الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177350 / تحميل: 5797
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

لقد جمعت في الواقع كلّ مراتب الإيمان ، وكلّ الأعمال الصالحة في هاتين الجملتين ، لأنّ التوحيد أساس كلّ المعتقدات الصحيحة ، وكلّ أصول العقائد ترجع الى أصل التوحيد. كما أنّ الاستقامة والصبر والتحمل والصمود أساس كلّ الأعمال الصالحة ، لأنّا نعلم أنّه يمكن تلخيص كلّ أعمال الخير في ثلاثة : «الصبر على الطاعة» ، و «الصبر عن المعصية» ، و «الصبر على المصيبة».

وبناء على هذا ، فإنّ «المحسنين» هم السائرون على خط التوحيد من الناحية العقائدية ، وفي خط الاستقامة والصبر من الناحية العملية.

ومن البديهي أنّ أمثال هؤلاء الأفراد لا يخافون من حوادث المستقبل ، ولا يغتمون لما مضى.

وقد ورد نظير هذا المعنى ـ بتوضيح أكثر ـ في الآية (٣٠) من سورة فصلت حيث تقول :( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) .

إنّ هذه الآية تضيف شيئين :

الأوّل : أنّهم بشروا بعدم الخوف والحزن من قبل الملائكة ، في حين سكتت الآية مورد البحث عن هذا.

والثّاني : أنّه إضافة إلى نفي الخوف والحزن عنهم ، فقد وردت البشارة بالجنّة أيضا في آية سورة فصلت ، في حين أنّ هذه البشارة وردت في الآية اللاحقة في محل كلامنا.

وعلى أية حال ، فإنّ الآيتين تبحثان مطلقا واحدا ، غايته أن أحداهما أكثر تفصيلا من الأخرى.

ونقرأ في تفسير علي بن إبراهيم في تفسير جملة :( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ) قال : استقاموا على ولاية علي أمير المؤمنينعليه‌السلام . وذلك أنّ إدامة خط

__________________

الجملة مفهوم الشرطية كالآية مورد البحث.

٢٦١

أمير المؤمنينعليه‌السلام في جوانب العلم والعمل ، والعدالة والتقوى ، وخاصّة في العصور المظلمة الحالكة ، أمر لا يمكن تحققه بدون الاستقامة ، وبناء على هذا فإنّه يعد أحد مصاديق الواضحة للآية مورد البحث ، لا أنّ معناها منحصر به ، بحيث لا تشمل الاستقامة في الجهاد وطاعة الله سبحانه ، ومحاربة هوى النفس والشيطان.

وقد أوردنا شرحا مفصلا حول مسألة الاستقامة في ذيل الآية (٣٠) من سورة فصلت(١) .

وتبشر آخر آية من هذه الآيات الموحدين المحسنين بأهم بشارة وأثمنها ، فتقول :( أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

إنّ ظاهر الآية يعطي مفهوم الحصر ، كما استفاد ذلك البعض ، أي أنّ أصحاب الجنّة هم أهل التوحيد والاستقامة فقط ، أمّا الذين ارتكبوا المعاصي منهم ، فإنّهم وإن كانوا في النتيجة من أصحاب الجنّة ، إلّا أنّهم ليسوا من أصحابها منذ بداية الأمر.

التعبير بـ «الأصحاب» إشارة إلى اجتماعهم الدائم وتنعمهم الخالد بنعم الجنّة.

وتعبير :( جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) يدل من جهة على أنّ الجنّة لا تمنح مجانا ، بل إنّ لها تمنا يجب أن يؤدى ، ويشير من جهة أخرى إلى أصل حرية الإنسان واختياره.

* * *

__________________

(١) راجع التّفسير الأمثل ، سورة فصلت ، الآية ٣٠.

٢٦٢

الآيات

( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦) )

التّفسير

أيّها الإنسان أحسن إلى والديك :

هذه الآيات والتي تليها ، توضيح ـ في الحقيقة ـ لما يتعلق بالفريقين : الظالم والمحسن ، اللذين أشير إليهما إجمالا في الآيات السابقة.

وتتناول الآية الأولى وضع المحسنين ، وتبدأ بمسألة الإحسان إلى الوالدين

٢٦٣

وشكر جهودهم وأتعابهم التي بذلوها ، والذي يعتبر مقدمة لشكر الله سبحانه ، فتقول :( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً ) (١) .

«الوصية» و «التوصية» بمعنى مطلق الوصية ، ولا ينحصر معناها بالوصايا بما بعد الموت ، ولذلك فسّرها جماعة هنا بأنّها الأمر والتشريع.

ثمّ تطرّقت إلى سبب وجوب معرفة حقّ الأمّ ، فقالت :( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) تضحي خلالها الأم أعظم التضحيات ، وتؤثر ولدها على نفسها أيّما إيثار.

إنّ حالة الأم تختلف منذ الأيّام الأولى لانعقاد النطفة ، فتتوالى عليها الصعوبات ، وهناك حالة تسمى حالة (الوحام) هي أصعب الحالات التي تواجهها الأم ، ويقول الأطباء عنها : إنّها تنشأ نتيجة قلّة المواد التي تحدث في جسم الأم نتيجة إيثارها ولدها على نفسها.

وكلما تكامل نمو الجنين امتص موادا أكثر من عصارة روح الأم وجسدها ، تترك أثرها على عظامها وأعصابها ، فيسلبها أحيانا نومها وغذاءها وراحتها وهدوأها ، أمّا في آخر فترة الحمل فيصعب عليها حتى المشي والجلوس والقيام ، إلّا أنّها تتحمل كلّ هذه المصاعب بصبر ورحابة صدر وعشق للوليد الذي سيفتح عينيه على الدنيا عمّا قريب ، ويبتسم بوجه أمّه.

وتحل فترة وضع الحمل ، وهي من أعسر لحظات حياة الأم ، حتى أنّ الأم أحيانا تبذل نفسها وحياتها من أجل سلامة الوليد.

على كلّ حال ، تضع الأم حملها الثقيل لتبدأ مرحلة صعبة أخرى ، مرحلة مراقبة الطفل المستمرة ليل نهار مرحلة يجب أن تلبى فيها كلّ احتياجات الطفل الذي

__________________

(١) «التوصية» تتعدى عادة بمفعولين ، غايته أنّ المفعول الثّاني يقترن بالباء أو (الى) ، وبناء على هذا فإنّ (إحسانا) لا يمكن أن تكون المفعول الثّاني في الجملة ، إلّا أن نعتبر (وصينا) بمعنى (ألزمنا) التي تتعدى بمفعولين دون حاجة إلى حرف جر ، أو أن نقول : إنّ في الآية محذوفا ، نقدره : ووصينا الإنسان بأن يحسن بوالديه إحسانا ، ففي هذه الحالة تكون (إحسانا) مفعولا مطلقا لفعل محذوف.

٢٦٤

ليست لديه أية قدرة على بيانها وتوضيحها ، فإن آلمه شيء لا يقوى على تعيين محل الألم ، وإذا كان يشكو من الجوع والعطش ، والحر والبرد ، فهو عاجز عن التعبير عن شكواه ، إلّا بالصراخ والدموع ، ويجب على الأم أن تحدد كلّ واحدة من هذه الاحتياجات وتؤمنها بتفحصها وصبرها وطول أناتها.

إنّ نظافة الوليد في هذه المرحلة مشكلة مضنية ، وتأمين غذائه الذي يستخلص من عصارة الأم ، إيثار كبير.

والأمراض المختلفة التي تصيب الطفل في هذه المرحلة ، مشكلة أخرى يجب على الأم أن تتحملها بصبرها الخارق.

إنّ القرآن الكريم عند ما تحدّث عن مصاعب الأم هنا ، ولم يورد شيئا عن الأب ، لا لأنّه لا أهمية للأب ، فهو يشارك الأم في كثير من هذه المشاكل ، بل لأنّ سهم الأم من المصاعب أوفر ، فلهذا أكّد عليها.

وهنا يطرح سؤال ، وهو : إنّ فترة الرضاع ذكرت في الآية (٢٣٣) من سورة البقرة على أنّها سنتان كاملتان ـ ٢٤ ـ شهرا ـ :( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ ) في حين أنّ الآية مورد البحث قد ذكرت أنّ مجموع فترة الحمل والرضاع ثلاثون شهرا ، فهل من الممكن أن تكون مدّة الحمل ستّة أشهر؟

لقد أجاب الفقهاء والمفسّرون ، عن هذا السؤال ـ استلهاما من الرّوايات الإسلامية ـ بالإيجاب وقالوا : إنّ أقل مدّة الحمل ستة أشهر ، وأكثر مدّة تفيد في الرضاع (٢٤) شهرا ، حتى نقل عن جماعة من الأطباء القدامى كجالينوس وابن سينا أنّهم قالوا : إنّهم كانوا قد شاهدوا بأمّ أعينهم وليدا ولد ستة أشهر.

ثمّ إنّه يمكن أن يستفاد من هذا التعبير القرآني أنّه كلما قصرت فترة الحمل يجب أن تطول فترة الرضاع بحيث يكون المجموع (٣٠) شهرا.

وقد نقل عن ابن عباس أنّ فترة الحمل إن كانت (٩) أشهر فيجب أن يرضع

٢٦٥

الولد (٢١) شهرا ، وإن كان الحمل ستة أشهر وجب أن يرضع الطفل (٢٤) شهرا.

والقانون الطبيعي يوجب ذلك أيضا. لأنّ نواقص فترة الحمل يجب أن تجبر بفترة الرضاع.

ثمّ تضيف الآية : إنّ حياة هذا الإنسان تستمر( حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) (١) .

يعتقد بعض المفسّرين أنّ بلوغ الأشد منسجم مع بلوغ الأربعين سنة ، وهو للتأكيد ، إلّا أنّ ظاهر الآية هو أنّ بلوغ الأشد إشارة إلى البلوغ الجسمي ، وبلوغ الأربعين سنة إشارة إلى البلوغ الفكري والعقلي ، لأنّ من المعروف أنّ الإنسان يصل إلى مرحلة الكمال العقلي في سن الأربعين غالبا ، وقالوا : إنّ أغلب الأنبياء قد بعثوا في سن الأربعين.

ثمّ إنّ هناك بحثا في أنّ بلوغ القدرة الجسمية في أي سن يتم؟ فالبعض يعتبره سن البلوغ المعروف ، والذي أشير إليه في الآية (٣٤) من سورة الإسراء في شأن اليتامى ، في حين صرّحت بعض الروايات بأنّه سن الثامنة عشرة عاما.

طبعا ، لا مانع من أن يعطي هذا التعبير معاني مختلفة في موارد مختلفة تتّضح من خلال القرائن.

وقد ورد في حديث : «إنّ الشيطان يمر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ، ويقول : بأبي وجه لا يفلح»(٢) .

ونقل عن ابن عباس : من أتى عليه الأربعون سنة فلم يغلب خيره شرّه ، فليتجهز إلى النّار.

وعلى أي حال ، فإنّ القرآن الكريم يضيف في متابعة هذا الحديث : إنّ الإنسان

__________________

(١) (حتى) هنا غاية لجملة محذوفة ، والتقدير : وعاش الإنسان واستمرت حياته حتى إذا بلغ أشدّه. واعتبرها البعض غاية لـ (وصينا) أو لمراقبة الوالدين لولدهما ، وكلاهما يبدو بعيدا ، إذ لا تنتهي توصية الله سبحانه بالإحسان إلى الوالدين في سن الأربعين ، ولا تستمر مراقبة الوالدين لولدهما حتى يصل الأربعين.

(٢) تفسير روح المعاني ، المجلد ٢٦ ، صفحة ١٧.

٢٦٦

العاقل المؤمن إذا بلغ سن الأربعين ، يطلب من ربّه ثلاث طلبات ، فيقول أولا :( قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ ) (١) .

إنّ هذا التعبير يوحي بأنّ الإنسان يدرك في هذه السن عمق نعم الله سبحانه وسعتها ، وكذلك يدرك ما تحمله أبواه من الجهود المضنية حتى بلغ هذا المقدار من العمر ، وذلك لأنّه غالبا ما يصبح في هذا العمر أبا إن كان ذكرا ، وأمّا إن كانت أنثى ، ويرى بأم عينه كلّ تلك الجهود التي بذلت من أجله ، ومدى الإيثار الذي آثره أبواه في سبيله ، وشكرا لسعيهما يتوجّه لا إراديا لشكر الله سبحانه.

أمّا طلبه الثّاني فهو :( وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ) .

وأخيرا يقدم طلبه الأخير فيقول :( وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ) .

إنّ التعبير بـ (لي) يشير ضمنية إشارة إلى أنّه يرجو أن يكون أولاده في وضع من الصلاح والخير بحيث تعود نتائجه وحسناته عليه.

والتعبير بـ (في ذريتي) بصورة مطلقة ، يشير الى استمرار الخير والصلاح في كلّ نسله وذريته.

والطريف أنّه يشرك أبويه في دعائه الأوّل ، وأولاده في الدعاء الثالث ، أمّا الدعاء الثّاني فيخص نفسه به ، وهكذا يكون الإنسان الصالح ، فإنّه إذا نظر إلى نفسه بعين ، ينظر بالأخرى إلى الآخرين الذين تفضلوا عليه ولهم حق في رقبته.

وتبيّن الآية في نهايتها مطلبين ، كلّ منهما تبيان لبرنامج عملي مؤثر ، فتقول :( إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ ) فقد بلغت مرحلة يجب أن أعين فيها مسير حياتي ، وأسير في ذلك الخط ما حييت.

نعم ، لقد بلغت الأربعين ، ويقبح بعبد مثلي أن يأتيك ولم يغسل نفسه بماء التوبة ، ولم يطهرها بالعودة إلى طريق ربّه ويقرع باب رحمته.

والآخر :( وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) .

__________________

(١) «أوزعني» من مادة (الإيزاع) التي وردت بعدّة معان : الإلهام ، والمنع من الانحراف ، وإيجاد العشق والمحبة ، والتوفيق.

٢٦٧

إنّ هاتين الجملتين تأكيد لتلك الأدعية الثلاثة ومترتبة عليها ، ومعناهما : بما إنّي تبت إليك ، وأسلمت لأوامرك ، فأنت أيضا منّ عليّ برحمتك ، واشملني بنعمك وفضلك.

والآية التالية ، بيان بليغ لأجر هؤلاء المؤمنين الشاكرين وثوابهم ، وقد أشارت إلى مكافآت مهمّة ثلاث ، فقالت أوّلا :( أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا ) .

أي بشارة أعظم من أن يتقبل الله القادر المنان عمل عبد ضعيف لا قدر له ، وهذا القبول بحدّ ذاته ، وبغض النظر عن آثاره الأخرى ، فخر عظيم ، وموهبة معنوية عالية.

إنّ الله سبحانه يتقبل كلّ الأعمال الصالحة ، فلما ذا يقول هنا :( نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا ) ؟

وفي معرض الإجابة على هذا السؤال ، قال جمع من المفسّرين : إنّ المراد من أحسن الأعمال : الواجبات والمستحبات التي تكون في مقابل المباحات التي هي أعمال حسنة لكنّها لا تقع موقع القبول ، ولا يتعلق بها أجر وثواب(١) .

والجواب الآخر : إنّ الله سبحانه يجعل أحسن أعمال هؤلاء معيارا للقبول ، وحتى أعمالهم التي تأتي في مرتبة أدنى من الأهمية ، فإنّه يجعلها كأحسن الأعمال بفضله ورحمته. إنّ هذا يشبه تماما أن يعرض بائع أجناسا مختلفة بأسعار متفاوتة ، إلّا أنّ المشتري يشتريها جميعا بثمن أعلاها وأفضلها تكرما منه وفضلا ، ومهما قيل في لطف الله وفضله فليس عجبا.

والهبة الثّانية هي تطهيرهم ، فتقول :( وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ ) .

والموهبة الثّالثة هي أنّهم( فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ ) (٢) ، فيطهرون من الهفوات التي

__________________

(١) الطبرسي في مجمع البيان ، والعلّامة الطباطبائي في الميزان ، والفخر الرازي في التّفسير الكبير ، وغيرهم في ذيل الآية مورد البحث.

(٢) (في أصحاب الجنّة) متعلق بمحذوف هو حال لضمير (هم) والتقدير : حال كونهم موجودين في أصحاب الجنّة.

٢٦٨

كانت منهم ، ويكونون في جوار الصالحين المطهرين المقربين عند الله سبحانه.

ويستفاد بصورة ضمنية من هذا التعبير أنّ المراد من( أَصْحابِ الْجَنَّةِ ) هنا العباد المقرّبون الذين لم يصبهم غبار المعاصي ، وهؤلاء المؤمنون التائبون يكونون في مصافهم بعد أن ينالوا غفران الله ورضاه.

وتضيف الآية في نهايتها ـ كتأكيد على هذه النعم التي مرّ ذكرها ـ( وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ ) (١) وكيف لا يكون وعد صدق في حين أنّ خلف الوعد أمّا أن يكون عن ندم أو جهل ، أم عن ضعف وعجز ، والله سبحانه منزه عن هذه الأمور جميعا.

* * *

ملاحظات

١ ـ إنّ هذه الآيات تجسيد للإنسان المؤمن من أصحاب الجنّة ، الذي يطوي أوّلا مرحلة الكمال الجسمي ، ثمّ مرحلة الكمال العقلي ، ثمّ يصل إلى مقام شكر نعم الله تعالى ، وشكر متاعب والديه ، والتوبة عمّا بدر منه من هفوات وسقطات ومعاص ، ويهتم أكثر بالقيام بالأعمال الصالحة ، ومن جملتها تربية الأولاد ، وأخيرا يرقى إلى مقام التسليم المطلق لله تعالى ولأوامره ، وهذا هو الذي يغمره في رحمة الله ومغفرته ونعمه المختلفة التي لا تحصى.

نعم ، ينبغي أن يعرف أهل الجنّة من هذه الصفات.

٢ ـ إنّ التعبير بـ( وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ ) إشارة إلى أنّ مسألة الإحسان إلى الوالدين من الأصول الإنسانية ، ينجذب إليها ويقوم بها حتى أولئك الذين لا يلتزمون بدين أو مذهب ، وبناء على هذا ، فإنّ الذين يعرضون عن أداء هذه الوظيفة ، ويرفضون القيام بهذا الواجب ، ليسوا مسلمين حقيقيين ، بل لا يستحقون اسم الإنسان.

__________________

(١) (وعد الصدق) مفعول مطلق لفعل محذوف ، والتقدير : يعدهم وعد الصدق الذي كانوا يوعدون بلسان الأنبياء والرسل.

٢٦٩

٣ ـ إنّ التعبير بـ «إحسانا» وبملاحظة أنّ النكرة في هذه الموارد لبيان عظمة الأمر وأهميته ، ويشير إلى أنّه يجب ـ بأمر الله سبحانه ـ الإحسان إلى الأبوين إحسانا جميلا مقابلة لخدماتهم الجليلة التي أسدوها.

٤ ـ لأنّ آلام ومعاناة الأم في طريق تربية الطفل محسوسة وملموسة أكثر ، ولأنّ جهود الأم أكثر أهمية إذا ما قورنت بجهود الأب ، كان التأكيد أكثر على قدر الأم في الرّوايات الإسلامية.

فقد ورد في حديث أنّ رجلا أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : من أبر؟ قال : «أمّك» ، قال : ثمّ من؟ قال : «أمّك» ، قال : ثمّ من؟ قال : «أمّك» ، قال : ثمّ من؟ قال : «أباك»(١) . وجاء في حديث آخر ، أنّ رجلا كان قد حمل أمّه العجوز العاجزة ، وكان يطوف بها ، فأتى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : هل أديت حقّها : قال : «لا ولا بزفرة واحدة»(٢) .

٥ ـ لقد أولت الآيات القرآنية العلاقات العائلية ، واحترام الأبوين وإكرامهم ، والعناية بتربية الأولاد ، اهتماما فائقا ، وقد أشير إليها جميعا في الآيات المذكورة ، وذلك لأنّ المجتمع الإنساني الكبير يتكون من خلايا وتشكيلات أصغر تسمى العائلة ، كما أنّ البناية الضخمة تتكون من غرف ، وهي بدورها من الطابوق والحجر.

من البديهي أنّه كلّما كانت هذه التقسيمات الصغيرة أكثر انسجاما وترابطا ، كان أساس المجتمع أقوى وأشد ثباتا ، وأحد عوامل التمزق والاختلال الاجتماعي في المجتمعات الصناعية في عصرنا الحاضر هو انحلال نظام العائلة ، فلا احترام من قبل الأولاد ، ولا عطف من الآباء والأمهات ، ولا علاقة حب وحنان وعاطفة من الأزواج.

إنّ المشهد المؤلم لدور رعاية المسنين في المجتمعات الصناعية اليوم ، والتي

__________________

(١) روح المعاني ، المجلد ٢٦ ، صفحة ١٦.

(٢) في ظلال القرآن ، المجلد ٧ ، صفحة ٤١٥.

٢٧٠

تحتضن العجزة من الآباء والأمهات الذين طردوا من العائلة ، شاهد معبر جدّا عن هذه الحقيقة المرّة.

فالرجال والنساء الذين صرفوا عمرا طويلا في الخدمة لمنح المجتمع أبناء عديدين ، يطردون تماما في الأيّام التي يكونون فيها بأشد الحاجة إلى عواطف الأبناء ومحبتهم ومعونتهم ، ويبقون في تلك الدور يعدون الأيّام في انتظار لحظة الموت ، وقد سمّروا أعينهم في الباب بانتظار صديق أو قريب يفتحها ولا تفتح عليهم إلّا مرّة أو مرّتين في السنة!

حقا ، إنّ تصور مثل هذه الحالة ينغص على الإنسان عيشه منذ البداية ، وهذا هو عرف دنيا المادة والتمدن وأسلوبها حينما يطرح منها الإيمان والدين.

٦ ـ إنّ جملة :( وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ) تبيّن أنّ العمل الصالح هو العمل الذي يبعث على رضى الله سبحانه ، وتعبير :( أَحْسَنَ ما عَمِلُوا ) والذي ورد في آيات عديدة من القرآن المجيد ، يبيّن فضل الله الذي لا يحصى في مقام مكافأة العباد وجزائهم ، حيث يجعل أحسن أعمالهم معيارا لكلّ أعمالهم الحسنة في الحساب. والمثوبة.

* * *

٢٧١

الآيات

( وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) )

التّفسير

مضيّعو حقوق الوالدين :

كان الكلام في الآيات السابقة عن المؤمنين الذين سلكوا طريق القرب من الله ، فبلغوا الغاية ووسعتهم رحمة الله ، وكرمهم لطفه ، وكلّ ذلك في ظل الإيمان والعمل الصالح ، وشكر نعم الله سبحانه ، والالتفات إلى حقوق الأبوين والذرية وأدائها.

أمّا هذه الآيات ، فيدور الكلام فيها عمّن يقفون في الطرف المقابل ، وهم الكافرون المنكرون للجميل والحق ، والعاقون لوالديهم ، فتقول :( وَالَّذِي قالَ

٢٧٢

لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي ) (١) .

إلّا أنّ أبويه المؤمنين لم يستسلما أمام هذا الولد العاق الضال ، فتقول الآية :( وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ ) غير أنّه يأبى إلّا أن يسير في طريق الضلالة والعناد الذي اختطه لنفسه ، ولذلك نراه يجيبهما بكلّ تكبر وغرور ولا مبالاة :( فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) ، فما تقولانه عن المعاد والحساب ليس إلّا خرافات وقصص كاذبة أتتكم من الماضين من قبلكم ، ولست بالذي يعتقد بها وينقاد لها.

إنّ الصفات التي يمكن أن تستخرج من هذه الآية حول هذه الفئة من الأبناء الضالين عدّة صفات : عدم احترام منزلة الأبوين ، والإساءة لهما ، لأنّ (أف) في الأصل تعني كلّ شيء قذر ، وهي تقال في مقام التحقير والإهانة(٢) .

وقال البعض : إنّها تعني الأقذار التي تجتمع تحت الأظافر ، وهي قذرة ملوثة ، ولا قيمة لها(٣) .

والصفة الأخرى هي أنّهم مضافا إلى عدم إيمانهم بيوم القيامة والبعث والجزاء ، فإنّهم يسخرون منه ويستهزئون به ، ويعدونه من الأساطير والأوهام الخرافية الباطلة.

والصفة الأخرى أنّهم لا أذن سامعة لهم ، ولا يذعنون للحق ، وقد امتلأت نفوسهم بروح الغرور والكبر والأنانية.

نعم ، فبالرغم من أن الأبوين الحريصين يبذلان قصارى جهودهما ، وكلّ ما في

__________________

(١) «والذي قال» مبتدأ ، وخبره ـ باعتقاد كثير من المفسّرين ـ (أولئك الذين) الذي ورد في الآية التالية ، ولا منافاة بين كون المبتدأ مفردا والخبر ـ أولئك ـ جمعا ، لأنّ المراد منه الجنس. لكن يحتمل أيضا أن يكون خبره محذوفا ، وتقديره الكلام : «وفي مقابل الذين مضى وصفهم الذي قال لوالديه» وفي هذه الحالة تكون الآية التالية مستقلة ، كما أن آية :( أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ ) مستقلة.

(٢) مفردات الراغب.

(٣) أوردنا بحوثا أخرى حول معنى (أف) في سورة الإسراء الآية ٢٣.

٢٧٣

وسعهما لإنقاذه من دوامة الجهل والغفلة ، لئلا يبتلى هذا الابن العزيز بعذاب الله الأليم ، إلّا أنّه يأبى إلّا الاستمرار في طريق غيه وكفره ، ويصر على ذلك ، وأخيرا يتركه أبواه وشأنه بعد اليأس منه.

وكما بيّنت الآيات السابقة ثواب المؤمنين العاملين للصالحات ، فإنّ هذه الآيات تبيّن عاقبة أعمال الكافرين الضالين المتجرئين على الله ، فتقول :( أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ ) (١) ، وأي خسارة أعظم من أنّهم خسروا كلّ رأس مال وجودهم إذا اشتروا به غضب اللهعزوجل وسخطه.

ومن خلال المقارنة بين هذين الفريقين ـ أصحاب النعيم وأصحاب الجحيم ـ في هذه الآيات نقف على هذه الأمور :

إنّ أولئك يطوون مدارج رشدهم وكمالهم ، في حين أنّ هؤلاء فقدوا كلّ ما يملكون ، فهم خاسرون.

أولئك يقدرون الجميل ويشكرونه حتى من أبويهم ، وهؤلاء منكرون للجميل معتقدون لا أدب لهم حتى مع والديهم.

أولئك مع المقربين إلى الله في الجنّة ، وهؤلاء مع الكافرين في النّار ، فكلّ منهم يلتحق بأمثاله ومن على شاكلته.

أولئك يتوبون من الهفوات التي تصدر عنهم ، ويذعنون للحق ، أمّا هؤلاء فهم قوم طغاة عتاة متمردون ، أنانيّون ومتكبرون.

وممّا يستحق الالتفات أنّ هؤلاء المعاندين يستندون في انحرافاتهم إلى وضع الأقوام الماضين وسيحشرون معهم إلى النّار أيضا.

أمّا الآية الأخيرة من هذه الآيات فإنّها تشير أوّلا إلى تفاوت درجات كلا

__________________

(١) جملة (حقّ عليهم القول) إشارة إلى كلام الله الذي قاله سبحانه في عقوبة الكافرين والمجرمين ، والتقدير : حقّ عليهم القول بأنّهم أهل النّار و (في أمم) في محل حال.

٢٧٤

الفريقين ، فتقول :( وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ) (١) فليس كلّ أصحاب الجنّة أو أصحاب النّار في درجة واحدة ، بل إنّ لكلّ منهما درجات ومراتب تختلف باختلاف أعمالهم ، وحسب خلوص نيّتهم وميزان معرفتهم ، وأصل العدالة هو الحاكم هنا تماما.

«الدرجات» جمع درجة ، وتقال عادة للسلالم التي يصعد الإنسان بتسلقها إلى الأعلى ، و «الدركات» جمع درك ، وهي تقال للسلّم الذي ينزل منه الإنسان إلى الأسفل ، ولذلك يقال في شأن الجنّة : درجات ، وفي شأن النّار : دركات ، لكن لما كانت الآية مورد البحث قد تحدثت عنهما معا ، ولأهمية مقام أصحاب الجنّة ، ورد لفظ (الدرجات) للاثنين ، وهو من باب التغليب(٢) .

ثمّ تضيف الآية :( وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ ) وهذا التعبير إشارة أخرى إلى مسألة تجسم الأعمال ، حيث أنّ أعمال ابن آدم ستكون معه هناك ، فتكون أعماله الصالحة باعثا على الرحمة به واطمئنانه ، وأعماله الطالحة سببا للبلاء والعذاب الألم.

وتقول الآية أخيرا كتأكيد على ذلك :( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) لأنّهم سيرون أعمالهم وجزاءها ، فكيف يمكن تصور الظلم والجور؟

هذا إضافة إلى أنّ درجات هؤلاء ودركاتهم قد عيّنت بدقّة ، حتى أنّ لأصغر الأعمال ، حسنا كان أم قبيحا ، أثره في مصيرهم ، ومع هذه الحال لا معنى للظلم حينئذ.

* * *

ملاحظة

كيف حرّفت هذه الآية من قبل بني أمية؟

ورد في رواية أنّ «معاوية» أرسل رسالة إلى «مروان» ـ وإليه على المدينة ـ

__________________

(١) (من) في (ممّا عملوا) للابتداء ـ أو كما تسمى نشوية ـ أو بمعنى التعليل ، أي : من أجل ما عملوا.

(٢) «درك» ـ بسكون الوسط ـ ودرك ـ بفتحه ـ بمعنى أعمق نقطة في العمق ، وجاءت ـ أحيانا ـ الدرك ـ بالفتحة ـ بمعنى الخسارة ، والدرك ـ بالسكون ـ بمعنى فهم الشيء وإدراكه ، لمناسبته الوصول إلى عمقه وحقيقته.

٢٧٥

يأمره بأخذ البيعة من الناس لابنه يزيد ، وكان «عبد الرحمن بن أبي بكر» حاضرا في المجلس ، فقال : يريد معاوية أن يجعل هذا الأمر هرقليا وكسرويا ـ ملكي الروم وفارس ـ إذا مات الآباء جعلوا أبناءهم مكانهم ، وإن لم يكونوا أهلا لذلك ، أو كانوا فساقا؟

فصاح مروان من على المنبر : صه ، فأنت الذي نزلت فيه :( وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما ) .

وكانت «عائشة» حاضرة ، فقالت : كذبت ، وإنّي لأعلم فيمن نزلت هذه الآية ، ولو شئت لأخبرتك باسمه ونسبه ، لكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعن أباك وأنت في صلبه ، فأنت فضض من لعنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

أجل ولقد كان ذنب عبد الرحمن عشقه ومحبّته لأمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، وهو أمر كان يسوء بني أمية كثيرا ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإنّه كان مخالفا لصيرورة الخلافة وراثية ، وتبديلها إلى سلطنة ، وكان يعتبر أخذ البيعة ليزيد نوعا من الانحراف نحو الكسروية والهرقلية ، ولذلك أصبح غرضا لأعداء الإسلام الألداء ، أي آل أميّة ، فحرّفوا آيات القرآن فيه.

وكم هو مناسب الجواب الذي أجابت به عائشة مروان بأنّ الله سبحانه لعن أباك إذ كنت خلفه ، وهو إشارة إلى الآية (٦٠) من سورة الإسراء حيث تقول :( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) (٢) .

* * *

__________________

(١) أبو الفتوح الرازي في تفسيره ، المجلد ١٠ ، صفحة ١٥٩ ، ونقل هذه الرواية بتفاوت يسير في مجلد ٩ ، صفحة ٦٠١٧.

(٢) يراجع لتفسير هذه الآية ذيل الآية (٦٠) من سورة الإسراء. وينبغي الالتفات إلى أنّ «مروان بن الحكم» هو ابن «أبي العاص» ، وهذا بدوره ابن «أميّة» أيضا.

٢٧٦

الآية

( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠) )

التّفسير

الزهد والادخار للآخرة :

تستمر هذه الآية في البحث حول عقوبة الكافرين والمجرمين ، وتذكر جانبا من أنواع العذاب الجسمي والروحي

الذي سينال هؤلاء ، فتقول :( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا ) (١) .

نعم ، فقد كنتم غارقين في الشهوات ، ولم تكونوا تعرفون شيئا إلّا التمتع بطيّبات هذا العالم ونعمه المادية ، ومن أجل أن تكونوا متحللين من كلّ القيود في هذا المجال ، أنكرتم المعاد لتطلقوا لأنفسكم العنان ، وسخرتم هذه المواهب من أجل إنزال كلّ أنواع الظلم والجور بحق الآخرين.

__________________

(١) (يوم) ظرف متعلق بفعل محذوف يستفاد من الجمل التالية ، والتقدير : ويوم يعرض الذين كفروا على النّار يقال لهم أذهبتم طيّباتكم

٢٧٧

( فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ) فاليوم ترون جزاء كلّ ذلك التمتع الباطل ، واتباع الشهوات الأعمى ، وعبادة الهوى ، والاستكبار والفسق والفجور وتذوقون العذاب المذل والمهين بسبب تلكم الأعمال.

* * *

بحوث

١ ـ تقول هذه الآية : إنّ الكفار يعرضون على النّار في القيامة ، وقد ورد نظير هذا في الآية (٤٦) من سورة المؤمنين حول عذاب الفراعنة في البرزخ ، إذ تقول :( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ) في حين أنّنا نقرأ في بعض آيات القرآن الأخرى أنّ جهنّم تعرض على الكافرين :( وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً ) (١) .

لذلك قال بعض المفسّرين : إنّ في القيامة نوعين من العرض : فقبل الحساب تعرض جهنّم على المجرمين ليملأ وجودهم الخوف والهلع ، وهذا بحدّ ذاته عقاب وعذاب نفسي ، وبعد الحساب وإلقائهم في جهنّم يعرضونهم على عذاب الله(٢) .

وقال البعض : إنّ في العبارة نوع قلب ، وإنّ المراد من عرض الكفار على النّار هو عرض النّار على الكافرين ، إذ لا عقل ولا إدراك للنار حتى يعرض عليها الكافرون ، في حين أنّ العرض يتم في الموارد التي يكون المعروض عليه فيها ذا شعور وإدراك.

لكن لا يمكن أن يرد على هذا الجواب بأنّ بعض الآيات ذكرت وجود إدراك وشعور لدى النّار ، حتى أنّ الله سبحانه يخاطبها وتجيب ، فيقول سبحانه :( هَلِ

__________________

(١) الكهف ، الآية ١٠٠.

(٢) تفسير الميزان ، المجلد ١٨ ، صفحة ٢٢٣ ذيل الآيات مورد البحث.

٢٧٨

امْتَلَأْتِ ) فتقول :( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) (١) .

والحق أنّ حقيقة العرض هي رفع الموانع بين شيئين حتى يتقابلا ويكونا وجها لوجه ، وكذا الحال بالنسبة إلى الكافرين والنّار ، فإنّ الحواجز ترفع من بينهما ، فيمكن القول في هذه الصورة : إنّ الكافرين يعرضون على النّار ، كما تعرض عليهم ، وكلا التعبيرين صحيح.

وعلى أية حال ، فلا حاجة لأن نعتبر العرض بمعنى الدخول في النّار كما ذكره «الطبرسي» في مجمع البيان ، بل إنّ هذا العرض بحدّ ذاته نوع من العذاب الأليم المرعب ، حيث يرى الكافرون بأعينهم كلّ أقسام جهنّم من الخارج قبل أن يردوها ، وليشاهدوا مصيرهم المشؤوم ويتعذّبوا ويتألموا له.

٢ ـ إنّ جملة :( أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ ) تعني التمتع بلذائذ الدنيا ، والتعبير بـ «أذهبتم» لأنّ هذه اللذائذ والنعم تفنى بالتمتع بها واستهلاكها.

ومن المسلّم أنّ التمتع بمواهب الله ونعمه في هذه الدنيا ليس أمرا مذموما قبيحا ، بل المذموم هو الغرق في اللذات المادية ، ونسيان ذكر الله والقيامة ، أو التمتع بها بصورة غير مشروعة والتلوث بالمعاصي عن طريقها ، وغصب حقوق الآخرين فيما يتعلق بها.

وممّا يلفت الانتباه أنّ هذا التعبير لم يرد إلّا في هذه الآية من القرآن الكريم ، وهو إشارة إلى أنّ الإنسان يعزب أحيانا عن لذات الدنيا ويعرض عنها ، أو أنّه لا يأخذ منها إلّا ما يقوّم به صلبه ، ويتقوّى به على القيام بالواجبات الإلهية ، وكأنّه في هذه الصورة قد ادخر هذه الطيبات لآخرته.

غير أنّ الكثيرين يتكالبون على هذه التمتعات الدنيوية كالحيوانات ولا يحدّهم شيء في الالتذاذ بهذه الطيبات وافنائها جميعا ، ولا يكتفون بعدم ادخار شيء لآخرتهم ، بل يحملون معهم أحمالا من الأوزار ، ولهؤلاء يقول القرآن :( أَذْهَبْتُمْ

__________________

(١) سورة ق ، الآية ٣٠.

٢٧٩

طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا ) .

وقد نقل في بعض كتب اللغة أنّ المراد من الجملة : أنفقتم طيبات ما رزقتم في شهواتكم وفي ملاذ الدنيا ، ولم تنفقوها في مرضاة الله(١) .

٣ ـ للطيبات معنى واسع يشمل كلّ مواهب الدنيا ، ومع أنّ بعض المفسّرين قد فسّرها بقوّة الشباب فقط ، إلّا أنّ الحق هو أنّ الشباب يمكن أن يكون مصداقا لا غير.

٤ ـ إنّ التعبير بـ( عَذابَ الْهُونِ ) بمثابة ردّ فعل لاستكبار هؤلاء في الأرض ، لأنّ العقوبة الإلهية ، تتناسب تماما مع نوع الذنب والمعصية ، فأولئك الذين تكبّروا على خلق الله ، بل وحتى على أنبيائه ، ولم يخضعوا لأي تشريع إلهي ، يجب أن يلاقوا جزاءهم بذلة وحقارة ومهانة.

٥ ـ لقد ذكر في ذيل هذه الآية ذنبان لأصحاب الجحيم ، الأوّل : الاستكبار ، والثّاني : الفسق. ويمكن أن يكون الأوّل إشارة إلى عدم إيمانهم بآيات الله وبعث عن ترك أصول الدين ، والآخر عن تضييع فروع الدين(٢) .

٦ ـ إنّ التعبير بغير الحق لا يعني أنّ الاستكبار نوعان : حق ، وغير حق ، بل إنّ هذه التعابير تقال عادة للتأكيد ، ونظائرها كثير.

٧ ـ زهد الأئمة العظماء

لقد وردت في مختلف مصادر الحديث والتّفسير روايات كثيرة عن زهد أئمّة الإسلام العظماء ، واستندوا فيه بالخصوص إلى الآية مورد البحث ، ومن جملتها : جاء في حديث أنّ عمر أتى يوما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مشربة أم إبراهيم ـ وهو

__________________

(١) مجمع البحرين ، مادة ذهب.

(٢) تفسير الميزان ، المجلد ١٨ ، صفحة ٢٢٤.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

فتحصّنوا عنه بالحصون، وتمادى بهم التحصّن قريباً من سنة ونصف حتّى ظهر فيهم القحط والوباء.

وأصرّ بخت نصّر على المحاصرة حتّى فتح الحصون، وذلك في سنة خمسمائة وستّ وثمانين قبل المسيح، وقتل نفوسهم، وخرب ديارهم وخرّبوا بيت الله وأفنوا كلّ آية وعلامة دينيّة وبدّلوا هيكلهم تلّاً من تراب، وفقدت عند ذلك التوراة والتابوت الّذي كانت تجعل فيه.

وبقى الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريباً وهم قاطنون ببابل وليس من كتابهم عين ولا أثر ولا من مسجدهم وديارهم إلّا تلال ورياع.

ثمّ لمّا جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك وكان من أمره مع البابليّين ما كان وفتح بابل ودخله أطلق اُسراء بابل من بني اسرائيل وكان عزرا المعروف من المقرّبين عنده فأمّره عليهم وأجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة ويبني لهم الهيكل ويعيدهم إلى سيرتهم الاُولى وكان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمائة وسبعة وخمسين قبل المسيح وبعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق وصحّحها وهي التوراة الدائرة اليوم(١) .

وأنت ترى بعد التدبّر في القصّة أنّ سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير متّصلة بموسى (عليه السلام) إلّا بواحد (وهو عزرا) لا نعرفه أوّلاً ولا نعرف كيفيّة اطّلاعه وتعمّقه ثانياً ولا نعرف مقدار أمانته ثالثاً، ولا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعاً، ولا ندري بالاستناد إلى أيّ مستند صحّح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامساً.

وقد أعقبت هذه الحادثة المشئومة أثراً مشئوماً آخر وهو إنكار عدّة من باحثي المورّخين من الغربيّين وجود موسى وما يتبعه، وقولهم: إنّه شخص خياليّ كما قيل

____________________

(١) مأخوذ من قاموس الكتاب المقدّس تأليف مستر هاكس الامريكائي الهمداني ومآخذ اُخرى من التواريخ.

٣٤١

نظيره في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام. لكنّ ذلك لا يسع لمسلم فإنّ القرآن الشريف يصرّح بوجوده (عليه السلام) وينصّ عليه.

٢ - قصّة المسيح والإنجيل:

اليهود مهتمون بتاريخ قوميّتهم وضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار الّتي مرّت بهم، ومع ذلك فإنّك لو تتبّعت كتبهم ومسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام): لا على كيفيّة ولادته ولا على ظهوره ودعوته ولا على سيرته والآيات الّتي أظهرها الله على يديه ولا على خاتمة حياته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك. فما هو السبب في ذلك؟ وما هو الّذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفائهم أمره؟

والقرآن يذكر عنهم أنّهم قذفوا مريم ورموها بالبهتان في ولادة عيسى، وأنّهم ادّعوا قتل عيسى. قال تعالى:( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلّا اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً ) النساء - ١٥٧.

فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القوميّة من غير أن يكون مودعاً في كتاب؟ وعند كلّ اُمّة أحاديث دائرة من واقعيّات وأساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.

أو أنّهم سمعوا من النصارى الذكر المكرّر من المسيح وولادته وظهوره ودعوته فأخذوا ذلك من أفواههم وباهتوا مريم، وادّعوا قتل المسيح؟ لا طريق إلى استبانة شئ من ذلك غير أنّ القرآن - كما يظهر بالتدبّر في الآية السابقة - لا ينسب إليهم صريحاً إلّا دعوى القتل دون الصلب، ويذكر أنّهم على ريب من الأمر وأنّ هناك اختلافاً.

وأمّا حقيقة ما عند النصارى من قصّة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أنّ قصّته (عليه السلام) وما يتعلّق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدّسة عندهم وهي الأناجيل الأربعة الّتي هي أناجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا، وكتاب أعمال الرسل للوقا،

٣٤٢

وعدّة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنّا ويهودا. واعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها:

أمّا إنجيل متّى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنّه صنّف سنة ٣٨ الميلاديّة، وذكر آخرون أنّه كتب ما بين سنة ٥٠ إلى سنة ٦٠(١) فهو مؤلّف بعد المسيح.

والمحقّقون من قدمائهم ومتأخّريّهم على أنّه كان أصله مكتوباً بالعبرانيّة ثمّ ترجم إلى اليونانيّة وغيرها أمّا النسخة الأصليّة العبرانيّة فمفقودة، وأمّا الترجمة فلا يدري حالها، ولا يعرف مترجمها(٢) .

وأمّا إنجيل مرقس: فمرقس هذا كان تلميذاً لبطرس، ولم يكن من الحواريّين وربّما ذكروا أنّه إنّما كتب إنجيله بإشارة بطرس وأمره، وكان لا يرى إلهيّة المسيح(٣) ولذلك ذكر بعضهم أنّه إنّما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرّف المسيح تعريف رسول إلهيّ مبلّغ لشرائع الله(٤) وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة ٦١ ميلاديّة.

وأما إنجيل لوقا: فلوقا هذا لم يكن حواريّاً ولا رأى المسيح وإنّما تلقّن النصرانيّة من بولس، وبولس كان يهوديّاً متعصّباً على النصرانيّة يوذي المؤمنين بالمسيح ويقلّب الاُمور عليهم ثمّ اتّفق مفاجأة أن ادّعى أنّه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه وزجره عن الإساءة إلى متّبعيه وأنّه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشّر بإنجيله.

____________________

(١) قاموس الكتاب المقدّس للمستر هاكس مادّة - متى.

 (٢) كتاب ميزان الحقّ واعتراف به على تردّد في قاموس الكتاب المقدّس.

 (٣) نقل ذلك عبد الوهّاب النجّار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الاخبار في تراجم الاخبار لبطرس قرماج.

(٤) ذكره في قاموس الكتاب المقدّس. يقول فيه: إن نصّ تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله برومية وانتشر بعد وفاة بطرس وبولس لكنّه ليس له كثير اعتبار لأن ظاهر إنجيله أنّه كتبه لأهل القبائل والقرويين لا لأهل البلاد وخاصّة الروميّة. فتدبّر في كلامه !

٣٤٣

وبولس هذا هو الّذي شيّد أركان النصرانيّة الحاضرة على ما هي عليها(١) فبني التعليم على أنّ الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل وأباح لهم أكل الميتة ولحم الخنزير ونهى عن الختنة وكثير ممّا في التوراة(٢) مع أنّ الإنجيل لم يأت إلّا مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، ولم يحلّل إلّا أشياء معدودة. وبالجملة إنّما جاء عيسى ليقوّم شريعة التوراة ويردّ إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الإيمان الخالي.

وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس. وذلك بعد موت بطرس وبولس. وقد صرّح جمع بأنّ إنجيله ليس كتاباً إلهاميّاً كسائر الأناجيل(٣) كما يدلّ عليه ما وقع في مبتدء إنجيله.

وأمّا إنجيل يوحنّا فقد ذكر كثير من النصارى أنّ يوحنّا هذا هو يوحنّا بن زبديّ الصيّاد أحد التلاميذ الإثنى عشر (الحواريّين) الّذي كان يحبّه المسيح حبّاً شديداً(٤) .

وذكروا أنّ (شيرينطوس) و(أبيسون) وجماعتهما لمّا كانوا يرون أنّ المسيح ليس إلّا إنساناً مخلوقاً لا يسبق وجوده وجود اُمّه اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في سنة ٩٦

____________________

(١) راجع مادّة بولس من قاموس الكتاب المقدّس.

(٢) راجع كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس.

(٣) قال في أوّل إنجيل لوقا:( لأجل أن كثيرين راموا كتب قصص الاُمور الّتي نحن بها عارفون كما عهد الينا اولئك الأوّلون الّذين كانوا من قبل معاينين وكانوا خداما للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ كنت تابعا لكلّ شئ بتحقيق أن أكتب اليك أيّها العزيز ثاوفيلا) ودلالته على كون الكتاب نظريا غير إلهامي ظاهرة وقد نقل ذلك أيضاً عن مستر كدل في رسالة اللّهمّ وصرح جيروم أن بعض القدماء كانوا يشكون في البابين الأوّلين من إنجيل لوقا وأنّهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني وجزم إكهارن في كتابه ص ٩٥ أن من ف ٤٣ إلى ٤٧ من الباب ٢٢ من إنجيل لوقا الحاقية وذكر إكهارن أيضاً في ص ٦١ من كتابه: قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات الّتي نقلها لوقا والكاتب ضمه على طريق المبالغة الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير وقول:( كلي مي شيس أن متّى ومرقس يتخالفان في التحرير وإذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا) نقل عن قصص الأنبياء للنجّار - ص ٤٧٧.

(٤) راجع قاموس الكتاب المقدّس مادّة يوحنّا.

٣٤٤

ميلاديّة عند يوحنّا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم ويبيّن بنوع خصوصيّ لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم(١) .

وقد اختلفت كلماتهم في السنة الّتي اُلّف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنّها سنة ٦٥ وقائل أنّها سنة ٩٦ وقائل أنّها سند ٩٨.

وقال جمع منهم إنّه ليس تأليف يوحنّا التلميذ: فبعضهم على أنّه تأليف طالب من طلبة المدرسة الاسكندريّة(٢) وبعضهم على أنّ هذا الإنجيل كلّه وكذا رسائل يوحنّا ليست من تصنيفه بل إنّما صنّفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني، ونسبه إلى يوحنّا ليعتربه الناس(٣) وبعضهم على أنّ إنجيل يوحنّا كان في الأصل عشرين باباً فألحقت كنيسة (أفاس) الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنّا(٤) فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة وإذا أخذنا بالقدر المتيقّن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم: متّى، مرقس، لوقا، يوحنّا، بطرس، بولس، يهوذا، ينتهي ركونهم كلّه إلى هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متّى وقد مرّ أنّه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الّذي ترجمه؟ وكيف كان أصله. وعلى ما ذا كان يبني تعليمه أبرسالة المسيح أم باُلوهيّته.

وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنّه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجّار وأقام الدعوة إلى الله، وكان يدّعي أنّه ابن الله مولود من غير أب بشريّ وأنّ أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل، وأنّه أحيى الميّت وأبرء الأكمه والأبرص وشفى المجانين بإخراج الجنّ من أبدانهم، وأنّه كان له إثنا عشر تلميذاً: أحدهم متّى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحيّ إلخ.

____________________

(١) نقله في قصص الأنبياء عند جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.

 (٢) نقل ذلك من كتاب (كاتلك هر الد) في المجلد السابع المطبوع سنة ١٨٤٤ ص ٢٠٥ نقله عن استادلن (عن القصص) وأشار إليه في القاموس في مادّة يوحنّا.

 (٣) قال ذلك (بر طشنيدر) على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الأوّل (عن القصص).

(٤) المدرك السابق.

٣٤٥

 فهذا ملخّص ما تنتهى إليه الدعوة المسيحيّة على انبساطها على شرق الأرض وغربها، وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم، مبهم العين والوصف.

وهذا الوهن العجيب في مبدء القصّة هو الّذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من اُروبه أن أدّعى أنّ المسيح عيسى بن مريم شخص خياليّ صوّره بعض النزعات الدينيّة على حكومات الوقت أو لها وتأيّد ذلك بموضوع خرافيّ آخر يشبهه كلّ الشبه في جميع شئون القصّة وهو موضوع (كرشنا) الّذي تدّعي وثنيّة الهند القديمة أنّه ابن الله نزل عن لاهوته، وفدى الناس بنفسه صلباً ليخلّصهم من الأوزار والخطايا كما يدّعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل (كما سيجئ ذكره).

وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أنّ هناك شخصين مسمّيين بالمسيح: المسيح غير المصلوب، والمسيح المصلوب. وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون.

وأنّ التاريخ الميلاديّ الّذي سنتنا هذه سنة الف وتسعمائة وستّة وخمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأوّل غير المصلوب يتقدّم عليه بما يزيد على مأتين وخمسين سنة وقد عاش نحواً من ستّين سنة والمسيح الثاني المصلوب يتأخّر عنه بما يزيد على مأتين وتسعين سنة وقد عاش نحواً من ثلاث وثلاثين سنة(١)

على أنّ عدم انطباق التاريخ الميلاديّ على ميلاد المسيح في الجملة ممّا لم يسع للنصارى إنكاره(٢) وهو سكتة تاريخيّة.

على أنّ هيهنا اُموراً مريبة موهمة اُخرى فقد ذكروا أنّه كتب في القرنين الأوّلين من الميلاد أناجيل كثيرة اُخرى ربّما أنهوها إلى نيّف ومائة من الأناجيل والأناجيل الأربعة منها ثمّ حرّمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلّا الأناجيل الأربعة

____________________

(١) وقد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل (بهروز) في كتاب ألفه جديداً في البشارات النبوّية وأرجو أن أوفق لايداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب والقدر المتيقن (الّذي يهمنا منه) اختلال التاريخ المسيحي.

(٢) راجع مادّة مسيح من قاموس الكتاب المقدس.

٣٤٦

الّتي عرفت قانونيّة لموافقة متونها تعليم الكنيسة(١) .

ومن جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الّذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت إلى العربيّة والفارسيّة، وهو يوافق في عامّة قصصه ما قصّه القرآن في المسيح عيسى بن مريم(٢) .

ومن العجيب أنّ الموادّ التاريخيّة المأثورة عن غير اليهود أيضاً ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحيّة من حديث البنوّة والفداء وغيرهما. ذكر المورّخ الإمريكيّ الشهير (هندريك ويلم وان لون) في تأليفه في تاريخ البشر كتاباً كتبه الطبيب (إسكولابيوس كولتلوس) الروميّ سنة ٦٢ الميلاديّة إلى ابن أخيه (جلاديوس أنسا) وكان جنديّاً في عسكر الروم بفلسطين، يذكر فيه أنّه عاد مريضاً بروميّة يسمّى بولس فأعجبه كلامه وقد كان بولس كلّمه بالدعوة المسيحيّة، وذكر له طرفاً من أخبار المسيح ودعوته.

ثمّ يذكر أنّه ترك بولس ولم يره حتّى سمع بعد حين أنّه قتل في طريق (أوستى) ثمّ يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبيّ الاسرائيليّ الّذي كان يذكره بولس وعن أخبار بولس نفسه ويكتب إليه ما بلغه من ذلك.

____________________

(١) ولقد لام (شيلسوس) الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه (الخطاب الحقيقي) على تلاعبهم بالاناجيل، ومحوهم بالغد ما أدرجوه بالامس، وفي سنة ٣٨٤ م أمر البابا داماسيوس أن تحرر ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم والحديث تعتبر قانونيّة في الكنائس وكان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدلية بين الاساقفة، وتمت تلك الترجمة الّتي تسمى (فولكانا) وكان ذلك خاصّا بالاناجيل الاربعة: متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا وقد قال مرتب تلك الاناجيل: (بعد أن قابلنا عددا من النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ماكان فيها مغايرا للمعنى، وأبقينا الباقي على ماكان عليه) ثمّ إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع (التريدنتيني) سنة ١٥٤٦ أي بعدها بأحد عشر قرنا، ثمّ خطأها سيستوس الخامس سنة ١٥٩٠ وأمر بطبع نسخ جديدة ثمّ خطأ كليمنضوس الثامن هذه النسخة الثانية أيضاً، وأمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين (تفسير الجواهر - الجزء الثاني - ص ١٢١ الطبعة الثانية).

(٢) وقد وجد هذا الانجيل بالخط الايطالي منذ سنين وترجمه إلى العربيّة الدكتور خليل سعاده بمصر وترجمه إلى الفارسيّة الحبر الفاضل (سردار كابلي) بإيران.

٣٤٧

فكتب إليه (جلاديوس أنسا) بعد ستّة أسابيع من معسكر الروم باُورشليم: أنّي سألت عدّة من شيوخ البلد ومعمّريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم( هذا والسنة سنة ٦٢ ميلاديّة وهم شيوخ !) .

حتّى لقيت بيّاع زيتون فسألته هل يعرفه؟ فأنعم لي في الجواب ثمّ دلّني على رجل اسمه يوسف، و ذكر أنّه كان من أتباعه ومحبّيه وأنّه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه.

فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحّصت أيّاماً فوجدته شيخاً هرماً وقد كان قديماً يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.

كان الرجل على كبر سنّه صحيح المشاعر جيّد الحافظة وقصّ لي جميع الأخبار والقضايا الحادثة في ذلك الأوان، أوان الاغتشاش والفتنة.

ذكر أنّ فونتيوس فيلاطوس كان حاكماً على سامرا ويهوديّه في عهد القيصر (تي بريوس).

فاتّفق أن وقع أيّام حكومته فتنة في اُورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد ما فيه من نار الفتنة وكانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أنّ ابن نجّار من أهل الناصرة يدعو الناس ويستنهضهم على الحكومة.

فلمّا تحقّقوا أمره تبيّن أنّ ابن النجّار المتّهم شابّ عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة غير أنّ رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه ويباغضونه بأشدّ ما يكون وقد قالوا لفيلاطوس إنّ هذا الشابّ الناصريّ يقول: لو أنّ يونانيّاً أو روميّاً أو فلسطينيّاً عامل الناس وعاشرهم بالعدالة والشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في مطّلعة كتاب الله وتلاوة آياته.

وكأنّ هذه التعرّضات والاقتراحات لم تؤثّر في فيلاطوس أثرها لكنّه لما سمع ازدحام الناس قبال المعبد وهم يريدون أن يقبضوا على عيسى وأصحابه ويقطّعوهم إرباً إرباً رأى أنّ الأصلح أن يقبض هو على هذا الشابّ النجّار ويسجنة حتّى لا يقتل بأيدي الناس في غوغائهم.

٣٤٨

وكان فيلاطوس لم يتّضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كلّ الاتّضاح وكلّما كلّم الناس في أمره وسألهم واستوضحهم علت أصواتهم وتنادوا (هو كافر) (هو ملحد) (هو خائن) فلم ينته الأمر إلى طائل.

حتّى استقرّ رأي فيلاطوس أن يكلّم عيسى بنفسه فأشخصه وكلّمه وسأله عمّا يقصده بما يبلّغه من الدين فأجابه عيسى أنّه لا يهتمّ بأمر الحكومة والسياسة ولا له في ذلك غرض وأنّه يهتمّ بالحياة الروحانيّة أكثر ممّا يهتمّ بأمر الحياة الجسمانيّة وأنّه يعتقد أنّ الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس ويعبد الله الفرد الواحد وحده الّذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.

وكان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيّين وسائر فلاسفة يونان فكأنّه لم ير في ما كلّمه به عيسى موضع غمضة ولا محلّ مؤاخذة ولذلك عزم ثانياً أن يخلّص هذا النبيّ السليم المتين من شرّ اليهود وسوّف في حكم قتله وإنجازه.

لكنّ اليهود لم يرضوا بذلك ولم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنّه فتن بأكاذيب عيسى وأقاويله وأنّ فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر، وأخذوا يستشهدون عليه ويسجّلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة، وقد كان برز قبل ذلك فتن وانقلابات في فلسطين. والقوى المؤمّنة القيصريّة قليلة العدّة لا تقوى على إسكات الناس فيها كلّ القوّة.

وكان على الحكّام وسائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب شكواهم وعدم رضايتهم.

فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بدّاً من أن يفدي هذا الشابّ المسجون للأمن العامّ، ويجيب الناس فيما سألوه من قتله.

وأمّا عيسى فإنّه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه وقد عفى قبل موته عمّن تسبّب إلى قتله من اليهود ثمّ قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه ويشتمونه ويسبّونه.

٣٤٩

قال (جلاديوس أنسا) هذا ما قصّ لي يوسف من قصّة عيسى ودموعه تجري على خدّيه وحين ودّعني للمفارقة قدّمت إليه شيئاً من المسكوك الذهبيّ لكنّه أبى أن يأخذه، وقال لي يوجد هيهنا من هو أفقر منّي فأعطه إيّاه.

وسألته عن بولس رفيقك المعهود فما كان يعرفه معرفة تامّة. والقدر الّذي تبيّن من أمره أنّه كان رجلاً خيّاماً ثمّ ترك شغله واشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب الربّ الرؤوف الرحيم الإله الّذي بينه وبين (يهوّه) إله يهود الّذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد ممّا بين السماء والأرض.

والظاهر أنّ بولس سافر أوّلاً إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى يونان وأنّه كان يقول للعبيد والأرقّاء إنّهم جميعاً أبناء لأب يحبّهم ويرأف بهم وأنّ السعادة ليست تخصّ بعض الناس دون بعض بل تعمّ جميع الناس من فقير وغنيّ بشرط أن يعاشروا على المواخاة ويعيشوا على الطهارة والصداقة انتهى ملخّصاً.

هذه عامّة فقرات هذا الكتاب ممّا يرتبط بما نحن فيه من البحث.

وبالتأمّل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصّل للمتأمّل أنّ ظهور الدعوة المسيحيّة كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى (عليه السلام). وأنّه لم يكن إلّا ظهور دعوة نبويّة بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهيّة بظهور اللاهوت ونزولها إليهم وتخليصهم بالفداء!

ثمّ إنّ عدّة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس وتلامذة تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند وإفريقيّة وروميّة وغيرها وبسطوا الدعوة المسيحيّة لكنّهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصليّة من التعليم كلاهوت المسيح وكفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى وكون دين الإنجيل ديناً أصيلاً ناسخاً لدين موسى أو كونه تابعاً لشريعة التوراة مكمّلاً إيّاها(١) فافترقوا عند ذلك فرقاً.

____________________

(١) يشير إليه كتاب الرسل ووسائل بولس، وقد اعترضت به النصارى

٣٥٠

والّذي يجب الإمعان فيه أنّ الاُمم الّتي بسطت الدعوة المسيحيّة وظهرت فيها أوّل ظهورها كالروم والهند وغيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنيّة الصابئة أو البرهمنيّة أو البوذائيّة وفيها اُصول من مذاق التصوّف من جهة والفلسفة البرهمنيّة من جهة وفيها جميعاً شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت. على أنّ القول بتثليث الوحدة ونزول اللاهوت في لباس الناسوت وتحمّلها الصلب(١) والعذاب فدائا كان دائراً بين القدماء من وثنيّة الهند والصين ومصر وكلدان والآشور والفرس وكذا قدماء وثنيّة الغرب كالرومان والاسكندناويّين وغيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلّفة في الاديان والمذاهب القديمة.

ذكر (دوان) في كتابه (خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الاُخرى): إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أنّ أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتيّة هو التثليث ويسمّون هذا التعليم بلغتهم (ترى مورتى) وهي عبارة مركّبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتيّة (ترى) ومعناها الثلاثة و(مورتى) ومعناها هيآت أو أقانيم وهي (برهما، وفشنو، وسيفا) ثلاثة أقانيم متّحدة لا ينفكّ عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم.

ثمّ ذكر: أنّ برهما عندهم هو الأب وفشنو هو الابن، وسيفا هو روح القدس.

ثمّ ذكر أنّهم يدعون سيفا (كرشنا)(٢) الربّ المخلّص والروح العظيم الّذي ولد منه (فشنو) الإله الّذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلّص الناس فهو أحد الأقانيم الثلاثة الّتي هي الإله الواحد.

____________________

(١) القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جدّاً فقد كانوا يقتلون من اشتدّ جرمه وفظع دنبه بالصلب الّذي هو من أشدّ أسباب القتل عذاباً وأسوئها ذكراً، وكانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحديهما الاُخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثمّ يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين ويدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير، وكذا تدق قدماه على الخشبة وربّما شدتا من غير دقّ ثمّ تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوماً أو أيّاماً ثمّ تكسر قدماه من الساقين ويقتل على الصليب أو ينزل فيقتل بعد الانزال، وكان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة وكان من العار الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب.

(٢) وهو المعبر عنه ابلانكليزية (كرس) وهو المسيح المخلص.

٣٥١

 وذكر أيضاً: أنّهم يرمزون للاُقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.

وقال مستر (فابر) في كتابه (أصل الوثنيّة) كما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلّفاً من (برهما) و(فشنو) و(سيفا) نجد عند البوذيّين ثالوثاً فإنّهم يقولون: إنّ (بوذ) إله له ثلاثة أقانيم. وكذلك بوذيو (جينست) يقولون: إنّ (جيفا) مثلّث الأقانيم.

قال: والصينيّون يعبدون بوذه ويسمّونه (فو) ويقولون إنّه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.

وقال دوان في كتابه المتقدّم ذكره: وكان قسّيسوا هيكل منفيس بمصر يعبّرون عن الثالوث المقدّس للمبتدئين بتعلّم الدين بقولهم: إنّ الأوّل خلق الثاني والثاني خلق الثالث وبذلك تمّ الثالوث المقدّس.

وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره: هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كلّ شئ ثمّ الكلمة ومعهما روح القدس ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة، وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوّة الأبديّة فاذهب يا فاني يا صاحب الحياه القصيرة.

وقال بونويك في كتابه (عقائد قدماء المصريّين) أغرب كلمة عمّ انتشارها في ديانة المصريّين هي قولهم بلاهوت الكلمة، وأنّ كلّ شئ حصل بواسطتها، وأنّها منبثقة من الله، وأنّها هي الله انتهى. وهذا عين العبارة الّتي يبتدي بها إنجيل يوحنّا.

وقال (هيجين) في كتاب (الإنكلوساكسون) كان الفرس يدعون متروساً الكلمة والوسيط ومخلّص الفرس.

ونقل عن كتاب سكّان اُوروبة الأوّلين: أنّه كان الوثنيّون القدماء يقولون: إنّ الإله مثلّث الأقانيم.

ونقل عن اليونان والرومان والفنلنديّين والاسكندناويّين قضيّة الثالوث السابق الذكر وكذا القول بالكلمة عن الكلدانيّين والآشوريّين والفينيقيّين.

وقال دوان في كتابه (خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الاُخرى) (ص ١٨١ - ١٨٢) ما ترجمته بالتلخيص:

٣٥٢

(إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدائا عن الخطيئة قديم العهد جدّاً عند الهنود الوثنيّين وغيرهم) وذكر شواهد على ذلك:

منها قوله: يعتقد الهنود أنّ كرشنا المولود البكر - الّذي هو نفس الإلهة فشنو الّذى لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم - تحرّك حنوّاً كي يخلّص الأرض من ثقل حملها فأتاها وخلّص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.

وذكر أنّ (مسترمور) قد صوّر كرشنا مصلوباً كما هو مصوّر في كتب الهنود مثقوب اليدين والرجلين، وعلى قميصه صورة قلب الإنسان معلّقاً، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب. والنصارى تقول: إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك.

وقال (هوك) في ص ٣٢٦ من المجلد الأوّل من رحلته: ويعتقد الهنود الوثنيّون بتجسّد بعض الآلهة وتقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.

وقال (موريفور ليمس) في ص ٢٦ من كتابه (الهنود) ويعتقد الهنود الوثنيّون بالخطيئة الأصليّة وممّا يدلّ على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسّلاتهم الّتي يتوسّلون بها بعد (الكياتري) وهو إنّي مذنب ومرتكب الخطيئة، وطبيعتي شريرة، وحملتني اُمّي بالإثم فخلّصني يا ذا العين الحندقوقيّة يا مخلّص الخاطئين من الآثام والذنوب.

وقال القسّ (جورج كوكس) في كتابه (الديانات القديمة) في سياق الكلام عن الهنود: ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً لأنّه قدّم شخصه ذبيحة.

ونقل (هيجين) عن (اندارا دا الكروزوبوس) وهو أوّل اُوروبيّ دخل بلاد التيبال والتبّت: أنّه قال في الإله (اندرا) الّذي يعبدونه: أنّه سفك دمه بالصلب وثقب المسامير لكي يخلّص البشر من ذنوبهم وأنّ صورة الصلب موجودة في كتبهم.

وفي كتاب (جورجيوس) الراهب صورة الإله (اندرا) هذا مصلوباً، وهو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسيّ اقصرها - وفيه صورة وجهه - والسفلى أطولها ولو لا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنّها تمثّل شخصاً هذا.

٣٥٣

وأمّا ما يروى عن البوذيّين في بوذا فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتّى أنّهم يسمّونه المسيح، والمولود الوحيد، ومخلّص العالم ويقولون إنّه إنسان كامل وإله كامل تجسّد بالناسوت، وأنّه قدّم نفسه ذبيحة ليكفّر ذنوب البشر ويخلّصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها، ويجعلهم وارثين لملكوت السماوات بيّن ذلك كثير من علماء الغرب: منهم (بيل) في كتابه و(هوك) في رحلته و(موالر) في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتيّة وغيرهم.(١)

فهذه نبذة أو اُنموذجة من عقيدة تلبّس اللاهوت بالناسوت، وحديث الصلب والفداء في الديانات القديمة الّتي كانت الاُمم متمسّكين بها منكبّين عليها يوم شرعت الديانة النصرانيّة تنبسط على الأرض وأخذت الدعوة المسيحيّة تأخذ بمجامع القلوب في المناطق الّتي جال الدعاة المسيحيّون فيها فهل هذا إلّا أنّ الدعاة المسيحيّين أخذوا اُصول المسيحيّة وأفرغوها في قالب الوثنيّة واستمالوا بذلك قلوب الناس في تقبّل دعوتهم وهضم تعليمهم؟

ويؤيّد ذلك ما ترى في كلمات بولس وغيره من الطعن في حكمة الحكماء وفلسفتهم والإزراء بطرق الاستدلالات العقليّة وأنّ الإله الربّ يرجّح بلاهة الأبله على عقل العاقل.

وليس ذلك إلّا لأنّهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقّل والاستدلال فردّه أهله بأنّه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقّله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة والامتلاء بالروح المقدّس فشاكلوا بذلك ما يصرّ به جهلة المتصوّفة أنّ طريقتهم طور وراء طور العقل.

ثمّ إنّ الدعاة منهم ترهبوا وجالوا في البلاد (على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل والتواريخ) وبسطوا الدعوة المسيحيّة واستقبلتهم في ذلك العامّة في شتات البلاد، كان من سرّ موفّقيّتهم وخاصّة في إمبراطوريّة الروم هي الضغطة الروحيّة الّتي عمّت

____________________

(١) يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار - الجزء السادس في تفسير النساء وفي دوائر المعارف وفي كتاب العقائد الوثنيّة في الديانة النصرانيّة وغيرها.

٣٥٤

البلاد من فشوّ الظلم والتعدّي، وشمول أحكام الاسترقاق والاستعباد، والبون البعيد في حياة الطبقة الحاكمة والمحكومة والآمرة والمأمورة والفصل الشاسع بين عيشة الاغنياء وأهل الإتراف والفقراء والمساكين والأرقّاء.

وقد كانت الدعاة تدعو إلى المواخاة والمحابّة و التساوي والمعاشرة الجميلة بين الناس ورفض الدنيا وعيشتها الكدرة الفانية والاقبال على الحياة الصافية السعيدة الّتي في ملكوت السماء ولهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك والقياصرة كلّ العناية، ولا يقصدونهم بالأذى والسياسة والطرد.

فلم يزالوا يزيدون عدداً من غير تظاهر وتنافس وينمون قوّة وشدّة حتّى حصل لهم جمّ غفير في إمبراطوريّة الروم وإفريقيّة والهند وغيرها من البلاد. ولم يزالوا كلّما بنوا كنيسة وفتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحداً من بيوت الأوثان وأغلقوا بابه.

وكانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنيّة في هدم أساسهم، ولا بملوك الوقت وحكّامه في التعالي عن خضوعهم وفي مخالفة أحكامهم ودساتيرهم وربّما كان ذلك يؤدّيهم إلى الهلاك والقتل والحبس والعذاب فكان لا تزال تقتل طائفة وتسجن اُخرى وتشرّد ثالثة.

وكان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر (كنستانتين) فآمن بالملّة المسيحيّة وأعلن بها فأخذ التنصّر بالرسميّة وبنيت الكنائس في الروم وما يتبع إمبراطوريّته من الممالك وذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلاديّ.

تمركزت النصرانيّة يومئذ في كنيسة الروم وأخذت تبعث القسّيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس والديرات ومدارس يدرسون بها التعليم الإنجيليّ.

والّذي يجب إلتفات النظر إليه أنّهم وضعوا البحث على اُصول مسلّمة إنجيليّة فأخذوا التعاليم الإنجيليّة كمسألة الأب والابن والروح، ومسألة الصلب والفداء وغير ذلك اُصولاً مسلّمة وبنوا البحث والتنقير عليها.

٣٥٥

وهذا أوّل ما ورد على أبحاثهم الدينيّة من الوهن والوهي فإنّ استحكام البناء المبنيّ وإن بلغ ما بلغ واستقامته لا يغني عن وهن الأساس المبنيّ عليه شيئاً وما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة والصلب والفداء أمر غير معقول.

وقد اعترف عدّة من باحثيهم في التثليث بأنّه أمر غير معقول لكنّهم اعتذروا عنه بأنّه من المسائل الدينيّة الّتي يجب أن تقبل تعبّداً فكم في الأديان من مسألة تعبديّة تحيلها العقول.

وهو من الظنون الفاسدة المتفرّعة على أصلهم الفاسد، وكيف يتصوّر وقوع مسألة مستحيلة في دين حقّ؟ ونحن إنّما نقبل الدين ونميّز كونه دين حقّ بالعقل وكيف يمكن عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقّة على أمر يبطله العقل ويحيله؟ وهل هذا إلّا تناقض صريح؟

نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية، والسنّة الطبيعيّة القائمة، وأمّا المحال الذاتيّ فلا البتّة.

وهذا الطريق المذكور من البحث هو الّذي أوجب وقوع الخلاف والمشاجرة بين الباحثين المتفكّرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانيّة وانكباب المحصّلين على الأبحاث المذهبيّة في مدارس الروم والإسكندريّة وغيرهما.

فكانت الكنيسة تزيد كلّ يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة وتهيّئ مجمعاً مشكّلاً عند ظهور كلّ قول حديث وبدعة جديدة من البطارقة والأساقفة لإقناعهم بالمذهب العامّ وتكفيرهم ونفيهم وطردهم وقتلهم إذا لم يقنعوا.

وأوّل مجمع عقدوه مجمع نيقيه لمّا قال أريوس: إنّ اُقنوم الابن غير مساو لاُقنوم الأب وإنّ القديم هو الله والمسيح مخلوق.

اجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة في قسطنطينيّة بمحضر من القيصر كنستانتين وكانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً واتّفقوا على هذه الكلمة( نؤمن بالله الواحد الأب مالك كلّ شئ وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد يسوع المسيح

٣٥٦

ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ، من جوهر أبيه الّذي بيده اُتقنت العوالم وكلّ شئ، الّذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسّد من روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب أيّام فيلاطوس، ودفن، ثمّ قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعدّ للمجئ تارة اُخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحقّ الّذي يخرج من أبيه، وبمعموديّة(١) واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قدسيّة مسيحيّة - جاثليقيّة وبقيام أبداننا(٢) والحياة أبد الآبدين(٣) ) .

هذا هو المجمع الأوّل، وكم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبرّي عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطوريّة واليعقوبيّة والأليانيّة واليليارسيّة و المقدانوسيّة والسباليوسيّة والنوئتوسيّة والبولسيّة وغيرها.

ومع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها، ولا تتوانى ولا تهن في دعوتها وتزيد كلّ يوم في قوّتها وسيطرتها حتّى وفّقت لجلب سائر دول اُوروبه إلى التنصّر كفرنسا و الإنجليز والنمسا والبروس والإسبانيا والبرتغال والبلجيك وهولاندا وغيرهم إلّا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلاديّ سنة ٤٩٦.

ولم تزل تتقدّم وترتقي الكنيسة من جانب، ومن جانب آخر كانت تهاجم الاُمم الشماليّة والعشائر البدويّة على الروم، والحروب والفتن تضعّف سلطنة القياصرة،

____________________

(١) المراد بالمعمودية طهارة الباطن وقداسته.

(٢) أورد عليه أنّه يستلزم القول بالمعاد الجسمانيّ والنصارى تقول بالمعاد الروحانيّ كما يدلّ عليه الانجيل وأظنّ أنّ الانجيل إنّما يدلّ على عدم وجود اللذائذ الجسمانيّة الدنيويّة في القيامة وأمّا كون الإنسان روحاً مجرّداً من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدلّ على أنّ الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم وظاهر العهدين أنّ الله سبحانه وملائكته جميعاً أجسام فضلا عن الإنسان يوم القيامة.

(٣) الملل والنجل للشهرستاني.

٣٥٧

وآل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم والاُمم المتغلّبة على إلقاء زمام اُمور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام اُمور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانيّة والجسمانيّة لرئيس الكنيسة اليوم وهو (البابا جريجوار) وكان ذلك سنة ٥٩٠ الميلاديّة.

وضارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحيّ غير أنّ الروم لمّا كانت انشعبت إمبراطوريّته إلى الروم الغربيّ الّذي عاصمتها رومة، والروم الشرقيّ الّذي عاصمتها قسطنطينيّة كانت قياصرة الروم الشرقيّ يعدّون أنفسهم رؤساء دينيّين لمملكتهم من غير أن يتّبعوا كنيسة روما وهذا مبدأ انشعاب المسيحيّة إلى الكاثوليك، أتباع كنيسة روما والأرثوذوكس وهم غيرهم.

وكان الأمر على ذلك حتّى إذا فتحت قسطنطينيّة بيد آل عثمان، وقتل القيصر (بالي اُولوكوس) وهو آخر قياصرة الروم الشرقيّ وقسّيس الكنيسة اليوم (قتل في كنيسة(أياصوفيا)).

وادّعى وراثة هذا المنصب الدينيّ أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببيّة كانت بينهم وبين قياصرة الروم، وكانت الروس تنصّرت في القرن العاشر الميلاديّ فصارت ملوك روسيا قسّيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة رومة، وكان ذلك سنة ١٤٥٤ الميلاديّة.

وبقي الأمر على هذا الحال نحواً من خمسة قرون حتّى قتل (تزار نيكولا) وهو آخر قياصرة الروسيا قتل هو وجميع أهل بيته سنة ١٩١٨ الميلاديّة بيد الشيوعيّين فعادت كنيسة رومة تقريباً إلى حالها قبل الانشعاب.

لكنّ الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤسائها السلطة على جميع جهات حياة الناس في القرون الوسطى الّتي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها وإرتفاعها ثار عليها جماهير من المتديّنين تخلّصاً من القيود الّتي كانت تحملها عليهم الكنيسة.

فخرجت طائفة عن تبعيّة أحكام رؤساء الكنيسة والباباوات وطاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيليّ على ما يفهمه مجامعهم، ويقرّره اتّفاق علمائهم وقسّيسهم وهؤلاء هم الأرثوذكس.

٣٥٨

 وطائفة خرجت عن متابعة كنيسة رومة أصلاً فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيليّ لكنيسة رومة ولا معتنين للأوامر الصادرة منها وهؤلاء هم البروتستانت.

فأنشعب العالم المسيحيّ اليوم إلى ثلاث فرق: الكاثوليك وهي التابعة لكنيسة رومة وتعليمها والاُورثوذكس وهي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها وقد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة وخاصّة بعد انتقال كنيسة قسطنطينيّة إلى مسكو بالروسيا (كما تقدّم) والبروتستانت وهي الخارجة عن تبعيّة الكنيسة وتعليمها جميعاً. وقد استقلّت طريقتهم وتظاهرت في القرن الخامس عشر الميلاديّ.

هذا إجمال ما جرى عليه الدعوة المسيحيّة في زمان يقرب من عشرين قرناً والبصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أنّ القصد من ذكر جمل تاريخهم:

أوّلا: أن يكون الباحث على بصيرة من التحوّلات التاريخيّة في مذهبهم والمعاني الّتي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينيّة بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج أو الإلف والعادة من عقائد الوثنيّة والأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.

وثانياً: أنّ اقتدار الكنيسة وخاصّة كنيسة رومة بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلاديّة إلى نهاية أوجه حتّى كانت لهم سيطرة الدين والدنيا وانقادت لهم كراسيّ الملك بأوربه فكان لهم عزل من شاءوا ونصب من شاءوا(١) .

يروى أنّ البابا مرّة أمر إمبراطور آلمانيا أن يقف ثلاثة أيّام حافياً على باب قصره في فصل الشتاء لزلّة صدرت منه يريد ان يغفرها له(٢) .

ورفس البابا مرّة تاج الملك برجله حيث جائه جاثياً يطلب المغفرة(٣) .

وقد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفاً لم يدعهم إلّا أن يروا دين الإسلام دين الوثنيّة يستفاد ذلك من الشعارات والأشعار الّتي نظموها في استنهاض النصارى و

____________________

(١) الفتوحات الإسلاميّة.

(٢) المدرك السابق.

(٣) المدرك السابق.

٣٥٩

تهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبيّة الّتي نشبت بينهم وبين المسلمين سنين متطاولة.

فإنّهم كانوا(١) يرون أنّ المسلمين يعبدون الأصنام وأنّ لهم آلهة ثلاثة أسماؤها على الترتيب (ماهوم) ويسمّى بافوميد وماهومند وهو أوّل الآلهة وهو (محمّد) وبعده (ايلين) وهو الثاني وبعده (ترفاجان) وهو الثالث وربّما يظهر من بعض كلماتهم أنّ للمسلمين إلهين آخرين وهما (مارتوان) و(جوبين) ولكنّهما بعد الثلاثة المتقدّمة رتبة وكانوا يقولون: إنّ محمّداً بنى دعوته على دعوى الاُلوهيّة وربّما قالوا: إنّه كان اتّخذ لنفسه صنماً من ذهب.

وفي أشعار ريشار الّتي قالها لاستنهاض الإفرنج على المسلمين: (قوموا وقلّبوا ماهومند وترفاجان وألقوهما في النار تقرّباً من إلهكم).

وفي أشعار رولان في وصف (ماهوم) إله المسلمين: (إنّه مصنوع تامّاً من الذهب والفضّة ولو رأيته أيقنت أنّه لا يمكن لصانع أن يصوّر في خياله أجمل منه ثمّ يصنعه عظيمة جثّته جيّدة صنعته وفي سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ماهوم مصنوع من الذهب والفضّة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر. وقد اُقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات وأجودها بطنه خال وربّما أحسّ الناظر من بطنه ضوءاً هو مرصّعة بالأحجار الثمينة المتلالئة، يرى باطنه من ظاهره ولا يوجد له في جودة الصنعة نظير.

ولمّا كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدّة وقد انهزم المسلمون في بعض حروبهم بعث قائد القوم واحداً في طلب إلههم الّذي كان بمكّة (يعني محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)). يروي بعض من شاهد الواقعة: أنّ الإله (يعني محمّداً) جائهم وقد أحاط به جمّ غفير من أتباعه وهم يضربون الطبول والعيدان والمزامير والبوقات المعمولة من فضّة ويتغنّون ويرقصون حتّى أتوا به إلى المعسكر بسرور وترح ومرح، وقد كان خليفته منتظراً لقدومه فلمّا رآه قام على ساقه، واشتغل بعبادته بخضوع وخشوع.

____________________

(١) هذا وما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب (هنري دوكاستري) في الديانة الإسلاميّة الفصل الأوّل منه.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592