسي في البحار ج ٥٠ / ٢٠٣، والمفيد في الإرشاد ص ٣١٤.

١٨٥

ويذكرني قول المأمون: (ومواساتهم في الفيء إلخ..) بقول إبراهيم بن العباس الصولي ـ وهو كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا عندما قربه المأمون:

يـمن عـليكم بأموالكم

وتعطون من مئة واحدا

و ـ: إن المأمون ـ ولا شك ـ كان يعلم: أن ذلك كله ـ حتى البيعة للإمام ـ لا يضره ما دام مصمما على التخلص من ولي عهده هذا بأساليبه الخاصة. بعد أن ينفذ ما تبقى من خطته الطويلة الأجل، للحط من الإمام قليلاً قليلاً، حتى يصوره للرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ كما صرح هو نفسه(١) ، وكما صرح بذلك أيضاً عبد الله بن موسى في رسالته إلى المأمون، والتي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله، حيث يقول له فيها: (.. وكنت ألطف حيلة منهم. بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً فواحداً منا إلخ.)(٢) .

إلى غير ذلك من الشواهد والدلائل، التي لا تكاد تخفى على أي باحث، أو متتبع..

أهداف المأمون من البيعة:

هذا.. وبعد كل الذي قدمناه، فإننا نستطيع في نهاية المطاف: أن نجمل أهداف المأمون، وما كان يتوخاه من أخذ البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده.. على النحو التالي:

الهدف الأول:

أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من قبل تلك الشخصية الفذة، شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام الذي كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب، وكان الأرضى في الخاصة والعامة ـ باعتراف نفس المأمون ـ، حيث لا يعود باستطاعة الإمامعليه‌السلام أن يدعو الناس إلى الثورة ولا أن يأتي بأية حركة ضد الحكم، بعد أن أصبح هو ولي العهد فيه. ولسوف لا ينظر الناس إلى أية بادرة عدائية منه لنظام الحكم القائم إلا على أنها نكران للجميل، لا مبرر لها، ولا منطق يدعمها.

____________

(١) سنتكلم في القسم الرابع من هذا الكتاب، حول تصريحات المأمون، وخططه بنوع من التفصيل إن شاء الله تعالى.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٦٢٩.

١٨٦

وقد أشار المأمون إلى ذلك، عندما صرح بأنه: خشي إن ترك الإمام على حاله: أن ينفتق عليه منه ما لا يسده، ويأتي منه عليه ما لا يطيقه فأراد أن يجعله ولي عهده ليكون دعاؤه له. كما سيأتي بيانه في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله تعالى.

الهدف الثاني:

أن يجعل هذه الشخصية تحت المراقبة الدقيقة، والواعية من قرب، من الداخل والخارج، وليمهد الطريق من ثم إلى القضاء عليها بأساليبه الخاصة. وقد أشرنا فيما سبق، إلى أننا لا نستبعد أن يكون من جملة ما كان يهدف إليه من وراء تزويجه الإمام بابنته، هو: أن يجعل عليه رقيبا داخليا موثوقا عنده هو، ويطمئن إليه الإمام نفسه.

وإذا ما لاحظنا أيضاً، أن: (المأمون كان يدس الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار من شاء..)(١) ، وأنه كان: للمأمون على كل واحد صاحب خبر(٢) . (.. فإننا نعرف السر في إرساله بعض جواريه إلى الإمام الرضاعليه‌السلام بعنوان: هدية.. وقد أرجعها الإمامعليه‌السلام إليه مع عدة أبيات من الشعر، عندما رآها اشمأزت من شيبه)(٣) .

ولم يكتف بذلك، بل وضع على الإمامعليه‌السلام عيوناً آخرين، يخبرونه بكل حركة من حركاته، وكل تصرف من تصرفاته.

فقد كان: (هشام بن إبراهيم الراشدي من أخص الناس عند الرضاعليه‌السلام ، وكانت أمور الرضا تجري من عنده، وعلى يده، ولكنه لما حمل إلى مرو اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين، والمأمون،

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٥ جلد ٢ ص ٥٤٩، نقلاً عن: العقد الفريد ج ١ / ١٤٨.

(٢) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ جلد ٢ ص ٤٤١، نقلاً عن: المسعودي ج ٢ / ٢٢٥، وطبقات الأطباء ج ١ / ١٧١، (٣) البحار ج ٤٩ / ١٦٤، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٧٨.

١٨٧

فحظي بذلك عندهما. وكان لا يخفي عليهما شيئاً من أخباره، فولاه المأمون حجابة الرضا. وكان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب، وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه. وكان لا يتكلم الرضا في داره بشيء إلا أورده هشام على المأمون، وذي الرئاستين..)(١) وعن أبي الصلت: أن الرضا (كان يناظر العلماء، فيغلبهم، فكان الناس يقولون: والله، إنه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أهل الأخبار يرفعون ذلك إليه..)(٢) وأخيراً.. فإننا نلاحظ: أن جعفر بن محمد بن الأشعث، يطلب من الإمامعليه‌السلام : أن يحرق كتبه إذا قرأها، مخافة أن تقع في يد غيره، ويقول الإمامعليه‌السلام مطمئناً له: «إني إذا قرأت كتبه إلي أحرقتها.)(٣) إلى غير ذلك من الدلائل والشواهد الكثيرة، التي لا نرى أننا بحاجة إلى تتبعها واستقصائها.

الهدف الثالث:

أن يجعل الإمامعليه‌السلام قريباً منه، ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية، وإبعاده عن الناس، وإبعاد الناس عنه، حتى لا يؤثر عليهم بما يمتلكه من قوة الشخصية، وبما منحه الله إياه من العلم، والعقل، والحكمة. ويريد أن يحد من ذلك النفوذ له، الذي كان يتزايد باستمرار، سواء في خراسان، أو في غيرها.

وأيضاً.. أن لا يمارس الإمام أي نشاط لا يكون له هو دور رئيس فيه، وخصوصاً بالنسبة لرجال الدولة، إذ قد يتمكن الإمامعليه‌السلام من قلوبهم، ومن ثم من تدبير شيء ضد النظام القائم. دون أن يشعر أحد.

____________

(١) البحار ج ٤٩ / ١٣٩، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ٧٧، ٧٨، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٥٣.

(٢) شرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٤، والبحار ج ٤٩ / ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢٣٩.

(٣) كشف الغمة ج ٣ / ٩٢، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٩.

١٨٨

والأهم من ذلك كله:

أنه كان يريد عزل الإمامعليه‌السلام عن شيعته، ومواليه، وقطع صلاتهم به، وليقطع بذلك آمالهم، ويشتت شملهم، ويمنع الإمام من أن يصدر إليهم من أوامره، ما قد يكون له أثر كبير على مستقبل المأمون، وخلافته.

وبذلك يكون أيضاً قد مهد الطريق للقضاء على الإمامعليه‌السلام نهائياً، والتخلص منه بالطريقة المناسبة، وفي الوقت المناسب.

وقد قال المأمون إنه: (يحتاج لأن يضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر. ثم يدبر فيه بما يحسم عنه مواد بلائه.) كما سيأتي.

وقد قرأنا آنفاً أنه: (كان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب ـ أي هشام بن إبراهيم ـ وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه).

كما أن الرضا نفسه قد كتب في رسالته منه إلى أحمد بن محمد البيزنطي، يقول:((وأما ما طلبت من الإذن علي، فإن الدخول إلي صعب، وهؤلاء قد ضيقوا علي في ذلك الآن، فلست تقدر الآن، وسيكون إن شاء الله...)) (١) .

____________

(١) رجال المامقاني ج ١ / ٧٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٢.

١٨٩

كما أننا نرى أنه عندما وصل إلى القادسية، وهو في طريقه إلى مرو، يقول لأحمد بن محمد بن أبي نصر: (إكتر لي حجرة لها بابان: باب إلى الخان، وباب إلى خارج، فإنه أستر عليك..)(١) .

ولعل ذلك هو السبب في طلبه من الإمامعليه‌السلام ، ومن رجاء بن أبي الضحاك: أن يمرا عن طريق البصرة، فالأهواز إلخ.. ما سيأتي: ولا نستبعد أيضاً أن يكون عزل الإمام عن الناس، هو أحد أسباب إرجاع الإمام الرضا عن صلاة العيد مرتين(٢) . وللسبب نفسه أيضاً فرق عنه تلامذته، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وحتى لا يظهر علم الإمام، وفضله.. إلى آخر ما هنالك من صفحات تاريخ المأمون السوداء.

الهدف الرابع:

إن المأمون في نفس الوقت الذي يريد فيه أن يتخذ من الإمام مجناً يتقي به سخط الناس على بني العباس، ويحوط نفسه من نقمة الجمهور. يريد أيضاً، أن يستغل عاطفة الناس ومحبتهم لأهل البيت ـ والتي زادت ونمت بعد الحالة التي خلفتها الحرب بينه وبين أخيه ـ ويوظف ذلك في صالحه هو، وصالح الحكم العباسي بشكل عام.

أي أنه كان يهدف من وراء لعبته تلك، والتي كان يحسب أنها سوف تكون رابحة جداً ـ إلى أن يحصل على قاعدة شعبية، واسعة، وقوية. حيث كان يعتقد ويقدر: أن نظام حكمه سوف ينال من التأييد، والقوة، والنفوذ، بمقدار ما كان لتلك الشخصية من التأييد، والنفوذ والقوة.. وإذا ما استطاع في نهاية الأمر أن يقضي عليها، فإنه يكون قد أمن خطراً عظيماً، كان يتهدده من قبلها، بمقدار ما كان لها من العظمة والخطر.

____________

(١) بصائر الدرجات ص ٢٤٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٥٥.

(٢) هذه القضية معروفة ومشهورة، فراجع: الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٤٦، ٢٤٧، ومطالب السؤول، لمحمد بن طلحة الشافعي، طبعة حجرية ص ٨٥، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٥، ومعادن الحكمة ص، ١٨٠، ١٨١، ونور الأبصار ص ١٤٣، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، وإعلام الورى ص ٣٢٢، ٣٢٣، وروضة الواعظين ج ١ / ٢٧١، ٢٧٢، وأصول الكافي ج ١ / ٤٨٩، ٤٩٠، والبحار ج ٤٩ / ١٣٥، ١٣٦، ١٧١، ١٧٢، وعيون أخبار الرضا، وإرشاد المفيد، وأعيان الشيعة، وكشف الغمة، وغير ذلك.

ولسوف يأتي فصل: خطة الإمام، وغيره من الفصول، ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى.

١٩٠

إن المأمون قد اختار لولاية عهده رجلاً يحظى بالاحترام والتقدير من جميع الفئات والطبقات، وله من النفوذ، والكلمة المسموعة، ما لم يكن لكل أحد سواه في ذلك الحين. بل لقد كان الكثيرون يرون: أن الخلافة حق له، وينظرون إلى الهيئة الحاكمة على أنها ظالمة له وغاصبة لذلك الحق:

يقول الدكتور الشيبي، وهو يتحدث عن الرضاعليه‌السلام : (إن المأمون جعله ولي عهده، لمحاولة تألف قلوب الناس ضد قومه العباسيين، الذين حاربوه، ونصروا أخاه..)(١) .

ويقول:. (.. وقد كان الرضا من قوة الشخصية، وسمو المكانة: أن التف حوله المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته.)(٢) .

وكذلك هو يقول ـ وهو مهم فيما نحن بصدده ـ: (.. إن الرضا لم يكن بعد توليته العهد إمام الشيعة وحدهم، وإنما مر بنا:

____________

(١) الصلة بين التصوف والتشيع ص ٢٢٣، ٢٢٤.. ونحن لا نوافق الدكتور الشيبي على أنه كان يريد التقوي بذلك على العباسيين، كما اتضح، وسيتضح إن شاء الله.

(٢) المصدر السابق ص ٢١٤.

١٩١

أن الناس، حتى أهل السنة، والزيدية، وسائر الطوائف الشيعية المتناحرة.. قد اجتمعت على إمامته، وإتباعه، والالتفاف حوله.)(١) .

وهذا كما ترى تصريح واضح منه بهدف المأمون، الذي نحن بصدد بيانه.

ويقول محمد بن طلحة الشافعي مشيراً إلى ذلك، في معرض حديثه عن الإمام الرضاعليه‌السلام : (.. نما إيمانه، وعلا شأنه، وارتفع مكانه، وكثر أعوانه، وظهر برهانه، حتى أدخله الخليفة المأمون محل مهجته، وأشركه في مملكته.)(٢) .

وتقدم أنهعليه‌السلام كان ـ باعتراف المأمون ـ (الأرضى في الخاصة والعامة) وأن كتبه كانت تنفذ في المشرق والمغرب، حتى إن البيعة له بولاية العهد، لم تزده في النعمة شيئاً.. وأنه كان له من قوة الشخصية ما دفع أحد أعدائه لأن يقول في حقه للمأمون: (هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد دون الله) إلى آخر ما هنالك، مما قدمنا (غيضاً من فيض منه).

كما وتقدم أيضاً قول المأمون في رسالته للعباسيين: (.. وإن تزعموا: أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة ـ يعني للعلويين ـ، فإني في تدبيركم، والنظر لكم. ولعقبكم، وأبنائكم من بعدكم..)، وأيضاً عبارته التي كتبها المأمون بخط يده في وثيقة العهد، فلا نعيد.

وهكذا.. فما على العباسيين إلا أن ينعموا بالاً، ويقروا عيناً، فإن المأمون كان يدبر الأمر لصالحهم ومن أجلهم.. وليس كما يقوله الدكتور الشيبي، وغيره من أنه أراد أن يحصل على التأييد الواسع، ليقابل العباسيين، ويقف في وجههم.

____________

(١) المصدر السابق ص ٢٥٦.

(٢) مطالب السؤول ص ٨٤، ٨٥. وقريب منه ما في: الإتحاف بحب الأشراف ص ٥٨.

١٩٢

إشارة هامة لا بد منها:

هذا.. ويحسن بنا أن نشير هنا: إلى ما قاله ابن المعتز في الروافض. وإلقاء نظرة فاحصة على السبب الذي جعلهم مستحقين لهذه الحملة الشعواء منه.. فهو يقول:

لـقد قـال الروافض في علي

مـقالاً جـامعاً كـفراً وموقا

زنـادقة أرادت كـسب مـال

مـن الـجهال فـاتخذته سوقا

وأشـهـد أنـه مـنهم بـريّ

وكـان بـأن يـقتلهم خـليقا

كـما كـذبوا عـليه وهو حي

فـأطعم نـاره مـنهم فـريقا

وكـانوا بالرضا شغفوا زماناً

وقـد نفخوا به في الناس بوقا

وقـالـوا: إنـه رب قـديرا

فكم لصق السواد به لصوقا(١)

وهذه الأبيات تعبر عن مدى صدمة ابن المعتز، وخيبة أمله في الروافض، الذين ضايقه جداً امتداد دعوتهم في طول البلاد الإسلامية، وعرضها. وخصوصاً في زمن الرضا. والذي لم يجد شيئاً يستطيع أن ينتقص به إمامهم الرضاعليه‌السلام سوى أنه كان أسود اللون، وأن الروافض قالوا: إنه رب قدير.. وسر حنقه هذا على الروافض ليس هو إلا عقيدتهم في عليعليه‌السلام ـ التي كان يراها خطراً حقيقياً على القضية العباسية ـ والتي تتلخص بأنهعليه‌السلام : يستحق الخلافة بالنص. وهذه العقيدة والمقالة هي التي جعلتهم يستحقون من ابن المعتز أن يجمع لهم بين وصفي الكفر والزندقة، واتهامه لهم، بأنهم يقصدون بذلك كسب المال من الجهال. ثم يتهمهم بأنهم قد قالوا بنفس هذه المقالة في علي الرضاعليه‌السلام ، فقالوا: إنه الإمام الثابت إمامته بالنص، وشهروا بذلك، حتى علم به عامة الناس، ونفخوا به في الناس بوقاً.. وحتى لقد التف حوله أهل الحديث، والزيدية. بل والمرجئة، وأهل السنة، على حد تعبير الشيبي، وقالوا: بإمامة أبيه، ثم بإمامته.

____________

(١) ديوان ابن المعتز ص ٣٠٠، ٣٠١، والأدب في ظل التشيع ص ٢٠٦.

١٩٣

وبديهي.. أن لا يرتاح ابن المعتز، الذي كان في صميم الأسرة العباسية لهذا الامتداد للتشيع، ولمقالة الروافض، حيث إن ذلك يعني أن الأئمة الذين هم بين الرضا، وعلي أمير المؤمنينعليهما‌السلام ، كلهم تثبت إمامتهم بالنص.

ولقد بلغ من حنقه عليهم، بسبب ذلك الامتداد الواسع لعقيدتهم ـ وخصوصاً في زمان الرضا ـ أن دفعه إلى أن يخلط عن عمد، أو عن غير عمد بين عقيدة الروافض هذه، وبين عقيدة الغلاة، حيث أضاف إلى مقالة الروافض تلك مقالة أخرى، هي: القول بإلوهية عليعليه‌السلام .

وإذا كنا واثقين من أن الفرق الشاسع بين عقيدة الروافض، وعقيدة الغلاة، لم يكن ليخفى على مثل ابن المعتز، بل على من هو أقل منه بمراتب، فإننا سوف ندرك بما لا مجال معه للشك: أن يقصد بهذا الخلط المتعمد: التشنيع على الروافض، وتهجين عقيدتهم، إذ أنه يقصد ب‍ـ (الروافض)، ـ حسبما هو صريح كلامه ـ خصوص القائلين بإمامة الرضا، وإمامة علي أمير المؤمنين، ومن بينهما. وهو يعلم وكل أحد يعلم: أنه ليس فيهم من يقول بإلوهية أحدهما، أو إلوهيتهما، أو إلوهية غيرهما من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

وأخيراً.. فإن قول واعتراف ابن المعتز هذا ـ وهو من نعلم ـ لخير دليل على مدى تحرر الشيعة في زمن الرضا، واتساع نفوذهم، وعلى أن شخصية الرضاعليه‌السلام ، كانت قد استقطبت قطاعاً واسعاً، إن لم نقل: أنه القطاع الأكبر من الأمة الإسلامية، في طول البلاد وعرضها، في تلك الفترة من الزمن، وقد تقدم بعض ما يدل على ذلك، فلا نعيد.

الهدف الخامس:

هذا.. ونستطيع أن نقول أيضاً: إنه كان يريد أن يقوي من دعائم حكمه، حيث قد أصبح الحكم يمتلك شخصية تعنو لها الجباه بالرضا والتسليم، ولقد كان الحكم بأمس الحاجة إلى شخصية من هذا القبيل. في مقابل أولئك المتزلفين القاصرين، الذين كانوا يتجمعون حول الحكم العباسي، طلبا للشهرة، وطمعا بالمال، والذين لم يعد يخفى على أحد حالهم ومآلهم.. وعلى الأخص بعد أن رأى فشلهم في صد حملات علماء الملل الأخرى، والذين كانوا قد ضاعفوا نشاطاتهم، عندما رأوا ضعف الدولة، وتمزقها، وتفرقها إلى جماعات وأحزاب.

نعم.. لقد كان الحكم يحتاج إلى العلماء الأكفاء، والأحرار في تفكيرهم، وفي نظرتهم الواعية للإنسان والحياة، ولم يعد بحاجة إلى المتزلفين، والجامدين، والانهزاميين، ولهذا نراه يستبعد أصحاب الحديث الجامدين، الذين كان أكثرهم في الجهة المناوئة له، يشدون من أزرها، ويقيمون أودها..

١٩٤

ويقرب المعتزلة: كبشر المريسي، وأبي الهذيل العلاف وأضرابهما. ولكن الشخصية العلمية، التي لا يشك أحد في تفوقها على جميع أهل الأرض علماً وزهدا، وورعاً وفضلاً الخ. كانت منحصرة في الإمام الرضاعليه‌السلام ، باعتراف من نفس المأمون، كما قدمنا، ولهذا فقد كان الحكم يحتاج إليها أكثر من احتياجه لأية شخصية أخرى، مهما بلغت.

الهدف السادس:

ولعل من الأهمية بمكان بالنسبة إليه، أنه يكون في تلك الفترة المليئة بالقلاقل والثورات، قد أتى الأمة بمفاجئة مثيرة، من شأنها أن تصرف أنظار الناس عن حقيقة ما يجري، وما يحدث، وعن واقع المشاكل التي كان يعاني الحكم والأمة منها، وما أكثرها.

وقد عبر إبراهيم بن المهدي، عن دهشة بني العباس في أبياته المتقدمة. حتى لقد ذهل ـ على حد قوله ـ الحواضن عن بنيها! وصد الثدي عن فمه الصبي!

وبعد هذا. فلسنا بحاجة إلى كبير عناء، لإدراك مدى دهشة غيرهم: ممن رأوا وسمعوا بمعاملة العباسيين لأبناء عمهم. ولسوف ندرك مدى عظمة دهشتهم تلك إذا ما لاحظنا: أنهم كانوا سياسياً أقل وعيا وتجربة من مثل إبراهيم بن المهدي، الذي عاش في أحضان الخلافة. وكان بمرأى ومسمع من ألاعيب السياسة، ومكر الرجال.

الهدف السابع:

طبيعي بعد هذا: أنه قد أصبح يستطيع أن يدعي، بل لقد ادعى بالفعل ـ على ما في وثيقة العهد ـ: أن جميع تصرفاته، وأعماله، لم يكن يهدف من ورائها، إلا الخير للأمة، ومصلحة المسلمين، وحتى قتله أخاه، لم يكن من أجل الحكم، والرياسة، بقدر ما كان من أجل خير المسلمين، والمصلحة العامة، يدل على ذلك: أنه عندما رأى أن خير الأمة، إنما هو في إخراج الخلافة من بني العباس كلية، وهم الذين ضحوا الكثير في سبيلها، وقدموا من أجلها ما يعلمه كل أحد ـ عندما رأى ذلك ـ وأن ذلك لا يكون إلا بإخراجها إلى ألد أعدائهم، سارع إلى ذلك، بكل رضى نفس، وطيبة خاطر.. وليكون بذلك قد كفر عن جريمته النكراء، والتي كانت أحد أسباب زعزعة ثقة الناس به، ألا وهي: قتله أخاه الأمين، العزيز على العباسيين والعرب. وليكون بذلك، قد ربط الأمة بالخلافة، وكسب ثقتها فيها، وشد قلوب الناس، وأنظارهم إليها، حيث أصبح باستطاعتهم أن ينتظروا منها أن تقيم العدل، وترفع الظلم، وأن تكون معهم، وفي خدمتهم، وتعيش قضاياهم. وليكون لها من ثم من المكانة والتقدير، وما يجعلها في منأى ومأمن من كل من يتحينون بها الفرص، ويبغون لها الغوائل.

١٩٥

ويدل على ذلك ـ عدا عما ورد في وثيقة العهد ـ ما ورد من أن المأمون كتب إلى عبد الجبار بن سعد المساحقي، عامله على المدينة: أن اخطب الناس، وادعهم إلى بيعة الرضا، فقام خطيبا، فقال:

(يا أيها الناس، هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا علي بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، بن علي بن أبي طالب:

ســتـة آبــاؤهـم مــا هــم

من أفضل من يشرب صوب الغمام(١)

وقد أكد ذلك بحسن اختياره، إذ قد اختار هذه الشخصية، التي تمثل ـ في الحقيقة ـ أمل الأمة، ورجاءها، في حاضرها، ومستقبلها، وتكون النتيجة ـ بعد ذلك ـ أنه يكون قد حصل على حماية لكل تصرف يقدم عليه في المستقبل، وكل عمل يقوم به.. مهما كان غريباً، ومهما كان غير معقول، فإن على الأمة أن تعتبره صحيحاً وسليماً، لا بد منه، ولا غنى عنه، وإن لم تعرف ظروفه، ودوافعه الحقيقية. بل وحتى مع علمها بها، فإن عليها أن تؤول ما يقبل التأويل، وإلا. فإن عليها أن تدفن رأسها في التراب، وتتناسى ما تعلم. أو أن تعتبر نفسها قاصرة عن إدراك المصالح الحقيقية الكامنة في تلك التصرفات الغريبة، وأن ما أدركته ـ ولو كان حقاً ـ لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ويدل على ذلك بشكل واضح أبيات ابن المعتز الآتية ص ٣٠٥/٣٠٦ يقول ابن المعتز:

وأعـطاكم الـمأمون حـق خلافة

لـنا حـقها لـكنه جـاد بـالدنيا

لـيعلمكم أن الـتي قـد حرصتموا

عليها وغودرتم على أثرها صرعى

يـسير عـليه فـقدها غـير مكثر

كـما ينبغي للصالحين ذوي التقوى

____________

(١) العقد الفريد ج ٣ / ٣٩٢، طبع مصطفى محمد بمصر سنة ١٩٣٥ و (ما) في البيت زائدة.. ولا يخفى ما في البيت، وقد أثبتناه، كما وجدناه.

١٩٦

وعلى كل حال، فإنه يتفرع على ما ذكرناه:

أولاً: إنه بعد أن أقدم على ما أقدم عليه، فليس من المنطقي بعد للعرب أن يسخطوا عليه، بسبب معاملة أبيه، أو أخيه، وسائر أسلافه لهم، فإن المرء بما كسب هو، لا بما كسب أهله، ولا تزر وازرة وزر أخرى.

وكيف يجوز لهم أن يغضبوا بعد، وهو قد أرجع الخلافة إليهم، بل وإلى أعرق بيت فيهم. وعرفهم عملا: أنه لا يريد لهم، ولغيرهم، إلا الصلاح والخير..

وليس لهم بعد حق في أن ينقموا عليه معاملته القاسية لهم، ولا قتله أخاه، ولا أن يزعجهم، ويخيفهم تقريبه للإيرانيين، ولا جعله مقر حكمه مروا إلى آخر ما هنالك.. ما دام أن الخلافة قد عادت إليهم، على حسب ما يشتهون، وعلى وفق ما يريدون.

ومن هنا.. فلا يجب أن نعجب كثيراً، حين نراهم: قد تلقوا بيعة الرضا بنفوس طيبة، وقلوب رضية. حتى أهل بغداد نرى أنهم قد تقبلوها إلى حد كبير، فقد نص المؤرخون ـ ومنهم الطبري، وابن مسكويه ـ على أن بعضهم وافق، والبعض الآخر ـ وهم أنصار بني العباس ـ رفض. وهذا يدل دلالة واضحة: على أن بغداد، معقل العباسيين الأول، كانت تتعاطف مع العلويين إلى درجة كبيرة..

١٩٧

بل ونص المؤرخون، على أن: إبراهيم بن المهدي، المعروف بابن شكلة، الذي بويع له في بغداد غضبا من تولية الرضا للعهد: لم يستطع أن يسيطر إلا على بغداد، والكوفة والسواد(١) ، بل وحتى الكوفة قد استمرت الحرب قائمة فيها على ساق وقدم أشهراً عديدة بين أنصار المأمون، وعليهم الخضرة، وأنصار العباسيين وعليهم السواد(٢) .

وثانياً: وأما الإيرانيون عامة، والخراسانيون خاصة، والمعروفون بتشيعهم للعلويين، فقد ضمن المأمون استمرار تأييدهم له، وثقتهم به، بعد أن حقق لهم غاية أمانيهم. وأغلى أحلامهم، وأثبت لهم عملاً، حبه لمن يحبون، ووده لمن يودون.. وأن لا ميزة عنده لعباسي على غيره، ولا لعربي على غيره، وأن الذي يسعى إليه، هو ـ فقط خير الأمة، ومصلحتها، بجميع فئاتها، ومختلف طبقاتها، وأجناسها.

ملاحظة هامة:

إن من الجدير بالملاحظة هنا: أن الرضاعليه‌السلام كان قد قدم إلى إيران قبل ذلك. والظاهر أنه قدمها في حدود سنة ١٩٣ ه‍. أي في الوقت المناسب لوفاة الرشيد، فقد ذكر الرضي المعاصر للمجلسي في كتابه: ضيافة الإخوان: أن علياً الرضاعليه‌السلام كان مستخفياً في قزوين في دار داوود بن سليمان الغازي أبي عبد الله، ولداوود نسخة يرويها عن الرضاعليه‌السلام ، وأهل قزوين يروونها عن داوود، كإسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه(٣) .

وقال الرافعي في التدوين: (وقد اشتهر اجتياز علي بن موسى الرضا بقزوين. ويقال: إنه كان مستخفيا في دار داوود بن سليمان الغازي، روى عنه النسخة المعروفة، وروى عنه إسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه، وغيرهما.

____________

(١) راجع البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغيره من كتب التاريخ. وزاد أحمد شلبي في كتابه: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ / ١٠٥ ـ زاد على ذلك: المدائن أيضاً.

(٢) راجع: الكامل لابن الأثير ج ٥ / ١٩٠، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغير ذلك.

(٣) راجع كتاب: ضيافة الإخوان مخطوط في مكتبة المدرسة الفيضية في قم، في ترجمة أبي عبد الله القزويني، وعلي بن مهرويه القزويني.

١٩٨

قال الخليل: وابنه المدفون في مقبرة قزوين، يقال: إنه كان ابن سنتين، أو أصغر)(١) انتهى كلام الرافعي.

والمراد بالخليل في كلامه، هو الخليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الخليلي، القزويني، وهو الحافظ المشهور، مصنف كتاب الإرشاد، وكتاب تاريخ قزوين، الذي فرغ من تأليفه حوالي سنة أربعمائة هجرية، وكانت وفاته سنة ٤٤٦ ه‍.

الهدف الثامن:

لقد كان من نتائج اختياره الإمام، والبيعة له بولاية العهد ـ التي كان يتوقعها ـ: أن أخمد ثورات العلويين في جميع الولايات والأمصار.

ولعله لم تقم أية ثورة علوية ضد المأمون ـ بعد البيعة للرضا، سوى ثورة عبد الرحمان بن أحمد في اليمن. وكان سببها ـ باتفاق المؤرخين ـ هو فقط: ظلم الولاة وجورهم، وقد رجع إلى الطاعة بمجرد الوعد بتلبية مطالبه.

بل لا بد لنا أن نضيف إلى ذلك:

أ ـ : إنه ليس فقط أخمد ثوراتهم. بل لقد حصل على ثقة الكثيرين منهم، ومن والاهم، وشايعهم. والخراسانيون منهم، ويشير المأمون إلى هذا المعنى في رسالته، التي أرسلها إلى عبد الله بن موسى، حيث يقول:

(.. ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني، بعد ما عملته بالرضا) والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.. كما أنه كتب للعباسيين في بغداد في رسالته، التي أشرنا إليها غير مرة، يقول لهم: إنه يريد بذلك أن يحقن دماءهم، ويذود عنهم، باستدامة المودة بنيهم، وبين العلويين.

ب: بل ونزيد هنا على ما تقدم: أنه قد بايعه منهم ومن أشياعهم من لم يكن بعد قد بايعه، وهم قسم كبير جداً، بل لقد بايعه أكثر المسلمين، ودانوا له بالطاعة، بعد أن كانوا مخالفين له ممتنعين عن بيعته، حسبما قدمناه.

وهذه دون شك هي إحدى أمنيات المأمون، بل هي أجل أمنياته وأغلاها.

ج: قال ابن القفطي في معرض حديثه عن عبد الله بن سهل ابن نوبخت:

(.. هذا منجم مأموني، كبير القدر في صناعته، يعلم المأمون قدره في ذلك. وكان لا يقدم إلا عالما مشهودا له، بعد الاختيار..

____________

(١) التدوين قسم ٢ ورقة ٢٣٥ مخطوط في مكتبة دار التبليغ الإسلامي في قم، ترجمة علي الرضا..

١٩٩

وكان المأمون قد رأى آل أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب متخشين، متخفين، من خوف المنصور، ومن جاء بعده من بني العباس. ورأى العوام قد خفيت عنهم أمورهم بالاختفاء، فظنوا ما يظنونه بالأنبياء، ويتفوهون بما يخرجهم عن الشريعة، من التغالي.

فأراد معاقبة العامة على هذا الفعل.

ثم فكر: أنه إذا فعل هذا بالعوام زادهم إغراء به، فنظر نظراً دقيقاً، وقال: لو ظهروا للناس، ورأوا فسق الفاسق منهم، وظلم الظالم، لسقطوا من أعينهم، ولانقلب شكرهم لهم ذماً.

ثم قال: إذا أمرناهم بالظهور خافوا، واستتروا، وظنوا بنا سوءاً، وإنما الرأي: أن نقدم أحدهم، ويظهر لهم إماماً، فإذا رأوا هذا أنسوا، وظهروا، وأظهروا ما عندهم من الحركات الموجودة في الآدميين، فيحقق للعوام حالهم، وما هم عليه، مما خفي بالاختفاء، فإذا تحقق ذلك أزلت من أقمته، ورددت الأمر إلى حالته الأولى. وقوي هذا الرأي عنده، وكتم باطنه عن خواصه.. وأظهر للفضل ابن سهل: أنه يريد أن يقيم إماماً من آل أمير المؤمنين علي (صلوات الله عليه).

وفكر هو وهو: فيمن يصلح، فوقع إجماعهما على الرضا، فأخذ الفضل بن سهل في تقرير ذلك. وترتيبه وهو لا يعلم باطن الأمر. وأخذ في اختيار وقت لبيعة الرضا، فاختار طالع السرطان، وفيه المشتري الخ)(١) .

ثم ذكر أن عبد الله بن سهل أراد اختبار المأمون، فأخبره أن البيعة لا تتم إذا وقعت في ذلك الوقت، فهدده المأمون بالقتل إن لم تقع البيعة في ذلك الوقت بالذات، لأنه سوف يعتبر أنه هو الذي أفسد عليه ما كان دبره الخ..

وابن القفطي هنا، لا يبدو أنه يعتبر الإمام الرضاعليه‌السلام من أولئك الذين يريد المأمون إظهار تفاهاتهم للناس، ولكنه يوجه نظره إلى بقية العلويين في ذلك.. ونحن إن كنا لا نستبعد من المأمون ما ذكره ابن القفطي هنا لكننا لا نستطيع أن نعتبر أن هذا كان من الأسباب الرئيسية لدى المأمون، إذ لا نعتقد أن المأمون كان من السذاجة بحيث يجهل أن بقية العلويين لم يكونوا ـ إجمالاً ـ على الحال التي كان يريد أن يظهرهم عليها للناس، وأنهم كانوا أكثر تديناً والتزاماً من أي فئة أخرى على الإطلاق..

____________

(١) تاريخ الحكماء ص ٢٢١، ٢٢٢.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592