الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177336 / تحميل: 5797
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

٦١

ورد في كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الإيمان )(١) ثلاث حكايات وقعت ببركة صاحب المقام عجل الله تعالى فرجه الشريففي القرن الثامن الهجري ، لم تقتري الحكاية الأولى بتاريخ لكن الحكايتين التاليتين ورد فيهما تاريخ صريح ، فلنورد الحكاية الأولى ثم الثانية والثالثة تباعاً

وقبل أن ننقل الحكايات الثلاث ، تذكر ترجمة صاحب الكتاب ، وثناء العلماء عليه حتى يتبين لنا صدقه في النقل.

أقول : إن مؤلف كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الإيمان ) ، هو السيد بهاء الدين علي ابن السيد غياث الدين عبد الكريم بن عبد الحميد بن عبد الله بن أحمد بن حسن بن علي بن محمد بن علي غياث الدين(٢) ابن السيد جلال الدين عبد الحميد(٣) بن عبد الله بن أسامة(٤) بن أحمد بن علي بن محمد بن عمر(٥) بن يحيى ( القائم

__________________

١ ـ نقلاً عن بحار الأنوار / للعلامة المجلسي ( أعلى الله مقامه ).

٢ ـ الذي خرج عليه جماعة من العرب بشط سوراء بالعراق وحملوا عليه وسلبوه فمانعهم عن سلب سراويله فضربه أحدهم فقتله وكان عالماً تقياً.

٣ ـ الذي يروي عنه محمد بن جعفر المشهدي في المزار الكبير وقال فيه : أخبرني السيد الأجل العالم عبد الحميد بن التقي عبد الله بن أسامة العلوي الحسيني رَضيَ اللهُ عَنه في ذي القعدة نم سنة ثمانين وخمسمائة قراءة عليه بحلة الجامعين.

٤ ـ متولّي النقابة بالعراق.

٥ ـ الوئيس الجليل الذي رد الله على يده الحجر الأسود لما نهبت القرامطة مكة في سنة

٦٢

٦٣

بالكوفة ) ابن الحسين ( النقيب الطاهر ابن أبي عاتقة أحمد الشاعر المحدث ) ابن أبي علي عمر بن أبي الحسين يحيى(١) ابن أبي عاتقة الزاهد العابد الحسين(٢) بن زيد الشهيد ابن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب: النيلي(٣) النجفي النسابة.

وهو من مشايخ العلامة أبي العباس أحمد بن فهد المجاز منه في ٧٩١ هـ أدرك أواخر عهد فخر المحققين تـ ٧٧١ هـ والسيدين العلمين عميد الدين وضياء الدين والشهيد محمد بن مكي العاملي ويروي عنهم جميعاً ، كما يروي عن الشيخ المقريء والحافظ شمس الدين محمد بن قارون وغيرهم.

وأما كتابه هذا فقد نقل عنه الشيخ حسن ين سليمان الحلي ( من علماء القرن التاسع ) في كتابه ( مختصر بصائر الدرجات ) ص ١٧٦ ، والعلامة المجلسي; في ( بحار الأنوار ) ، والميرزا الافندي; في ( رياض العلماء ) والبهبهاني; في ( الدمعة الساكبة ).

__________________

ثلاث وعشرين وثلاثمائة وأخذوا الحجر وأتو به إلى الكوفة وعلقوه في السارية السابعة من المسجد التي كان ذكرها أمير المؤمنين7 فإنه قال ذات يوم بالكوفة : لا بد أن يسلب في هذه السارية وأومى إلى السارية السابعة والقصة طويلة وبنى قبة جده أمير المؤمنين7 من خالص ماله.

١ ـ من أصحاب الكاظم7 المقتول سنة خمسين ومثتين الذي حمل رأسه في قوصرة إلى المستعين.

٢ ـ الملقب بذي الدمعة الذي رباه الإمام الصادق7 وأورثه علماً جمّا.

٣ ـ النيل : بلدة تقع على نهر النيل ، وهو يتفرع من نهر الفرات العظمى احتفره الحجاج بن يوسف الثقفي سنة ٨٢ هـ وهي مركز الإمارة المزيدية قبل تأسيس الحلة.

٦٤

ويظهر من بعض حكايات الكتاب أن تاريخ كتابته سنة ٧٨٩ هـ(١) وللسيد هذا كتب أخرى لا أرى بايراد أسمائها هنا بأساً :

أ ـ كتاب الأنوار المضيّة في الحكم الشرعية.

ب ـ كتاب الغيبة.

جـ ـ كتاب الدر النضيد في تعازي الحسين الشهيد.

د ـ سرور أهل الإيمان.

هـ ـ كتاب الانحراف من كلام صاحب الكشاف.

و ـ كتاب الأنصاف في الرد على صاحب الكشاف.

ز ـ كتاب شرح المصباح للشيخ الطوسي.

ي ـ كتاب الرجال ( ينسب اليه ).

في الثناء عليه :

قال تلميذه ابن فهد الحلي; تـ ٨٤١ هـ : حدثني المولى السيد السعيد الإمام بهاء الدين

وقال تلميذه الشيخ حسن بن سليمان الحلي; : ومما رواه لي ورويته عنه السيد الجليل السعيد الموفق الموثق بهاء الدين

وقال العلامة المجلسي; : السيد النقيب الحسيب بهاء الدين

وقال الميرزا الافندي; : السيد المرتضى النقيب الحسيب

__________________

١ ـ وللاسف الشديد ان هذا الكتاب لم يطبع إلى الآن برغم وجود نسخه الخطية في المكتبات العامة فمن قلمنا هذا ندعو مؤسسات النشر والتأليف إلى اخراجه للطبع وطبع كتب هذا السيد الجليل وتحقيقها خدمة للمذهب الإمامي واحياءً لآثار هذا السيد الجليل.

٦٥

النسابة الكامل السعيد الفقيه الشاعر الماهر العالم الفاضل الكامل صاحب المقامات والكرامات العظيمة قدس الله روحه الشريفة كان من أفاضل عصره وقال الميرزا النوري; : السيد الأجل الأكمل الارشد المؤيد العلامة النحرير ،(١) كان حياً سنة ٨٠٠ هـ

الحكاية الأولى :

حكاية أبي راجح الحمامي الشيخ الذي أصبح شاباً

نقل العلامة المجلسي ( ١٠٣٧ ـ ١١١١ هـ ) في بحار الانوار عن كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الايمان ) تأليف العامل الكامل السيد علي بن عبد الحميد النيلي النجفي ، انه قال : فمن ذلك ما اشتهر وذاع ، وملأ البقاع ، وشهد بالعيان أبناء الزمان ، وهو قصّة أبي راجح الحمامي بالحلة ، وقد حكى ذلك جماعة من الاعيان الاماثل ، وأهل الصدق الافاضل ، منهم الشيخ الزاهد العابد المحقق شمس الدين محمد بن قارون سلّمه الله تعالى قال :

كان الحاكم بالحلة شخصاً يدعى مرجان الصغير ، فرفع إليه أنّ أباراجح هذا يسبّ الصحابة ، فأحضره وأمر بضربه فضرب ضرباً شديداً مهلكاً على جميع بدنه ، حتى انه ضرب على وجهه فسقطت ثناياه ، وأخرج لسانه فجعل فيه مسلّة من الحديد ، وخرق النفه ، ووضع فيه شركة من الشعر وشدّ فيها حبلاً وسلمه الى جماعة من اصحابه ،

__________________

١ ـ انظر : رياض العلماء ج ٤ / ص ٨٨ و ١٢٤ ـ ١٣٠ ، خاتمة المستدرك ط ح ص ٤٣٥ ، سفينة البحار ج ٢ / ط. ح / ص ٢٤٨ الذريعة في أجزائها وطبقات أعلام الشيعة.

٦٦

وأمرهم أن يدوروا به أزقّة الحلة ، والضرب يأخذه من جميع جوانبه ، حتى سقط الى الارض وعاين الهلاك ، فأخبر الحاكم بذلك ، فأمر بقتله ، فقال الحاضرون انه شيخ كبير ، وقد حصل له ما يكفيه ، وهو ميّت لما به فاتر كه وهو يموت حتف أنفه ، ولا تتقلّد بدمه ، وبالغوا في ذلك حتى أمر بتخليته وقد انتفخ وجهه ولسانه ، فنقله أهله في البيت ولم يشكّ أحدّ أنه يموت من ليلته.

فلما كان من الغدغدا عليه الناس فاذا هو قائم يصلّي على أتم حالة ، وقد عادت ثناياه التي سقطت كما كانت ، واندملت جراحاته ، ولم يبق لها أثر ، والشجّة قد زالت من وجهه!

فعجب الناس من حاله وساءلوه عن أمره فقال : اني لما عاينت الموت ولم يبق لي لسان اسأل الله تعالى به فكنت اسأله بقلبي واستغثت الى سيدي ومولاي صاحب الزمان7 .

فلما جنّ عليّ الليل فاذا بالدار قد امتلأت نوراً وإذا بمولاي صاحب الزمان7 قد أمرّ يده الشريفة على وجهي وقال لي : ( اخرج وكدّ على عيالك ، فقد عافاك الله تعالى ) فأصبحت كما ترون.

وحكى الشيخ شمس الدين محمد بن قارون المذكور قال :

وأقسم بالله تعالى إن هذا ابو راجح كان ضعيفاً جداً ، ضعيف التركيب ، اصفر اللون ، شين الوجه ، مقرض اللحية ، وكنت دائماً أدخل في الحمام الذي هو فيه ، وكنت دائماً أراه على هذه الحالة وهذا الشكل.

فلما أصبحت كنت ممن دخل عليه ، فرأيته وقد اشتدّت قوته وانتصبت قامته ، وطالت لحيته ، واحمر وجهه ، وعاد كأنّه ابن عشرين سنة ولم يزل على ذلك حتى أدر كته الوفاة.

٦٧

ولما شاع هذا الحبر وذاع ، طلبه الحاكم وأحضره عنده وقد كان رآه بالأمس على تلك الحالة ، وهو الان على ضدّها كما وصفناه ، ولم يرَ لجراحاته أثراً ، وثناياه قد عادت ، فداخل الحاكم في ذلك رعب عظيم ، وكان يجلس في مقام الأمام7 في الحلة ويعطي ظهره القبلة الشريفة ، فصار بعد ذلك يجلس ويستقبلها ، وعاد يتلطّف بأهل الحلة ، ويتجاوز عن مسيئهم ، ويحسن الى محسنهم ، ولم ينفعه ذلك بل لم يلبث في ذلك الا قليلاً حتى مات.(١)

أقول : روحي وأرواح العالمين لك الفداء.

إيه أيتها الجوهرة المحفوفة بالاسرار كم جهلناك وكم بخسناك حقك؟!

كم أغفلنا ذكرك وانشغلنا بغيرك كم سرحنا أفكارنا بعيداً عنك؟

أترك تعطف علينا اليوم بنظرة من تلك التي مننت بها على ذاك الرجل صاحب الحمام ( العمومي ) ، فتمسح قلوبنا بذاك الاكسير؟! فنحن في هذا الحمى.

بحث حول الحكاية :

أقول : إن هذه الحكاية مشهورة ومتواترة النقل في عصر المؤلف السيد بهاء الدين وتناقلها علماء الحلة ، انظر إلى قول السيد في بداية الحكاية ( فمن ذلك ما اشتهر وذاع وملأ البقاع وشهد بالعيان أبناء الزمان وقد حكى ذلك جماعة من الأعيان الأماثل وأهل الصدق الأفاضل ).

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧١ ؛ النجم الثاقب ج ٢ / ص ٢١٩.

٦٨

في أحوال راوي الحكاية وعصرها :

أقول : إن راوي الحكاية هو شمس الدين محمد بن قارون الذي لم أجد له ترجمة في كتب الرجال ، فللفائدة والاستدراك على الكتب الرجالية نذكر ترجمته :

قال السيد بهاء الدين : انه من الأعيان وأهل الصدق الأفاضل ، وقال عنه أيضاً الشيخ الزاهد العابد المحقق شمس الدين محمد بن قارون ،(١) المحترم العامل الفاضل(٢) الشيخ العالم الكامل القدوة المقري الحافظ المحمود المعتمرشمس الحق والدين محمد بن قارون.(٣)

وكما قال عنه الشيخ شمس الدين محمد بن قارون السيبي ،(٤) وكما وصفه أيضاً الشيخ عز الدين حسن بن عبد الله بن حسن التغلبي بـ ( الشيخ الصالح محمد بن قارون ) ،(٥) كان حياً سنة ٧٥٩ هـ

فهو يعد من مشايخ السيد بهاء الدين ، يعني أن شمس الدين كان بالقطع مععاصراً للشهيد الأول ( ٧٣٤ ـ ٧٨٦ هـ ) فاذن وجود شمس الدين محمد بن قارون في بداية القرن الثامن الهجري حياً وروايته لهذه الحكاية ، يدل على أن الحكاية وقعت في النصف الأول من هذا

__________________

١ ـ انظر : بحار الأنوار / المجلسي; ، ج ٥٢ / ص ٧١.

٢ ـ انظر : المصدر السابق ص ٧٢.

٣ ـ انظر : جنة المأوى / النوري; ص ٢٠٢.

٤ ـ نسبة إلى ( السيب ) بكسر أوله وسكون ثانيه ، وهو نهر في ذنابة الفرات بقرب الحلة ، وعليه بلد يسمى باسمه.

٥ ـ كتاب الدر النضيد في تعازي الحسين الشهيد نقلا عن رياض العلماء ج ٢ / ص ١١.

٦٩

القرن السالف الذكر والدليل على ذلك الحكاية الثانية التالية والتي يرويها أيضا شمس الدين محمد بن قارون والحاصلة في سنة ٧٤٤ هـ

وهو غير الشيخ الفقيه الصالح شمس الدين محمد بن أحمد بن صالح السيبي القسيني ، تلميذ السيد فخار بن معد الموسوي المجاز منه سنة ٦٣٠ هـ ( وهي سنة وفاة السيد فخار ) وهو صغير لم يبلغ الحلم وأجازه الشيخ والده أحمد سنة ٦٣٥ هـ وأجازه الشيخ محمد بن أبي البركات اليماني الصنعاني سنة ٦٣٦ هـ والمجيز لنجم الدين طومان بن أحمد العاملي سنة ٧٢٨ هـ فإن هذا الشيخ متقدم على الشيخ شمس الدين محمد بن قارون السيبي.(١)

تنبيه لكل نبيه :

قال ابن بطوطة في رحلته ( سافرنا من البصرة فوصلنا إلى مشهد علي ابن ابي طالب رَضي اللهُ عَنه وزرنا ، ثم توجهنا إلى الكوفة فزرنا مسجدها المبارك ثم إلى الحلة حيث مشهد صاحب الزمان واتفق في بعض الأيام أن وليها بعض الامراء فمنع أهلها من التوجه على عادتهم الى مسجد صاحب الزمان وانتظاره هنالك ومنع عنهم الدابة التي كانوا يأخذونها كل ليلة من الأمير فأصابت ذلك الوالي علة مات منها سريعاً فزاد ذلك في فتنة الرافضة وقالوا انما أصابه ذلك لأجل منعه الابة فلم تمنع بعد ).(٢)

أقول : ان كلام ابن بطوطة المتقدم آنفاً هو في زيارته الثانية للحلة ، فابن بطوطة مرَّ في الحلة مرتين الأولى كانت سنة ٧٢٥ هـ في عهد الوالي ( حسن

__________________

١ ـ انظر : الذريعة إلى تصانيف الشيعة / الطهراني; ج ١ / ص ٢٢٩ و ٢٢٠.

٢ ـ انظر : رحلة ابن بطوطة ج ٢ / ص ١٧٤.

٧٠

الجلايري ) والثانية بعد عودته من بلاد الهند والصين والتتر وبينهما عدة سنين ، وأظن ان الوالي المذكور في حكاية أبي راجح الحمامي والمذكور في زيارة ابن بطوطة الثانية واحد باعتبار أن عصر الحكايتين واحد وان الوالي المذكور في الحكايتين كان يؤذي أهل الحلة ( فالأمر ليس أمر انتظار صاحب الزمان ولا أمر الدابة ) ، وقد مات بفعله هذا ، وهذا عن أهل الحلة ليس ببعيد ففيهم بقول أمير المؤمنين7 : ( يظهر بها قوم أخيار لو أقسم أحدهم على الله لأبرقسمه ).(١)

الحكاية الثانية :

حكاية ابن الخطيب وعثمان والمرأة العمياء التي أبصرت

ونقل من ذلك الكتاب عن الشيخ المحترم العامل الفاضل شمس الدين محمد بن قارون المذكور قال :

كان من أصحاب السلاطين المعمر بن شمس يسمى مذوّر ، يضمن القرية المعروفة ببرس ، ووقف العلويين ، وكان له نائب يقال له : ابن الخطيب وغلام يتولّى نفقاته يدعى عثمان ، وكان ابن الخطيب من أهل الصلاح والايمان بالضدّ من عثمان وكانا دائماً يتجادلان ، فاتفق انهما حضرا في مقام ابراهيم الخليل7 بمحضر جماعة من الرّعيّة والعوام فقال ابن الخطيب لعثمان : يا عثمان الان اتضح الحق واستبان ، أنا أكتب على يديّ من أتولاه ، وهم علي والحسي والحسين ، واكتب أنت من تتولاه ابوبكر وعمر وعثمان ، ثم تشدّ يديّ ويدك ، فأيّهما احترقت يده بالنار كان على الباطل ، ومن سلمت يده كان على الحق ، فنكل عثمان ، وأبى أن يفعل ، فأخذ الحاضرون من الرّعيّة

____________

١ ـ انظر : بحار الأنوار المجلسي; ج ٦ / ص ١٢٢.

٧١

والعوان بالعياط عليه ، هذا وكانت ام عثمان مشرفة عليهم تسمع كلامهم فلمّا رأت ذلك لعنت الحضور الذين كانوا يعيّطون على ولدها عثمان وشتمتهم وتهدّدت وبالغت في ذلك فعميت في الحال! فلما أحست بذلك نادت الى رفقائها فصعدن اليها فاذا هي صحيحة العينين! لكن لاترى شيئاً ، فقادوها وأنزلوها ، ومضوا بها الى الحلة وشاع خبرها بين الصحابها وقرائبها وترائبها ، فاحضروا لها الاطباء من بغداد والحلة ، فلم يقدروا لها على شيء ، فقال لها نسوة مؤمنات كنّ أخدانها : ان الذي أعماكِ هو القائم7 فأن تشيعتي وتولّيتي وتبرأتي ( كذا )(١) ضمنّا لك العافية على الله تعالى ، وبدون هذا لا يمكنك الخلاص ، فأذعنت لذلك ورضنبت به ، فلما كانت ليلة الجمعة حملنها حتى أدخلنها القبة الشريفة في مقام صاحب الزمان7 وبتن بأجمعهنّ في باب القبة ، فلما كان ربع الليل فاذا هي قد خرجت عليهنّ وقد ذهب العمى عنها! وهي تقعدهنّ واحدة بعد واحدة وتصف ثيابهنّ وحليَهنَ ، فسررن بذلك ، وحمدنَ الله تعالى على حسن العافية ، وقلن لها : كيف كان ذلك؟! فقالت : لما جعلتنني في القبة وخرجتنّ عني أحسست بيد قد وضعت على يديّ ، وقائل يقول : اخرجي قد عافاك الله تعالى. فانكشف العمى عني ورأيت القبة قد امتلات ونوراً ورأيت الرجل ، فقلت له : من أنت يا سيدي؟ فقال : محمد بن الحسن ، ثم غاب عني ، فقمنَ وخرجنَ الى بيوتهنّ وتشيّع ولدها عثمان وحسن اعتقاده واعتقاد أمه المذكورة ، واشتهرت القصة بين أولئك الأقوام ومن سمع هذا الكلام واعتقد وجود الأمام7 وكان ذلك في سنة أربع واربعين وسبعمائة.(٢)

__________________

١ ـ كذا ورد في المطبوع والاصح ( تشيعتِ وتوليتِ وتبرأتِ ).

٢ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧٢ ؛ النجم الثاقب ج ٢ / ص ٢٢٠.

٧٢

أقول : حدثت هذه الكرامة سنة ( ٧٤٤ هـ / ١٣٢٣ م ) وراويها محمد بن قارون المتقدم ذكره وترجمته في الحكاية الأولى من هذا الباب.

وبرس : بضم الباء وسكون الراء والسين المهملة ناحية من ارض بابل وهي بحضرة الصرح ( صرح نمرود بن كنعان ) وهي الآن قرية معروفة بقبل الكوفة وينسب إليها الحافظ رجب البرسي; .

ومقام ابراهيم الخليل7 : موجود الى زماننا هذا ويقع بالحلة في تلك القرية ( تشرفت بزيارته انا عدة مرات ).

لحكاية الثالثة :

حكاية شفاء الشيخ جمال الدين الزهدري

وذكر هناك أيضاً : أي ( في كتاب السلطان المفرج عن أهل الايمان ).

ومن ذلك بتأريخ صفر سنة سبعمائة وتسع وخمسين حكي لي المولى الاجل الامجد العالم الفاضل ، القدوة الكامل ، المحقّق المدقّق ، مجمع الفضائل ومرجع الافاضل ، افتخار العلماء في العالمين ، كمال الملة والدين ، عبد الرحمن ابن العمّاني ( كذا ) ، وكتب بخطه الكريم ، عندي ما صورته :

قال العبد الفقير الى رحمة الله تعالى عبد الرحمن بن ابراهيم القبائقي :(١) اني كنت أسمع في الحلة السيفية حماها الله تعالى ان المولى الكبير المعظم جمال الدين ابن الشيخ الاجل الاوحد الفقيه القاريء نجم الدين جعفر ابن الزاهدري كان به فالج ، فعالجته جدّته لأبيه بعد موت أبيه بكل علاج للفالج فلم يبرأ ، فأشار عليها بعض

__________________

١ ـ هكذا ورد في الاصل والصحيح العتالقي.

٧٣

الاطباء ببغداد فأحضرتهم فعالجوه زماناً طويلاً فلم يبرأ ، وقيل لها :ألا تبيّتينه تحت القبة الشريفة بالحلة المعروفة بمقام صاحب الزمان 7 لعل الله تعالى يعافيه ويبرأه ، ففعلت وبيّتته تحتها وان صاحب الزمان7 أقامه وأزال عنه الفالج.

ثم بعد ذلك حصل بيني وبينه صحبة حتى كّنا لم نكد نفترق ، وكان له دار المعشرة ، يجتمع فيها وجوه أهل الحلة وشبابهم وأولاد الاماثل منهم ، فاستحكيته عن هذه الحكاية ، فقال لي :

إني كنت مفلوجاً وعجز الاطباء عني ، وحكى لي ما كنت اسمعه مستفاضاً في الحلة من قضيته وان الحجة صاحب الزمان7 قال لي : ( وقد أباتتني جدّتي تحت القبة ) :قم.

فقلت : ياسيدي لا أقدر على القيام منذ سنتي ، فقال :قم باذن الله تعالى وأعانني على القيام ، فقمت وزال عني الفالج ( أي شلل الاعضاء ).

وانطبق عليّ الناس حتى كادوا يقتلونني ، وأخذوا ما كان عليّ من الثياب تقطيعاً وتنتيفاً يتبرّكون فيها ، وكساني الناس من ثيابهم ، ورحت الى البيت ، وليس بيّ أثر الفالج ، وبعثت الى الناس ثيابهم ، وكنت أسمعه يحكي ذلك للناس ولمن يستحكيه مراراً حتى مات; .(١)

بحث حول الحكاية :

تاريخ الحكاية : أقول ، إنَّ تاريخ نقل هذه الحكاية هو سنة ( ٧٥٩ هـ ـ ١٢٣٨ م ).

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧٣.

٧٤

راوي الحكاية : الشيخ العالم الفاضل المحقق المدقق الفقيه المتبحر كمال الدين عبد الرحمن بن محمد بن ابراهيم ابن العتايقي(١) الحلي الامامي ، كان معاصرا للشهيد الاول; وبعض تلامذة العلامة الحلي; ، وقال البعض انه ادرك العلامة ، وتلمذ على يد نصير الدين علي بن محمد الكاشي تـ ٧٥٥ هـ ، وكان من مشايخ السيد بهاء الدين علي بن عبد الحميد النجفي ، وبروي عن جماعة منهم جمال الدين الزهدري ، توفى بعد سنة ٧٨٨ هـ التي الف فيها كتابه ( الارشاد في معرفة الابعاد ) وهو صاحب التصانيف الكثيرة والموجود بعضها في الخزانة الغروية ، ولا أرى بأماً بايراد اسمائها هنا فله كتاب ( شرح على نهج البلاغة ) وكتاب ( مختصر الجزء الثاني من كتاب الاوائل لأبي هلال العسكري ) وكتاب ( الاعمار ) وكتاب ( الاضداد في اللغة ) وكتاب ( الايضاح والتبيين في شرح منهاج اليقين ) وكتاب ( اختيار حقائق الخللفي دقائق الحيل ) وكتاب ( صفوة الصفوة ) وكتاب ( اختصار كتاب بطليموس ) وكتاب ( الشهدة في شرح معرف الزبدة ) وكتاب ( الايماقي ) وكتاب ( في التفسير وهو مختصر تفسير القمي ) وكتاب ( الارشاد ) و( الرسالة المفيدة لكل طالب مقدار ابعاد الافلاك والكواكب ) وله ( شرح على الجغميني ) وله ( شرح التلويح ) ، وغيرها من الكتب في شبى أنواع العلوم ، وللأسف الشديد ان كتبه لم تر النور.

_________________

١ ـ العتائقي نسبة الى العتائق قرية بقرب الحلة المزيدية ، وليس بالقبائقي كما في نسخ البحار المطبوعه فانه تصحيف ، كما اني لم ارَّ من الرجاليين من ذكرن بابن العماني بل المشهور انه ابن العتائقي ولعلها تصحيف ايضا او من خطأ النساخ.

٧٥

الى الآن مع كثرتها سوى كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) فمن قلمنا هذا ندعو دور النشر والتأليف لأخراج كتبه خدمة للمذهب الامامي واحياء لآثار هذا الشيخ الجليل ، وصرح جمع من العلماء كالسيد محسن الأمين; والشيخ عباس القمي; والشيخ اغا بزرك الطهراني بمشاهدة كتبه في الخزانة الغروبة وكتب أخرى لغيره بخط يده ذكر فيها نسبه وتأريخه من ( ٧٣٨ ـ ٧٨٨ هـ ).(١)

صاحب الحكاية : الشيخ جمال الدين بن نجم الدين جعفر الزهدري ، لم أجد له ذكراً في كتب الرجال وانما وقفت على ترجمة والده الاجل الشيخ جعفر الزهدري صاحب كتاب ( ايضاح ترددات الشرائع )(٢) ويظهر من ثناء ابن العتائقي عليهما ، عظيم منزلتهما وجلالتهما.

وبهذه الحكاية انتهى ما أردنا نقله من حكايات كتاب ( السلطان المفرج عن اهل الايمان ).

الحكاية الرابعة :

حكاية ابن ابي الجواد النعماني

قال العالم الفاضل المتبحّر النقّاد الآميرزا عبد الله الاصفهاني الشهير بالافندي في المجلد الخامس من كتاب ( رياض العلماء

__________________

١ ـ انظر : رياض العلماء ج ٣ / ص ١٠٣ ، سفينة البحار ط ج / ج ٢ / ص ١٥٧ ، كذلك الذريعة في اجزائها.

٢ ـ وقد طبع الكتاب في زماننا هذا بجهود العلامة الحجة السيد محمود المرعشي في قم المقدسة وقد رأيت نسخته المطبوعة.

٧٦

وحياض الفضلاء ) في ترجمة الشيخ ابن ابي الجواد النِّعماني(١) انه ممن رأى القائم7 في زمن الغيبة الكبرى ، وروى عنه7 ، ورأيت في بعض المواضع نقلاً عن خط الشيخ زين الدين علي بن الحسن بن محمد الخازن الحائري تلميذ الشهيد انه قد رأى ابن ابي جواد النعماني مولانا المهدي7 فقال له :

يا مولاي لك مقام بالنعمانية ومقام بالحلة ، فأين تكون فيهما؟

فقال له :أكون بالنعمانية ليلة الثلاثاء ويوم الثلاثاء ، ويوم الجمعة وليلة الجمعة أكون بالحلة ولكن أهل الحلة ما يتأدّبون في مقامي ، وما من رجل دخل مقامي بالأدب يتأدّب ويسلم عليّ وعلى الأئمة وصلّى عليّ وعليهم اثني عشر (٢) مرة ثم صلى ركعتين بسورتين ، وناجى الله بهما المناجاة إلاّ اعطاه تعالى ما يسأله احدها المغفرة.

فقلت : يا مولاي علمني ذلك.

فقال : قل« اللهم قد أخذ التأديب مني حتى مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ، وان كان ما اقترفته من الذنوب استحق به أضعاف أضعاف ما أدبتني به ، وأنت حليم ذو اناة تعفو عن كثير حتى يسبق عفوك ورحمتك عذابك » وكررها عليّ ثلاثاً حتى فهمتها(٣) .(٤)

__________________

١ ـ النعمانية : بليدة بناها النعمان بن المنذر وتقع بين واسط وبغداد في نصف الطريق على ضفة دجلة معدودة من اعمال الزاب الاعلى.

٢ ـ هكذا ورد في المطبوع والاصح اثنتي عشرة.

٣ ـ قال المؤلف; : يعني حفظتها.

٤ ـ انظر : النجم الثاقب / النوري; ج ٢ / ص ١٣٨.

٧٧

بحث حول الحكاية :

راوي الحكاية : زين الدين علي بن أبي محمد الحسن بن محمد الخازن الحائري ، تلميذ الشهيد الاول ( ٧٣٤ ـ ٧٨٦ هـ ) وقد أجازه الشهيد الاول سنة ٧٨٤ هـ وهو من مشايخ العلامة أبي العباس أحمد بن فهد الحلي ويروي عنه ، وأجازه في سنة ٧٩١ هـ ويعبر عنه بالشيخ علي الخازن الحائري ، وهو من علماء المائة الثامنة ، قال عنه الشهيد الاول; في إجازته له :

المولى الشيخ العالم التقي الورع المحصل العالم بأعباء العلوم الفائق أولي الفضائل والفهوم زين الدين أبو علي(١)

صاحب الحكاية : ابن أبي الجواد النعماني ، لم أجد له ترجمة في كتب الرجال ، سوى ما ترجمه ناقل الحكاية الافندي; في كتابه رياض العلماء الذي فقد معظم مجلداته ، ويظهر من راوي الحكاية الشيخ علي الخازن الذي هو من تلاميذ الشهيد الاول; أنَّ ابن ابي الجواد من طبقة الشهيد الاول ، أي من تلامذة العلامة الحلي; .

أقول : ولا يبعد اتحاده بالشيخ الفاضل العالم المتكلم عبد الواحد بن الصفي النعماني ، صاحب كتاب ( نهج السداد في شرح رسالة واجب الاعتقاد ) الذي نسبه اليه الكفعمي; في حواشي مصباحه ونؤيد ما قلناه آنفاً قول المتبحر الخيبر الافندي; في كتاب رياض العلماء ج ٣ ص ٢٧٩ قال : » وأظن أنه من تلامذة الشهيد أو تلامذة تلامذته « فلاحظ.

__________________

١ ـ انظر : رسائل الشهيد الاول ص ٣٠٤ وطبقات اعلام الشيعة للطهراني; .

٧٨

أقول : ومن خلال هذه الحكاية نستدل على شهرة المقام في ذلك القرن إذ الرجل من النعمانية ويسأله عن مقامه7 في الحلة ويستدل أيضاً على استحباب زيارة المقام الشريف في الحلة في ليلة الجمعة ويومها لوجود الإمام به ، وربما ينفي الزائر للمقام هذا الكلام ، فنقول له : إن الأمام عجل الله تعالى فرجه الشريف ليس بغائب ولكن هو غائب عمّن هو غائب عن الله.

وعلى أهل الحلة وغيرهم أن يتأدّبوا بمقامه جلّ التأدب ( فلا لاختلاط الرجال بالنساء في المصلى ، ولا لتبرج النساء ، ولا ) مما يصل الى سوء الادب بمحضر نائب الملك العلام ، فان أهل الحلة أشاد بهم أمير المؤمنين7 وأيّ إشادة ، فليكونوا دئاماً مصداق حديث مولاهم ومولاي علي بن أبي طالب7 .

فقد ذكر الشيخ عباس القمي في كتابه وقائع ايام ص (٣٠٢) :

روى أصبغ بن نباتة قال : صحبت مولاي أمير المؤمنين7 عند وروده صفين ، وقد وقف على تل ثم أومأالى أجمة ما بين بابل والتل قال :مدينة وأي مدينة.

فقلت له : يامولاي أراك تذكر مدينة أكان هناك مدينة وانمحت آثارُها؟ فقال7 : لا ولكن ستكون مدينة يقال لها الحلة ( السيفية ) يمدتها رجل من بني أسد يظهر بها قوم أخيار لو أقسم أحدهم على الله لأبرّ قسمه. (١)

* * *

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ، ٦ / ١٢٢ رواية ٥٥.

٧٩

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

تعالى على كلّ فرد ، وعلى كلّ شيء ، وهو يوم العدل والقانون والمحكمة الكبرى.

لكن ، ومن أجل أنّ لا يستغل مثل هؤلاء الأفراد هذا الصفح الجميل والعفو والتسامي ، فقد أضافت الآية :( لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .

لقد اعتبر بعض المفسّرين هذه الجملة تهديدا للكفار والمجرمين ، في حين أنّ البعض الآخر اعتبرها بشارة للمؤمنين لهذا العفو والصفح. لكن لا مانع من أن تكون تهديد لتلك الفئة من جانب ، وبشارة لهذه الجماعة من جانب آخر ، كما أشير إلى هذا المعنى في الآية التالية أيضا.

تقول الآية :( مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) .

إن هذا التعبير الذي ورد في القرآن الكريم مرارا ، وبعبارات مختلفة ، يشكل جوابا لمن يقول : ماذا يضر عصياننا الله تعالى ، وما تنفعه طاعتنا؟ ولماذا هذا الإصرار على طاعة وأوامره ، والانتهاء عن معاصيه؟

فتقول هذه الآيات : إنّ كلّ ضرر ذلك وكلّ نفعه يعود عليكم ، فأنتم الذين تسلكون مراقي الكمال في ظل الأعمال الصالحة ، وتحلقون إلى سماء قرب اللهعزوجل ، كما أنّكم أنتم الذين تهوون إلى الحضيض نتيجة ارتكابكم الآثام والمعاصي ، فتبتعدون عن اللهعزوجل وتستحقون بذلك اللعنة الأبدية.

إن كلّ أمور التكليف ، وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب تهدف إلى هذا المراد السامي ، ولذلك يقرر القرآن الحكيم( وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (١)

ويقول في موضع آخر :( فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ) (٢) ونقرأ في موضع ثالث :( وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ) (٣)

__________________

(١) لقمان ، الآية ١٢.

(٢) الزمر ، الآية ٤١.

(٣) فاطر ، الآية ١٨.

٢٠١

وخلاصة القول : إنّ أمثال هذه التعابير تبين حقيقة أنّ دعوة الداعين إلى الله سبحانه خدمة للبشر في جميع أبعادها ، وليست خدمة لله الغني عن كلّ شيء ، ولا لأنبيائه الذين أجرهم على الله فقط.

إنّ الانتباه إلى هذه الحقيقة يعدّ عاملا مهما في السير نحو طاعة الله سبحانه ، والابتعاد عن معصيته.

* * *

٢٠٢

الآيات

( وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) )

التّفسير

( آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ ) كل ذلك ، ولكن

متابعة للبحوث التي وردت في الآيات السابقة حول نعم الله المختلفة وشكرها والعمل الصالح ، تتناول هذه الآيات نموذجا من حياة بعض الأقوام الماضين

٢٠٣

الذين غمرتهم نعم الله سبحانه ، إلّا أنّهم كفروا بها ولم يرعوها حق رعايتها.

تقول الآية الأولى :( وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ) .

تبيّن هذه الآية في مجموعها خمس نعم أنعم الله بها على بني إسرائيل ، وبالإضافة إلى النعمة الأخرى التي سيأتي ذكرها في الآية التالية تشكل ست نعم عظيمة.

النعمة الأولى هي الكتاب السماوي ، أي التوراة التي كانت مبينة للمعارف الدينية والحلال والحرام ، طريق الهداية والسعادة.

والثانية مقام الحكومة والقضاء ، لأنا نعلم أنّهم كانوا يمتلكون حكومة قوية مترامية الأطراف ، فلم يكن داود وسليمان وحدهما حاكمين وحسب ، بل إنّ كثيرا من بني إسرائيل قد تسلموا زمام الأمور في زمانهم وعصورهم.

«الحكم» في التعبيرات القرآنية يعني عادة القضاء والحكومة ، لكن لما كان مقام القضاء ، يشكل جزء من برنامج الحكومة دائما ، ولا يمكن للقاضي أن يؤدي واجبه من دون حماية الدولة وقوّتها ، فإنّه يدل دلالة التزامية على مسألة التصدي وتسلم زمام الأمور.

ونقرأ في الآية (٤٤) من سورة المائدة في شأن التوراة :( يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ) .

أمّا النعمة الثالثة فقد كانت نعمة مقام النبّوة ، حيث اصطفى الله سبحانه أنبياء كثيرين من بني إسرائيل.

وقد ورد في رواية أنّ عدد أنبياء بني إسرائيل بلغ ألف نبي(١) ، وفي رواية أخرى : إن عدد أنبياء بني إسرائيل أربعة آلاف نبي(٢) .

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ٧٥.

(٢) بحار الأنوار ، الطبعة الجديدة ، المجلد ١١ صفحة ٣١.

٢٠٤

وكل هذه كانت مواهب ونعما من الله سبحانه.

وتتحدث الآية في الفقرة الرابعة حديثا جامعا شاملا عن المواهب المادية ، فتقول :( وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ) .

النعمة الخامسة ، هي تفوقهم وقوّتهم التي لا ينازعهم فيها أحد ، كما توضح الآية ذلك في ختامها فتضيف :( وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ) .

لا شك أنّ المراد من «العالمين» هنا هم سكان ذلك العصر ، لأنّ الآية (١١٠) من سورة آل عمران تقول بصراحة :( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) .

وكذلك نعلم أنّ الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أشرف الأنبياء وسيدهم ، وبناء على هذا فإنّ أمته أيضا تكون خير الأمم ، كما ورد ذلك في الآية (٨٩) من سورة النحل :( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ ) .

وتشير الآية التالية إلى الموهبة السادسة التي منحها الله سبحانه لهؤلاء المنكرين للجميل ، فتقول :( وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ ) .

«البينات» يمكن أن تكون إشارة إلى المعجزات الواضحة التي أعطاها الله سبحانه موسى بن عمرانعليه‌السلام وسائر أنبياء بني إسرائيل ، أو أنّها إشارة إلى الدلائل والبراهين المنطقية الواضحة ، والقوانين والأحكام المتقنة الدقيقة.

وقد احتمل بعض المفسّرين أن يكون هذا التعبير إشارة إلى العلامات الواضحة التي تتعلق بنبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتي علمها هؤلاء ، وكان باستطاعتهم أن يعرفوا نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلالها كمعرفتهم بأبنائهم :( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ) (١) .

لكن لا مانع من أن تكون كلّ هذه المعاني مجتمعة في الآية.

وعلى أية حال ، فمع وجود هذه المواهب والنعم العظيمة ، والدلائل البينة الواضحة لا يبقى مجال للاختلاف ، إلّا أنّ الكافرين بالنعم هؤلاء ما لبثوا أنّ

__________________

(١) البقرة ، الآية ١٤٦.

٢٠٥

اختلفوا ، كما يصور القرآن الكريم ذلك في تتمة هذه الآية إذ يقول :( فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) .

نعم ، لقد رفع هؤلاء راية الطغيان ، وأنشبت كلّ جماعة أظفارها في جسد جماعة أخرى ، واتخذوا حتى عوامل الوحدة والألفة والانسجام سببا للاختلاف والتباغض والشحناء ، وتنازعوا أمرهم بينهم فذهبت ريحهم وضعفت قوتهم ، وأفل نجم عظمتهم ، فزالت دولتهم ، وأصبحوا مشردين في بقاع الأرض ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا.

وقال البعض : إنّ المراد هو الاختلاف الذي وقع بينهم بعد علمهم واطلاعهم الكافي على صفات نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويهددهم القرآن الكريم في نهاية الآية بقوله :( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) وبهذا فقد فقدوا قوتهم وعظمتهم في هذه الدنيا بكفرانهم النعمة ، واختلافهم فيما بينهم ، واشتروا لأنفسهم عذاب الآخرة.

بعد بيان المواهب التي منّ الله تعالى بها على بني إسرائيل ، وكفرانها من قبلهم ، ورد الحديث عن موهبة عظيمة أهداها الله سبحانه لنبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ، فقالت الآية :( ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ ) .

«الشريعة» تعني الطريق التي تستحدث للوصول إلى الماء الموجود عند ضفاف الأنهر التي يكون مستوى الماء فيها أخفض من الساحل ، ثمّ أطلقت على كلّ طريق يوصل الإنسان إلى هدفه ومقصوده.

إن استعمال هذا التعبير في مورد دين الحق ، بسبب أنّه يوصل الإنسان إلى مصدر الوحي ورضى الله سبحانه ، والسعادة الخالدة التي هي بمثابة الماء للحياة المعنوية.

لقد استعملت هذه الكلمة مرّة واحدة في القرآن الكريم ، وفي شأن الإسلام فقط.

٢٠٦

والمراد من «الأمر» هنا هو دين الحق الذي مرّت الإشارة إليه في الآية السابقة أيضا ، حيث قالت :( بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ ) .

ولما كان هذا المسير مسير النجاة والنصر ، فإنّ الله سبحانه يأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك أنّ( فَاتَّبِعْها ) .

وكذلك لما كانت النقطة المقابلة ليس إلّا اتباع أهواء الجاهلين ورغباتهم ، فإنّ الآية تضيف في النهاية :( وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) .

في الحقيقة ، لا يوجد إلّا طريقان : طريق الأنبياء والوحي ، وطريق أهواء الجاهلين وميولهم ، فإذا ولّى الإنسان دبره للأوّل فسيقع في الثّاني ، وإذا توجه الإنسان إلى ذلك السبيل فسينفصل عن خط الأنبياء ويبتعد عنهم ، وبذلك فإنّ القرآن أبطل كلّ البرامج الإصلاحية التي لا تستمد تعليماتها من مصدر الوحي الإلهي.

والجدير بالانتباه أنّ بعض المفسّرين قالوا : إنّ رؤساء قريش أتوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : ارجع إلى دين آبائك ، فإنّهم كانوا أفضل منك وأسلم. وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يزال في مكّة ، فنزلت الآية أعلاه(١) وأجابتهم بأن طريق الوصول إلى الحق هو الوحي السماوي الذي نزل عليك ، لا ما يمليه هوى هؤلاء الجاهلين ورغبتهم.

لقد كان القادة المخلصون يواجهون دائما وساوس الجاهلين هذه عند ما يأتون بدين جديد ويطرحون أفكارا بناءة طاهرة ، فقد كان الجهال يطرحون عليهم : أأنتم أعلم أم الآباء السابقون والعظماء الذين جاؤوا قبلكم؟ وكانوا يصرون على الاستمرار في ذلك الطريق ، وإذا كان مثل هذا الاقتراح يمكن أن ينزل إلى حيز التطبيق والواقع العملي ، فليس بوسع الإنسان أن يخطو خطوة في طريق التكامل.

وتعتبر الآية التالية تبيانا لعلة النهي عن الاستسلام أمام مقترحات المشركين وقبول طلباتهم ، فتقول :( إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً ) فإذا ما اتبعت دينهم

__________________

(١) التفسير الكبير للفخر الرازي ، المجلد ٢٧ ، صفحة ٢٦٥.

٢٠٧

الباطل فأحاط بك عذاب الله تعالى فإنّهم عاجزون عن أن يهبوا لنجدتك وإنقاذك ، ولو أنّ الله سبحانه سلب منك نعمة فإنّهم غير قادرين على إرجاعها إليك.

ومع أنّ الخطاب في هذه الآيات موجه إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ المراد منه جميع المؤمنين.

ثمّ تضيف الآية :( وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) فكلهم من جنس واحد ، ويسلكون نفس المسير ، ونسجهم واحد ، وكلهم ضعفاء عاجزون.

لكن لا تذهب بك الظنون بأنك وحيد ، ومن معك قليل ولا ناصر لكم ولا معين ، بل :( وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ) .

صحيح أنّ جمع هؤلاء عظيم في الظاهر ، وفي أيديهم الأموال الطائلة والإمكانيات الهائلة ، لكن كلّ ذلك لا يعتبر إلّا ذرة عديمة القيمة إزاء قدرة الله التي لا تقهر ، وخزائنه التي لا تفنى.

وكتأكيد لما مرّ ، ودعوة إلى اتباع دين الله القويم ، تقول آخر آية من هذه الآيات :( هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) .

«البصائر» جمع بصيرة ، وهي النظر ، ومع أنّ هذه اللفظة أكثر ما تستعمل في وجهات النظر الفكرية والنظريات العقلية ، إلّا أنّها تطلق على كلّ الأمور التي هي أساس فهم المعاني وإدراكها.

والطريف أنّها تقول : إنّ هذا القرآن والشريعة بصائر ، أي عين البصيرة ، ثمّ أنّها ليست ، بصيرة ، بل بصائر ، ولا تقتصر على بعد واحد ، بل تعطي الإنسان الأفكار والنظريات الصحيحة في كافة مجالات حياته.

وقد ورد نظير هذا التعبير في آيات أخرى من القرآن الكريم ، كالآية (١٠٤) من سورة الأنعام ، حيث تقول :( قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ) .

وقد طرحت هنا في هذه الآية ثلاثة مواضيع : البصائر والهدى والرحمة ، وهي حسب التسلسل علة ومعلول لبعضها البعض ، فإنّ الآيات الواضحة والشريعة

٢٠٨

المبصّرة تدفع الإنسان نحو الهداية بدورها أساس رحمة الله.

والجميل في الأمر أنّ الآية تذكر أنّ البصائر لعامة الناس ، أمّا الهدى والرحمة فخصت الموقنين بهما ، ويجب أن يكون الأمر كذلك ، لأنّ آيات القرآن ليست مقصورة على قوم بالخصوص ، بل يشترك فيها كلّ البشر الذين دخلوا في كلمة (الناس) في كلّ زمان ومكان ، غير أنّ من الطبيعي أن يكون الهدى فرع اليقين ، وأن تكون الرحمة وليدته ، فلا تشمل الجميع حينئذ.

وعلى أية حال ، فإنّ ما تقوله الآية من أنّ القرآن عين البصيرة ، وعين الهداية والرحمة ، تعبير جميل يعبر عن عظمة هذا الكتاب السماوي وتأثيره وعمقه بالنسبة لأولئك السالكين طريقه ، والباحثين عن الحقيقة.

* * *

٢٠٩

الآيات

( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) )

التّفسير

ليسوا سواء محياهم ومماتهم :

متابعة للآيات السابقة التي كان الكلام فيها يدور حول فئتين هما : المؤمنون والكافرون ، أو المتقون والمجرمون ، فإنّ أولى هذه الآيات قد جمعتهما في مقارنة أصولية بينهما ، فقالت :( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .

هل يمكن أن يتساوى النور والظلمة ، والعلم والجهل ، والحسن والقبيح ،

٢١٠

والإيمان والكفر؟

هل يمكن أن تكون نتيجة هذه الأمور غير المتساوية متساوية؟

كلا ، فإنّ الأمر ليس كذلك ، إذ المؤمنون ذوو الأعمال الصالحات يختلفون عن المجرمين الكافرين ، ويفترقون عنهم في كلّ شيء ، إذ أنّ كلا من الإيمان والكفر ، والعمل الصالح والطالح ، يصبغ كلّ الحياة بلونه.

وهذه الآية نظير الآية (٢٨) من سورة ص ، حيث تقول :( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ؟

أو كالآيتين ٣٥ ، ٣٦ ، من سورة القلم حيث :( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) ؟

«اجترحوا» في الأصل من الجرح الذي يصيب بدن الإنسان أثر مرض ضرر ، ولما كان ارتكاب الذنب والمعصية كأنّما يجرح روح المذنب ، فقد استعملت كلمة الاجتراح بمعنى ارتكاب الذنب ، وتستعمل أحيانا بمعنى أوسع يدخل فيه كلّ اكتساب. وإنّما يقال لأعضاء البدن : جوارح ، لأنّ الإنسان يحقق مقاصده ورغباته بواسطتها ، ويحصل على ما يريد ، ويكتسب ما يشاء بواسطتها.

وعلى أية حال ، فإنّ الآية تقول : إنّه لظن خاطئ أن يتصوروا أنّ الإيمان والعمل الصالح ، أو الكفر والمعصية ، لا يترك أثره في حياة الإنسان ، فإنّ حياة هذين الفريقين ومماتهم يتفاوتان تماما :

فالمؤمنون يتمتعون باطمئنان خاص في ظل الإيمان والعمل الصالح ، بحيث لا تؤثر في نفوسهم أصعب الحوادث وأقساها ، في حين أنّ الكافرين والملوثين بالمعصية والذنوب مضطربون دائما ، فإنّ كانوا في نعمة فهم معذبون دائما من خوف زوالها وفقدانها ، وإن كانوا في مصيبة وشدّة فلا طاقة لهم على تحملها ومواجهتها.

وتصور الآية (٨٢) من سورة الأنعام حال المؤمنين ، فتقول :( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ

٢١١

يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) .

إنّ المؤمنين مطمئنون بمواعيد الله سبحانه ، وهم يرتعون في رحمته ولطفه :( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ) .

فنور الهداية يضيء قلوب الفريق الأوّل لتشرق بنور ربّها ، فيسيرون بخطى ثابتة نحو هدفهم المقدس :( اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) (١) .

أمّا الفريق الثّاني ، فليس لديهم هدف واضح يطمحون إلى بلوغه ، ولا هدى بيّن يسيرون في ظله ، بل هم سكارى تتقاذفهم أمواج الحيرة في بحر الضلالة والكفر :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ ) .

هذا في الحياة الدنيا ، أما عند الموت الذي هو نافذة تطل على عالم البقاء ، وباب للآخرة ، فإنّ الحال كما تصوره الآية (٣٢) من سورة النحل حيث تقول :( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

أمّا المجرمون الكافرون ، فإنّ الآيتين (٢٨) ـ (٢٩) من سورة النحل تتحدثان معهم بأسلوب آخر ، فتقولان :( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) .

وخلاصة القول ، فإنّ التفاوت والاختلاف موجود بين هاتين الفئتين في كافة شؤون الحياة والموت ، وفي عالم البرزخ والقيامة(٢) .

__________________

(١) البقرة ، الآية ٢٥٧.

(٢) ثمّة احتمالات أخرى في تفسير الآية المذكورة ومن جملتها ما ذكر من أنّ المراد من جملة (سواء محياهم ومماتهم) أنّ موت المجرمين الكافرين وحياتهم واحد لا فرق فيه ، فلا خير فيهم ولا طاعة لهم حال حياتهم ، ولا في موتهم ، فهم أحياء لكنّهم أموات ، وعلى هذا التّفسير فإنّ كلا الضميرين يعودان على المجرمين. والاحتمال الآخر : أنّ المراد من الحياة يوم القيامة ، أي أنّ المؤمنين والكافرين لا يتساوون عند الموت وعند بعثهم يوم القيامة.

٢١٢

أمّا الآية التالية فإنّه في الحقيقة تفسير لسابقتها وتعليل لها ، إذ تقول :( وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) ، فكل العالم يوحي بأنّ خالقه قد خلقه وجعله يقوم على محور الحق ، وأن يحكم العدل والحق كلّ مكان ، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يجعل الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمجرمين الكافرين ، فيكون هذا الأمر استثناء من قانون الخلقة؟

من الطبيعي أنّه يجب أن يتمتع أولئك الذين يتحركون حركة تنسجم مع قانون الحق والعدالة هذا ، ولا يحيدون عنه ببركات عالم الوجود وينعمون بألطاف الله سبحانه ، كما يجب أن يكون أولئك الذين يسيرون عكس هذا الطريق ويخالفون القانون طعمة للنّار المحرقة ، ومحطا لغضب اللهعزوجل ، وهذا ما تقتضيه العدالة.

ومن هنا يتّضح أنّ العدالة لا تعني المساواة ، بل العدالة أن يحصل كلّ فرد على ما يناسبه من المواهب والنعم حسب مؤهلاته وقابلياته.

وكذلك فإنّ الآية الأخيرة من هذه الآيات توضيح وتعليل آخر لعدم المساواة بين الكافرين والمؤمنين ، إذ تقول :( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) .

وهنا سؤال يطرح نفسه ، وهو : كيف يمكن أن يتخذ الإنسان إلهه هواه؟

غير أنّ من الواضح الجلي أنّ الإنسان عند ما يضرب صفحا عن أوامر الله سبحانه ، ويتبع ما تمليه عليه شهواته ، ويقدم طاعتها على طاعة الله سبحانه ويعتبر ذلك حقّا ، فقد عبد هواه ، وهذا عين معنى العبادة ، إذ أنّ أحد المعاني المعروفة للعبادة هو الطاعة.

وقد ورد في القرآن الكريم الكثير ممّا يبيّن هذا المعنى كعبادة الشيطان أو

__________________

إلّا أن ظاهر الآية هو ما ذكرناه أعلاه.

٢١٣

عبادة أحبار اليهود ، فيقول القرآن ـ مثلا ـ في الآية (٦٠) من سورة يس :( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ) .

ويقول في الآية (٣١) من سورة التوبة :( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ) .

وجاء في حديث عن الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام أنهما قالا : «أما والله ما صاموا لهم ، ولا صلوا ، ولكنّهم أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا ، فاتبعوهم ، وعبدوهم من حيث لا يشعرون»(١) .

غير أنّ بعض المفسّرين يعتبر هذا التعبير إشارة إلى الوثنيين من قريش ، الذين إذا ما عشقوا شيئا وأحبوه صنعوا على صورته صنما ثمّ عبدوه وعظموه ، وكلما رأوا شيئا آخر أعجبهم أكثر من صنمهم أعرضوا عن الأوّل وتوجهوا إلى عبادة الثّاني ، وعلى هذا فإنّ إلههم كان الشيء الذي ترتضيه أنفسهم وتهواه(٢) .

إلّا أنّ تعبير :( مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) أكثر انسجاما مع التّفسير الأوّل.

أما في مورد جملة :( أَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ ) فالتّفسير المعروف هو أنّ الله سبحانه قد أضلهم لعلمه بأنّهم لا يستحقون الهداية ، وهو إشارة إلى أنّ هؤلاء قد أطفأوا بأيديهم كلّ مصابيح الهداية وحطموها ، وأغلقوا في وجوههم كلّ سبل النجاة ، ودمروا وراءهم جسور العودة إلى طريق الحق ، فعند ذلك سلبهم الله تعالى رحمته ولطفه ، وأفقدهم القدرة على تشخيص الصالح من الطالح ، وتركهم في ظلمات لا يبصرون ، وكأنّما ختم على قلبهم وسمعهم ، وجعل على أبصارهم غشاوة.

وما كلّ ذلك في الحقيقة إلّا آثار لما اختط هؤلاء لأنفسهم من مسير ، ونتيجة مشؤومة لعبادة الآلهة التي اتخذوها.

ولا صنم في الحقيقة أخطر من إتباع هوى النفس الذي يوصد كلّ أبواب

__________________

(١) نور الثقلين ، المجلد ٢ ، صفحة ٢٠٩.

(٢) تفسير الدر المنثور ، المجلد ٦ ، صفحة ٣٥.

٢١٤

الرحمة وطرق النجاة بوجه الإنسان؟ وكم هو بليغ وعميق الحديث المروي عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى»(١) .

إلّا أنّ بعض المفسّرين يعتبر هذه الجملة إشارة إلى أنّ متبعي الهوى هؤلاء قد اختاروا طريق الضلالة طريقا لهم عن علم ودراية ، لأنّ العلم لا يقارن الهداية دائما ، كما لا تكون الضلالة دائما قرينة الجهل.

إنّ العلم الذي يتمسك الإنسان بلوازمه أساس الهداية ، فعليه كي يصل إلى مراده وهدفه أن يتحرك على هدي هذا العلم ، وألا يكون كأولئك الكفار العنودين الذين قال بحقهم القرآن :( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) (٢) (٣) .

إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب بملاحظة أنّ مرجع الضمائر في الآية إلى الله سبحانه ، لأنّها تقول :( أَضَلَّهُ اللهُ (عَلى عِلْمٍ) وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ) .

ممّا قلناه يتّضح جيدا أنّ الآية تدل ـ من قريب أو بعيد ـ على مذهب الجبرية ، بل هي تأكيد على أصل الإختيار وتعيين الإنسان مصيره بنفسه.

لقد أوردنا بحوثا أكثر تفصيلا وإيضاحا حول ختم الله على قلب الإنسان وسمعه ، وإلقاء الغشاوة على قلبه في ذيل الآية (٧) من سورة البقرة(٤) .

* * *

ملاحظات

١ ـ أخطر الأصنام صنم هوى النفس

قرأنا في حديث أنّ أبغض الآلهة إلى الله هوى النفس ، ولا مبالغة في هذا الحديث قط ، لأنّ الأصنام العادية موجودات لا خصائص لها ولا صفات فعالة

__________________

(١) تفسير القرطبي ، المجلد ٩ ، صفحة ٥٩٨٧ ، وتفسير روح البيان ، وتفسير المراغي ذيل الآيات مورد البحث.

(٢) النمل ، الآية ١٤.

(٣) تفسير الميزان ، المجلد ١٨ ، صفحة ١٨٧.

(٤) المجلد الأول ، التّفسير الأمثل ، ذيل الآية (٧) من سورة البقرة.

٢١٥

مهمة ، أما صنم الهوى وأتباعه ، فإنّه يغوي الإنسان ويسوقه إلى ارتكاب أنواع المعاصي ، والانزلاق في هاوية الانحراف.

وبصورة عامّة ، يمكن القول بأنّ لهذا الصنم من الخصوصيات ما جعله مستحقا لصفة أبغض الآلهة والأصنام ، فهو يزين القبائح والسيئات في نظر الإنسان حتى يصل إلى درجة يفخر عندها بتلك الأعمال الطالحة ، ويكون مصداقا لقوله تعالى :( وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) (١) .

٢ ـ أفضل طريق لنفوذ الشيطان هو اتباع الهوى : فما دام الشيطان لا يمتلك قاعدة وأساسا يستند إليه في داخل الإنسان ، فلا قدرة له على الوسوسة ودفع الإنسان الى الانحراف والمعصية ، وما تلك القاعدة والأساس إلّا اتباع الهوى وهو ذات الشيء الذي أسقط الشيطان وأرداه ، وطرده من صف الملائكة ، وأبعده عن مقام القرب من الله.

٣ ـ إنّ اتباع الهوى يسلب الإنسان أهم وسائل الهداية ، وهي الإدراك الصحيح للحقائق ، ويلقي الحجب على عقل الإنسان وعينه ، وقد أشارت هذه الآيات إلى هذا الموضوع بصراحة بعد ذكر مسألة اتباع الهوى واتخاذه إلها ، وآيات القرآن الأخرى شاهدة على هذه الحقيقة أيضا.

٤ ـ إنّ اتباع الهوى يوصل الإنسان إلى مرحلة محاربة الله ـ والعياذ بالله ـ كما ابتلي بها إمام عباد الهوى ـ أي الشيطان الرجيم ـ فاعترض على حكمة الله سبحانه لمّا أمره بالسجود لآدم ، واعتبره أمرا عاريا عن الحكمة!

٥ ـ عواقب اتباع الهوى مشؤومة وأليمة ، بحيث أنّ لحظة من لحظات اتباع الهوى قد يصاحبها عمر من الندامة والأسف والحسرة ، ولحظة ـ يتبع فيها الهوى ـ قد تجعل كلّ حسنات الإنسان وأعماله الصالحة التي عملها طوال عمره هباء منثورا ، ولذلك ورد التأكيد على الحيطة واليقظة في هذا الأمر والتحذير الشديد منه

__________________

(١) الكهف ، الآية ١٠٤.

٢١٦

في آيات القرآن والرّوايات الإسلامية.

فقد ورد في الحديث المعروف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن أخوف ما أخاف على أمتي الهوى وطول الأمل ، أما الهوى فإنّه يصد عن الحق ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة»(١) .

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه سئل : أي سلطان أغلب وأقوى؟ قال : «الهوى»(٢) .

وجاء في حديث آخر عن الإمام زين العابدينعليه‌السلام : «إن الله تعالى يقول : وعزتي وعظمتي ، وجلالي وبهائي ، وعلوي وارتفاع مكاني ، لا يؤثر عبد هواي على هواه إلّا جعلت همه في آخرته ، وغناه في قلبه ، وكففت عنه ضيعته ، وضمنت السماوات والأرض رزقه ، وأتته الدنيا وهي راغمة»(٣) .

وورد في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم ، فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم»(٤) .

وأخيرا ورد في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إني لأرجو النجاة لهذه الأمة لمن عرف حقنا منهم إلّا لأحد ثلاثة : صاحب سلطان جائر ، وصاحب هوى ، والفاسق المعلن»(٥) .

وفي هذا الباب آيات وروايات كثيرة غنية المضمون.

وننهي هذا الحديث بجملة عميقة المعنى ذكرها البعض كسبب نزول ، وكشاهد على مرادنا ، فيقول أحد المفسّرين : طاف أبو جهل بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد بن المغيرة ، فتحدثا في شأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال أبو جهل : والله إني لأعلم أنّه صادق.

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلد ٧٠ ، صفحة ٧٥ ، ٧٦ ، ٧٧.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

(٤) أصول الكافي ، المجلد ٢ باب أتباع الهوى الحديث ١.

(٥) بحار الأنوار ، المجلد ٧٠ ، صفحة ٧٦.

٢١٧

فقال له : مه ، وما دلك على ذلك؟

قال : يا أبا عبد شمس ، كنا نسميه في صباه الصادق الأمين ، فلما تم عقله ، وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن! والله إني لأعلم أنّه صادق.

قال : فما يمنعك من أن تصدقه وتؤمن به؟

قال : تتحدث عني بنات قريش أني اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة! واللات والعزى لن أتبعه أبدا.

فنزلت الآية :( وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ) (١) .

* * *

__________________

(١) تفسير المراغي ، المجلد ٢٥ ، صفحة ٢٧.

٢١٨

الآيتان

( وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) )

التّفسير

عقائد الدهريين :

في هذه الآيات بحث آخر حول منكري التوحيد ، غاية ما هناك أنّه ذكر هنا اسم جماعة خاصّة منهم ، وهم «الدهريون» الذين ينكرون وجود صانع حكيم لعالم الوجود مطلقا ، في حين أنّ أكثر المشركين كانوا يؤمنون ظاهرا بالله ، وكانوا يعتبرون الأصنام شفعاء عند الله ، فتقول الآية أولا :( وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا ) فكما يموت من يموت منا ، يولد من يولد منّا وبذلك يستمر النسل البشري :( وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) وبهذا فإنّهم ينكرون المعاد كما ينكرون المبدأ ، والجملة الأولى ناظرة إلى إنكارهم المعاد ، أمّا الجملة الثانية فتشير إلى إنكار

٢١٩

المبدأ.

والجدير بالانتباه أنّ هذا التعبير قد ورد في آيتين أخريين من آيات القرآن الأخرى ، فنقرأ في الآية (٢٩) من سورة الأنعام :( وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) .

وجاء في الآية (٣٧) من سورة المؤمنون :( إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) .

إلّا أنّ التأكيد في الآيتين على إنكار المعاد وحسب ، ولم يرد إنكار المبدأ والمعاد معا إلّا في هذه الآية مورد البحث.

ومن الواضح أنّ هؤلاء إنّما كانوا يؤكدون على المعاد أكثر من المبدأ لخوفهم واضطرابهم منه الذي قد يغير مسير حياتهم المليئة بالشهوات والخاضعة لها.

وقد ذكر المفسّرون عدّة تفاسير لجملة( نَمُوتُ وَنَحْيا ) :

الأوّل : وهو ما ذكرناه ، بأنّ الكبار يغادرون الحياة ليحل محلهم المواليد.

الثّاني : أنّ الجملة من قبيل التأخير والتقديم ، ومعناها : إنّنا نحيا ثمّ نموت ، ولا شيء غير هذه الحياة والموت.

الثّالث : أنّ البعض يموتون ويبقى البعض الآخر ، وإن كان الجميع سوف يموتون في النهاية.

الرّابع : أننا كنا في البداية أموات لا روح فينا ، ثمّ منحنا الحياة ودبت فينا.

غير أنّ التّفسير الأوّل هو أنسب الجميع وأفضلها.

وعلى أية حال ، فإنّ جماعة من الماديين في العصور الخالية كانوا يعتقدون أنّ الدهر هو الفاعل أو الزمان في هذا العالم ـ أو بتعبير جماعة آخرين : إنّ الفاعل هو دوران الأفلاك وأوضاع الكواكب ـ وكانوا ينهون سلسلة الحوادث إلى الأفلاك ، ويعتقدون أنّ كلّ ما يقع في هذا العالم بسببها(١) ، حتى أنّ جماعة من فلاسفة

__________________

(١) احتمل البعض احتمالا خامسا في تفسير هذه الجملة ، وهو أنّها إلى عقيدة التناسخ التي كان يعتقد بها جمع من

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592