الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177283 / تحميل: 5797
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

الدهريين وأمثالهم كانوا يقولون بوجود عقل للأفلاك ، ويعتقدون أنّ تدبير هذا العالم بيدها.

إن هذه العقائد الخرافية انقرضت بمرور الزمان ، خاصّة وقد ثبت بتقدم علم الهيئة عدم وجود شيء باسم الأفلاك ـ الكرات المتداخلة الصافية ـ في الوجود الخارجي أصلا ، وأن لنجوم العالم العلوي بناء كبناء الكرة الأرضية بتفاوت ما غاية في الأمر أنّ بعضها مظلم ويكتسب نوره من الكرات الأخرى ، وبعضها الآخر مشتعل ومنير.

إنّ الدهريين كانوا يذمون الدهر ويسبونه أحيانا عند ما تقع حوادث مرّة مؤلمة.

غير أنّه ورد في الأحاديث الإسلامية عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا تسبوا الدهر ، فإنّ الله هو الدهر»(١) ، وهو إشارة إلى أنّ الدهر لفظ ليس إلّا ، فإنّ الله سبحانه هو مدبر هذا العالم ومديره ، فإنّكم إنّ أسأتم القول بحق مدبر هذا العالم ومديره ، فقد أسأتم بحق اللهعزوجل من حيث لا تشعرون.

والشاهد على هذا الكلام حديث آخر روي كحديث قدسي عن الله تعالى أنّه قال : «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر ، وأنا الدهر! بيدي الأمر ، أقلب الليل والنهار»(٢) .

لكن قد استعمل الدهر في بعض التعبيرات بمعنى أبناء الأيّام ، وأهل الزمان الذين شكا العظماء من عدم وفائهم ، كما نقل في الشعر المنقول عن الإمام الحسينعليه‌السلام ، حيث أنشد ليلة عاشوراء :

يا دهر أف لك من خليل

كم لك بالإشراق والأصيل

من صاحب وطالب قتيل

والدهر لا يقنع بالقليل

وعلى هذا فللدهر معنيان : الدهر بمعنى الأفلاك والأيّام ، والذي كان محل

__________________

ـ الوثنيين ، حيث كانوا يقولون : إنّنا نموت دائما ثمّ نحيا في أبدان أخرى في هذا العالم. إلّا أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع جملة (وما يهلكنا إلّا الدهر) والتي تتحدث عن الهلاك والفناء فقط. (فتأمل!).

(١) تفسير مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ٧٨.

(٢) تفسير القرطبي ، المجلد ٩ ، صفحة ٥٩٩١.

٢٢١

اهتمام الدهريين ، حيث كانوا يظنونه حاكما على نظام الوجود وحياة البشر.

والدهر بمعنى أهل العصر والزمان وأبناء الأيّام.

ومن المسلّم أنّ الدهر بالمعنى الأوّل أمر وهمي ، أو نقول أنّه اشتباه في التعبير حيث أطلق اسم «الدهر» بدل اسم الله المتعالي الحاكم على كلّ عالم الوجود. أمّا الدهر بالمعنى الثّاني فهو الشيء الذي ذمه كثير من الأئمة والعظماء ، لأنّهم كانوا يرون أهل زمانهم خادعين مذبذبين لا وفاء لهم.

على أية حال ، فإنّ القرآن الكريم أجاب هؤلاء العبثيين بجملة وجيزة عميقة ، تلاحظ في موارد أخرى من القرآن الكريم أيضا ، فقال :( وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) .

وقد ورد نظير هذا المعنى في الآية (٢٨) من سورة النجم في من يظنون أنّ الملائكة بنات الله سبحانه :( وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) .

وقد ورد هذا المعنى أيضا في القول بقتل المسيح ، النساء ـ ١٥٧ ، وعقيدة مشركي العرب في الأصنام ، يونس ـ ٦٦.

وهذا أبسط وأوضح دليل يلقى على هؤلاء بأنّكم لا تملكون أي شاهد أو دليل منطقي على مدعاكم ، بل تستندون في دعواكم إلى الظن والتخمين فقط.

وأشارت الآية التالية إلى إحدى ذرائع هؤلاء الواهية وحججهم الباطلة فيما يتعلق بالمعاد ، فقالت :( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (١) .

كان هؤلاء يرددون أنّ إذا كان حياة الأموات وبعثهم حقّا فأحيوا آباءنا كنموذج لادعائكم ، حتى نعرف مدى صدقكم ، ولنسألهم عمّا يجري بعد الموت ، وهل يصدّقون ما تقولونه أم يكذبونه؟

__________________

(١) «حجتهم» في الآية المذكورة خبر كان ، و (أن قالوا ...) اسمها.

٢٢٢

نعم ، هذا هو دليلهم الأجوف لأنّ الله سبحانه قد أبان للبشر قدرته على إحياء الأموات بطرق مختلفة ، فإنشاء أوّل الإنسان من التراب ، وتحولات النطفة العجيبة في الرحم ، وخلق السماء الواسعة والأرض ، وإحياء الأراضي الميتة بعد هطول الأمطار عليها ، ذكرت كلها كأسانيد حية على إمكان القيامة والبعث الجديد ، وكأفضل دليل على هذا المعنى ، وبعد كلّ هذا لا حاجة إلى دليل آخر.

وبغض النظر عن ذلك ، فإنّ هؤلاء كانوا قد أثبتوا أنّهم لا هدف لهم إلّا التذرع والتوسل بالحجج ، للاستمرار في ضلالهم واعتقادهم المنحرف ، فإذا كشف لهم عن مشهد إحياء الأموات فرضا فرأوه بأم أعينهم ، فإنّهم سيقولون مباشرة : إنّه سحر ، كما قالوا ذلك في الموارد المشابهة.

إنّ التعبير بـ «الحجة» في مورد قول هؤلاء الفارغ هو كناية في الحقيقة عن أنّ هؤلاء لا دليل لهم إلّا عدم الدليل.

* * *

٢٢٣

الآيات

( قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) )

٢٢٤

التّفسير

الكلّ جاث في محكمة العدل الإلهي :

هذه الآيات في الحقيقة جواب آخر على كلام الدهريين ، الذين كانوا ينكرون المبدأ والمعاد ، وقد أشير إلى كلامهم ، في الآيات السابقة ، فتقول الآية أوّلا :( قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ) .

لم يكن هؤلاء يعتقدون بالله ولا باليوم الآخر ، ومحتوى هذه الآية استدلال عليهما معا ، حيث أكّدت على مسألة الحياة الأولى. وبتعبير آخر ، فإنّ هؤلاء لا يستطيعون أن ينكروا أصل وجود الحياة الأولى ، ونشأة الموجودات الحية من موجودات ميتة ، وهذا يشكل من جهة دليلا على وجود عقل وعلم كلي شامل ، إذ هل يمكن أن توجد الحياة على هذه الهيئة المدهشة ، والتنظيم الدقيق والأسرار العجيبة المعقدة ، والصور المتعددة ، والتي أذهلت عقول كلّ العلماء ، من دون أن يكون لها خالق قادر عالم؟

ولهذا نرى آيات القرآن المختلفة تؤكّد على مسألة الحياة كأحد آيات التوحيد وأدلته البينة.

ومن جهة أخرى ، تقول لهم : كيف يكون القادر على إنشاء الحياة الأولى عاجزا عن إعادتها ثانيا؟

أمّا التعبير بـ( لا رَيْبَ فِيهِ ) حول القيامة ، والذي يخبر عن حتمية وقوعها وحدوثها ، لا عن إمكانها ، فهو إشارة إلى قانون العدل الإلهي ، حيث لم يصل كلّ صاحب حق الى حقّه في هذه الحياة الدنيا ، ولم يلاق كلّ المعتدين والظالمين جزاءهم ، ولو لا محكمة القيامة العادلة ، فإن العدالة الإلهية لا مفهوم لها حينئذ.

ولما كان كثير من الناس لا يتأمل هذه الدلائل ولا يدقق النظر فيها ، فإنّ الآية تضيف في النهاية :( وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) .

إن أحد أسماء يوم القيامة المار ذكره في هذه الآية هو :( يَوْمَ الْجَمْعِ ) لأنّ جميع

٢٢٥

الخلق من الأولين والآخرين ، وعلى اختلاف طبقات البشر وأصنافهم يجمعون في ذلك اليوم في مكان واحد. وقد ورد هذا التعبير في عدّة آيات أخرى من القرآن الكريم أيضا ، ومن جملتها الشورى ـ ٧ ، والتغابن ـ ٩.

أمّا الآية التالية فهي دليل آخر على مسألة المعاد ، وقد قرأنا الشبهة المطروحة حوله في آيات القرآن الأخرى ، فتقول :( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) فلما كان مالكا لتمام عالم الوجود الواسع وحاكما عليه ، فمن المسلم أن يكون قادرا على إحياء الموتى ، ومع وجود تلك القدرة المطلقة لا تكون عملية الإحياء بالأمر العسير.

لقد جعل الله سبحانه هذا العالم مزرعة للآخرة ، ومتجرا وافر الربح إلى ذلك العالم ، ولذلك يقول سبحانه في نهاية الآية :( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ) لأنّهم فقدوا رأس مالهم ـ وهو العمر ـ ولم يتجروا فيه ، ولم يشتروا متاعا إلّا الحسرة والندم.

إنّ الحياة والعقل والذكاء ومواهب الحياة الأخرى هي رأس مال الإنسان في سوق التجارة هذا ، لكن اتباع الباطل يبادلونه بمتاع فان سريع الزوال ، ولذلك فإنّهم حين يأتون يوم القيامة ، يوم لا ينفع إلّا القلب السليم والإيمان والعمل الصالح سيرون خسارتهم الباهظة بأم أعينهم ، ولات ساعة مندم.

«يخسر» من الخسران ، وهو فقدان رأس المال ، وينسب أحيانا إلى نفس الإنسان ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ فيقال : خسر فلان ، وأحيانا إلى تجارته فيقال : خسرت تجارته.

ومع أنّ أبناء الدنيا لا يستعملون هذا التعبير إلّا في موارد المال والمقام والمواهب المادية ، مع أنّ الأهم من الخسارة المادية هو فقدان رأس مال العقل والإيمان والثواب.

أمّا «المبطل» ـ من مادة «إبطال» ـ فلها في اللغة معان مختلفة ، كإبطال الشيء ،

٢٢٦

والكذب ، والاستهزاء والمزاح ، وطرح أمر باطل وذكره ، وكلّ هذه المعاني يمكن أن تقبل في مورد الآية.

الأشخاص الذين أبطلوا الحق ، والذين نشروا عقيدة الباطل وأهدافه ، والذين كذبوا أنبياء الله ، وسخروا من كلامهم ، سيرون خسرانهم المبين في ذلك اليوم.

وتجسّد الآية التالية مشهد القيامة بتعبير بليغ مؤثر جدّا ، فتقول :( وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً ) .

يستفاد من بعض كلمات المفسّرين أنّ أصحاب الدعوى في الماضي كانوا يجلسون على هذه الهيئة في مجلس القضاء ليميزوا عن الآخرين ، وسيجثو الجميع يوم القيامة في تلك المحكمة الكبرى لتتم محاكمتهم.

ويمكن أيضا أن يكون هذا التعبير علامة على استعدادهم لتقبل أي أمر أو حكم يصدر بحقّهم ، لأنّ من كان على أهبة الاستعداد يجثو على الركب.

أو أنّه إشارة إلى ضعف هؤلاء وعجزهم وخوفهم واضطرابهم الذي سيعانونه.

وجمع كلّ هذه المعاني في مفهوم الآية ممكن أيضا.

وللجاثية معان أخرى ، من جملتها الجمع الكثير المتراكم ، أو جماعة جماعة ، ويمكن أن تكون إشارة إلى تراكم البشر وازدحامهم في محكمة العدل الإلهي ، أو جلوس كلّ أمة وفئة على حدة وبمعزل عن الأمم الأخرى. إلّا أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب والأشهر.

ثمّ تبيّن الآية ثاني مشاهد القيامة ، فتقول :( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) فإنّ هذا الكتاب صحيفة أعمال سجلت فيها كلّ الحسنات والسيئات ، والقبائح والأفعال الجميلة ، وأقوال الإنسان وأعماله ، وعلى حدّ تعبير القرآن الكريم :( لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) (١) .

وتعبير( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا ) يوحي بأنّ لكلّ أمة كتابا يتعلق بأفرادها

__________________

(١) الكهف ، الآية ٤٩.

٢٢٧

جميعا ، إضافة إلى صحيفة الأعمال الخاصّة بكلّ فرد ولا يبدو هذا الأمر عجيبا إذا علمنا أنّ للإنسان نوعين من الأعمال : الأعمال الفردية ، والأعمال الجماعية ، ولذلك فإن وجود نوعين من صحائف الأعمال يبدو طبيعيا جدّا من هذه الناحية(١) .

والتعبير بـ «تدعى» يوحي بأنّ هؤلاء يدعون إلى قراءة ما في كتبهم ، وهذا المعنى نظير ما ورد في الآية (١٤) من سورة الإسراء :( اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) .

ثمّ يأتيهم الخطاب من قبل الله مرّة أخرى ، فيقول مؤكّدا :( هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ ) فقد كنتم تفعلون كلّ ما يحلو لكم ، ولم تكونوا تصدقون مطلقا أنّ كلّ أعمالكم هذه تسجل في مكان ما ، ولكن( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

«نستنسخ» من مادة «استنساخ» ، وهي في الأصل مأخوذة من النسخ ، وهو إزالة الشيء بشيء آخر ، فيقال مثلا : نسخت الشمس الظل. ثمّ استعملت في كتابة كتاب عن كتاب آخر من دون أن يمحى الكتاب الأوّل.

وهنا يبدو سؤال ، وهو : إذا كان الله سبحانه قد أمر باستنساخ أعمال ابن آدم ، ذلك يستلزم أن يكون هناك كتاب قبل النسخ تكتب فيه تلك الأعمال؟ ولذلك فإنّ البعض يعتقد أنّ صحائف أعمال كلّ البشر قد كتبت في اللوح المحفوظ ، والملائكة الموكلون بحفظ أعمال الإنسان يستنسخونها من ذلك اللوح المحفوظ.

إلّا أنّ هذا المعنى لا يتلاءم كثيرا مع الآية مورد البحث ، بل الملائم أحد معنيين هما : إمّا أن يكون الاستنساخ هنا بمعنى أصل الكتابة ـ كما قاله بعض المفسّرين ـ أو أنّ نفس أعمال الإنسان كالكتاب التكويني تنسخ عنه الملائكة الحفظة وتصوره ، ولذلك فقد ورد في آيات أخر من القرآن الكريم التعبير بالكتابة بدل

__________________

(١) احتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من الكتاب في الآية أعلاه ، هو الكتاب السماوي الذي أنزل على تلك الأمة. إلّا ظاهر الآية يدل على أنّه صحيفة الأعمال ، خاصة بملاحظة الآية التالية ، وأكثر المفسّرين على ذلك أيضا.

٢٢٨

الاستنساخ ، كما نقرأ ذلك في الآية (١٢) من سورة يس :( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ ) (١) .

وقد ورد تفصيل أوسع حول أنواع الكتب التي تسجل فيها الأعمال ـ صحيفة الأعمال الشخصية ، وصحيفة أعمال الأمم ، والكتاب الجامع العام لكلّ أفراد البشر ـ في ذيل الآية (١٢) من سورة يس.

وتبيّن الآية التالية الجلسة الختامية للمحكمة وإصدار قرار الحكم ، حيث تنال كلّ فئة جزاء أعمالها ، فتقول :( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ) .

إن ذكر «فاء التفريع» هنا دليل على أنّ نتيجة حفظ الأعمال والمحاسبة وتلك المحكمة الإلهية العادلة ، هي دخول المؤمنين في رحمة الله سبحانه.

وطبقا لهذه الآية ، فإنّ الإيمان ـ وحده ـ غير كاف لأنّ يجعل المؤمنين يتنعمون بهذه الموهبة العظيمة والعطية الجزيلة ، بل إنّ العمل الصالح شرط لذلك أيضا.

والتعبير بـ «ربّهم» يحكي عن لطف الله الخاص ، يكتمل بتعبير «الرحمة» بدل «الجنّة».

وتبلغ بهم نهاية الآية أوج الكمال حينما تقول :( ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) .

إنّ لـ «رحمة الله» معنى واسعا يشمل الدنيا والآخرة ، وقد أطلقت في آيات القرآن الكريم على معان كثيرة ، فتارة تطلق على مسألة الهداية ، وأخرى على الإنقاذ من قبضة الأعداء ، وثالثة على المطر الغزير المبارك ، ورابعة على نعم أخرى كنعمة النور والظلمة ، وأطلقت في موارد كثيرة على الجنّة ومواهب الله سبحانه في القيامة.

__________________

(١) ورد في رواية عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «إن لله ملائكة ينزلون كلّ يوم يكتبون فيه أعمال بني آدم». ويقول الشيخ الطوسي في التبيان في ذيل الآية مورد البحث بعد نقل هذه الرواية : ومعنى نستنسخ نستكتب الحفظة ما يستحقونه من ثواب وعقاب ، ونلقي ما عداه ممّا أثبته الحفظة ، لأنّهم يثبتونه جميعا.

٢٢٩

جملة( ذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) تكررت مرّة أخرى في الآية (١٦) من سورة الأنعام ، غاية ما هناك أنّ الفوز المبين قيل هناك لأولئك الذين ينجون من عذاب اللهعزوجل :( مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) أمّا هنا فقد قيلت فيمن دخل الجنّة وفي رحمة الله ، وكلاهما في الواقع فوز عظيم : النجاة من العذاب ، والدخول في مستقر رحمة الله سبحانه.

وهنا قد يرد هذا السؤال ، وهو : هل أنّ المؤمنين الذين ليس لهم عمل صالح لا يدخلون الجنّة؟

والجواب : إنّهم يدخلونها لكن بعد أن يروا جزاءهم في جهنم حتى يطهروا ، فإنّ الذين يردون مستقر رحمة الله هذا بعد الحساب مباشرة هم أصحاب العمل الصالح مضافا إلى إيمانهم ، وحسب.

كلمة «الفوز» ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ تعني الظفر المقترن بالسلامة ، وقد استعملت في (١٩) موردا من آيات القرآن المجيد ، فوصف الفوز مرّة بالمبين ، وأخرى بالكبير ، أمّا في غالب الآيات فقد وصف بالعظيم. وهو مستعمل عادة في شأن الجنّة ، إلّا أنّه استعمل في بعض الموارد في شأن التوفيق لطاعة الله ومغفرة الذنوب وأمثال ذلك.

وتذكر الآية الآتية مصير من يقع في الطرف المقابل لأولئك السابقين ، فتقول :( وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ ) .

وممّا يلفت النظر أنّ الكلام في هذه الآية عن الكفر فقط ، وأمّا أعمال السوء التي هي عامل الدخول في عذاب الله وسببه فلم يجر لها ذكر ، وذلك لأنّ الكفر وحده كاف لأنّ يدخل صاحبه العذاب ، أو لأنّ التعبير بالمجرمين في ذيل الآية كاف لبيان هذا المعنى.

والنكتة الأخرى هنا أنّه لم يرد كلام عن عقوبات الجحيم ، بل الكلام عن التوبيخ الإلهي لهم وتقريعهم ، وهو يعتبر أشد العذاب وأكبره ، وتهون معه الجحيم

٢٣٠

كلّ عذابها.

وهنا نكتة تستحق الانتباه ، وهي : أنّه يستفاد من هذه الآية أنّ الله سبحانه لن يعذب أحدا من دون أن يبعث الأنبياء ويرسل الرسل وينزل آياته ـ أو كما يصطلح عليه تأكيد أحكام العقل بأحكام الشرع ـ وهذا منتهى لطفه ورحمته سبحانه.

وآخر ملاحظة هي أنّ أكبر مشاكل هؤلاء القوم هو استكبارهم على آيات الله من جهة ، وتماديهم في المعصية والإجرام من جهة أخرى ، وهذا يستفاد من جملة( وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ ) .

* * *

٢٣١

الآيات

( وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧) )

٢٣٢

التّفسير

يوم تبدو السيئات :

الآية الأولى من هذه الآيات توضيح لما ذكر في الآيات السابقة بصورة مجملة ، توضيح لمسألة استكبار الكافرين على آيات الله ودعوة الأنبياء ، فتقول :( وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ) .

التعبير بـ( ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ) في حين أنّ معنى القيامة لم يكن غامضا عليهم أو مبهما ، وإن كان شك كلّ لديهم ففي وجودها ، ممّا يوحي بأنّهم كانوا في موضع تكبر وعدم اهتمام ، ولو كانت لدى هؤلاء روح تتبع الحق وطلبه لرأوا أنّ ماهية يوم القيامة أمر واضح ، كما أنّ الدليل عليها بيّن جلي. ومن هنا يتّضح الجواب عن سؤال طرح هنا ، وهو : أنّ هؤلاء إنّ كانوا ـ حقا ـ في شكّ الأمر ، فلا تثريب عليهم ولا إثم؟ لكن الشك لم يكن ناشئا من عدم وضوح الحق ، بل ناتج عن الكبر والغرور والعناد التعصب.

ويحتمل أيضا أن يكون هدفهم من تهافت كلامهم وتناقضه السخرية والاستهزاء.

وتتحدث الآية التالية عن جزاء هؤلاء وعقابهم ، ذلك الجزاء الذي لا يشبه عقوبات المحاكم الدنيوية ، فتقول :( وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا ) فستتجسد القبائح والسيئات أمام أعينهم ، وتتّضح لهم ، وتكون لهم قرينا دائما يتأذون من وجوده إلى جانبهم ويتعذبون من صحبته :( وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) (١) .

والأشد ألما من كلّ ذلك هو الخطاب الذي يخاطبهم به الله الرحمن الرحيم ، فيقول سبحانه :( وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ) .

__________________

(١) «حاق» من مادة (حوق) ، وهي في الأصل بمعنى الورود ، والنّزول ، والإصابة ، والإحاطة. وقال البعض : إنّ أصلها (حق) ـ بمعنى التحقيق ـ فأبدلت القاف الأولى إلى واو ، ثمّ إلى ألف.

٢٣٣

لقد ورد هذا التعبير بصيغ مختلفة في القرآن الكريم مرارا ، ففي الآية (٥١) من سورة الأعراف :( فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا ) .

وجاء هذا المعنى أيضا بأسلوب آخر في الآية (١٤) من سورة ألم السجدة.

لا شك أنّ النسيان لا معنى له بالنسبة إلى الله سبحانه الذي يحيط علمه بكلّ عالم الوجود ، لكنّه هنا كناية لطيفة عن احتقار الإنسان المجرم العاصي وعدم الاهتمام به ، ويلاحظ هذا التعبير حتى في محادثاتنا اليومية ، فنقول : انس فلانا الذي لا وفاء له ، أي عامله كإنسان منسي ، ولا تمنحه المحبة والعطف والوداد ، واترك تفقد أحواله ، ولا تذهب إليه أبدا.

ثمّ إنّ هذا التعبير تأكيد آخر ـ بصورة ضمنية ـ على مسألة تجسم الأعمال ، وتناسب الجريمة والعقاب ، لأنّ نسيانهم يوم القيامة في الدنيا يؤدي إلى أن ينساهم الله يوم القيامة ، وما أعظم مصيبة نسيان الله الرحمن الرحيم لفرد من الأفراد ، وحرمانه من جميع ألطافه ومننه.

وذكر المفسّرون هنا تفاسير مختلفة للنسيان تتلخص جميعا في المعنى المذكور أعلاه ، ولذلك لا نرى حاجة لتكرارها.

ثمّ إنّ المراد من نسيان لقاء يوم القيامة ، نسيان لقاء كلّ المسائل والحوادث التي تقع في ذلك اليوم ، سواء الحساب أم غيره ، حيث كانوا ينكرونها.

ويحتمل أيضا أن يكون المراد نسيان لقاء الله سبحانه في ذلك اليوم ، لأنّ يوم القيامة قد وصف في القرآن المجيد بيوم لقاء الله ، والمراد منه الشهود الباطني.

وتتابع الآية الحديث ، فتقول :( وَمَأْواكُمُ النَّارُ ) وإذا كنتم تظنون أنّ أحدا سيهب لنصرتكم وغوثكم ، فاقطعوا الأمل من ذلك ، واعلموا أنّه( وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) .

أمّا لماذا ابتليتم بمثل هذا المصير؟ فـ( ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ) .

وأساسا فإنّ «الغرور» و «الاستهزاء» لا ينفصلان عن بعضهما عادة ، فإنّ الأفراد

٢٣٤

المغرورين والمتكبرين الذين ينظرون إلى الآخرين بعين الاحتقار يتخذونهم هزوا ويسخرون منهم ، ومصدر الغرور في الواقع هو متاع الدنيا وقدرتها وثروتها الزائلة المؤقتة ، والتي تدع الأفراد الضيقي الصدور في غفلة تامة لا يعيرون معها لدعوة رسل الله أدنى اهتمام ، ولا يكلفون أنفسهم حتى النظر فيها للوقوف على صوابها من عدمه.

وتكرر الآية ما ورد في الآية السابقة وتؤكّده بأسلوب آخر ، فتقول :( فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) (١) ، فقد كان الكلام هناك عن مأواهم ومقرهم الثابت ، والكلام هنا عن عدم خروجهم من النّار حيث قال هناك : ما لهم من ناصرين ، وهنا يقول : لا يقبل منهم عذر ، والنتيجة هي أنّ لا سبيل لنجاتهم.

وفي نهاية هذه السورة ، ولإكمال بحث التوحيد والمعاد ، والذي كان يشكل أكثر مباحث هذه السورة ، تبيّن الآيتان الأخيرتان وحدة ربوبية الله وعظمته ، وقدرته وحكمته ، وتذكر خمس صفات من صفات الله سبحانه في هذا الجانب ، فتقول أولا :( فَلِلَّهِ الْحَمْدُ ) لأنّه( رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

«الرّب» بمعنى المالك والمدبر ، والحاكم والمصلح ، وبناء على هذا فكلّ خير وبركة تأتي منه سبحانه ولذلك ، ترجع إليه كلّ المحامد والثناء ، فحتى الثناء على الورد ، وصفاء العيون ، وعذوبة النسيم ، وجمال النجوم ، حمد له وثناء عليه ، فإنّها جميعا تصدر عنه ، وتنمو بفضله ورعايته.

والطريف أنّه يقول مرّة : ربّ السماوات ، وأخرى : ربّ الأرض ، وثالثة : ربّ عالم الوجود والعالمين ، ليفند الإعتقاد بالآلهة المتعددة التي جعلوها للموجودات المختلفة ، ويدعو الجميع إلى توحيد الله سبحانه والإعتقاد بأحديته.

وبعد وصف ذاته المقدسة بمقام الحمد والربوبية ، تضيف الآية في الصفة الثالثة :( وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) لأنّ آثار عظمته ظاهرة في السماء

__________________

(١) أعطينا التوضيح اللازم حول معنى (يستعتبون) وأصلها في ذيل الآية (٥٧) من سورة الروم.

٢٣٥

المترامية الأطراف ، والأرض الواسعة الفضاء ، وفي كلّ زاوية من زوايا العالم.

لقد كان الكلام في الآية السابقة عن مقام الربوبية ، أي كونه تعالى مالكا لأمور عالم الوجود ومدبرا لها ، والكلام هنا عن عظمته ، فكلما دققنا النظر في خلق السماء والأرض وتأملناه ، سنزداد معرفة بهذه الحقيقة ، وتزداد بصيرتنا بها.

وأخيرا تقول الآية في الوصفين الرابع والخامس :( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) وبذلك تكمل مجموعة العلم والقدرة والعظمة والربوبية والمحمودية ، والتي هي مجموعة من أهم صفات الله ، وأسمائه الحسنى.

ولعلها تشير إلى أن : له الحمد فاحمدوه ، وهو الرب فاشكروا له ، وله الكبرياء فكبروه ، وهو العزيز الحكيم فأطيعوه.

وبوصف الله سبحانه بالعزيز والحكيم تنتهي سورة الجاثية كما بدأت بهما ، وكل محتواها وما تضمنته شاهد على عزّة الله سبحانه وحكمته السامية.

اللهمّ ، إنا نقسم عليك بكبريائك وعظمتك ، وبمقام ربوبيتك ، وعزتك وحكمتك ، تثبت أقدامنا في طريق طاعة أوامرك.

اللهمّ ، إنّ كلّ حمد وثناء نؤديه فبتوفيق منك ، وكلّ ما لدينا من بركاتك وألطافك ، فأدم اللهمّ هذه النعم وزدها علينا.

إلهنا : نحن غارقون في بحر إحسانك وكرمك ، فوفقنا لأداء شكرك.

آمين يا ربّ العالمين.

نهاية سورة الجاثية

* * *

٢٣٦
٢٣٧

بداية الجزء السّادس والعشرون

من

القرآن الكريم

سورة الأحقاف

مكيّة

وعدد آياتها خمس وثلاثون آية

٢٣٨

سورة الأحقاف

محتوى السورة :

هذه السورة من السور المكية ـ وإن كان جمع من المفسّرين ذهبوا إلى أنّ بعض آياتها قد نزلت في المدينة ، وسنبحث ذلك في شرح تلك الآيات إن شاء الله تعالى ـ ولما كان زمان نزولها وظروفه زمان مواجهة الشرك ، والدعوة إلى التوحيد والمعاد ومسائل الإسلام الأساسية ، فإنها تتحدث حول هذه الأمور ، وتدور حول هذه المحاور.

ويمكن القول باختصار ، أنّ هذه السورة تتابع الأهداف التالية :

١ ـ بيان عظمة القرآن.

٢ ـ محاربة كلّ أنواع الشرك والوثنية بشكل قاطع.

٣ ـ توجيه الناس إلى مسألة المعاد ومحكمة العدل الإلهي.

٤ ـ إنذار المشركين والمجرمين من خلال بيان جانب من قصة قوم عاد ، الذين كانوا يسكنون أرض «الأحقاف» ، ومنها أخذ اسم هذه السورة.

٥ ـ الإشارة إلى سعة دعوة نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكونها عامّة تتخطى حتى حدود البشر ، أي إنّها تشمل طائفة الجن أيضا.

٦ ـ ترغيب المؤمنين وترهيب الكافرين وإنذارهم ، وإيجاد دوافع الخوف والرجاء.

٧ ـ دعوة نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى التحلي بالصبر والاستقامة الى أبعد الحدود ،

٢٣٩

والاقتداء بسيرة الأنبياء الماضين.

فضل هذه السورة :

ورد في حديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضل هذه السورة : «من قرأ سورة الأحقاف أعطي من الأجر بعدد كلّ رمل في الدنيا عشر حسنات ، ومحي عنه عشر سيئات ، ورفع له عشر درجات»(١) .

ولما كانت «الأحقاف» جمع حقف ، وهي الكثبان الرملية التي تتجمع على هيئات مختلفة ، مستطيلة ومتعرجة نتيجة هبوب الرياح في الصحاري ، وكان يقال لأرض قوم عاد «الأحقاف» لأنّها كانت حصباء على هذه الشاكلة ، فإنّ تعبير الحديث أعلاه ناظر إلى هذا المعنى.

ومن البديهي أنّ كلّ هذه الحسنات والدرجات لا تمنح لمجرّد التلاوة اللفظية ، بل التلاوة البناءة المؤدية إلى السير في طريق الإيمان والتقوى ، ولمحتوى سورة الأحقاف هذا الأثر حقّا إذا كان الإنسان طالب حقيقة ومستعدا للعمل والتطبيق.

وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «من قرأ كلّ ليلة أو كلّ جمعة سورة الأحقاف لم يصبه اللهعزوجل بروعة في الحياة الدنيا ، وآمنه من فزع يوم القيامة إن شاء»(٢) .

* * *

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، بداية سورة الأحقاف.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ونور الثقلين بداية سورة الأحقاف.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592