الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177220 / تحميل: 5796
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

إنّ جملة :( لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ) إشارة إلى أنّ الله سبحانه قد خلق هذه المراكب على هيئة تستطيعون معها ركوبها بصورة جيّدة ، وتصلون إلى مقاصدكم براحة ويسر(١) .

لقد أوضحت هذه الآية هدفين لخلق هذه المراكب البحريّة والبريّة ، من الفلك والأنعام ، أحدهما : ذكر نعم الله سبحانه حين الإستواء على ظهورها ، والآخر : تنزيه الله سبحانه الذي سخّرها للإنسان ، فقد جعل الفلك على هيئة تقدر أن تشقّ صدر الأمواج وتسير نحو المقصد ، وجعل الدواب والأنعام خاضعة لأمر الإنسان ومنقادة لإرادته.

«مقرنين» من مادة «إقران» ، أي امتلاك القدرة على شيء ، وقال بعض أرباب اللغة : إنّه يعني مسك الشيء وحفظه ، وفي الأصل بمعنى وقوع الشيء قرينا لشيء آخر ، ولازم ذلك القدرة على حفظه(٢) .

بناء على هذا ، فإنّ معنى جملة( وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ) هو أنّه لو لم يكن لطف الله وعنايته لما كان بإمكاننا السيطرة على هذه المراكب وحفظها ، ولتحطمت بفعل الرياح المخالفة لحركة السفن ، وكذلك الحيوانات القويّة التي تفوق قوّتها قوّة الإنسان أضعافا ، ما كان الإنسان ليستطيع أن يقترب منها مطلقا لو لا روح التسليم التي تحكمها ، ولذلك حين يغضب أحد هذه الحيوانات ويفقد روح التسليم ، فإنّه سيتحوّل إلى موجود خطر لا يقوى عدّة أشخاص على مقابلته ، في حين أن من الممكن في حالة سكونها ودعتها ـ أن ترتبط عشرات ، بل مئات منها بحبل وزمام ، ويسلّم بيد صبي ليذهب بها حيث يشاء ، وكأنّ الله سبحانه يريد أن يبيّن للإنسان نعمة الحالة الطبيعيّة للحيوانات من خلال بيان الحالة الاستثنائيّة.

__________________

(١) الضمير في «على ظهوره» يعود على «ما» الموصولة والتي وردت في جملة «ما تركبون» وهي تشمل السفن والدواب ، وكونه مفردا لظاهر اللفظ.

(٢) جاء في لسان العرب : «أقرن له وعليه» : أطاق وقوي عليه واعتلى ، وفي التنزيل العزيز :( وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ) .

٢١

وتذكر آخر آية ـ من هذه الآيات ـ قول المؤمنين لدى ركوبهم المركب ، إذ يقولون :( وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ ) .

هذه الجملة إشارة إلى مسألة المعاد بعد الحديث حول التوحيد ، لأنّ الانتباه إلى الخالق والمبدأ ، يلفت نظر الإنسان نحو المعاد دائما.

وهي أيضا إشارة إلى أن لا تغترّوا عند ما تركبون هذه المراكب وتتسلّطون عليها ، ولا تغرقوا في مغريات الدنيا وزخارفها ، بل يجب أن تكونوا دائما ذاكرين للآخرة غير ناسين لها ، لأنّ حالات الغرور تشتد وتتعمّق في مثل هذه الموارد خاصّة ، والأشخاص الذين يتّخذون مراكبهم ووسائط نقلهم وسيلة للتعالي والتكبّر على الآخرين ليسوا بالقليلين.

ومن جهة ثالثة ، فإنّ الإستواء على المركب والانتقال من مكان إلى آخر يذكّرنا بانتقالنا الكبير من هذا العالم إلى العالم الآخر.

نعم فنحن أخيرا ننقلب إلى الله سبحانه.

* * *

ملاحظة

ذكر الله عند الانتفاع بالنعم :

من النكات الجميلة التي تلاحظ في آيات القرآن الكريم ، أنّ المؤمنين قد علّموا أدعية يقرءونها عند التنعّم بمواهب الله سبحانه ونعمه تلك الأدعية التي تصقل روح الإنسان وتهذّبها بمحتوياتها البنّاءة ، وتبعد عنها آثار الغرور والغفلة.

فيأمر الله سبحانه نوحاعليه‌السلام أن :( فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (١) .

ويأمره أيضا أن يقول عند طلب المنزل المبارك :( رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً

__________________

(١) المؤمنون ، الآية ٢٨.

٢٢

وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ) (١) .

وهو سبحانه يأمرنا في هذه الآيات أن نشكر نعم الله تعالى ، وأن نسبّح اللهعزوجل عند الإستواء على ظهورها.

فإذا تحوّل ذكر المنعم الحقيقي عند كلّ نعمة ينعم بها إلى طبع وملكة في الإنسان ، فسوف لا يغرق في ظلمة الغفلة ، ولا يسقط في هاوية الغرور ، بل إنّ المواهب والنعم الماديّة ستكون له سلّما إلى الله سبحانه!

وقد ورد في سيرة الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه ما وضع رجله في الركاب إلّا وقال : «الحمد لله» ، وإذا ما استوى على ظهر الدابّة فإنّه يقول : الحمد لله على كل حال ،( سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ ) (٢) .

وجاء في حديث آخر عن الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام أنّه رأى رجلا ركب دابّة فقال: سبحان الذي سخّر لنا هذا ، فقال له : «ما بهذا أمرت ، أمرت أن تقول : «الحمد لله الذي هدانا للإسلام ، الحمد لله الذي منّ علينا بمحمّد ، والحمد لله الذي جعلنا من خير أمّة أخرجت للناس ، ثمّ تقول : سبحان الذي سخّر لنا هذا»(٣) ، إشارة إلى أنّ الآية لم تأمر بأن يقال : سبحان الذي سخّر لنا هذا ، بل أمرت أوّلا بذكر نعم الله العظيمة : نعمة الهداية إلى الإسلام ، نعمة نبوّة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نعمة جعلناه في زمرة خير أمّة ، ثمّ تسبيح الله على تسخيره لما نركب!

وممّا يستحقّ الانتباه أنّه يستفاد من الرّوايات أنّ من قال عند ركوبه :( سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ ) فسوف لن يصاب بأذى بأمر الله! وقد روي هذا المطلب في حديث في الكافي عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام (٤) .

ونكتشف من خلال ذلك البون الشاسع بين تعليمات الإسلام البنّاءة هذه ، وبين

__________________

(١) المؤمنون ، الآية ٢٩.

(٢) تفسير الفخر الرازي ، المجلد ٢٧ ، صفحة ١٩٩.

(٣) المصدر السابق.

(٤) نور الثقلين ، المجلد ٤ ، صفحة ٥٩٣.

٢٣

ما يلاحظ من جماعة من المغرورين ومتّبعي الأهواء والميول الذين يتّخذون وسائط نقلهم وسيلة للفخر ولإظهار أنفسهم بمظهر العزيز الوجيه ، وقد يجعلونها سببا لارتكاب أنواع المعاصي كما ينقل «الزمخشري» في الكشّاف عن بعض السلاطين أنّه يركب مركبه الخاص يريد الذهاب من مدينة إلى أخرى التي تبعد عنها مسافة شهر فكان يكثر من شرب الخمر لئلّا يحسّ بطول الطريق وتعبه ، ولا يفيق من سكره إلّا حين يصل تلك المدينة!

* * *

٢٤

الآيات

( وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) )

التّفسير

كيف تزعمون أنّ الملائكة بنات الله؟

بعد تثبيت دعائم التوحيد بوسيلة ذكر آيات الله سبحانه في نظام الوجود ، وذكر نعمه ومواهبه ، تتناول هذه الآيات ما يقابل ذلك ، أيّ محاربة الشرك وعبادة غير الله تعالى ، فتطرّقت أوّلا إلى أحد فروعها ، أيّ عبادة الملائكة فقالت :( وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً ) فظنّوا أنّ الملائكة بنات الله سبحانه ، وأنّها آلهتهم ، وكانت هذه الخرافة القبيحة رائجة بين الكثيرين من عبدة الأوثان.

٢٥

إنّ التعبير بـ «الجزء» يبيّن من جانب أنّ هؤلاء كانوا يعتبرون الملائكة أولاد الله تعالى ، لأنّ الولد جزء من وجود الأب والأمّ ، وينفصل عنهما كنطفة تتكوّن وتتلقّح ، وإذا ما تلقّحت تكوّن الولد من تلك اللحظة. ويبيّن من جانب آخر قبولهم عبادتها ، لأنّهم كانوا يظنّون الملائكة جزءا من الآلهة في مقابل الله سبحانه.

ثمّ إنّ هذا التعبير استدلال واضح على بطلان اعتقاد المشركين الخرافي ، لأنّ الملائكة إن كانت أولادا لله سبحانه ، فإنّ ذلك يستلزم أن يكون لله جزء ، ونتيجة ذلك أنّ ذات الله ، مركّبة سبحانه ، في حين أنّ الأدلّة العقليّة والنقليّة شاهدة على بساطة وجوده وأحديّته ، لأنّ الجزاء مختصّ بالموجودات الممكنة.

ثمّ تضيف :( إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ) فمع كل هذه النعم الإلهيّة التي أحاطت بوجوده ، والتي مرّ ذكر خمس منها في الآيات السابقة ، فإنّه بدل أن يطأطئ رأسه إعظاما لخالقه ، وإجلالا لولي نعمته ، سلك سبيل الكفر واتّجه إلى مخلوقات الله ليعبدها!

في الآية التي بعدها يستثمر القرآن الثوابت الفكريّة لدى هؤلاء من أجل إدانة هدا التفكير الخرافي ، لأنّهم كانوا يرجّحون جنس الرجل على المرأة ، وكانوا يعدّون البنت عارا ـ عادة ـ يقول تعالى :( أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ ) ؟ فإذا كان مقام البنت أدنى في اعتقادكم ، فكيف ترجّحون أنفسكم وتعلونها على الله ، فتجعلون نصيبه بنتا ، ونصيبكم ولدا؟

صحيح أنّ المرأة والرجل متساويان في القيم الإنسانيّة السامية عند الله سبحانه ، إلّا أنّ الاستدلال باعتقادات المخاطب يترك أحيانا في فكره أثرا يدفعه إلى إعادة النظر فيما يعتقد.

وتتابع الآية التالية هذا البحث ببيان آخر ، فتقول :( وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) .

والمراد من( بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ) هم الملائكة الذين كانوا يعتبرونهم بنات

٢٦

الله ، وكانوا يعتقدون في الوقت نفسه أنّها آلهتهم ، وأنّها شبيهة به ـ سبحانه ـ ومثله.

إنّ لفظة (كظيم) من مادّة «كظم» ، وتعني الحلقوم ، وجاءت أيضا بمعنى غلق فم قربة الماء بعد امتلائها ، ولذلك فإنّ هذه الكلمة استعملت للتعبير عمّن امتلأ قلبه غضبا أو غمّا وحزنا. وهذا التعبير يحكي جيّدا عن خرافة تفكير المشركين البله في عصر الجاهليّة فيما يتعلق بولادة البنت ، وكيف أنّهم كانوا يحزنون ويغتمّون عند سماعهم بولادة بنت لهم ، إلّا أنّهم في الوقت نفسه كانوا يعتقدون بأنّ الملائكة بنات الله سبحانه!

وتضيف في الآية الكريمة :( أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) (١) .

لقد ذكر القرآن هنا صفتين من صفات النساء غالبا ، تنبعثان من ينبوع عاطفتهنّ ، إحداهما : تعلّق النساء الشديد بأدوات الزينة ، والأخرى : عدم امتلاكهنّ القدرة الكافية على إثبات مرادهنّ أثناء المخاصمة والجدال لحيائهنّ وخجلهنّ.

لا شكّ أنّ بعض النسوة ليس لداهنّ هذا التعلّق الشديد بالزينة ، ولا شكّ أيضا أنّ التعلّق بالزينة ومحبّتها في حدود الاعتدال لا يعد عيبا في النساء ، بل أكّد عليها الإسلام ، إلّا أنّ المراد هو أكثريّة النساء اللاتي تعوّدن على الإفراط في الزينة في أغلب المجتمعات البشريّة ، وكأنّهن يولدن بين أحضان الزينة ويتربّين في حجرها.

وكذلك لا يوجد أدنى شكّ في أنّ بعض النسوة ارتقين أعلى الدرجات في قوّة المنطق والبيان ، لكن لا يمكن إنكار ضعف النساء عند المخاصمة والبحث والجدال ، إذا ما قورنت بقدرة الرجال ، وذلك بسبب خجلهنّ وحيائهنّ.

والهدف بيان هذه الحقيقة ، وهي : كيف تظنّون وتعتقدون بأنّ البنات أولاد الله سبحانه ، وأنّكم مصطفون بالبنين؟

__________________

(١) «ينشّؤا» من مادة «الإنشاء» ، أي إيجاد الشيء ، وهنا بمعنى تربية الشيء ، وتنميته ، و «الحلية» تعني الزينة ، و «الخصام» هو المجادلة والنزاع على شيء ما.

٢٧

وتذكر الآية الأخيرة ـ من هذه الآيات ـ هذا المطلب بصراحة أكثر ، فتقول :( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ) .

أجل إنّهم عباد الله ، مطيعون لأمره ، ومسلمون لإرادته ، كما ورد ذلك في الآيتين (٢٦) ، (٢٧) من سورة الأنبياء :( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) .

إنّ التعبير بكلمة (عباد) في الواقع ردّ على ظنّ هؤلاء ، لأنّ الملائكة لو كانت مؤنّثا لوجب أن يقول : (عبدات) ، لكن ينبغي الانتباه إلى أنّ العباد تطلق على جمع المذكّر وعلى الموجودات التي تخرج عن إطار المذكر والمؤنث كالملائكة ، ويشبه ذلك استعمال ضمائر المفرد المذكّر في حقّ الله سبحانه ، في حين أنّه تعالى فوق كلّ هذه التقسيمات.

وجدير بالذكر أنّ كلمة (عباد) قد أضيفت إلى (الرحمن) في هذه الجملة ، ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى أن أغلب الملائكة منفذون لرحمة الله ، ومدبرون لقوانين عالم الوجود وأنظمته ، وكل ذلك رحمة.

لكن لماذا وجدت هذه الخرافة بين عرب الجاهليّة؟ ولماذا بقيت ترسباتها إلى الآن في أذهان جماعة من الناس؟ حتى أنّهم يرسمون الملائكة ويصورونها على هيئة المرأة والبنت ، بل حتى إذا أرادوا أن يرسموا ما يسمى بملك الحرية فإنّهم يرسمونه على هيئة امرأة جميلة طويلة الشعر!

يمكن أن يكون هذا الوهم نابعا من أنّ الملائكة مستورون عن الأنظار ، والنساء مستورات كذلك ، ويلاحظ هذا المعنى في بعض موارد المؤنث المجازي في لغة العرب ، حيث يعتبرون الشمس مؤنثا مجازيّا والقمر مذكرا ، لأنّ قرص الشمس مغطى عادة بأمواج نورها فلا سبيل للنظر إليه ، بخلاف قرص القمر.

أو أن لطافة الملائكة ورقتها قد سببت أن يعتبروها كالنساء ، حيث أن النساء اكثر رقّة ولطافة إذا قيست بالرجال.

٢٨

والعجيب أنّه بعد كل هذه المحاربة الإسلامية لهذا التفكير الخرافي وإبطاله ، فإنّهم إذا ما أرادوا أن يصفوا امرأة فإنّهم يقولون : إنّها ملك ، أمّا في شأن الرجال فقلما يستعمل هذا التعبير. وكذلك قد يختارون كلمة الملك والملاك اسما للنساء!

ثمّ تجيبهم الآية بصيغة الاستفهام الإنكاري فتقول :( أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ) ؟ وتضيف في النهاية :( سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ ) .

لقد ورد ما قرأناه في هذه الآيات بصورة أخرى في سورة النحل الآيات (٥٦ ـ ٦٠) أيضا ، وقد أوردنا هناك بحثا مفصّلا حول عقائد عرب الجاهليّة فيما يتعلق بمسألة الوأد ، وعقيدتهم في جنس المرأة ، وكذلك حول دور الإسلام في إحياء شخصيّة المرأة ومقامها السامي.

* * *

٢٩

الآيات

( وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) )

التّفسير

لا دليل لهم سوى تقليد الآباء الجاهلين!

أعطت الآيات السابقة أوّل جواب منطقي على عقيدة عبدة الأوثان الخرافيّة ، حيث كانوا يظنون أنّ الملائكة بنات الله ، والجواب هو : إنّ الرؤية والحضور في موقف ما ضروري قبل كل شيء لإثبات ادعاء ما ، في حين لا يقوى أي عابد ، وثن أن يدّعي أنّه كان حاضرا حين خلق الملائكة ، وأنّه رأى كيفيّة ذلك الخلق بعينه.

وتتابع هذه الآيات نفس الموضوع ، وتسلك مسالك أخرى لإبطال هذه الخرافة القبيحة ، فتتعرض أوّلا ـ وبصورة مختصرة ـ لأحد الأدلة الواهية لهؤلاء ثمّ تجيب عليه ، فتقول :( وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ) .

٣٠

إنّ هذا التعبير قد يكون إشارة إلى أنّ هؤلاء كانوا يعتقدون بالجبر ، وأن كل ما يصدر منا فهو بإرادة الله ، وكل ما نفعله فهو برضاه أو أنّه لو لم يكن راضيا عن أعمالنا وعقائدنا لوجب أن ينهانا عنها ، ولما لم ينهنا عنها فإنّ ذلك دليل على رضاه.

الحقيقة ، أنّ هؤلاء اختلقوا خرافات جديدة من أجل توجيه عقائدهم الخرافية الفاسدة الأولى ، وافتروا أكاذيب جديدة لإثبات أكاذيبهم الأولى ، وأيّا من الاحتمالين ـ أعلاه ـ كان مرادهم ، فهو فاسد من الأساس.

صحيح أنّ كل شيء في عالم الوجود لا يكون إلّا بإذن الله تعالى ، إلّا أنّ هذا لا يعني الجبر ، إذ يجب أن لا ننسى أنّ الله سبحانه هو الذي أراد لنا أن نكون مختارين وأحرارا في اختيارنا وتصرفنا ، ليختبرنا ويربينا.

وصحيح أيضا أنّه يجب أن يجب أن ينهى الله سبحانه عباده عن الباطل ، لكن لا يمكن إنكار أنّ جميع الأنبياء قد تصدّوا لردع الناس عن كل نوع من أنواع الشرك والازدواجيّة في العبادة.

إضافة إلى ذلك ، فإنّ عقل الإنسان السليم ينكر هذه الخرافات أيضا أليس العقل ـ هو رسول الله الداخلي ـ في أعماق الإنسان؟!

وتجيب الآية في النهاية بجملة قصيرة على هذا الاستدلال الواهي لعبدة الأصنام ، فتقول :( ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) .

إنّ هؤلاء لا علم ولا إيمان لهم حتى بمسألة الجبر أو رضى الله سبحانه عن أعمالهم ، بل هم ـ ككثير من متبعي الهوى والمجرمين الآخرين ـ يتخذون مسألة الجبر ذريعة لهم من أجل تبرئة أنفسهم من الذنب والفساد ، فيقولون : إنّ يد القضاء والقدر هي التي جرتنا إلى هذا الطريق وحتمته علينا! مع علمهم بأنّهم يكذبون ، وأن هذه ذريعة ليس إلّا ، ولذلك فإنّ أحدا لو اغتصبهم حقّا فإنّهم غير مستعدين أبدا لغض النظر عن معاقبته مطلقا ، ولا يقولون : إنّه كان مجبرا على عمله هذا!

٣١

«يخرصون» من الخرص ، وهو في الأصل بمعنى التخمين ، وأطلقت هذه الكلمة أوّلا على تخمين مقدار الفاكهة ، ثمّ أطلقت على الحدس والتخمين ، ولما كان الحدس والتخمين يخطئ أحيانا ولا يطابق الواقع ، فقد استعملت هذه الكلمة بمعنى الكذب أيضا ، و «يخرصون» في هذه الآية من هذا القبيل.

وعلى أيّة حال ، فيظهر من آيات قرآنية عديدة بأنّ عبدة الأوثان كانوا يستدلون ـ مرارا ـ بمسألة المشيئة الإلهيّة من أجل توجيه خرافاتهم ، ومن جملة ذلك أنّهم كانوا قد حرّموا على أنفسهم أشياء وأحلّوا أخرى ، ونسبوا ذلك إلى الله سبحانه ، كما جاء ذلك في الآية (١٤٨) من سورة الأنعام :( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ ) .

وتكرر هذا المعنى في الآية (٣٥) من سورة النحل أيضا :( وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ) .

وقد كذّبهم القرآن الكريم في ذيل آية سورة الأنعام ، حيث يقول :( كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا ) ويصرح في ذيل آية سورة النحل :( فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ ) ؟!

وفي ذيل الآية مورد البحث ينسبهم إلى التخمين والكذب كما رأينا ، وكلها ترجع في الحقيقة إلى أساس ومصدر واحد.

وتشير الآية التالية إلى دليل آخر يمكن أن يكونوا قد استدلوا به ، فتقول :( أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ) (١) ؟ أي يجب على هؤلاء أن يتمسّكوا بدليل العقل لإثبات هذا الادّعاء ، أو بدليل النقل ، في حين لم يكن لهؤلاء دليل لا من العقل ولا من النقل ، فإنّ كل الأدلّة العقلية تدعوا إلى التوحيد ، وكذلك دعا كل

__________________

(١) «أم» هنا متصلة ، وهي معطوفة على (اشهدوا خلقهم) ، والضمير في (من قبله) يعود إلى القرآن. وما احتمله البعض من أن (أم) هنا منقطعة ، أو أن الضمير يرجع إلى الرّسول ، لا يتناسب كثيرا مع القرائن التي في الآية.

٣٢

الأنبياء والكتب السماوية إلى التوحيد.

وأشارت آخر آية ـ من هذه الآيات ـ إلى ذريعتهم الأصلية ، وهي في الواقع خرافة لا أكثر ، أصبحت أساسا لخرافة أخرى ، فتقول :( بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) .

لم يكن لهؤلاء دليل إلّا التقليد الأعمى للآباء والأجداد ، والعجيب أنّهم كانوا يظنون أنّهم مهتدون بهذا التقليد ، في حين لا يستطيع أي إنسان عاقل حر أن يستند إلى التقليد في المسائل العقائدية والأساسية التي يقوم عليها بناؤه الفكري ، خاصة إذا كان التقليد تقليد «جاهل لجاهل» ، لأنا نعلم أن آباء أولئك المشركين لم يكن لهم أدنى حظ من العلم ، وكانت أدمغتهم مليئة بالخرافات والأوهام ، وكان الجهل حاكما على أفكارهم ومجتمعاتهم ، كما توضح ذلك الاية (١٧٠) من سورة البقرة :( أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ) ؟

التقليد يصحّ في المسائل الفرعية وغير الأساسية فقط ، وأيضا يجب أن يكون تقليدا لعالم ، أي رجوع الجاهل إلى العالم ، كما يرجع المريض إلى الطبيب ، وغير المتخصصين إلى أصحاب الإختصاص ، وبناء على هذا فإنّ تقليد هؤلاء كان باطلا بدليلين.

لفظة «الأمّة» تطلق ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ على الجماعة التي تربط بعضها مع البعض الآخر روابط ، إمّا من جهة الدين ، أو وحدة المكان ، أو الزمان ، سواء كانت حلقة الاتصال تلك اختيارية أم إجباريّة. ومن هنا استعملت هذه الكلمة أحيانا بمعنى المذهب ، كما هو الحال في الآية مورد البحث ، إلّا أن معناها الأصلي هو الجماعة والقوم ، وإطلاق هذه الكلمة على الدين يحتاج إلى قرينة(١) .

* * *

__________________

(١) في جملة( إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) مهتدون خبر (إن) و «على آثارهم» متعلق به ، وأمّا ما احتمله البعض من أن «على آثارهم» خبر أوّل ، و (مهتدون) خبر ثان ، فيبدو بعيدا عن الصواب.

٣٣

الآيات

( وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥) )

التّفسير

عاقبة هؤلاء المقلدين :

تواصل هذه الآيات موضوع الآيات السابقة حول الدليل الأصلي للمشركين في عبادتهم للأصنام ، وهو تقليد الآباء ، والأجداد ، فتقول : إن هذا مجرّد ادعاء واه من مشركي العرب :( وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) .

يستفاد من هذه الآية جيدا أنّ المتصدين لمحاربة الأنبياء ، والذين كانوا يقولون بمسألة تقليد الآباء ويدافعون عنها بكل قوّة ، كانوا من المترفين والأثرياء

٣٤

السكارى والمغرورين ، لأنّ (المترف) من مادة (الترفّه) أي كثرة النعمة ، ولما كان كثير من المنعمين يغرقون في الشهوات والأهواء ، فإنّ كلمة «المترف» تعني من طغى بالنعمة وغرق في سكرتها وأصبح مغرورا(١) ، ومصداق ذلك ـ على الأغلب ـ الملوك والجبابرة والأثرياء المستكبرون والأنانيون.

نعم ، هؤلاء هم الذين تتعرض مصالحهم وأنانيّاتهم للفناء بثورة الأنبياء ، ويحدق الخطر بمنافعهم وثرواتهم اللامشروعة ، ويتحرّر المستضعفون من مخالبهم ، ولهذا كانوا يسعون إلى تخدير الناس وإبقائهم جهلاء بمختلف الأساليب والحيل. وأغلب فساد الدنيا ينبع من هؤلاء المترفين الذين يتواجدون في أماكن الظلم والتعدي والمعصية والفساد والرذيلة.

وجدير بالذكر ، أنّنا قرأنا في الآية السابقة أن هؤلاء كانوا يقولون :( إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) وهنا يذكر القرآن أنّهم يقولون :( وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) وبالرغم من أن التعبيرين يعودان إلى معنى واحد في الحقيقة ، إلّا أنّ التعبير الأوّل إشارة إلى دعوى أحقيّة مذهب الآباء ، والتعبير الثّاني إشارة إلى إصرار هؤلاء. وثباتهم على اتباع الآباء والاقتداء بهم.

وعلى أية حال فإنّ هذه الآية نوع من التسلية لخاطر النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ليعلموا أن ذرائع المشركين واستدلالاتهم هذه ليست بالشيء الجديد ، إذ أنّ هذا الطريق سلكه كل المنحرفين الضالين على مر التأريخ.

وتبيّن الآية التالية جواب الأنبياء السابقين على حجج هؤلاء المشركين والمنحرفين بوضوح تام ، فتقول :( قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ ) (٢) ؟

__________________

(١) تقرأ في لسان العرب : أترفته النعمة ، أي : أطغته.

(٢) لهذه الجملة محذوف تقديره : أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم. تفسير الكشاف المراغي ، القرطبي ، وروح المعاني.

٣٥

هذا التعبير هو أكثر التعابير المؤدبة الممكن طرحها أمام قوم عنيدين مغرورين ، ولا يجرح عواطفهم أو يمسها مطلقا ، فهو لا يقول : إن ما تقولونه كذب وخرافة ، بل يقول : إنّ ما جئت به أهدى من دين آبائكم ، فتعالوا وانظروا فيه وطالعوه.

إنّ مثل هذه التعبيرات القرآنية تعلمنا آداب المحاورة والمجادلة وخاصّة أمام الجاهلين المغرورين.

ومع كل ذلك ، فإنّ هؤلاء كانوا غرقى الجهل والتعصب والعناد بحيث لم يؤثّر فيهم حتى هذا المقال المؤدب الرقيق ، فكانوا يجيبون أنبياءهم بجواب واحد فقط :( قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ) دون أن يأتوا بأيّ دليل على مخالفتهم ، ودون أن يتأملوا في الاقتراح المعقول المتين لأنبياء الله ورسله.

من البديهي أنّ مثل هؤلاء الأقوام الطاغين المعاندين ، لا يستحقون البقاء ، وليست لهم أهليّة الحياة ، ولا بدّ أن ينزل عذاب الله ليقتلع هذه الأشواك من الطريق ويطهره منها ، ولذلك فإنّ آخر آية ـ من هذه الآيات ـ تقول :( فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) فبعضهم بالطوفان ، وآخرون بالزلزلة المدمرة ، وجماعة بالعاصفة والصاعقة ، وخلاصة القول : إنّا دمّرنا كل فئة منهم بأمر صارم فأهلكناهم.

وأخيرا وجهت الآية الخطاب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أجل أن يعتبر مشركو مكّة أيضا ، فقالت :( فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) فعلى مشركي مكّة المعاندين أن يتوقعوا مثل هذا المصير المشؤوم.

* * *

٣٦

الآيات

( وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) )

التّفسير

التوحيد كلمة الأنبياء الخالدة :

أشارت هذه الآيات إشارة موجزة إلى قصّة إبراهيم ، وما جرى له مع قوم بابل عبدة الأوثان ، لتكمل بذلك بحث ذم التقليد ، الذي ورد في الآيات السابقة ، وذلك لأنّه :

أوّلا : إنّ إبراهيمعليه‌السلام كان الجد الأكبر للعرب ، وكانوا يعدونه محترما ويقدّسونه ، ويفتخرون بتأريخه ، فإذا كان اعتقادهم وقولهم هذا حقّا فيجب عليهم أن يتبعوه عند ما مزّق حجب التقليد. وإذا كان سبيلهم تقليد الآباء ، فلما ذا يقلّدون عبدة

٣٧

الأوثان ولا يتّبعون إبراهيمعليه‌السلام .

ثانيا : إنّ عبدة الأصنام استندوا إلى هذا الاستدلال الواهي ـ وهو اتباع الآباء ـ فلم يقبله إبراهيم منهم أبدا ، كما يقول القرآن الكريم في سورة الأنبياء ـ ٥٣ ، ٥٤ :( قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

ثالثا : إنّ هذه الآية نوع من التطييب لخاطر الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين الأوائل ليعلموا أنّ مثل هذه المخالفات والتوسّلات بالمعاذير والحجج الواهية كانت موجودة دائما ، فلا ينبغي أن يضعفوا أو ييأسوا.

تقول الآية الأولى :( وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ) (١) ، ولما كان كثير من عبدة الأصنام يعبدون الله أيضا ، فقد استثناه إبراهيم مباشرة فقال :( إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ) .

إنّهعليه‌السلام يذكر في هذه العبارة الوجيزة دليلا على انحصار العبوديّة بالله تعالى ، لأنّ المعبود هو الخالق والمدبر ، وكان الجميع مقتنعين بأنّ الخالق هو الله سبحانه ، وكذلك أشارعليه‌السلام في هذه العبارة إلى مسألة هداية الله التكوينيّة والتشريعيّة التي يوجبها قانون اللطف(٢) .

وقد ورد هذا المعنى في سورة الشعراء ، الآيات ٧٧ ـ ٨٢ أيضا.

ولم يكن إبراهيمعليه‌السلام من أنصار أصل التوحيد ، ومحاربة كل اشكال الشرك طوال حياته وحسب ، بل إنّه بذل قصارى جهده من أجل إبقاء كلمة التوحيد في هذا العالم إلى الأبد ، كما تبيّن ذلك الآية التالية إذ تقول :( وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي

__________________

(١) «براء» مصدر ، وهي تعني التبرؤ ، ولها في مثل هذه الموارد معنى الوصف بشكل مؤكد والمبالغة ، كـ (زيد عدل) ولما كانت مصدرا فقد تساوى فيها المفرد والجمع ، والمذكر والمؤنث.

(٢) طبقا لهذا التفسير ، فإن الاستثناء في جملة «إلا الذي فطرني» متصل ، لأن كثيرا من عبدة الأوثان لم يكونوا منكرين لله ، بل كانوا يشركون معه غيره ، إلا أنه احتمل أيضا أن يكون الاستثناء منقطعا ، و (إلا) بمعنى (لكن) لأن التعبير بـ (ما تعبدون) يشير إلى الأصنام ، فإن هذا التعبير غير متعارف في شأن الله تعالى. (تأمل).

٣٨

عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (١) .

والطريف أنّ كل الأديان التي تتحدّث عن التوحيد اليوم تستلهم دعوتها وأفكارها من تعليمات إبراهيمعليه‌السلام التوحيديّة ، وأنّ ثلاثة من أنبياء الله العظام ـ وهم موسىعليه‌السلام وعيسىعليه‌السلام ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ من ذرّيته ، وهذا دليل على صدق تنبؤ القرآن في هذا الباب.

صحيح أنّ أنبياء آخرين قبل إبراهيمعليه‌السلام ـ كنوحعليه‌السلام ـ قد حاربوا الشرك والوثنيّة ، ودعوا البشر إلى التوحيد ، إلّا أنّ الذي منح هذه الكلمة الاستقرار والثبات ، ورفع رايتها في كلّ مكان ، كان إبراهيمعليه‌السلام محطّم الأصنام. فهوعليه‌السلام لم يسع لاستمرار خطّ التوحيد في زمانه وحسب ، بل إنّه طلب استمرار هذا الأمر من الله سبحانه في أدعيته إذ قال :( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ) (٢) .

ثمّة تفسير آخر ، وهو : إنّ الضمير في (جعل) يعود إلى الله سبحانه ، فيكون معنى الجملة : إنّ الله سبحانه قد جعل كلمة التوحيد في أسرة إبراهيم.

غير أنّ رجوع الضمير إلى إبراهيمعليه‌السلام ـ وهو التّفسير الأوّل يبدو أنسب ، لأنّ الجمل السابقة تتحدّث عن إبراهيم ، ومن المناسب أن يكون هذا الجزء من جملة أعمال إبراهيم ، خاصّة وأنّه قد أكّد على هذا المعنى في آيات عديدة من القرآن الكريم ، وإنّ إبراهيم كان مصرّا على أن يبقى بنوه وعقبه على دين الله ، كما نقرأ في الآيتين (١٣١) ، (١٣٢) من سورة البقرة :( إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ* وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) .

والتصوّر بأنّ (جعل) يعني الخلق ، وأنّه مختصّ بالله سبحانه ، تصوّر خاطئ ، لأنّ (الجعل) يطلق على أعمال البشر وغيرهم أيضا ، وفي القرآن نماذج كثيرة

__________________

(١) «العقب» في الأصل بمعنى كعب القدم ، إلّا أن هذه الجملة استعملت فيما بعد في الأولاد وأولاد الأولاد بصورة واسعة.

(٢) إبراهيم ، الآية ٣٥.

٣٩

لذلك ، فمثلا عبّر القرآن عن إلقاء يوسف في البئر من قبل إخوته ، بالجعل :( فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ ) (١)

اتّضح ممّا قلناه أنّ ضمير المفعول في (جعلها) يعود إلى كلمة التوحيد وشهادة (لا إله إلّا الله) ويستفاد هذا من جملة :( إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ) التي تخبر عن مساعي إبراهيم من أجل استمرار خط التوحيد في الأجيال القادمة.

وورد في روايات عديدة من طرق أهل البيتعليهم‌السلام اعتبار مرجع الضمير إلى مسألة الإمامة ، وضمير الفاعل يرجع إلى الله طبعا ، أي إنّ الله سبحانه قد جعل مسألة الإمامة مستمرّة في ذريّة إبراهيمعليه‌السلام ، كما يستفاد من الآية (١٢٤) من سورة البقرة ، إذ لما قال الله سبحانه لإبراهيم :( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) طلب إبراهيمعليه‌السلام أن يكون أبناؤه أئمّة أيضا ، فاستجاب الله دعاءه ، إلّا في الذين ظلموا وتلوّثوا بالمعصية والجور :( قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) .

إلّا أنّ الإشكال الذي يتبادر لأوّل وهلة هو أنّه لا كلام عن الإمامة في الآية مورد البحث ، اللهمّ إلّا أن تكون جملة (سيهدين) إشارة إلى هذا المعنى ، لأنّ هداية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والأئمّةعليهم‌السلام شعاع من هداية الله المطلقة ، وحقيقة الهداية والإمامة واحدة.

والأفضل من ذلك أن يقال : إنّ مسألة الإمامة مندرجة في كلمة التوحيد ، لأنّ للتوحيد فروعا أحدها التوحيد في الحاكميّة والولاية والقيادة ، ونحن نعلم أنّ الأئمّة يأخذون ولايتهم وزعامتهم من الله سبحانه ، لا أنّهم مستقلّون بأنفسهم ، وبهذا فإنّ هذه الرّوايات تعتبر من قبيل بيان مصداق وفرع من المعنى العام لـ( جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً ) ولهذا فإنّه لا منافاة مع التّفسير الذي ذكرناه في البداية.

__________________

(١) يوسف ، الآية ١٥.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

و الحال أنّه هلكت اُمم الماضون العائشون من قبلي و لم يُحي منهم أحد و لا بُعث.

و هذا على زعمهم حجّة على نفي المعاد و تقريره أنّه لو كان هناك إحياء و بعث لاُحيي بعض من هلك إلى هذا الحين و هم فوق حدّ الإحصاء عدداً في أزمنة طويلة لا أمد لها و لا خبر عنهم و لا أثر و لم يتنبّهوا أنّ القرون السالفة لو عادوا كما يقولون كان ذلك بعثاً لهم و إحياءً في الدنيا و الّذي وعده الله سبحانه هو البعث للحياة الآخرة و القيام لنشأة اُخرى غير الدنيا.

و قوله:( وَ هُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ) الاستغاثة طلب الغوث من الله أي و الحال أنّ والديه يطلبان من الله أن يغيثهما و يعينهما على إقامة الحجّة و استمالته إلى الإيمان و يقولان له: ويلك آمن بالله و بما جاء به رسوله و منه وعده تعالى بالمعاد إنّ وعد الله بالمعاد من طريق رسله حقّ.

و منه يظهر أنّ مرادهما بقولهما:( آمِنْ ) هو الأمر بالإيمان بالله و رسوله فيما جاء به من عندالله، و قولهما:( إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ) المراد به المعاد، و تعليل الأمر بالإيمان به لغرض الإنذار و التخويف.

و قوله:( فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) الإشارة بهذا إلى الوعد الّذي ذكراه و أنذراه به أو مجموع ما كانا يدعوانه إليه و المعنى: فيقول هذا الإنسان لوالديه ليس هذا الوعد الّذي تنذرانني به أو ليس هذا الّذي تدعوانني إليه إلّا خرافات الأوّلين و هم الاُمم الأوّليّة الهمجيّة.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ) إلخ، تقدّم بعض الكلام فيه في تفسير الآية 25 من سورة حم السجدة.

قوله تعالى: ( وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ) إلى آخر الآية أي لكلّ من المذكورين و هم المؤمنون البررة و الكافرون الفجرة منازل و مراتب مختلفة صعوداً و حدوراً فللجنّة درجات و للنار دركات.

و يعود هذا الاختلاف إلى اختلافهم في أنفسهم و إن كان ظهوره في أعمالهم و لذلك قال:( لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ) فالدرجات لهم و منشأها أعمالهم.

٢٢١

و قوله:( وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) اللّام للغاية و الجملة معطوفة على غاية أو غايات اُخرى محذوفة لم يتعلّق بذكرها غرض، و إنّما جعلت غاية لقوله:( لِكُلٍّ دَرَجاتٌ) لأنّه في معنى و جعلناهم درجات، و المعنى: جعلناهم درجات لكذا و كذا و ليوفّيهم أعمالهم و هم لا يظلمون.

و معنى توفيتهم أعمالهم إعطاؤهم نفس أعمالهم فالآية من الآيات الدالّة على تجسّم الأعمال، و قيل: الكلام على تقدير مضاف و التقدير و ليوفّيهم اُجور أعمالهم.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ) إلخ، عرض الماء على الدابّة و للدابّة وضعه بمرأى منها بحيث إن شاءت شربته، و عرض المتاع على البيع وضعه موضعاً لا مانع من وقوع البيع عليه.

و قوله:( وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ) قيل: المراد بعرضهم على النار تعذيبهم فيها من قولهم: عرض فلان على السيف إذا قتل و هو مجاز شائع.

و فيه أنّ قوله في آخر السورة( وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى‏ وَ رَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ ) لا يلائمه تلك الملاءمة حيث فرّع ذوق العذاب على العرض فهو غيره.

و قيل: إنّ في الآية قلباً و الأصل عرض النار على الّذين كفروا لأنّ من الواجب في تحقّق معنى العرض أن يكون في المعروض عليه شعور بالمعروض و النار لا شعور لها بالّذين كفروا بل الأمر بالعكس ففي الكلام قلب، و المراد عرض النار على الّذين كفروا.

و وجّهه بعض المفسّرين بأنّ المناسب أن يؤتى بالمعروض إلى المعروض عليه كما في قولنا: عرضت الماء على الدابّة و عرضت الطعام على الضيف، و لمّا كان الأمر في عرض النار على الّذين كفروا بالعكس فإنّهم هم المسيّرون إلى النار فقلب الكلام رعاية لهذا الاعتبار.

و فيه نظر أمّا ما ذكر من أنّ المعروض عليه يجب أن يكون ذا شعور و إدراك بالمعروض حتّى يرغب إليه أو يرغب عنه و النار لا شعور لها ففيه أوّلاً: أنّه

٢٢٢

ممنوع كما يؤيّده قولهم: عرضت المتاع على البيع، و قوله تعالى:( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ ) الأحزاب: 72، و ثانياً: أنّا لا نسلّم خلوّ نار الآخرة عن الشعور، ففي الأخبار الصحيحة أنّ للجنّة و النار شعوراً و يشعر به قوله:( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) ق: 30، و غيره من الآيات.

و أمّا ما قيل من أنّ المناسب تحريك المعروض إلى المعروض عليه فلا نسلّم لزومه و لا اطّراده فهو منقوض بقوله:( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الآية، الأحزاب: 72.

على أنّ في كلامه تعالى ما يدلّ على الإتيان بالنار إلى الّذين كفروا كقوله:( وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى) الفجر: 23.

فالحقّ أنّ العرض و هو إظهار عدم المانع من تلبّس شي‏ء بشي‏ء معنى له نسبة إلى الجانبين يمكن أخذ كلّ منهما أصلاً معروضاً عليه و الآخر فرعاً معروضاً فتارة تؤخذ النار معروضة على الكافرين بعناية أن لا مانع من عمل صالح أو شفاعة تمنع من دخولهم فيها كقوله تعالى:( وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً ) الكهف: 100، و تارة يؤخذ الكفّار معروضين للنار بعناية أن لا مانع يمنع النار أن تعذّبهم، كما في قوله:( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا ) المؤمن: 36، و قوله:( يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ) الآية.

و على هذا فالأشبه تحقّق عرضين يوم القيامة: عرض جهنّم للكافرين حين تبرز لهم ثمّ عرضهم على جهنّم بعد الحساب و القضاء الفصل بدخولهم فيها حين يساقون إليها، قال تعالى:( وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‏ جَهَنَّمَ زُمَراً ) الزمر: 71.

و قوله:( أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها ) على تقدير القول أي يقال لهم:( أَذْهَبْتُمْ ) إلخ، و الطيّبات الاُمور الّتي تلائم النفس و توافق الطبع و يستلذ بها الإنسان، و إذهاب الطيّبات إنفادها بالاستيفاء لها، و المراد بالاستمتاع بها استعمالها و الانتفاع بها لنفسها لا للآخرة و التهيّؤ لها.

و المعنى: يقال لهم حين عرضهم على النار: أنفذتم الطيّبات الّتي تلتذّون بها في

٢٢٣

حياتكم الدنيا و استمتعتم بتلك الطيّبات فلم يبق لكم شي‏ء تلتذّون به في الآخرة.

و قوله:( فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ) تفريع على إذهابهم الطيّبات، و عذاب الهون العذاب الّذي فيه الهوان و الخزي.

و المعنى: فاليوم تجزون العذاب الّذي فيه الهوان و الخزي قبال استكباركم في الدنيا عن الحقّ و قبال فسقكم و تولّيكم عن الطاعات، و هما ذنبان أحدهما متعلّق بالاعتقاد و هو الاستكبار عن الحقّ و الثاني متعلّق بالعمل و هو الفسق.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و عبد بن حميد و ابن المنذر من طريق قتادة عن أبي حرب بن أبي الأسود الدئليّ قال: رفع إلى عمر امرأة ولدت لستّة أشهر فسأل عنها أصحاب النبيّ فقال عليّ: لا رجم عليها أ لا ترى أنّه يقول:( وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) ، و قال:( وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ ) ، و كان الحمل ههنا ستّة أشهر فتركها عمر. قال: ثمّ بلغنا أنّها ولدت آخر لستّة أشهر.

أقول: و روى القصّة المفيد في الإرشاد.

و فيه، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن بعجة بن عبدالله الجهنيّ قال: تزوّج رجل منّا امرأة من جهينة فولدت له تماماً لستّة أشهر فانطلق زوجها إلى عثمان بن عفّان فأمر برجمها فبلغ ذلك عليّاً فأتاه فقال: ما تصنع؟ قال: ولدت تماماً لستّة أشهر و هل يكون ذلك؟ قال عليّ: أ مّا سمعت الله تعالى يقول:( وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) و قال:( حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ) فكم تجده بقي إلّا ستّة أشهر؟.

فقال عثمان: و الله ما فطنت لهذا. عليّ بالمرأة فوجدوها قد فرغ منها، و كان من قولها لاُختها: لا تحزني فو الله ما كشف فرجي أحد قطّ غيره. قال: فشبّ الغلام بعد فاعترف الرجل به و كان أشبه الناس به. قال: فرأيت الرجل بعد يتساقط عضواً عضواً على فراشه.

٢٢٤

و في التهذيب، بإسناده عن عبدالله بن سنان عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سأله أبي و أنا حاضر عن قول الله عزّوجلّ:( حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ ) قال: الاحتلام.

و في الخصال، عن أبي بصير قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : إذا بلغ العبد ثلاثاً و ثلاثين سنة فقد بلغ أشدّه، و إذا بلغ أربعين سنة فقد بلغ منتهاه، فإذا طعن في إحدى و أربعين فهو في النقصان، و ينبغي لصاحب الخمسين أن يكون كمن كان في النزع.

أقول: لا تخلو الرواية من إشعار بكون بلوغ الأشدّ ممّا يختلف بالمراتب فيكون الاحتلام و هو غالباً في الستّ عشرة أوّل مرتبة منها و الثلاث و الثلاثين و هي بعد مضيّ ستّ عشرة اُخرى المرتبة الثانية، و قد تقدّم في نظيره الآية من سورة يوسف بعض أخبار اُخر.

و اعلم أنّه قد وردت في الآية أخبار تطبّقها على الحسين بن عليّعليه‌السلام و ولادته لستّة أشهر و هي من الجري.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن عبدالله قال: إنّي لفي المسجد حين خطب مروان فقال: إنّ الله قد أرى أميرالمؤمنين في يزيد رأياً حسناً و إن يستخلفه فقد استخلف أبوبكر و عمر، فقال عبدالرحمن بن أبي بكر: أ هرقليّة؟ إنّ أبابكر و الله ما جعلها في أحد من ولده و لا أحد من أهل بيته و لا جعلها معاوية إلّا رحمة و كرامة لولده.

فقال مروان: أ لست الّذي قال لوالديه: اُفّ لكما؟ فقال عبدالرحمن: أ لست ابن اللعين الّذي لعن أباك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟.

قال: و سمعتها عائشة فقالت: يا مروان أنت القائل لعبدالرحمن كذا و كذا؟ كذبت و الله ما فيه نزلت. نزلت في فلان بن فلان.

و فيه، أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس: في الّذي قال لوالديه اُفّ لكما الآية، قال: هذا ابن لأبي بكر.

أقول: و روي ذلك أيضاً عن قتادة و السدّي، و قصّة رواية مروان و تكذيب عائشة له مشهورة. قال في روح المعاني بعد ردّ رواية مروان: و وافق بعضهم كالسهيلي

٢٢٥

في الأعلام مروان في زعم نزولها في عبدالرحمن، و على تسليم ذلك لا معنى للتعيير لا سيّما من مروان فإنّ الرجل أسلم و كان من أفاضل الصحابة و أبطالهم، و كان له في الإسلام عناء يوم اليمامة و غيره، و الإسلام يجبّ ما قبله فالكافر إذا أسلم لا ينبغي أن يعيّر بما كان يقول. انتهى.

و فيه أنّ الروايات لو صحّت لم يكن مناص عن صريح شهادة الآية عليه بقوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ - إلى قوله -إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ ) و لم ينفع شي‏ء ممّا دافع عنه به.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا - إلى قوله -وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها ) قال: أكلتم و شربتم و ركبتم، و هي في بني فلان( فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ ) قال: العطش.

و في المحاسن، بإسناده عن ابن القدّاح عن أبي عبداللهعليه‌السلام عن آبائهعليهم‌السلام قال: اُتي يعني النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخبيص(1) فأبى أن يأكله- فقيل: أ تحرّمه؟ فقال: لا و لكنّي أكره أن تتوق إليه نفسي ثمّ تلا الآية( أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا ) .

و في المجمع، في الآية و قد روي في الحديث أنّ عمر بن الخطّاب قال: استأذنت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدخلت عليه في مشربة اُمّ إبراهيم و إنّه لمضطجع على حفصة و إنّ بعضه على التراب و تحت رأسه وسادة محشوّة ليفا فسلّمت عليه ثمّ جلست فقلت: يا رسول الله أنت نبيّ الله و صفوته و خيرته من خلقه و كسرى و قيصر على سرير الذهب و فرش الحرير و الديباج! فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اُولئك قوم عجّلت طيّباتهم و هي وشيكة الانقطاع، و إنّما اُخّرت لنا طيّباتنا.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، بطرق عنه.

____________________

(1) نوع من الحلواء.

٢٢٦

( سورة الأحقاف الآيات 21 - 28)

وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 21 ) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 22 ) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ( 23 ) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا  بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ  رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 24 ) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ  كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ( 25 ) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 26 ) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَىٰ وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 27 ) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ قُرْبَانًا آلِهَةً  بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ  وَذَٰلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 28 )

( بيان‏)

لمّا قسّم الناس على قسمين و انتهى الكلام إلى الإنذار عقّب ذلك بالإشارة إلى قصّتين قصّة قوم عاد و هلاكهم و معها الإشارة إلى هلاك القرى الّتي حول مكّة و

٢٢٧

قصّة إيمان قوم من الجنّ صرفهم الله إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستمعوا القرآن فآمنوا و رجعوا إلى قومهم منذرين و إنّما أورد القصّتين ليعتبر بهما من شاء أن يعتبر منهم، و هذه الآيات المنقولة تتضمّن اُولى القصّتين.

قوله تعالى: ( وَ اذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَ قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) إلخ، أخو القوم هو المنسوب إليهم من جهة الأب، و المراد بأخي عاد هود النبيّعليه‌السلام ، و الأحقاف مسكن قوم عاد و المتيقّن أنّه في جنوب جزيرة العرب و لا أثر اليوم باقياً منهم، و اختلفوا أين هو؟ فقيل: واد بين عمان و مهرة، و قيل رمال بين عمّان إلى حضرموت، و قيل: رمال مشرفة على البحر بالشّحر من أرض اليمن و قيل غير ذلك.

و قوله:( وَ قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) النذر جمع نذير و المراد به الرسول على ما يفيده السياق، و أمّا تعميم بعضهم الندر للرسول و نوّابهم من العلماء ففي غير محلّه.

و فسّروا( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ) بالّذين كانوا قبله و( مِنْ خَلْفِهِ ) بالّذين جاؤا بعده و يمكن العكس بأن يكون المراد بالنذر بين يديه من كانوا في زمانه، و من خلفه من كان قبله، و الأولى على الأوّل أن يكون المراد بخلو النذر من بين يديه و من خلفه أن يكون كناية عن مجيئه إليهم و إنذاره لهم على فترة من الرسل.

و قوله:( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) تفسير للإنذار و فيه إشارة إلى أنّ أساس دينه الّذي يرجع إليه تفاصيله هو التوحيد.

و قوله:( إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) تعليل لدعوتهم إلى التوحيد، و الظاهر أنّ المراد باليوم العظيم يوم عذاب الاستئصال لا يوم القيامة يدلّ على ذلك ما سيأتي من قولهم:( فَأْتِنا بِما تَعِدُنا ) و قوله:( بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ) و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا ) إلخ، جواب القوم له قبال إنذاره، و قوله:( لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا ) بتضمين الإفك و هو الكذب و الفرية معنى الصرف و المعنى: قالوا أ جئتنا لتصرفنا عن آلهتنا إفكا و افتراء.

٢٢٨

و قوله:( فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) أمر تعجيزيّ منهم له زعماً منهم أنّهعليه‌السلام كاذب في دعواته آفك في إنذاره.

قوله تعالى: ( قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَ أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ ) إلخ، جواب هود عن قولهم ردّاً عليهم، فقوله:( إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ ) قصر العلم بنزول العذاب فيه تعالى لأنّه من الغيب الّذي لا يعلم حقيقته إلّا الله جلّ شأنه، و هو كناية عن أنّهعليه‌السلام لا علم له بأنّه ما هو؟ و لا كيف هو؟ و لا متى هو؟ و لذلك عقّبه بقوله:( وَ أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ ) أي إنّ الّذي حمّلته و اُرسلت به إليكم هو الّذي اُبلّغكموه و لا علم لي بالعذاب الّذي اُمرت بإنذاركم به ما هو؟ و كيف هو؟ و متى هو؟ و لا قدرة لي عليه.

و قوله:( وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ) إضراب عمّا يدلّ عليه الكلام من نفيه العلم عن نفسه، و المعنى: لا علم لي بما تستعجلون به من العذاب و لكنّي أراكم قوماً تجهلون فلا تميّزون ما ينفعكم ممّا يضرّكم و خيركم من شرّكم حين تردّون دعوة الله و تكذّبون بآياته و تستهزؤن بما يوعدكم به من العذاب.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا ) إلخ، صفة نزول العذاب إليهم بادئ ظهوره عليهم.

و العارض هو السحاب يعرض في الاُفق ثمّ يطبق السماء و هو صفة العذاب الّذي يرجع إليه ضمير( رَأَوْهُ ) المعلوم من السياق، و قوله:( مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ) صفة اُخرى له، و الأودية جمع الوادي، و قوله:( قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا ) أي استبشروا ظنّاً منهم أنّه سحاب عارض ممطر لهم فقالوا: هذا الّذي نشاهده سحاب عارض ممطر إيّانا.

و قوله:( بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ) ردّ لقولهم:( هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا ) بالإضراب عنه إلى بيان الحقيقة فبيّن أوّلاً على طريق التهكّم أنّه العذاب الّذي استعجلتم به حين قلتم:( فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) و زاد في البيان ثانياً بقوله:( رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

و الكلام من كلامه تعالى و قيل: هو كلام لهود النبيّعليه‌السلام .

٢٢٩

قوله تعالى: ( تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ‏ءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى‏ إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ) التدمير الإهلاك، و تعلّقه بكلّ شي‏ء و إن كان يفيد عموم التدمير لكنّ السياق يخصّصه بنحو الإنسان و الدوابّ و الأموال، فالمعنى: إنّ تلك الريح ريح تهلك كلّ ما مرّت عليه من إنسان و دوابّ و أموال.

و قوله:( فَأَصْبَحُوا لا يُرى‏ إِلَّا مَساكِنُهُمْ ) بيان لنتيجة نزول العذاب، و قوله:( كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ) إعطاء ضابط كلّيّ في مجازاة المجرمين بتشبيه الكلّيّ بالفرد الممثّل به و التشبيه في الشدّة أي إنّ سنّتنا في جزاء المجرمين على هذا النحو الّذي قصصناه من الشدّة فهو كقوله تعالى:( وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى‏ وَ هِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) هود: 102.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ) إلخ، موعظة لكفّار مكّة مستنتجة من القصّة.

و التمكين إقرار الشي‏ء و إثباته في المكان، و هو كناية عن إعطاء القدرة و الاستطاعة في التصرّف و( ما ) في( فيما ) موصولة أو موصوفة و( إِنْ ) نافية، و المعنى: و لقد جعلنا قوم هود في الّذي - أو في شي‏ء - ما مكّنّاكم معشر كفّار مكّة و من يتلوكم فيه من بسطة الأجسام و قوّة الأبدان و البطش الشديد و القدرة القوميّة.

و قوله:( وَ جَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَ أَبْصاراً وَ أَفْئِدَةً ) أي جهّزناهم بما يدركون به ما ينفعهم و ما يضرّهم و هو السمع و الأبصار و ما يميّزون به ما ينفعهم ممّا يضرّهم فيحتالون لجلب النفع و لدفع الضرّ بما قدروا كما أنّ لكم ذلك.

و قوله:( فَما أَغْنى‏ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لا أَبْصارُهُمْ وَ لا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ ) ما في( فَما أَغْنى‏ ) نافية لا استفهاميّة، و( إِذْ ) ظرف متعلّق بالنفي الّذي في قوله:( فَما أَغْنى) .

و محصّل المعنى: أنّهم كانوا من التمكّن على ما ليس لكم ذلك و كان لهم من أدوات الإدراك و التمييز ما يحتال به الإنسان لدفع المكاره و الاتّقاء من الحوادث المهلكة المبيدة لكن لم يغن عنهم و لم ينفعهم هذه المشاعر و الأفئدة شيئاً عند ما جحدوا

٢٣٠

آيات الله فما الّذي يؤمّنكم من عذاب الله و أنتم جاحدون لآيات الله.

و قيل: معنى الآية: و لقد مكّنّاهم في الّذي أو في شي‏ء ما مكّنّاكم فيه من القوّة و الاستطاعة و جعلنا لهم سمعاً و أبصاراً و أفئدة ليستعملوها فيما خلقت له و يسمعوا كلمة الحقّ و يشاهدوا آيات التوحيد و يعتبروا بالتفكّر في العبر، و يستدلّوا بالتعقّل الصحيح على المبدإ و المعاد فما أغنى عنهم سمعهم و لا أبصارهم و لا أفئدتهم من شي‏ء حيث لم يستعملوها فيما يوصل إلى معرفة الله سبحانه، هذا و لعلّ الّذي قدّمناه من المعنى أنسب للسياق.

و قد جوّزوا في مفردات الآية وجوهاً لم نوردها لعدم جدوى فيها.

و قد تقدّم في نظائر قوله:( سَمْعاً وَ أَبْصاراً وَ أَفْئِدَةً ) أنّ إفراد السمع - و المراد منه الجمع - لمكان مصدريّته في الأصل نظير الضيف و القربان و الجنب، قال تعالى:( ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ) الذاريات: 24 و قال:( إِذْ قَرَّبا قُرْباناً ) المائدة: 27، و قال:( وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً ) المائدة: 6.

و قوله:( وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) عطف على قوله:( فَما أَغْنى‏ عَنْهُمْ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) تذكرة إنذارية متفرّعة على العظة الّتي في قوله:( وَ لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ ) إلخ، فهي معطوفة عليه على ما يفيده السياق لا على قوله:( وَ اذْكُرْ أَخا عادٍ ) .

و قوله:( وَ صَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) أي و صيّرنا الآيات المختلفة من معجزة أيّدنا بها الأنبياء و وحي أنزلناه عليهم و نعم رزقناهموها ليتذكّروا بها و نقم ابتليناهم بها ليتوبوا و ينصرفوا عن ظلمهم لعلّهم يرجعون من عبادة غير الله سبحانه إلى عبادته.

و الضمير في( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) راجع إلى القرى و المراد بها أهل القرى.

قوله تعالى: ( فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً ) إلخ، ظاهر السياق أنّ آلهة مفعول ثان لاتّخذوا و مفعوله الأوّل هو الضمير الراجع إلى

٢٣١

الموصول و( قرباناً ) بمعنى ما يتقرّب به، و الكلام مسوق للتهكّم، و المعنى: فلو لا نصرهم الّذين اتّخذوهم آلهة حال كونهم متقرّباً بهم إلى الله كما كانوا يقولون:( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى‏ ) .

و قوله:( بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ ) أي ضلّ الآلهة عن أهل القرى و انقطعت رابطة الاُلوهيّة و العبوديّة الّتي كانوا يزعمونها و يرجون بذلك أن ينصروهم عند الشدائد و المكاره فالضلال عنهم كناية عن بطلان مزعمتهم.

و قوله:( وَ ذلِكَ إِفْكُهُمْ وَ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) مبتدأ و خبر و الإشارة إلى ضلال آلهتهم، و المراد بالإفك أثر الإفك أو بتقدير مضاف، و( ما ) مصدريّة، و المعنى: و ذلك الضلال أثر إفكهم و افترائهم.

و يمكن أن يكون الكلام على صورته من غير تقدير مضاف أو تجوّز و الإشارة إلى إهلاكهم بعد تصريف الآيات و ضلال آلهتهم عند ذلك، و محصّل المعنى: أنّ هذا الّذي ذكرناه من عاقبة أمرهم هو حقيقة زعمهم أنّ الآلهة يشفعون لهم و يقرّبونهم من الله زعمهم الّذي أفكوه و افتروه، و الكلام مسوق للتهكّم.

٢٣٢

( سورة الأحقاف الآيات 29 - 35)

وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا  فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ( 29 ) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ( 30 ) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( 31 ) وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ  أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( 32 ) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ  بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 33 ) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ  قَالُوا بَلَىٰ وَرَبِّنَا  قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ( 34 ) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ  كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ  بَلَاغٌ  فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ( 35 )

( بيان‏)

هذه هي القصّة الثانية عقّبت بها قصّة عاد ليعتبر بها قومهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن اعتبروا، و فيه تقريع للقوم حيث كفروا بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بكتابه النازل على لغتهم و هم يعلمون أنّها

٢٣٣

آية معجزة و هم مع ذلك يماثلونه في النوعيّة البشريّة و قد آمن الجنّ بالقرآن إذ استمعوا إليه و رجعوا إلى قومهم منذرين.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ) إلى آخر الآية الصرف ردّ الشي‏ء من حالة إلى حالة أو من مكان إلى مكان، و النفر - على ما ذكره الراغب - عدّة من الرجال يمكنهم النفر و هو اسم جمع يطلق على ما فوق الثلاثة من الرجال و النساء و الإنسان و على الجنّ كما في الآية و( يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ) صفة نفر، و المعنى: و اذكر إذ وجّهنا إليك عدّة من الجنّ يستمعون القرآن.

و قوله:( فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا ) ضمير( حَضَرُوهُ ) للقرآن بما يلمح إليه من المعنى الحدثيّ و الإنصات السكوت للاستماع أي فلمّا حضروا قراءة القرآن و تلاوته قالوا أي بعضهم لبعض: اسكتوا حتّى نستمع حقّ الاستماع.

و قوله:( فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى‏ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ) ضمير( قُضِيَ ) للقرآن باعتبار قراءته و تلاوته، و التولية الانصراف و( مُنْذِرِينَ ) حال من ضمير الجمع في( وَلَّوْا ) أي فلمّا اُتمّت القراءة و فرغ منها انصرفوا إلى قومهم حال كونهم منذرين مخوّفين لهم من عذاب الله.

قوله تعالى: ( قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى‏ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ) إلخ، حكاية دعوتهم قومهم و إنذارهم لهم، و المراد بالكتاب النازل بعد موسى القرآن، و في الكلام إشعار بل دلالة على كونهم مؤمنين بموسىعليه‌السلام و كتابه، و المراد بتصديق القرآن لما بين يديه تصديقه التوراة أو جميع الكتب السماويّة السابقة.

و قوله:( يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَ إِلى‏ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ) أي يهدي من اتّبعه إلى صراط الحقّ و إلى طريق مستقيم لا يضلّ سالكوه عن الحقّ في الاعتقاد و العمل.

قوله تعالى: ( يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) المراد بداعي الله هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال تعالى:( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى‏ بَصِيرَةٍ ) يوسف: 108، و قيل: المراد به ما سمعوه من القرآن و هو بعيد.

٢٣٤

و الظاهر أنّ( مِنْ ) في( يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) للتبعيض، و المراد مغفرة بعض الذنوب و هي الّتي اكتسبوها قبل الإيمان، قال تعالى:( إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ) الأنفال: 38.

و قيل: المراد بهذا البعض حقوق الله سبحانه فإنّها مغفورة بالتوبة و الإيمان توبة و أمّا حقوق الناس فإنّها غير مغفورة بالتوبة، و ردّ بأنّ الإسلام يجبّ ما قبله.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ ) إلخ، أي و من لم يؤمن بداعي الله فليس بمعجز لله في الأرض بردّ دعوته و ليس له من دون الله أولياء ينصرونه و يمدّونه في ذلك، و المحصّل: أنّ من لم يجب داعي الله في دعوته فإنّما ظلم نفسه و ليس له أن يعجز الله بذلك لا مستقلاً و لا بنصرة من ينصره من الأولياء فليس له أولياء من دون الله، و لذلك أتمّ الكلام بقوله:( أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

قوله تعالى: ( أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ ) إلخ، الآية و ما بعدها إلى آخر السورة متّصلة بما تقدّم من قوله تعالى:( وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ ) إلخ، و فيها تتميم القول فيما به الإنذار في هذه السورة و هو المعاد و الرجوع إلى الله تعالى كما أشرنا إليه في البيان المتقدّم.

و المراد بالرؤية العلم عن بصيرة، و العيّ العجز و التعب، و الأوّل أفصح على ما قيل، و الباء في( بِقادِرٍ ) زائدة لوقوعها موقعاً فيه شائبة حيّز النفي كأنّه قيل: أ ليس الله بقادر.

و المعنى: أ و لم يعلموا أنّ الله الّذي خلق السماوات و الأرض و لم يعجز عن خلقهنّ أو لم يتعب بخلقهنّ قادر على إحياء الموتى - و هو تعالى مبدئ وجود كلّ شي‏ء و حياته - بلى هو قادر لأنّه على كلّ شي‏ء قدير، و قد أوضحنا هذه الحجّة فيما تقدّم غير مرّة.

٢٣٥

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ ) إلى آخر الآية، تأييد للحجّة المذكورة في الآية السابقة بالإخبار عمّا سيجري على منكري المعاد يوم القيامة، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ) إلى آخر الآية، تفريع على حقّيّة المعاد على ما دلّت عليه الحجّة العقليّة و أخبر به الله سبحانه و نفي الريب عنه.

و المعنى: فاصبر على جحود هؤلاء الكفّار و عدم إيمانهم بذاك اليوم كما صبر اُولوا العزم من الرسل و لا تستعجل لهم بالعذاب فإنّهم سيلاقون اليوم بما فيه من العذاب و ليس اليوم عنهم ببعيد و إن استبعدوه.

و قوله:( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ) تبيين لقرب اليوم منهم و من حياتهم الدنيا بالإخبار عن حالهم حينما يشاهدون ذلك اليوم فإنّهم إذا رأوا ما يوعدون من اليوم و ما هيّئ لهم فيه من العذاب كان حالهم حال من لم يلبث في الأرض إلّا ساعة من نهار.

و قوله:( بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ ) أي هذا القرآن بما فيه من البيان تبليغ من الله من طريق النبوّة فهل يهلك بهذا الّذي بلّغه الله من الإهلاك إلّا القوم الفاسقون الخارجون عن زيّ العبوديّة.

و قد أمر الله سبحانه في هذه الآية نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصبر كما صبر اُولوا العزم من الرسل و فيه تلويح إلى أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم فليصبر كصبرهم، و معنى العزم ههنا إمّا الصبر كما قال بعضهم لقوله تعالى:( وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) الشورى: 43، و إمّا العزم على الوفاء بالميثاق المأخوذ من الأنبياء كما يلوّح إليه قوله:( وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى‏ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) طه: 115، و إمّا العزم بمعنى العزيمة و هي الحكم و الشريعة.

و على المعنى الثالث و هو الحقّ الّذي تذكره روايات أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام

٢٣٦

هم خمسة: نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمّد صلّى الله عليه وآله وعليهم و لقوله تعالى:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى‏ ) الشورى: 13، و قد مرّ تقريب معنى الآية.

و عن بعض المفسّرين أنّ جميع الرسل اُولوا العزم، و قد أخذ( مِنَ الرُّسُلِ ) بياناً لاُولي العزم في قوله:( أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) و عن بعضهم أنّهم الرسل الثمانية عشر المذكورون في سورة الأنعام (الآية 83- 90) لأنّه تعالى قال بعد ذكرهم:( فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) .

و فيه أنّه تعالى قال بعد عدّهم:( وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ ) ثمّ قال:( فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) و لم يقل ذلك بعد عدّهم بلا فصل.

و عن بعضهم أنّهم تسعة: نوح و إبراهيم و الذبيح و يعقوب و يوسف و أيّوب و موسى و داود و عيسى، و عن بعضهم أنّهم سبعة: آدم و نوح و إبراهيم و موسى و داود و سليمان و عيسى، و عن بعضهم أنّهم ستّة و هم الّذين اُمروا بالقتال: نوح و هود و صالح و موسى و داود و سليمان، و ذكر بعضهم أنّ الستّة هم نوح و إبراهيم و إسحاق و يعقوب و يوسف و أيّوب، و عن بعضهم أنّهم خمسة و هم: نوح و هود و إبراهيم و شعيب و موسى، و عن بعضهم أنّهم أربعة: نوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و ذكر بعضهم أنّ الأربعة هم نوح و إبراهيم و هود و محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم وعليهم أجمعين.

و هذه الأقوال بين ما لم يستدلّ عليه بشي‏ء أصلاً و بين ما استدلّ عليه بما لا دلالة فيه، و لذا أغمضنا عن نقلها، و قد تقدّم في أبحاث النبوّة في الجزء الثاني من الكتاب بعض الكلام في اُولي العزم من الرسل فراجعه إن شئت.

٢٣٧

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ ) الآيات، كان سبب نزول هذه الآيات أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج من مكّة إلى سوق عكاظ، و معه زيد بن حارثة يدعو الناس إلى الإسلام فلم يجبه أحد و لم يجد أحداً يقبله ثمّ رجع إلى مكّة.

فلمّا بلغ موضعاً يقال له: وادي مجنّة(1) تهجّد بالقرآن في جوف الليل فمرّ به‏ نفر من الجنّ فلمّا سمعوا قراءة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استمعوا له فلمّا سمعوا قرآنه قال بعضهم لبعض:( أَنْصِتُوا ) يعني اسكتوا( فَلَمَّا قُضِيَ ) أي فرغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القرآن( وَلَّوْا إِلى‏ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا ) إلى آخر الآيات.

فجاؤا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أسلموا و آمنوا و علّمهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شرائع الإسلام فأنزل الله عزّوجلّ على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ) السورة كلّها، فحكى الله قولهم و ولّى عليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم، و كانوا يعودون إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلّ وقت فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أميرالمؤمنينعليه‌السلام أن يعلّمهم و يفقّههم فمنهم مؤمنون و كافرون و ناصبون و يهود و نصارى و مجوس، و هم ولد الجانّ.

أقول: و الروايات في قصّة هؤلاء النفر من الجنّ الّذين استمعوا إلى القرآن كثيرة مختلفة اختلافاً شديداً، و لا سبيل إلى تصحيح متونها بالكتاب أو بقرائن موثوق بها و لذا اكتفينا منها على ما تقدّم من خبر القمّيّ و سيأتي نبذ منها في تفسير سورة الجنّ إن شاء الله تعالى.

و فيه سئل العالمعليه‌السلام عن مؤمني الجنّ أ يدخلون الجنّة؟ فقال: لا، و لكن لله حظائر بين الجنّة و النار يكون فيها مؤمنوا الجنّ و فسّاق الشيعة.

____________________

(1) المجنّة: محلّ الجنّ.

٢٣٨

أقول: و روي مثله في بعض الروايات الموقوفة من طرق أهل السنّة، و رواية القمّيّ مرسلة كالمضمرة فإن قبلت فلتحمل على أدنى مراتب الجنّة و عمومات الكتاب تدلّ على عموم الثواب للمطيعين من الإنس و الجنّ.

و في الكافي، بإسناده عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: سادة النبيّين و المرسلين خمسة: و هم اُولوا العزم من الرسل و عليهم دارت الرحى: نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم و على جميع الأنبياء.

و فيه، بإسناده عن عبدالرحمن بن كثير عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أوّل وصيّ كان على وجه الأرض هبة الله بن آدم، و ما من نبيّ مضى إلّا و له وصيّ.

و كان جميع الأنبياء مائة ألف و عشرين ألف نبيّ: منهم خمسة اُولوا العزم: نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وعليهم. الحديث.

أقول: كون اُولي العزم خمسة ممّا استفاضت عليه الروايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام فهو مرويّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عن الباقر و الصادق و الرضاعليهم‌السلام بطرق كثيرة.

و عن روضة الواعظين للمفيد: قيل للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كم بين الدنيا و الآخرة؟ قال: غمضة عين قال الله عزّوجلّ:( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ ) الآية.

٢٣٩

( سورة محمّد مدنيّة و هي ثمان و ثلاثون آية)

( سورة محمّد الآيات 1 - 6)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ( 1 ) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ  كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ( 2 ) ذَٰلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ  كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ( 3 ) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا  ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ  وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ( 4 ) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ( 5 ) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ( 6 )

( بيان‏)

تصف السورة الّذين كفروا بما يخصّهم من الأوصاف الخبيثة و الأعمال السيّئة و تصف الّذين آمنوا بصفاتهم الطيّبة و أعمالهم الحسنة ثمّ تذكر ما يعقّب صفات هؤلاء من النعمة و الكرامة و صفات اُولئك من النقمة و الهوان و على الجملة فيها المقايسة بين الفريقين في صفاتهم و أعمالهم في الدنيا و ما يترتّب عليها في الاُخرى، و فيها بعض ما يتعلّق بالقتال من الأحكام.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592