الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177374 / تحميل: 5801
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

للبطش بالمسلمين والفتك بهم.

وكما قلنا سابقا ، فإنّ هذه الطائفة هي الوحيدة من الطوائف الثلاث (بنو القينقاع ، وبنو النضير ، وبنو قريظة) التي بقيت في المدينة عند نشوب معركة الأحزاب ، فقد طردت الطائفتان الأوّليان في السنة الثّانية والرّابعة للهجرة ، وكان يجب أن تعاقب هذه الطائفة على أعمالها الخبيثة وجرائمها ، لأنّها كانت أوقح من الجميع وأكثر علانية في نقضها لميثاقها واتّصالها بأعداء الإسلام.

٢ ـ أحداث غزوة بني قريظة

قلنا : إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد امر بعد انتهاء معركة الأحزاب مباشرة أن يحاسب بني قريظة على أعمالهم ، ويقال : إنّ المسلمين قد تعجّلوا الوصول إلى حصون بني قريظة بحيث إنّ البعض قد غفل عن صلاة العصر فاضطّروا إلى قضائها فيما بعد ، فقد أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن تحاصر حصونهم ، ودام الحصار خمسة وعشرين يوما ، وقد ألقى اللهعزوجل الرعب الشديد في قلوب اليهود ، كما يتحدّث القرآن عن ذلك.

فقال «كعب بن أسد» ـ وكان من زعماء اليهود ـ : إنّي على يقين من أنّ محمّدا لن يتركنا حتّى يقاتلنا ، وأنا أقترح عليكم ثلاثة امور اختاروا أحدها :

إمّا أن نبايع هذا الرجل ونؤمن به ونتّبعه ، فإنّه قد ثبت لكم أنّه نبي الله ، وأنتم تجدون علاماته في كتبكم ، وعند ذلك ستصان أرواحكم وأموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، فقالوا : لا نرجع عن حكم التوراة أبدا ، ولا نقبل بدلها شيئا.

قال : فإذا رفضتم ذلك ، فتعالوا نقتل نساءنا وأبناءنا بأيدينا حتّى يطمئن بالنا من قبلهم ، ثمّ نسلّ السيوف ونقاتل محمّدا وأصحابه ونرى ما يريده الله ، فإن قتلنا لم نقلق على أبنائنا ونسائنا ، وإن انتصرنا فما أكثر النساء والأولاد. فقالوا : أنقتل هؤلاء المساكين بأيدينا؟! إذن لا خير في حياتنا بعدهم.

قال كعب بن أسد : فإن أبيتم هذا أيضا فإنّ الليلة ليلة السبت ، وأنّ محمّدا

٢٢١

وأصحابه يظنون أنّنا لا نهجم عليهم الليلة ، فهلمّوا نبيّتهم ونباغتهم ونحمل عليهم لعلّنا ننتصر عليهم. فقالوا : ولا نفعل ذلك ، لأنّا لا نهتك حرمة السبت أبدا.

فقال كعب : ليس فيكم رجل يعقل ليلة واحدة منذ ولدته امّه.

بعد هذه الحادثة طلبوا من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يرسل إليهم «أبا لبابة» ليتشاوروا معه ، فلمّا أتاهم ورأى أطفال اليهود يبكون أمامه رقّ قلبه ، فقال الرجال : أترى لنا أن نخضع لحكم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فقال أبو لبابة : نعم ، وأشار إلى نحره ، أي إنّه سيقتلكم جميعا!

يقول أبو لبابة : ما إن تركتهم حتّى انتبهت لخيانتي ، فلم آت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة ، بل ذهبت إلى المسجد وأوثقت نفسي بعمود فيه وقلت : لن أبرح مكاني حتّى يقبل الله توبتي ، فقبل الله توبته لصدقه وغفر ذنبه وأنزل( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ) .(١)

وأخيرا اضطرّ بنو قريظة إلى أن يستسلموا بدون قيد أو شرط ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألا ترضون أن يحكم فيكم سعد بن معاذ»؟ قالوا : بلى ،فقال سعد : قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.

ثمّ أخذ سعد الإقرار من اليهود مجدّدا بأنّهم يقبلون بما يحكم ، وبعدها التفت إلى حيث كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واقفا فقال : حكمي فيهم نافذ؟ قال : نعم ، فقال : انّني أحكم بقتل رجالهم المحاربين ، وسبي نسائهم وذراريهم ، وتقسيم أموالهم.

وقد أسلم جمع من هؤلاء فنجوا(٢) .

٣ ـ نتائج غزوة بني قريظة

إنّ الإنتصار على أولئك القوم الظالمين العنودين قد حمل معه نتائج مثمرة للمسلمين ، ومن جملتها :

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية ١٠٢.

(٢) سيرة ابن هشام ، المجلّد ٣ ، صفحة ٢٤٤ وما بعدها ، والكامل لابن الأثير ، ج ٢ ، ص ١٨٥ وما بعدها بتلخيص.

٢٢٢

أ ـ تطهير الجبهة الداخلية للمدينة ، واطمئنان المسلمين وتخلّصهم من جواسيس اليهود.

ب ـ سقوط آخر دعامة لمشركي العرب في المدينة ، وقطع أملهم من إثارة القلاقل والفتن داخليا.

ج ـ تقوية بنية المسلمين المالية بواسطة غنائم هذه الغزوة.

د ـ فتح آفاق جديدة للانتصارات المستقبلية ، وخاصة فتح «خيبر».

ه ـ تثبيت مكانة الحكومة الإسلامية وهيبتها في نظر العدوّ والصديق ، في داخل المدينة وخارجها.

٤ ـ الآيات وتعبيراتها العميقة!

إنّ من جملة التعبيرات التي تلاحظ في الآيات أعلاه أنّها تقول في مورد قتلى هذه الحرب :( فَرِيقاً تَقْتُلُونَ ) أي أنّها قدّمت (فريقا) على (تقتلون) في حين أنّها أخّرت (فريقا) عن الفعل «تأسرون»!

وقال بعض المفسّرين في تفسير ذلك : إنّ سبب هذا التعبير هو التأكيد على الأشخاص في مسألة القتلى ، لأنّ رؤساءهم كانوا في جملة القتلى ، أمّا الأسرى فإنّهم لم يكونوا أناسا معروفين ليأتي التأكيد عليهم. إضافة إلى أنّ هذا التقديم والتأخير أدّى إلى أن يقترن «القتل والأسر» ـ وهما عاملا الإنتصار على العدو ـ ويكون أحدهما إلى جنب الآخر ، مراعاة للانسجام بين الأمرين أكثر.

وكذلك ورد إنزال اليهود من «صياصيهم» قبل جملة :( وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ) في حين أنّ الترتيب الطبيعي على خلاف ذلك ، أي أنّ الخطوة الاولى هي إيجاد الرعب ، ثمّ إنزالهم من الحصون المنيعة. وسبب هذا التقديم والتأخير هو أنّ المهمّ بالنسبة للمسلمين ، والمفرّح لهم ، والذي كان يشكّل الهدف الأصلي هو تحطيم هذه القلاع المحصّنة جدّا.

٢٢٣

والتعبير بـ( أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ ) يبيّن حقيقة أنّ الله سبحانه قد سلّطكم على أراضيهم وديارهم وأموالهم دون أن تبذلوا كثير جهد في هذه الغزوة.

وأخيرا فإنّ التأكيد على قدرة اللهعزوجل في آخر آية :( وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ) إشارة إلى أنّه سبحانه قد هزم الأحزاب بالرياح والعواصف والجنود الغيبيين يوما ، وهزم ناصريهم ـ أي يهود بني قريظة ـ بجيش الرعب والخوف يوما آخر.

* * *

٢٢٤

الآيات

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) )

سبب النّزول

ذكر المفسّرون أسباب نزول عديدة للآيات أعلاه ، وهي لا تختلف عن بعضها كثيرا من جهة النتيجة.

ويستفاد من أسباب النّزول هذه أنّ نساء النّبي قد طلبن منه طلبات مختلفة فيما يتعلّق بزيادة النفقة ، أو لوازم الحياة المختلفة ، بعد بعض الغزوات التي وفّرت للمسلمين غنائم كثيرة.

٢٢٥

وطبقا لنقل بعض التفاسير فإنّ «أمّ سلمة» طلبت من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خادما لها ، وطلبت «ميمونة» حلّة ، وأرادت «زينب بنت جحش» قماشا يمنيا خاصّا ، و «حفصة» لباسا مصريا ، و «جويرية» لباسا خاصّا ، و «سودة» بساطا خيبريا! والنتيجة أنّ كلا منهنّ طلبت شيئا. فامتنع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن تلبية طلباتهنّ ، وهو يعلم أنّ الاستسلام أمام هذه الطلبات التي لا تنتهي سيحمل معه عواقب وخيمة ، واعتزلهنّ شهرا ، فنزلت الآيات أعلاه وخاطبتهنّ بنبرة التهديد والحزم الممتزج بالرأفة والرحمة ، بأنكنّ إن كنتنّ تردن حياة مملوءة بزخارف الدنيا وزبارجها فبإمكانكن الانفصال عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والذهاب إلى حيث تردن ، وإن فضّلتنّ علاقتكنّ بالله ورسوله واليوم الآخر ، واقتنعتنّ بحياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله البسيطة والباعثة على الفخر ، فابقين معه ، وتنعمنّ بمواهب الله العظيمة.

بهذا الجواب القاطع أجابت الآيات نساء النّبي اللائي كن يتوقّعن رفاهية العيش ، وخيّرتهنّ بين «البقاء» مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله و «مفارقته».

* * *

التّفسير

أمّا السعادة الخالدة أو زخارف الدنيا!

لم يعزب عن أذهانكم أنّ الآيات الاولى من هذه السورة قد توّجت نساء النّبي بتاج الفخر حيث سمّتهنّ بـ (أمهات المؤمنين) ومن البديهي أنّ المناصب والمقامات الحسّاسة التي تبعث على الفخر تصاحبها مسئوليات ثقيلة ، فكيف يمكن أن تكون نساء النّبي امّهات المؤمنين وقلوبهنّ وأفكارهنّ مشغولة بحبّ الدنيا ومغرياتها؟

وهكذا ظننّ ، فإنّ الغنائم إذا سقطت في أيدي المسلمين فلا شكّ أنّ نصيبهنّ سيكون أفخرها وأثمنها كبقيّة نساء الملوك والسلاطين ، ويعطى لهنّ ما ناله

٢٢٦

المسلمون بتضحيات الفدائيين الثائرين ودماء الشهداء الطاهرة ، في الوقت الذي يعيش هنا وهناك أناس في غاية العسرة والشظف.

وبغضّ النظر عن ذلك ، فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يجب أن لا يكون لوحده أسوة للناس بحكم الآيات السابقة ، بل يجب أن تكون عائلته أسوة لباقي العوائل أيضا ، ونساؤه قدوة للنساء المؤمنات حتّى تقوم القيامة ، فليس النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ملكا وإمبراطورا ليكون له جناح خاصّ للنساء ، ويغرق نساءه بالحليّ والمجوهرات الثمينة النفيسة.

وربّما كان هناك جماعة من المسلمين المهاجرين الذين وردوا المدينة لا يزالون يقضون ليلهم على الصفّة (وهي مكان خاصّ كان إلى جنب مسجد النّبي) حتّى الصباح ، ولم يكن لهم في تلك المدينة أهل ولا دار ، وفي مثل هذه الأحوال لا يمكن أن يسمح النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأزواجه أن يتوقّعن كلّ تلك الرفاهية والتوقّعات الاخرى.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ بعض أزواجه قد كلّمنه بكلام خشن جاف ، حتّى أنّهنّ قلن : لعلّك تظنّ إن طلّقتنا لا نجد زوجا من قومنا غيرك(١) . هنا امر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يواجه هذه المسألة بحزم تامّ ، ويوضّح لهنّ حاله الدائمي ، فخاطبت الآية الاولى من الآيات أعلاه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً ) .

«امتّعكن» من مادّة متعة ، وكما قلنا في الآية (٢٣٦) من سورة البقرة ، فإنّها تعني الهدية التي تلائم أحوال المرأة. والمراد هنا المقدار المناسب الذي يضاف على المهر ، وإن لم يكن المهر معيّنا فإنّه يعطيها هدية لائقة بحالها بحيث ترضيها وتسرّها ، ويتمّ طلاقها وفراقها في جوّ هادئ مفعم بالحبّ.

«السراح» في الأصل من مادّة (سرح) أي الشجرة التي لها ورق وثمر ، و

__________________

(١) كنز العرفان ، المجلّد ٢ ، ص ٢٣٨.

٢٢٧

«سرّحت الإبل» ، أي : أطلقتها لتأكل من الأعشاب وأوراق الشجر ، ثمّ أطلقت بمعنى أوسع على كلّ نوع من السراح ولكلّ شيء وشخص ، وتأتي أحيانا كناية عن الطلاق ، ويطلق (تسريح الشعر) على تمشيط الشعر وترجيله ، وفيه معنى الإطلاق أيضا. وعلى كلّ حال فإنّ المراد من «السراح الجميل» في الآية طلاق النساء وفراقهنّ فراقا مقترنا بالإحسان ، وليس فيه جبر وقهر.

وللمفسّرين وفقهاء المسلمين هنا بحث مفصّل في أنّه هل المراد من هذا الكلام أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد خيّر نساءه بين البقاء والفراق ، وإذا ما انتخبن الفراق فإنّه يعتبر طلاقا بحدّ ذاته فلا يحتاج إلى إجراء صيغة الطلاق؟ أم أنّ المراد هو أنّهنّ يخترن أحد السبيلين ، فإن أردن الفراق أجرى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله صيغة الطلاق ، وإلّا يبقين على حالهنّ؟

ولا شكّ أنّ الآية لا تدلّ على أيّ من هذين الأمرين ، وما تصوّره البعض من أنّ الآية شاهد على تخيير نساء النّبي ، وعدّوا هذا الحكم من مختصّات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّه لا يجري في سائر الناس ، لا يبدو صحيحا ، بل إنّ الجمع بين الآية أعلاه وآيات الطلاق يوجب أن يكون المراد الفراق عن طريق الطلاق.

وهذه المسألة مورد نقاش بين فقهاء الشيعة والسنّة ، إلّا أنّ القول الثّاني ـ أي الفراق عن طريق الطلاق ـ يبدو أقرب لظواهر الآيات ، إضافة إلى أنّ لتعبير (أسرحكنّ) ظهورا في أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقدّم على تسريحهنّ ، خاصّة وأنّ مادّة «التسريح» قد استعملت بمعنى الطلاق في موضع آخر من القرآن الكريم (سورة البقرة / الآية ٢٢٩)(١) .

وتضيف الآية التالية :( وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ) .

__________________

(١) طالع التوضيح الأكثر في هذا الباب في الكتب الفقهية ، وخاصة كتاب الجواهر ، المجلّد ٢٩ ، صفحة ١٢٢ وما بعدها.

٢٢٨

لقد جمعت هذه الآية كلّ أسس الإيمان وسلوكيات المؤمن ، فمن جهة عنصر الإيمان والإعتقاد بالله والرّسول واليوم الآخر ، ومن جهة اخرى البرنامج العملي وكون الإنسان في صفّ المحسنين والمحسنات ، وبناء على هذا فإنّ إظهار عشق الله وحبّه ، والتعلّق بالنّبي واليوم الآخر لا يكفي لوحده ، بل يجب أن تنسجم البرامج العملية مع هذا الحبّ والعشق.

وبهذا فقد بيّن الله سبحانه تكليف نساء النّبي وواجبهنّ في أن يكنّ قدوة وأسوة للمؤمنات على الدوام ، فإن هنّ تحلين بالزهد وعدم الاهتمام بزخارف الدنيا وزينتها ، واهتممن بالإيمان والعمل الصالح وتسامي الروح ، فإنّهن يبقين أزواجا للنبي ويستحقّنّ هذا الفخر ، وإلّا فعليهنّ مفارقته والبون منه.

ومع أنّ المخاطب في هذه الآية هو نساء النّبي إلّا أنّ محتوى الآيات ونتيجتها تشمل الجميع ، وخاصّة من كان في مقام قيادة الناس وإمامتهم وأسوة لهم ، فإنّ هؤلاء على مفترق الطرق دائما ، فإمّا أن يستغلّوا المنصب الظاهري للوصول إلى الحياة المادية المرفّهة ، أو البقاء على حرمانهم لنوال رضى الله سبحانه وهداية خلقه.

ثمّ تتناول الآية التالية بيان موقع نساء النّبي أمام الأعمال الصالحة والطالحة ، وكذلك مقامهنّ الممتاز ، ومسئولياتهنّ الضخمة بعبارات واضحة ، فتقول :( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) .

فأنتنّ تعشن في بيت الوحي ومركز النبوّة ، وعلمكنّ بالمسائل الإسلامية أكثر من عامّة الناس لارتباطكنّ المستمر بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولقائه ، إضافة إلى أنّ الآخرين ينظرون إليكنّ ويتّخذون أعمالكنّ نموذجا وقدوة لهم. بناء على هذا فإنّ ذنبكنّ أعظم عند الله ، لأنّ الثواب والعقاب يقوم على أساس المعرفة ، ومعيار العلم ، وكذلك مدى تأثير ذلك العمل في البيئة ، فإنّ لكنّ حظّا أعظم من العلم ، ولكنّ موقع

٢٢٩

حسّاس له تأثيره في المجتمع.

ويضاف إلى ذلك أنّ مخالفتكنّ تؤذي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة ، ومن جهة اخرى توجّه ضربة إلى كيانه ومركزه ، ويعتبر هذا بحدّ ذاته ذنبا آخر ، ويستوجب عذابا آخر.

والمراد من «الفاحشة المبيّنة» الذنوب العلنية ، ونعلم أنّ المفاسد التي تنجم عن الذنوب التي يقترفها أناس مرموقون تكون أكثر حينما تكون علنية.

ولنا بحث في مورد «الضعف» و «المضاعف» سيأتي في البحوث.

أمّا قولهعزوجل :( وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) فهو إشارة إلى أن لا تظنّن أنّ عذابكنّ وعقابكنّ عسير على الله تعالى ، وأنّ علاقتكنّ بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ستكون مانعة منه ، كما هو المتعارف بين الناس حيث يغضّون النظر عن ذنوب الأصدقاء والأقرباء ، أو يعيرونها أهميّة قليلة كلّا ، فإنّ هذا الحكم سيجري في حقّكنّ بكلّ صرامة.

أمّا في الطرف المقابل ، فتقول الآية :( وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً ) .

«يقنت» من القنوت ، وهو يعني الطاعة المقرونة بالخضوع والأدب(١) ، والقرآن يريد بهذا التعبير أن يأمرهنّ بأن يطعن الله ورسوله ، ويراعين الأدب مع ذلك تماما.

ونواجه هنا هذه المسألة مرّة اخرى ، وهي أنّ مجرّد ادّعاء الإيمان والطاعة لا يكفي لوحده ، بل يجب أن تلمس آثاره بمقتضى( وَتَعْمَلْ صالِحاً ) .

«الرزق الكريم» له معنى واسع يتضمّن كلّ المواهب المادية والمعنوية ، وتفسيره بالجنّة باعتبارها مجمعا لكلّ هذه المواهب.

* * *

__________________

(١) المفردات للراغب ، مادّة قنوت.

٢٣٠

بحث

لما ذا يضاعف ثواب وعقاب المرموقين؟

قلنا : إنّ هذه الآيات وإن كانت تتحدّث عن نساء النّبي بأنّهنّ إن أطعن الله فلهنّ أجر مضاعف ، وإن ارتكبن ذنبا مبيّنا فلهنّ عذاب الضعف بما اكتسبن ، إلّا أنّ الملاك والمعيار الأصلي لما كان امتلاك المقام والمكانة المرموقة ، والشخصية الاجتماعية البارزة ، فإنّ هذا الحكم صادق في حقّ الأفراد الآخرين الذين لهم مكانة ومركز اجتماعي مهمّ.

إنّ مثل هؤلاء الأفراد لا يرتبط سلوكهم وتصرفاتهم بهم خاصّة ، بل إنّ لوجودهم بعدين : بعد يتعلّق بهم ، وبعد يرتبط بالمجتمع ، ويمكن أن يكون نمط حياتهم سببا لهداية جماعة من الناس ، أو ضلال اخرى.

بناء على هذا فإنّ لأعمالهم أثرين : أحدهما فردي ، والآخر اجتماعي ، ولكلّ منهما ثواب وعقاب بهذا اللحاظ ، ولذلك نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد»(١) !

ومضافا إلى ذلك ، فإنّ العلاقة وثيقة بين مستوى العلمية ومقدار الثواب والعقاب ، كما ورد ذلك في بعض الأحاديث الشريفة ، حيث نقرأ : «إنّ الثواب على قدر العقل»(٢) .

وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «إنّما يداقّ الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا»(٣) .

بل ورد في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام : إذا بلغت النفس هاهنا ـ وأشار بيده إلى حلقه ـ لم يكن للعالم توبة ، ثمّ قرأ :( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ

__________________

(١) اصول الكافي ، المجلد الأول ، ص ٣٧ باب لزوم الحجة على العالم.

(٢) اصول الكافي ، الجزء الأول ، صفحة ٩ كتاب العقل والجهل.

(٣) المصدر السابق.

٢٣١

بِجَهالَةٍ ) (١) .

ومن هنا يتّضح أنّه ربّما كان معنى المضاعف والمرتين هنا هو الزيادة ، فقد تكون ضعفين حينا ، وتكون أضعافا مضاعفة حينا آخر ، تماما كما في الأعداد التي لها صفة التكثير ، خاصّة وأنّ الراغب يقول في مفرداته في معنى الضعف : ضاعفته : ضممت إليه مثله فصاعدا ـ تأمّلوا بدقّة ـ

والرواية التي ذكرناها قبل قليل حول التفاوت بين ذنب العالم والجاهل إلى سبعين ضعفا شاهد آخر على هذا الادّعاء.

إنّ تعدّد مراتب الأشخاص واختلاف تأثيرهم في المجتمع نتيجة اختلاف مكاناتهم الاجتماعية ، وكونهم أسوة يوجب أن يكون الثواب والعقاب الإلهي بتلك النسبة.

وننهي هذا البحث بحديث عن الإمام السجّاد عليّ بن الحسينعليهما‌السلام ، وذلك أنّ رجلا قال له : إنّكم أهل بيت مغفور لكم ، فغضب الإمام وقال : «نحن أحرى أن يجري فينا ما أجرى الله في أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من أن نكون كما تقول ، إنّا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر ، ولمسيئنا ضعفين من العذاب ، ثمّ قرأ الآيتين»(٢) .

* * *

__________________

(١) اصول الكافي ، المجلّد الأوّل ، صفحة ٣٨ باب لزوم الحجّة على العالم ، والآية (١٧) من سورة النساء.

(٢) مجمع البيان ، المجلّد ٨ ، صفحة ٣٥٤ ذيل الآية مورد البحث.

٢٣٢

الآيات

( يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) )

التّفسير

هكذا يجب أن تكون نساء النّبي!

كان الكلام في الآيات السابقة عن موقع نساء النّبي ومسئولياتهنّ الخطيرة ، ويستمرّ هذا الحديث في هذه الآيات ، وتأمر الآيات نساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بسبعة أوامر مهمّة.

فيقول سبحانه في مقدّمة قصيرة :( يا ـ نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ

٢٣٣

اتَّقَيْتُنَ ) فإنّ انتسابكنّ إلى النّبي من جانب ، ووجودكنّ في منزل الوحي وسماع آيات القرآن وتعليمات الإسلام من جانب آخر ، قد منحكن موقعا خاصّا بحيث تقدرن على أن تكن نموذجا وقدوة لكلّ النساء ، سواء كان ذلك في مسير التقوى أم مسير المعصية ، وبناء على هذا ينبغي أن تدركن موقعكنّ ، ولا تنسين مسئولياتكنّ الملقاة على عاتقكنّ ، واعلمن أنّكنّ إن اتقيتنّ فلكنّ عند الله المقام المحمود.

وبعد هذه المقدّمة التي هيّأتهنّ لتقبّل المسؤوليات وتحمّلها ، فإنّه تعالى أصدر أوّل أمر في مجال العفّة ، ويؤكّد على مسألة دقيقة لتتّضح المسائل الاخرى في هذا المجال تلقائيا ، فيقول :

( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) بل تكلّمن عند تحدثكنّ بجدّ وبأسلوب عاديّ ، لا كالنساء المتميّعات اللائي يسعين من خلال حديثهنّ المليء بالعبارات المحرّكة للشهوة ، والتي قد تقترن بترخيم الصوت وأداء بعض الحركات المهيّجة ، أن يدفعن ذوي الشهوات إلى الفساد وارتكاب المعاصي.

إنّ التعبير بـ( الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) تعبير بليغ جدّا ، ومؤدّ لحقيقة أنّ الغريزة الجنسية عند ما تكون في حدود الاعتدال والمشروعية فهي عين السلامة ، أمّا عند ما تتعدّى هذا الحدّ فإنّها ستكون مرضا قد يصل إلى حدّ الجنون ، والذي يعبّرون عنه بالجنون الجنسي ، وقد فصّل العلماء اليوم أنواعا وأقساما من هذا المرض النفسي الذي يتولّد من طغيان هذه الغريزة ، والخضوع للمفاسد الجنسية والبيئات المنحطّة الملوّثة.

ويبيّن الأمر الثّاني في نهاية الآية فيقولعزوجل : يجب عليكنّ التحدّث مع الآخرين بشكل لائق ومرضي لله ورسوله ، ومقترنا مع الحقّ والعدل :( وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) .

إنّ جملة( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ) إشارة إلى طريقة التحدّث ، وجملة :( وَقُلْنَ قَوْلاً

٢٣٤

مَعْرُوفاً ) إشارة إلى محتوى الحديث.

«القول المعروف» له معنى واسع يتضمّن كلّ ما قيل ، إضافة إلى أنّه ينفي كلّ قول باطل لا فائدة فيه ولا هدف من ورائه ، وكذلك ينفي المعصية وكلّ ما خالف الحقّ.

ثمّ إنّ الجملة الأخيرة قد تكون توضيحا للجملة الأولى لئلّا يتصوّر أحد أنّ تعامل نساء النّبي مع الأجانب يجب أن يكون مؤذيا وبعيدا عن الأدب الإسلامي ، بل يجب أن يتعاملن بأدب يليق بهنّ ، وفي الوقت نفسه يكون خاليا من كلّ صفة مهيّجة.

ثمّ يصدر الأمر الثالث في باب رعاية العفّة ، فيقول :( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ) .

«قرن» من مادّة الوقار ، أي الثقل ، وهو كناية عن التزام البيوت. واحتمل البعض أن تكون من مادّة (القرار) ، وهي لا تختلف عن المعنى الأوّل كثيرا(١) .

و «التبرّج» يعني الظهور أمام الناس ، وهو مأخوذ من مادّة (برج) ، حيث يبدو ويظهر لأنظار الجميع.

لكن ما هو المراد من «الجاهلية»؟

الظاهر أنّها الجاهلية التي كانت في زمان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم تكن النساء محجّبات حينها كما ورد في التواريخ ، وكنّ يلقين أطراف خمرهن على ظهورهنّ مع إظهار نحورهنّ وجزء من صدورهنّ وأقراطهنّ وقد منع القرآن الكريم أزواج النّبي من مثل هذه الأعمال.

ولا شكّ أنّ هذا الحكم عامّ ، والتركيز على نساء النّبي من باب التأكيد الأشدّ ، تماما كما نقول لعالم : أنت عالم فلا تكذب ، فلا يعني هذا أنّ الكذب مجاز ومباح

__________________

(١) طبعا يكون فعل الأمر (أقررن) في صورة كونها من مادّة القرار ، وحذفت الراء الاولى للتخفيف ، وانتقلت فتحة الراء إلى القاف ، ومع وجودها لا نحتاج إلى الهمزة ، وتصبح (قرن) ـ تأمّلوا جيّدا ـ

٢٣٥

للآخرين ، بل المراد أنّ العالم ينبغي أن يتّقي هذا العمل بصورة آكد.

إنّ هذا التعبير يبيّن أنّ جاهلية اخرى ستأتي كالجاهلية الاولى التي ذكرها القرآن ، ونحن نرى اليوم آثار هذا التنبّؤ القرآني في عالم التمدّن المادّي ، إلّا أنّ المفسّرين القدامى لم يتنبّؤوا ويعلموا بمثل هذا الأمر ، لذلك فقد جهدوا في تفسير هذه الكلمة ، ولذلك اعتبر البعض منهم الجاهلية الاولى هي الفاصلة بين «آدم» و «نوح» ، أو الفاصلة بين عصر «داود» و «سليمان» حيث كانت النساء تخرج بثياب يتّضح منها البدن ، وفسّروا الجاهلية العربية قبل الإسلام بالجاهلية الثّانية!

ولكن لا حاجة إلى هذه الكلمات كما قلنا ، بل الظاهر أنّ الجاهلية الاولى هي الجاهلية قبل الإسلام ، والتي أشير إليها في موضع آخر من القرآن الكريم ـ في الآية (١٤٣) من سورة آل عمران ، والآية (٥٠) من سورة المائدة ، والآية (٢٦) من سورة الفتح ـ والجاهلية الثّانية هي الجاهلية التي ستكون فيما بعد ، كجاهلية عصرنا. وسنبسط الكلام حول هذا الموضوع في بحث الملاحظات.

وأخير يصدر الأمر الرابع والخامس والسادس ، فيقول سبحانه :( وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) .

إذا كانت الآية قد أكّدت على الصلاة والزكاة من بين العبادات ، فإنّما ذلك لكون الصلاة أهمّ وسائل الاتّصال والارتباط بالخالقعزوجل ، وتعتبر الزكاة علاقة متينة بخلق الله ، وهي في الوقت نفسه عبادة عظيمة. وأمّا جملة :( أَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) فإنّه حكم كلّي يشمل كلّ البرامج الإلهية.

إنّ هذه الأوامر الثلاثة تشير إلى أنّ الأحكام المذكورة ليست مختّصة بنساء النّبي ، بل هي للجميع ، وإن أكّدت عليهنّ.

ويضيف الله سبحانه في نهاية الآية :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) .

إنّ التعبير بـ (إنّما) والذي يدلّ على الحصر عادة ـ دليل على أنّ هذه المنقبة

٢٣٦

خاصّة بأهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله . وجملة (يريد) إشارة إلى إرادة الله التكوينية ، وإلّا فإنّ الإرادة التشريعية ـ وبتعبير آخر لزوم تطهير أنفسهم ـ لا تنحصر بأهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ كلّ الناس مكلّفون بأن يتطهّروا من كلّ ذنب ومعصية.

من الممكن أن يقال : إنّ الإرادة التكوينية توجب أن يكون ذلك جبرا ، إلّا أنّ جواب ذلك يتّضح من ملاحظة البحوث التي أوردناها في مسألة كون الأنبياء والأئمّة معصومين ، ويمكن تلخيص ذلك هنا بأنّ للمعصومين أهلية اكتسابية عن طريق أعمالهم ، ولهم لياقة ذاتية موهوبة لهم من قبل الله سبحانه ، ليستطيعوا أن يكونوا أسوة للناس.

وبتعبير آخر فإنّ المعصومين نتيجة للرعاية الإلهية وأعمالهم الطاهرة ، لا يقدمون على المعصية مع امتلاكهم القدرة والإختيار في إتيانها ، تماما كما لا نرى عاقلا يرفع جمرة من النار ويضعها في فمّه ، مع أنّه غير مجبر ولا مكره على الامتناع عن هذا العمل ، فهذه الحالة تنبعث من أعماق وجود الإنسان نتيجة المعلومات والاطلاع ، والمبادئ الفطرية والطبيعية ، من دون أن يكون في الأمر جبر وإكراه.

ولفظة «الرجس» تعني الشيء القذر ، سواء كان نجسا وقذرا من ناحية طبع الإنسان ، أو بحكم العقل أو الشرع ، أو جميعها(١) . وما ورد في بعض الأحيان من تفسير «الرجس» بالذنب أو الشرك أو البخل والحسد ، أو الإعتقاد بالباطل ، وأمثال ذلك ، فإنّه في الحقيقة بيان لمصاديقه ، وإلّا فإنّ مفهوم هذه الكلمة عامّ وشامل لكلّ أنواع الحماقات بحكم (الألف واللام) التي وردت هنا ، والتي تسمّى بألف ولام الجنس.

و «التطهير» الذي يعني إزالة النجس ، هو تأكيد على مسألة إذهاب الرجس

__________________

(١) ذكر الراغب في مفرداته ، في مادّة (رجس) المعنى المذكور أعلاه ، وأربعة أنواع كمصاديق له.

٢٣٧

ونفي السيّئات ، ويعتبر ذكره هنا بصيغة المفعول المطلق تأكيدا آخر على هذا المعنى.

وأمّا تعبير( أَهْلَ الْبَيْتِ ) فإنّه إشارة إلى أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله باتّفاق علماء الإسلام والمفسّرين ، وهو الشيء الذي يفهم من ظاهر الآية ، لأنّ البيت وإن ذكر هنا بصيغة مطلقة ، إلّا أنّ المراد منه بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقرينة الآيات السابقة واللاحقة(١) .

إلّا أنّ هناك اختلافا في المقصود بأهل بيت النّبي هنا؟

اعتقد البعض أنّ هذا التعبير مختصّ بنساء النّبي ، لأنّ الآيات السابقة واللاحقة تتحدّث حول أزواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاعتبروا ذلك قرينة على مدّعاهم.

غير أنّ الانتباه إلى مسألة في الآية ينفي هذا الادّعاء ، وهي : أنّ الضمائر التي وردت في الآيات السابقة واللاحقة ، جاءت بصيغة ضمير النسوة ، في حين أنّ ضمائر هذه القطعة من الآية قد وردت بصيغة جمع المذكر ، وهذا يوحي بأنّ هناك معنى آخر هو المراد ، ولذلك خطا جمع آخر من المفسّرين خطوة أوسع واعتبر الآية شاملة لكلّ أفراد بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله رجالا ونساء.

ومن جهة اخرى فإنّ الرّوايات الكثيرة جدّا الواردة في كتب الفريقين تنفي شمول الآية لكلّ أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتقول : إنّ المخاطبين في الآية هم خمسة أفراد فقط ، وهم : محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ومع وجود النصوص الكثيرة التي تعتبر قرينة على تفسير الآية ، فإنّ التّفسير الذي يمكن قبوله هو التّفسير الثالث فقط ، أي اختصاص الآية بالخمسة الطيّبة.

والسؤال الوحيد الذي يبقى هنا هو : كيف يمكن أن يطرح مطلب في طيّات البحث في واجبات نساء النّبي ولا يشملهنّ هذا المطلب؟

__________________

(١) ما ذكره البعض من أنّ «البيت» هنا إشارة الى بيت الله الحرام ، وأهله هم «المتّقون» لا يتناسب مطلقا مع سياق الآيات. لأنّ الكلام في هذه الآيات عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأزواجه ، لا عن بيت الله الحرام ، ولا يوجد أيّ دليل على قولهم.

٢٣٨

وقد أجاب المفسّر الكبير العلّامة «الطبرسي» في مجمع البيان عن هذا السؤال فقال: ليست هذه المرّة الاولى التي نرى فيها في آيات القرآن أن تتّصل مع بعضها وتتحدّث عن مواضيع مختلفة ، فإنّ القرآن مليء بمثل هذه البحوث ، وكذلك توجد شواهد كثيرة على هذا الموضوع في كلام فصحاء العرب وأشعارهم.

وأضاف المفسّر الكبير صاحب الميزان جوابا آخر ملخّصه : لا دليل لدينا على أنّ جملة :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ) قد نزلت مع هذه الآيات ، بل يستفاد جيّدا من الرّوايات أنّ هذه القطعة قد نزلت منفصلة ، وقد وضعها الإمام مع هذه الآيات لدى جمعه آيات القرآن في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعده.

والجواب الثالث الذي يمكن أن يجاب به عن هذا السؤال هو : أنّ القرآن يريد أن يقول لزوجات النّبي : إنكنّ بين عائلة بعضها معصومون ، والذي يعيش في ظلّ العصمة ومنزل المعصومين فإنّه ينبغي له أن يراقب نفسه أكثر من الآخرين ، ولا تنسين أنّ انتسابكنّ إلى بيت فيه خمسة معصومين يلقي على عاتقكنّ مسئوليات ثقيلة ، وينتظر منه الله وعباده انتظارات كثيرة.

وسنبحث في الملاحظات القادمة ـ إن شاء الله تعالى ـ روايات السنّة والشيعة الواردة في تفسير هذه الآية.

وبيّنت الآية الأخيرة ـ من الآيات مورد البحث ـ سابع وظيفة وآخرها من وظائف نساء النّبي ، ونبّهتهن على ضرورة استغلال أفضل الفرص التي تتاح لهنّ في سبيل الإحاطة بحقائق الإسلام والعلم بها وبأبعادها ، فتقول :( وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ ) .

فإنكنّ في مهبط الوحي ، وفي مركز نور القرآن ، فحتّى إذا جلستن في البيوت فأنتنّ قادرات على أن تستفدن جيّدا من الآيات التي تدوّي في فضاء بيتكنّ ، ومن تعليمات الإسلام وحديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان يتحدّث به ، فإنّ كل نفس من أنفاسه درس ، وكلّ لفظ من كلامه برنامج حياة!

وفيما هو الفرق بين «آيات الله» و «الحكمة»؟ قال بعض المفسّرين : إنّ كليهما

٢٣٩

إشارة إلى القرآن ، غاية ما في الأمر أنّ التعبير بـ (الآيات) يبيّن الجانب الإعجازي للقرآن ، والتعبير بـ (الحكمة) يتحدّث عن المحتوى العميق والعلم المخفي فيه.

وقال البعض الآخر : إنّ «آيات الله» إشارة إلى آيات القرآن ، و «الحكمة» إشارة إلى سنّة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مواعظه وإرشاداته الحكيمة.

ومع أنّ كلا التّفسيرين يناسب مقام وألفاظ الآية ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب ، لأنّ التعبير بالتلاوة يناسب آيات الله أكثر ، إضافة إلى أنّ تعبير النّزول قد ورد في آيات متعدّدة من القرآن في مورد الآيات والحكمة ، كالآية (٢٣١) من سورة البقرة :( وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ ) ويشبهه ما جاء في الآية (١١٣) من سورة النساء.

وأخيرا تقول الآية :( إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً ) وهي إشارة إلى أنّه سبحانه مطّلع على أدقّ الأعمال وأخفاها ، ويعلم نيّاتكم تماما ، وهو خبير بأسراركم الدفينة في صدوركم.

هذا إذا فسّرنا «اللطيف» بالمطّلع على الدقائق والخفيات ، وأمّا إذا فسّر بصاحب اللطف ، فهو إشارة إلى أنّ الله سبحانه لطيف ورحيم بكنّ يا نساء النّبي ، وهو خبير بأعمالكنّ أيضا.

ويحتمل أيضا أن يكون التأكيد على «اللطيف» من جانب إعجاز القرآن ، وعلى «الخبير» باعتبار محتواه الحكمي. وفي الوقت نفسه لا منافاة بين هذه المعاني ويمكن جمعها.

* * *

بحوث

١ ـ آية التطهير برهان واضح على العصمة :

اعتبر بعض المفسّرين «الرجس» في الآية المذكورة إشارة إلى الشرك أو الكبائر ـ كالزنا ـ فقط ، في حين لا يوجد دليل على هذا التحديد ، بل إنّ إطلاق

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

موضع قرب المدينة ـ وكان مضطجعا على حصير من الخوص ، وجزء من بدنه الشريف على التراب ، وكانت تحت رأسه وسادة من ليف النخل ، فسلّم وجلس ، وقال : أنت نبيّ الله وأفضل خلقه ، هذا كسرى وقيصر ينامان على أسرة الذهب وفرش الديباج والحرير ، وأنت على هذا الحال؟! فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أولئك قوم عجلت طيّباتهم وهي وشيكة الانقطاع ، وإنّما أخرت لنا طيباتنا»(١) .

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه أتي يوما بحلوى ، فامتنع من تناولها ، فقالوا : أتراها حراما؟ قال : «لا ، ولكني أخشى أن تتوق نفسي فأطلبه ، ثمّ تلا هذه الآية :( أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا ) (٢) .

وجاء في حديث آخر : «أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام اشتهى كبدا مشوية على خبزة لينة ، فأقام حولا يشتهيها ، وذكر ذلك للحسنعليه‌السلام وهو صائم يوما من الأيّام فصنعها له ، فلما أراد أن يفطر قرّبها إليه ، فوقف سائل بالباب ، فقال : يا بني احملها إليه ، لا تقرأ صحيفتنا غدا :( أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها ) (٣) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ٨٨.

(٢) تفسير البرهان ، المجلد ٤ ، صفحة ١٧٥ ، ذيل الآية مورد البحث.

(٣) سفينة البحار ، الجزء الثاني ، مادة كبد.

٢٨١

الآيات

( وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) )

التّفسير

قوم عاد والريح المدمرة :

لما كان القرآن يذكر قضايا كلية ، ثمّ يتطرق إلى بيان مصاديق واضحة لها ،

٢٨٢

ليطبق تلك الكليات. فإنّه هنا يسلك نفس السبيل ، فبعد أن فصل حال المستكبرين المتمردين ، تطرّق إلى ذكر قصة قوم عاد الذين هم صورة واضحة لأولئك العتاة ، فتقول الآية :( وَاذْكُرْ أَخا عادٍ ) .

إنّ التعبير بالأخ يعكس منتهى صفاء هذا النّبي العظيم وحرصه على قومه ، وقد ورد هذا التعبير في القرآن المجيد ـ كما نعلم ـ في مورد عدة أنبياء عظام كانوا إخوة لأقوامهم حريصين رحماء بهم ، لم يبخلوا من أجلهم بأي نوع من الإيثار والتضحية.

ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى علاقة القرابة والرحم بين هؤلاء الأنبياء وأقوامهم.

ثمّ تضيف الآية :( إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ) .

«الأحقاف» ـ كما قلنا سابقا ـ تعني الكثبان الرملية التي تتشكل على هيئة مستطيل أو تعرجات ومنحنيات ، على أثر هبوب العواصف في الصحاري ، ويتّضح من هذا التعبير أنّ أرض قوم عاد كانت أرضا حصباء كبيرة.

وذهب البعض أنّها في قلب جزيرة العرب بين نجد والأحساء وحضرموت وعمان.

إلّا أنّ هذا المعنى يبدو بعيدا ، حيث يظهر من آيات القرآن الأخرى ـ في سورة الشعراء ـ أنّ قوم عاد كانوا يعيشون في مكان كثير المياه والأشجار الجميلة ، ومثل هذا الحال بعيد جدّا عن قلب الجزيرة.

وذهب جمع آخر من المفسّرين أنّها في الجزء الجنوبي للجزيرة حول اليمن ، أو في سواحل بحر العرب(١) .

واحتمل البعض أنّ الأحقاف كانت منطقة في أرض العراق في مناطق كلدة

__________________

(١) في ظلال القرآن ، ذيل الآيات مورد البحث.

٢٨٣

وبابل(١) .

ونقل عن الطبري أنّ الأحقاف اسم جبل في الشام(٢) .

لكن يبدو أنّ القول بأنّ هذه المنطقة تقع جنوب الجزيرة العربية قرب أرض اليمن ، هو الأقرب ، بملاحظة ملاءمته المعنى اللغوي للأحقاف ، وبملاحظة أنّ أرضهم كانت غزيرة المياه وفيرة الأشجار ، في نفس الوقت الذي لم تكن فيه بمأمن من العواصف الرملية.

وجملة :( وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ) إشارة إلى الأنبياء الذين بعثوا قبله ، بعضهم قريب عهد به ، وهم الذين عبّر عنهم القرآن بـ( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ) والبعض الآخر تقادمت الفترة الزمنية بينهم وبينه الذين عبّر عنهم بـ( مِنْ خَلْفِهِ ) .

أمّا ما احتمله البعض من أنّ المراد من هذه الجملة الأنبياء الذين جاؤوا قبل هود وبعده ، فيبدو بعيدا جدّا ، ولا ينسجم مع جملة :( وَقَدْ خَلَتِ ) التي تعني الزمن الماضي.

ولنر الآن ماذا كان محتوى دعوة هذا النّبي العظيم؟

يقول القرآن الكريم :( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) ثمّ هدّدهم بقوله :( إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) .

وبالرغم من أنّ التعبير بـ( يَوْمٍ عَظِيمٍ ) جاء بمعنى يوم القيامة غالبا ، إلّا أنّه أطلق أحيانا في آيات القرآن على الأيّام القاسية المرعبة التي مرّت على الأمم ، وهذا المعنى هو المراد هنا ، لأنّنا نقرأ في متابعة هذه الآيات أنّ قوم عاد قد ابتلوا بعذاب الله في يوم عسر مرعب وانتهى أمرهم.

إلّا أنّ هؤلاء القوم المتمردين وقفوا بوجه هذه الدعوة الإلهية ، وخاطبوا هودا :

__________________

(١) طبقا لنقل المرحوم الشعراني في هامش تفسير أبي الفتوح الرازي ، المجلد ١٠ ، صفحة ١٦٥.

(٢) المصدر السابق.

٢٨٤

( قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) .(١)

هاتين الجملتين تبيّنان بوضوح مدى انحراف هؤلاء القوم وتعصبهم ، فهم في الجملة الأولى يقولون : إنّ دعوتك كاذبة : لأنّها تخالف آلهتنا التي تعوّدنا على عبادتها ، وهي إرث ورثناه عن آبائنا.

ونراهم في الجملة الثّانية يطلبون وقوع العذاب! ذلك العذاب الذي إن نزل بهم فلا رجعة معه مطلقا ، وأي ذي لب يتمنّى نزول مثل هذا العذاب ، حتى وإن لم يكن لديه يقين بوقوعه؟

إلّا أنّ هوداعليه‌السلام قال في ردّه على هذا الطلب المتهور الذي يدل على الجنون :( قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ ) فهو الذي يعلم متى وفي أي ظروف ينزل عذاب الاستئصال ، فلا هو مرتبط بطلبكم وتمنيكم ، ولا هو تابع لرغبتي ، بل يجب أن يتمّ الهدف ويتحقق ، ألا وهو إتمام الحجّة عليكم ، فإنّ حكمته سبحانه تقتضي ذلك.

ثمّ يضيف :( وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ ) فهو مهمتي الأساسية ، ومسئوليتي الرئيسية ، أمّا اتخاذ القرار في شأن طاعة الله وأوامره فهو أمر يتعلق بكم ، وإرادة نزول العذاب ومشيئته تتعلق به سبحانه.

( وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ) وجهلكم هذا هو أساس تعاستكم وشقائكم ، فإنّ الجهل المقترن بالكبر والغرور وهو الذي يمنعكم من دراسة دعوة رسل الله ، ولا يأذن لكم في التحقيق فيها ذلك الجهل الذي يحملكم على الإصرار على نزول عذاب الله ليهلككم ، ولو كان لديكم أدنى وعي أو تعقل لكنتم تحتملون ـ على الأقل ـ وجود احتمال إيجابي في مقابل كلّ الاحتمالات السلبية ، والذي إذا ما تحقق فسوف لا يبقى لكم أثر.

وأخيرا لم تؤثر نصائح هودعليه‌السلام المفيدة ، وإرشاداته الأخوية في قساة القلوب أولئك ، وبدل أن يقبلوا الحق لجّوا في غيّهم وباطلهم ، وتعصبوا له ، وحتى نوحعليه‌السلام

__________________

(١) «لتأفكنا» من مادة «إفك» ، أي الكذب والانحراف عن الحق.

٢٨٥

كذّبه قومه بهذا الادعاء الواهي وهو أنّك إن كنت صادقا فيما تقول فأين عذابك الموعود؟

والآن ، وقد تمّت الحجة بالقدر الكافي ، وأظهر أولئك عدم أهليتهم للبقاء ، وعدم استحقاقهم للحياة ، فإنّ حكمة الله سبحانه توجب أن يرسل عليهم «عذاب الاستئصال» ، ذلك العذاب الذي يجتث كلّ شيء ولا يبقي ولا يذر.

وفجأة رأوا سحابا قد ظهر في الأفق ، واتسع بسرعة :( فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا ) (١) .

قال المفسّرون : إنّ المطر انقطع مدّة عن قوم عاد ، وأصبح الهواء حارا جافا خانقا ، فلمّا وقع بصر قوم عاد على السحب المظلمة الواسعة في الأفق البعيد ، وهي تتجه صوبهم فرحوا لذلك جدّا وهبّوا لاستقبالها ، وجاؤوا إلى جوانب الوديان والسهول ومجاري السيول والمياه. ليروا منظر نزول المطر المبارك ليحيوا من جديد ، وتسر بذلك نفوسهم.

لكن ، قيل لهم سريعا بأنّ هذا ليس سحابا ممطرا :( بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

والظاهر أنّ المتكلم بهذا الكلام هو الله سبحانه ، أو أنّ هودا لمّا سمع صرخات فرحهم واستبشارهم قال لهم ذلك.

نعم ، إنّها ريح مدمّرة :( تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها ) .

قال بعض المفسّرين : إنّ المراد من( كُلَّ شَيْءٍ ) البشر ودوابهم وأموالهم ، لأنّ الجملة التالية تقول :( فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ ) وهذا يوحي بأنّ مساكنهم كانت سالمة ، أمّا هم فقد هلكوا ، وألقت الرياح القوية أجسادهم في الصحاري البعيدة ، أو في البحر.

__________________

(١) «عارض» من مادة (عرض) ، وهنا بمعنى السحاب الذي ينتشر في عرض السماء ، وربّما كان هذا أحد علامات السحب الممطرة بأنّها تتسع في ذلك الأفق ثمّ تصعد. و «الأودية» جمع واد ، وهو المنخفض ومجرى السيول والمياه.

٢٨٦

وقال البعض : إنّهم لم يلتفتوا إلى أنّ هذه السحب السوداء هي رياح قوية مغبرة ، إلّا عند ما وصلت قريبا من ديارهم ، ورفعت دوابهم ورعاتهم ـ الذين كانوا في الصحاري المحيطة بهم ـ من الأرض ورمتهم في الهواء ، ورأوا أنّها تقتلع الخيام من مكانها وتلقيها في الهواء حتى كانت تبدو كالجواد!

عند ما رأوا ذلك المشهد ، فروا والتجأوا إلى دورهم وأغلقوا الأبواب عليهم ، إلّا أنّ الأعاصير اقتلعت الأبواب وألقتها على الأرض ـ أو حملتها معها ـ ورمت أجساد هؤلاء بالأحقاف ، وهي الرمال المتحركة.

وجاء في الآية (٧) من سورة الحاقة :( سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ ) وهكذا بقي هؤلاء القوم يئنّون تحت تل من الرمال والتراب ، ثمّ أزالت الرياح القوية التراب فظهرت أبدانهم مرّة أخرى ، فحملتها وألقتها في البحر(١) .

وتشير الآية في النهاية إلى حقيقة ، وهي أنّ هذا المصير غير مختص بهؤلاء القوم الضالين ، بل :( كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ) .

وهذا إنذار وتحذير لكلّ المجرمين العصاة ، والكافرين المعاندين الأنانيين ، بأنّكم إن سلكتم هذا الطريق فسوف لن يكون مصيركم أحسن حالا من هؤلاء ، فإنّه تعالى قد يأمر الرياح بأن تهلككم ، ذات الرياح التي يعبر القرآن الكريم بأنّها :( بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ) لأنّ الرياح تتصف بصفة الأمر الإلهي المطلوب منها.

وقد يبدل الأرض التي هي مهد استقرار الإنسان واطمئنانه ، إلى قبر له بزلزلة شديدة.

وقد يبدّل المطر الذي هو أساس حياة كلّ الكائنات الحية ، إلى سيول جارفة تغرق كل شيء.

نعم ، إنّهعزوجل يجعل جنود الحياة جنود موت وفناء ، وكم هو مؤلم الموت

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، المجلد ٢٨ ، صفحة ٢٨ ، ذيل الآيات مورد البحث ، وجاء هذا المعنى أيضا في تفسير القرطبي ، المجلد ٩ ، صفحة ٦٠٢٦.

٢٨٧

الذي يأتي من سبب الحياة وأساسها؟ خاصّة إذا كان الأمر كما في قوم هود إذ فرحوا وسروا في البداية ثمّ جاءتهم البطشة ليكون العذاب أشد وآلم.

والطريف أنّه يقول : إنّ هذه الرياح ، هي في الأصل أمواج هوائية لطيفة تتحوّل إعصار يدمّر كلّ شيء بأمر الله(١) .

* * *

__________________

(١) «تدمّر» من مادة تدمير ، وهو الإهلاك والإفناء.

٢٨٨

الآيات

( وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨) )

التّفسير

لستم بأقوى من قوم عاد أبدا :

إنّ هذه الآيات بمثابة استنتاج للآيات السابقة التي كانت تتحدث عن عقاب قوم عاد الأليم ، فتخاطب مشركي مكّة وتقول :( وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ

٢٨٩

فِيهِ ) (١) فقد كانوا أقوى منكم من الناحية الجسمية ، وأقدر منكم من ناحية المال والثروة والإمكانات المادية ، فإذا كان بإمكان القوّة الجسمية والمال والثروة والتطور المادي أن تنقذ أحدا من قبضة الجزاء الإلهي ، فكان ينبغي على قوم عاد أن يصمدوا أمام العاصفة ولا يكونوا كالقشة في مهب الرياح ، تتقاذفهم كيف شاءت ولا يبقى من آثارهم إلّا أطلال مساكنهم!

إنّ هذه الآية شبيهة بما ورد في سورة الفجر في شأن قوم عاد :( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ ) (٢) .

أو هي نظير ما جاء في الآية (٣٦) من سورة ق :( وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً ) .

وخلاصة القول : إنّ الذين كانوا أشدّ منكم وأقوى ، عجزوا عن الوقوف أمام عاصفة العذاب الإلهي ، فكيف بكم إذن؟

ثمّ تضيف الآية :( وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً ) (٣) فقد كانوا أقوياء في مجال إدراك الحقائق وتشخيصها أيضا ، وكانوا يدركون الأمور جيدا ، وكانوا يستغلون هذه المواهب الإلهية من أجل تأمين حاجاتهم ومآربهم المادية على أحسن وجه ، لكن :( فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ ) (٤) وأخيرا :( وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) .

نعم ، لقد كان أولئك مجهزين بالوسائل المادية ، وبوسائل إدراك الحقيقة ، إلّا أنّهم لما كانوا يتعاملون مع آيات الله بمنطق الاستكبار والعناد ، وكانوا يتلقون كلام

__________________

(١) «إن» في جملة (إن مكّناكم فيه) نافية ولدينا شواهد متعددة من آيات القرآن الكريم وردت في المتن. إلّا أنّ البعض اعتبرها شرطية ، أو زائدة ولا نرى ذلك صوابا.

(٢) الفجر ، الآيات ٦ إلى ٨.

(٣) يجدر الانتباه إلى أنّ الأبصار والأفئدة وردت بصيغة الجمع ، في حين أنّ السمع قد ورد بصيغة المفرد ، ويمكن أن يكون هذا الاختلاف بسبب أنّ للسمع معنى المصدر ، والمصدر يستعمل دائما بصيغة المفرد ، أو لوحدة المسموعات أما تفاوت المرئيات والمدركات.

(٤) من في (من شيء) زائدة وللتأكيد ، أي لم ينفعهم أي شيء.

٢٩٠

الأنبياء بالسخرية والاستهزاء ، لم ينفذ نور الحق إلى قلوبهم ، وهذا الكبر والغرور والعداء للحق هو الذي أدى إلى أنّ لا يستفيدوا ولا يستخدموا وسائل الهداية والمعرفة كالعين والأذن والعقل ، ليجدوا طريق النجاة ويسلكوه ، فكانت عاقبتهم أن ابتلوا بذلك المصير المشؤوم الذي أشارت إليه الآيات السابقة.

فإذا كان أولئك القوم قد عجزوا عن القيام بأي عمل مع كلّ تلك القدرات والإمكانيات التي كانوا يمتلكونها ، وأصبحت جثثهم الهامدة ، كالريشة في مهب الرياح تتقاذفهم من كلّ جانب بكلّ مذلة واحتقار ، أولى لكم أن تعتبروا إذا أنتم أضعف منهم وأعجز.

وليس عسيرا على الله تعالى أن يأخذكم بأشد العذاب نتيجة أعمالكم وجرائمكم ، وأن يجعل عوامل حياتكم أسباب فنائكم ، وهذا خطاب لمشركي مكّة ، ولكلّ البشر المغرورين الظالمين العتاة على مر التأريخ ، وفي كلّ الأعصار والأمصار.

وحقا فإنّ الأمر كما يقول القرآن الكريم ، فلسنا أوّل من وطأ الأرض ، فقد كان قبلنا أقوام كثيرون يعيشون فيها ، ولديهم الكثير من الإمكانيات والقدرات ، فكم هو جميل أن نجعل تأريخ أولئك مرآة لأنفسنا لنعتبر به ، ولنرى من خلاله مستقبلنا ومصيرنا.

ثمّ تخاطب الآية مشركي مكّة من أجل التأكيد على هذا المعنى ، ولزيادة الموعظة والنصيحة ، فتقول :( وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى ) .

أولئك الأقوام الذين لا تبعد أوطانهم كثيرا عنكم ، وكان مستقرهم في أطراف جزيرة العرب ، فقوم عاد كانوا يعيشون في أرض الأحقاف في جنوب الجزيرة ، وقوم ثمود في أرض يقال لها «حجر» في شمالها ، وقوم سبأ الذين لاقوا ذلك المصير المؤلم في أرض اليمن ، وقوم شعيب في أرض مدين في طريقكم الشام ، وكان قوم لوط يعيشون في هذه المنطقة ، وابتلوا بأنواع العذاب لكثرة معاصيهم وكفرهم.

٢٩١

لقد كان كلّ قوم من أولئك عبرة ، وكان كلّ منهم شاهدا ناطقا معبرا ، يسأل : كيف لا يستيقظ هؤلاء ولا يعون مع كلّ وسائل التوعية هذه؟!

ثمّ تضيف الآية بعد ذلك :( وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) فتارة أريناهم المعجزات وخوارق العادات ، وأخرى أنعمنا عليهم ، وثالثة بلوناهم بالبلاء والمصائب ، ورابعة عن طريق وصف الصالحين المحسنين ، وأخرى بوصف المجرمين ، وأخرى وعظناهم بعذاب الاستئصال الذي أهلكنا به الآخرين. إلّا أنّ الكبر والغرور والعجب لم يدع لهؤلاء سبيلا إلى الهداية.

وتوبخ الآية الأخيرة من هذه الآيات هؤلاء العصاة ، وتذمهم بهذا البيان :( فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً ) (١) .

حقّا ، إذا كانت هذه آلهة على حق ، فلما ذا لا تعين أتباعها وعبادها ، وتنصرهم في تلك الظروف الحساسة ، ولا تنقذهم من قبضة العذاب المهول المرعب؟ إنّ هذا بنفسه دليل محكم على بطلان عقيدتهم حيث كانوا يظنّون أنّ هذه الآلهة المخترعة هي ملجأهم وحماهم في يوم تعاستهم وشقائهم.

ثمّ تضيف :( بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ ) فإنّ هذه الموجودات التي لا قيمة لها ولا أهمية ، والتي ليست مبدأ لأي أثر ، ولا تأتي بأي فائدة ، وهي عند العسر صماء عمياء ، فكيف تستحق الألوهية وتكون أهلا لها؟

وأخيرا تقول الآية :( وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ ) فإنّ هذا الهلاك والشقاء ، وهذا العذاب الأليم ، واختفاء الآلهة وقت الشدّة والعسر ، كان نتيجة لأكاذيب أولئك وأوهامهم وافتراءاتهم(٢) .

* * *

__________________

(١) المفعول الأوّل لـ (اتخذوا) محذوف ، و (آلهة) مفعولها الثاني ، و (قربانا) حال ، والتقدير : اتخذوهم آلهة من دون الله حال كونهم متقربا بهم ، ويحتمل أيضا أن تكون (قربانا) مفعولا لأجله. وقد احتملت احتمالات أخرى في تركيب الآية ، لكنّها لا تستحق الاهتمام.

(٢) بناء على هذا فإنّ للآية محذوفا ، والتقدير : وذلك نتيجة إفكهم. ويحتمل أيضا أن لا يحتاج الآية إلى محذوف ، وفي هذه الحالة يصبح المعنى : كان هذا كذبهم وافتراءهم ، غير أنّ المعنى الأوّل يبدو هو الأنسب.

٢٩٢

الآيات

( وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢) )

سبب النّزول

وردت روايات مختلفة في سبب نزول هذه الآيات ، ومن جملتها : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج من مكّة إلى سوق عكاظ في الطائف ـ وكان معه زيد بن حارثة ـ من أجل أن يدعو الناس إلى الإسلام ، إلّا أنّ أحدا لم يجبه ، فاضطر الى الرجوع إلى مكّة ، وفي طريق عودته وصل إلى موضع يقال له : وادي الجن ، فبدأ بتلاوة القرآن

٢٩٣

في جوف الليل ، وكانت طائفة من الجن يمرون من هناك ، فلما سمعوا قراءة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للقرآن أصغوا إليه وقال بعضهم لبعض : اسكتوا وأنصتوا ، فلما أتمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلاوته آمنوا به ، وأتوا قومهم كرسل يدعونهم إلى الإسلام ، فآمن لهم جماعة ، وأتوا جميعا الى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعلّمهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإسلام ، فنزلت هذه الآيات وآيات سورة الجن(١) .

ونقل جماعة عن ابن عباس سبب نزول آخر يقرب من سبب النّزول السابق ، باختلاف : إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مشتغلا بصلاة الصبح وكان يقرأ القرآن فيها ، وكان جماعة من الجن في حالة بحث وتحقيق ، إذا كان انقطاع أخبار السماء عنهم قد أقلقهم ، فسمعوا صوت تلاوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : هذا سبب انقطاع أخبار السماء عنّا ، فرجعوا إلى قومهم ودعوهم إلى الإسلام(٢) .

وقد أورد العلّامة الطبرسي في مجمع البيان سببا ثالثا للنزول هنا ، وهو يرتبط بقصة سفر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الطائف وخلاصته :

بعد وفاة أبي طالب صعب الأمر على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرحل إلى الطائف لعله يجد أنصار ، فبرز إليه أشراف الطائف وكذّبوه أشدّ تكذيب ، ورموا النّبي بالحجارة حتى سالت الدماء من قدميه ، فأعياه التعب ، فأتى إلى جنب بستان واستظل بظل نخلة ، وكانت الدماء تسيل منه.

وكان البستان لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ، وكانا من أثرياء قريش ، فتأذى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من رؤيتهما لعلمه بعدائهما للإسلام من قبل ، فأرسلا غلامهما «عداسا» ـ وكان رجلا نصرانيا ـ إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطبق من العنب ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعداس : «من أي أرض أنت»؟ قال : من نينوى ، قال : «من مدينة العبد الصالح يونس بن

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم طبقا لنقل نور الثقلين ، المجلد ٥ ، صفحة ١٩ ، باختصار يسير.

(٢) ورد هذا الحديث الذي أوردنا ملخصه في صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد بصورة مفصلة ، طبقا لنقل في ظلال القرآن ، المجلد ٧ ، صفحة ٤٢٩.

٢٩٤

متى» ، فقال : وما يدريك من يونس بن متى؟ قال : «أنا رسول الله ، والله تعالى أخبرني خبر يونس بن متى» فعرف عداس صدق النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخرّ ساجدا لله تعالى ، ووقع على قدمي النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقبلهما.

فلما رجع لامه عتبة وشيبة على ما صنع ، فقال : لقد أخبرني هذا الرجل الصالح بما يجهله أهل هذه البلاد من أمر نبيّنا يونس ، فضحكا وقالا : لا يفتننك عن نصرانيتك ، فإنّه رجل خداع!

فرجع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مكّة ، ولم يكن حاصل سفره هذا إلّا مؤمن واحد ، فوصل نخلا في جوف الليل ، فما إن حلّ حتى تهيّأ للصلاة ، وكان جماعة من الجن من أهل نصيبين أو اليمن يمرون من هناك ، فسمعوا صوت تلاوة القرآن في صلاة الصبح فأصغوا إليه وآمنوا(١) .

* * *

التّفسير

إيمان طائفة من الجن :

جاء في هذه الآيات ـ وكما أشير في سبب النّزول ـ بحث مختصر حول إيمان طائفة من الجن بنبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتابه السماوي ، لتوضح لمشركي مكّة حقيقة ، هي : كيف تؤمن طائفة من الجن البعيدين ـ ظاهرا ـ بهذا النبي الذي هو من الإنس ، وبعث من بين أظهركم ، وأنتم تصرون على الكفر ، وتستمرون في عنادكم ومخالفتكم؟

وسيكون لنا بحث مفصل حول (الجن) وخصوصياته في تفسير سورة الجن إن شاء الله تعالى ، ونتناول هنا تفسير الآيات مورد البحث فقط.

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ٩٢. وأورد هذه القصة باختلاف يسير ابن هشام في تأريخه (السيرة النبوية) ، المجلد ٢ ، صفحة ٦٢ ـ ٦٣.

٢٩٥

لقد كانت قصة قوم عاد تحذيرا لمشركي مكّة في الحقيقة ، وقصة إيمان طائفة من الجن تحذيرا آخر.

تقول الآية أوّلا :( وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ) .

إنّ التعبير بـ (صرفنا) ـ من مادة صرف ، يعني نقل الشيء وتبديله من حالة إلى اخرى ـ ولعله إشارة إلى أنّ الجن كانوا يصغون إلى أخبار السماء عن طريق استراق السمع ، ومع ظهور نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجعوا إليه واتّجهوا نحو القرآن.

و «النفر» كما يقول الراغب في مفرداته ـ عدّة رجال يمكنهم النفر ، والمشهور بين أرباب اللغة أنّه الجماعة من الثلاثة إلى العشرة ، وأوصلها البعض إلى الأربعين.

ثمّ تضيف الآية :( فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا ) وذلك حينما كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتلو آيات القرآن في جوف الليل ، أو في صلاة الصبح.

«انصتوا» من مادة إنصات ، وهو السكوت مع الاستماع والانتباه.

وأخيرا أضاء نور الإيمان قلوب هؤلاء ، فلمسوا في أعماقهم كون آيات القرآن حقا ، ولذلك :( فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ) وهذا دأب المؤمنين دائما ، في أن يطلعوا الآخرين على الحقائق التي اطلعوا عليها ، ويدلوهم على مصادر إيمانهم ومنابعه الفياضة.

وتبيّن الآية التالية كيفية دعوة هؤلاء قومهم عند عودتهم إليهم ، تلك الدعوة المتناسقة الدقيقة ، الوجيزة والعميقة المعنى :( قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ) .

ومن صفاته أنّا رأيناه يصدق الكتب السماوية السالفة ويتطابق معها في محتواها ، وفيه العلائم الواردة في تلك الكتب :( مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ) (١) .

وصفته الأخرى أنّه :( يَهْدِي إِلَى الْحَقِ ) بحيث أنّ كلّ من يستند إلى عقله وفطرته يرى آيات حقانيته واضحة جلية.

__________________

(١) لقد أوردنا تفسير هذه الجملة مفصلا في ذيل الآية ٤١ من سورة البقرة.

٢٩٦

وآخر صفة أنّه يهدي إلى الرشد :( وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

إنّ التفاوت بين الدعوة إلى الحق والى الصراط المستقيم ، يكمن ظاهرا في أنّ الأوّل إشارة إلى العقائد الحقة ، والثّاني إلى البرامج العملية المستقيمة الصحيحة.

وجملة :( أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ) وجملة :( مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ) تؤيدان أنّ هذه الطائفة كانوا مؤمنين بالكتب السماوية السابقة ، وخاصة كتاب موسىعليه‌السلام ، وكانوا يبحثون عن الحق.

وإذا رأينا أنّ الكلام لم يرد عن كتاب عيسى الذي أنزل بعد موسىعليه‌السلام ، فليس ذلك بسبب ما روي عن ابن عباس من أنّ الجن لم يكونوا مطلعين على نزول الإنجيل مطلقا ، إذ أنّ الجن كانوا مطلعين على أخبار السماوات وعالمين بها ، فكيف يمكن أن يغفلوا عن أخبار الأرض إلى هذا الحد؟ بل بسبب أنّ التوراة كانت هي الكتاب الأساسي ، فحتى المسيحيون كانوا قد أخذوا ويأخذون أحكام شريعتهم عنها.

ثمّ أضافوا :( يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ ) إذ ستمنحون حينها مكافأتين عظيمتين :( يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) (١) .

المراد من :( داعِيَ اللهِ ) نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان يرشدهم إلى الله سبحانه ، ولما كان أغلب خوف الإنسان واضطرابه من الذنوب وعذاب القيامة الأليم ، فقد ذكروا لهم الأمن تجاه هذين الأمرين ، ليلفت انتباههم قبل كلّ شيء.

واعتبر جمع من المفسّرين كلمة (من) في (من ذنوبكم) زائدة ، ليكون ذلك تأكيدا على غفران جميع الذنوب في ظل الإيمان. في حين اعتبرها البعض تبعيضية ، وأنّها إشارة إلى تلك الذنوب التي اقترفوها قبل إيمانهم ، أو الذنوب التي تتعلق بالله سبحانه ، لا بحق الناس.

غير أنّ الأنسب هو كون (من) زائدة وللتأكيد ، والآية الشريفة تشمل كلّ

__________________

(١) «يجركم» من مادة (إجارة) ، وقد وردت بمعان مختلفة : الإغاثة ، الإنقاذ من العذاب الإيواء ، والحفظ.

٢٩٧

الذنوب.

وتذكر الآية الأخيرة ـ من هذه الآيات ـ كلام مبلغي الجن ، فتقول :( وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ ) ينصرونه من عذاب الله ، ولذلك فإنّ :( أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

أي ضلال أشد وأسوأ وأجلى من أن يهبّ الإنسان إلى محاربة الحق ونبيّ الله ، بل حتى إلى محاربة الله الذي لا ملجأ له سواه في كلّ عالم الوجود ، ولا يستطيع الإنسان أن يفر من حكومته إلى مكان آخر؟!

وقد قلنا مرارا : إنّ (معجز) ـ أو سائر مشتقات هذه الكلمة ـ تعني في مثل هذه الموارد العجز عن المطاردة والتعقيب والمجازاة ، وبتعبير آخر : الفرار من قبضة العقاب.

وعبارة (في الأرض) إشارة إلى أنّكم حيثما تذهبون في الأرض فإنّه ملك الله وسلطانه ، ولا يمكن أن تكونوا خارج حدود قدرته وقبضته ، وإذا كانت الآية لا تتحدث عن السماء ، فلأنّ مكان الإنس والجن هو الأرض على كلّ حال.

* * *

بحثان

١ ـ الإعلام المؤثر

كما قلنا سابقا ، فإنّ البحث حول الجن وكيفية حياتهم والخصوصيات الاخرى المتعلقة بهم ستأتي في تفسير سورة الجن إن شاء الله تعالى ، والذي يستفاد من هذه الآيات أنّ الجن موجودات عاقلة لها إدراك وشعور ، وهم مكلّفون بالواجبات الإلهية ، وفيهم المؤمن والكافر ، ولديهم الاطلاع الكافي على الدعوات الإلهية.

والمسألة الملفتة للنظر في هذه الآيات هو الأسلوب الذي اتبعه هؤلاء للتبليغ من أجل الإسلام بين قومهم ، فهم بعد حضورهم عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسماعهم آيات

٢٩٨

القرآن ، واطلاعهم على محتواها ، أتوا قومهم مسرعين وشرعوا بدعوتهم.

لقد تحدّثوا أوّلا عن كون القرآن حقّا ، وأثبتوا ذلك بأدلة ثلاثة ، ثمّ بدأوا بترغيبهم ، فبشروهم بالنجاة والخلاص من قبضة عذاب الآخرة في ظل الإيمان بهذا الكتاب السماوي ، وكان ذلك تأكيدا على مسألة المعاد من جانب ، وصرف الاهتمام إلى قيم الآخرة الأصيلة في مقابل قيم الدنيا الزائلة الفانية من جانب آخر.

ثمّ نبّهوهم في المرحلة الثّالثة على أخطار ترك الإيمان ، وحذروهم تحذيرا مقترنا بالاستدلال والحرص ، وأخيرا بيّنوا لهم عاقبة الانحراف عن هذا المسير ، فالانحراف عنه هو الضلال المبين.

إنّ هذا الأسلوب في التبليغ والإعلام أسلوب مؤثر نافع لكلّ فرد ولكلّ فئة.

٢ ـ أفضل دليل على عظمة القرآن محتواه

يظهر جليا من الآيات أعلاه ـ وآيات سورة الجن ـ أنّ هذه الفرقة من الجن قد انجذبوا إلى القرآن وانشدوا إليه بمجرّد سماع آياته ، ولا يوجد أي دليل على أنّهم قد طلبوا من نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معجزة أخرى.

لقد اعتبر هؤلاء انسجام القرآن المجيد مع آيات الكتب السابقة من جهة ، وأنّه يدعوا الى الحق من جهة ثانية ، واستقامة برامجه العملية وتخطيطه من جهة ثالثة ، كافيا لأن يدل على كونه حقّا.

والحق أنّ الأمر كذلك ، فإنّ التدبّر في محتوى القرآن والتحقيق فيه يغنينا عن الحاجة إلى أي دليل آخر.

إنّ كتابا لشخص أمي لم يدرس ، وفي محيط مليء بالجهل والخرافات ، يكون فيه هذا المحتوى السامي ، والعقائد الطاهرة النقية ، والتوحيد الخالص ، والقوانين المحكمة المنسجمة ، والاستدلالات القوية القاطعة ، والبرامج المتينة البنّاءة ،

٢٩٩

والمواعظ والإرشادات العالية الجلية ، وبتلك الجاذبية القوية ، والجمال المذهل ، كل ذلك يشكل بنفسه أفضل دليل على حقانية هذا الكتاب السماوي ، فإنّ ظهور الشمس دليل على ظهورها ـ كما يقول المثل ـ(١) .

* * *

__________________

(١) كان لنا بحث مفصّل حول إعجاز القرآن في التّفسير الأمثل ، ذيل الآية (٢٣) من سورة البقرة.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592