الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل13%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177293 / تحميل: 5797
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثاني من الآيات يعرّف الحاقّة ببعض أشراطها و نبذة ممّا يقع فيها.

قوله تعالى: ( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ) قد تقدّم أنّ النفخ في الصور كناية عن البعث و الإحضار لفصل القضاء، و في توصيف النفخة بالواحدة إشارة إلى مضيّ الأمر و نفوذ القدرة فلا وهن فيه حتّى يحتاج إلى تكرار النفخة، و الّذي يسبق إلى الفهم من سياق الآيات أنّها النفخة الثانية الّتي تحيي الموتى.

قوله تعالى: ( وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) الدكّ أشدّ الدقّ و هو كسر الشي‏ء و تبديله إلى أجزاء صغار، و حمل الأرض و الجبال إحاطة القدرة بها، و توصيف الدكّة بالواحدة للإشارة إلى سرعة تفتّتهما بحيث لا يفتقر إلى دكّة ثانية.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ) أي قامت القيامة.

قوله تعالى: ( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ) انشقاق الشي‏ء انفصال شطر منه من شطر آخر، و واهية من الوهي بمعنى الضعف، و قيل: من الوهي بمعنى شقّ الأديم و الثوب و نحوهما.

و يمكن أن تكون الآية أعني قوله:( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) في معنى قوله:( وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا ) الفرقان: 25.

قوله تعالى: ( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) قال الراغب: رجا البئر و السماء و غيرهما جانبها و الجمع أرجاء قال تعالى:( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) انتهى، و الملك - كما قيل - يطلق على الواحد و الجمع و المراد به في

٦١

الآية الجمع.

و قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) ضمير( فَوْقَهُمْ ) على ظاهر ما يقتضيه السياق للملائكة، و قيل: الضمير للخلائق.

و ظاهر كلامه أنّ للعرش اليوم حملة من الملائكة قال تعالى:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) المؤمن: 7 و قد وردت الروايات أنّهم أربعة، و ظاهر الآية أعني قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أنّ الحملة يوم القيامة ثمانية و هل هم من الملائكة أو من غيرهم؟ الآية ساكتة عن ذلك و إن كان لا يخلو السياق من إشعار ما بأنّهم من الملائكة.

و من الممكن - كما تقدّمت الإشارة إليه - أن يكون الغرض من ذكر انشقاق السماء و كون الملائكة على أرجائها و كون حملة العرش يومئذ ثمانية بيان ظهور الملائكة و السماء و العرش للإنسان يومئذ، قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) الزمر: 75.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى‏ مِنْكُمْ خافِيَةٌ ) الظاهر أنّ المراد به العرض على الله كما قال تعالى:( وعُرِضُوا عَلى‏ رَبِّكَ صَفًّا ) الكهف: 48، و العرض إراءة البائع سلعته للمشتري ببسطها بين يديه، فالعرض يومئذ على الله و هو يوم القضاء إبراز ما عند الإنسان من اعتقاد و عمل إبرازاً لا يخفى معه عقيدة خافية و لا فعلة خافية و ذلك بتبدّل الغيب شهادة و السرّ علناً قال:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) الطارق: 9، و قال:( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى‏ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ ) المؤمن: 16.

و قد تقدّم في أبحاثنا السابقة أنّ ما عدّ في كلامه تعالى من خصائص يوم القيامة كاختصاص الملك بالله، و كون الأمر له، و أن لا عاصم منه، و بروز الخلق له و عدم خفاء شي‏ء منهم عليه و غير ذلك، كلّ ذلك دائميّة الثبوت له تعالى، و إنّما المراد ظهور هذه الحقائق يومئذ ظهوراً لا ستر عليه و لا مرية فيه.

٦٢

فالمعنى: يومئذ يظهر أنّكم في معرض على علم الله و يظهر كلّ فعلة خافية من أفعالكم.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) قال في المجمع، هاؤم أمر للجماعة بمنزلة هاكم، تقول للواحد: هاء يا رجل، و للاثنين: هاؤما يا رجلان، و للجماعة: هاؤم يا رجال، و للمرأة: هاء يا امرأة بكسر الهمزة و ليس بعدها ياء، و للمرأتين: هاؤما، و للنساء: هاؤنّ. هذه لغة أهل الحجاز.

و تميم و قيس يقولون: هاء يا رجل مثل قول أهل الحجاز، و للاثنين: هاءا، و للجماعة: هاؤا، و للمرأة: هائي، و للنساء هاؤنّ.

و بعض العرب يجعل مكان الهمزة كافاً فيقول: هاك هاكما هاكم هاك هاكما هاكنّ، و معناه: خذ و تناول، و يؤمر بها و لا ينهى. انتهى.

و الآية و ما بعدها إلى قوله:( الْخاطِؤُنَ ) بيان تفصيليّ لاختلاف حال الناس يومئذ من حيث السعادة و الشقاء، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إسراء: 71 كلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين، و الظاهر أنّ قوله:( هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) خطاب للملائكة، و الهاء في( كِتابِيَهْ ) و كذا في أواخر الآيات التالية للوقف و تسمّى هاء الاستراحة.

و المعنى: فأمّا من اُوتي كتابه بيمينه فيقول للملائكة: خذوا و اقرأوا كتابيه أي إنّها كتاب يقضي بسعادتي.

قوله تعالى: ( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ) الظنّ بمعنى اليقين، و الآية تعليل لما يتحصّل من الآية السابقة و محصّل التعليل إنّما كان كتابي كتاب اليمين و قاضياً بسعادتي لأنّي أيقنت في الدنيا أنّي ساُلاقي حسابي فآمنت بربّي و أصلحت عملي.

قوله تعالى: ( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) أي يعيش عيشة يرضاها فنسبة الرضا إلى العيشة من المجاز العقليّ.

٦٣

قوله تعالى: ( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ - إلى قوله -الْخالِيَةِ ) أي هو في جنّة عالية قدراً فيها ما لا عين رأت و لا اُذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

و قوله:( قُطُوفُها دانِيَةٌ ) القطوف جمع قطف بالكسر فالسكون و هو ما يجتنى من الثمر و المعنى: أثمارها قريبة منه يتناوله كيف يشاء.

و قوله:( كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ) أي يقال لهم: كلوا و اشربوا من جميع ما يؤكل فيها و ما يشرب حال كونه هنيئاً لكم بما قدّمتم من الإيمان و العمل الصالح في الدنيا الّتي تقضّت أيّامها.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ ) و هؤلاء هم الطائفة الثانية و هم الأشقياء المجرمون يؤتون صحيفة أعمالهم بشمالهم و قد مرّ الكلام في معناه في سورة الإسراء، و هؤلاء يتمنّون أن لو لم يكونوا يؤتون كتابهم و يدرون ما حسابهم يتمنّون ذلك لما يشاهدون من أليم العذاب المعدّ لهم.

قوله تعالى: ( يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ) ذكروا أنّ ضمير( لَيْتَها ) للموتة الاُولى الّتي ذاقها الإنسان في الدنيا.

و المعنى: يا ليت الموتة الاُولى الّتي ذقتها كانت قاضية عليّ تقضي بعدمي فكنت انعدمت و لم اُبعث حيّاً فأقع في ورطة العذاب الخالد و اُشاهد ما اُشاهد.

قوله تعالى: ( ما أَغْنى‏ عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) كلمتا تحسّر يقولهما حيث يرى خيبة سعيه في الدنيا فإنّه كان يحسب أنّ مفتاح سعادته في الحياة هو المال و السلطان يدفعان عنه كلّ مكروه و يسلّطانه على كلّ ما يحبّ و يرضى فبذل كلّ جهده في تحصيلهما و أعرض عن ربّه و عن كلّ حقّ يدعى إليه و كذّب داعيه فلمّا شاهد تقطّع الأسباب و أنّه في يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون ذكر عدم نفع ماله و بطلان سلطانه تحسّراً و توجّعاً و ما ذا ينفع التحسّر.؟

قوله تعالى: ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ - إلى قوله -فَاسْلُكُوهُ ) حكاية أمره تعالى الملائكة بأخذه و إدخاله النار، و التقدير يقال للملائكة خذوه إلخ، و( فَغُلُّوهُ ) أمر من الغلّ بالفتح

٦٤

و هو الشدّ بالغلّ الّذي يجمع بين اليد و الرجل و العنق.

و قوله:( ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) أي أدخلوه النار العظيمة و ألزموه إيّاها.

و قوله:( ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ ) السلسلة القيد، و الذرع الطول، و الذراع بُعد ما بين المرفق و رأس الأصابع و هو واحد الطول و سلوكه فيه جعله فيه، و المحصّل ثمّ اجعلوه في قيد طوله سبعون ذراعاً.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَ لا يَحُضُّ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) الحضّ التحريض و الترغيب، و الآيتان في مقام التعليل للأمر بالأخذ و الإدخال في النار أي إنّ الأخذ ثمّ التصلية في الجحيم و السلوك في السلسلة لأجل أنّه كان لا يؤمن بالله العظيم و لا يحرّض على طعام المسكين أي يساهل في أمر المساكين و لا يبالي بما يقاسونه.

قوله تعالى: ( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ - إلى قوله -الْخاطِؤُنَ ) الحميم الصديق و الآية تفريع على قوله:( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يؤمن بالله العظيم فليس له اليوم ههنا صديق ينفعه أي شفيع يشفع له إذ لا مغفرة لكافر فلا شفاعة.

و قوله:( وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) الغسلين الغسالة و كأنّ المراد به ما يسيل من أبدان أهل النار من قيح و نحوه و الآية عطف على قوله في الآية السابقة:( حَمِيمٌ ) و متفرّع على قوله:( وَ لا يَحُضُّ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يحرّض على طعام المسكين فليس له اليوم ههنا طعام إلّا من غسلين أهل النار.

و قوله:( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) وصف لغسلين و الخاطؤن المتلبّسون بالخطيئة و الإثم.

٦٥

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يحمله اليوم أربعة و يوم القيامة ثمانية.

أقول: و في تقييد الحاملين في الآية بقوله:( يَوْمَئِذٍ ) إشعار بل ظهور في اختصاص العدد بالقيامة.

و في تفسير القمّيّ، و في حديث آخر قال: حمله ثمانية أربعة من الأوّلين و أربعة من الآخرين فأمّا الأربعة من الأوّلين فنوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و أمّا الأربعة من الآخرين فمحمّد و عليّ و الحسن و الحسينعليهم‌السلام .

أقول: و في غير واحد من الروايات أنّ الثمانية مخصوصة بيوم القيامة، و في بعضها أنّ حملة العرش - و العرش العلم - أربعة منّا و أربعة ممّن شاء الله.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّه إذا كان يوم القيامة يدعى كلّ اُناس بإمامه الّذي مات في عصره فإن أثبته اُعطي كتابه بيمينه لقوله:( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ‏ ) فمن اُوتي كتابه بيمينه فاُولئك يقرؤن كتابهم، و اليمين إثبات الإمام لأنه كتابه يقرؤه - إلى أن قال - و من أنكر كان من أصحاب الشمال الّذين قال الله:( وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ) إلخ.

أقول: و في عدّة من الروايات تطبيق قوله:( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إلخ، على عليّعليه‌السلام ، و في بعضها عليه و على شيعته، و كذا تطبيق قوله:( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ) إلخ، على أعدائه، و هي من الجري دون التفسير.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لو أنّ دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا.

و فيه، أخرج البيهقيّ في شعب الإيمان عن صعصعة بن صوحان قال: جاء أعرابي

٦٦

إلى عليّ بن أبي طالب فقال: كيف هذا الحرف: لا يأكله إلّا الخاطون؟ كلّ و الله يخطو. فتبسّم عليّ و قال: يا أعرابيّ( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) قال: صدقت و الله يا أميرالمؤمنين ما كان الله ليسلم عبده.

ثمّ التفت عليّ إلى أبي الأسود فقال: إنّ الأعاجم قد دخلت في الدين كافّة فضع للناس شيئاً يستدلّون به على صلاح ألسنتهم فرسم لهم الرفع و النصب و الخفض.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه في الدروع الواقية في حديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و لو أنّ ذراعاً من السلسلة الّتي ذكرها الله في كتابه وضع على جميع جبال الدنيا لذابت عن حرّها.

٦٧

( سورة الحاقّة الآيات 38 - 52)

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ( 38 ) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ( 39 ) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( 40 ) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ ( 41 ) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ( 42 ) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( 43 ) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ( 44 ) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( 45 ) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( 46 ) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( 47 ) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ( 48 ) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ ( 49 ) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 50 ) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ( 51 ) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 52 )

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثالث من آيات السورة يؤكّد ما تقدّم من أمر الحاقّة بلسان تصديق القرآن الكريم ليثبت بذلك حقّيّة ما أنبأ به من أمر القيامة.

قوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَ ما لا تُبْصِرُونَ ) ظاهر الآية أنّه إقسام بما هو مشهود لهم و ما لا يشاهدون أي الغيب و الشهادة فهو إقسام بمجموع الخليقة و لا يشمل ذاته المتعالية فإنّ من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق و الخلق في صفّ واحد و يعظّمه تعالى و ما صنع تعظيماً مشتركاً في عرض واحد.

و في الإقسام نوع تعظيم و تجليل للمقسم به و خلقه تعالى بما أنّه خلقه جليل جميل لأنّه تعالى جميل لا يصدر منه إلّا الجميل و قد استحسن تعالى فعل نفسه و أثنى

٦٨

على نفسه بخلقه في قوله:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) الم السجدة: 7، و قوله:( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) المؤمنون: 14 فليس للموجودات منه تعالى إلّا الحسن و ما دون ذلك من مساءة فمن أنفسها و بقياس بعضها إلى بعض.

و في اختيار ما يبصرون و ما لا يبصرون للأقسام به على حقّيّة القرآن ما لا يخفى من المناسبة فإنّ النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحّده تعالى و مصير الكلّ إليه و ما يترتّب عليه من بعث الرسل و إنزال الكتب و القرآن خير كتاب سماويّ يهدي إلى الحقّ في جميع ذلك و إلى طريق مستقيم.

و ممّا تقدّم يظهر عدم استقامة ما قيل: إنّ المراد بما تبصرون و ما لا تبصرون الخلق و الخالق فإنّ السياق لا يساعد عليه، و كذا ما قيل: إنّ المراد النعم الظاهرة و الباطنة، و ما قيل: إنّ المراد الجنّ و الإنس و الملائكة أو الأجسام و الأرواح أو الدنيا و الآخرة أو ما يشاهد من آثار القدرة و ما لا يشاهد من أسرارها فاللفظ أعمّ مدلولاً من جميع ذلك.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) الضمير للقرآن، و المستفاد من السياق أنّ المراد برسول كريم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو تصديق لرسالته قبال ما كانوا يقولون إنّه شاعر أو كاهن.

و لا ضير في نسبة القرآن إلى قوله فإنّه إنّما ينسب إليه بما أنّه رسول و الرسول بما أنّه رسول لا يأتي إلّا بقول مرسلة، و قد بيّن ذلك فضل بيان بقوله بعد:( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

و قيل: المراد برسول كريم جبريل، و السياق لا يؤيّده إذ لو كان هو المراد لكان الأنسب نفي كونه ممّا نزلت به الشياطين كما فعل في سورة الشعراء.

على أنّ قوله بعد:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و ما يتلوه إنّما يناسب كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المراد برسول كريم.

قوله تعالى: ( وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) نفي أن يكون القرآن

٦٩

نظماً ألّفه شاعر و لم يقل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شعراً و لم يكن شاعراً.

و قوله:( قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) توبيخ لمجتمعهم حيث إنّ الأكثرين منهم لم يؤمنوا و ما آمن به إلّا قليل منهم.

قوله تعالى: ( وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) نفي أن يكون القرآن كهانة و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاهنا يأخذ القرآن من الجنّ و هم يُلقونه إليه.

و قوله:( قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) توبيخ أيضاً لمجتمعهم.

قوله تعالى: ( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) أي منزل من ربّ العالمين و ليس من صنع الرسول نسبه إلى الله كما تقدّمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ - إلى قوله -حاجِزِينَ ) يقال: تقوّل على فلان أي اختلق قولاً من نفسه و نسبه إليه، و الوتين - على ما ذكره الراغب - عرق يسقي الكبد و إذا انقطع مات صاحبه، و قيل: هو رباط القلب.

و المعنى:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا ) هذا الرسول الكريم الّذي حمّلناه رسالتنا و أرسلناه إليكم بقرآن نزّلناه عليه و اختلق( بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و نسبه إلينا( لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) كما يقبض على المجرم فيؤخذ بيده أو المراد قطعنا منه يده اليمنى أو المراد لانتقمنا منه بالقوّة كما في رواية القمّيّ( ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) و قتلناه لتقوّله علينا( فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ‏ ) تحجبونه عنّا و تنجونه من عقوبتنا و إهلاكنا.

و هذا تهديد للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تقدير أن يفتري على الله كذباً و ينسب إليه شيئاً لم يقله و هو رسول من عنده أكرمه بنبوّته و اختاره لرسالته.

فالآيات في معنى قوله:( لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) إسراء: 75، و كذا قوله في الأنبياء بعد ذكر نعمه العظمى عليهم:( وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الأنعام: 88.

فلا يرد أنّ مقتضى الآيات أنّ كلّ من ادّعى النبوّة و افترى على الله الكذب أهلكه الله و عاقبه في الدنيا أشدّ العقاب و هو منقوض ببعض مدّعي النبوّة من الكذّابين.

٧٠

و ذلك أنّ التهديد في الآية متوجّه إلى الرسول الصادق في رسالته لو تقوّل على الله و نسب إليه بعض ما ليس منه لا مطلق مدّعي النبوّة المفتري على الله في دعواه النبوّة و إخباره عن الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) يذكّرهم كرامة تقواهم و معارف المبدأ و المعاد بحقائقها، و يعرّفهم درجاتهم عند الله و مقاماتهم في الآخرة و الجنّة و ما هذا شأنه لا يكون تقوّلاً و افتراء فالآية مسوقة حجّة على كون القرآن منزّهاً عن التقوّل و الفرية.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ ) ستظهر لهم يوم الحسرة.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) قد تقدّم كلام في نظيرتي الآيتين في آخر سورة الواقعة، و السورتان متّحدتان في الغرض و هو وصف يوم القيامة و متّحدتان في سياق خاتمتهما و هي الإقسام على حقّيّة القرآن المنبئ عن يوم القيامة، و قد ختمت السورتان بكون القرآن و ما أنبأ به عن وقوع الواقعة حقّ اليقين ثمّ الأمر بتسبيح اسم الربّ العظيم المنزّه عن خلق العالم باطلاً لا معاد فيه و عن أن يبطل المعارف الحقّة الّتي يعطيها القرآن في أمر المبدأ و المعاد.

٧١

( سورة المعارج مكّيّة و هي أربع و أربعون آية)

( سورة المعارج الآيات 1 - 18)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( 1 ) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ( 2 ) مِّنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ ( 3 ) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ( 4 ) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ( 5 ) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ( 6 ) وَنَرَاهُ قَرِيبًا ( 7 ) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ( 8 ) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ( 9 ) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ( 10 ) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ( 11 ) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ( 12 ) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ( 13 ) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ( 14 ) كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ ( 15 ) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ ( 16 ) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ ( 17 ) وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ ( 18 )

( بيان‏)

الّذي يعطيه سياق السورة أنّها تصف يوم القيامة بما اُعدّ فيه من أليم العذاب للكافرين. تبتدئ السورة فتذكر سؤال سائل سأل عذاباً من الله للكافرين فتشير إلى أنّه واقع ليس له دافع قريب غير بعيد كما يحسبونه ثمّ تصف اليوم الّذي يقع فيه و العذاب الّذي اُعدّ لهم فيه و تستثني المؤمنين الّذين قاموا بوظائف الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح.

٧٢

و هذا السياق يشبه سياق السور المكّيّة غير أنّ المنقول عن بعضهم أنّ قوله:( وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ) مدني و الاعتبار يؤيّده لأنّ ظاهره الزكاة و قد شرّعت بالمدينة بعد الهجرة، و كون هذه الآية مدنيّة يستتبع كون الآيات الحافّة بها الواقعة تحت الاستثناء و هي أربع عشرة آية (قوله:إِلَّا الْمُصَلِّينَ - إلى قوله -فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ‏ ) مدنيّة لما في سياقها من الاتّحاد و استلزام البعض للبعض.

و مدنيّة هذه الآيات الواقعة تحت الاستثناء تستدعي ما استثنيت منه و هو على الأقل ثلاث آيات (قوله:إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً - إلى قوله -مَنُوعاً ).

على أنّ قوله:( فَما لِلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ) متفرّع على ما قبله تفرّعاً ظاهراً و هو ما بعده إلى آخر السورة ذو سياق واحد فتكون هذه الآيات أيضاً مدنيّة.

و من جهة اُخرى مضامين هذا الفصل من الآيات تناسب حال المنافقين الحافّين حول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اليمين و عن الشمال عزين و هم الرادّون لبعض ما أنزل الله من الحكم و خاصّة قوله:( أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ) إلخ، و قوله:( عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ) إلخ على ما سيجي‏ء، و موطن ظهور هذا النفاق المدينة لا مكّة، و لا ضير في التعبير عن هؤلاء بالّذين كفروا فنظير ذلك موجود في سورة التوبة و غيرها.

على أنّهم رووا أنّ السورة نزلت في قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) الأنفال: 32 و قد تقدّم في تفسير الآية أنّ سياقها و الّتي بعدها سياق مدنيّ لا مكّي. لكنّ المرويّ عن الصادقعليه‌السلام أنّ المراد بالحقّ المعلوم في الآية حق يسمّيه صاحب المال في ماله غير الزكاة المفروضة.

و لا عبرة بما نسب إلى اتّفاق المفسّرين أنّ السورة مكّيّة على أنّ الخلاف ظاهر و كذا ما نسب إلى ابن عبّاس أنّها نزلت بعد سورة الحاقّة.

قوله تعالى: ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) السؤال بمعنى الطلب و الدعاء، و لذا عدّي بالباء كما في قوله:( يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ ) الدخان: 55 و قيل: الفعل مضمّن معنى الاهتمام و الاعتناء و لذا عدّي بالباء، و قيل: الباء زائدة للتأكيد،

٧٣

و مآل الوجوه واحد و هو طلب العذاب من الله كفراً و عتوّاً.

و قيل: الباء بمعنى عن كما في قوله:( فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) الفرقان: 59، و فيه أنّ كونها في الآية المستشهد بها بمعنى عن ممنوع. على أنّ سياق الآيات التالية و خاصّة قوله:( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لا يلائم كون السؤال بمعنى الاستفسار و الاستخبار.

فالآية تحكي سؤال العذاب و طلبه عن بعض من كفر طغياناً و كفراً، و قد وصف العذاب المسؤل من الأوصاف بما يدلّ على إجابة الدعاء بنوع من التهكّم و التحقير و هو قوله:( واقِعٍ ) و قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) .

و المعنى سأل سائل من الكفّار عذاباً للكافرين من الله سيصيبهم و يقع عليهم لا محالة و لا دافع له أي إنّه واقع عليهم سأل أو لم يسأل ففيه جواب تحقيريّ و إجابة لمسؤله تهكّماً.

قوله تعالى: ( لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) للكافرين متعلّق بعذاب و صفة له، و كذا قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) و قد مرّت الإشارة إلى معنى الآية.

قوله تعالى: ( مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ ) الجارّ و المجرور متعلّق بقوله:( دافِعٌ ) أي ليس له دافع من جانب الله و من المعلوم أنّه لو اندفع لم يندفع إلّا من جانب الله سبحانه، و من المحتمل أن يتعلّق بقوله:( بِعَذابٍ ) .

و المعارج جمع معرج و فسّروه بالمصاعد و هي الدرجات و هي مقامات الملكوت الّتي يعرج إليها الملائكة عند رجوعهم إلى الله سبحانه على ما يفسّره قوله بعد:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ ) إلخ فله سبحانه معارج الملكوت و مقاماتها المترتّبة علوّاً و شرفاً الّتي تعرج فيها الملائكة و الروح بحسب قربهم من الله و ليست بمقامات وهميّة اعتباريّة.

و قيل: المراد بالمعارج الدرجات الّتي يصعد فيها الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح قال تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) الفاطر 10، و قال:( وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُمْ ) الحجّ: 37.

و قيل: المراد به مقامات القرب الّتي يعرج إليها المؤمنون بالإيمان و العمل

٧٤

الصالح قال تعالى:( هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَ اللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ) آل عمران: 163 و قال:( لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ) الأنفال: 4 و قال:( رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ ) المؤمن: 15.

و الحقّ أنّ مآل الوجهين إلى الوجه الأوّل، و الدرجات المذكورة حقيقيّة ليست بالوهميّة الاعتباريّة.

قوله تعالى: ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) المراد بهذا اليوم يوم القيامة على ما يفيده سياق الآيات التالية.

و المراد بكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة على ما ذكروا أنّه بحيث لو وقع في الدنيا و انطبق على الزمان الجاري فيها كان مقداره من الزمان خمسين ألف سنة من سني الدنيا.

و المراد بعروج الملائكة و الروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكلّ إليه فإنّ يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط و تقطّع الأسباب و ارتفاع الروابط بينها و بين مسبّباتها و الملائكة وسائط موكّلة على اُمور العالم و حوادث الكون فإذا تقطّعت الأسباب عن مسبّباتها و زيّل الله بينهم و رجع الكلّ إلى الله عزّ اسمه رجعوا إليه و عرجوا معارجهم فحفّوا من حول عرش ربّهم و صفّوا قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) الزمر 75، و قال:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) النبأ: 38.

و الظاهر أنّ المراد بالروح الروح الّذي هو من أمره تعالى كما قال:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) إسراء: 85 و هو غير الملائكة كما هو ظاهر قوله تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) النحل: 2.

فلا يعبأ بما قيل: إنّ المراد بالروح جبرئيل و إن اُطلق عليه الروح الأمين و روح القدس في قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) الشعراء: 194 و قوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ) النحل: 103 فإنّ المقيّد غير المطلق.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لمّا كان سؤال السائل للعذاب عن تعنّت

٧٥

و استكبار و هو ممّا يشقّ تحمّله أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و وصفه بالجميل - و الجميل من الصبر ما ليس فيه شائبة الجزع و الشكوى - و علّله بأنّ اليوم بما فيه من العذاب قريب.

قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً ) ضميراً( يَرَوْنَهُ ) و( نَراهُ ) للعذاب أو ليوم القيامة بما فيه من العذاب الواقع و يؤيّد الأوّل قوله فيما بعد:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) إلخ.

و المراد بالرؤية الاعتقاد بنوع من العناية المجازيّة و رؤيتهم ذلك بعيداً ظنّهم أنّه بعيد من الإمكان فإنّ سؤال العذاب من الله سبحانه استكباراً عن دينه و ردّاً لحكمه لا يجامع الإيمان بالمعاد و إن تفوّه به السائل، و رؤيته تعالى ذلك قريباً علمه بتحقّقه و كلّ ما هو آت قريب.

و في الآيتين تعليل أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر الجميل فإنّ تحمّل الأذى و الصبر على المكاره يهون على الإنسان إذا استيقن أنّ الفرج قريب و تذكّر ذلك فالكلام في معنى قولنا فاصبر على تعنّتهم و استكبارهم في سؤالهم العذاب صبراً جميلاً لا يشوبه جزع و شكوى فإنّا نعلم أنّ العذاب قريب على خلاف ما يستبعدونه، و علمنا لا يتخلّف عن الواقع بل هو نفس الواقع.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) المهل المذاب من المعدنيّات كالنحاس و الذهب و غيرهما، و قيل: درديّ الزيت، و قيل: عكر القطران(1) .

و الظرف متعلّق بقوله:( واقِعٍ ) على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: ( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ ) العهن مطلق الصوف، و لعلّ المراد المنفوش منه كما في قوله تعالى:( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) القارعة: 5.

و قيل: هو الصوف الأحمر، و قيل: المصبوغ ألواناً لأنّ الجبال ذات ألوان مختلفة فمنها جدد بيض و حمر و غرابيب سود(2) .

____________________

(1) أي ردية و خبيثه‏.

(2) كما في الآية من سورة فاطر.

٧٦

قوله تعالى: ( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) الحميم القريب الّذي تهتمّ بأمره و تشفق عليه.

إشارة إلى شدّة اليوم فالإنسان يومئذ تشغله نفسه عن غيره حتّى أنّ الحميم لا يسأل حميمه عن حاله لاشتغاله بنفسه.

قوله تعالى: ( يُبَصَّرُونَهُمْ ) الضميران للأحماء المعلوم من السياق و التبصير الإراءة و الإيضاح أي يُرى و يوضح الأحماء للأحماء فلا يسألونهم عن حالهم اشتغالاً بأنفسهم.

و الجملة مستأنفة في معنى الجواب عن سؤال مقدّر كأنّه لمّا قيل: لا يسأل حميم حميماً سئل فقيل: هل يرى الأحماء يومئذ أحماءهم؟ فاُجيب: يبصّرونهم و يمكن أن يكون( يُبَصَّرُونَهُمْ ) صفة( حَمِيماً ) .

و من ردي‏ءً التفسير قول بعضهم: إنّ معنى قوله:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يبصّر الملائكة الكفّار، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر المؤمنون أعداءهم من الكفّار و ما هم فيه من العذاب فيشمتون بهم، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر أتباع الضلالة رؤساءهم. و هي جميعاً وجوه لا دليل عليها.

قوله تعالى: ( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ) قال في المجمع: المودّة مشتركة بين التمنّي و بين المحبّة يقال: وددت الشي‏ء أي تمنّيته و وددته أي أحببته أودّ فيهما جميعاً. انتهى، و يمكن أن يكون استعماله بمعنى التمنّي من باب التضمين.

و قال: و الافتداء الضرر عن الشي‏ء ببدل منه انتهى، و قال: الفصيلة الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى اُبوّة خاصّة عن اُبوّة عامّة. انتهى، و ذكر بعضهم أنّ الفصيلة عشيرته الأقربين الّذين فصل عنهم كالآباء الأدنين.

و سياق هذه الآيات سياق الإضراب و الترقّي بالنسبة إلى قوله:( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) فيفيد أنّ المجرم يبلغ به شدّة العذاب إلى أن يتمنّى أن يفتدي من العذاب بأحبّ أقاربه و أكرمهم عليه بنيه و صاحبته و أخيه و فصيلته و جميع من في الأرض ثمّ ينجيه الافتداء فيودّ ذلك فضلاً عن عدم سؤاله عن حال حميمه.

٧٧

و المعنى( يَوَدُّ ) و يتمنّى( الْمُجْرِمُ ) و هو المتلبّس بالأجرام أعمّ من الكافر( لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ ) و هذا هو الّذي يتمنّاه، و الجملة قائمة مقام مفعول يودّ.( بِبَنِيهِ ) الّذين هم أحبّ الناس عنده( وَ صاحِبَتِهِ ) الّتي كانت سكنا له و كان يحبّها و ربّما قدّمها على أبويه( وَ أَخِيهِ ) الّذي كان شقيقه و ناصره( وَ فَصِيلَتِهِ ) من عشيرته الأقربين( الَّتِي تُؤْوِيهِ ) و تضمّه إليها( وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) من اُولي العقل( ثُمَّ يُنْجِيهِ ) هذا الافتداء.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّها لَظى‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى) كلّا للردع، و ضمير( إِنَّها ) لجهنّم أو للنار و سمّيت لظى لكونها تتلظّى و تشتعل، و النزّاعة اسم مبالغة من النزع بمعنى الاقتلاع، و الشوى الأطراف كاليد و الرجل يقال: رماه فأشواه أي أصاب شواه كذا قال الراغب، و إيعاء المال إمساكه في وعاء.

فقوله:( كَلَّا ) ردع لتمنّيه النجاة من العذاب بالافتداء و قد علّل الردع بقوله:( إِنَّها لَظى) إلخ و محصّله أنّ جهنّم نار مشتعلة محرقة للأطراف شأنها أنّها تطلب المجرمين لتعذّبهم فلا تصرف عنهم بافتداء كائناً ما كان.

فقوله:( إِنَّها لَظى‏ ) أي نار صفتها الاشتعال لا تنعزل عن شأنها و لا تخمد، و قوله:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) أي صفتها إحراق الأطراف و اقتلاعها لا يبطل ما لها من الأثر فيمن تعذّبه.

و قوله:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى‏ ) أي تطلب من أدبر عن الدعوة الإلهيّة إلى الإيمان بالله و أعرض عن عبادته تعالى و جمع المال فأمسكه في وعائه و لم ينفق منه للسائل و المحروم.

و هذا المعنى هو المناسب لسياق الاستثناء الآتي و ذكر الصلاة و الإنفاق فيه.

٧٨

( بحث روائي‏)

في المجمع، حدّثنا السيّد أبوالحمد قال: حدّثنا الحاكم أبوالقاسم الحسكاني و ساق السند عن جعفر بن محمّد الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: لما نصب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، طار ذلك في البلاد فقدم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النعمان بن الحارث الفهريّ.

فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله و أنّك رسول الله و أمرتنا بالجهاد و الحجّ و الصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها ثمّ لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فهذا شي‏ء منك أو أمر من عند الله؟ فقال: و الله الّذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله.

فولى النعمان بن الحارث و هو يقول: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله و أنزل الله تعالى:( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) .

أقول: و هذا المعنى مروي بغير طريق من طرق الشيعة، و قد ردّ الحديث بعضهم بأنّه موضوع لكون سورة المعارج مكّيّة، و قد عرفت الكلام في مكّيّة السورة.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و عبد بن حميد و النسائيّ و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال هو النضر بن الحارث قال: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ: في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال. نزلت بمكّة في النضر بن الحارث و قد قال:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و كان عذابه يوم بدر.

أقول: و هذا المعنى مرويّ أيضاً عن غير السدّيّ، و في بعض رواياتهم أنّ

٧٩

القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية هو الحارث بن علقمة رجل من عبد الدار، و في بعضها أنّ سائل العذاب هو أبوجهل بن هشام سأله يوم بدر و لازمه مدنيّة السورة و المعتمد على أيّ حال نزول السورة بعد قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و قد تقدّم كلام في سياق الآية.

و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث: ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنّ في القيامة خمسين موقفاً كلّ موقف مثل ألف سنة ممّا تعدّون ثمّ تلا هذه الآية( فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) .

أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي، عن حفص بن غياث عنهعليه‌السلام .

و في المجمع، روى أبوسعيد الخدريّ قال: قيل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أطول هذا اليوم فقال: و الّذي نفس محمّد بيده إنّه ليخفّ على المؤمن حتّى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن عدّة من الجوامع عن أبي سعيد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) قال: الرصاص الذائب و النحاس كذلك تذوب السماء.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يقول: يعرّفونهم ثمّ لا يتساءلون.

و فيه في قوله تعالى:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) قال: تنزع عينه و تسودّ وجهه.

و فيه في قوله تعالى:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى ) قال: تجرّه إليها.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

لقد جمعت في الواقع كلّ مراتب الإيمان ، وكلّ الأعمال الصالحة في هاتين الجملتين ، لأنّ التوحيد أساس كلّ المعتقدات الصحيحة ، وكلّ أصول العقائد ترجع الى أصل التوحيد. كما أنّ الاستقامة والصبر والتحمل والصمود أساس كلّ الأعمال الصالحة ، لأنّا نعلم أنّه يمكن تلخيص كلّ أعمال الخير في ثلاثة : «الصبر على الطاعة» ، و «الصبر عن المعصية» ، و «الصبر على المصيبة».

وبناء على هذا ، فإنّ «المحسنين» هم السائرون على خط التوحيد من الناحية العقائدية ، وفي خط الاستقامة والصبر من الناحية العملية.

ومن البديهي أنّ أمثال هؤلاء الأفراد لا يخافون من حوادث المستقبل ، ولا يغتمون لما مضى.

وقد ورد نظير هذا المعنى ـ بتوضيح أكثر ـ في الآية (٣٠) من سورة فصلت حيث تقول :( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) .

إنّ هذه الآية تضيف شيئين :

الأوّل : أنّهم بشروا بعدم الخوف والحزن من قبل الملائكة ، في حين سكتت الآية مورد البحث عن هذا.

والثّاني : أنّه إضافة إلى نفي الخوف والحزن عنهم ، فقد وردت البشارة بالجنّة أيضا في آية سورة فصلت ، في حين أنّ هذه البشارة وردت في الآية اللاحقة في محل كلامنا.

وعلى أية حال ، فإنّ الآيتين تبحثان مطلقا واحدا ، غايته أن أحداهما أكثر تفصيلا من الأخرى.

ونقرأ في تفسير علي بن إبراهيم في تفسير جملة :( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ) قال : استقاموا على ولاية علي أمير المؤمنينعليه‌السلام . وذلك أنّ إدامة خط

__________________

الجملة مفهوم الشرطية كالآية مورد البحث.

٢٦١

أمير المؤمنينعليه‌السلام في جوانب العلم والعمل ، والعدالة والتقوى ، وخاصّة في العصور المظلمة الحالكة ، أمر لا يمكن تحققه بدون الاستقامة ، وبناء على هذا فإنّه يعد أحد مصاديق الواضحة للآية مورد البحث ، لا أنّ معناها منحصر به ، بحيث لا تشمل الاستقامة في الجهاد وطاعة الله سبحانه ، ومحاربة هوى النفس والشيطان.

وقد أوردنا شرحا مفصلا حول مسألة الاستقامة في ذيل الآية (٣٠) من سورة فصلت(١) .

وتبشر آخر آية من هذه الآيات الموحدين المحسنين بأهم بشارة وأثمنها ، فتقول :( أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

إنّ ظاهر الآية يعطي مفهوم الحصر ، كما استفاد ذلك البعض ، أي أنّ أصحاب الجنّة هم أهل التوحيد والاستقامة فقط ، أمّا الذين ارتكبوا المعاصي منهم ، فإنّهم وإن كانوا في النتيجة من أصحاب الجنّة ، إلّا أنّهم ليسوا من أصحابها منذ بداية الأمر.

التعبير بـ «الأصحاب» إشارة إلى اجتماعهم الدائم وتنعمهم الخالد بنعم الجنّة.

وتعبير :( جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) يدل من جهة على أنّ الجنّة لا تمنح مجانا ، بل إنّ لها تمنا يجب أن يؤدى ، ويشير من جهة أخرى إلى أصل حرية الإنسان واختياره.

* * *

__________________

(١) راجع التّفسير الأمثل ، سورة فصلت ، الآية ٣٠.

٢٦٢

الآيات

( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦) )

التّفسير

أيّها الإنسان أحسن إلى والديك :

هذه الآيات والتي تليها ، توضيح ـ في الحقيقة ـ لما يتعلق بالفريقين : الظالم والمحسن ، اللذين أشير إليهما إجمالا في الآيات السابقة.

وتتناول الآية الأولى وضع المحسنين ، وتبدأ بمسألة الإحسان إلى الوالدين

٢٦٣

وشكر جهودهم وأتعابهم التي بذلوها ، والذي يعتبر مقدمة لشكر الله سبحانه ، فتقول :( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً ) (١) .

«الوصية» و «التوصية» بمعنى مطلق الوصية ، ولا ينحصر معناها بالوصايا بما بعد الموت ، ولذلك فسّرها جماعة هنا بأنّها الأمر والتشريع.

ثمّ تطرّقت إلى سبب وجوب معرفة حقّ الأمّ ، فقالت :( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) تضحي خلالها الأم أعظم التضحيات ، وتؤثر ولدها على نفسها أيّما إيثار.

إنّ حالة الأم تختلف منذ الأيّام الأولى لانعقاد النطفة ، فتتوالى عليها الصعوبات ، وهناك حالة تسمى حالة (الوحام) هي أصعب الحالات التي تواجهها الأم ، ويقول الأطباء عنها : إنّها تنشأ نتيجة قلّة المواد التي تحدث في جسم الأم نتيجة إيثارها ولدها على نفسها.

وكلما تكامل نمو الجنين امتص موادا أكثر من عصارة روح الأم وجسدها ، تترك أثرها على عظامها وأعصابها ، فيسلبها أحيانا نومها وغذاءها وراحتها وهدوأها ، أمّا في آخر فترة الحمل فيصعب عليها حتى المشي والجلوس والقيام ، إلّا أنّها تتحمل كلّ هذه المصاعب بصبر ورحابة صدر وعشق للوليد الذي سيفتح عينيه على الدنيا عمّا قريب ، ويبتسم بوجه أمّه.

وتحل فترة وضع الحمل ، وهي من أعسر لحظات حياة الأم ، حتى أنّ الأم أحيانا تبذل نفسها وحياتها من أجل سلامة الوليد.

على كلّ حال ، تضع الأم حملها الثقيل لتبدأ مرحلة صعبة أخرى ، مرحلة مراقبة الطفل المستمرة ليل نهار مرحلة يجب أن تلبى فيها كلّ احتياجات الطفل الذي

__________________

(١) «التوصية» تتعدى عادة بمفعولين ، غايته أنّ المفعول الثّاني يقترن بالباء أو (الى) ، وبناء على هذا فإنّ (إحسانا) لا يمكن أن تكون المفعول الثّاني في الجملة ، إلّا أن نعتبر (وصينا) بمعنى (ألزمنا) التي تتعدى بمفعولين دون حاجة إلى حرف جر ، أو أن نقول : إنّ في الآية محذوفا ، نقدره : ووصينا الإنسان بأن يحسن بوالديه إحسانا ، ففي هذه الحالة تكون (إحسانا) مفعولا مطلقا لفعل محذوف.

٢٦٤

ليست لديه أية قدرة على بيانها وتوضيحها ، فإن آلمه شيء لا يقوى على تعيين محل الألم ، وإذا كان يشكو من الجوع والعطش ، والحر والبرد ، فهو عاجز عن التعبير عن شكواه ، إلّا بالصراخ والدموع ، ويجب على الأم أن تحدد كلّ واحدة من هذه الاحتياجات وتؤمنها بتفحصها وصبرها وطول أناتها.

إنّ نظافة الوليد في هذه المرحلة مشكلة مضنية ، وتأمين غذائه الذي يستخلص من عصارة الأم ، إيثار كبير.

والأمراض المختلفة التي تصيب الطفل في هذه المرحلة ، مشكلة أخرى يجب على الأم أن تتحملها بصبرها الخارق.

إنّ القرآن الكريم عند ما تحدّث عن مصاعب الأم هنا ، ولم يورد شيئا عن الأب ، لا لأنّه لا أهمية للأب ، فهو يشارك الأم في كثير من هذه المشاكل ، بل لأنّ سهم الأم من المصاعب أوفر ، فلهذا أكّد عليها.

وهنا يطرح سؤال ، وهو : إنّ فترة الرضاع ذكرت في الآية (٢٣٣) من سورة البقرة على أنّها سنتان كاملتان ـ ٢٤ ـ شهرا ـ :( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ ) في حين أنّ الآية مورد البحث قد ذكرت أنّ مجموع فترة الحمل والرضاع ثلاثون شهرا ، فهل من الممكن أن تكون مدّة الحمل ستّة أشهر؟

لقد أجاب الفقهاء والمفسّرون ، عن هذا السؤال ـ استلهاما من الرّوايات الإسلامية ـ بالإيجاب وقالوا : إنّ أقل مدّة الحمل ستة أشهر ، وأكثر مدّة تفيد في الرضاع (٢٤) شهرا ، حتى نقل عن جماعة من الأطباء القدامى كجالينوس وابن سينا أنّهم قالوا : إنّهم كانوا قد شاهدوا بأمّ أعينهم وليدا ولد ستة أشهر.

ثمّ إنّه يمكن أن يستفاد من هذا التعبير القرآني أنّه كلما قصرت فترة الحمل يجب أن تطول فترة الرضاع بحيث يكون المجموع (٣٠) شهرا.

وقد نقل عن ابن عباس أنّ فترة الحمل إن كانت (٩) أشهر فيجب أن يرضع

٢٦٥

الولد (٢١) شهرا ، وإن كان الحمل ستة أشهر وجب أن يرضع الطفل (٢٤) شهرا.

والقانون الطبيعي يوجب ذلك أيضا. لأنّ نواقص فترة الحمل يجب أن تجبر بفترة الرضاع.

ثمّ تضيف الآية : إنّ حياة هذا الإنسان تستمر( حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) (١) .

يعتقد بعض المفسّرين أنّ بلوغ الأشد منسجم مع بلوغ الأربعين سنة ، وهو للتأكيد ، إلّا أنّ ظاهر الآية هو أنّ بلوغ الأشد إشارة إلى البلوغ الجسمي ، وبلوغ الأربعين سنة إشارة إلى البلوغ الفكري والعقلي ، لأنّ من المعروف أنّ الإنسان يصل إلى مرحلة الكمال العقلي في سن الأربعين غالبا ، وقالوا : إنّ أغلب الأنبياء قد بعثوا في سن الأربعين.

ثمّ إنّ هناك بحثا في أنّ بلوغ القدرة الجسمية في أي سن يتم؟ فالبعض يعتبره سن البلوغ المعروف ، والذي أشير إليه في الآية (٣٤) من سورة الإسراء في شأن اليتامى ، في حين صرّحت بعض الروايات بأنّه سن الثامنة عشرة عاما.

طبعا ، لا مانع من أن يعطي هذا التعبير معاني مختلفة في موارد مختلفة تتّضح من خلال القرائن.

وقد ورد في حديث : «إنّ الشيطان يمر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ، ويقول : بأبي وجه لا يفلح»(٢) .

ونقل عن ابن عباس : من أتى عليه الأربعون سنة فلم يغلب خيره شرّه ، فليتجهز إلى النّار.

وعلى أي حال ، فإنّ القرآن الكريم يضيف في متابعة هذا الحديث : إنّ الإنسان

__________________

(١) (حتى) هنا غاية لجملة محذوفة ، والتقدير : وعاش الإنسان واستمرت حياته حتى إذا بلغ أشدّه. واعتبرها البعض غاية لـ (وصينا) أو لمراقبة الوالدين لولدهما ، وكلاهما يبدو بعيدا ، إذ لا تنتهي توصية الله سبحانه بالإحسان إلى الوالدين في سن الأربعين ، ولا تستمر مراقبة الوالدين لولدهما حتى يصل الأربعين.

(٢) تفسير روح المعاني ، المجلد ٢٦ ، صفحة ١٧.

٢٦٦

العاقل المؤمن إذا بلغ سن الأربعين ، يطلب من ربّه ثلاث طلبات ، فيقول أولا :( قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ ) (١) .

إنّ هذا التعبير يوحي بأنّ الإنسان يدرك في هذه السن عمق نعم الله سبحانه وسعتها ، وكذلك يدرك ما تحمله أبواه من الجهود المضنية حتى بلغ هذا المقدار من العمر ، وذلك لأنّه غالبا ما يصبح في هذا العمر أبا إن كان ذكرا ، وأمّا إن كانت أنثى ، ويرى بأم عينه كلّ تلك الجهود التي بذلت من أجله ، ومدى الإيثار الذي آثره أبواه في سبيله ، وشكرا لسعيهما يتوجّه لا إراديا لشكر الله سبحانه.

أمّا طلبه الثّاني فهو :( وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ) .

وأخيرا يقدم طلبه الأخير فيقول :( وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ) .

إنّ التعبير بـ (لي) يشير ضمنية إشارة إلى أنّه يرجو أن يكون أولاده في وضع من الصلاح والخير بحيث تعود نتائجه وحسناته عليه.

والتعبير بـ (في ذريتي) بصورة مطلقة ، يشير الى استمرار الخير والصلاح في كلّ نسله وذريته.

والطريف أنّه يشرك أبويه في دعائه الأوّل ، وأولاده في الدعاء الثالث ، أمّا الدعاء الثّاني فيخص نفسه به ، وهكذا يكون الإنسان الصالح ، فإنّه إذا نظر إلى نفسه بعين ، ينظر بالأخرى إلى الآخرين الذين تفضلوا عليه ولهم حق في رقبته.

وتبيّن الآية في نهايتها مطلبين ، كلّ منهما تبيان لبرنامج عملي مؤثر ، فتقول :( إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ ) فقد بلغت مرحلة يجب أن أعين فيها مسير حياتي ، وأسير في ذلك الخط ما حييت.

نعم ، لقد بلغت الأربعين ، ويقبح بعبد مثلي أن يأتيك ولم يغسل نفسه بماء التوبة ، ولم يطهرها بالعودة إلى طريق ربّه ويقرع باب رحمته.

والآخر :( وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) .

__________________

(١) «أوزعني» من مادة (الإيزاع) التي وردت بعدّة معان : الإلهام ، والمنع من الانحراف ، وإيجاد العشق والمحبة ، والتوفيق.

٢٦٧

إنّ هاتين الجملتين تأكيد لتلك الأدعية الثلاثة ومترتبة عليها ، ومعناهما : بما إنّي تبت إليك ، وأسلمت لأوامرك ، فأنت أيضا منّ عليّ برحمتك ، واشملني بنعمك وفضلك.

والآية التالية ، بيان بليغ لأجر هؤلاء المؤمنين الشاكرين وثوابهم ، وقد أشارت إلى مكافآت مهمّة ثلاث ، فقالت أوّلا :( أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا ) .

أي بشارة أعظم من أن يتقبل الله القادر المنان عمل عبد ضعيف لا قدر له ، وهذا القبول بحدّ ذاته ، وبغض النظر عن آثاره الأخرى ، فخر عظيم ، وموهبة معنوية عالية.

إنّ الله سبحانه يتقبل كلّ الأعمال الصالحة ، فلما ذا يقول هنا :( نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا ) ؟

وفي معرض الإجابة على هذا السؤال ، قال جمع من المفسّرين : إنّ المراد من أحسن الأعمال : الواجبات والمستحبات التي تكون في مقابل المباحات التي هي أعمال حسنة لكنّها لا تقع موقع القبول ، ولا يتعلق بها أجر وثواب(١) .

والجواب الآخر : إنّ الله سبحانه يجعل أحسن أعمال هؤلاء معيارا للقبول ، وحتى أعمالهم التي تأتي في مرتبة أدنى من الأهمية ، فإنّه يجعلها كأحسن الأعمال بفضله ورحمته. إنّ هذا يشبه تماما أن يعرض بائع أجناسا مختلفة بأسعار متفاوتة ، إلّا أنّ المشتري يشتريها جميعا بثمن أعلاها وأفضلها تكرما منه وفضلا ، ومهما قيل في لطف الله وفضله فليس عجبا.

والهبة الثّانية هي تطهيرهم ، فتقول :( وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ ) .

والموهبة الثّالثة هي أنّهم( فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ ) (٢) ، فيطهرون من الهفوات التي

__________________

(١) الطبرسي في مجمع البيان ، والعلّامة الطباطبائي في الميزان ، والفخر الرازي في التّفسير الكبير ، وغيرهم في ذيل الآية مورد البحث.

(٢) (في أصحاب الجنّة) متعلق بمحذوف هو حال لضمير (هم) والتقدير : حال كونهم موجودين في أصحاب الجنّة.

٢٦٨

كانت منهم ، ويكونون في جوار الصالحين المطهرين المقربين عند الله سبحانه.

ويستفاد بصورة ضمنية من هذا التعبير أنّ المراد من( أَصْحابِ الْجَنَّةِ ) هنا العباد المقرّبون الذين لم يصبهم غبار المعاصي ، وهؤلاء المؤمنون التائبون يكونون في مصافهم بعد أن ينالوا غفران الله ورضاه.

وتضيف الآية في نهايتها ـ كتأكيد على هذه النعم التي مرّ ذكرها ـ( وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ ) (١) وكيف لا يكون وعد صدق في حين أنّ خلف الوعد أمّا أن يكون عن ندم أو جهل ، أم عن ضعف وعجز ، والله سبحانه منزه عن هذه الأمور جميعا.

* * *

ملاحظات

١ ـ إنّ هذه الآيات تجسيد للإنسان المؤمن من أصحاب الجنّة ، الذي يطوي أوّلا مرحلة الكمال الجسمي ، ثمّ مرحلة الكمال العقلي ، ثمّ يصل إلى مقام شكر نعم الله تعالى ، وشكر متاعب والديه ، والتوبة عمّا بدر منه من هفوات وسقطات ومعاص ، ويهتم أكثر بالقيام بالأعمال الصالحة ، ومن جملتها تربية الأولاد ، وأخيرا يرقى إلى مقام التسليم المطلق لله تعالى ولأوامره ، وهذا هو الذي يغمره في رحمة الله ومغفرته ونعمه المختلفة التي لا تحصى.

نعم ، ينبغي أن يعرف أهل الجنّة من هذه الصفات.

٢ ـ إنّ التعبير بـ( وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ ) إشارة إلى أنّ مسألة الإحسان إلى الوالدين من الأصول الإنسانية ، ينجذب إليها ويقوم بها حتى أولئك الذين لا يلتزمون بدين أو مذهب ، وبناء على هذا ، فإنّ الذين يعرضون عن أداء هذه الوظيفة ، ويرفضون القيام بهذا الواجب ، ليسوا مسلمين حقيقيين ، بل لا يستحقون اسم الإنسان.

__________________

(١) (وعد الصدق) مفعول مطلق لفعل محذوف ، والتقدير : يعدهم وعد الصدق الذي كانوا يوعدون بلسان الأنبياء والرسل.

٢٦٩

٣ ـ إنّ التعبير بـ «إحسانا» وبملاحظة أنّ النكرة في هذه الموارد لبيان عظمة الأمر وأهميته ، ويشير إلى أنّه يجب ـ بأمر الله سبحانه ـ الإحسان إلى الأبوين إحسانا جميلا مقابلة لخدماتهم الجليلة التي أسدوها.

٤ ـ لأنّ آلام ومعاناة الأم في طريق تربية الطفل محسوسة وملموسة أكثر ، ولأنّ جهود الأم أكثر أهمية إذا ما قورنت بجهود الأب ، كان التأكيد أكثر على قدر الأم في الرّوايات الإسلامية.

فقد ورد في حديث أنّ رجلا أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : من أبر؟ قال : «أمّك» ، قال : ثمّ من؟ قال : «أمّك» ، قال : ثمّ من؟ قال : «أمّك» ، قال : ثمّ من؟ قال : «أباك»(١) . وجاء في حديث آخر ، أنّ رجلا كان قد حمل أمّه العجوز العاجزة ، وكان يطوف بها ، فأتى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : هل أديت حقّها : قال : «لا ولا بزفرة واحدة»(٢) .

٥ ـ لقد أولت الآيات القرآنية العلاقات العائلية ، واحترام الأبوين وإكرامهم ، والعناية بتربية الأولاد ، اهتماما فائقا ، وقد أشير إليها جميعا في الآيات المذكورة ، وذلك لأنّ المجتمع الإنساني الكبير يتكون من خلايا وتشكيلات أصغر تسمى العائلة ، كما أنّ البناية الضخمة تتكون من غرف ، وهي بدورها من الطابوق والحجر.

من البديهي أنّه كلّما كانت هذه التقسيمات الصغيرة أكثر انسجاما وترابطا ، كان أساس المجتمع أقوى وأشد ثباتا ، وأحد عوامل التمزق والاختلال الاجتماعي في المجتمعات الصناعية في عصرنا الحاضر هو انحلال نظام العائلة ، فلا احترام من قبل الأولاد ، ولا عطف من الآباء والأمهات ، ولا علاقة حب وحنان وعاطفة من الأزواج.

إنّ المشهد المؤلم لدور رعاية المسنين في المجتمعات الصناعية اليوم ، والتي

__________________

(١) روح المعاني ، المجلد ٢٦ ، صفحة ١٦.

(٢) في ظلال القرآن ، المجلد ٧ ، صفحة ٤١٥.

٢٧٠

تحتضن العجزة من الآباء والأمهات الذين طردوا من العائلة ، شاهد معبر جدّا عن هذه الحقيقة المرّة.

فالرجال والنساء الذين صرفوا عمرا طويلا في الخدمة لمنح المجتمع أبناء عديدين ، يطردون تماما في الأيّام التي يكونون فيها بأشد الحاجة إلى عواطف الأبناء ومحبتهم ومعونتهم ، ويبقون في تلك الدور يعدون الأيّام في انتظار لحظة الموت ، وقد سمّروا أعينهم في الباب بانتظار صديق أو قريب يفتحها ولا تفتح عليهم إلّا مرّة أو مرّتين في السنة!

حقا ، إنّ تصور مثل هذه الحالة ينغص على الإنسان عيشه منذ البداية ، وهذا هو عرف دنيا المادة والتمدن وأسلوبها حينما يطرح منها الإيمان والدين.

٦ ـ إنّ جملة :( وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ) تبيّن أنّ العمل الصالح هو العمل الذي يبعث على رضى الله سبحانه ، وتعبير :( أَحْسَنَ ما عَمِلُوا ) والذي ورد في آيات عديدة من القرآن المجيد ، يبيّن فضل الله الذي لا يحصى في مقام مكافأة العباد وجزائهم ، حيث يجعل أحسن أعمالهم معيارا لكلّ أعمالهم الحسنة في الحساب. والمثوبة.

* * *

٢٧١

الآيات

( وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) )

التّفسير

مضيّعو حقوق الوالدين :

كان الكلام في الآيات السابقة عن المؤمنين الذين سلكوا طريق القرب من الله ، فبلغوا الغاية ووسعتهم رحمة الله ، وكرمهم لطفه ، وكلّ ذلك في ظل الإيمان والعمل الصالح ، وشكر نعم الله سبحانه ، والالتفات إلى حقوق الأبوين والذرية وأدائها.

أمّا هذه الآيات ، فيدور الكلام فيها عمّن يقفون في الطرف المقابل ، وهم الكافرون المنكرون للجميل والحق ، والعاقون لوالديهم ، فتقول :( وَالَّذِي قالَ

٢٧٢

لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي ) (١) .

إلّا أنّ أبويه المؤمنين لم يستسلما أمام هذا الولد العاق الضال ، فتقول الآية :( وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ ) غير أنّه يأبى إلّا أن يسير في طريق الضلالة والعناد الذي اختطه لنفسه ، ولذلك نراه يجيبهما بكلّ تكبر وغرور ولا مبالاة :( فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) ، فما تقولانه عن المعاد والحساب ليس إلّا خرافات وقصص كاذبة أتتكم من الماضين من قبلكم ، ولست بالذي يعتقد بها وينقاد لها.

إنّ الصفات التي يمكن أن تستخرج من هذه الآية حول هذه الفئة من الأبناء الضالين عدّة صفات : عدم احترام منزلة الأبوين ، والإساءة لهما ، لأنّ (أف) في الأصل تعني كلّ شيء قذر ، وهي تقال في مقام التحقير والإهانة(٢) .

وقال البعض : إنّها تعني الأقذار التي تجتمع تحت الأظافر ، وهي قذرة ملوثة ، ولا قيمة لها(٣) .

والصفة الأخرى هي أنّهم مضافا إلى عدم إيمانهم بيوم القيامة والبعث والجزاء ، فإنّهم يسخرون منه ويستهزئون به ، ويعدونه من الأساطير والأوهام الخرافية الباطلة.

والصفة الأخرى أنّهم لا أذن سامعة لهم ، ولا يذعنون للحق ، وقد امتلأت نفوسهم بروح الغرور والكبر والأنانية.

نعم ، فبالرغم من أن الأبوين الحريصين يبذلان قصارى جهودهما ، وكلّ ما في

__________________

(١) «والذي قال» مبتدأ ، وخبره ـ باعتقاد كثير من المفسّرين ـ (أولئك الذين) الذي ورد في الآية التالية ، ولا منافاة بين كون المبتدأ مفردا والخبر ـ أولئك ـ جمعا ، لأنّ المراد منه الجنس. لكن يحتمل أيضا أن يكون خبره محذوفا ، وتقديره الكلام : «وفي مقابل الذين مضى وصفهم الذي قال لوالديه» وفي هذه الحالة تكون الآية التالية مستقلة ، كما أن آية :( أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ ) مستقلة.

(٢) مفردات الراغب.

(٣) أوردنا بحوثا أخرى حول معنى (أف) في سورة الإسراء الآية ٢٣.

٢٧٣

وسعهما لإنقاذه من دوامة الجهل والغفلة ، لئلا يبتلى هذا الابن العزيز بعذاب الله الأليم ، إلّا أنّه يأبى إلّا الاستمرار في طريق غيه وكفره ، ويصر على ذلك ، وأخيرا يتركه أبواه وشأنه بعد اليأس منه.

وكما بيّنت الآيات السابقة ثواب المؤمنين العاملين للصالحات ، فإنّ هذه الآيات تبيّن عاقبة أعمال الكافرين الضالين المتجرئين على الله ، فتقول :( أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ ) (١) ، وأي خسارة أعظم من أنّهم خسروا كلّ رأس مال وجودهم إذا اشتروا به غضب اللهعزوجل وسخطه.

ومن خلال المقارنة بين هذين الفريقين ـ أصحاب النعيم وأصحاب الجحيم ـ في هذه الآيات نقف على هذه الأمور :

إنّ أولئك يطوون مدارج رشدهم وكمالهم ، في حين أنّ هؤلاء فقدوا كلّ ما يملكون ، فهم خاسرون.

أولئك يقدرون الجميل ويشكرونه حتى من أبويهم ، وهؤلاء منكرون للجميل معتقدون لا أدب لهم حتى مع والديهم.

أولئك مع المقربين إلى الله في الجنّة ، وهؤلاء مع الكافرين في النّار ، فكلّ منهم يلتحق بأمثاله ومن على شاكلته.

أولئك يتوبون من الهفوات التي تصدر عنهم ، ويذعنون للحق ، أمّا هؤلاء فهم قوم طغاة عتاة متمردون ، أنانيّون ومتكبرون.

وممّا يستحق الالتفات أنّ هؤلاء المعاندين يستندون في انحرافاتهم إلى وضع الأقوام الماضين وسيحشرون معهم إلى النّار أيضا.

أمّا الآية الأخيرة من هذه الآيات فإنّها تشير أوّلا إلى تفاوت درجات كلا

__________________

(١) جملة (حقّ عليهم القول) إشارة إلى كلام الله الذي قاله سبحانه في عقوبة الكافرين والمجرمين ، والتقدير : حقّ عليهم القول بأنّهم أهل النّار و (في أمم) في محل حال.

٢٧٤

الفريقين ، فتقول :( وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ) (١) فليس كلّ أصحاب الجنّة أو أصحاب النّار في درجة واحدة ، بل إنّ لكلّ منهما درجات ومراتب تختلف باختلاف أعمالهم ، وحسب خلوص نيّتهم وميزان معرفتهم ، وأصل العدالة هو الحاكم هنا تماما.

«الدرجات» جمع درجة ، وتقال عادة للسلالم التي يصعد الإنسان بتسلقها إلى الأعلى ، و «الدركات» جمع درك ، وهي تقال للسلّم الذي ينزل منه الإنسان إلى الأسفل ، ولذلك يقال في شأن الجنّة : درجات ، وفي شأن النّار : دركات ، لكن لما كانت الآية مورد البحث قد تحدثت عنهما معا ، ولأهمية مقام أصحاب الجنّة ، ورد لفظ (الدرجات) للاثنين ، وهو من باب التغليب(٢) .

ثمّ تضيف الآية :( وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ ) وهذا التعبير إشارة أخرى إلى مسألة تجسم الأعمال ، حيث أنّ أعمال ابن آدم ستكون معه هناك ، فتكون أعماله الصالحة باعثا على الرحمة به واطمئنانه ، وأعماله الطالحة سببا للبلاء والعذاب الألم.

وتقول الآية أخيرا كتأكيد على ذلك :( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) لأنّهم سيرون أعمالهم وجزاءها ، فكيف يمكن تصور الظلم والجور؟

هذا إضافة إلى أنّ درجات هؤلاء ودركاتهم قد عيّنت بدقّة ، حتى أنّ لأصغر الأعمال ، حسنا كان أم قبيحا ، أثره في مصيرهم ، ومع هذه الحال لا معنى للظلم حينئذ.

* * *

ملاحظة

كيف حرّفت هذه الآية من قبل بني أمية؟

ورد في رواية أنّ «معاوية» أرسل رسالة إلى «مروان» ـ وإليه على المدينة ـ

__________________

(١) (من) في (ممّا عملوا) للابتداء ـ أو كما تسمى نشوية ـ أو بمعنى التعليل ، أي : من أجل ما عملوا.

(٢) «درك» ـ بسكون الوسط ـ ودرك ـ بفتحه ـ بمعنى أعمق نقطة في العمق ، وجاءت ـ أحيانا ـ الدرك ـ بالفتحة ـ بمعنى الخسارة ، والدرك ـ بالسكون ـ بمعنى فهم الشيء وإدراكه ، لمناسبته الوصول إلى عمقه وحقيقته.

٢٧٥

يأمره بأخذ البيعة من الناس لابنه يزيد ، وكان «عبد الرحمن بن أبي بكر» حاضرا في المجلس ، فقال : يريد معاوية أن يجعل هذا الأمر هرقليا وكسرويا ـ ملكي الروم وفارس ـ إذا مات الآباء جعلوا أبناءهم مكانهم ، وإن لم يكونوا أهلا لذلك ، أو كانوا فساقا؟

فصاح مروان من على المنبر : صه ، فأنت الذي نزلت فيه :( وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما ) .

وكانت «عائشة» حاضرة ، فقالت : كذبت ، وإنّي لأعلم فيمن نزلت هذه الآية ، ولو شئت لأخبرتك باسمه ونسبه ، لكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعن أباك وأنت في صلبه ، فأنت فضض من لعنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

أجل ولقد كان ذنب عبد الرحمن عشقه ومحبّته لأمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، وهو أمر كان يسوء بني أمية كثيرا ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإنّه كان مخالفا لصيرورة الخلافة وراثية ، وتبديلها إلى سلطنة ، وكان يعتبر أخذ البيعة ليزيد نوعا من الانحراف نحو الكسروية والهرقلية ، ولذلك أصبح غرضا لأعداء الإسلام الألداء ، أي آل أميّة ، فحرّفوا آيات القرآن فيه.

وكم هو مناسب الجواب الذي أجابت به عائشة مروان بأنّ الله سبحانه لعن أباك إذ كنت خلفه ، وهو إشارة إلى الآية (٦٠) من سورة الإسراء حيث تقول :( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) (٢) .

* * *

__________________

(١) أبو الفتوح الرازي في تفسيره ، المجلد ١٠ ، صفحة ١٥٩ ، ونقل هذه الرواية بتفاوت يسير في مجلد ٩ ، صفحة ٦٠١٧.

(٢) يراجع لتفسير هذه الآية ذيل الآية (٦٠) من سورة الإسراء. وينبغي الالتفات إلى أنّ «مروان بن الحكم» هو ابن «أبي العاص» ، وهذا بدوره ابن «أميّة» أيضا.

٢٧٦

الآية

( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠) )

التّفسير

الزهد والادخار للآخرة :

تستمر هذه الآية في البحث حول عقوبة الكافرين والمجرمين ، وتذكر جانبا من أنواع العذاب الجسمي والروحي

الذي سينال هؤلاء ، فتقول :( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا ) (١) .

نعم ، فقد كنتم غارقين في الشهوات ، ولم تكونوا تعرفون شيئا إلّا التمتع بطيّبات هذا العالم ونعمه المادية ، ومن أجل أن تكونوا متحللين من كلّ القيود في هذا المجال ، أنكرتم المعاد لتطلقوا لأنفسكم العنان ، وسخرتم هذه المواهب من أجل إنزال كلّ أنواع الظلم والجور بحق الآخرين.

__________________

(١) (يوم) ظرف متعلق بفعل محذوف يستفاد من الجمل التالية ، والتقدير : ويوم يعرض الذين كفروا على النّار يقال لهم أذهبتم طيّباتكم

٢٧٧

( فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ) فاليوم ترون جزاء كلّ ذلك التمتع الباطل ، واتباع الشهوات الأعمى ، وعبادة الهوى ، والاستكبار والفسق والفجور وتذوقون العذاب المذل والمهين بسبب تلكم الأعمال.

* * *

بحوث

١ ـ تقول هذه الآية : إنّ الكفار يعرضون على النّار في القيامة ، وقد ورد نظير هذا في الآية (٤٦) من سورة المؤمنين حول عذاب الفراعنة في البرزخ ، إذ تقول :( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ) في حين أنّنا نقرأ في بعض آيات القرآن الأخرى أنّ جهنّم تعرض على الكافرين :( وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً ) (١) .

لذلك قال بعض المفسّرين : إنّ في القيامة نوعين من العرض : فقبل الحساب تعرض جهنّم على المجرمين ليملأ وجودهم الخوف والهلع ، وهذا بحدّ ذاته عقاب وعذاب نفسي ، وبعد الحساب وإلقائهم في جهنّم يعرضونهم على عذاب الله(٢) .

وقال البعض : إنّ في العبارة نوع قلب ، وإنّ المراد من عرض الكفار على النّار هو عرض النّار على الكافرين ، إذ لا عقل ولا إدراك للنار حتى يعرض عليها الكافرون ، في حين أنّ العرض يتم في الموارد التي يكون المعروض عليه فيها ذا شعور وإدراك.

لكن لا يمكن أن يرد على هذا الجواب بأنّ بعض الآيات ذكرت وجود إدراك وشعور لدى النّار ، حتى أنّ الله سبحانه يخاطبها وتجيب ، فيقول سبحانه :( هَلِ

__________________

(١) الكهف ، الآية ١٠٠.

(٢) تفسير الميزان ، المجلد ١٨ ، صفحة ٢٢٣ ذيل الآيات مورد البحث.

٢٧٨

امْتَلَأْتِ ) فتقول :( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) (١) .

والحق أنّ حقيقة العرض هي رفع الموانع بين شيئين حتى يتقابلا ويكونا وجها لوجه ، وكذا الحال بالنسبة إلى الكافرين والنّار ، فإنّ الحواجز ترفع من بينهما ، فيمكن القول في هذه الصورة : إنّ الكافرين يعرضون على النّار ، كما تعرض عليهم ، وكلا التعبيرين صحيح.

وعلى أية حال ، فلا حاجة لأن نعتبر العرض بمعنى الدخول في النّار كما ذكره «الطبرسي» في مجمع البيان ، بل إنّ هذا العرض بحدّ ذاته نوع من العذاب الأليم المرعب ، حيث يرى الكافرون بأعينهم كلّ أقسام جهنّم من الخارج قبل أن يردوها ، وليشاهدوا مصيرهم المشؤوم ويتعذّبوا ويتألموا له.

٢ ـ إنّ جملة :( أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ ) تعني التمتع بلذائذ الدنيا ، والتعبير بـ «أذهبتم» لأنّ هذه اللذائذ والنعم تفنى بالتمتع بها واستهلاكها.

ومن المسلّم أنّ التمتع بمواهب الله ونعمه في هذه الدنيا ليس أمرا مذموما قبيحا ، بل المذموم هو الغرق في اللذات المادية ، ونسيان ذكر الله والقيامة ، أو التمتع بها بصورة غير مشروعة والتلوث بالمعاصي عن طريقها ، وغصب حقوق الآخرين فيما يتعلق بها.

وممّا يلفت الانتباه أنّ هذا التعبير لم يرد إلّا في هذه الآية من القرآن الكريم ، وهو إشارة إلى أنّ الإنسان يعزب أحيانا عن لذات الدنيا ويعرض عنها ، أو أنّه لا يأخذ منها إلّا ما يقوّم به صلبه ، ويتقوّى به على القيام بالواجبات الإلهية ، وكأنّه في هذه الصورة قد ادخر هذه الطيبات لآخرته.

غير أنّ الكثيرين يتكالبون على هذه التمتعات الدنيوية كالحيوانات ولا يحدّهم شيء في الالتذاذ بهذه الطيبات وافنائها جميعا ، ولا يكتفون بعدم ادخار شيء لآخرتهم ، بل يحملون معهم أحمالا من الأوزار ، ولهؤلاء يقول القرآن :( أَذْهَبْتُمْ

__________________

(١) سورة ق ، الآية ٣٠.

٢٧٩

طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا ) .

وقد نقل في بعض كتب اللغة أنّ المراد من الجملة : أنفقتم طيبات ما رزقتم في شهواتكم وفي ملاذ الدنيا ، ولم تنفقوها في مرضاة الله(١) .

٣ ـ للطيبات معنى واسع يشمل كلّ مواهب الدنيا ، ومع أنّ بعض المفسّرين قد فسّرها بقوّة الشباب فقط ، إلّا أنّ الحق هو أنّ الشباب يمكن أن يكون مصداقا لا غير.

٤ ـ إنّ التعبير بـ( عَذابَ الْهُونِ ) بمثابة ردّ فعل لاستكبار هؤلاء في الأرض ، لأنّ العقوبة الإلهية ، تتناسب تماما مع نوع الذنب والمعصية ، فأولئك الذين تكبّروا على خلق الله ، بل وحتى على أنبيائه ، ولم يخضعوا لأي تشريع إلهي ، يجب أن يلاقوا جزاءهم بذلة وحقارة ومهانة.

٥ ـ لقد ذكر في ذيل هذه الآية ذنبان لأصحاب الجحيم ، الأوّل : الاستكبار ، والثّاني : الفسق. ويمكن أن يكون الأوّل إشارة إلى عدم إيمانهم بآيات الله وبعث عن ترك أصول الدين ، والآخر عن تضييع فروع الدين(٢) .

٦ ـ إنّ التعبير بغير الحق لا يعني أنّ الاستكبار نوعان : حق ، وغير حق ، بل إنّ هذه التعابير تقال عادة للتأكيد ، ونظائرها كثير.

٧ ـ زهد الأئمة العظماء

لقد وردت في مختلف مصادر الحديث والتّفسير روايات كثيرة عن زهد أئمّة الإسلام العظماء ، واستندوا فيه بالخصوص إلى الآية مورد البحث ، ومن جملتها : جاء في حديث أنّ عمر أتى يوما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مشربة أم إبراهيم ـ وهو

__________________

(١) مجمع البحرين ، مادة ذهب.

(٢) تفسير الميزان ، المجلد ١٨ ، صفحة ٢٢٤.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592