الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 592
المشاهدات: 166995
تحميل: 5016


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 166995 / تحميل: 5016
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 16

مؤلف:
العربية

لقد جمعت في الواقع كلّ مراتب الإيمان ، وكلّ الأعمال الصالحة في هاتين الجملتين ، لأنّ التوحيد أساس كلّ المعتقدات الصحيحة ، وكلّ أصول العقائد ترجع الى أصل التوحيد. كما أنّ الاستقامة والصبر والتحمل والصمود أساس كلّ الأعمال الصالحة ، لأنّا نعلم أنّه يمكن تلخيص كلّ أعمال الخير في ثلاثة : «الصبر على الطاعة» ، و «الصبر عن المعصية» ، و «الصبر على المصيبة».

وبناء على هذا ، فإنّ «المحسنين» هم السائرون على خط التوحيد من الناحية العقائدية ، وفي خط الاستقامة والصبر من الناحية العملية.

ومن البديهي أنّ أمثال هؤلاء الأفراد لا يخافون من حوادث المستقبل ، ولا يغتمون لما مضى.

وقد ورد نظير هذا المعنى ـ بتوضيح أكثر ـ في الآية (٣٠) من سورة فصلت حيث تقول :( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) .

إنّ هذه الآية تضيف شيئين :

الأوّل : أنّهم بشروا بعدم الخوف والحزن من قبل الملائكة ، في حين سكتت الآية مورد البحث عن هذا.

والثّاني : أنّه إضافة إلى نفي الخوف والحزن عنهم ، فقد وردت البشارة بالجنّة أيضا في آية سورة فصلت ، في حين أنّ هذه البشارة وردت في الآية اللاحقة في محل كلامنا.

وعلى أية حال ، فإنّ الآيتين تبحثان مطلقا واحدا ، غايته أن أحداهما أكثر تفصيلا من الأخرى.

ونقرأ في تفسير علي بن إبراهيم في تفسير جملة :( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ) قال : استقاموا على ولاية علي أمير المؤمنينعليه‌السلام . وذلك أنّ إدامة خط

__________________

الجملة مفهوم الشرطية كالآية مورد البحث.

٢٦١

أمير المؤمنينعليه‌السلام في جوانب العلم والعمل ، والعدالة والتقوى ، وخاصّة في العصور المظلمة الحالكة ، أمر لا يمكن تحققه بدون الاستقامة ، وبناء على هذا فإنّه يعد أحد مصاديق الواضحة للآية مورد البحث ، لا أنّ معناها منحصر به ، بحيث لا تشمل الاستقامة في الجهاد وطاعة الله سبحانه ، ومحاربة هوى النفس والشيطان.

وقد أوردنا شرحا مفصلا حول مسألة الاستقامة في ذيل الآية (٣٠) من سورة فصلت(١) .

وتبشر آخر آية من هذه الآيات الموحدين المحسنين بأهم بشارة وأثمنها ، فتقول :( أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

إنّ ظاهر الآية يعطي مفهوم الحصر ، كما استفاد ذلك البعض ، أي أنّ أصحاب الجنّة هم أهل التوحيد والاستقامة فقط ، أمّا الذين ارتكبوا المعاصي منهم ، فإنّهم وإن كانوا في النتيجة من أصحاب الجنّة ، إلّا أنّهم ليسوا من أصحابها منذ بداية الأمر.

التعبير بـ «الأصحاب» إشارة إلى اجتماعهم الدائم وتنعمهم الخالد بنعم الجنّة.

وتعبير :( جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) يدل من جهة على أنّ الجنّة لا تمنح مجانا ، بل إنّ لها تمنا يجب أن يؤدى ، ويشير من جهة أخرى إلى أصل حرية الإنسان واختياره.

* * *

__________________

(١) راجع التّفسير الأمثل ، سورة فصلت ، الآية ٣٠.

٢٦٢

الآيات

( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦) )

التّفسير

أيّها الإنسان أحسن إلى والديك :

هذه الآيات والتي تليها ، توضيح ـ في الحقيقة ـ لما يتعلق بالفريقين : الظالم والمحسن ، اللذين أشير إليهما إجمالا في الآيات السابقة.

وتتناول الآية الأولى وضع المحسنين ، وتبدأ بمسألة الإحسان إلى الوالدين

٢٦٣

وشكر جهودهم وأتعابهم التي بذلوها ، والذي يعتبر مقدمة لشكر الله سبحانه ، فتقول :( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً ) (١) .

«الوصية» و «التوصية» بمعنى مطلق الوصية ، ولا ينحصر معناها بالوصايا بما بعد الموت ، ولذلك فسّرها جماعة هنا بأنّها الأمر والتشريع.

ثمّ تطرّقت إلى سبب وجوب معرفة حقّ الأمّ ، فقالت :( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) تضحي خلالها الأم أعظم التضحيات ، وتؤثر ولدها على نفسها أيّما إيثار.

إنّ حالة الأم تختلف منذ الأيّام الأولى لانعقاد النطفة ، فتتوالى عليها الصعوبات ، وهناك حالة تسمى حالة (الوحام) هي أصعب الحالات التي تواجهها الأم ، ويقول الأطباء عنها : إنّها تنشأ نتيجة قلّة المواد التي تحدث في جسم الأم نتيجة إيثارها ولدها على نفسها.

وكلما تكامل نمو الجنين امتص موادا أكثر من عصارة روح الأم وجسدها ، تترك أثرها على عظامها وأعصابها ، فيسلبها أحيانا نومها وغذاءها وراحتها وهدوأها ، أمّا في آخر فترة الحمل فيصعب عليها حتى المشي والجلوس والقيام ، إلّا أنّها تتحمل كلّ هذه المصاعب بصبر ورحابة صدر وعشق للوليد الذي سيفتح عينيه على الدنيا عمّا قريب ، ويبتسم بوجه أمّه.

وتحل فترة وضع الحمل ، وهي من أعسر لحظات حياة الأم ، حتى أنّ الأم أحيانا تبذل نفسها وحياتها من أجل سلامة الوليد.

على كلّ حال ، تضع الأم حملها الثقيل لتبدأ مرحلة صعبة أخرى ، مرحلة مراقبة الطفل المستمرة ليل نهار مرحلة يجب أن تلبى فيها كلّ احتياجات الطفل الذي

__________________

(١) «التوصية» تتعدى عادة بمفعولين ، غايته أنّ المفعول الثّاني يقترن بالباء أو (الى) ، وبناء على هذا فإنّ (إحسانا) لا يمكن أن تكون المفعول الثّاني في الجملة ، إلّا أن نعتبر (وصينا) بمعنى (ألزمنا) التي تتعدى بمفعولين دون حاجة إلى حرف جر ، أو أن نقول : إنّ في الآية محذوفا ، نقدره : ووصينا الإنسان بأن يحسن بوالديه إحسانا ، ففي هذه الحالة تكون (إحسانا) مفعولا مطلقا لفعل محذوف.

٢٦٤

ليست لديه أية قدرة على بيانها وتوضيحها ، فإن آلمه شيء لا يقوى على تعيين محل الألم ، وإذا كان يشكو من الجوع والعطش ، والحر والبرد ، فهو عاجز عن التعبير عن شكواه ، إلّا بالصراخ والدموع ، ويجب على الأم أن تحدد كلّ واحدة من هذه الاحتياجات وتؤمنها بتفحصها وصبرها وطول أناتها.

إنّ نظافة الوليد في هذه المرحلة مشكلة مضنية ، وتأمين غذائه الذي يستخلص من عصارة الأم ، إيثار كبير.

والأمراض المختلفة التي تصيب الطفل في هذه المرحلة ، مشكلة أخرى يجب على الأم أن تتحملها بصبرها الخارق.

إنّ القرآن الكريم عند ما تحدّث عن مصاعب الأم هنا ، ولم يورد شيئا عن الأب ، لا لأنّه لا أهمية للأب ، فهو يشارك الأم في كثير من هذه المشاكل ، بل لأنّ سهم الأم من المصاعب أوفر ، فلهذا أكّد عليها.

وهنا يطرح سؤال ، وهو : إنّ فترة الرضاع ذكرت في الآية (٢٣٣) من سورة البقرة على أنّها سنتان كاملتان ـ ٢٤ ـ شهرا ـ :( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ ) في حين أنّ الآية مورد البحث قد ذكرت أنّ مجموع فترة الحمل والرضاع ثلاثون شهرا ، فهل من الممكن أن تكون مدّة الحمل ستّة أشهر؟

لقد أجاب الفقهاء والمفسّرون ، عن هذا السؤال ـ استلهاما من الرّوايات الإسلامية ـ بالإيجاب وقالوا : إنّ أقل مدّة الحمل ستة أشهر ، وأكثر مدّة تفيد في الرضاع (٢٤) شهرا ، حتى نقل عن جماعة من الأطباء القدامى كجالينوس وابن سينا أنّهم قالوا : إنّهم كانوا قد شاهدوا بأمّ أعينهم وليدا ولد ستة أشهر.

ثمّ إنّه يمكن أن يستفاد من هذا التعبير القرآني أنّه كلما قصرت فترة الحمل يجب أن تطول فترة الرضاع بحيث يكون المجموع (٣٠) شهرا.

وقد نقل عن ابن عباس أنّ فترة الحمل إن كانت (٩) أشهر فيجب أن يرضع

٢٦٥

الولد (٢١) شهرا ، وإن كان الحمل ستة أشهر وجب أن يرضع الطفل (٢٤) شهرا.

والقانون الطبيعي يوجب ذلك أيضا. لأنّ نواقص فترة الحمل يجب أن تجبر بفترة الرضاع.

ثمّ تضيف الآية : إنّ حياة هذا الإنسان تستمر( حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) (١) .

يعتقد بعض المفسّرين أنّ بلوغ الأشد منسجم مع بلوغ الأربعين سنة ، وهو للتأكيد ، إلّا أنّ ظاهر الآية هو أنّ بلوغ الأشد إشارة إلى البلوغ الجسمي ، وبلوغ الأربعين سنة إشارة إلى البلوغ الفكري والعقلي ، لأنّ من المعروف أنّ الإنسان يصل إلى مرحلة الكمال العقلي في سن الأربعين غالبا ، وقالوا : إنّ أغلب الأنبياء قد بعثوا في سن الأربعين.

ثمّ إنّ هناك بحثا في أنّ بلوغ القدرة الجسمية في أي سن يتم؟ فالبعض يعتبره سن البلوغ المعروف ، والذي أشير إليه في الآية (٣٤) من سورة الإسراء في شأن اليتامى ، في حين صرّحت بعض الروايات بأنّه سن الثامنة عشرة عاما.

طبعا ، لا مانع من أن يعطي هذا التعبير معاني مختلفة في موارد مختلفة تتّضح من خلال القرائن.

وقد ورد في حديث : «إنّ الشيطان يمر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ، ويقول : بأبي وجه لا يفلح»(٢) .

ونقل عن ابن عباس : من أتى عليه الأربعون سنة فلم يغلب خيره شرّه ، فليتجهز إلى النّار.

وعلى أي حال ، فإنّ القرآن الكريم يضيف في متابعة هذا الحديث : إنّ الإنسان

__________________

(١) (حتى) هنا غاية لجملة محذوفة ، والتقدير : وعاش الإنسان واستمرت حياته حتى إذا بلغ أشدّه. واعتبرها البعض غاية لـ (وصينا) أو لمراقبة الوالدين لولدهما ، وكلاهما يبدو بعيدا ، إذ لا تنتهي توصية الله سبحانه بالإحسان إلى الوالدين في سن الأربعين ، ولا تستمر مراقبة الوالدين لولدهما حتى يصل الأربعين.

(٢) تفسير روح المعاني ، المجلد ٢٦ ، صفحة ١٧.

٢٦٦

العاقل المؤمن إذا بلغ سن الأربعين ، يطلب من ربّه ثلاث طلبات ، فيقول أولا :( قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ ) (١) .

إنّ هذا التعبير يوحي بأنّ الإنسان يدرك في هذه السن عمق نعم الله سبحانه وسعتها ، وكذلك يدرك ما تحمله أبواه من الجهود المضنية حتى بلغ هذا المقدار من العمر ، وذلك لأنّه غالبا ما يصبح في هذا العمر أبا إن كان ذكرا ، وأمّا إن كانت أنثى ، ويرى بأم عينه كلّ تلك الجهود التي بذلت من أجله ، ومدى الإيثار الذي آثره أبواه في سبيله ، وشكرا لسعيهما يتوجّه لا إراديا لشكر الله سبحانه.

أمّا طلبه الثّاني فهو :( وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ) .

وأخيرا يقدم طلبه الأخير فيقول :( وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ) .

إنّ التعبير بـ (لي) يشير ضمنية إشارة إلى أنّه يرجو أن يكون أولاده في وضع من الصلاح والخير بحيث تعود نتائجه وحسناته عليه.

والتعبير بـ (في ذريتي) بصورة مطلقة ، يشير الى استمرار الخير والصلاح في كلّ نسله وذريته.

والطريف أنّه يشرك أبويه في دعائه الأوّل ، وأولاده في الدعاء الثالث ، أمّا الدعاء الثّاني فيخص نفسه به ، وهكذا يكون الإنسان الصالح ، فإنّه إذا نظر إلى نفسه بعين ، ينظر بالأخرى إلى الآخرين الذين تفضلوا عليه ولهم حق في رقبته.

وتبيّن الآية في نهايتها مطلبين ، كلّ منهما تبيان لبرنامج عملي مؤثر ، فتقول :( إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ ) فقد بلغت مرحلة يجب أن أعين فيها مسير حياتي ، وأسير في ذلك الخط ما حييت.

نعم ، لقد بلغت الأربعين ، ويقبح بعبد مثلي أن يأتيك ولم يغسل نفسه بماء التوبة ، ولم يطهرها بالعودة إلى طريق ربّه ويقرع باب رحمته.

والآخر :( وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) .

__________________

(١) «أوزعني» من مادة (الإيزاع) التي وردت بعدّة معان : الإلهام ، والمنع من الانحراف ، وإيجاد العشق والمحبة ، والتوفيق.

٢٦٧

إنّ هاتين الجملتين تأكيد لتلك الأدعية الثلاثة ومترتبة عليها ، ومعناهما : بما إنّي تبت إليك ، وأسلمت لأوامرك ، فأنت أيضا منّ عليّ برحمتك ، واشملني بنعمك وفضلك.

والآية التالية ، بيان بليغ لأجر هؤلاء المؤمنين الشاكرين وثوابهم ، وقد أشارت إلى مكافآت مهمّة ثلاث ، فقالت أوّلا :( أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا ) .

أي بشارة أعظم من أن يتقبل الله القادر المنان عمل عبد ضعيف لا قدر له ، وهذا القبول بحدّ ذاته ، وبغض النظر عن آثاره الأخرى ، فخر عظيم ، وموهبة معنوية عالية.

إنّ الله سبحانه يتقبل كلّ الأعمال الصالحة ، فلما ذا يقول هنا :( نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا ) ؟

وفي معرض الإجابة على هذا السؤال ، قال جمع من المفسّرين : إنّ المراد من أحسن الأعمال : الواجبات والمستحبات التي تكون في مقابل المباحات التي هي أعمال حسنة لكنّها لا تقع موقع القبول ، ولا يتعلق بها أجر وثواب(١) .

والجواب الآخر : إنّ الله سبحانه يجعل أحسن أعمال هؤلاء معيارا للقبول ، وحتى أعمالهم التي تأتي في مرتبة أدنى من الأهمية ، فإنّه يجعلها كأحسن الأعمال بفضله ورحمته. إنّ هذا يشبه تماما أن يعرض بائع أجناسا مختلفة بأسعار متفاوتة ، إلّا أنّ المشتري يشتريها جميعا بثمن أعلاها وأفضلها تكرما منه وفضلا ، ومهما قيل في لطف الله وفضله فليس عجبا.

والهبة الثّانية هي تطهيرهم ، فتقول :( وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ ) .

والموهبة الثّالثة هي أنّهم( فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ ) (٢) ، فيطهرون من الهفوات التي

__________________

(١) الطبرسي في مجمع البيان ، والعلّامة الطباطبائي في الميزان ، والفخر الرازي في التّفسير الكبير ، وغيرهم في ذيل الآية مورد البحث.

(٢) (في أصحاب الجنّة) متعلق بمحذوف هو حال لضمير (هم) والتقدير : حال كونهم موجودين في أصحاب الجنّة.

٢٦٨

كانت منهم ، ويكونون في جوار الصالحين المطهرين المقربين عند الله سبحانه.

ويستفاد بصورة ضمنية من هذا التعبير أنّ المراد من( أَصْحابِ الْجَنَّةِ ) هنا العباد المقرّبون الذين لم يصبهم غبار المعاصي ، وهؤلاء المؤمنون التائبون يكونون في مصافهم بعد أن ينالوا غفران الله ورضاه.

وتضيف الآية في نهايتها ـ كتأكيد على هذه النعم التي مرّ ذكرها ـ( وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ ) (١) وكيف لا يكون وعد صدق في حين أنّ خلف الوعد أمّا أن يكون عن ندم أو جهل ، أم عن ضعف وعجز ، والله سبحانه منزه عن هذه الأمور جميعا.

* * *

ملاحظات

١ ـ إنّ هذه الآيات تجسيد للإنسان المؤمن من أصحاب الجنّة ، الذي يطوي أوّلا مرحلة الكمال الجسمي ، ثمّ مرحلة الكمال العقلي ، ثمّ يصل إلى مقام شكر نعم الله تعالى ، وشكر متاعب والديه ، والتوبة عمّا بدر منه من هفوات وسقطات ومعاص ، ويهتم أكثر بالقيام بالأعمال الصالحة ، ومن جملتها تربية الأولاد ، وأخيرا يرقى إلى مقام التسليم المطلق لله تعالى ولأوامره ، وهذا هو الذي يغمره في رحمة الله ومغفرته ونعمه المختلفة التي لا تحصى.

نعم ، ينبغي أن يعرف أهل الجنّة من هذه الصفات.

٢ ـ إنّ التعبير بـ( وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ ) إشارة إلى أنّ مسألة الإحسان إلى الوالدين من الأصول الإنسانية ، ينجذب إليها ويقوم بها حتى أولئك الذين لا يلتزمون بدين أو مذهب ، وبناء على هذا ، فإنّ الذين يعرضون عن أداء هذه الوظيفة ، ويرفضون القيام بهذا الواجب ، ليسوا مسلمين حقيقيين ، بل لا يستحقون اسم الإنسان.

__________________

(١) (وعد الصدق) مفعول مطلق لفعل محذوف ، والتقدير : يعدهم وعد الصدق الذي كانوا يوعدون بلسان الأنبياء والرسل.

٢٦٩

٣ ـ إنّ التعبير بـ «إحسانا» وبملاحظة أنّ النكرة في هذه الموارد لبيان عظمة الأمر وأهميته ، ويشير إلى أنّه يجب ـ بأمر الله سبحانه ـ الإحسان إلى الأبوين إحسانا جميلا مقابلة لخدماتهم الجليلة التي أسدوها.

٤ ـ لأنّ آلام ومعاناة الأم في طريق تربية الطفل محسوسة وملموسة أكثر ، ولأنّ جهود الأم أكثر أهمية إذا ما قورنت بجهود الأب ، كان التأكيد أكثر على قدر الأم في الرّوايات الإسلامية.

فقد ورد في حديث أنّ رجلا أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : من أبر؟ قال : «أمّك» ، قال : ثمّ من؟ قال : «أمّك» ، قال : ثمّ من؟ قال : «أمّك» ، قال : ثمّ من؟ قال : «أباك»(١) . وجاء في حديث آخر ، أنّ رجلا كان قد حمل أمّه العجوز العاجزة ، وكان يطوف بها ، فأتى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : هل أديت حقّها : قال : «لا ولا بزفرة واحدة»(٢) .

٥ ـ لقد أولت الآيات القرآنية العلاقات العائلية ، واحترام الأبوين وإكرامهم ، والعناية بتربية الأولاد ، اهتماما فائقا ، وقد أشير إليها جميعا في الآيات المذكورة ، وذلك لأنّ المجتمع الإنساني الكبير يتكون من خلايا وتشكيلات أصغر تسمى العائلة ، كما أنّ البناية الضخمة تتكون من غرف ، وهي بدورها من الطابوق والحجر.

من البديهي أنّه كلّما كانت هذه التقسيمات الصغيرة أكثر انسجاما وترابطا ، كان أساس المجتمع أقوى وأشد ثباتا ، وأحد عوامل التمزق والاختلال الاجتماعي في المجتمعات الصناعية في عصرنا الحاضر هو انحلال نظام العائلة ، فلا احترام من قبل الأولاد ، ولا عطف من الآباء والأمهات ، ولا علاقة حب وحنان وعاطفة من الأزواج.

إنّ المشهد المؤلم لدور رعاية المسنين في المجتمعات الصناعية اليوم ، والتي

__________________

(١) روح المعاني ، المجلد ٢٦ ، صفحة ١٦.

(٢) في ظلال القرآن ، المجلد ٧ ، صفحة ٤١٥.

٢٧٠

تحتضن العجزة من الآباء والأمهات الذين طردوا من العائلة ، شاهد معبر جدّا عن هذه الحقيقة المرّة.

فالرجال والنساء الذين صرفوا عمرا طويلا في الخدمة لمنح المجتمع أبناء عديدين ، يطردون تماما في الأيّام التي يكونون فيها بأشد الحاجة إلى عواطف الأبناء ومحبتهم ومعونتهم ، ويبقون في تلك الدور يعدون الأيّام في انتظار لحظة الموت ، وقد سمّروا أعينهم في الباب بانتظار صديق أو قريب يفتحها ولا تفتح عليهم إلّا مرّة أو مرّتين في السنة!

حقا ، إنّ تصور مثل هذه الحالة ينغص على الإنسان عيشه منذ البداية ، وهذا هو عرف دنيا المادة والتمدن وأسلوبها حينما يطرح منها الإيمان والدين.

٦ ـ إنّ جملة :( وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ) تبيّن أنّ العمل الصالح هو العمل الذي يبعث على رضى الله سبحانه ، وتعبير :( أَحْسَنَ ما عَمِلُوا ) والذي ورد في آيات عديدة من القرآن المجيد ، يبيّن فضل الله الذي لا يحصى في مقام مكافأة العباد وجزائهم ، حيث يجعل أحسن أعمالهم معيارا لكلّ أعمالهم الحسنة في الحساب. والمثوبة.

* * *

٢٧١

الآيات

( وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) )

التّفسير

مضيّعو حقوق الوالدين :

كان الكلام في الآيات السابقة عن المؤمنين الذين سلكوا طريق القرب من الله ، فبلغوا الغاية ووسعتهم رحمة الله ، وكرمهم لطفه ، وكلّ ذلك في ظل الإيمان والعمل الصالح ، وشكر نعم الله سبحانه ، والالتفات إلى حقوق الأبوين والذرية وأدائها.

أمّا هذه الآيات ، فيدور الكلام فيها عمّن يقفون في الطرف المقابل ، وهم الكافرون المنكرون للجميل والحق ، والعاقون لوالديهم ، فتقول :( وَالَّذِي قالَ

٢٧٢

لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي ) (١) .

إلّا أنّ أبويه المؤمنين لم يستسلما أمام هذا الولد العاق الضال ، فتقول الآية :( وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ ) غير أنّه يأبى إلّا أن يسير في طريق الضلالة والعناد الذي اختطه لنفسه ، ولذلك نراه يجيبهما بكلّ تكبر وغرور ولا مبالاة :( فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) ، فما تقولانه عن المعاد والحساب ليس إلّا خرافات وقصص كاذبة أتتكم من الماضين من قبلكم ، ولست بالذي يعتقد بها وينقاد لها.

إنّ الصفات التي يمكن أن تستخرج من هذه الآية حول هذه الفئة من الأبناء الضالين عدّة صفات : عدم احترام منزلة الأبوين ، والإساءة لهما ، لأنّ (أف) في الأصل تعني كلّ شيء قذر ، وهي تقال في مقام التحقير والإهانة(٢) .

وقال البعض : إنّها تعني الأقذار التي تجتمع تحت الأظافر ، وهي قذرة ملوثة ، ولا قيمة لها(٣) .

والصفة الأخرى هي أنّهم مضافا إلى عدم إيمانهم بيوم القيامة والبعث والجزاء ، فإنّهم يسخرون منه ويستهزئون به ، ويعدونه من الأساطير والأوهام الخرافية الباطلة.

والصفة الأخرى أنّهم لا أذن سامعة لهم ، ولا يذعنون للحق ، وقد امتلأت نفوسهم بروح الغرور والكبر والأنانية.

نعم ، فبالرغم من أن الأبوين الحريصين يبذلان قصارى جهودهما ، وكلّ ما في

__________________

(١) «والذي قال» مبتدأ ، وخبره ـ باعتقاد كثير من المفسّرين ـ (أولئك الذين) الذي ورد في الآية التالية ، ولا منافاة بين كون المبتدأ مفردا والخبر ـ أولئك ـ جمعا ، لأنّ المراد منه الجنس. لكن يحتمل أيضا أن يكون خبره محذوفا ، وتقديره الكلام : «وفي مقابل الذين مضى وصفهم الذي قال لوالديه» وفي هذه الحالة تكون الآية التالية مستقلة ، كما أن آية :( أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ ) مستقلة.

(٢) مفردات الراغب.

(٣) أوردنا بحوثا أخرى حول معنى (أف) في سورة الإسراء الآية ٢٣.

٢٧٣

وسعهما لإنقاذه من دوامة الجهل والغفلة ، لئلا يبتلى هذا الابن العزيز بعذاب الله الأليم ، إلّا أنّه يأبى إلّا الاستمرار في طريق غيه وكفره ، ويصر على ذلك ، وأخيرا يتركه أبواه وشأنه بعد اليأس منه.

وكما بيّنت الآيات السابقة ثواب المؤمنين العاملين للصالحات ، فإنّ هذه الآيات تبيّن عاقبة أعمال الكافرين الضالين المتجرئين على الله ، فتقول :( أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ ) (١) ، وأي خسارة أعظم من أنّهم خسروا كلّ رأس مال وجودهم إذا اشتروا به غضب اللهعزوجل وسخطه.

ومن خلال المقارنة بين هذين الفريقين ـ أصحاب النعيم وأصحاب الجحيم ـ في هذه الآيات نقف على هذه الأمور :

إنّ أولئك يطوون مدارج رشدهم وكمالهم ، في حين أنّ هؤلاء فقدوا كلّ ما يملكون ، فهم خاسرون.

أولئك يقدرون الجميل ويشكرونه حتى من أبويهم ، وهؤلاء منكرون للجميل معتقدون لا أدب لهم حتى مع والديهم.

أولئك مع المقربين إلى الله في الجنّة ، وهؤلاء مع الكافرين في النّار ، فكلّ منهم يلتحق بأمثاله ومن على شاكلته.

أولئك يتوبون من الهفوات التي تصدر عنهم ، ويذعنون للحق ، أمّا هؤلاء فهم قوم طغاة عتاة متمردون ، أنانيّون ومتكبرون.

وممّا يستحق الالتفات أنّ هؤلاء المعاندين يستندون في انحرافاتهم إلى وضع الأقوام الماضين وسيحشرون معهم إلى النّار أيضا.

أمّا الآية الأخيرة من هذه الآيات فإنّها تشير أوّلا إلى تفاوت درجات كلا

__________________

(١) جملة (حقّ عليهم القول) إشارة إلى كلام الله الذي قاله سبحانه في عقوبة الكافرين والمجرمين ، والتقدير : حقّ عليهم القول بأنّهم أهل النّار و (في أمم) في محل حال.

٢٧٤

الفريقين ، فتقول :( وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ) (١) فليس كلّ أصحاب الجنّة أو أصحاب النّار في درجة واحدة ، بل إنّ لكلّ منهما درجات ومراتب تختلف باختلاف أعمالهم ، وحسب خلوص نيّتهم وميزان معرفتهم ، وأصل العدالة هو الحاكم هنا تماما.

«الدرجات» جمع درجة ، وتقال عادة للسلالم التي يصعد الإنسان بتسلقها إلى الأعلى ، و «الدركات» جمع درك ، وهي تقال للسلّم الذي ينزل منه الإنسان إلى الأسفل ، ولذلك يقال في شأن الجنّة : درجات ، وفي شأن النّار : دركات ، لكن لما كانت الآية مورد البحث قد تحدثت عنهما معا ، ولأهمية مقام أصحاب الجنّة ، ورد لفظ (الدرجات) للاثنين ، وهو من باب التغليب(٢) .

ثمّ تضيف الآية :( وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ ) وهذا التعبير إشارة أخرى إلى مسألة تجسم الأعمال ، حيث أنّ أعمال ابن آدم ستكون معه هناك ، فتكون أعماله الصالحة باعثا على الرحمة به واطمئنانه ، وأعماله الطالحة سببا للبلاء والعذاب الألم.

وتقول الآية أخيرا كتأكيد على ذلك :( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) لأنّهم سيرون أعمالهم وجزاءها ، فكيف يمكن تصور الظلم والجور؟

هذا إضافة إلى أنّ درجات هؤلاء ودركاتهم قد عيّنت بدقّة ، حتى أنّ لأصغر الأعمال ، حسنا كان أم قبيحا ، أثره في مصيرهم ، ومع هذه الحال لا معنى للظلم حينئذ.

* * *

ملاحظة

كيف حرّفت هذه الآية من قبل بني أمية؟

ورد في رواية أنّ «معاوية» أرسل رسالة إلى «مروان» ـ وإليه على المدينة ـ

__________________

(١) (من) في (ممّا عملوا) للابتداء ـ أو كما تسمى نشوية ـ أو بمعنى التعليل ، أي : من أجل ما عملوا.

(٢) «درك» ـ بسكون الوسط ـ ودرك ـ بفتحه ـ بمعنى أعمق نقطة في العمق ، وجاءت ـ أحيانا ـ الدرك ـ بالفتحة ـ بمعنى الخسارة ، والدرك ـ بالسكون ـ بمعنى فهم الشيء وإدراكه ، لمناسبته الوصول إلى عمقه وحقيقته.

٢٧٥

يأمره بأخذ البيعة من الناس لابنه يزيد ، وكان «عبد الرحمن بن أبي بكر» حاضرا في المجلس ، فقال : يريد معاوية أن يجعل هذا الأمر هرقليا وكسرويا ـ ملكي الروم وفارس ـ إذا مات الآباء جعلوا أبناءهم مكانهم ، وإن لم يكونوا أهلا لذلك ، أو كانوا فساقا؟

فصاح مروان من على المنبر : صه ، فأنت الذي نزلت فيه :( وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما ) .

وكانت «عائشة» حاضرة ، فقالت : كذبت ، وإنّي لأعلم فيمن نزلت هذه الآية ، ولو شئت لأخبرتك باسمه ونسبه ، لكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعن أباك وأنت في صلبه ، فأنت فضض من لعنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

أجل ولقد كان ذنب عبد الرحمن عشقه ومحبّته لأمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، وهو أمر كان يسوء بني أمية كثيرا ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإنّه كان مخالفا لصيرورة الخلافة وراثية ، وتبديلها إلى سلطنة ، وكان يعتبر أخذ البيعة ليزيد نوعا من الانحراف نحو الكسروية والهرقلية ، ولذلك أصبح غرضا لأعداء الإسلام الألداء ، أي آل أميّة ، فحرّفوا آيات القرآن فيه.

وكم هو مناسب الجواب الذي أجابت به عائشة مروان بأنّ الله سبحانه لعن أباك إذ كنت خلفه ، وهو إشارة إلى الآية (٦٠) من سورة الإسراء حيث تقول :( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) (٢) .

* * *

__________________

(١) أبو الفتوح الرازي في تفسيره ، المجلد ١٠ ، صفحة ١٥٩ ، ونقل هذه الرواية بتفاوت يسير في مجلد ٩ ، صفحة ٦٠١٧.

(٢) يراجع لتفسير هذه الآية ذيل الآية (٦٠) من سورة الإسراء. وينبغي الالتفات إلى أنّ «مروان بن الحكم» هو ابن «أبي العاص» ، وهذا بدوره ابن «أميّة» أيضا.

٢٧٦

الآية

( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠) )

التّفسير

الزهد والادخار للآخرة :

تستمر هذه الآية في البحث حول عقوبة الكافرين والمجرمين ، وتذكر جانبا من أنواع العذاب الجسمي والروحي

الذي سينال هؤلاء ، فتقول :( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا ) (١) .

نعم ، فقد كنتم غارقين في الشهوات ، ولم تكونوا تعرفون شيئا إلّا التمتع بطيّبات هذا العالم ونعمه المادية ، ومن أجل أن تكونوا متحللين من كلّ القيود في هذا المجال ، أنكرتم المعاد لتطلقوا لأنفسكم العنان ، وسخرتم هذه المواهب من أجل إنزال كلّ أنواع الظلم والجور بحق الآخرين.

__________________

(١) (يوم) ظرف متعلق بفعل محذوف يستفاد من الجمل التالية ، والتقدير : ويوم يعرض الذين كفروا على النّار يقال لهم أذهبتم طيّباتكم

٢٧٧

( فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ) فاليوم ترون جزاء كلّ ذلك التمتع الباطل ، واتباع الشهوات الأعمى ، وعبادة الهوى ، والاستكبار والفسق والفجور وتذوقون العذاب المذل والمهين بسبب تلكم الأعمال.

* * *

بحوث

١ ـ تقول هذه الآية : إنّ الكفار يعرضون على النّار في القيامة ، وقد ورد نظير هذا في الآية (٤٦) من سورة المؤمنين حول عذاب الفراعنة في البرزخ ، إذ تقول :( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ) في حين أنّنا نقرأ في بعض آيات القرآن الأخرى أنّ جهنّم تعرض على الكافرين :( وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً ) (١) .

لذلك قال بعض المفسّرين : إنّ في القيامة نوعين من العرض : فقبل الحساب تعرض جهنّم على المجرمين ليملأ وجودهم الخوف والهلع ، وهذا بحدّ ذاته عقاب وعذاب نفسي ، وبعد الحساب وإلقائهم في جهنّم يعرضونهم على عذاب الله(٢) .

وقال البعض : إنّ في العبارة نوع قلب ، وإنّ المراد من عرض الكفار على النّار هو عرض النّار على الكافرين ، إذ لا عقل ولا إدراك للنار حتى يعرض عليها الكافرون ، في حين أنّ العرض يتم في الموارد التي يكون المعروض عليه فيها ذا شعور وإدراك.

لكن لا يمكن أن يرد على هذا الجواب بأنّ بعض الآيات ذكرت وجود إدراك وشعور لدى النّار ، حتى أنّ الله سبحانه يخاطبها وتجيب ، فيقول سبحانه :( هَلِ

__________________

(١) الكهف ، الآية ١٠٠.

(٢) تفسير الميزان ، المجلد ١٨ ، صفحة ٢٢٣ ذيل الآيات مورد البحث.

٢٧٨

امْتَلَأْتِ ) فتقول :( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) (١) .

والحق أنّ حقيقة العرض هي رفع الموانع بين شيئين حتى يتقابلا ويكونا وجها لوجه ، وكذا الحال بالنسبة إلى الكافرين والنّار ، فإنّ الحواجز ترفع من بينهما ، فيمكن القول في هذه الصورة : إنّ الكافرين يعرضون على النّار ، كما تعرض عليهم ، وكلا التعبيرين صحيح.

وعلى أية حال ، فلا حاجة لأن نعتبر العرض بمعنى الدخول في النّار كما ذكره «الطبرسي» في مجمع البيان ، بل إنّ هذا العرض بحدّ ذاته نوع من العذاب الأليم المرعب ، حيث يرى الكافرون بأعينهم كلّ أقسام جهنّم من الخارج قبل أن يردوها ، وليشاهدوا مصيرهم المشؤوم ويتعذّبوا ويتألموا له.

٢ ـ إنّ جملة :( أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ ) تعني التمتع بلذائذ الدنيا ، والتعبير بـ «أذهبتم» لأنّ هذه اللذائذ والنعم تفنى بالتمتع بها واستهلاكها.

ومن المسلّم أنّ التمتع بمواهب الله ونعمه في هذه الدنيا ليس أمرا مذموما قبيحا ، بل المذموم هو الغرق في اللذات المادية ، ونسيان ذكر الله والقيامة ، أو التمتع بها بصورة غير مشروعة والتلوث بالمعاصي عن طريقها ، وغصب حقوق الآخرين فيما يتعلق بها.

وممّا يلفت الانتباه أنّ هذا التعبير لم يرد إلّا في هذه الآية من القرآن الكريم ، وهو إشارة إلى أنّ الإنسان يعزب أحيانا عن لذات الدنيا ويعرض عنها ، أو أنّه لا يأخذ منها إلّا ما يقوّم به صلبه ، ويتقوّى به على القيام بالواجبات الإلهية ، وكأنّه في هذه الصورة قد ادخر هذه الطيبات لآخرته.

غير أنّ الكثيرين يتكالبون على هذه التمتعات الدنيوية كالحيوانات ولا يحدّهم شيء في الالتذاذ بهذه الطيبات وافنائها جميعا ، ولا يكتفون بعدم ادخار شيء لآخرتهم ، بل يحملون معهم أحمالا من الأوزار ، ولهؤلاء يقول القرآن :( أَذْهَبْتُمْ

__________________

(١) سورة ق ، الآية ٣٠.

٢٧٩

طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا ) .

وقد نقل في بعض كتب اللغة أنّ المراد من الجملة : أنفقتم طيبات ما رزقتم في شهواتكم وفي ملاذ الدنيا ، ولم تنفقوها في مرضاة الله(١) .

٣ ـ للطيبات معنى واسع يشمل كلّ مواهب الدنيا ، ومع أنّ بعض المفسّرين قد فسّرها بقوّة الشباب فقط ، إلّا أنّ الحق هو أنّ الشباب يمكن أن يكون مصداقا لا غير.

٤ ـ إنّ التعبير بـ( عَذابَ الْهُونِ ) بمثابة ردّ فعل لاستكبار هؤلاء في الأرض ، لأنّ العقوبة الإلهية ، تتناسب تماما مع نوع الذنب والمعصية ، فأولئك الذين تكبّروا على خلق الله ، بل وحتى على أنبيائه ، ولم يخضعوا لأي تشريع إلهي ، يجب أن يلاقوا جزاءهم بذلة وحقارة ومهانة.

٥ ـ لقد ذكر في ذيل هذه الآية ذنبان لأصحاب الجحيم ، الأوّل : الاستكبار ، والثّاني : الفسق. ويمكن أن يكون الأوّل إشارة إلى عدم إيمانهم بآيات الله وبعث عن ترك أصول الدين ، والآخر عن تضييع فروع الدين(٢) .

٦ ـ إنّ التعبير بغير الحق لا يعني أنّ الاستكبار نوعان : حق ، وغير حق ، بل إنّ هذه التعابير تقال عادة للتأكيد ، ونظائرها كثير.

٧ ـ زهد الأئمة العظماء

لقد وردت في مختلف مصادر الحديث والتّفسير روايات كثيرة عن زهد أئمّة الإسلام العظماء ، واستندوا فيه بالخصوص إلى الآية مورد البحث ، ومن جملتها : جاء في حديث أنّ عمر أتى يوما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مشربة أم إبراهيم ـ وهو

__________________

(١) مجمع البحرين ، مادة ذهب.

(٢) تفسير الميزان ، المجلد ١٨ ، صفحة ٢٢٤.

٢٨٠