الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177343 / تحميل: 5797
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

تعالى على كلّ فرد ، وعلى كلّ شيء ، وهو يوم العدل والقانون والمحكمة الكبرى.

لكن ، ومن أجل أنّ لا يستغل مثل هؤلاء الأفراد هذا الصفح الجميل والعفو والتسامي ، فقد أضافت الآية :( لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .

لقد اعتبر بعض المفسّرين هذه الجملة تهديدا للكفار والمجرمين ، في حين أنّ البعض الآخر اعتبرها بشارة للمؤمنين لهذا العفو والصفح. لكن لا مانع من أن تكون تهديد لتلك الفئة من جانب ، وبشارة لهذه الجماعة من جانب آخر ، كما أشير إلى هذا المعنى في الآية التالية أيضا.

تقول الآية :( مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) .

إن هذا التعبير الذي ورد في القرآن الكريم مرارا ، وبعبارات مختلفة ، يشكل جوابا لمن يقول : ماذا يضر عصياننا الله تعالى ، وما تنفعه طاعتنا؟ ولماذا هذا الإصرار على طاعة وأوامره ، والانتهاء عن معاصيه؟

فتقول هذه الآيات : إنّ كلّ ضرر ذلك وكلّ نفعه يعود عليكم ، فأنتم الذين تسلكون مراقي الكمال في ظل الأعمال الصالحة ، وتحلقون إلى سماء قرب اللهعزوجل ، كما أنّكم أنتم الذين تهوون إلى الحضيض نتيجة ارتكابكم الآثام والمعاصي ، فتبتعدون عن اللهعزوجل وتستحقون بذلك اللعنة الأبدية.

إن كلّ أمور التكليف ، وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب تهدف إلى هذا المراد السامي ، ولذلك يقرر القرآن الحكيم( وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (١)

ويقول في موضع آخر :( فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ) (٢) ونقرأ في موضع ثالث :( وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ) (٣)

__________________

(١) لقمان ، الآية ١٢.

(٢) الزمر ، الآية ٤١.

(٣) فاطر ، الآية ١٨.

٢٠١

وخلاصة القول : إنّ أمثال هذه التعابير تبين حقيقة أنّ دعوة الداعين إلى الله سبحانه خدمة للبشر في جميع أبعادها ، وليست خدمة لله الغني عن كلّ شيء ، ولا لأنبيائه الذين أجرهم على الله فقط.

إنّ الانتباه إلى هذه الحقيقة يعدّ عاملا مهما في السير نحو طاعة الله سبحانه ، والابتعاد عن معصيته.

* * *

٢٠٢

الآيات

( وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) )

التّفسير

( آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ ) كل ذلك ، ولكن

متابعة للبحوث التي وردت في الآيات السابقة حول نعم الله المختلفة وشكرها والعمل الصالح ، تتناول هذه الآيات نموذجا من حياة بعض الأقوام الماضين

٢٠٣

الذين غمرتهم نعم الله سبحانه ، إلّا أنّهم كفروا بها ولم يرعوها حق رعايتها.

تقول الآية الأولى :( وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ) .

تبيّن هذه الآية في مجموعها خمس نعم أنعم الله بها على بني إسرائيل ، وبالإضافة إلى النعمة الأخرى التي سيأتي ذكرها في الآية التالية تشكل ست نعم عظيمة.

النعمة الأولى هي الكتاب السماوي ، أي التوراة التي كانت مبينة للمعارف الدينية والحلال والحرام ، طريق الهداية والسعادة.

والثانية مقام الحكومة والقضاء ، لأنا نعلم أنّهم كانوا يمتلكون حكومة قوية مترامية الأطراف ، فلم يكن داود وسليمان وحدهما حاكمين وحسب ، بل إنّ كثيرا من بني إسرائيل قد تسلموا زمام الأمور في زمانهم وعصورهم.

«الحكم» في التعبيرات القرآنية يعني عادة القضاء والحكومة ، لكن لما كان مقام القضاء ، يشكل جزء من برنامج الحكومة دائما ، ولا يمكن للقاضي أن يؤدي واجبه من دون حماية الدولة وقوّتها ، فإنّه يدل دلالة التزامية على مسألة التصدي وتسلم زمام الأمور.

ونقرأ في الآية (٤٤) من سورة المائدة في شأن التوراة :( يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ) .

أمّا النعمة الثالثة فقد كانت نعمة مقام النبّوة ، حيث اصطفى الله سبحانه أنبياء كثيرين من بني إسرائيل.

وقد ورد في رواية أنّ عدد أنبياء بني إسرائيل بلغ ألف نبي(١) ، وفي رواية أخرى : إن عدد أنبياء بني إسرائيل أربعة آلاف نبي(٢) .

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ٧٥.

(٢) بحار الأنوار ، الطبعة الجديدة ، المجلد ١١ صفحة ٣١.

٢٠٤

وكل هذه كانت مواهب ونعما من الله سبحانه.

وتتحدث الآية في الفقرة الرابعة حديثا جامعا شاملا عن المواهب المادية ، فتقول :( وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ) .

النعمة الخامسة ، هي تفوقهم وقوّتهم التي لا ينازعهم فيها أحد ، كما توضح الآية ذلك في ختامها فتضيف :( وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ) .

لا شك أنّ المراد من «العالمين» هنا هم سكان ذلك العصر ، لأنّ الآية (١١٠) من سورة آل عمران تقول بصراحة :( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) .

وكذلك نعلم أنّ الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أشرف الأنبياء وسيدهم ، وبناء على هذا فإنّ أمته أيضا تكون خير الأمم ، كما ورد ذلك في الآية (٨٩) من سورة النحل :( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ ) .

وتشير الآية التالية إلى الموهبة السادسة التي منحها الله سبحانه لهؤلاء المنكرين للجميل ، فتقول :( وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ ) .

«البينات» يمكن أن تكون إشارة إلى المعجزات الواضحة التي أعطاها الله سبحانه موسى بن عمرانعليه‌السلام وسائر أنبياء بني إسرائيل ، أو أنّها إشارة إلى الدلائل والبراهين المنطقية الواضحة ، والقوانين والأحكام المتقنة الدقيقة.

وقد احتمل بعض المفسّرين أن يكون هذا التعبير إشارة إلى العلامات الواضحة التي تتعلق بنبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتي علمها هؤلاء ، وكان باستطاعتهم أن يعرفوا نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلالها كمعرفتهم بأبنائهم :( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ) (١) .

لكن لا مانع من أن تكون كلّ هذه المعاني مجتمعة في الآية.

وعلى أية حال ، فمع وجود هذه المواهب والنعم العظيمة ، والدلائل البينة الواضحة لا يبقى مجال للاختلاف ، إلّا أنّ الكافرين بالنعم هؤلاء ما لبثوا أنّ

__________________

(١) البقرة ، الآية ١٤٦.

٢٠٥

اختلفوا ، كما يصور القرآن الكريم ذلك في تتمة هذه الآية إذ يقول :( فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) .

نعم ، لقد رفع هؤلاء راية الطغيان ، وأنشبت كلّ جماعة أظفارها في جسد جماعة أخرى ، واتخذوا حتى عوامل الوحدة والألفة والانسجام سببا للاختلاف والتباغض والشحناء ، وتنازعوا أمرهم بينهم فذهبت ريحهم وضعفت قوتهم ، وأفل نجم عظمتهم ، فزالت دولتهم ، وأصبحوا مشردين في بقاع الأرض ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا.

وقال البعض : إنّ المراد هو الاختلاف الذي وقع بينهم بعد علمهم واطلاعهم الكافي على صفات نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويهددهم القرآن الكريم في نهاية الآية بقوله :( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) وبهذا فقد فقدوا قوتهم وعظمتهم في هذه الدنيا بكفرانهم النعمة ، واختلافهم فيما بينهم ، واشتروا لأنفسهم عذاب الآخرة.

بعد بيان المواهب التي منّ الله تعالى بها على بني إسرائيل ، وكفرانها من قبلهم ، ورد الحديث عن موهبة عظيمة أهداها الله سبحانه لنبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ، فقالت الآية :( ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ ) .

«الشريعة» تعني الطريق التي تستحدث للوصول إلى الماء الموجود عند ضفاف الأنهر التي يكون مستوى الماء فيها أخفض من الساحل ، ثمّ أطلقت على كلّ طريق يوصل الإنسان إلى هدفه ومقصوده.

إن استعمال هذا التعبير في مورد دين الحق ، بسبب أنّه يوصل الإنسان إلى مصدر الوحي ورضى الله سبحانه ، والسعادة الخالدة التي هي بمثابة الماء للحياة المعنوية.

لقد استعملت هذه الكلمة مرّة واحدة في القرآن الكريم ، وفي شأن الإسلام فقط.

٢٠٦

والمراد من «الأمر» هنا هو دين الحق الذي مرّت الإشارة إليه في الآية السابقة أيضا ، حيث قالت :( بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ ) .

ولما كان هذا المسير مسير النجاة والنصر ، فإنّ الله سبحانه يأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك أنّ( فَاتَّبِعْها ) .

وكذلك لما كانت النقطة المقابلة ليس إلّا اتباع أهواء الجاهلين ورغباتهم ، فإنّ الآية تضيف في النهاية :( وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) .

في الحقيقة ، لا يوجد إلّا طريقان : طريق الأنبياء والوحي ، وطريق أهواء الجاهلين وميولهم ، فإذا ولّى الإنسان دبره للأوّل فسيقع في الثّاني ، وإذا توجه الإنسان إلى ذلك السبيل فسينفصل عن خط الأنبياء ويبتعد عنهم ، وبذلك فإنّ القرآن أبطل كلّ البرامج الإصلاحية التي لا تستمد تعليماتها من مصدر الوحي الإلهي.

والجدير بالانتباه أنّ بعض المفسّرين قالوا : إنّ رؤساء قريش أتوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : ارجع إلى دين آبائك ، فإنّهم كانوا أفضل منك وأسلم. وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يزال في مكّة ، فنزلت الآية أعلاه(١) وأجابتهم بأن طريق الوصول إلى الحق هو الوحي السماوي الذي نزل عليك ، لا ما يمليه هوى هؤلاء الجاهلين ورغبتهم.

لقد كان القادة المخلصون يواجهون دائما وساوس الجاهلين هذه عند ما يأتون بدين جديد ويطرحون أفكارا بناءة طاهرة ، فقد كان الجهال يطرحون عليهم : أأنتم أعلم أم الآباء السابقون والعظماء الذين جاؤوا قبلكم؟ وكانوا يصرون على الاستمرار في ذلك الطريق ، وإذا كان مثل هذا الاقتراح يمكن أن ينزل إلى حيز التطبيق والواقع العملي ، فليس بوسع الإنسان أن يخطو خطوة في طريق التكامل.

وتعتبر الآية التالية تبيانا لعلة النهي عن الاستسلام أمام مقترحات المشركين وقبول طلباتهم ، فتقول :( إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً ) فإذا ما اتبعت دينهم

__________________

(١) التفسير الكبير للفخر الرازي ، المجلد ٢٧ ، صفحة ٢٦٥.

٢٠٧

الباطل فأحاط بك عذاب الله تعالى فإنّهم عاجزون عن أن يهبوا لنجدتك وإنقاذك ، ولو أنّ الله سبحانه سلب منك نعمة فإنّهم غير قادرين على إرجاعها إليك.

ومع أنّ الخطاب في هذه الآيات موجه إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ المراد منه جميع المؤمنين.

ثمّ تضيف الآية :( وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) فكلهم من جنس واحد ، ويسلكون نفس المسير ، ونسجهم واحد ، وكلهم ضعفاء عاجزون.

لكن لا تذهب بك الظنون بأنك وحيد ، ومن معك قليل ولا ناصر لكم ولا معين ، بل :( وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ) .

صحيح أنّ جمع هؤلاء عظيم في الظاهر ، وفي أيديهم الأموال الطائلة والإمكانيات الهائلة ، لكن كلّ ذلك لا يعتبر إلّا ذرة عديمة القيمة إزاء قدرة الله التي لا تقهر ، وخزائنه التي لا تفنى.

وكتأكيد لما مرّ ، ودعوة إلى اتباع دين الله القويم ، تقول آخر آية من هذه الآيات :( هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) .

«البصائر» جمع بصيرة ، وهي النظر ، ومع أنّ هذه اللفظة أكثر ما تستعمل في وجهات النظر الفكرية والنظريات العقلية ، إلّا أنّها تطلق على كلّ الأمور التي هي أساس فهم المعاني وإدراكها.

والطريف أنّها تقول : إنّ هذا القرآن والشريعة بصائر ، أي عين البصيرة ، ثمّ أنّها ليست ، بصيرة ، بل بصائر ، ولا تقتصر على بعد واحد ، بل تعطي الإنسان الأفكار والنظريات الصحيحة في كافة مجالات حياته.

وقد ورد نظير هذا التعبير في آيات أخرى من القرآن الكريم ، كالآية (١٠٤) من سورة الأنعام ، حيث تقول :( قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ) .

وقد طرحت هنا في هذه الآية ثلاثة مواضيع : البصائر والهدى والرحمة ، وهي حسب التسلسل علة ومعلول لبعضها البعض ، فإنّ الآيات الواضحة والشريعة

٢٠٨

المبصّرة تدفع الإنسان نحو الهداية بدورها أساس رحمة الله.

والجميل في الأمر أنّ الآية تذكر أنّ البصائر لعامة الناس ، أمّا الهدى والرحمة فخصت الموقنين بهما ، ويجب أن يكون الأمر كذلك ، لأنّ آيات القرآن ليست مقصورة على قوم بالخصوص ، بل يشترك فيها كلّ البشر الذين دخلوا في كلمة (الناس) في كلّ زمان ومكان ، غير أنّ من الطبيعي أن يكون الهدى فرع اليقين ، وأن تكون الرحمة وليدته ، فلا تشمل الجميع حينئذ.

وعلى أية حال ، فإنّ ما تقوله الآية من أنّ القرآن عين البصيرة ، وعين الهداية والرحمة ، تعبير جميل يعبر عن عظمة هذا الكتاب السماوي وتأثيره وعمقه بالنسبة لأولئك السالكين طريقه ، والباحثين عن الحقيقة.

* * *

٢٠٩

الآيات

( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) )

التّفسير

ليسوا سواء محياهم ومماتهم :

متابعة للآيات السابقة التي كان الكلام فيها يدور حول فئتين هما : المؤمنون والكافرون ، أو المتقون والمجرمون ، فإنّ أولى هذه الآيات قد جمعتهما في مقارنة أصولية بينهما ، فقالت :( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .

هل يمكن أن يتساوى النور والظلمة ، والعلم والجهل ، والحسن والقبيح ،

٢١٠

والإيمان والكفر؟

هل يمكن أن تكون نتيجة هذه الأمور غير المتساوية متساوية؟

كلا ، فإنّ الأمر ليس كذلك ، إذ المؤمنون ذوو الأعمال الصالحات يختلفون عن المجرمين الكافرين ، ويفترقون عنهم في كلّ شيء ، إذ أنّ كلا من الإيمان والكفر ، والعمل الصالح والطالح ، يصبغ كلّ الحياة بلونه.

وهذه الآية نظير الآية (٢٨) من سورة ص ، حيث تقول :( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ؟

أو كالآيتين ٣٥ ، ٣٦ ، من سورة القلم حيث :( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) ؟

«اجترحوا» في الأصل من الجرح الذي يصيب بدن الإنسان أثر مرض ضرر ، ولما كان ارتكاب الذنب والمعصية كأنّما يجرح روح المذنب ، فقد استعملت كلمة الاجتراح بمعنى ارتكاب الذنب ، وتستعمل أحيانا بمعنى أوسع يدخل فيه كلّ اكتساب. وإنّما يقال لأعضاء البدن : جوارح ، لأنّ الإنسان يحقق مقاصده ورغباته بواسطتها ، ويحصل على ما يريد ، ويكتسب ما يشاء بواسطتها.

وعلى أية حال ، فإنّ الآية تقول : إنّه لظن خاطئ أن يتصوروا أنّ الإيمان والعمل الصالح ، أو الكفر والمعصية ، لا يترك أثره في حياة الإنسان ، فإنّ حياة هذين الفريقين ومماتهم يتفاوتان تماما :

فالمؤمنون يتمتعون باطمئنان خاص في ظل الإيمان والعمل الصالح ، بحيث لا تؤثر في نفوسهم أصعب الحوادث وأقساها ، في حين أنّ الكافرين والملوثين بالمعصية والذنوب مضطربون دائما ، فإنّ كانوا في نعمة فهم معذبون دائما من خوف زوالها وفقدانها ، وإن كانوا في مصيبة وشدّة فلا طاقة لهم على تحملها ومواجهتها.

وتصور الآية (٨٢) من سورة الأنعام حال المؤمنين ، فتقول :( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ

٢١١

يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) .

إنّ المؤمنين مطمئنون بمواعيد الله سبحانه ، وهم يرتعون في رحمته ولطفه :( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ) .

فنور الهداية يضيء قلوب الفريق الأوّل لتشرق بنور ربّها ، فيسيرون بخطى ثابتة نحو هدفهم المقدس :( اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) (١) .

أمّا الفريق الثّاني ، فليس لديهم هدف واضح يطمحون إلى بلوغه ، ولا هدى بيّن يسيرون في ظله ، بل هم سكارى تتقاذفهم أمواج الحيرة في بحر الضلالة والكفر :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ ) .

هذا في الحياة الدنيا ، أما عند الموت الذي هو نافذة تطل على عالم البقاء ، وباب للآخرة ، فإنّ الحال كما تصوره الآية (٣٢) من سورة النحل حيث تقول :( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

أمّا المجرمون الكافرون ، فإنّ الآيتين (٢٨) ـ (٢٩) من سورة النحل تتحدثان معهم بأسلوب آخر ، فتقولان :( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) .

وخلاصة القول ، فإنّ التفاوت والاختلاف موجود بين هاتين الفئتين في كافة شؤون الحياة والموت ، وفي عالم البرزخ والقيامة(٢) .

__________________

(١) البقرة ، الآية ٢٥٧.

(٢) ثمّة احتمالات أخرى في تفسير الآية المذكورة ومن جملتها ما ذكر من أنّ المراد من جملة (سواء محياهم ومماتهم) أنّ موت المجرمين الكافرين وحياتهم واحد لا فرق فيه ، فلا خير فيهم ولا طاعة لهم حال حياتهم ، ولا في موتهم ، فهم أحياء لكنّهم أموات ، وعلى هذا التّفسير فإنّ كلا الضميرين يعودان على المجرمين. والاحتمال الآخر : أنّ المراد من الحياة يوم القيامة ، أي أنّ المؤمنين والكافرين لا يتساوون عند الموت وعند بعثهم يوم القيامة.

٢١٢

أمّا الآية التالية فإنّه في الحقيقة تفسير لسابقتها وتعليل لها ، إذ تقول :( وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) ، فكل العالم يوحي بأنّ خالقه قد خلقه وجعله يقوم على محور الحق ، وأن يحكم العدل والحق كلّ مكان ، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يجعل الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمجرمين الكافرين ، فيكون هذا الأمر استثناء من قانون الخلقة؟

من الطبيعي أنّه يجب أن يتمتع أولئك الذين يتحركون حركة تنسجم مع قانون الحق والعدالة هذا ، ولا يحيدون عنه ببركات عالم الوجود وينعمون بألطاف الله سبحانه ، كما يجب أن يكون أولئك الذين يسيرون عكس هذا الطريق ويخالفون القانون طعمة للنّار المحرقة ، ومحطا لغضب اللهعزوجل ، وهذا ما تقتضيه العدالة.

ومن هنا يتّضح أنّ العدالة لا تعني المساواة ، بل العدالة أن يحصل كلّ فرد على ما يناسبه من المواهب والنعم حسب مؤهلاته وقابلياته.

وكذلك فإنّ الآية الأخيرة من هذه الآيات توضيح وتعليل آخر لعدم المساواة بين الكافرين والمؤمنين ، إذ تقول :( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) .

وهنا سؤال يطرح نفسه ، وهو : كيف يمكن أن يتخذ الإنسان إلهه هواه؟

غير أنّ من الواضح الجلي أنّ الإنسان عند ما يضرب صفحا عن أوامر الله سبحانه ، ويتبع ما تمليه عليه شهواته ، ويقدم طاعتها على طاعة الله سبحانه ويعتبر ذلك حقّا ، فقد عبد هواه ، وهذا عين معنى العبادة ، إذ أنّ أحد المعاني المعروفة للعبادة هو الطاعة.

وقد ورد في القرآن الكريم الكثير ممّا يبيّن هذا المعنى كعبادة الشيطان أو

__________________

إلّا أن ظاهر الآية هو ما ذكرناه أعلاه.

٢١٣

عبادة أحبار اليهود ، فيقول القرآن ـ مثلا ـ في الآية (٦٠) من سورة يس :( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ) .

ويقول في الآية (٣١) من سورة التوبة :( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ) .

وجاء في حديث عن الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام أنهما قالا : «أما والله ما صاموا لهم ، ولا صلوا ، ولكنّهم أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا ، فاتبعوهم ، وعبدوهم من حيث لا يشعرون»(١) .

غير أنّ بعض المفسّرين يعتبر هذا التعبير إشارة إلى الوثنيين من قريش ، الذين إذا ما عشقوا شيئا وأحبوه صنعوا على صورته صنما ثمّ عبدوه وعظموه ، وكلما رأوا شيئا آخر أعجبهم أكثر من صنمهم أعرضوا عن الأوّل وتوجهوا إلى عبادة الثّاني ، وعلى هذا فإنّ إلههم كان الشيء الذي ترتضيه أنفسهم وتهواه(٢) .

إلّا أنّ تعبير :( مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) أكثر انسجاما مع التّفسير الأوّل.

أما في مورد جملة :( أَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ ) فالتّفسير المعروف هو أنّ الله سبحانه قد أضلهم لعلمه بأنّهم لا يستحقون الهداية ، وهو إشارة إلى أنّ هؤلاء قد أطفأوا بأيديهم كلّ مصابيح الهداية وحطموها ، وأغلقوا في وجوههم كلّ سبل النجاة ، ودمروا وراءهم جسور العودة إلى طريق الحق ، فعند ذلك سلبهم الله تعالى رحمته ولطفه ، وأفقدهم القدرة على تشخيص الصالح من الطالح ، وتركهم في ظلمات لا يبصرون ، وكأنّما ختم على قلبهم وسمعهم ، وجعل على أبصارهم غشاوة.

وما كلّ ذلك في الحقيقة إلّا آثار لما اختط هؤلاء لأنفسهم من مسير ، ونتيجة مشؤومة لعبادة الآلهة التي اتخذوها.

ولا صنم في الحقيقة أخطر من إتباع هوى النفس الذي يوصد كلّ أبواب

__________________

(١) نور الثقلين ، المجلد ٢ ، صفحة ٢٠٩.

(٢) تفسير الدر المنثور ، المجلد ٦ ، صفحة ٣٥.

٢١٤

الرحمة وطرق النجاة بوجه الإنسان؟ وكم هو بليغ وعميق الحديث المروي عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى»(١) .

إلّا أنّ بعض المفسّرين يعتبر هذه الجملة إشارة إلى أنّ متبعي الهوى هؤلاء قد اختاروا طريق الضلالة طريقا لهم عن علم ودراية ، لأنّ العلم لا يقارن الهداية دائما ، كما لا تكون الضلالة دائما قرينة الجهل.

إنّ العلم الذي يتمسك الإنسان بلوازمه أساس الهداية ، فعليه كي يصل إلى مراده وهدفه أن يتحرك على هدي هذا العلم ، وألا يكون كأولئك الكفار العنودين الذين قال بحقهم القرآن :( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) (٢) (٣) .

إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب بملاحظة أنّ مرجع الضمائر في الآية إلى الله سبحانه ، لأنّها تقول :( أَضَلَّهُ اللهُ (عَلى عِلْمٍ) وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ) .

ممّا قلناه يتّضح جيدا أنّ الآية تدل ـ من قريب أو بعيد ـ على مذهب الجبرية ، بل هي تأكيد على أصل الإختيار وتعيين الإنسان مصيره بنفسه.

لقد أوردنا بحوثا أكثر تفصيلا وإيضاحا حول ختم الله على قلب الإنسان وسمعه ، وإلقاء الغشاوة على قلبه في ذيل الآية (٧) من سورة البقرة(٤) .

* * *

ملاحظات

١ ـ أخطر الأصنام صنم هوى النفس

قرأنا في حديث أنّ أبغض الآلهة إلى الله هوى النفس ، ولا مبالغة في هذا الحديث قط ، لأنّ الأصنام العادية موجودات لا خصائص لها ولا صفات فعالة

__________________

(١) تفسير القرطبي ، المجلد ٩ ، صفحة ٥٩٨٧ ، وتفسير روح البيان ، وتفسير المراغي ذيل الآيات مورد البحث.

(٢) النمل ، الآية ١٤.

(٣) تفسير الميزان ، المجلد ١٨ ، صفحة ١٨٧.

(٤) المجلد الأول ، التّفسير الأمثل ، ذيل الآية (٧) من سورة البقرة.

٢١٥

مهمة ، أما صنم الهوى وأتباعه ، فإنّه يغوي الإنسان ويسوقه إلى ارتكاب أنواع المعاصي ، والانزلاق في هاوية الانحراف.

وبصورة عامّة ، يمكن القول بأنّ لهذا الصنم من الخصوصيات ما جعله مستحقا لصفة أبغض الآلهة والأصنام ، فهو يزين القبائح والسيئات في نظر الإنسان حتى يصل إلى درجة يفخر عندها بتلك الأعمال الطالحة ، ويكون مصداقا لقوله تعالى :( وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) (١) .

٢ ـ أفضل طريق لنفوذ الشيطان هو اتباع الهوى : فما دام الشيطان لا يمتلك قاعدة وأساسا يستند إليه في داخل الإنسان ، فلا قدرة له على الوسوسة ودفع الإنسان الى الانحراف والمعصية ، وما تلك القاعدة والأساس إلّا اتباع الهوى وهو ذات الشيء الذي أسقط الشيطان وأرداه ، وطرده من صف الملائكة ، وأبعده عن مقام القرب من الله.

٣ ـ إنّ اتباع الهوى يسلب الإنسان أهم وسائل الهداية ، وهي الإدراك الصحيح للحقائق ، ويلقي الحجب على عقل الإنسان وعينه ، وقد أشارت هذه الآيات إلى هذا الموضوع بصراحة بعد ذكر مسألة اتباع الهوى واتخاذه إلها ، وآيات القرآن الأخرى شاهدة على هذه الحقيقة أيضا.

٤ ـ إنّ اتباع الهوى يوصل الإنسان إلى مرحلة محاربة الله ـ والعياذ بالله ـ كما ابتلي بها إمام عباد الهوى ـ أي الشيطان الرجيم ـ فاعترض على حكمة الله سبحانه لمّا أمره بالسجود لآدم ، واعتبره أمرا عاريا عن الحكمة!

٥ ـ عواقب اتباع الهوى مشؤومة وأليمة ، بحيث أنّ لحظة من لحظات اتباع الهوى قد يصاحبها عمر من الندامة والأسف والحسرة ، ولحظة ـ يتبع فيها الهوى ـ قد تجعل كلّ حسنات الإنسان وأعماله الصالحة التي عملها طوال عمره هباء منثورا ، ولذلك ورد التأكيد على الحيطة واليقظة في هذا الأمر والتحذير الشديد منه

__________________

(١) الكهف ، الآية ١٠٤.

٢١٦

في آيات القرآن والرّوايات الإسلامية.

فقد ورد في الحديث المعروف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن أخوف ما أخاف على أمتي الهوى وطول الأمل ، أما الهوى فإنّه يصد عن الحق ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة»(١) .

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه سئل : أي سلطان أغلب وأقوى؟ قال : «الهوى»(٢) .

وجاء في حديث آخر عن الإمام زين العابدينعليه‌السلام : «إن الله تعالى يقول : وعزتي وعظمتي ، وجلالي وبهائي ، وعلوي وارتفاع مكاني ، لا يؤثر عبد هواي على هواه إلّا جعلت همه في آخرته ، وغناه في قلبه ، وكففت عنه ضيعته ، وضمنت السماوات والأرض رزقه ، وأتته الدنيا وهي راغمة»(٣) .

وورد في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم ، فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم»(٤) .

وأخيرا ورد في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إني لأرجو النجاة لهذه الأمة لمن عرف حقنا منهم إلّا لأحد ثلاثة : صاحب سلطان جائر ، وصاحب هوى ، والفاسق المعلن»(٥) .

وفي هذا الباب آيات وروايات كثيرة غنية المضمون.

وننهي هذا الحديث بجملة عميقة المعنى ذكرها البعض كسبب نزول ، وكشاهد على مرادنا ، فيقول أحد المفسّرين : طاف أبو جهل بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد بن المغيرة ، فتحدثا في شأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال أبو جهل : والله إني لأعلم أنّه صادق.

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلد ٧٠ ، صفحة ٧٥ ، ٧٦ ، ٧٧.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

(٤) أصول الكافي ، المجلد ٢ باب أتباع الهوى الحديث ١.

(٥) بحار الأنوار ، المجلد ٧٠ ، صفحة ٧٦.

٢١٧

فقال له : مه ، وما دلك على ذلك؟

قال : يا أبا عبد شمس ، كنا نسميه في صباه الصادق الأمين ، فلما تم عقله ، وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن! والله إني لأعلم أنّه صادق.

قال : فما يمنعك من أن تصدقه وتؤمن به؟

قال : تتحدث عني بنات قريش أني اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة! واللات والعزى لن أتبعه أبدا.

فنزلت الآية :( وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ) (١) .

* * *

__________________

(١) تفسير المراغي ، المجلد ٢٥ ، صفحة ٢٧.

٢١٨

الآيتان

( وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) )

التّفسير

عقائد الدهريين :

في هذه الآيات بحث آخر حول منكري التوحيد ، غاية ما هناك أنّه ذكر هنا اسم جماعة خاصّة منهم ، وهم «الدهريون» الذين ينكرون وجود صانع حكيم لعالم الوجود مطلقا ، في حين أنّ أكثر المشركين كانوا يؤمنون ظاهرا بالله ، وكانوا يعتبرون الأصنام شفعاء عند الله ، فتقول الآية أولا :( وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا ) فكما يموت من يموت منا ، يولد من يولد منّا وبذلك يستمر النسل البشري :( وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) وبهذا فإنّهم ينكرون المعاد كما ينكرون المبدأ ، والجملة الأولى ناظرة إلى إنكارهم المعاد ، أمّا الجملة الثانية فتشير إلى إنكار

٢١٩

المبدأ.

والجدير بالانتباه أنّ هذا التعبير قد ورد في آيتين أخريين من آيات القرآن الأخرى ، فنقرأ في الآية (٢٩) من سورة الأنعام :( وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) .

وجاء في الآية (٣٧) من سورة المؤمنون :( إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) .

إلّا أنّ التأكيد في الآيتين على إنكار المعاد وحسب ، ولم يرد إنكار المبدأ والمعاد معا إلّا في هذه الآية مورد البحث.

ومن الواضح أنّ هؤلاء إنّما كانوا يؤكدون على المعاد أكثر من المبدأ لخوفهم واضطرابهم منه الذي قد يغير مسير حياتهم المليئة بالشهوات والخاضعة لها.

وقد ذكر المفسّرون عدّة تفاسير لجملة( نَمُوتُ وَنَحْيا ) :

الأوّل : وهو ما ذكرناه ، بأنّ الكبار يغادرون الحياة ليحل محلهم المواليد.

الثّاني : أنّ الجملة من قبيل التأخير والتقديم ، ومعناها : إنّنا نحيا ثمّ نموت ، ولا شيء غير هذه الحياة والموت.

الثّالث : أنّ البعض يموتون ويبقى البعض الآخر ، وإن كان الجميع سوف يموتون في النهاية.

الرّابع : أننا كنا في البداية أموات لا روح فينا ، ثمّ منحنا الحياة ودبت فينا.

غير أنّ التّفسير الأوّل هو أنسب الجميع وأفضلها.

وعلى أية حال ، فإنّ جماعة من الماديين في العصور الخالية كانوا يعتقدون أنّ الدهر هو الفاعل أو الزمان في هذا العالم ـ أو بتعبير جماعة آخرين : إنّ الفاعل هو دوران الأفلاك وأوضاع الكواكب ـ وكانوا ينهون سلسلة الحوادث إلى الأفلاك ، ويعتقدون أنّ كلّ ما يقع في هذا العالم بسببها(١) ، حتى أنّ جماعة من فلاسفة

__________________

(١) احتمل البعض احتمالا خامسا في تفسير هذه الجملة ، وهو أنّها إلى عقيدة التناسخ التي كان يعتقد بها جمع من

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الموقف التاسع:

شروطهعليه‌السلام على المأمون لقبول ولاية العهد، وهي:

((أن لا يولي أحداً، ولا يعزل أحداً، ولا ينقض رسماً، ولا يغير شيئاً مما هو قائم، ويكون في الأمر مشيراً من بعيد)) (١) ، فأجابه المأمون إلى ذلك كله!!!.

وفي ذلك تضييع لجملة من أهداف المأمون.. إذ إن:

١ ـ السلبية تعني الاتهام:

فإن من الطبيعي أن تثير سلبيته هذه الكثير من التساؤلات لدى الناس، ولسوف تكون سبباً في وضع علامات استفهام كبيرة، حول الحكم، والحكام. وكل أعمالهم وتصرفاتهم، إذ إن السلبية إنما تعني: أن نظام الحكم لا يصلح حتى للتعاون معه، بأي نحو من أنحاء التعاون، وإلا فلماذا يرفض ـ حتى ولي العهد ـ التعاون مع نظام هو ولي العهد فيه، ويأبى التأييد لأي من تصرفاته وأعماله؟!.

____________

(١) الفصول المهمة، لابن الصباغ المالكي ص ٢٤١، ونور الأبصار من ص ١٤٣، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ٢٠، و ج ٢ ص ١٨٣، ومواضع أخرى، ومناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٦٣، وعلل الشرايع ج ١، ص ٢٣٨، وإعلام الورى ص ٣٢٠، والبحار ج ٤٩ ص ٣٤ و ٣٥، وغيرها، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٩، وإرشاد المفيد ص ٣١٠، وأمالي الصدوق ص ٤٣، وأصول الكافي ص ٤٨٩، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٨، ٢٦٩، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥.

٣٠١

٢ ـ رفض الاعتراف بشرعية ذلك النظام:

ولقد قدمنا: أن من جملة أهداف المأمون هو أن يحصل من الإمامعليه‌السلام على اعتراف ضمني بشرعية حكمه وخلافته، كما صرح هو نفسه بذلك (وليعترف بالملك، والخلافة لنا).

والإمام.. بشروطه تلك يكون قد رفض الاعتراف بشرعية النظام القائم. بأي نحو من أنحاء الاعتراف، ولم يعد قبوله بولاية العهد يمثل اعترافا بذلك، ولا يدل على أن ذلك الحكم يمثل الحكم الإسلامي الأصيل.

هذا.. وقد عضد شروطه هذه، بسلوكه السلبي مع المأمون، والهيئة الحاكمة، طيلة فترة ولاية العهد، يضاف إلى ذلك تصريحاته المتكررة، التي تحدثنا عنها فيما سبق.

٣ ـ النظام القائم لا يمثل وجهة نظره في الحكم:

والأهم من كل ذلك: أن شروطه هذه كانت بمثابة الرفض القاطع لتحمل المسؤولية عن أي تصرف يصدر من الهيئة الحاكمة. وليس للناس ـ بعد هذا ـ أن ينظروا إلى تصرفات وأعمال المأمون وحزبه، على أنها تحظى برضى الإمامعليه‌السلام وموافقته. ولا يمكن لها ـ من ثم ـ أن تعكس وجهة نظرهعليه‌السلام في الحكم ورأيه في أساليبه، التي هي في الحقيقة وجهة نظر الإسلام الصحيح فيه. الإسلام.. الذي يعتبر الأئمةعليه‌السلام الممثلين الحقيقيين له، في سائر الظروف، ومختلف المجالات..

وانطلاقاً مما تقدم: نراهعليه‌السلام يرفض ما كان يعرضه عليه المأمون، من: كتابة بتولية أو عزل إلى أي إنسان.. ويرفض أيضاً: أن يؤم الناس في الصلاة مرتين.. إلى آخر ما سيأتي بيانه.

وفي كل مرة كان يرفض فيها مطالب المأمون هذه نراه يحتج عليه بشروطه تلك، فلا يجد المأمون الحيلة لما يريده، وتضيع الفرصة من يده، ولا بد من ملاحظة: أنه عندما أصر عليه المأمون بأن يؤم الناس في الصلاة، ورأىعليه‌السلام : أنه لا بد له من قبول ذلك ـ نلاحظ ـ: أنه اشترط عليه أن يخرج كما كان يخرج جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا كما يخرج الآخرون..

٣٠٢

ولم يكن المأمون يدرك مدى أهمية هذا الشرط، ولا عرف أهداف الإمام من وراء اشتراطه هذا، فقال له ولعله بدون اكتراث: أخرج كيف شئت.. وكانت نتيجة ذلك.. أنهعليه‌السلام قد أفهم الناس جميعاً:

أن سلوكه وأسلوبه، وحتى مفاهيمه، تختلف عن كل أساليب ومفاهيم وسلوك الآخرين. وأن خطه هو خط محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنهاجه هو منهاج عليعليه‌السلام ، ربيب الوحي، وغذي النبوة، وليس هو خط المأمون وسواه من الحكام، الذين اعتاد الناس عليهم، وعلى تصرفاتهم وأعمالهم.

ولم يعد يستطيع المأمون، أن يفهم الناس: أن الحاكم: من كان، ومهما كان، هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته. وأن كل شخصية: من ومهما كانت، وإن كانت قبل أن تصل إلى الحكم تتخذ العدل، والحرية: والمساواة، وغير ذلك شعارات لها، إلا أنها عندما تصل إلى الحكم، لا يمكن إلا أن تكون قاسية ظالمة، مستأثرة بكل شيء، ومستهترة بكل شيء، ولذا فليس من مصلحة الناس أن يتطلعوا إلى حكم أفضل مما هو قائم، حتى ولو كان ذلك هو حكم الإمامعليه‌السلام المعروف بعلمه وتقواه وفضله الخ.. فضلاً عن غيره من العلويين أو من غيرهم ـ لم يعد يستطيع أن يقول ذلك ـ لأن الواقع الخارجي قد أثبت عكس ذلك تماماً، إذ قد رأينا: كيف أن الإمامعليه‌السلام بشروطه تلك، وبسائر مواقفه من المأمون ونظام حكمه.. يضيع على المأمون هذه الفرصة، ولم تجده محاولاته فيما بعد شيئاً، بل إن كثيراً منها كان سوءا ووبالاً عليه، كما سيأتي.

٤ ـ لا مجال بعد للمأمون لتنفيذ مخططاته:

ولعل من الواضح: أن شروطه تلك قد مكنته من أن يقطع الطريق على المأمون، ولا يمكنه من استغلال الظروف لتنفيذ بقية حلقات مؤامرته، إذ لم يعد بإمكانه أن يصر على الإمام أن يقوم بأعمال تنافي وتضر بقضيته هو، وقضية العلويين، ومن ثم تؤثر على الأمة بأسرها.. وعدا عن ذلك فإن هذه الشروط، قد حفظت لهعليه‌السلام حياته في حمام سرخس، حيث كان المأمون قد حاك مؤامرته للتخلص من وزيره وولي عهده مرة واحدة، كما سيأتي بيانه.. مما يعني أن سلبيتهعليه‌السلام مع النظام كانت أمراً لابد منه، إذا أراد أن لا يعرض نفسه إلى مشاكل، وأخطار هو في غنى عنها.. والذي أمن له هذه السلبية ليس إلا شروطه تلك، التي جعلت من لعبة ولاية العهد لعبة باهتة مملة لا حياة فيها، ولا رجاء..

٣٠٣

ولعل الأهم من كل ذلك.. أنها ضيعت على المأمون الكثير من أهدافه من البيعة، التي صرح الإمامعليه‌السلام أنه كان عارفاً بها، ولم يكن له خيار في تحملها، والصبر عليها، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

وعدا عن ذلك كله أن تعاونه مع النظام إنما يعني أن يحاول تصحيح السلوك، وتلافي الأخطاء، التي كان يقع فيها الحكم، والهيئة الحاكمة. وذلك معناه أن ينقلب جهاز الحكم كله ضد الإمام، ويجد المأمون ـ من ثم ـ العذر، والفرصة لتصفيتهعليه‌السلام من أهون سبيل، فشروطه تلك أبعدت عنه الخطر ـ إلى حد ما ـ الذي كان يتهدده من قبل المأمون وأشياعه، وجعلته ـ كما قلنا ـ في منأى ومأمن من كل مؤامراتهم ومخططاتهم.

٥ ـ الإمام.. لا ينفذ إرادات الحكم:

ولعل من الأهمية بمكان.. أن نشير إلى أنهعليه‌السلام كان يريد بشروطه تلك أن يفهم المأمون: أنه ليس على استعداد لتنفيذ إرادات الحكم، والحاكم، ولا على استعداد لأن يقتنع بالتشريفات، والأمور الشكلية، فإنه.. بصفته القائد والمنقذ الحقيقي للأمة، لا يمكن أن يرضى بديلاً عن أن ينقذ الأمة، ويرتفع بها من مستواها الذي أوصلها إليه الطواغيت والظلمة، الذين جلسوا في مكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأوصيائهعليهم‌السلام ، وحكموا بغير ما أنزل الله.

إنه يريد أن يخدم الأمة، ويحقق لها مكاسب تضمن لها الحياة الفضلى، والعيش الكريم، ولا يريد أن يخدم نفسه، ويحقق مكاسب شخصيته على حساب الآخرين، ولذلك فهو لا يستطيع أن يقتنع بالسطحيات والشكليات التي لا تسمن، ولا تغني من جوع..

٦ ـ لا زهد أكثر من هذا:

إنه مضافاً إلى أن مجرد رفض الإمام كلا عرضي المأمون: الخلافة، وولاية العهد، دليل قاطع على زهده فيه. فإن هذه الشروط كان لها عظيم الفائدة، وجليل الأثر في الإظهار لكل أحد أن الإمام ليس رجل دنيا، ولا طالب جاه ومقام. وما أراده المأمون من إظهار الإمام على أنه لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه.. لم يكن إلا هباء اشتدت به الريح في يوم عاصف.. ولم تفلح بعد محاولات المأمون وعمله الدائب، من أجل تشويه الإمام والنيل من كرامته.

٣٠٤

ولقد قدمنا: أن الإمامعليه‌السلام قد واجه نفس المأمون بحقيقة نواياه، وأفهمه أن خداعه لن ينطلي عليه، ولن تخفى عليه مقاصده، ولذا فإن من الأفضل والأسلم له أن يكف عن كل مؤامراته ومخططاته.. وإلا فإنه إذا ما أراد إجبار الإمام على التعاون معه، فلسوف يجد أنهعليه‌السلام على استعداد لفضحه، وكشف حقيقته وواقعه أمام الملأ، وإفهام الناس السبب الذي من أجله يجهد المأمون ليزج بالإمامعليه‌السلام في مجالات لا يرغب، بل واشترط عليه أن لا يزج فيها ـ كما فعل في مناسبات عديدة ـ الأمر الذي لن يكون أبداً في صالح المأمون، ونظام حكمه..

ومن هنا رأيناهعليه‌السلام يجيب الريان عندما سأله عن سر قبوله بولاية العهد، وإظهاره الزهد بالدنيا ـ يجيبه ـ: ببيان أنه مجبر على هذا الأمر، ويذكره بالشروط هذه، التي يعني أنه قد دخل فيه دخول خارج منه، كما تقدم..

وهكذا.. وبعد أن كانعليه‌السلام سلبياً مع النظام، وبعد رفضه لكلا عرضي المأمون، وبعد أن اشترط هذه الشروط للدخول في ولاية العهد، فليس من السهل على المأمون، ولا على أي إنسان آخر أن ينسب إليهعليه‌السلام : أنه رجل دنيا فقط، وأنه ليس زاهدا في الدنيا، وإنما هي التي زهدت فيه.

وعلى كل حال: ورغم كل محاولات المأمون تلك.. فقد استطاع الإمامعليه‌السلام ، بفضل وعيه، ويقظته، وإحكام خطته: أن يبقى القمة الشامخة للزهد، والورع، والنزاهة، والطهر، وكل الفضائل الإنسانية، وإلى الأبد.

الموقف العاشر:

موقفهعليه‌السلام في صلاتي العيد.. ففي إحداهما:

(بعث المأمون له يسأله: أن يصلي بالناس صلاة العيد، ويخطب، لتطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضله، وتقر قلوبهم على هذه الدولة المباركة، فبعث إليه الرضاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال:((قد علمت ما كان بيني وبينك من الشرط في دخولي في هذا الأمر، فأعفني من الصلاة بالناس، فقال المأمون: إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة، والجند، والشاكرية هذا الأمر، فتطمئن قلوبهم، ويقروا بما فضلك الله تعالى به..

٣٠٥

ولم يزل يراده الكلام في ذلك. فلما ألح عليه قال:يا أمير المؤمنين، إن أعفيتني من ذلك، فهو أحب إلي، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكما خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام )) قال المأمون: أخرج كيف شئت..

وأمر المأمون القواد، والحجاب، والناس: أن يبكروا إلى باب أبي الحسنعليه‌السلام ، فقعد الناس لأبي الحسن في الطرقات، والسطوح: من الرجال، والنساء، والصبيان، وصار جميع القواد، والجند إلى بابهعليه‌السلام ، فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس.

فلما طلعت الشمس قام الرضاعليه‌السلام فاغتسل، وتعمم بعمامة بيضاء من قطن، وألقى طرفاً منها على صدره، وطرفاً بين كتفيه، ومس شيئاً من الطيب، وتشمر. ثم قال لجميع مواليه:((افعلوا مثل ما فعلت)) .

ثم أخذ بيده عكازة، وخرج، ونحن بين يديه، وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق، وعليه ثياب مشمرة..

فلما قام، ومشينا بين يديه، رفع رأسه إلى السماء، وكبر أربع تكبيرات، فخيل إلينا: أن الهواء والحيطان تجاوبه، والقواد والناس على الباب، قد تزينوا، ولبسوا السلاح، وتهيئوا بأحسن هيئة..

فلما طلعنا عليهم بهذه الصورة: حفاة، قد تشمرنا. وطلع الرضا وقف وقفة على الباب، وقال:((.. الله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد لله على ما أبلانا)) . ورفع بذلك صوته، ورفعنا أصواتنا.

فتزعزعت مرو بالبكاء، فقالها: ثلاث مرات، فلما رآه القواد والجند على تلك الصورة، وسمعوا تكبيره سقطوا كلهم من الدواب إلى الأرض، ورموا بخفافهم، وكان أحسنهم حالاً من كان معه سكين قطع بها شرابة جاجيلته ونزعها، وتحفى.. وصارت مرو ضجة واحدة، ولم يتمالك الناس من البكاء والضجة.

فكان أبو الحسن يمشي، ويقف في كل عشر خطوات وقفة يكبر الله أربع مرات: فيتخيل إلينا: أن السماء، والأرض، والحيطان تجاوبه.

وبلغ المأمون ذلك، فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين: يا أمير المؤمنين: إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس، وخفنا كلنا على دمائنا، فالرأي أن تسأله أن يرجع..

٣٠٦

فبعث المأمون إلى الإمام يقول له: إنه قد كلفه شططا، وأنه ما كان يحب أن يتعبه، ويطلب منه: أن يصلي بالناس من كان يصلي بهم..

فدعا أبو الحسن بخفه، فلبسه، ورجع.

واختلف أمر الناس في ذلك اليوم، ولم ينتظم في صلاتهم إلخ..)(١) .

ولقد قال البحري يصف هذه الحادثة والظاهر أنه يمين بن معاوية العائشي الشاعر على ما في تاج العروس:

ذكـروا بطلعتك النبي، فهللوا

لما طلعت من الصفوف وكبروا

حتى انتهيت إلى المصلى لابساً

نـور الهدى يبدو عليك فيظهر

ومـشيت مشية خاشع متواضع

لـله، ولا يـزهى، ولا يـتكبر

ولـوان مـشتاقا تكلف غير ما

في وسعه لمشى إليك المنبر(٢)

ومما يلاحظ هنا: أنه في هذه المرة أرسل إليه من يطلب منه أن يرجع. ولكننا في مرة أخرى نراه يسارع بنفسه، ويصلي بالناس، رغم تظاهره بالمرض..

وعلى كل حال.. فإننا وإن كنا قد تحدثنا في هذا الفصل، وفي فصل: ظروف البيعة وسنتحدث فيما يأتي عن بعض ما يتعلق بهذه الرواية، إلا أننا سوف نشير هنا إلى نقطتين فقط.. وهما:

١ ـ الأثر العاطفي، والقاعدة الشعبية:

فنلاحظ: أننا حتى بعد مرور اثني عشر قرنا على هذه الواقعة، لا نملك أنفسنا ونحن نقرأ وقائعها، من الانفعال والتأثر بها، فكيف إذن كانت حال أولئك الذين قدر لهم أن يشهدوا ذلك الموقف العظيم؟!.

____________

(١) قد ذكرنا بعض مصادر هذه الرواية في فصل: ظروف البيعة.. فراجع..

(٢) مناقب آل أبي طالب. لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٧٢، ولكن هذا الشعر ينسب أيضاً للبحتري في المتوكل عندما خرج لصلاة العيد.. وانتحال الشعر، وكذلك الاستشهاد بشعر الآخرين، في المواضع المناسبة ظاهرة شائعة في تلك الفترة ومن يدري فلعل الشعر للبحتري ونسب للبحري أو لعله للبحري وانتحله أو نسب للبحتري، ولعل البحتري قد صحف وصار: البحري.. ولعل العكس.

٣٠٧

وغني عن البيان هنا: أن شأن هذه الواقعة هو شأن واقعة نيشابور، من حيث دلالتها دلالة قاطعة على كل ما كان للرضا من عظمة وتقدير في نفوس الناس وقلوبهم، وعلى مدى اتساع القاعدة الشعبية لهعليه‌السلام ..

٢ ـ لماذا يجازف المأمون بإرجاعهعليه‌السلام :

وإذا كان هدف المأمون من الإصرار على الإمام بأن يصلي بالناس هو أن يخدع الخراسانيين والجند والشاكرية، ويجعلهم يطمئنون على دولته المباركة فإنه من الواضح أيضاً أن إرجاع المأمون للإمامعليه‌السلام في مثل تلك الحالة، وذلك التجمع الهائل، وتلك الثورة العاطفية في النفوس، كان ينطوي على مجازفة ومخاطرة لم تكن لتخفى على المأمون، وأشياعه، حيث لا بد وأن يثير تصرفه هذا حنق تلك الجماهير التي كانت في قمة الهيجان العاطفي، ويؤكد كراهيتها له.. وعلى الأقل لن تكون مرتاحة لتصرفه هذا على كل حال.

وبعد هذا.. فإنه إذا كان المأمون يخشى من مجرد إقامة الإمام للصلاة.. فلا معنى لأن يلح عليه هو بقبولها.. وكذلك لا معنى لأن يخشى ذلك الهيجان العاطفي، وتلك الحالة الروحية، التي أثارها فعل الإمامعليه‌السلام وتصرفه في هذا الموقف.. فذلك إذن ما لم يكن يخافه ويخشاه.. فمن أي شيء خاف المأمون إذن؟! إنه كان يخشى ما هو أعظم وأبعد أثراً، وأشد خطراً.. إنه خشي من أن الرضا إذا ما صعد المنبر، وخطب الناس، بعد أن هيأهم نفسيا، وأثارهم عاطفيا إلى هذا الحد ـ خشي ـ أن يأتي بمتمم لكلامه الذي أورده في نيشابور:((وأنا من شروطها..)) وأنه ظهر إليهم على الهيئة التي كان يخرج عليها النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصيه عليعليه‌السلام وهو أمر جديد عليهم.. ما من شأنه أن يجعل المأمون وأشياعه لا يأمنون بعد على أنفسهم، كما ذكر الفضل بن سهل.. ولسوف يحول الإمام مرواً من معقل للعباسيين والمأمون، وعاصمة، وحصن قوي لهم ضد أعدائهم ـ من العرب وغيرهم ـ سوف يحولها إلى حصن لأعداء العباسيين والمأمون، حصن لأئمة أهل البيت. ففضل المأمون: أن يختار إرجاعهعليه‌السلام عن الصلاة، لأنه رأى أن ذلك هو أهون الشرين، وأقل الضررين..

ولقد جرب المأمون الرضا أكثر من مرة، وأصبح يعرف أنه مستعد لأن يعلن رأيه صراحة في أي موقف تؤاتيه فيه الفرصة، ويقتضي الأمر فيه ذلك. ولم ينس بعد موقفه في نيشابور، ولا ما كتبه في وثيقة العهد، ولا غير ذلك من مواقفهعليه‌السلام وتصريحاته في مختلف الأحوال والظروف..

٣٠٨

الموقف الحادي عشر:

وأخيراً.. فقد كان سلوك الإمامعليه‌السلام العام، سواء بعد عقد ولاية العهد له، أو قبلها. يمثل ضربة لكل خطط المأمون ومؤامراته، ذلك السلوك المثالي، الذي لم يتأثر بزبارج الحكم وبهارجه.. ويكفي أن نذكر هنا ما وضعه به إبراهيم بن العباس، كاتب القوم وعاملهم، حيث قال: (ما رأيت أبا الحسن جفا أحداً بكلامه قط، وما رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه. وما رد أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مد رجليه بين يدي جليس له قط. ولا اتكأ بن يدي جليس له قط، ولا شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط، ولا رأيته تفل قط، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسم. وكان إذا خلا، ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه، حتى البواب والسائس.

وكان قليل النوم بالليل، يحيى أكثر لياليه من أولها إلى الصبح. وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول:((ذلك صوم الدهر)) . وكان كثير المعروف والصدقة في السر، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله، فلا تصدقوه..)(١) .

وهذه الصفات بلا شك قد أسهمت إسهاماً كبيراً في أن يكون الإمامعليه‌السلام هو الأرضى في الخاصة والعامة، وأن تنفذ كتبه في المشرق والمغرب، إلى غير ذلك مما تقدم..

الحكم ليس امتيازاً وإنما هو مسؤولية:

وقد اعترض عليه بعض أصحابه، عندما رآه يأكل مع خدمه وغلمانه، حتى البواب والسائس، فأجابهعليه‌السلام :((مه، إن الرب تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال..)) (٢) .

وقال له أحدهم: أنت والله خير الناس، فقال له الإمام:((لا تحلف يا هذا، خير مني من كان أتقى لله تعالى. وأطوع له، والله ما

____________

(١) كلام إبراهيم بن العباس هذا معروف ومشهور، تجده في كثير من كتب التاريخ والرواية، ولذا فلا نرى أننا بحاجة إلى تعداد مصادره.

(٢) البحار ج ٤٩ ص ١٠١، والكافي الكليني، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣٠٩

نسخت هذه الآية: ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ.. ) )) (١) .

وقال لإبراهيم العباسي إنه لا يرى أن قرابته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجعله خيراً من عبد أسود، إلا أن يكون له عمل صالح فيفضله به(٢) .

وقال رجل له: ما على وجه الأرض أشرف منك إباء. فقال:((التقوى شرفتهم، وطاعة الله أحظتهم))( ٣) .

وما نريد أن نشير إليه ونؤكد عليه هنا، هو أنهعليه‌السلام يريد بذلك أن يفهم الملأ: أن الحكم لا يعطي للشخص ـ من كان، ومهما كان ـ امتيازاً، ولا يجعل له من الحقوق ما ليس لغيره، وإنما الامتياز ـ فقط ـ بالتقوى والفضائل الأخلاقية.. وكل شخص حتى الحاكم سوف يلقى جزاء أعماله: إن خيراً فخير، وإن شرا فشر، وعليه فما يراه الناس من سلوك الحكام، ليس هو السلوك الذي يريده الله، وتحكم به النواميس الأخلاقية، والإنسانية. والامتيازات التي يجعلونها لأنفسهم، ويستبيحون بها ما ليس من حقهم لا يقرها شرع، ولا يحكم بها قانون..

وبكلمة مختصرة: إن الإمامعليه‌السلام يرى: أن الحكم ليس امتيازاً، وإنما هو مسؤولية.

وعلى كل حال.. فإن سلوك الإمامعليه‌السلام ، لخير دليل على ما كان يتمتع به من المزايا الأخلاقية، والفضائل النفسية.. ويكفي أنه لم يظهر منهعليه‌السلام طيلة الفترة التي عاشها في الحكم إلا ما ازداد به فضلاً بينهم، ومحلاً في نفوسهم، على حد تعبير أبي الصلت. وعلى حد تعبير شخص آخر: أقام بينهم لا يشركهم في مأثم من مآثم الحكم.. بل لقد كان لوجوده أثر كبير في تصحيح جملة من الأخطاء والانحرافات التي اعتادها الحكام آنئذٍ.. حتى لقد استطاع أن يؤثر على نفس المأمون، ويمنعه من الشراب والغناء، طيلة الفترة التي عاشها معه، إلى آخر ما هنالك، مما لسنا هنا في صدد تتبعه واستقصائه.

____________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٧.

(٣) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦. ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣١٠

وفي نهاية المطاف نقول:

وحسبنا هنا ما ذكرنا من الأمثلة، التي نحسب أنها تكفي لأن تلقي ضوءاً كاشفاً على الخطة التي اتبعها الإمامعليه‌السلام في مواجهة خطط المأمون ومؤامراته.. تلك الخطة التي كانت تكفي لأن لا تبقى الصورة التي أرادها المأمون في أذهان الناس، ولا مبرر للشكوك لأن تبقى تراود نفوسهم.

ولقد نجحت تلك الخطة نجاحا أذهل المأمون، وأعوانه، وجعلهم يتصرفون بلا روية، ويقعون بالمتناقضات.. حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك. حسبما صرح به المأمون نفسه. وكانت النتيجة أن دبر فيه المأمون بما يحسم عنه مواد بلائه، كما وعد حميد بن مهران، وجماعة من العباسيين.

القسم الرابع

من خلال الأحداث

١ ـ مع بعض خطط المأمون..

٢ ـ كاد المريب أن يقول خذوني.

٣ ـ ما يقال حول وفاة الإمام..

٤ ـ دعبل والمأمون.

٥ ـ كلمة ختامية.

مع بعض خطط المأمون

التوجيهات الراضية غير مقبولة:

كل ما تقدم يلقي لنا ضوءاً على بعض نوايا المأمون مع الإمامعليه‌السلام ، وعلى كثير من الأحداث التي اكتنفت ذلك الحدث التاريخي الهام.

وإننا حتى لو سلمنا جدلاً، وغضضنا النظر عن كل تلك الأسئلة، وعلامات الاستفهام التي يمكن استخلاصها مما تقدم.. فإننا لا نستطيع ـ مع ذلك ـ أن نعتبر البيعة صادرة عن حسن نية، وسلامة طوية.

٣١١

ولا أن نقبل بالتوجيهات الراضية عن تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وبعدها تجاه الإمام، الذي كان يكبر المأمون بـ (٢٢‍) سنة، والذي كان مجبراً على قبول هذا الأمر، ومهددا بالقتل إن لم يقبل. ولم يتركه وشأنه ما دام أنه لا يريد أن يتقلد هذا الشرف الذي تتهافت النفوس عليه، وتزهق الأرواح من أجله.

نعم.. إننا لا نستطيع أن نسلم بذلك، ونحن نرى منه تلك التصرفات والمواقف المشبوهة، بل والمفضوحة تجاه الإمامعليه‌السلام ، والتي لا تبقي مجالاً للشك في حقيقة نواياه وأهدافه من كل ما أقدم وما كان عاقداً العزم على الإقدام عليه..

وهذا الفصل معقود للحديث عن بعض تلك التصرفات، ومن أجل بيان تلك الخطط.

المأمون يفضح نفسه:

وقد تعجب إذا قلنا لك: إن المأمون نفسه يصرح ببعض خططه، التي كانت تصرفاته تدور في فلكها، ويعلن بعض الدوافع، ويبوح ببعض النوايا تجاه الإمام، وبالنسبة لقضية ولاية العهد فإليك ما أجاب به حميد بن مهران، وجمعاً من العباسيين، عندما عاتبوه ولاموه على ما أقدم عليه، من البيعة للرضاعليه‌السلام يقول المأمون:

(.. قد كان هذا الرجل مستتراً عنا، يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به بأنه ليس مما ادعى في قليل ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.

وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال: أن ينفتق علينا منه ما لا نسده، ويأتي علينا ما لا نطيقه..

والآن.. فإذ قد فعلنا به ما فعلنا، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا. وأشرفنا من الهلاك بالتنويه باسمه على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره. ولكننا نحتاج إلى أن نضع منه قليلاً، قليلاً، حتى نصوره عند الرعية بصورة من لا يستحق هذا الأمر، ثم ندبر فيه بما يحسم عنا مواد بلائه..).

ثم طلب منه حميد بن مهران: أن يسمح له بمجادلة الإمامعليه‌السلام ، ليفحمه، وينزله منزلته، ويبين للناس قصوره، وعجزه، فقال المأمون: (لا شيء أحب إلي من هذا).

٣١٢

ثم كانت النتيجة عكس ما كان يتوقعه المأمون والعباسيون، وأشياعهم وباءوا كلهم بالفشل الذريع، والخيبة القاتلة(١) .

والذي يعنينا الحديث عنه هنا:

هو قوله: وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال.. إلى آخر ما نقلناه عنه آنفاً، فإنها أوضحت أن المأمون الذي كان يخشى الإمام خشية شديدة، كان يخطط أولاً إلى أخذ زمام المبادرة من الإمام، وتحاشي الاصطدام معه ثم كان يخطط بعد ذلك إلى الوضع منهعليه‌السلام قليلاً قليلاً إلى آخر ما تقدم..

ولا يرد: أن كلام المأمون مع حميد بن مهران ظاهره: أنه لم يكن يريد في بادئ الأمر الحط من الإمامعليه‌السلام ، وإنما بدا له ذلك حين قوي مركز الإمامعليه‌السلام ، واستحكم أمره.. لا يرد ذلك..

لأن كلامه هذا لا ينفي أنه كان يريد من أول الأمر ذلك. بل هو يؤكد ذلك. لأنه يصرح فيه: أنه إنما قدم على ما أقدم عليه، عندما رأى افتتان الناس بهعليه‌السلام ، فأراد أن يعمل عملا يفقد الإمامعليه‌السلام مركزه، ويقضي على كل نشاطاته، ويذهب بماله من القدرة والنفوذ نهائياً، وإلى الأبد.

ولقد تحدثنا فيما سبق عن بعض تصرفاته التي تدور في فلك خطط تلك مثل: فرضه للرقابة على الإمامعليه‌السلام ، والتضييق عليه، فلا يصل إليه إلا من أحب، وعزله عن شيعته ومواليه، وأيضاً تفريقه الناس عنه، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وكذلك قضية صلاة العيد، وغير ذلك ما تقدم.

____________

(١) راجع: شرح ميمية أبي فراس ص ١٩٦، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٧٠، والبحار ج ٤٩ ص ١٨٣، ومسند الإمام الرضا ج ٢ ص ٩٦.

٣١٣

نزيد هنا بعض الأمور الأخرى، التي وإن كان قد سبق الحديث عن بعضها، ولكنه كان حديثا من زاوية أخرى، ومن أجل استفادة أمور غير الأمور التي نحاول استفادتها منها هنا. وذلك أمر طبيعي، ولا يكون تكراراً ما دام أن الواقعة الواحدة قد يكون لها دلالات متعددة، وإفادات مختلفة.. ولذا فإننا نقول:

لماذا على البصرة فالأهواز:

إن من جملة الأمور التي كانت من جملة خطط المأمون للتأثير على مكانة الإمامعليه‌السلام وحتى على معنوياته النفسية.. الطريق الذي أمر رجاء ابن أبي الضحاك(١) قرابة الفضل بن سهل، والذي كان من قواد المأمون، وولاته ـ أمره ـ بسلوكه، عندما أرسله ليأتي بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو مهما كلفه الأمر..

فقد أمره: أن يجعل طريقه بالإمام (على البصرة، والأهواز، ففارس. وحذره كثيراً من المرور على طريق الكوفة، والجبل، وقم)(٢) .

____________

(١) وذكر أبو الفرج، والمفيد: أن المرسل هو الجلودي، ولكن الصحيح هو الذي ذكرناه.. إذ من الخطأ أن يرسله المأمون لإحضار الرضاعليه‌السلام ، لأن ذلك يضر بقضيته، ويفسد عليه ما كان دبره، لأنه موجب لسوء ظن الرضاعليه‌السلام ، والعلويين، وسائر الناس، وتنبههم مبكرا لحقيقة الأمر، وواقع القضية.

وذلك لأن الجلودي هو الذي أمره الرشيد: أن يغير على دور آل أبي طالب، ويسلب نساءهم إلخ ما تقدم.. كما أنه كان عدواً متجاهراً للإمامعليه‌السلام ، وقد سجنه المأمون بسبب معارضته للبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد! ولعل سر خطأهم هو أن الجلودي كان والياً على المدينة من قبل المأمون، حين استقدام المأمون للإمام إلى مرو، حسبما جاء في كتاب: الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٣٥.

(٢) تهذيب التهذيب ج ٧ ص ٣٨٧، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٧٦، وينابيع المودة ص ٣٨٤، والخرائج والجرائح طبعة حجرية ص ٢٣٦. وإثبات الوصية ص ٢٠٥.

وإعلام الورى ص ٣٢٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩، ١٨٠، والكافي ج ١ ص ٤٨٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٤٠ والبحار ج ٤٩ ص ٩١، ٩٢ ١١٨ و ١٣٤، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٥، وغير ذلك كثير.

٣١٤

بل لقد ورد: أن المأمون قد كتب إلى الرضا نفسه، يقول له: (لا تأخذ على طريق الجبل وقم. وخذ على طريق البصرة، فالأهواز، ففارس..)(١) .

وسر ذلك واضح، فإن أهل الكوفة، وقم، كانوا معروفين بالتشيع للعلويين(٢) وأهل البيت، ومرور الإمام عليه‌السلام من هذين البلدين، وخصوصاً الكوفة، التي كانت تعتبر من المراكز الحساسة جداً في الدولة.. سوف يكون من نتيجته: أن يستقبله أهلها بما يليق بشأنه: من الإجلال، والإعزاز والتكريم.

____________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ٤٨٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩ و ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٤، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٧٣، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٤.

(٢) تشيع أهل الكوفة وقم أشهر من أن يحتاج إلى بيان، أو إقامة برهان.. لكننا نورد ـ مع ذلك ـ بعض الشواهد، تبصرة للقارئ، فنقول: أما الكوفة: فقد تقدم قول محمد بن علي العباسي أنها وسوادها شيعة علي وولده.. وفي الطبري، وابن الأثير، وغيرهما تجد قول عبد الله بن علي للمنصور، عندما استشاره في أمر محمد بن عبد الله بن الحسن: (.. ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة، فاجثم على أكتافهم، فإنهم شيعة أهل هذا البيت، وأنصاره الخ)، وفي قضية وفاة السيد الحميري، التي ذكرها المرزباني في كتابه أخبار السيد الحميري دلالة واضحة على تشيع الكوفيين، وانحراف البصريين..

ولأجل ذلك نرى المأمون يستقبل وفدا من أهل الكوفة في منتهى الغلظة والجفاء، فراجع مروج الذهب ج ٣ ص ٤٢١. وفي البداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣: أن المنصور قد اعترف بأن لإبراهيم بن عبد الله بن الحسن في الكوفة مئة ألف سيف مغمدة، وأعرب عن مخاوفه من تشيع أهل الكوفة للعلويين، وولائهم لهم.. بل إننا لا نستبعد أن يكون بناء المنصور لبغداد هو من أجل أن يبتعد عن الكوفة، وأهلها، ويأمن على نفسه، قال البلاذري في فتوح البلدان ص ٤٠٥: (أخذ المنصور أهل الكوفة بحفر خندقها. وألزم كل امرئ للنفقة عليه أربعين درهما. وكان ذاما لهم. لميلهم إلى الطالبيين، وإرجافهم بالسلطان..) وقد تقدم أنه عندما ذهب إليهم العباس بن موسى، أخو الإمام الرضاعليه‌السلام يدعوهم للبيعة، لم يجبه إلا البعض منهم، وقال له آخرون: (إن كنت تدعو للمأمون، ثم من بعده لأخيك، فلا حاجة لنا في دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك، أو بعض أهل بيتك، أو إلى نفسك أجبناك..).

وعلى كل حال.. فقد كانت الكوفة مصدرا لثورات كثيرة على الأمويين والعباسيين على حد سواء، تلك الثورات التي كانت كلها تقريباً بقيادة علوي، أو داعية إلى علوي..

ولم ينس المأمون بعد ثورة أبي السرايا التي كادت تغير الموازين، وتقلب مجريات الأحداث.. إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه. =

٣١٥

= وأما تشيع القميين، فذلك أعرف وأشهر. وقضيتهم مع جبة دعبل التي أهداه إياه الإمام لا يكاد يجهلها أحد. وعندما طلب المأمون من الريان أن يحدث بفضائل عليعليه‌السلام ، وأجاب بأنه لا يحسن شيئاً، قال المأمون: (سبحان الله! ما أجد أحداً يعينني على هذا الأمر لقد هممت أن أجعل أهل قم شعاري ودثاري).

ولعل تشيع أهل قم هذا هو الذي دفع بالمأمون لأن يوجه إليهم عامله علي بن هشام، لينكل بهم، ويحاربهم حتى يهزمهم، ويدخل البلد، ويهدم سورها، ويجعل على أهلها مبلغ سبعة ملايين درهم، بدلا من مليونين، وهو ما لم يكن يدفعه أي بلد آخر يضاهي بلدهم في عدد السكان وغير ذلك من المميزات، فكيف بالسبعة.. ومع أنه كان قد خفض الخراج عن السواد، وبعد البلدان الأخرى، فلما سمعوا بذلك طالبوا بتخفيض الخراج عنهم أيضاً، ففعل ذلك.. وكان تخفيضه عنهم بزيادة المليونين إلى سبعة، كما قلنا.. راجع في تفصيل ذلك: الطبري ج ١١ ص ١٠٩٣، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٢١٢، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٥٥، والنجوم الزاهرة ج ٢ ص، ١٩٠ وتاريخ التمدن الإسلامي مجلد ١ جزء ٢ ص ٣٣٧، وفتوح البلدان للبلاذري ص ٤٤٠، وتجارب الأمم ج ٦ ص ٤٦٠.

٣١٦

ولا شك أن الإمامعليه‌السلام سوف يستطيع أن يستقطب المزيد من الناس، ويؤثر عليهم بما حباه الله من الفضائل والكمالات الأخلاقية، وبما آتاه الله من العلم والحكمة، والورع والتقوى، الذي سار ذكره في الآفاق، حتى لا يكاد يجهله أحد.. وإذا كان أهل نيشابور، بل وحتى أهل مرو، معقل العباسيين والمأمون، قد كان منهم تجاه الإمام ما لا يجهله أحد. حتى إنهم كانوا بين صارخ، وباك ومتمرغ في التراب إلخ.. وحتى لقد خاف المأمون وأشياعه على دمائهم ـ إذا كان هؤلاء هكذا ـ فكيف ترى سوف تكون حالة أهل الكوفة وقم، معقلي العلويين، والمحبين لأهل البيت، والمتفانين فيهم، لو أنهم رأوا الإمامعليه‌السلام بينهم، وبالقرب منهم..

يقول الراوندي في ذلك: (إن المأمون أمر رجاء بن أبي الضحاك: أن لا يمر بالإمام عن طريق الكوفة، لئلا يفتتن به أهلها..)(١) !.

والمأمون لا يريد أن يفتتن الناس بالإمام، وإنما الذي يريده هو عكس ذلك تماماً.. إنه يريد أن يضع من الإمام لا أن يرفع.

أما أهل البصرة: فعثمانية، يدينون بالكف، ويقولون: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل.. بل لقد كانت البصرة معقلاً مهما للعباسيين، الذين حرق دورهم زيد النار، ابن الإمام الكاظمعليه‌السلام ، كما قدمنا، ولهذا نلاحظ: أن دور البصريين في التشيع لم يكن يضارع دور غيرهم، لا روائياً، ولا كلامياً..

وأما ما ربما يحتمله البعض: من أن المأمون كان يأمل أن يخرج من البصرة، أو غيرها من يخلصه من الإمامعليه‌السلام نهائياً.. فلا أرى أنه يتفق مع أهداف وأغراض المأمون، التي كان يرمي إليها من وراء لعبته تلك..

____________

(١) الخرائج والجرائح، طبعة حجرية ص ٢٣٦.

٣١٧

الإمام يرفض كل مشاركة تعرض عليه:

إنه برغم شروط الإمام على المأمون، والتي أشرنا إليها فيما سبق، فإننا نرى المأمون كل مدة يحاول أن يجري اختبارا للإمام، ليعرف حقيقة نواياه، وأنه هل أصبح له طمع بالخلافة، وطموح لها(١) ، ليعجل عليه بما يحسم عنه مواد بلائه.. أم لا. فكان يأتي كل مدة إليه، يطلب منه أن يولي فلانا، أو أن يعزل فلاناً، أو أن يصلي بالناس.. بل لقد طلب منه بعد مقتل الفضل أن يساعده في إدارة شؤون الخلافة(٢) بحجة أنه يعجز وحده أن يقوم بأعباء الحكم. ويدير دفة السلطان!

هذا.. إن لم نقل: أنه كان يريد من وراء ذلك: أن يجعل ذلك ذريعة للقضاء على الإمام، بحجة أنه نقض الشرط، وليكون بذلك قد قضى على العلويين جميعاً، وإلى الأبد.

أو على الأقل كان يريد بذلك: أن يوجد للإمام أعداء في الأوساط ذات القوة والنفوذ..

وأياً ما كانت نوايا المأمون وأهدافه، فإن الإمامعليه‌السلام كان يرفض ذلك كله بكل عزم وإصرار، ويذكره بالشروط تلك، ويقول له:((إن وفيت لي وفيت لك)) . وهذا تهديد صريح له من الإمامعليه‌السلام . ولا نعجب كثيراً ـ بعد أن اتضحت لنا نوايا المأمون وأهدافه ـ إذا رأينا المأمون يتحمل هذا التهديد، بل ويخضع له، ويقول: (بل أفي لك)!.

وهكذا.. فقد كان الإمامعليه‌السلام يضيع على المأمون ما كان يحسب أنه فرصة مؤاتية له، ولا يمكنه من معرفة ما يريد معرفته، ولا من تنفيذ ما يريد تنفيذه.

____________

(١) وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد رأينا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، يسأل ابن عباس عن عليعليه‌السلام : إن كان لا يزال يطمح إلى الخلافة، ويأمل فيها.. أم لا!.

(٢) الكافي ج ٨ ص ١٥١، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٨ و ٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٤ و ١٦٦ و ١٦٧ والبحار ج ٤٩ ص ١٤٤ و ١٥٥ و ١٧١، وغير ذلك.

٣١٨

الاختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام :

كما أنه كان كل مدة يقوم بعملية اختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام ، ولمدى ما يتمتع به من تأييد في الأوساط الشعبية، ليعرف إن كان أصبحعليه‌السلام يشكل خطراً حقيقياً، ليعجل بالقضاء عليه أم لا.. فكان كل مدة يكلفه بأن يؤم الناس بالصلاة للعيد. أو ما شاكل.. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى ما يعتمر قلب المأمون من الخوف والخشية منهعليه‌السلام . (راجع: السبب الثالث من فصل البيعة، والموقف العاشر في فصل: خطة الإمامعليه‌السلام ).

سؤال.. وجوابه:

ولعلك تقول: إذا كان المأمون يخشى الإمامعليه‌السلام إلى هذا الحد، لما يعلمه من نفوذه ومكانته، فلماذا لا يتخلص منه بذلك الأسلوب التقليدي الذي انتهجه أسلافه من الأمويين، والعباسيين، وتبعهم عليه هو فيما بعد، وكذلك من أتى بعده.. وذلك بأن يدس إليه شربة من السم، وهو في المدينة، من دون أن يحتاج إلى اشخاصه إلى مرو، والبيعة له بولاية العهد، وتزويجه ابنته، إلى غير ذلك من الأمور التي من شأنها أن تعزز من مركز الإمام، وترفع من شأنه، وتوجه إليه الأنظار والقلوب، حتى يضطر في نهاية الأمر لأن يعود إلى ما جرت عليه عادة أسلافه، وأتباعه..

ولكن الجواب على هذا قد اتضح مما قدمناه، فإن المأمون لم يكن يريد في بادئ الأمر موت الإمام، ولا كان يستطيع أن يفعل ذلك.

ولو أن ذلك كان قد حدث لوقع المأمون في ورطة، لها أول وليس لها آخر، حيث إنه كان بأمس الحاجة إلى حياة الإمامعليه‌السلام ، وذلك لما قدمناه من الأسباب والظروف التي كانت تحتم على المأمون أن يلعب لعبته تلك، التي وإن كانت تنطوي على مخاطرة جريئة، إلا أنه كان ـ كما قدمنا ـ قد رسم الخطة، وأحكم التدبير للتخلص من الإمامعليه‌السلام بمجرد أن يحقق مآربه، وأهدافه، بالطريقة التي لا تثير شك أحد، ولا توجب تهمة أحد، وقد حدث ذلك بالفعل، كما سيمر علينا..

وأما كتمه لفضائل الإمامعليه‌السلام :

ومن جملة الأمور التي كانت تدور في فلك خطة المأمون، التي لخصها بأنه يريد الوضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ محاولاته كتم فضائل الإمامعليه‌السلام ومزاياه عن الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً..

٣١٩

وقد تقدم: أنه عندما سأل رجاء بن أبي الضحاك، الذي تولى إشخاص الرضاعليه‌السلام من المدينة إلى مرو، عن حال الرضاعليه‌السلام في الطريق، فأخبره عما شاهده من عبادتهعليه‌السلام ، وزهده وتقواه، وما ظهر له من الدلائل والبراهين، قال له المأمون: (.. بلى يا ابن أبي الضحاك، هذا خير أهل الأرض، وأعلمهم، وأعبدهم، فلا تخبر أحداً بما شهدت منه، لئلا يظهر فضله إلا على لساني..)!.

وهكذا: فإن المأمون وإن استطاع أن يمرر الكثير، إلا أنه لم يكن يجد بداً في كثير من الأحيان من أن يظهر على حقيقته وواقعه. وهذا هو أحد تلك المواقف التي مرت وسيمر معنا بعضها، والتي اضطر فيها المأمون لأن يكشف عن وجهه الحقيقي،.. وإن كان قد حاول ـ مع ذلك ـ أن يتستر بما لا يسمن ولا يغني من جوع.

ولا أعتقد أن المأمون كان يجهل: أن ما يأتي به لم يكن لينطلي كله على أعين الناس، بل كان يعلم ذلك حق العلم، ولكن كما يقولون: (الغريق يتشبث بالطحلب).

ولكن.. بالرغم من محاولات المأمون تلك.. فإننا نرى أن فضائل الإمام ومزاياه كانت كالعرف الطيب، لم تزل تظهر، وتنتشر وتذاع.. بل ولعل محاولات المأمون تلك التي كانت ترمي للحط من الإمام وإسقاطه، قد أسهمت كثيراً وساعدت على إظهار فضائله، وشيوعها، كما سيتضح.

الشائعات الكاذبة!

وكان بالإضافة إلى ما تقدم يحاول ترويج شائعات كاذبة، من شأنها أن تنفر الناس من العلويين عامة، ومن الإمامعليه‌السلام ، وسائر الأئمةعليهم‌السلام خاصة.

فهذا أبو الصلت يسأل الإمامعليه‌السلام فيقول: (يا ابن رسول الله، ما شيء يحكيه الناس عنكم؟!.

قالعليه‌السلام :((ما هو؟!.

قال: يقولون: إنكم تدعون: أن الناس لكم عبيد!.

قالعليه‌السلام :يا عبد السلام، إذا كان الناس كلهم عبيدنا ـ على ما حكوه ـ فممن نبيعهم)) ؟! إلخ(١) .

____________

(١) مسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٥، والبحار ج ٤٩ ص ١٧٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٨٤.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592