الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 176096 / تحميل: 5742
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

الآيات

( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩) )

التّفسير

ظهرت علامات القيامة!

تعكس هذه الآيات صورة عن وضع المنافقين ، وطريق تعاملهم مع الوحي الإلهي ، وكلمات النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومسألة قتال أعداء الإسلام ومحاربتهم.

وقد ورد الحديث حول المنافقين في السور المدنية كثيرا ، في حين لا نرى أثرا

٣٦١

للحديث حولهم في السور المكية ، وذلك لأنّ مسألة النفاق ظهرت بعد انتصار الإسلام وتسلّمه السلطة والقوّة ، حيث أصبح المشركون في موقع ضعف وانهيار ، بحيث لم يكن باستطاعتهم إظهار مخالفتهم ، ولذلك اضطروا إلى التلبّس بالإسلام ليأمنوا غضب المسلمين الحقيقيين ، أمّا في الباطن فإنّهم لم يألوا جهدا في التآمر ضد الإسلام ، وكان يهود المدينة الذين كانوا يتمتّعون بقوة عسكرية واقتصادية لا يستهان بها ، يعتبرون سندا للمنافقين.

وعلى أي حال ، فقد توغّل هؤلاء بين المسلمين المخلصين ، وكانوا يحضرون عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويشاركون في صلاة الجمعة ، إلّا أنّ تعاملهم تجاه آيات القرآن كان يفضح ما تنطوي عليه سرائرهم وقلوبهم المريضة.

تقول الآية الأولى من الآيات مورد البحث :( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً ) وكان مرادهم من ذلك الرجل هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إنّ تعبير هؤلاء في شأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلماته البليغة ، كان من القبح والبذاءة إلى درجة تدل على أنّهم لم يؤمنوا بالوحي السماوي قط.

«آنفا» من مادة (أنف) ، ولما كان للأنف بروزا متميّزا في وجه الإنسان ، فإنّ هذه الكلمة تستعمل في شأن أشراف القوم ، وكذلك تستعمل في مورد الزمان المتقدم على زمان الحال ، كما جاء في الآية مورد البحث.

ثمّ إنّ التعبير بـ( لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) يوحي بأنّ إحدى علامات المؤمن امتلاكه الوعي الكافي ، فكما أنّ العلم مصدر الإيمان ، فكذلك هو وليد الإيمان وحاصله.

إلّا أنّ القرآن الكريم قد أجابهم جوابا قاطعا ، فقال : إنّ كلام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن غامضا ولا معقّدا ، بل( أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ) .

وفي الحقيقة فإنّ الجملة الثّانية علّة للجملة الاولى ، أي إنّ اتباع الهوى يسلب الإنسان القدرة على إدراك الحقائق وتمييزها ، ويلقي الحجاب على قلبه ، بحيث

٣٦٢

أنّ قلوب متبعي الهوى تصبح كالظرف المختوم ، فلا يدخله شيء ، ولا يخرج منه شيء.

ويقف المؤمنون الحقيقيون في الطرف المقابل لهؤلاء ، وعنهم تتحدّث الآية التالية فتقول :( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ ) .

نعم ، لقد خطا هؤلاء الخطوة الأولى بأنفسهم ، واستخدموا عقلهم وفطرتهم في هذا المسير ، ثمّ أخذ الله سبحانه بيدهم كما وعدهم من قبل ، فزادهم هدى إلى هداهم ، وألقى نور الإيمان في قلوبهم ، وشرح صدورهم ورزقهم حسن الفكرة والنظر. هذا من الناحية العقائدية.

وأمّا من الناحية العملية فإنّه سبحانه يحيي فيهم روح التقوى ، حتى أنّهم يشمئزون من الذنب والمعصية ، ويعشقون الطاعة والعمل الصالح.

إنّ هؤلاء يقفون من الناحيتين في الطرف المقابل للمنافقين الذين أشارت إليهم الآية السابقة ، فقد طبع على قلوبهم فلا يفقهون شيئا من جهة ، ومن جهة اخرى فإنّهم يتّبعون أهواءهم في العمل ، أمّا المؤمنون فإنّ هدايتهم تعظم يوما بعد يوم ، وتتضاعف تقواهم في مجال العمل.

وتحذّر الآية التالية أولئك المستهزئين الذين لا إيمان لهم ، فتقول :( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ ) .

أجل ، إنّ هؤلاء لم يذعنوا للحق حيث كان الإيمان واجبا عليهم ، ومفيدا لهم ، بل كانوا في طغيانهم يعمهون ، وبآيات الله يستهزئون ، غير أنّهم يوم يرون الحوادث المرعبة وبداية القيامة تهزّ العالم وتزلزله ، يصيبهم الفزع ويظهرون خضوعهم ويؤمنون ، ولا ينفعهم يومئذ إيمانهم وخضوعهم.

إنّ هذه العبارة تشبه تماما أن نقول لإنسان : أتنتظر حتى يشرف بك مرضك على الموت ، ولا ينفع حينئذ علاج ، ثمّ تدعو الطبيب وتأتي بالدواء؟ انهض واسرع إلى المعالجة وتناول الدواء قبل أن تفقد هذه الفرصة ، فإنّ السعي الآن ذو فائدة ،

٣٦٣

وبعد اليوم لا ينفع.

«الأشراط» جمع (شرط) ، وهي العلامة ، وعلى هذا فإنّ أشراط الساعة إشارة إلى علامات اقتراب القيامة.

وللمفسرين أقوال كثيرة حول المراد من علامات اقتراب القيامة هنا ، حتى كتبت رسائل مختصرة ومفصّلة ، في هذا الباب. إلّا أنّ الكثير يعتقدون أنّ المراد من «أشراط الساعة» في الآية ـ مورد البحث ـ هو ظهور شخص النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويشهد لذلك الحديث المروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «بعثت أنا والساعة كهاتين» وضمّ إصبعيه السبابة والوسطى(١) .

وعدّ البعض مسألة «شقّ القمر» ، وقسما آخر من حوادث عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أشراط الساعة أيضا.

لقد وردت أحاديث عديدة في هذا الباب ، وقد اعتبرت شيوع كثير من المعاصي بين الناس بالذات من علامات اقتراب القيامة ، كالحديث الذي يرويه «الفتال النيسابوري» (ره) في روضة الواعظين ، عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويظهر الجهل ، ويشرب الخمر ، ويفشو الزنا»(٢) .

بل ، حتى الحوادث المهمّة والمؤثرة ، كقيام المهدي ـ أرواحنا له الفداء ـ عدّت من أشراط الساعة.

لكن ينبغي أن نذكر أنّنا نبحث تارة في أشراط الساعة بصورة مطلقة ، فنسأل : ما هي علامات اقتراب القيامة؟ وأخرى نبحث في مورد خصوص الآية. والمطلب في مورد الآية هو ما قلناه. وأمّا حول علامات اقتراب القيامة بصورة مطلقة فقد وردت بحوث وروايات كثيرة في الكتب الإسلامية المعروفة ، وسنشير إليها فيما يأتي(٣) .

__________________

(١) مجمع البيان ، تفسير القرطبي ، تفسير في ظلال القرآن ، وتفاسير أخرى ، في ذيل الآيات مورد البحث ، بتفاوت يسير في التعبير.

(٢) نور الثقلين ، المجلد ٥ ، صفحة ٣٧.

(٣) يتّضح ممّا قلناه أنّ ليس المراد من جملة : (فقد جاء أشراطها) تحقق كلّ علامات القيامة وظهورها في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل المراد أنّ بعضها قد ظهر ، وهو يخبر عن اقتراب القيامة ، وإنّ كانت بعض الأشراط ستتحقق وتتّضح فيما بعد.

٣٦٤

هل أن ظهور النبي من علامات قرب القيامة؟

يطرح هنا سؤال ، وهو : كيف عدوا ظهور النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من علامات اقتراب القيامة ، وقد مرّ إلى الآن خمسة عشر قرنا ولا أثر للقيامة؟

والإجابة عن هذا السؤال تتّضح بملاحظة واحدة ، وهي أنّنا يجب أن نقارن بين ما مرّ من الدنيا وما بقي منها ، وسيظهر من خلال هذه المقارنة أن ما بقي من عمر الدنيا قليل جدا ، وهو سريع الانقضاء ، كما ورد في حديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه كان يخطب في أصحابه قبيل الغروب ، فقال : «والذي نفس محمّد بيده ما مثل ما مضى من الدنيا فيما بقي منها إلّا مثل ما مضى من يومكم هذا فيما بقي منه ، وما بقي منه إلّا اليسير»(١) .

وتقول آخر آية من هذه الآيات وكاستخلاص لنتيجة البحوث التي وردت في الآيات السابقة حول الإيمان والكفر ، ومصير المؤمنين والكفّار :( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ ) أي : اثبت على خط التوحيد ، فإنّه الدواء الشافي ، واعلم أنّ أفضل وسيلة للنجاة هو التوحيد الذي بيّنت الآيات السالفة آثاره.

وبناء على هذا ، فلا يعني هذا الكلام أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن عالما بالتوحيد بل المراد الاستمرار في هذا الخط ، وهذا يشبه تماما ما ذكروه في تفسير الآية :( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) في سورة الحمد ، بأنّها لا تعني عدم الهداية من قبل ، بل تعني : ثبّتنا على خط الهداية.

ويحتمل أيضا أن يكون المراد التدبّر في أمر التوحيد أكثر ، والارتقاء إلى المقامات الأسمى ، حيث أنّه كلمّا تدبّر البشر فيه أكثر ، وطالعوا آيات الله بدقّة أكبر ، فإنّهم سيصلون إلى مراتب أرقى ، والتدبّر بما قيل في الآيات السالفة في مورد الإيمان والكفر ، عامل يؤثر بحدّ ذاته في زيادة الإيمان والكفر.

__________________

(١) روح المعاني ، المجلد ٢٦ ، صفحة ٤٨.

٣٦٥

والتّفسير الثّالث أنّ المراد : الجوانب العملية للتوحيد ، أي : اعلم أنّ الملجأ والمأوى الوحيد في العالم هو الله تعالى ، فالتجئ إليه ، ولا تطلب حل معضلاتك إلّا منه ، ولا تخف سيل المشاكل ، ولا تخش كثرة الأعداء.

ولا تنافي بين هذه التفاسير الثلاثة ، فمن الممكن أن تجمع في معنى الآية.

وبعد هذه المسألة العقائدية ، تعود الآية إلى مسألة التقوى والعفّة عن المعصية ، فتقول :( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ) .

لا يخفى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرتكب ذنبا قط بحكم مقام العصمة ، وأمثال هذه التعابير إشارة إلى ترك الأولى ، فإنّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين ، أو إلى أنّه قدوة للمسلمين.

وجاء في حديث : أنّ حذيفة بن اليمان يقول : كنت رجلا ذرب اللسان على أهلي ، فقلت : يا رسول الله إنّي لأخشى أن يدخلني لساني في النّار ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فأين أنت من الاستغفار؟ إنّي لأستغفر الله في اليوم مائة مرّة»(١) . وجاء في بعض الروايات أنّه كان يستغفر في اليوم سبعين مرّة.

إذا كان الآخرون يستغفرون ممّا ارتكبوا من المعاصي والذنوب ، فإنّ النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغفر الله من تلك اللحظة التي شغل فيها عن ذكره ، أو أنّه ترك فعل الأحسن وفعل الحسن.

وهنا نكتة جديرة بالانتباه ، وهي أنّ الله سبحانه قد شفع للمؤمنين والمؤمنات ، وأمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستغفر لهم لتسعهم رحمته ، ومن هنا يتبيّن عمق مسألة «الشفاعة» في الدنيا والآخرة ، وكذلك تتبيّن أهمية التوسّل وكونه مشروعا.

ويقول سبحانه في ذيل الآية ، وكتبيان للعلّة( وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ ) فهو يعلم ظاهركم وباطنكم ، كتمانكم وعلانيتكم ، سرّكم ونجواكم ، بل ويعلم حتى نيّاتكم ، وما توسوس به أنفسكم ، ويخطر على أذهانكم ، وما يجري في ضمائركم ،

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ١٠٢ ، ذيل الآيات مورد البحث.

٣٦٦

ويعلم حركاتكم وسكناتكم ، ولهذا وجب عليكم التوجّه إليه ورفع الأكف بين يديهو وطلب العفو والمغفرة والرحمة منه.

«المتقلّب» : هو المكان الذي يكثر التردّد عليه ، و «المثوى» هو محل الاستقرار(١) .

والظاهر أنّ لهاتين الكلمتين معنى واسعا يشمل كلّ حركات ابن آدم وسكناته ، سواء التي في الدنيا أم في الآخرة ، في فترة كونه جنينا أم كونه من سكان القبور ، وإن كان كثير من المفسّرين قد ذكر لهما معاني محددة :

فقال بعضهم : إنّ المراد حركة الإنسان في النهار ، وسكونه في الليل.

وقال آخرون : إنّ المراد مسير الإنسان في الحياة الدنيا ، واستقراره في الآخرة.

وقال بعض آخر : إنّ المراد تقلّب الإنسان في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ، وثباته في القبر.

وأخيرا ذكر البعض أنّ المراد : حركاته في السفر ، وسكناته في الحضر.

ولكن كما قلنا ، فإنّ للآية معنى واسعا يشمل كلّ هذه المعاني.

* * *

بحث

ما هي أشراط الساعة؟

قلنا سابقا : إنّ الأشراط جمع شرط ، وهي العلامة ، ويقال لعلامات اقتراب القيامة : أشراط الساعة ، وقد بحثت كثيرا في مصادر الشيعة والسنّة ، ولم يشر القرآن إليها إلّا في هذه الآية.

ومن أجمع الأحاديث وأكثرها تفصيلا في هذا الباب ، الحديث الذي رواه ابن

__________________

(١) بناء على هذا ، فإنّ (متقلّب) اسم مفعول جاء هنا بمعنى المكان ، إلّا أنّ جماعة يعتبرونه مصدرا ميميا يعني الانتقال من حال الى حال. غير أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب بملاحظة قرينة مقابلته بالمثوى الذي لا ريب في كونه اسم مكان.

٣٦٧

عباس عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قضية حجّة الوداع ، وهو يعلّمنا كثيرا من المسائل ، ويحتوي على نكات ودقائق كثيرة ، ولهذا نورده كاملا :

قال ابن عباس : حججنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة الوداع وهي آخر حجّة حجّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته ـ فأخذ بحلقة باب الكعبة ثمّ أقبل علينا بوجهه فقال : «ألا أخبركم بأشراط الساعة»؟ فكان أدنى الناس منه يومئذ سلمان رحمة الله عليه فقال : بلى يا رسول الله.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ من أشراط الساعة إضاعة الصلوات ، واتباع الشهوات ، والميل مع الأهواء ، وتعظيم أصحاب المال ، وبيع الدين بالدنيا ، فعندها يذاب قلب المؤمن في جوفه كما يذاب الملح في الماء مما يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيّره».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : إنّ عندها يليهم أمراء جورة ، ووزراء فسقة ، وعرفاء ظلمة ، وأمناء خونة».

فقال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : إنّ عندها يكون المنكر معروفا ، والمعروف منكرا ، ويؤتمن الخائن ، ويخوّن الأمين ، ويصدّق الكاذب ، ويكذّب الصادق».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : فعندها تكون إمارة النساء ، ومشاورة الإماء ، وقعود الصبيان على المنابر ، ويكون الكذب ظرفا ، والزكاة مغرما ، والفيء مغنما ، ويجفو الرجل والديه ويبرّ صديقه ، ويطلع الكوكب المذنب».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها تشارك المرأة زوجها في التجارة [ويبذل كل منهما قصارى جهد خارج المنزل لتحصيل المال] ويكون

٣٦٨

المطر غيضا ، ويغيض الكرام غيضا ، ويحتقر الرجل المعسر ، فعندها تقارب الأسواق ، قال هذا : لم أبع شيئا ، وقال هذا : لم أربح شيئا ، فلا ترى إلّا ذاما لله».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : فعندها يليهم أقوام إن تكلّموا قتلوهم ، وإن سكتوا استباحوهم ، ليستأثرون بفيئهم ، وليطؤن حرمتهم ، وليسفكن دماءهم ، وليملؤن قلوبهم دغلا ورعبا ، فلا تراهم إلّا وجلين خائفين مرعوبين مرهوبين».

فقال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : إنّ عندها يؤتى بشيء من المشرق ، وشيء من المغرب [فقوانين من الشرق ، وقوانين من الغرب] يلون أمّتي ، فالويل لضعفاء أمّتي منهم ، والويل لهم من الله ، لا يرحمون صغيرا ، ولا يوقّرون كبيرا ، ولا يتجافون عن مسيء ، جثّتهم جثة الآدميين ، وقلوبهم قلوب الشياطين».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها يكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء ، ويغار على الغلمان كما يغار على الجارية في بيت أهلها ، وتشبه الرجال بالنساء ، والنساء بالرجال ، وتركب ذوات الفروج السروج [ويظهرن أنفسهن] فعليهن من أمّتي لعنة الله».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : إنّ عندها تزخرف المساجد كما تزخرف الكنائس وتحلى المصاحف [دون أن يعمل بها] وتطول المنارات ، وتكثر الصفوف ، قلوب متباغضة ، وألسن مختلفة».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها تحلّى ذكور أمّتي بالذهب ، ويلبسون الحرير والديباج ، ويتّخذون جلود النمور صفافا».

٣٦٩

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها يظهر الزنا ، ويتعاملون بالعينة والرشا ، ويوضع الدين وترفع الدنيا».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها يكثر الطلاق ، فلا يقام لله حد ، ولن يضرّوا الله شيئا [وإنّما يضرّون أنفسهم]».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها تظهر القينات والمعازف ، وتليهم أشرار أمّتي».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها يحج أغنياء أمّتي للنزهة ، ويحج أوساطها للتجارة ، ويحج فقراؤهم للرياء والسمعة ، فعندها يكون أقوام يتعلّمون القرآن لغير الله ، ويتّخذونه مزامير ، ويكون أقوام يتفقّهون لغير الله ، ويكثر أولاد الزنا ، ويتغنّون بالقرآن ، ويتهافتون بالدنيا».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : ذاك إذا انتهكت المحارم ، واكتسبت المآثم ، وسلّط الأشرار على الأخيار ، ويفشو الكذب ، وتظهر اللجاجة ، وتفشو الفاقة ، ويتباهون في اللباس ، ويمطرون في غير أوان المطر ، ويستحسنون الكوبة والمعازف ، وينكرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حتى يكون المؤمن في ذلك الزمان أذلّ من الأمة ، ويظهر قرّاؤهم وعبادهم فيما بينهم التلاوم ، فأولئك يدعون في ملكوت السماوات الأرجاس الأنجاس».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : فعندها لا يخشى الغني على الفقير ،

٣٧٠

حتى أنّ السائل يسأل في الناس فيما بين الجمعتين لا يصيب أحدا يضع في كفه شيئا».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : فعندها يتكلم الرويبضة».

قال سلمان : ما الرويبضة يا رسول الله فداك أبي وأمّي؟

قال : «يتكلّم في أمر العامة من لم يكن يتكلّم ، فلم يلبثوا إلّا قليلا حتى تخور الأرض خورة ، فلا يظن كلّ قوم إلّا أنّها خارت في ناحيتهم ، فيمكثون ما شاء الله ، ثمّ يمكثون في مكثهم ، فتلقي لهم الأرض أفلاذ أكبادها» قال : «ذهبا وفضة» ، ثمّ أومأ بيده إلى الأساطين ، فقال : مثل هذا ، فيومئذ لا ينفع ذهب ولا فضة ـ ويحل أمر الله ـ فهذا يعني معنى قوله :( فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها ) (١) .

* * *

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم طبقا لنقل نور الثقلين ، وتفسير الصافي ، ذيل الآية مورد البحث.

٣٧١

الآيات

( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) )

التّفسير

يخافون حتى من اسم الجهاد!

تبيّن هذه الآيات المواقف المختلفة للمؤمنين والمنافقين تجاه الأمر بالجهاد ، تكملة للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة حول هذين الفريقين.

٣٧٢

تقول الآية الأولى :( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ) سورة يكون فيها أمر بالجهاد ، يوضح واجبنا تجاه الأعداء القساة الجلّادين الذين لا منطق لهم سورة تبعث آياتها نور الهداية في قلوبنا ، وتضيء أرواحنا بنورها الوهّاج ، هذا حال المؤمنين.

وأمّا المنافقون :( فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ) .

فعند سماع اسم الحرب يصيبهم الهلع ، ويضطرب كيانهم أجمع ، وتتوقف عقولهم عن التفكير ، وتتسمّر عيونهم ، وينظرون إليك كمن يوشك على الموت ، وهذا أبلغ وأروع تعبير عن حال المنافقين الجبناء الخائفين.

إنّ سبب اختلاف تعامل المؤمنين والمنافقين مع أمر الجهاد ، ينبع من أن الفريق الأوّل قد علقوا آمالهم بالله سبحانه لإيمانهم القوي به ، فهم يرجون عنايته ولطفه ونصرته ، ولا خوف لديهم من الشهادة في سبيله.

إنّ ميدان الجهاد بالنسبة إلى هؤلاء ميدان إظهار عشقهم لمحبوبهم ، ميدان الشرف والفضيلة ، ميدان تفجّر الاستعدادت والقابليات ، وهو ميدان الثبات والمقاومة والإنتصار ، ولا معنى للخوف في مثل هذا الميدان.

إلّا أنّه بالنسبة إلى المنافقين ميدان موت وفناء وتعاسة ، ميدان هزيمة ومفارقة لذائذ الدنيا ، وهو أخيرا ميدان مظلم يعقبه مستقبل مرعب غامض!

والمراد من «السورة المحكمة» ـ باعتقاد بعض المفسّرين ـ هي السور التي ذكرت فيها مسألة الجهاد. لكن لا دليل على هذا التّفسير ، بل الظاهر أنّ «المحكم» هنا بمعنى المستحكم والثابت والقاطع ، والخالي من أي غموض أو إبهام ، حيث يقع المتشابه في مقابلة أحيانا ، ولمّا كانت آيات الجهاد تتمتّع عادة بحزم استثنائي ، فإنّها تنسجم مع مفهوم هذه اللفظ أكثر ، إلّا أنّها ليست منحصرة فيه.

والتعبير بـ( الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) تعبير يستعمل في لسان القرآن في شأن

٣٧٣

المنافقين عادة ، وما احتمله بعض المفسّرين من أنّ المراد ضعفاء الإيمان لا ينسجم مع سائر آيات القرآن ، بل ولا مع الآيات السابقة لهذه الآيات والتي بعدها ، التي تتحدّث جميعا عن المنافقين.

وعلى أية حال ، فإنّ الآية تضيف في النهاية جملة قصيرة ، فتقول :( فَأَوْلى لَهُمْ ) .

إنّ جملة( فَأَوْلى لَهُمْ ) تعبّر في الأدب العربي عن التهديد واللعنة ، وتمنّي التعاسة والفناء للآخر(١) .

وفسّرها البعض بأنّها تعني : الموت أولى لهم ، ولا مانع من الجمع بينها كما أوردنا في تفسير الآية.

وتضيف الآية التالية :( طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) (٢) .

إنّ التعبير بـ( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) يمكن أن يكون في مقابل الكلمات الهزيلة المنكرة التي كان يتفوّه بها المنافقون بعد نزول آيات الجهاد ، فقد كانوا يقولون تارة( لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ) (٣) ، وأخرى :( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ) (٤) ، وثالثة كانوا يقولون :( هَلُمَّ إِلَيْنا ) (٥) ، من أجل إضعاف المؤمنين وإعاقتهم عن التوجّه إلى ميدان الجهاد.

ولم يكونوا يكتفون بعدم ترغيب الناس في أمر الجهاد ، بل كانوا يبذلون قصارى جهودهم من أجل صدّهم عن الجهاد ، أو تثبيط معنوياتهم وعزائمهم على الأقل.

ثمّ تضيف الآية :( فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ) وسيرفع

__________________

(١) اعتقد جماعة أنّ معنى الجملة يصبح : يليه مكروه ، وهو يعادل معنى ويل لهم.

(٢) (طاعة) مبتدأ ، وخبره محذوف ، والتقدير : طاعة وقول معروف أمثل لهم ، واعتبرها البعض خبرا لمبتدأ محذوف ، وكان التقدير : أمرنا طاعة ، إلّا أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب.

(٣) التوبة ، الآية ٨١.

(٤) الأحزاب ، الآية ١٢.

(٥) الأحزاب ، الآية ١٨.

٣٧٤

رؤوسهم في الدنيا ، ويمنحهم العزّة والفخر ، ويؤدّي إلى أن ينالوا الثواب الجزيل ، والأجر الكبير ، والفوز العظيم في الآخرة.

وجملة( عَزَمَ الْأَمْرُ ) تشير في الأساس إلى استحكام العمل ، إلّا أنّ المراد منها هنا الجهاد ، بقرينة الآيات التي سبقتها والتي تليها.

وتضيف الآية التالية :( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ ) (١) لأنّكم إن أعرضتم عن القرآن والتوحيد ، فإنّكم سترجعون إلى جاهليّتكم حتما ، ولم يكن في الجاهلية إلّا الفساد في الأرض ، والإغارة والقتل وسفك الدماء ، وقطيعة الرحم ، ووأد البنات. هذا إذا كانت «توليّتم» من مادة «تولّي» بمعنى الإعراض.

غير أنّ كثيرا من المفسّرين احتمل أن تكون من مادة «ولاية» ، أي : الحكومة ، فيكون المعنى : إنّكم إذا توليّتم زمام السلطة فلا يتوقع منكم إلّا الضلال والفساد وسفك الدماء وقطيعة الرحم.

وكأنّ جمعا من المنافقين قد اعتذر من أجل أن يفرّ من ميدان الجهاد بأنّا كيف نطأ ساحة الحرب ونقتل أرحامنا ونسفك دماءهم ، وعندها سنكون من المفسدين في الأرض؟

فيجيبهم القرآن قائلا : ألم تقتلوا أرحامكم وتسفكوا دماءهم ، ولم يظهر منكم إلّا الفساد في الأرض يوم كانت الحكومة بأيديكم؟ إن هذا إلّا تذرّع وتهرّب ، فإنّ الهدف من الحرب في الإسلام هو إخماد نار الفتنة ، لا الفساد في الأرض ، والهدف اقتلاع جذور الظلم وإزالته من الوجود ، لا قطع الرحم.

وقد ورد في بعض الروايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّ هذه الآية في بني

__________________

(١) بالرغم من أنّ القليل من المفسّرين قد بحث في تركيب هذه الآية ، لكن يبدو أنّ (إن توليّتم) جملة شرطية وقعت بين اسم «عسى» وخبرها ، وجزاء إن الشرطية مجموع جملة (فهل عسيتم أن تفسدوا في الأرض) ، والتقدير : إن توليّتم عن كتاب الله فهل يترقب منكم إلّا الفساد في الأرض؟

٣٧٥

أمية الذين لم يرحموا صغيرا ولا كبيرا ، بل سفكوا دماء الجميع حتى أقاربهم لمّا تسلّموا زمام الحكم(١) .

من المعلوم أنّ بني أمية جميعا ، ابتداء من أبي سفيان إلى أبنائه وأحفاده ، كانوا مصداقا واضحا لهذه الآية ، وهذا هو المراد من الرواية ، إذ أنّ للآية معنى واسعا يشمل كلّ المنافقين الظالمين والمفسدين.

وتوضح الآية التالية المصير النهائي لهؤلاء القوم المنافقين المفسدين المتذرّعين بأوهى الحجج فتقول :( أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ ) .

إنّ هؤلاء يظنّون أنّ الجهاد الإسلامي القائم على أساس الحق والعدالة ، قطيعة للرحم ، وفسادا في الأرض ، أمّا كلّ الجرائم التي ارتكبوها في الجاهلية ، والدماء البريئة التي سفكوها أيّام تسلطهم ، والأطفال الأبرياء الذين وأدوهم ودفنوهم وهم أحياء يستغيثون ، كانت قائمة على أساس الحق والعدل! لعنهم الله إذ لا أذن واعية لهم ، ولا عين ناظرة بصيرة!

ونقرأ في رواية عن الإمام علي بن الحسين ، أنّه قال لولده الإمام الباقرعليه‌السلام : «إيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه ، فإنّي وجدته ملعونا في كتاب اللهعزوجل في ثلاثة مواضع ، قال اللهعزوجل : فهل عسيتم ...»(٢) .

«الرحم» في الأصل محل استقرار الجنين في بطن أمّه ، ثمّ أطلق هذا التعبير على كل الأقرباء ، لأنّهم نشأوا وولدوا من رحم واحد.

وجاء في حديث آخر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ثلاثة لا يدخلون الجنّة : مدمن خمر ، ومدمن سحر ، وقاطع رحم»(٣) .

__________________

(١) راجع : نور الثقلين ، المجلد ٥ ، صفحة ٤٠.

(٢) أصول الكافي ، المجلد ٢ ، باب «من تكره مجالسته» ، الحديث ٧. أمّا الآيتان اللتان وردتا في بقية الحديث فإحداهما الآية (٢٥) من سورة الرعد ، والأخرى الآية (٢٧) من سورة البقرة ، وقد ورد اللعن في إحداهما صريحا ، وفي الأخرى كناية وتلميحا.

(٣) التّفسير الأمثل ذيل الآية (٧٧) من سورة المائدة (نقلا عن الخصال).

٣٧٦

ولا يخفى أنّ لعن الله تعالى لهؤلاء القوم ، وطردهم من رحمته ، وكذلك سلبهم القدرة على إدراك الحقائق ، لا يستلزم الجبر ، لأنّ ذلك جزاء أعمالهم ، وردّ فعل لسلوكهم وأفعالهم.

وتناول آخر آية من هذه الآيات ذكر العلة الحقيقية لانحراف هؤلاء القوم التعساء ، فقالت :( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) ؟

نعم ، إنّ عامل مسكنة هؤلاء وضياعهم أحد اثنين : إمّا أنّهم لا يتدبّرون في القرآن ، برنامج الهداية الإلهية ، والوصفة الطبية الشافية تماما ، أو أنّهم يتدبّرونه ، إلّا أنّ قلوبهم مقفلة نتيجة اتباع الهوى والأعمال التي قاموا بها من قبل ، وهي مقفلة بشكل لا تنفذ معه أي حقيقة إلى قلوبهم.

وبتعبير آخر ، فإنّهم كرجل ضلّ طريقه في الظلمات ، فلا سراج في يده ، ولا هو يبصر إذ هو أعمى ، فلو كان معه سراج ، وكان مبصرا ، فإنّ الاهتداء إلى الطريق في أي مكان سهل ويسير.

«الأقفال» جمع قفل ، وهي في الأصل من مادة القفول أي الرجوع ، أو من القفيل ، أي الأشياء اليابسة ، ولمّا كان المتعارف أنّهم إذا أغلقوا الباب وقفلوها بقفل ، فكلّ من يأت يقفل راجعا ، وكذلك لمّا كان القفل شيئا صلبا لا ينفذ فيه شيء ، لذا فقد أطلقت هذه الكلمة على هذه الآلة الخاصة.

* * *

بحث

القرآن كتاب فكر وعمل :

تؤكّد آيات القرآن المختلفة على حقيقة أنّ هذا الكتاب السماوي العظيم ليس للتلاوة وحسب ، بل إنّ الهدف النهائي منه هو الذكر ، والتدبّر في عواقب الأمور والإنذار ، وإخراج البشر من الظلمات ، والشفاء والرحمة والهداية.

٣٧٧

فنقرأ في الآية (٥٠) من سورة الأنبياء :( وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ ) .

وفي الآية (٢٩) من سورة ص :( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ) .

وجاء في الآية (١٩) من سورة الأنعام :( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) .

وتقول الآية الأولى من سورة إبراهيم :( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) .

وأخيرا ، جاء في الآية (٨٢) من سورة الإسراء :( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

ولهذا ، فإنّ القرآن الكريم يجب أن يأخذ مكانه من حياة المسلمين ، ويكون في صميمها لا على هامشها ، وعليهم أن يجعلوه قدوتهم وأسوتهم ، وأن ينفذوا كلّ أوامره ، وأن يجعلوا خطوط حياتهم وطبيعتها منسجمة معه.

لكنّ ، جماعة من المسلمين ـ مع الأسف الشديد ـ لا يتعاملون مع القرآن إلّا على أنّه مجموعة أوراد وأذكار ، فهم يتلونه جميعا تلاوة مجرّدة ، ويهتمون أشدّ الاهتمام بالتجويد ومخارج الحروف وحسن الصوت ، وأكثر شقاء المسلمين وتعاستهم يكمن في أنّهم أخرجوا القرآن عن كونه دستورا جامعا لحياة البشر ، واكتفوا بترديد ألفاظه ، وقنعوا بذلك.

والجدير بالانتباه أنّ الآيات مورد البحث تقول بصراحة : إنّ هؤلاء المنافقين المرضى القلوب لم يتدبّروا في القرآن ، فلاقوا هذا المصير الأسود.

«التدبّر» من مادة دبر ، وهو تحقيق وبحث نتائج الشيء وعواقبه ، بعكس «التفكر» الذي يقال غالبا عن علل الشيء وأسبابه ، واستعمل كلا التعبيرين في القرآن.

لكن ، ينبغي أن لا ننسى أنّ الاستفادة من القرآن تحتاج إلى نوع من تهذيب النفس وجهادها ، وإن كان القرآن بنفسه معينا في تهذيبها ، لأنّ القلوب إذا كانت

٣٧٨

مقفلة بأقفال الهوى والشهوة ، والكبر والغرور ، واللجاجة والتعصّب ، فسوف لا يلجها نور الحق ، وقد أشارت الآيات ـ مورد البحث ـ إلى هذا المعنى.

وما أروع كلام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في خطبته حول صفات المتّقين ، إذ يقول : «أمّا الليل فصافون أقدامهم ، تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا ، يحزنون به أنفسهم ، ويستثيرون به دواء دائهم ، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا ، وتطّلعت نفوسهم إليها شوقا ، وظنّوا أنّها نصب أعينهم ، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم»(١) .

حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام :

ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير جملة :( أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) : «إنّ لك قلبا ومسامع ، وإنّ الله إذا أراد أن يهدي عبدا فتح مسامع قلبه ، وإذا أراد به غير ذلك ختم مسامع قلبه فلا يصلح أبدا ، وهو قول اللهعزوجل :( أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) (٢) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٣ ، المعروفة بخطبة همام.

(٢) نور الثقلين ، المجلد ٥ ، صفحة ٤١.

٣٧٩

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) )

التّفسير

أفلا يتدبّرون القرآن :

تواصل هذه الآيات الكلام حول المنافقين ومواقفهم المختلفة ، فتقول :( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ ) .

وبالرغم من أنّ البعض احتمل أنّ هذه الآية تتحدّث عن جماعة من الذين

٣٨٠

كفروا من أهل الكتاب الذين كانوا يذكرون علامات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل ظهوره ، وذلك استنادا إلى ما ورد في كتبهم السماوية ، وكانوا ينتظرونه على أحر من الجمر ، إلّا أنّهم أعرضوا عنه بعد ظهوره واتضاح هذه العلامات وتحقّقها ، ومنعتهم شهواتهم ومصالحهم من الإيمان به.

بالرغم من ذلك ، فإنّ القرائن الموجودة في الآيات السابقة واللاحقة تبيّن جيدا أنّ هذه الآية تتحدث أيضا عن المنافقين الذين جاؤوا ورأوا بأمّ أعينهم الدلائل الدالّة على حقانية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسمعوا آياته ، إلّا أنّهم أدبروا اتباعا لأهوائهم وشهواتهم ، وطاعة لوساوس الشيطان.

«سوّل» من مادة سؤل ـ على وزن قفل ـ وهي الحاجة التي يحرص عليها الإنسان(١) ، و «التسويل» بمعنى الترغيب والتشويق إلى الأمور التي يحرص عليها ، ونسبته إلى الشيطان بسبب الوساوس التي يلقيها في نفس الإنسان ، وتمنع من هدايته.

وجملة( وَأَمْلى لَهُمْ ) من مادة «إملاء» ، وهو زرع طول الأمل فيهم ، والآمال البعيدة المدى ، والتي تشغل الإنسان ، فتصدّه عن الحق والهدى.

وتشرح الآية التالية علّة هذا التسويل والتزيين الشيطاني ، فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ) وهذا دأب المنافقين في البحث عن العصاة والمخالفين ، وإذا لم يكونوا مشتركين ومتفقين معهم في كلّ المواقف ، فإنّهم يتعاونون معهم على أساس المقدار المتفق عليه من مواقفهم ، بل ويطيعونهم إذا اقتضى الأمر.

بل قد اتجه منافقو المدينة نحو يهود المدينة ـ وهم «بنو النضير» و «بنو قريظة»

__________________

(١) ولذلك فإنّ البعض قد فسّرها بمعنى الأمل ، كما نقرأ ذلك في الآية (٣٦) من سورة طه :( قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى ) .

٣٨١

الذين كانوا يبشرون بالإسلام قبل بعثة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أمّا بعد ظهوره ومبعثه ، وتعرّض مصالحهم للخطر ، ولحسدهم وكبرهم ، فإنّهم اعتبروا الإسلام دينا باطلا ، وغير سليم ـ ولمّا كان هناك قدر مشترك بين المنافقين واليهود في مخالفتهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتآمرهم ضد الإسلام ، فإنّهم اتفقوا مع اليهود على العمل المشترك ضد الإسلام والمسلمين.

وربّما كان تعبير( فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ) إشارة إلى أنّنا نتعاون معكم في هذا الجزء فقط ، فإنّكم تخالفون عبادة الأصنام ، وتعتقدون بالبعث والقيامة ، ونحن لا نتفق معكم في هذه الأمور(١) .

هذا الكلام شبيه بما جاء في الآية (١١) من سورة الحشر :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ) .

وتهدد الآيات هؤلاء في نهايتها فتقول :( وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ ) فهو عليم بكفرهم الباطن ونفاقهم ، وبتآمرهم مع اليهود ، وسيعاقبهم ويجازيهم في الوقت المناسب. وعليم بما كان يخفيه اليهود من حسدهم وعدائهم وعنادهم ، فقد كانوا يعرفون علامات نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يعرفون أبناءهم بشهادة كتابهم ، وكانوا يذكرون هذه العلامات للناس من قبل ، إلّا أنّهم أخفوها جميعا بعد ظهوره ، والله عليم بهذا الإخفاء ومحاولة طمس الحق.

وجاء في حديث عن الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام : أنّ المراد من( كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ ) بنو أميّة الذين كرهوا نزول أمر الله تعالى في ولاية عليعليه‌السلام (٢) .

__________________

(١) ثمّة احتمالات عديدة أخرى في تفسير هذه الآية ، لا ينسجم أي منها مع الآيات السابقة واللاحقة ، ولذلك أعرضنا عن ذكرها.

(٢) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ١٠٥.

٣٨٢

وواضح أنّ هذا النوع تطبيق وبيان مصداق ، وليس حصرا لمعنى الآية.

والآية التالية بمثابة توضيح لهذا التهديد المبهم ، فتقول :( فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ ) (١) .

نعم ، إنّ هؤلاء الملائكة مأمورون أن يذيقوا هؤلاء العذاب وهم على أعتاب الموت ليذوقوا وبال الكفر والنفاق والعناد ، وهم يضربون وجوههم لأنّها اتجهت نحو أعداء الله ، ويضربون أدبارهم لأنّهم أدبروا عن آيات الله ونبيّه.

وهذا المعنى نظير ما ورد في الآية (٥٠) من سورة الأنفال حول الكفار والمنافقين :( وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ) .

وتناولت آخر آية من هذه الآيات بيان علّة هذا العذاب الإلهي وهم على إعتاب الموت ، فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ ) .

لأنّ رضى الله سبحانه هو شرط قبول الأعمال وكلّ سعي وجهد ، وبناء على هذا ، فمن الطبيعي أن تحبط أعمال أولئك الذين يصرون على إغضاب اللهعزوجل وإسخاطه ، ويخالفون ما يرتضيه ، ويودعون هذه الدنيا وهم خالو الوفاض ، قد أثقلتهم أوزارهم ، وأرهقتهم ذنوبهم.

إنّ حال هؤلاء القوم يخالف تماما حال المؤمنين الذين تستقبلهم الملائكة بوجوه ضاحكة عند ما يشرفون على الموت ، وتبشّرهم بما أعد الله لهم :( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٢) .

وممّا يلفت النظر أنّ الجملة فعلية في مورد غضب الله تعالى :( ما أَسْخَطَ اللهَ ) وهي أسمية في مورد رضاه :( رِضْوانَهُ ) ، وقال بعض المفسّرين : إنّ هذا التفاوت

__________________

(١) كيف ، خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : فكيف حالهم

(٢) النحل ، الآية ٣٢.

٣٨٣

في التعبير يتضمن نكتة لطيفة ، وهي أنّ غضب الله قد يحدث وقد لا يحدث ، أمّا رضاه ورحمته فهي مستمرة دائمة.

وواضح أيضا أنّ غضب الله تعالى وسخطه لا يعني التأثر النفسي ، كما أنّ رضاه سبحانه لا يعني انبساط الروح وانشراح الأسارير ، بل هما كما ورد في حديث الإمام الصادقعليه‌السلام : «غضب الله عقابه ، ورضاه ثوابه»(١) .

* * *

__________________

(١) توحيد الصدوق ، طبق نقل الميزان ، المجلد ١٨ ، صفحة ٢٦٦.

٣٨٤

الآيات

( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) )

التّفسير

يعرف المنافقون من لحن قولهم :

تشير هذه الآيات إلى جانب آخر في صفات المنافقين وعلاماتهم ، وتؤكّد بالخصوص على أنّهم يظنّون أنّ باستطاعتهم أن يخفوا واقعهم وصورتهم الحقيقية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين دائما ، وأن ينقذوا أنفسهم بذلك من الفضيحة الكبرى ، فتقول أوّلا :( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ ) (١) .

«الأضغان» جمع ضغن ، وهو الحقد الشديد.

__________________

(١) اعتبر البعض (أم) في الآية أعلاه استفهامية ، والبعض الآخر اعتبرها منقطعة بمعنى بل ، ويبدو أنّ الأوّل هو الأفضل.

٣٨٥

نعم ، لقد كانت قلوب هؤلاء مملوءة غيظا وحقدا شديدا على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، وكانوا يتحيّنون الفرص لإنزال الضربة بهم ، فهنا يحذّرهم القرآن بأن لا يظنّوا أنّ بإمكانهم أن يخفوا وجههم الحقيقي دائما ، ولذلك فإنّ الآية التالية تضيف :( وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ ) فنجعل في وجوههم علامات تعرفهم بها إذا رأيتهم ، وتراهم رأي العين فتنظر واقعهم عند ما تنظر ظاهرهم.

ثمّ تضيف :( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) فيمكنك في الحال أن تعرفهم من خلال نمط كلامهم.

يقول الراغب في مفرداته : «اللحن» عبارة عن صرف الكلام عن قواعده وسننه ، أو إعرابه على خلاف حاله ، أو الكناية بالقول بدلا من الصراحة. والمراد في الآية مورد البحث هو المعنى الثّالث ، أي : يمكن معرفة المنافقين مرضى القلوب من خلال الكناية في كلامهم ، وتعبيراتهم المؤذية التي تنطوي على النفاق.

حينما يكون الكلام عن الجهاد ، فإنّهم يسعون إلى إضعاف إرادة الناس ومعنوياتهم ، وحينما يكون الكلام عن الحق والعدالة ، فإنّهم يحرّفونه بنحو من الأنحاء ، وإذا ما أتى الحديث عن الصالحين المتّقين السابقين إلى الإسلام ، فإنّهم يسعون إلى تشويه سمعتهم ، وتقليل أهميتهم ومكانتهم ، ولذلك روي عن «أبي سعيد الخدري» حديثه المعروف الذي يقول فيه : لحن القول بغضهم علي بن أبي طالب ، وكنّا نعرف المنافقين على عهد رسول الله ببغضهم علي بن أبي طالب(١) .

نعم ، لقد كانت إحدى العلامات البارزة للمنافقين أنّهم كانوا يعادون أوّل من آمن من الرجال ، وأول مضح في سبيل الإسلام ، ويبغضونه.

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآيات مورد البحث. ثمّ إنّ جماعة من كبار العامّة نقلوا مضمون هذا الحديث في كتبهم ، ومن جملتهم : أحمد بن حنبل في كتاب الفضائل ، وابن عبد البر في الإستيعاب ، والذهبي في تاريخ أوّل الإسلام ، وابن الأثير في جامع الأصول ، والعلّامة الگنجي في كفاية الطالب ، ومحب الدين الطبري في الرياض النضرة ، والسيوطي في الدر المنثور ، والآلوسي في روح المعاني ، وأورده جماعة آخرون في كتبهم ، وهو يبيّن أنّها إحدى الروايات المسلمة عن الرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمزيد من الإيضاح يراجع إحقاق الحق ، المجلد الثّالث ، صفحة ١١٠ وما بعدها.

٣٨٦

إنّ الإنسان لا يستطيع عادة أن يكتم ما ينطوي عليه ضميره لمدة طويلة دون أن يظهر ذلك في كنايات كلامه وإشاراته ولحنه ، ولذلك نقرأ في حديث عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «ما أضمر أحد شيئا إلّا ظهر في فلتات لسانه ، وصفحات وجهه»(١) .

وقد ذكرت آيات القرآن الأخرى كلمات المنافقين الجارحة ، والتي هي مصداق للحن القول هذا ، أو حركاتهم المشبوهة ، ولعلّه لهذا السبب قال بعض المفسّرين : إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعرف المنافقين جيدا ، من خلال علاماتهم ، بعد نزول هذه الآية.

والشاهد على هذا الكلام هو أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بأن لا يصلّي على من مات منهم ولا يقوم على قبره داعيا الله له :( وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ ) (٢) .

لقد كان الجهاد بالذات من المواقف التي كان المنافقون يعكسون فيها ما يعيشونه في داخلهم ، وقد أشارت آيات كثيرة في القرآن الكريم ، وخاصّة في سورة التوبة والأحزاب إلى وضع هؤلاء قبل الحرب حين جمع المساعدات وإعداد العدّة للحرب ، وفي أثناء الحرب في ساحتها إذا اشتد هجوم العدو واستعرت حملته ، وبعد الحرب عند تقسيم الغنائم ، حتى وصل الأمر بالمنافقين إلى أن يعرفهم حتى المسلمون العاديّون في هذه المشاهد والمواقف.

واليوم أيضا لا تصعب معرفة المنافقين من لحن قولهم ومواقفهم المضادة في المسائل الاجتماعية المهمة ، وخاصة عند الاضطرابات أو الحروب ، ويمكن التعرف عليهم بأدنى دقة في أقوالهم وأفعالهم ، وما أروع أن يعي المسلمون أمرهم ويستيقظوا ويستلهموا من هذه الآية تعليماتها ليعرفوا هذه الفئة الحاقدة الخطرة

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الجملة ٢٦.

(٢) التوبة ، الآية ٨٤.

٣٨٧

ويفضحوها.

وأخيرا تضيف الآية :( وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ ) فهو يعلم أعمال المؤمنين ما ظهر منها وما بطن ، ويعلم أعمال المنافقين ، وإذا افترضنا أنّ هؤلاء قادرون على إخفاء واقعهم الحقيقي عن الناس ، فهل باستطاعتهم إخفاءه عن الله الذي هو معهم في سرّهم وعلانيهم ، وخلوتهم واجتماعهم؟

وتضيف الآية التالية مؤكّدة وموضحة طرقا أخرى لتمييز المؤمنين عن المنافقين :( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ) الحقيقيين من المتظاهرين بالجهاد والصبر.

ومع أنّ لهذا الابتلاء والاختبار أبعادا واسعة ، ومجالات رحبة تشمل الصبر والثبات في أداء كلّ الواجبات والتكاليف ، ولكن المراد منه هنا الامتحان في ساحة الحرب والقتال لمناسبته كلمة «المجاهدين» ، والآيات السابقة واللاحقة ، والحق أنّ ميدان الجهاد ساحة اختبار عسير وشديد ، وقلّما يستطيع المرء أن يخفي واقعه في أمثال هذه الميادين.

وتقول الآية الأخيرة :( وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ ) .

قال كثير من المفسّرين : إنّ المراد من الأخبار هنا أعمال البشر ، وذلك أن عملا ما إذا صدر من الإنسان ، فإنّه سينتشر بين الناس كخبر.

وقال آخرون : إنّ المراد من الأخبار هنا : الأسرار الداخلية ، لأنّ أعمال الناس تخبر عن هذه الأسرار.

ويحتمل أن تكون الأخبار هنا بمعنى الأخبار التي يخبر بها الناس عن وضعهم وعهودهم ومواثيقهم ، فالمنافقون ـ مثلا ـ كانوا قد عاهدوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يرجعوا عن القتال ، في حين أنّهم نقضوا عهدهم :( وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ ) (١) .

__________________

(١) الأحزاب ، الآية ١٥.

٣٨٨

ونراهم في موضع آخر :( وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً ) (١) .

وبهذا فإنّ الله سبحانه يختبر أعمال البشر ، كما يختبر أقوالهم وأخبارهم. وطبقا لهذا التّفسير فإنّ لهاتين الجملتين في الآية مورد البحث معنيين متفاوتين ، مع أنّ إحداهما تؤكّد الأخرى طبقا للتفاسير السابقة.

وعلى أية حال ، فليست هذه المرة الأولى التي يخبر الله سبحانه الناس فيها بأنّي أبلوكم لتمييز صفوفكم ، وليعرف المؤمنون الحقيقيون وضعفاء الإيمان والمنافقون ، وقد ذكرت مسألة الامتحان والابتلاء هذه في آيات كثيرة من القرآن الكريم.

وقد بحثنا المسائل المتعلقة بالاختبار الإلهي في ذيل الآية (١٥٥) من سورة البقرة ، وكذلك وردت في بداية سورة العنكبوت.

ثمّ إنّ جملة( حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ ) لا تعني أنّ الله لا يعلمهم ، بل المراد تحقق هذا المعلوم عمليا ، وتشخيص هؤلاء المجاهدين ، فالمعنى : ليتحقق علم الله سبحانه في الخارج ، وتحصل العينية ، وتتميز الصفوف.

* * *

__________________

(١) الأحزاب ، الآية ١٣.

٣٨٩

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) )

التّفسير

الذين يموتون على الكفر لن يغفر الله لهم :

بعد البحوث المختلفة التي دارت حول المنافقين في الآيات السابقة ، تبحث هذه الآيات وضع جماعة أخرى من الكفار ، فتقول :( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ ) حتى وإن عملوا خيرا ، لأنّه لم يكن مقترنا بالإيمان.

هؤلاء يمكن أن يكونوا مشركي مكّة ، أو الكفار من يهود المدينة ، أو كليهما ، لأنّ التعبير بـ «الكفر» ، و «الصد عن سبيل الله» ، و( شَاقُّوا الرَّسُولَ ) قد ورد بحقّ

٣٩٠

الفريقين في آيات القرآن الكريم.

أمّا «تبيّن الهدى» ، فقد كان عن طريق المعجزات بالنسبة إلى مشركي مكّة ، وعن طريق الكتب السماوية بالنسبة إلى أهل الكتاب.

و «إحباط أعمالهم» إمّا أن يكون إشارة إلى أعمال الخير التي قد يقومون بها أحيانا كإقراء الضيف ، والإنفاق ، ومعونة ابن السبيل ، أو أن يكون إشارة إلى عدم تأثير خطط هؤلاء ومؤامراتهم ضد الإسلام.

وعلى أية حال ، فقد كان هؤلاء الجماعة متّصفين بثلاث صفات : الكفر ، والصد عن سبيل الله ، والعداء للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ كانت إحداها تتعلق بالله سبحانه ، والأخرى بعباد الله ، والثالثة برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وبعد أن تبيّن حال المنافقين ، والخطوط العامة لأوضاعهم ، وجّهت الآية التالية الخطاب إلى المؤمنين مبيّنة خطهم وحالهم ، فقالت :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) .

في الواقع ، إنّ أسلوب حياة المؤمنين وبرنامجهم يقع في الطرف المقابل للكفار والمنافقين في كلّ شيء ، فهؤلاء يعصون أمر الله سبحانه ، وأولئك يطيعونه ، هؤلاء يعادون النبي ، وأولئك يطيعون أمر هو هؤلاء تحبط أعمالهم لكفرهم وريائهم ومنّتهم ، أمّا أولئك فإنّ أعمالهم محفوظة عند الله سبحانه وسيثابون عليها ، لاجتنابهم هذه الأمور.

وعلى كلّ حال ، فإنّ أسلوب الآية يوحي بأنّ من بين المؤمنين أفرادا كانوا قد قصروا في طاعة الله ورسوله وفي حفظ أعمالهم عن التلوث بالباطل ، ولذلك فإنّ الله سبحانه يحذّرهم في هذه الآية.

والشاهد لهذا الكلام سبب النّزول الذي ذكره البعض لهذه الآية ، وهو : إنّ «بني أسد» كانوا قد أسلموا وأتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : إنّنا نؤثرك على أنفسنا ، ونحن وأهلونا رهن إشارتك وأمرك. غير أنّ أسلوبهم في الكلام كانت تلوح منه المنّة ،

٣٩١

فنزلت الآية أعلاه ، وحذّرتهم من ذلك.

واستدل بعض الفقهاء بجملة :( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) على حرمة قطع الصلاة ، ولكنّ الآية مورد البحث وما قبلها وما بعدها شاهدة على أنّها لا تتعلق بهذا الأمر ، بل عدم الإبطال عن طريق الشرك والرياء والمن وأمثال ذلك.

وجاءت الآية الأخيرة من هذه الآيات موضحة ومؤكّدة لما مرّ في الآيات السابقة حول الكفار ، وتهدي إلى الصراط المستقيم من يريد التوبة إلى طريق الرجوع ، فتقول :( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ) لأنّ أبواب التوبة ستغلق بنزول الموت ، ويحمل هؤلاء أوزارهم وأوزار الذين يضلّونهم ، فكيف يغفر الله لهم؟

وبهذا ، فقد ورد الحديث في مجموع هذه الآيات عن ثلاث مجموعات : الكفّار ، والمنافقون ، والمؤمنون ، وتحدّدت صفات كلّ منهم ومصيره.

* * *

بحث

عوامل إحباط ثواب العمل :

من المسائل الأساسية التي أكدت عليها آيات القرآن المختلفة ، ومنها الآية مورد البحث ، هي أن يحذر المؤمنون من أن تحبط أعمالهم كالكفار ، وبتعبير آخر : فإنّ نفس العمل شيء ، والحفاظ عليه شيء أهمّ ، فإنّ العمل الصالح السالم المفيد ، هو العمل الذي يكون منذ البداية سالما من العيوب وأن يحافظ عليه من الخلل والعيب حتى نهاية العمر.

والعوامل التي تؤدي إلى إحباط أعمال الإنسان ، أو تهددها بذلك الخطر كثيرة ، ومن جملتها :

١ ـ المن والأذى كما يقول القرآن الكريم :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا

٣٩٢

صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) (١) .

فهنا ذكر عاملان لبطلان العمل : أحدهما المنّ والأذى ، والآخر الرياء والكفر ، فالأوّل يأتي بعد العمل والثّاني قرينه ، وهما كالنّار يحرقان الأعمال الصالحة.

٢ ـ العجب عامل آخر في إحباط آثار العمل ، كما ورد ذلك في الحديث : «العجب يأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب»(٢) .

٣ ـ الحسد ـ أيضا ـ أحد هذه الأسباب ، والذي ورد فيه تعبير شبيه بما ورد في العجب ، فقد روي عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إيّاكم والحسد ، فإنّ الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب»(٣) .

وكما تذهب الحسنات السيئات( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) (٤) ، فإنّ السيئات تمحو كلّ الحسنات أحيانا.

٤ ـ المحافظة على الإيمان إلى آخر لحظات العمر ، وهذا أهم شرط لبقاء آثار العمل ، لأنّ القرآن يقول بصراحة :( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) (٥) .

من هنا نعرف أهمية ومشاكل وصعوبات مسألة المحافظة على الأعمال ، ولذلك ورد في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «الإبقاء على العمل أشدّ من العمل» ، قال ـ أي الراوي ـ : وما الإبقاء على العمل؟ قال : «يصل الرجل بصلة ، وينفق نفقة لله وحده لا شريك له فكتب له سرّا ، ثمّ يذكرها فتمحى فتكتب له علانية ، ثمّ

__________________

(١) البقرة ، الآية ٢٦٤.

(٢) روح البيان ، المجلد ٨ ، صفحة ٥٢٢.

(٣) بحار الأنوار ، المجلد ٧٣ ، صفحة ٢٥٥.

(٤) هود ، الآية ١١٤.

(٥) الزمر ، الآية ٦٥.

٣٩٣

يذكرها فتمحى وتكتب له رياء»(١) .

وقد أشارت الآية ـ مورد البحث ـ إشارة خفية إلى هذه الأمور حيث تقول :( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) (٢) .

* * *

__________________

(١) الكافي ، المجلد الثاني ، باب الرياء ، الحديث ١٦.

(٢) لمزيد من الإيضاح والتفصيل حول مسألة إحباط العمل راجع ذيل الآية (٢١٧) من سورة البقرة.

٣٩٤

الآية

( فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) )

التّفسير

الصلح المذل!!

متابعة للآيات السابقة التي كانت تتحدّث حول مسألة الجهاد ، تشير هذه الآية إلى أحد الأمور الهامة في مسألة الجهاد ، وهو أنّ ضعفاء الإيمان يطرحون غالبا مسألة الصلح للفرار من مسئولية الجهاد ، ومصاعب ميدان الحرب.

من المسلّم أنّ الصلح خير وحسن جدّا ، لكن في محله ، إذ يكون حينها صلحا يحقق الأهداف الإسلامية السامية ، ويحفظ ماء وجه المسلمين وحيثيتهم وهيبتهم وعظمتهم. أمّا الصلح الذي يؤدي إلى ذلّتهم وانكسار شوكتهم فلا ، ولذلك تقول الآية الشريفة : الآن وقد سمعتم الأوامر الإلهية في الجهاد( فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ) (١) .

أي : الآن وقد لاحت علائم انتصاركم وتفوّقكم ، كيف تذلّون أنفسكم وترضون

__________________

(١) «تدعوا» مجزوم ، وهو معطوف على (لا تهنوا) ، والمعنى : لا تهنوا ولا تدعوا إلى السلم.

٣٩٥

بالمهانة باقتراح الصلح الذي لا يعني إلّا التراجع والهزيمة؟ فليس هذا صلحا في الواقع ، بل هو استسلام وخضوع ينبع من الضعف والانهيار ، وهو نوع من طلب الراحة والعافية ، ويقبح بكم أن تتحملوا عواقبه الأليمة الخطرة.

ومن أجل رفع معنويات المسلمين المجاهدين تضيف الآية :( وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ ) فإنّ من كان الله معه تكون كلّ عوامل الإنتصار مسخّرة له ، فلا يحس بالوحشة أبدا ، ولا يدع للضعف والانهزام سبيلا إلى نفسه ، ولا يستسلم للعدو باسم الصلح ولن يدع نتائج دماء الشهداء ومكاسبها تذهب سدى في اللحظات الحسّاسة.

( لَنْ يَتِرَكُمْ ) من مادة «الوتر» ، وهو المنفرد ، ولذلك يقال لمن قتل قريبه ، وبقي وحيدا : وتر. وجاء أيضا بمعنى النقصان.

وفي الآية ـ مورد البحث ـ كناية جميلة عن هذا المطلب ، بأنّ الله سبحانه لن يترككم وحدكم ، بل سيقرنكم بثواب أعمالكم ، خاصّة وأنّكم تعلمون أنّكم لن تخطوا خطوة إلّا كتبت لكم ، فلم يكن الله لينقص من أجركم شيئا ، بل سيضاعفه ويزيد عليه من فضله وكرمه.

اتضح ممّا قلناه أنّ الآية مورد البحث لا تنافي مطلقا الآية (٦١) من سورة الأنفال حيث تقول :( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) لنجعل إحداهما ناسخة للأخرى ، بل إنّ كلا منها ناظرة إلى مورد خاص ، فإحداهما تنظر إلى الصلح المعقول ، والأخرى إلى الصلح الذي ليس في محله فإنّ أحدهما صلح يحفظ مصالح المسلمين ، والآخر صلح يطرحه ضعفاء المسلمين وهم على أبواب النصر ، ولذلك فإنّ تتمة آية سورة الأنفال تقول :( وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ ) .

وقد أشار أمير المؤمنين عليعليه‌السلام إلى كلا الصالحين في عهده لمالك الأشتر ،

٣٩٦

حيث يقول : «ولا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوّك ولله فيه رضى»(١) .

إنّ طرح قضية الصلح من ناحية العدو من جهة ، وكونه مقترنا برضى الله سبحانه من جهة أخرى ، يبيّن انقسام الصلح إلى القسمين اللذين أشرنا إليهما فيما قلناه.

وعلى أية حال ، فإنّ أمراء المسلمين وأولياء أمورهم يجب أن يكونوا في غاية الحذر في تشخيص موارد الصلح والحرب ، والتي هي من أعقد المسائل وأدقّها ، لأنّ أدنى اشتباه في المحاسبة سيستتبع عواقب وخيمة في هذا المجال.

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

٣٩٧

الآيات

( إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨) )

التّفسير

إن تتولّوا سيمنح الله الرسالة قوما آخرين :

قلنا : إنّ سورة محمّد هي سورة الجهاد ، فبأمر الجهاد بدأت ، وبه تنتهي ، والآيات مورد البحث ـ وهي آخر آيات هذه السورة ـ تتناول مسألة أخرى من مسائل حياة البشر في هذا الميدان ، فتطرح كون الحياة الدنيا لا قيمة لها لزيادة ترغيب المسلمين ودعوتهم إلى طاعة الله سبحانه عموما ، والى أمر الجهاد بالخصوص ، لأنّ حبّ الدنيا والانشداد إليها أحد عوامل المهمّة التي تعوّق عن

٣٩٨

الجهاد ، فتقول :( إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ) .

«اللعب» يقال للأعمال التي تتصف بنوع من الخيال للوصول إلى هدف خيالي ، و «اللهو» يقال لكلّ عمل يشتغل الإنسان به فيصرفه عن المسائل الأساسية.

والحق أنّ الدنيا لعب ولهو ليس إلّا ، فلا يحصل منها أنس وارتياح ، وليس لها دوام وبقاء ، وإنّما هي لحظات كلمح البصر ، ولذات زائلة تحفّها الآلام والمتاعب.

ثمّ تضيف الآية :( وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ) (١) فلا أنّ الله يسألكم أجرا مقابل الهداية والرشاد وكلّ تلك الهبات العظيمة في الدنيا والآخرة ، ولا رسوله ، فإنّ الله تعالى غني عن العالمين ، ولا يحتاج رسوله إلى غير الله.

وإذا كان الشيء الزهيد من أموالكم يؤخذ كزكاة وخمس وحقوق شرعية أخرى ، فإنّه يعود عليكم ويصرف فيكم ، لحماية يتاماكم ومساكينكم وضعفائكم وأبناء السبيل منكم ، وللدفاع عن أمن بلادكم واستقلالها ، ولاستقرار النظام والأمن ، ولتأمين احتياجاتكم ، وعمران دياركم.

بناء على هذا ، فحتى هذا المقدار اليسير هو من أجلكم ومنفعتكم ، فإنّ الله ورسوله في غنى عنكم ، وبذلك فلا منافاة بين مفهوم هذه الآية وآيات الزكاة والإنفاق وأمثالها.

ثمّة احتمالات أخرى عديدة في تفسير جملة :( وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ) ولرفع ما يبدو في الظاهر تناقضا :

فقال البعض : إنّه تعالى لا يسألكم شيئا من أموالكم مقابل الهداية والثواب.

وقال آخرون : إنّه تعالى لا يسألكم كلّ أموالكم ، بل يريد قسما منها فقط.

وقال جماعة : إنّ هذه الجملة إشارة إلى أنّ أموال الجميع من الله سبحانه ، وإن كانت ودائع بأيدينا أيّاما قليلة.

__________________

(١) جملة (لا يسألكم) مجزومة ، ومعطوفة على جزاء الجملة الشرطية ، أي : يؤتكم.

٣٩٩

لكن أفضلها جميعا هو التّفسير الأول.

وعلى أية حال ، فلا ينبغي نسيان أنّ جانبا من الجهاد هو الجهاد بالأموال ، ومن الطبيعي أنّ كلّ جهاد للعدو وقتال ضده يحتاج إلى أموال وميزانيات يجب أن تجمع وتهيّأ من قبل المسلمين الزاهدين في الدنيا وغير المتعلّقين بها. والآيات مورد البحث تهيء ـ في الحقيقة ـ الأرضية الفكرية والثقافية لهذه المسألة.

ولتبيان تعلّق أغلب الناس بأموالهم وثرواتهم الشخصية تضيف الآية التالية :( إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ ) .

«يحفكم» من مادة إحفاء ، أي : الإصرار والإلحاح في المطالبة والسؤال ، وهي في الأصل من حفأ ، وهو المشي حافيا ، وهذا التعبير كناية عن الأعمال التي يتابعها الإنسان إلى أبعد الحدود ، ومن هنا كان إحفاء الشارب يعني تقصيره ما أمكن.

و «الأضغان» جمع ضغن ، وهو بمعنى الحقد الشديد ، وقد أشرنا إليه سابقا.

وخلاصة القول : فإنّ الآية تبيّن التعلّق الشديد لكثير من الناس بالأمور المالية ، وهي في الحقيقة نوع من اللوم ولتوبيخ لهؤلاء ، وفي نفس الوقت ترغيب في ترك هذا الارتباط ، وتشويق إلى هذا المعنى ، فإنّ تعلّقهم بلغ حدّا أنّ الله سبحانه إذا سألهم شيئا من أموالهم فإنّهم يغضبون ويحقدون عليه!

وبذلك فإنّ الآية ترديد أن توقظ أرواح البشر الغاطّة في نومها العميق بسوط التقريع والملامة والعتاب ، ليرفعوا عن أعناقهم قيود الذل والعبودية للأموال ، ويصبحوا في حال يضحّون عندها بكلّ ما لديهم في سبيل الله ، ويقدّمون ما عندهم بين يديه ، ولا يرجون في مقابل ما يعطون إلّا الإيمان به وتقواه ورضاه عنهم.

والآية الأخيرة ـ من الآيات مورد البحث ، وهي آخر آية من سورة محمّد ـ تأكيد آخر على ما مرّ في الآيات السابقة حول المسائل المادية وتعلّق الناس بها ، ومسألة الإنفاق في سبيل الله ، فتقول :( ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ) .

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592