الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 592
المشاهدات: 166984
تحميل: 5016


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 166984 / تحميل: 5016
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 16

مؤلف:
العربية

الآيات

( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩) )

التّفسير

ظهرت علامات القيامة!

تعكس هذه الآيات صورة عن وضع المنافقين ، وطريق تعاملهم مع الوحي الإلهي ، وكلمات النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومسألة قتال أعداء الإسلام ومحاربتهم.

وقد ورد الحديث حول المنافقين في السور المدنية كثيرا ، في حين لا نرى أثرا

٣٦١

للحديث حولهم في السور المكية ، وذلك لأنّ مسألة النفاق ظهرت بعد انتصار الإسلام وتسلّمه السلطة والقوّة ، حيث أصبح المشركون في موقع ضعف وانهيار ، بحيث لم يكن باستطاعتهم إظهار مخالفتهم ، ولذلك اضطروا إلى التلبّس بالإسلام ليأمنوا غضب المسلمين الحقيقيين ، أمّا في الباطن فإنّهم لم يألوا جهدا في التآمر ضد الإسلام ، وكان يهود المدينة الذين كانوا يتمتّعون بقوة عسكرية واقتصادية لا يستهان بها ، يعتبرون سندا للمنافقين.

وعلى أي حال ، فقد توغّل هؤلاء بين المسلمين المخلصين ، وكانوا يحضرون عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويشاركون في صلاة الجمعة ، إلّا أنّ تعاملهم تجاه آيات القرآن كان يفضح ما تنطوي عليه سرائرهم وقلوبهم المريضة.

تقول الآية الأولى من الآيات مورد البحث :( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً ) وكان مرادهم من ذلك الرجل هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إنّ تعبير هؤلاء في شأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلماته البليغة ، كان من القبح والبذاءة إلى درجة تدل على أنّهم لم يؤمنوا بالوحي السماوي قط.

«آنفا» من مادة (أنف) ، ولما كان للأنف بروزا متميّزا في وجه الإنسان ، فإنّ هذه الكلمة تستعمل في شأن أشراف القوم ، وكذلك تستعمل في مورد الزمان المتقدم على زمان الحال ، كما جاء في الآية مورد البحث.

ثمّ إنّ التعبير بـ( لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) يوحي بأنّ إحدى علامات المؤمن امتلاكه الوعي الكافي ، فكما أنّ العلم مصدر الإيمان ، فكذلك هو وليد الإيمان وحاصله.

إلّا أنّ القرآن الكريم قد أجابهم جوابا قاطعا ، فقال : إنّ كلام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن غامضا ولا معقّدا ، بل( أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ) .

وفي الحقيقة فإنّ الجملة الثّانية علّة للجملة الاولى ، أي إنّ اتباع الهوى يسلب الإنسان القدرة على إدراك الحقائق وتمييزها ، ويلقي الحجاب على قلبه ، بحيث

٣٦٢

أنّ قلوب متبعي الهوى تصبح كالظرف المختوم ، فلا يدخله شيء ، ولا يخرج منه شيء.

ويقف المؤمنون الحقيقيون في الطرف المقابل لهؤلاء ، وعنهم تتحدّث الآية التالية فتقول :( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ ) .

نعم ، لقد خطا هؤلاء الخطوة الأولى بأنفسهم ، واستخدموا عقلهم وفطرتهم في هذا المسير ، ثمّ أخذ الله سبحانه بيدهم كما وعدهم من قبل ، فزادهم هدى إلى هداهم ، وألقى نور الإيمان في قلوبهم ، وشرح صدورهم ورزقهم حسن الفكرة والنظر. هذا من الناحية العقائدية.

وأمّا من الناحية العملية فإنّه سبحانه يحيي فيهم روح التقوى ، حتى أنّهم يشمئزون من الذنب والمعصية ، ويعشقون الطاعة والعمل الصالح.

إنّ هؤلاء يقفون من الناحيتين في الطرف المقابل للمنافقين الذين أشارت إليهم الآية السابقة ، فقد طبع على قلوبهم فلا يفقهون شيئا من جهة ، ومن جهة اخرى فإنّهم يتّبعون أهواءهم في العمل ، أمّا المؤمنون فإنّ هدايتهم تعظم يوما بعد يوم ، وتتضاعف تقواهم في مجال العمل.

وتحذّر الآية التالية أولئك المستهزئين الذين لا إيمان لهم ، فتقول :( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ ) .

أجل ، إنّ هؤلاء لم يذعنوا للحق حيث كان الإيمان واجبا عليهم ، ومفيدا لهم ، بل كانوا في طغيانهم يعمهون ، وبآيات الله يستهزئون ، غير أنّهم يوم يرون الحوادث المرعبة وبداية القيامة تهزّ العالم وتزلزله ، يصيبهم الفزع ويظهرون خضوعهم ويؤمنون ، ولا ينفعهم يومئذ إيمانهم وخضوعهم.

إنّ هذه العبارة تشبه تماما أن نقول لإنسان : أتنتظر حتى يشرف بك مرضك على الموت ، ولا ينفع حينئذ علاج ، ثمّ تدعو الطبيب وتأتي بالدواء؟ انهض واسرع إلى المعالجة وتناول الدواء قبل أن تفقد هذه الفرصة ، فإنّ السعي الآن ذو فائدة ،

٣٦٣

وبعد اليوم لا ينفع.

«الأشراط» جمع (شرط) ، وهي العلامة ، وعلى هذا فإنّ أشراط الساعة إشارة إلى علامات اقتراب القيامة.

وللمفسرين أقوال كثيرة حول المراد من علامات اقتراب القيامة هنا ، حتى كتبت رسائل مختصرة ومفصّلة ، في هذا الباب. إلّا أنّ الكثير يعتقدون أنّ المراد من «أشراط الساعة» في الآية ـ مورد البحث ـ هو ظهور شخص النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويشهد لذلك الحديث المروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «بعثت أنا والساعة كهاتين» وضمّ إصبعيه السبابة والوسطى(١) .

وعدّ البعض مسألة «شقّ القمر» ، وقسما آخر من حوادث عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أشراط الساعة أيضا.

لقد وردت أحاديث عديدة في هذا الباب ، وقد اعتبرت شيوع كثير من المعاصي بين الناس بالذات من علامات اقتراب القيامة ، كالحديث الذي يرويه «الفتال النيسابوري» (ره) في روضة الواعظين ، عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويظهر الجهل ، ويشرب الخمر ، ويفشو الزنا»(٢) .

بل ، حتى الحوادث المهمّة والمؤثرة ، كقيام المهدي ـ أرواحنا له الفداء ـ عدّت من أشراط الساعة.

لكن ينبغي أن نذكر أنّنا نبحث تارة في أشراط الساعة بصورة مطلقة ، فنسأل : ما هي علامات اقتراب القيامة؟ وأخرى نبحث في مورد خصوص الآية. والمطلب في مورد الآية هو ما قلناه. وأمّا حول علامات اقتراب القيامة بصورة مطلقة فقد وردت بحوث وروايات كثيرة في الكتب الإسلامية المعروفة ، وسنشير إليها فيما يأتي(٣) .

__________________

(١) مجمع البيان ، تفسير القرطبي ، تفسير في ظلال القرآن ، وتفاسير أخرى ، في ذيل الآيات مورد البحث ، بتفاوت يسير في التعبير.

(٢) نور الثقلين ، المجلد ٥ ، صفحة ٣٧.

(٣) يتّضح ممّا قلناه أنّ ليس المراد من جملة : (فقد جاء أشراطها) تحقق كلّ علامات القيامة وظهورها في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل المراد أنّ بعضها قد ظهر ، وهو يخبر عن اقتراب القيامة ، وإنّ كانت بعض الأشراط ستتحقق وتتّضح فيما بعد.

٣٦٤

هل أن ظهور النبي من علامات قرب القيامة؟

يطرح هنا سؤال ، وهو : كيف عدوا ظهور النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من علامات اقتراب القيامة ، وقد مرّ إلى الآن خمسة عشر قرنا ولا أثر للقيامة؟

والإجابة عن هذا السؤال تتّضح بملاحظة واحدة ، وهي أنّنا يجب أن نقارن بين ما مرّ من الدنيا وما بقي منها ، وسيظهر من خلال هذه المقارنة أن ما بقي من عمر الدنيا قليل جدا ، وهو سريع الانقضاء ، كما ورد في حديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه كان يخطب في أصحابه قبيل الغروب ، فقال : «والذي نفس محمّد بيده ما مثل ما مضى من الدنيا فيما بقي منها إلّا مثل ما مضى من يومكم هذا فيما بقي منه ، وما بقي منه إلّا اليسير»(١) .

وتقول آخر آية من هذه الآيات وكاستخلاص لنتيجة البحوث التي وردت في الآيات السابقة حول الإيمان والكفر ، ومصير المؤمنين والكفّار :( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ ) أي : اثبت على خط التوحيد ، فإنّه الدواء الشافي ، واعلم أنّ أفضل وسيلة للنجاة هو التوحيد الذي بيّنت الآيات السالفة آثاره.

وبناء على هذا ، فلا يعني هذا الكلام أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن عالما بالتوحيد بل المراد الاستمرار في هذا الخط ، وهذا يشبه تماما ما ذكروه في تفسير الآية :( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) في سورة الحمد ، بأنّها لا تعني عدم الهداية من قبل ، بل تعني : ثبّتنا على خط الهداية.

ويحتمل أيضا أن يكون المراد التدبّر في أمر التوحيد أكثر ، والارتقاء إلى المقامات الأسمى ، حيث أنّه كلمّا تدبّر البشر فيه أكثر ، وطالعوا آيات الله بدقّة أكبر ، فإنّهم سيصلون إلى مراتب أرقى ، والتدبّر بما قيل في الآيات السالفة في مورد الإيمان والكفر ، عامل يؤثر بحدّ ذاته في زيادة الإيمان والكفر.

__________________

(١) روح المعاني ، المجلد ٢٦ ، صفحة ٤٨.

٣٦٥

والتّفسير الثّالث أنّ المراد : الجوانب العملية للتوحيد ، أي : اعلم أنّ الملجأ والمأوى الوحيد في العالم هو الله تعالى ، فالتجئ إليه ، ولا تطلب حل معضلاتك إلّا منه ، ولا تخف سيل المشاكل ، ولا تخش كثرة الأعداء.

ولا تنافي بين هذه التفاسير الثلاثة ، فمن الممكن أن تجمع في معنى الآية.

وبعد هذه المسألة العقائدية ، تعود الآية إلى مسألة التقوى والعفّة عن المعصية ، فتقول :( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ) .

لا يخفى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرتكب ذنبا قط بحكم مقام العصمة ، وأمثال هذه التعابير إشارة إلى ترك الأولى ، فإنّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين ، أو إلى أنّه قدوة للمسلمين.

وجاء في حديث : أنّ حذيفة بن اليمان يقول : كنت رجلا ذرب اللسان على أهلي ، فقلت : يا رسول الله إنّي لأخشى أن يدخلني لساني في النّار ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فأين أنت من الاستغفار؟ إنّي لأستغفر الله في اليوم مائة مرّة»(١) . وجاء في بعض الروايات أنّه كان يستغفر في اليوم سبعين مرّة.

إذا كان الآخرون يستغفرون ممّا ارتكبوا من المعاصي والذنوب ، فإنّ النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغفر الله من تلك اللحظة التي شغل فيها عن ذكره ، أو أنّه ترك فعل الأحسن وفعل الحسن.

وهنا نكتة جديرة بالانتباه ، وهي أنّ الله سبحانه قد شفع للمؤمنين والمؤمنات ، وأمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستغفر لهم لتسعهم رحمته ، ومن هنا يتبيّن عمق مسألة «الشفاعة» في الدنيا والآخرة ، وكذلك تتبيّن أهمية التوسّل وكونه مشروعا.

ويقول سبحانه في ذيل الآية ، وكتبيان للعلّة( وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ ) فهو يعلم ظاهركم وباطنكم ، كتمانكم وعلانيتكم ، سرّكم ونجواكم ، بل ويعلم حتى نيّاتكم ، وما توسوس به أنفسكم ، ويخطر على أذهانكم ، وما يجري في ضمائركم ،

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ١٠٢ ، ذيل الآيات مورد البحث.

٣٦٦

ويعلم حركاتكم وسكناتكم ، ولهذا وجب عليكم التوجّه إليه ورفع الأكف بين يديهو وطلب العفو والمغفرة والرحمة منه.

«المتقلّب» : هو المكان الذي يكثر التردّد عليه ، و «المثوى» هو محل الاستقرار(١) .

والظاهر أنّ لهاتين الكلمتين معنى واسعا يشمل كلّ حركات ابن آدم وسكناته ، سواء التي في الدنيا أم في الآخرة ، في فترة كونه جنينا أم كونه من سكان القبور ، وإن كان كثير من المفسّرين قد ذكر لهما معاني محددة :

فقال بعضهم : إنّ المراد حركة الإنسان في النهار ، وسكونه في الليل.

وقال آخرون : إنّ المراد مسير الإنسان في الحياة الدنيا ، واستقراره في الآخرة.

وقال بعض آخر : إنّ المراد تقلّب الإنسان في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ، وثباته في القبر.

وأخيرا ذكر البعض أنّ المراد : حركاته في السفر ، وسكناته في الحضر.

ولكن كما قلنا ، فإنّ للآية معنى واسعا يشمل كلّ هذه المعاني.

* * *

بحث

ما هي أشراط الساعة؟

قلنا سابقا : إنّ الأشراط جمع شرط ، وهي العلامة ، ويقال لعلامات اقتراب القيامة : أشراط الساعة ، وقد بحثت كثيرا في مصادر الشيعة والسنّة ، ولم يشر القرآن إليها إلّا في هذه الآية.

ومن أجمع الأحاديث وأكثرها تفصيلا في هذا الباب ، الحديث الذي رواه ابن

__________________

(١) بناء على هذا ، فإنّ (متقلّب) اسم مفعول جاء هنا بمعنى المكان ، إلّا أنّ جماعة يعتبرونه مصدرا ميميا يعني الانتقال من حال الى حال. غير أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب بملاحظة قرينة مقابلته بالمثوى الذي لا ريب في كونه اسم مكان.

٣٦٧

عباس عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قضية حجّة الوداع ، وهو يعلّمنا كثيرا من المسائل ، ويحتوي على نكات ودقائق كثيرة ، ولهذا نورده كاملا :

قال ابن عباس : حججنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة الوداع وهي آخر حجّة حجّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته ـ فأخذ بحلقة باب الكعبة ثمّ أقبل علينا بوجهه فقال : «ألا أخبركم بأشراط الساعة»؟ فكان أدنى الناس منه يومئذ سلمان رحمة الله عليه فقال : بلى يا رسول الله.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ من أشراط الساعة إضاعة الصلوات ، واتباع الشهوات ، والميل مع الأهواء ، وتعظيم أصحاب المال ، وبيع الدين بالدنيا ، فعندها يذاب قلب المؤمن في جوفه كما يذاب الملح في الماء مما يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيّره».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : إنّ عندها يليهم أمراء جورة ، ووزراء فسقة ، وعرفاء ظلمة ، وأمناء خونة».

فقال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : إنّ عندها يكون المنكر معروفا ، والمعروف منكرا ، ويؤتمن الخائن ، ويخوّن الأمين ، ويصدّق الكاذب ، ويكذّب الصادق».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : فعندها تكون إمارة النساء ، ومشاورة الإماء ، وقعود الصبيان على المنابر ، ويكون الكذب ظرفا ، والزكاة مغرما ، والفيء مغنما ، ويجفو الرجل والديه ويبرّ صديقه ، ويطلع الكوكب المذنب».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها تشارك المرأة زوجها في التجارة [ويبذل كل منهما قصارى جهد خارج المنزل لتحصيل المال] ويكون

٣٦٨

المطر غيضا ، ويغيض الكرام غيضا ، ويحتقر الرجل المعسر ، فعندها تقارب الأسواق ، قال هذا : لم أبع شيئا ، وقال هذا : لم أربح شيئا ، فلا ترى إلّا ذاما لله».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : فعندها يليهم أقوام إن تكلّموا قتلوهم ، وإن سكتوا استباحوهم ، ليستأثرون بفيئهم ، وليطؤن حرمتهم ، وليسفكن دماءهم ، وليملؤن قلوبهم دغلا ورعبا ، فلا تراهم إلّا وجلين خائفين مرعوبين مرهوبين».

فقال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : إنّ عندها يؤتى بشيء من المشرق ، وشيء من المغرب [فقوانين من الشرق ، وقوانين من الغرب] يلون أمّتي ، فالويل لضعفاء أمّتي منهم ، والويل لهم من الله ، لا يرحمون صغيرا ، ولا يوقّرون كبيرا ، ولا يتجافون عن مسيء ، جثّتهم جثة الآدميين ، وقلوبهم قلوب الشياطين».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها يكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء ، ويغار على الغلمان كما يغار على الجارية في بيت أهلها ، وتشبه الرجال بالنساء ، والنساء بالرجال ، وتركب ذوات الفروج السروج [ويظهرن أنفسهن] فعليهن من أمّتي لعنة الله».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : إنّ عندها تزخرف المساجد كما تزخرف الكنائس وتحلى المصاحف [دون أن يعمل بها] وتطول المنارات ، وتكثر الصفوف ، قلوب متباغضة ، وألسن مختلفة».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها تحلّى ذكور أمّتي بالذهب ، ويلبسون الحرير والديباج ، ويتّخذون جلود النمور صفافا».

٣٦٩

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها يظهر الزنا ، ويتعاملون بالعينة والرشا ، ويوضع الدين وترفع الدنيا».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها يكثر الطلاق ، فلا يقام لله حد ، ولن يضرّوا الله شيئا [وإنّما يضرّون أنفسهم]».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها تظهر القينات والمعازف ، وتليهم أشرار أمّتي».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها يحج أغنياء أمّتي للنزهة ، ويحج أوساطها للتجارة ، ويحج فقراؤهم للرياء والسمعة ، فعندها يكون أقوام يتعلّمون القرآن لغير الله ، ويتّخذونه مزامير ، ويكون أقوام يتفقّهون لغير الله ، ويكثر أولاد الزنا ، ويتغنّون بالقرآن ، ويتهافتون بالدنيا».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : ذاك إذا انتهكت المحارم ، واكتسبت المآثم ، وسلّط الأشرار على الأخيار ، ويفشو الكذب ، وتظهر اللجاجة ، وتفشو الفاقة ، ويتباهون في اللباس ، ويمطرون في غير أوان المطر ، ويستحسنون الكوبة والمعازف ، وينكرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حتى يكون المؤمن في ذلك الزمان أذلّ من الأمة ، ويظهر قرّاؤهم وعبادهم فيما بينهم التلاوم ، فأولئك يدعون في ملكوت السماوات الأرجاس الأنجاس».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : فعندها لا يخشى الغني على الفقير ،

٣٧٠

حتى أنّ السائل يسأل في الناس فيما بين الجمعتين لا يصيب أحدا يضع في كفه شيئا».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : فعندها يتكلم الرويبضة».

قال سلمان : ما الرويبضة يا رسول الله فداك أبي وأمّي؟

قال : «يتكلّم في أمر العامة من لم يكن يتكلّم ، فلم يلبثوا إلّا قليلا حتى تخور الأرض خورة ، فلا يظن كلّ قوم إلّا أنّها خارت في ناحيتهم ، فيمكثون ما شاء الله ، ثمّ يمكثون في مكثهم ، فتلقي لهم الأرض أفلاذ أكبادها» قال : «ذهبا وفضة» ، ثمّ أومأ بيده إلى الأساطين ، فقال : مثل هذا ، فيومئذ لا ينفع ذهب ولا فضة ـ ويحل أمر الله ـ فهذا يعني معنى قوله :( فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها ) (١) .

* * *

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم طبقا لنقل نور الثقلين ، وتفسير الصافي ، ذيل الآية مورد البحث.

٣٧١

الآيات

( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) )

التّفسير

يخافون حتى من اسم الجهاد!

تبيّن هذه الآيات المواقف المختلفة للمؤمنين والمنافقين تجاه الأمر بالجهاد ، تكملة للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة حول هذين الفريقين.

٣٧٢

تقول الآية الأولى :( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ) سورة يكون فيها أمر بالجهاد ، يوضح واجبنا تجاه الأعداء القساة الجلّادين الذين لا منطق لهم سورة تبعث آياتها نور الهداية في قلوبنا ، وتضيء أرواحنا بنورها الوهّاج ، هذا حال المؤمنين.

وأمّا المنافقون :( فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ) .

فعند سماع اسم الحرب يصيبهم الهلع ، ويضطرب كيانهم أجمع ، وتتوقف عقولهم عن التفكير ، وتتسمّر عيونهم ، وينظرون إليك كمن يوشك على الموت ، وهذا أبلغ وأروع تعبير عن حال المنافقين الجبناء الخائفين.

إنّ سبب اختلاف تعامل المؤمنين والمنافقين مع أمر الجهاد ، ينبع من أن الفريق الأوّل قد علقوا آمالهم بالله سبحانه لإيمانهم القوي به ، فهم يرجون عنايته ولطفه ونصرته ، ولا خوف لديهم من الشهادة في سبيله.

إنّ ميدان الجهاد بالنسبة إلى هؤلاء ميدان إظهار عشقهم لمحبوبهم ، ميدان الشرف والفضيلة ، ميدان تفجّر الاستعدادت والقابليات ، وهو ميدان الثبات والمقاومة والإنتصار ، ولا معنى للخوف في مثل هذا الميدان.

إلّا أنّه بالنسبة إلى المنافقين ميدان موت وفناء وتعاسة ، ميدان هزيمة ومفارقة لذائذ الدنيا ، وهو أخيرا ميدان مظلم يعقبه مستقبل مرعب غامض!

والمراد من «السورة المحكمة» ـ باعتقاد بعض المفسّرين ـ هي السور التي ذكرت فيها مسألة الجهاد. لكن لا دليل على هذا التّفسير ، بل الظاهر أنّ «المحكم» هنا بمعنى المستحكم والثابت والقاطع ، والخالي من أي غموض أو إبهام ، حيث يقع المتشابه في مقابلة أحيانا ، ولمّا كانت آيات الجهاد تتمتّع عادة بحزم استثنائي ، فإنّها تنسجم مع مفهوم هذه اللفظ أكثر ، إلّا أنّها ليست منحصرة فيه.

والتعبير بـ( الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) تعبير يستعمل في لسان القرآن في شأن

٣٧٣

المنافقين عادة ، وما احتمله بعض المفسّرين من أنّ المراد ضعفاء الإيمان لا ينسجم مع سائر آيات القرآن ، بل ولا مع الآيات السابقة لهذه الآيات والتي بعدها ، التي تتحدّث جميعا عن المنافقين.

وعلى أية حال ، فإنّ الآية تضيف في النهاية جملة قصيرة ، فتقول :( فَأَوْلى لَهُمْ ) .

إنّ جملة( فَأَوْلى لَهُمْ ) تعبّر في الأدب العربي عن التهديد واللعنة ، وتمنّي التعاسة والفناء للآخر(١) .

وفسّرها البعض بأنّها تعني : الموت أولى لهم ، ولا مانع من الجمع بينها كما أوردنا في تفسير الآية.

وتضيف الآية التالية :( طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) (٢) .

إنّ التعبير بـ( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) يمكن أن يكون في مقابل الكلمات الهزيلة المنكرة التي كان يتفوّه بها المنافقون بعد نزول آيات الجهاد ، فقد كانوا يقولون تارة( لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ) (٣) ، وأخرى :( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ) (٤) ، وثالثة كانوا يقولون :( هَلُمَّ إِلَيْنا ) (٥) ، من أجل إضعاف المؤمنين وإعاقتهم عن التوجّه إلى ميدان الجهاد.

ولم يكونوا يكتفون بعدم ترغيب الناس في أمر الجهاد ، بل كانوا يبذلون قصارى جهودهم من أجل صدّهم عن الجهاد ، أو تثبيط معنوياتهم وعزائمهم على الأقل.

ثمّ تضيف الآية :( فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ) وسيرفع

__________________

(١) اعتقد جماعة أنّ معنى الجملة يصبح : يليه مكروه ، وهو يعادل معنى ويل لهم.

(٢) (طاعة) مبتدأ ، وخبره محذوف ، والتقدير : طاعة وقول معروف أمثل لهم ، واعتبرها البعض خبرا لمبتدأ محذوف ، وكان التقدير : أمرنا طاعة ، إلّا أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب.

(٣) التوبة ، الآية ٨١.

(٤) الأحزاب ، الآية ١٢.

(٥) الأحزاب ، الآية ١٨.

٣٧٤

رؤوسهم في الدنيا ، ويمنحهم العزّة والفخر ، ويؤدّي إلى أن ينالوا الثواب الجزيل ، والأجر الكبير ، والفوز العظيم في الآخرة.

وجملة( عَزَمَ الْأَمْرُ ) تشير في الأساس إلى استحكام العمل ، إلّا أنّ المراد منها هنا الجهاد ، بقرينة الآيات التي سبقتها والتي تليها.

وتضيف الآية التالية :( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ ) (١) لأنّكم إن أعرضتم عن القرآن والتوحيد ، فإنّكم سترجعون إلى جاهليّتكم حتما ، ولم يكن في الجاهلية إلّا الفساد في الأرض ، والإغارة والقتل وسفك الدماء ، وقطيعة الرحم ، ووأد البنات. هذا إذا كانت «توليّتم» من مادة «تولّي» بمعنى الإعراض.

غير أنّ كثيرا من المفسّرين احتمل أن تكون من مادة «ولاية» ، أي : الحكومة ، فيكون المعنى : إنّكم إذا توليّتم زمام السلطة فلا يتوقع منكم إلّا الضلال والفساد وسفك الدماء وقطيعة الرحم.

وكأنّ جمعا من المنافقين قد اعتذر من أجل أن يفرّ من ميدان الجهاد بأنّا كيف نطأ ساحة الحرب ونقتل أرحامنا ونسفك دماءهم ، وعندها سنكون من المفسدين في الأرض؟

فيجيبهم القرآن قائلا : ألم تقتلوا أرحامكم وتسفكوا دماءهم ، ولم يظهر منكم إلّا الفساد في الأرض يوم كانت الحكومة بأيديكم؟ إن هذا إلّا تذرّع وتهرّب ، فإنّ الهدف من الحرب في الإسلام هو إخماد نار الفتنة ، لا الفساد في الأرض ، والهدف اقتلاع جذور الظلم وإزالته من الوجود ، لا قطع الرحم.

وقد ورد في بعض الروايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّ هذه الآية في بني

__________________

(١) بالرغم من أنّ القليل من المفسّرين قد بحث في تركيب هذه الآية ، لكن يبدو أنّ (إن توليّتم) جملة شرطية وقعت بين اسم «عسى» وخبرها ، وجزاء إن الشرطية مجموع جملة (فهل عسيتم أن تفسدوا في الأرض) ، والتقدير : إن توليّتم عن كتاب الله فهل يترقب منكم إلّا الفساد في الأرض؟

٣٧٥

أمية الذين لم يرحموا صغيرا ولا كبيرا ، بل سفكوا دماء الجميع حتى أقاربهم لمّا تسلّموا زمام الحكم(١) .

من المعلوم أنّ بني أمية جميعا ، ابتداء من أبي سفيان إلى أبنائه وأحفاده ، كانوا مصداقا واضحا لهذه الآية ، وهذا هو المراد من الرواية ، إذ أنّ للآية معنى واسعا يشمل كلّ المنافقين الظالمين والمفسدين.

وتوضح الآية التالية المصير النهائي لهؤلاء القوم المنافقين المفسدين المتذرّعين بأوهى الحجج فتقول :( أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ ) .

إنّ هؤلاء يظنّون أنّ الجهاد الإسلامي القائم على أساس الحق والعدالة ، قطيعة للرحم ، وفسادا في الأرض ، أمّا كلّ الجرائم التي ارتكبوها في الجاهلية ، والدماء البريئة التي سفكوها أيّام تسلطهم ، والأطفال الأبرياء الذين وأدوهم ودفنوهم وهم أحياء يستغيثون ، كانت قائمة على أساس الحق والعدل! لعنهم الله إذ لا أذن واعية لهم ، ولا عين ناظرة بصيرة!

ونقرأ في رواية عن الإمام علي بن الحسين ، أنّه قال لولده الإمام الباقرعليه‌السلام : «إيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه ، فإنّي وجدته ملعونا في كتاب اللهعزوجل في ثلاثة مواضع ، قال اللهعزوجل : فهل عسيتم ...»(٢) .

«الرحم» في الأصل محل استقرار الجنين في بطن أمّه ، ثمّ أطلق هذا التعبير على كل الأقرباء ، لأنّهم نشأوا وولدوا من رحم واحد.

وجاء في حديث آخر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ثلاثة لا يدخلون الجنّة : مدمن خمر ، ومدمن سحر ، وقاطع رحم»(٣) .

__________________

(١) راجع : نور الثقلين ، المجلد ٥ ، صفحة ٤٠.

(٢) أصول الكافي ، المجلد ٢ ، باب «من تكره مجالسته» ، الحديث ٧. أمّا الآيتان اللتان وردتا في بقية الحديث فإحداهما الآية (٢٥) من سورة الرعد ، والأخرى الآية (٢٧) من سورة البقرة ، وقد ورد اللعن في إحداهما صريحا ، وفي الأخرى كناية وتلميحا.

(٣) التّفسير الأمثل ذيل الآية (٧٧) من سورة المائدة (نقلا عن الخصال).

٣٧٦

ولا يخفى أنّ لعن الله تعالى لهؤلاء القوم ، وطردهم من رحمته ، وكذلك سلبهم القدرة على إدراك الحقائق ، لا يستلزم الجبر ، لأنّ ذلك جزاء أعمالهم ، وردّ فعل لسلوكهم وأفعالهم.

وتناول آخر آية من هذه الآيات ذكر العلة الحقيقية لانحراف هؤلاء القوم التعساء ، فقالت :( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) ؟

نعم ، إنّ عامل مسكنة هؤلاء وضياعهم أحد اثنين : إمّا أنّهم لا يتدبّرون في القرآن ، برنامج الهداية الإلهية ، والوصفة الطبية الشافية تماما ، أو أنّهم يتدبّرونه ، إلّا أنّ قلوبهم مقفلة نتيجة اتباع الهوى والأعمال التي قاموا بها من قبل ، وهي مقفلة بشكل لا تنفذ معه أي حقيقة إلى قلوبهم.

وبتعبير آخر ، فإنّهم كرجل ضلّ طريقه في الظلمات ، فلا سراج في يده ، ولا هو يبصر إذ هو أعمى ، فلو كان معه سراج ، وكان مبصرا ، فإنّ الاهتداء إلى الطريق في أي مكان سهل ويسير.

«الأقفال» جمع قفل ، وهي في الأصل من مادة القفول أي الرجوع ، أو من القفيل ، أي الأشياء اليابسة ، ولمّا كان المتعارف أنّهم إذا أغلقوا الباب وقفلوها بقفل ، فكلّ من يأت يقفل راجعا ، وكذلك لمّا كان القفل شيئا صلبا لا ينفذ فيه شيء ، لذا فقد أطلقت هذه الكلمة على هذه الآلة الخاصة.

* * *

بحث

القرآن كتاب فكر وعمل :

تؤكّد آيات القرآن المختلفة على حقيقة أنّ هذا الكتاب السماوي العظيم ليس للتلاوة وحسب ، بل إنّ الهدف النهائي منه هو الذكر ، والتدبّر في عواقب الأمور والإنذار ، وإخراج البشر من الظلمات ، والشفاء والرحمة والهداية.

٣٧٧

فنقرأ في الآية (٥٠) من سورة الأنبياء :( وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ ) .

وفي الآية (٢٩) من سورة ص :( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ) .

وجاء في الآية (١٩) من سورة الأنعام :( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) .

وتقول الآية الأولى من سورة إبراهيم :( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) .

وأخيرا ، جاء في الآية (٨٢) من سورة الإسراء :( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

ولهذا ، فإنّ القرآن الكريم يجب أن يأخذ مكانه من حياة المسلمين ، ويكون في صميمها لا على هامشها ، وعليهم أن يجعلوه قدوتهم وأسوتهم ، وأن ينفذوا كلّ أوامره ، وأن يجعلوا خطوط حياتهم وطبيعتها منسجمة معه.

لكنّ ، جماعة من المسلمين ـ مع الأسف الشديد ـ لا يتعاملون مع القرآن إلّا على أنّه مجموعة أوراد وأذكار ، فهم يتلونه جميعا تلاوة مجرّدة ، ويهتمون أشدّ الاهتمام بالتجويد ومخارج الحروف وحسن الصوت ، وأكثر شقاء المسلمين وتعاستهم يكمن في أنّهم أخرجوا القرآن عن كونه دستورا جامعا لحياة البشر ، واكتفوا بترديد ألفاظه ، وقنعوا بذلك.

والجدير بالانتباه أنّ الآيات مورد البحث تقول بصراحة : إنّ هؤلاء المنافقين المرضى القلوب لم يتدبّروا في القرآن ، فلاقوا هذا المصير الأسود.

«التدبّر» من مادة دبر ، وهو تحقيق وبحث نتائج الشيء وعواقبه ، بعكس «التفكر» الذي يقال غالبا عن علل الشيء وأسبابه ، واستعمل كلا التعبيرين في القرآن.

لكن ، ينبغي أن لا ننسى أنّ الاستفادة من القرآن تحتاج إلى نوع من تهذيب النفس وجهادها ، وإن كان القرآن بنفسه معينا في تهذيبها ، لأنّ القلوب إذا كانت

٣٧٨

مقفلة بأقفال الهوى والشهوة ، والكبر والغرور ، واللجاجة والتعصّب ، فسوف لا يلجها نور الحق ، وقد أشارت الآيات ـ مورد البحث ـ إلى هذا المعنى.

وما أروع كلام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في خطبته حول صفات المتّقين ، إذ يقول : «أمّا الليل فصافون أقدامهم ، تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا ، يحزنون به أنفسهم ، ويستثيرون به دواء دائهم ، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا ، وتطّلعت نفوسهم إليها شوقا ، وظنّوا أنّها نصب أعينهم ، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم»(١) .

حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام :

ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير جملة :( أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) : «إنّ لك قلبا ومسامع ، وإنّ الله إذا أراد أن يهدي عبدا فتح مسامع قلبه ، وإذا أراد به غير ذلك ختم مسامع قلبه فلا يصلح أبدا ، وهو قول اللهعزوجل :( أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) (٢) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٣ ، المعروفة بخطبة همام.

(٢) نور الثقلين ، المجلد ٥ ، صفحة ٤١.

٣٧٩

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) )

التّفسير

أفلا يتدبّرون القرآن :

تواصل هذه الآيات الكلام حول المنافقين ومواقفهم المختلفة ، فتقول :( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ ) .

وبالرغم من أنّ البعض احتمل أنّ هذه الآية تتحدّث عن جماعة من الذين

٣٨٠