الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل13%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177371 / تحميل: 5801
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

فتحصّنوا عنه بالحصون، وتمادى بهم التحصّن قريباً من سنة ونصف حتّى ظهر فيهم القحط والوباء.

وأصرّ بخت نصّر على المحاصرة حتّى فتح الحصون، وذلك في سنة خمسمائة وستّ وثمانين قبل المسيح، وقتل نفوسهم، وخرب ديارهم وخرّبوا بيت الله وأفنوا كلّ آية وعلامة دينيّة وبدّلوا هيكلهم تلّاً من تراب، وفقدت عند ذلك التوراة والتابوت الّذي كانت تجعل فيه.

وبقى الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريباً وهم قاطنون ببابل وليس من كتابهم عين ولا أثر ولا من مسجدهم وديارهم إلّا تلال ورياع.

ثمّ لمّا جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك وكان من أمره مع البابليّين ما كان وفتح بابل ودخله أطلق اُسراء بابل من بني اسرائيل وكان عزرا المعروف من المقرّبين عنده فأمّره عليهم وأجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة ويبني لهم الهيكل ويعيدهم إلى سيرتهم الاُولى وكان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمائة وسبعة وخمسين قبل المسيح وبعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق وصحّحها وهي التوراة الدائرة اليوم(١) .

وأنت ترى بعد التدبّر في القصّة أنّ سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير متّصلة بموسى (عليه السلام) إلّا بواحد (وهو عزرا) لا نعرفه أوّلاً ولا نعرف كيفيّة اطّلاعه وتعمّقه ثانياً ولا نعرف مقدار أمانته ثالثاً، ولا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعاً، ولا ندري بالاستناد إلى أيّ مستند صحّح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامساً.

وقد أعقبت هذه الحادثة المشئومة أثراً مشئوماً آخر وهو إنكار عدّة من باحثي المورّخين من الغربيّين وجود موسى وما يتبعه، وقولهم: إنّه شخص خياليّ كما قيل

____________________

(١) مأخوذ من قاموس الكتاب المقدّس تأليف مستر هاكس الامريكائي الهمداني ومآخذ اُخرى من التواريخ.

٣٤١

نظيره في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام. لكنّ ذلك لا يسع لمسلم فإنّ القرآن الشريف يصرّح بوجوده (عليه السلام) وينصّ عليه.

٢ - قصّة المسيح والإنجيل:

اليهود مهتمون بتاريخ قوميّتهم وضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار الّتي مرّت بهم، ومع ذلك فإنّك لو تتبّعت كتبهم ومسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام): لا على كيفيّة ولادته ولا على ظهوره ودعوته ولا على سيرته والآيات الّتي أظهرها الله على يديه ولا على خاتمة حياته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك. فما هو السبب في ذلك؟ وما هو الّذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفائهم أمره؟

والقرآن يذكر عنهم أنّهم قذفوا مريم ورموها بالبهتان في ولادة عيسى، وأنّهم ادّعوا قتل عيسى. قال تعالى:( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلّا اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً ) النساء - ١٥٧.

فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القوميّة من غير أن يكون مودعاً في كتاب؟ وعند كلّ اُمّة أحاديث دائرة من واقعيّات وأساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.

أو أنّهم سمعوا من النصارى الذكر المكرّر من المسيح وولادته وظهوره ودعوته فأخذوا ذلك من أفواههم وباهتوا مريم، وادّعوا قتل المسيح؟ لا طريق إلى استبانة شئ من ذلك غير أنّ القرآن - كما يظهر بالتدبّر في الآية السابقة - لا ينسب إليهم صريحاً إلّا دعوى القتل دون الصلب، ويذكر أنّهم على ريب من الأمر وأنّ هناك اختلافاً.

وأمّا حقيقة ما عند النصارى من قصّة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أنّ قصّته (عليه السلام) وما يتعلّق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدّسة عندهم وهي الأناجيل الأربعة الّتي هي أناجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا، وكتاب أعمال الرسل للوقا،

٣٤٢

وعدّة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنّا ويهودا. واعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها:

أمّا إنجيل متّى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنّه صنّف سنة ٣٨ الميلاديّة، وذكر آخرون أنّه كتب ما بين سنة ٥٠ إلى سنة ٦٠(١) فهو مؤلّف بعد المسيح.

والمحقّقون من قدمائهم ومتأخّريّهم على أنّه كان أصله مكتوباً بالعبرانيّة ثمّ ترجم إلى اليونانيّة وغيرها أمّا النسخة الأصليّة العبرانيّة فمفقودة، وأمّا الترجمة فلا يدري حالها، ولا يعرف مترجمها(٢) .

وأمّا إنجيل مرقس: فمرقس هذا كان تلميذاً لبطرس، ولم يكن من الحواريّين وربّما ذكروا أنّه إنّما كتب إنجيله بإشارة بطرس وأمره، وكان لا يرى إلهيّة المسيح(٣) ولذلك ذكر بعضهم أنّه إنّما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرّف المسيح تعريف رسول إلهيّ مبلّغ لشرائع الله(٤) وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة ٦١ ميلاديّة.

وأما إنجيل لوقا: فلوقا هذا لم يكن حواريّاً ولا رأى المسيح وإنّما تلقّن النصرانيّة من بولس، وبولس كان يهوديّاً متعصّباً على النصرانيّة يوذي المؤمنين بالمسيح ويقلّب الاُمور عليهم ثمّ اتّفق مفاجأة أن ادّعى أنّه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه وزجره عن الإساءة إلى متّبعيه وأنّه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشّر بإنجيله.

____________________

(١) قاموس الكتاب المقدّس للمستر هاكس مادّة - متى.

 (٢) كتاب ميزان الحقّ واعتراف به على تردّد في قاموس الكتاب المقدّس.

 (٣) نقل ذلك عبد الوهّاب النجّار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الاخبار في تراجم الاخبار لبطرس قرماج.

(٤) ذكره في قاموس الكتاب المقدّس. يقول فيه: إن نصّ تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله برومية وانتشر بعد وفاة بطرس وبولس لكنّه ليس له كثير اعتبار لأن ظاهر إنجيله أنّه كتبه لأهل القبائل والقرويين لا لأهل البلاد وخاصّة الروميّة. فتدبّر في كلامه !

٣٤٣

وبولس هذا هو الّذي شيّد أركان النصرانيّة الحاضرة على ما هي عليها(١) فبني التعليم على أنّ الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل وأباح لهم أكل الميتة ولحم الخنزير ونهى عن الختنة وكثير ممّا في التوراة(٢) مع أنّ الإنجيل لم يأت إلّا مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، ولم يحلّل إلّا أشياء معدودة. وبالجملة إنّما جاء عيسى ليقوّم شريعة التوراة ويردّ إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الإيمان الخالي.

وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس. وذلك بعد موت بطرس وبولس. وقد صرّح جمع بأنّ إنجيله ليس كتاباً إلهاميّاً كسائر الأناجيل(٣) كما يدلّ عليه ما وقع في مبتدء إنجيله.

وأمّا إنجيل يوحنّا فقد ذكر كثير من النصارى أنّ يوحنّا هذا هو يوحنّا بن زبديّ الصيّاد أحد التلاميذ الإثنى عشر (الحواريّين) الّذي كان يحبّه المسيح حبّاً شديداً(٤) .

وذكروا أنّ (شيرينطوس) و(أبيسون) وجماعتهما لمّا كانوا يرون أنّ المسيح ليس إلّا إنساناً مخلوقاً لا يسبق وجوده وجود اُمّه اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في سنة ٩٦

____________________

(١) راجع مادّة بولس من قاموس الكتاب المقدّس.

(٢) راجع كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس.

(٣) قال في أوّل إنجيل لوقا:( لأجل أن كثيرين راموا كتب قصص الاُمور الّتي نحن بها عارفون كما عهد الينا اولئك الأوّلون الّذين كانوا من قبل معاينين وكانوا خداما للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ كنت تابعا لكلّ شئ بتحقيق أن أكتب اليك أيّها العزيز ثاوفيلا) ودلالته على كون الكتاب نظريا غير إلهامي ظاهرة وقد نقل ذلك أيضاً عن مستر كدل في رسالة اللّهمّ وصرح جيروم أن بعض القدماء كانوا يشكون في البابين الأوّلين من إنجيل لوقا وأنّهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني وجزم إكهارن في كتابه ص ٩٥ أن من ف ٤٣ إلى ٤٧ من الباب ٢٢ من إنجيل لوقا الحاقية وذكر إكهارن أيضاً في ص ٦١ من كتابه: قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات الّتي نقلها لوقا والكاتب ضمه على طريق المبالغة الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير وقول:( كلي مي شيس أن متّى ومرقس يتخالفان في التحرير وإذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا) نقل عن قصص الأنبياء للنجّار - ص ٤٧٧.

(٤) راجع قاموس الكتاب المقدّس مادّة يوحنّا.

٣٤٤

ميلاديّة عند يوحنّا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم ويبيّن بنوع خصوصيّ لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم(١) .

وقد اختلفت كلماتهم في السنة الّتي اُلّف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنّها سنة ٦٥ وقائل أنّها سنة ٩٦ وقائل أنّها سند ٩٨.

وقال جمع منهم إنّه ليس تأليف يوحنّا التلميذ: فبعضهم على أنّه تأليف طالب من طلبة المدرسة الاسكندريّة(٢) وبعضهم على أنّ هذا الإنجيل كلّه وكذا رسائل يوحنّا ليست من تصنيفه بل إنّما صنّفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني، ونسبه إلى يوحنّا ليعتربه الناس(٣) وبعضهم على أنّ إنجيل يوحنّا كان في الأصل عشرين باباً فألحقت كنيسة (أفاس) الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنّا(٤) فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة وإذا أخذنا بالقدر المتيقّن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم: متّى، مرقس، لوقا، يوحنّا، بطرس، بولس، يهوذا، ينتهي ركونهم كلّه إلى هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متّى وقد مرّ أنّه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الّذي ترجمه؟ وكيف كان أصله. وعلى ما ذا كان يبني تعليمه أبرسالة المسيح أم باُلوهيّته.

وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنّه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجّار وأقام الدعوة إلى الله، وكان يدّعي أنّه ابن الله مولود من غير أب بشريّ وأنّ أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل، وأنّه أحيى الميّت وأبرء الأكمه والأبرص وشفى المجانين بإخراج الجنّ من أبدانهم، وأنّه كان له إثنا عشر تلميذاً: أحدهم متّى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحيّ إلخ.

____________________

(١) نقله في قصص الأنبياء عند جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.

 (٢) نقل ذلك من كتاب (كاتلك هر الد) في المجلد السابع المطبوع سنة ١٨٤٤ ص ٢٠٥ نقله عن استادلن (عن القصص) وأشار إليه في القاموس في مادّة يوحنّا.

 (٣) قال ذلك (بر طشنيدر) على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الأوّل (عن القصص).

(٤) المدرك السابق.

٣٤٥

 فهذا ملخّص ما تنتهى إليه الدعوة المسيحيّة على انبساطها على شرق الأرض وغربها، وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم، مبهم العين والوصف.

وهذا الوهن العجيب في مبدء القصّة هو الّذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من اُروبه أن أدّعى أنّ المسيح عيسى بن مريم شخص خياليّ صوّره بعض النزعات الدينيّة على حكومات الوقت أو لها وتأيّد ذلك بموضوع خرافيّ آخر يشبهه كلّ الشبه في جميع شئون القصّة وهو موضوع (كرشنا) الّذي تدّعي وثنيّة الهند القديمة أنّه ابن الله نزل عن لاهوته، وفدى الناس بنفسه صلباً ليخلّصهم من الأوزار والخطايا كما يدّعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل (كما سيجئ ذكره).

وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أنّ هناك شخصين مسمّيين بالمسيح: المسيح غير المصلوب، والمسيح المصلوب. وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون.

وأنّ التاريخ الميلاديّ الّذي سنتنا هذه سنة الف وتسعمائة وستّة وخمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأوّل غير المصلوب يتقدّم عليه بما يزيد على مأتين وخمسين سنة وقد عاش نحواً من ستّين سنة والمسيح الثاني المصلوب يتأخّر عنه بما يزيد على مأتين وتسعين سنة وقد عاش نحواً من ثلاث وثلاثين سنة(١)

على أنّ عدم انطباق التاريخ الميلاديّ على ميلاد المسيح في الجملة ممّا لم يسع للنصارى إنكاره(٢) وهو سكتة تاريخيّة.

على أنّ هيهنا اُموراً مريبة موهمة اُخرى فقد ذكروا أنّه كتب في القرنين الأوّلين من الميلاد أناجيل كثيرة اُخرى ربّما أنهوها إلى نيّف ومائة من الأناجيل والأناجيل الأربعة منها ثمّ حرّمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلّا الأناجيل الأربعة

____________________

(١) وقد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل (بهروز) في كتاب ألفه جديداً في البشارات النبوّية وأرجو أن أوفق لايداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب والقدر المتيقن (الّذي يهمنا منه) اختلال التاريخ المسيحي.

(٢) راجع مادّة مسيح من قاموس الكتاب المقدس.

٣٤٦

الّتي عرفت قانونيّة لموافقة متونها تعليم الكنيسة(١) .

ومن جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الّذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت إلى العربيّة والفارسيّة، وهو يوافق في عامّة قصصه ما قصّه القرآن في المسيح عيسى بن مريم(٢) .

ومن العجيب أنّ الموادّ التاريخيّة المأثورة عن غير اليهود أيضاً ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحيّة من حديث البنوّة والفداء وغيرهما. ذكر المورّخ الإمريكيّ الشهير (هندريك ويلم وان لون) في تأليفه في تاريخ البشر كتاباً كتبه الطبيب (إسكولابيوس كولتلوس) الروميّ سنة ٦٢ الميلاديّة إلى ابن أخيه (جلاديوس أنسا) وكان جنديّاً في عسكر الروم بفلسطين، يذكر فيه أنّه عاد مريضاً بروميّة يسمّى بولس فأعجبه كلامه وقد كان بولس كلّمه بالدعوة المسيحيّة، وذكر له طرفاً من أخبار المسيح ودعوته.

ثمّ يذكر أنّه ترك بولس ولم يره حتّى سمع بعد حين أنّه قتل في طريق (أوستى) ثمّ يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبيّ الاسرائيليّ الّذي كان يذكره بولس وعن أخبار بولس نفسه ويكتب إليه ما بلغه من ذلك.

____________________

(١) ولقد لام (شيلسوس) الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه (الخطاب الحقيقي) على تلاعبهم بالاناجيل، ومحوهم بالغد ما أدرجوه بالامس، وفي سنة ٣٨٤ م أمر البابا داماسيوس أن تحرر ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم والحديث تعتبر قانونيّة في الكنائس وكان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدلية بين الاساقفة، وتمت تلك الترجمة الّتي تسمى (فولكانا) وكان ذلك خاصّا بالاناجيل الاربعة: متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا وقد قال مرتب تلك الاناجيل: (بعد أن قابلنا عددا من النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ماكان فيها مغايرا للمعنى، وأبقينا الباقي على ماكان عليه) ثمّ إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع (التريدنتيني) سنة ١٥٤٦ أي بعدها بأحد عشر قرنا، ثمّ خطأها سيستوس الخامس سنة ١٥٩٠ وأمر بطبع نسخ جديدة ثمّ خطأ كليمنضوس الثامن هذه النسخة الثانية أيضاً، وأمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين (تفسير الجواهر - الجزء الثاني - ص ١٢١ الطبعة الثانية).

(٢) وقد وجد هذا الانجيل بالخط الايطالي منذ سنين وترجمه إلى العربيّة الدكتور خليل سعاده بمصر وترجمه إلى الفارسيّة الحبر الفاضل (سردار كابلي) بإيران.

٣٤٧

فكتب إليه (جلاديوس أنسا) بعد ستّة أسابيع من معسكر الروم باُورشليم: أنّي سألت عدّة من شيوخ البلد ومعمّريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم( هذا والسنة سنة ٦٢ ميلاديّة وهم شيوخ !) .

حتّى لقيت بيّاع زيتون فسألته هل يعرفه؟ فأنعم لي في الجواب ثمّ دلّني على رجل اسمه يوسف، و ذكر أنّه كان من أتباعه ومحبّيه وأنّه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه.

فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحّصت أيّاماً فوجدته شيخاً هرماً وقد كان قديماً يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.

كان الرجل على كبر سنّه صحيح المشاعر جيّد الحافظة وقصّ لي جميع الأخبار والقضايا الحادثة في ذلك الأوان، أوان الاغتشاش والفتنة.

ذكر أنّ فونتيوس فيلاطوس كان حاكماً على سامرا ويهوديّه في عهد القيصر (تي بريوس).

فاتّفق أن وقع أيّام حكومته فتنة في اُورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد ما فيه من نار الفتنة وكانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أنّ ابن نجّار من أهل الناصرة يدعو الناس ويستنهضهم على الحكومة.

فلمّا تحقّقوا أمره تبيّن أنّ ابن النجّار المتّهم شابّ عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة غير أنّ رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه ويباغضونه بأشدّ ما يكون وقد قالوا لفيلاطوس إنّ هذا الشابّ الناصريّ يقول: لو أنّ يونانيّاً أو روميّاً أو فلسطينيّاً عامل الناس وعاشرهم بالعدالة والشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في مطّلعة كتاب الله وتلاوة آياته.

وكأنّ هذه التعرّضات والاقتراحات لم تؤثّر في فيلاطوس أثرها لكنّه لما سمع ازدحام الناس قبال المعبد وهم يريدون أن يقبضوا على عيسى وأصحابه ويقطّعوهم إرباً إرباً رأى أنّ الأصلح أن يقبض هو على هذا الشابّ النجّار ويسجنة حتّى لا يقتل بأيدي الناس في غوغائهم.

٣٤٨

وكان فيلاطوس لم يتّضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كلّ الاتّضاح وكلّما كلّم الناس في أمره وسألهم واستوضحهم علت أصواتهم وتنادوا (هو كافر) (هو ملحد) (هو خائن) فلم ينته الأمر إلى طائل.

حتّى استقرّ رأي فيلاطوس أن يكلّم عيسى بنفسه فأشخصه وكلّمه وسأله عمّا يقصده بما يبلّغه من الدين فأجابه عيسى أنّه لا يهتمّ بأمر الحكومة والسياسة ولا له في ذلك غرض وأنّه يهتمّ بالحياة الروحانيّة أكثر ممّا يهتمّ بأمر الحياة الجسمانيّة وأنّه يعتقد أنّ الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس ويعبد الله الفرد الواحد وحده الّذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.

وكان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيّين وسائر فلاسفة يونان فكأنّه لم ير في ما كلّمه به عيسى موضع غمضة ولا محلّ مؤاخذة ولذلك عزم ثانياً أن يخلّص هذا النبيّ السليم المتين من شرّ اليهود وسوّف في حكم قتله وإنجازه.

لكنّ اليهود لم يرضوا بذلك ولم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنّه فتن بأكاذيب عيسى وأقاويله وأنّ فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر، وأخذوا يستشهدون عليه ويسجّلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة، وقد كان برز قبل ذلك فتن وانقلابات في فلسطين. والقوى المؤمّنة القيصريّة قليلة العدّة لا تقوى على إسكات الناس فيها كلّ القوّة.

وكان على الحكّام وسائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب شكواهم وعدم رضايتهم.

فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بدّاً من أن يفدي هذا الشابّ المسجون للأمن العامّ، ويجيب الناس فيما سألوه من قتله.

وأمّا عيسى فإنّه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه وقد عفى قبل موته عمّن تسبّب إلى قتله من اليهود ثمّ قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه ويشتمونه ويسبّونه.

٣٤٩

قال (جلاديوس أنسا) هذا ما قصّ لي يوسف من قصّة عيسى ودموعه تجري على خدّيه وحين ودّعني للمفارقة قدّمت إليه شيئاً من المسكوك الذهبيّ لكنّه أبى أن يأخذه، وقال لي يوجد هيهنا من هو أفقر منّي فأعطه إيّاه.

وسألته عن بولس رفيقك المعهود فما كان يعرفه معرفة تامّة. والقدر الّذي تبيّن من أمره أنّه كان رجلاً خيّاماً ثمّ ترك شغله واشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب الربّ الرؤوف الرحيم الإله الّذي بينه وبين (يهوّه) إله يهود الّذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد ممّا بين السماء والأرض.

والظاهر أنّ بولس سافر أوّلاً إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى يونان وأنّه كان يقول للعبيد والأرقّاء إنّهم جميعاً أبناء لأب يحبّهم ويرأف بهم وأنّ السعادة ليست تخصّ بعض الناس دون بعض بل تعمّ جميع الناس من فقير وغنيّ بشرط أن يعاشروا على المواخاة ويعيشوا على الطهارة والصداقة انتهى ملخّصاً.

هذه عامّة فقرات هذا الكتاب ممّا يرتبط بما نحن فيه من البحث.

وبالتأمّل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصّل للمتأمّل أنّ ظهور الدعوة المسيحيّة كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى (عليه السلام). وأنّه لم يكن إلّا ظهور دعوة نبويّة بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهيّة بظهور اللاهوت ونزولها إليهم وتخليصهم بالفداء!

ثمّ إنّ عدّة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس وتلامذة تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند وإفريقيّة وروميّة وغيرها وبسطوا الدعوة المسيحيّة لكنّهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصليّة من التعليم كلاهوت المسيح وكفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى وكون دين الإنجيل ديناً أصيلاً ناسخاً لدين موسى أو كونه تابعاً لشريعة التوراة مكمّلاً إيّاها(١) فافترقوا عند ذلك فرقاً.

____________________

(١) يشير إليه كتاب الرسل ووسائل بولس، وقد اعترضت به النصارى

٣٥٠

والّذي يجب الإمعان فيه أنّ الاُمم الّتي بسطت الدعوة المسيحيّة وظهرت فيها أوّل ظهورها كالروم والهند وغيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنيّة الصابئة أو البرهمنيّة أو البوذائيّة وفيها اُصول من مذاق التصوّف من جهة والفلسفة البرهمنيّة من جهة وفيها جميعاً شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت. على أنّ القول بتثليث الوحدة ونزول اللاهوت في لباس الناسوت وتحمّلها الصلب(١) والعذاب فدائا كان دائراً بين القدماء من وثنيّة الهند والصين ومصر وكلدان والآشور والفرس وكذا قدماء وثنيّة الغرب كالرومان والاسكندناويّين وغيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلّفة في الاديان والمذاهب القديمة.

ذكر (دوان) في كتابه (خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الاُخرى): إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أنّ أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتيّة هو التثليث ويسمّون هذا التعليم بلغتهم (ترى مورتى) وهي عبارة مركّبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتيّة (ترى) ومعناها الثلاثة و(مورتى) ومعناها هيآت أو أقانيم وهي (برهما، وفشنو، وسيفا) ثلاثة أقانيم متّحدة لا ينفكّ عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم.

ثمّ ذكر: أنّ برهما عندهم هو الأب وفشنو هو الابن، وسيفا هو روح القدس.

ثمّ ذكر أنّهم يدعون سيفا (كرشنا)(٢) الربّ المخلّص والروح العظيم الّذي ولد منه (فشنو) الإله الّذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلّص الناس فهو أحد الأقانيم الثلاثة الّتي هي الإله الواحد.

____________________

(١) القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جدّاً فقد كانوا يقتلون من اشتدّ جرمه وفظع دنبه بالصلب الّذي هو من أشدّ أسباب القتل عذاباً وأسوئها ذكراً، وكانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحديهما الاُخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثمّ يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين ويدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير، وكذا تدق قدماه على الخشبة وربّما شدتا من غير دقّ ثمّ تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوماً أو أيّاماً ثمّ تكسر قدماه من الساقين ويقتل على الصليب أو ينزل فيقتل بعد الانزال، وكان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة وكان من العار الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب.

(٢) وهو المعبر عنه ابلانكليزية (كرس) وهو المسيح المخلص.

٣٥١

 وذكر أيضاً: أنّهم يرمزون للاُقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.

وقال مستر (فابر) في كتابه (أصل الوثنيّة) كما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلّفاً من (برهما) و(فشنو) و(سيفا) نجد عند البوذيّين ثالوثاً فإنّهم يقولون: إنّ (بوذ) إله له ثلاثة أقانيم. وكذلك بوذيو (جينست) يقولون: إنّ (جيفا) مثلّث الأقانيم.

قال: والصينيّون يعبدون بوذه ويسمّونه (فو) ويقولون إنّه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.

وقال دوان في كتابه المتقدّم ذكره: وكان قسّيسوا هيكل منفيس بمصر يعبّرون عن الثالوث المقدّس للمبتدئين بتعلّم الدين بقولهم: إنّ الأوّل خلق الثاني والثاني خلق الثالث وبذلك تمّ الثالوث المقدّس.

وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره: هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كلّ شئ ثمّ الكلمة ومعهما روح القدس ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة، وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوّة الأبديّة فاذهب يا فاني يا صاحب الحياه القصيرة.

وقال بونويك في كتابه (عقائد قدماء المصريّين) أغرب كلمة عمّ انتشارها في ديانة المصريّين هي قولهم بلاهوت الكلمة، وأنّ كلّ شئ حصل بواسطتها، وأنّها منبثقة من الله، وأنّها هي الله انتهى. وهذا عين العبارة الّتي يبتدي بها إنجيل يوحنّا.

وقال (هيجين) في كتاب (الإنكلوساكسون) كان الفرس يدعون متروساً الكلمة والوسيط ومخلّص الفرس.

ونقل عن كتاب سكّان اُوروبة الأوّلين: أنّه كان الوثنيّون القدماء يقولون: إنّ الإله مثلّث الأقانيم.

ونقل عن اليونان والرومان والفنلنديّين والاسكندناويّين قضيّة الثالوث السابق الذكر وكذا القول بالكلمة عن الكلدانيّين والآشوريّين والفينيقيّين.

وقال دوان في كتابه (خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الاُخرى) (ص ١٨١ - ١٨٢) ما ترجمته بالتلخيص:

٣٥٢

(إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدائا عن الخطيئة قديم العهد جدّاً عند الهنود الوثنيّين وغيرهم) وذكر شواهد على ذلك:

منها قوله: يعتقد الهنود أنّ كرشنا المولود البكر - الّذي هو نفس الإلهة فشنو الّذى لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم - تحرّك حنوّاً كي يخلّص الأرض من ثقل حملها فأتاها وخلّص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.

وذكر أنّ (مسترمور) قد صوّر كرشنا مصلوباً كما هو مصوّر في كتب الهنود مثقوب اليدين والرجلين، وعلى قميصه صورة قلب الإنسان معلّقاً، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب. والنصارى تقول: إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك.

وقال (هوك) في ص ٣٢٦ من المجلد الأوّل من رحلته: ويعتقد الهنود الوثنيّون بتجسّد بعض الآلهة وتقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.

وقال (موريفور ليمس) في ص ٢٦ من كتابه (الهنود) ويعتقد الهنود الوثنيّون بالخطيئة الأصليّة وممّا يدلّ على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسّلاتهم الّتي يتوسّلون بها بعد (الكياتري) وهو إنّي مذنب ومرتكب الخطيئة، وطبيعتي شريرة، وحملتني اُمّي بالإثم فخلّصني يا ذا العين الحندقوقيّة يا مخلّص الخاطئين من الآثام والذنوب.

وقال القسّ (جورج كوكس) في كتابه (الديانات القديمة) في سياق الكلام عن الهنود: ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً لأنّه قدّم شخصه ذبيحة.

ونقل (هيجين) عن (اندارا دا الكروزوبوس) وهو أوّل اُوروبيّ دخل بلاد التيبال والتبّت: أنّه قال في الإله (اندرا) الّذي يعبدونه: أنّه سفك دمه بالصلب وثقب المسامير لكي يخلّص البشر من ذنوبهم وأنّ صورة الصلب موجودة في كتبهم.

وفي كتاب (جورجيوس) الراهب صورة الإله (اندرا) هذا مصلوباً، وهو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسيّ اقصرها - وفيه صورة وجهه - والسفلى أطولها ولو لا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنّها تمثّل شخصاً هذا.

٣٥٣

وأمّا ما يروى عن البوذيّين في بوذا فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتّى أنّهم يسمّونه المسيح، والمولود الوحيد، ومخلّص العالم ويقولون إنّه إنسان كامل وإله كامل تجسّد بالناسوت، وأنّه قدّم نفسه ذبيحة ليكفّر ذنوب البشر ويخلّصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها، ويجعلهم وارثين لملكوت السماوات بيّن ذلك كثير من علماء الغرب: منهم (بيل) في كتابه و(هوك) في رحلته و(موالر) في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتيّة وغيرهم.(١)

فهذه نبذة أو اُنموذجة من عقيدة تلبّس اللاهوت بالناسوت، وحديث الصلب والفداء في الديانات القديمة الّتي كانت الاُمم متمسّكين بها منكبّين عليها يوم شرعت الديانة النصرانيّة تنبسط على الأرض وأخذت الدعوة المسيحيّة تأخذ بمجامع القلوب في المناطق الّتي جال الدعاة المسيحيّون فيها فهل هذا إلّا أنّ الدعاة المسيحيّين أخذوا اُصول المسيحيّة وأفرغوها في قالب الوثنيّة واستمالوا بذلك قلوب الناس في تقبّل دعوتهم وهضم تعليمهم؟

ويؤيّد ذلك ما ترى في كلمات بولس وغيره من الطعن في حكمة الحكماء وفلسفتهم والإزراء بطرق الاستدلالات العقليّة وأنّ الإله الربّ يرجّح بلاهة الأبله على عقل العاقل.

وليس ذلك إلّا لأنّهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقّل والاستدلال فردّه أهله بأنّه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقّله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة والامتلاء بالروح المقدّس فشاكلوا بذلك ما يصرّ به جهلة المتصوّفة أنّ طريقتهم طور وراء طور العقل.

ثمّ إنّ الدعاة منهم ترهبوا وجالوا في البلاد (على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل والتواريخ) وبسطوا الدعوة المسيحيّة واستقبلتهم في ذلك العامّة في شتات البلاد، كان من سرّ موفّقيّتهم وخاصّة في إمبراطوريّة الروم هي الضغطة الروحيّة الّتي عمّت

____________________

(١) يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار - الجزء السادس في تفسير النساء وفي دوائر المعارف وفي كتاب العقائد الوثنيّة في الديانة النصرانيّة وغيرها.

٣٥٤

البلاد من فشوّ الظلم والتعدّي، وشمول أحكام الاسترقاق والاستعباد، والبون البعيد في حياة الطبقة الحاكمة والمحكومة والآمرة والمأمورة والفصل الشاسع بين عيشة الاغنياء وأهل الإتراف والفقراء والمساكين والأرقّاء.

وقد كانت الدعاة تدعو إلى المواخاة والمحابّة و التساوي والمعاشرة الجميلة بين الناس ورفض الدنيا وعيشتها الكدرة الفانية والاقبال على الحياة الصافية السعيدة الّتي في ملكوت السماء ولهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك والقياصرة كلّ العناية، ولا يقصدونهم بالأذى والسياسة والطرد.

فلم يزالوا يزيدون عدداً من غير تظاهر وتنافس وينمون قوّة وشدّة حتّى حصل لهم جمّ غفير في إمبراطوريّة الروم وإفريقيّة والهند وغيرها من البلاد. ولم يزالوا كلّما بنوا كنيسة وفتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحداً من بيوت الأوثان وأغلقوا بابه.

وكانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنيّة في هدم أساسهم، ولا بملوك الوقت وحكّامه في التعالي عن خضوعهم وفي مخالفة أحكامهم ودساتيرهم وربّما كان ذلك يؤدّيهم إلى الهلاك والقتل والحبس والعذاب فكان لا تزال تقتل طائفة وتسجن اُخرى وتشرّد ثالثة.

وكان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر (كنستانتين) فآمن بالملّة المسيحيّة وأعلن بها فأخذ التنصّر بالرسميّة وبنيت الكنائس في الروم وما يتبع إمبراطوريّته من الممالك وذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلاديّ.

تمركزت النصرانيّة يومئذ في كنيسة الروم وأخذت تبعث القسّيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس والديرات ومدارس يدرسون بها التعليم الإنجيليّ.

والّذي يجب إلتفات النظر إليه أنّهم وضعوا البحث على اُصول مسلّمة إنجيليّة فأخذوا التعاليم الإنجيليّة كمسألة الأب والابن والروح، ومسألة الصلب والفداء وغير ذلك اُصولاً مسلّمة وبنوا البحث والتنقير عليها.

٣٥٥

وهذا أوّل ما ورد على أبحاثهم الدينيّة من الوهن والوهي فإنّ استحكام البناء المبنيّ وإن بلغ ما بلغ واستقامته لا يغني عن وهن الأساس المبنيّ عليه شيئاً وما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة والصلب والفداء أمر غير معقول.

وقد اعترف عدّة من باحثيهم في التثليث بأنّه أمر غير معقول لكنّهم اعتذروا عنه بأنّه من المسائل الدينيّة الّتي يجب أن تقبل تعبّداً فكم في الأديان من مسألة تعبديّة تحيلها العقول.

وهو من الظنون الفاسدة المتفرّعة على أصلهم الفاسد، وكيف يتصوّر وقوع مسألة مستحيلة في دين حقّ؟ ونحن إنّما نقبل الدين ونميّز كونه دين حقّ بالعقل وكيف يمكن عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقّة على أمر يبطله العقل ويحيله؟ وهل هذا إلّا تناقض صريح؟

نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية، والسنّة الطبيعيّة القائمة، وأمّا المحال الذاتيّ فلا البتّة.

وهذا الطريق المذكور من البحث هو الّذي أوجب وقوع الخلاف والمشاجرة بين الباحثين المتفكّرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانيّة وانكباب المحصّلين على الأبحاث المذهبيّة في مدارس الروم والإسكندريّة وغيرهما.

فكانت الكنيسة تزيد كلّ يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة وتهيّئ مجمعاً مشكّلاً عند ظهور كلّ قول حديث وبدعة جديدة من البطارقة والأساقفة لإقناعهم بالمذهب العامّ وتكفيرهم ونفيهم وطردهم وقتلهم إذا لم يقنعوا.

وأوّل مجمع عقدوه مجمع نيقيه لمّا قال أريوس: إنّ اُقنوم الابن غير مساو لاُقنوم الأب وإنّ القديم هو الله والمسيح مخلوق.

اجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة في قسطنطينيّة بمحضر من القيصر كنستانتين وكانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً واتّفقوا على هذه الكلمة( نؤمن بالله الواحد الأب مالك كلّ شئ وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد يسوع المسيح

٣٥٦

ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ، من جوهر أبيه الّذي بيده اُتقنت العوالم وكلّ شئ، الّذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسّد من روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب أيّام فيلاطوس، ودفن، ثمّ قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعدّ للمجئ تارة اُخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحقّ الّذي يخرج من أبيه، وبمعموديّة(١) واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قدسيّة مسيحيّة - جاثليقيّة وبقيام أبداننا(٢) والحياة أبد الآبدين(٣) ) .

هذا هو المجمع الأوّل، وكم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبرّي عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطوريّة واليعقوبيّة والأليانيّة واليليارسيّة و المقدانوسيّة والسباليوسيّة والنوئتوسيّة والبولسيّة وغيرها.

ومع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها، ولا تتوانى ولا تهن في دعوتها وتزيد كلّ يوم في قوّتها وسيطرتها حتّى وفّقت لجلب سائر دول اُوروبه إلى التنصّر كفرنسا و الإنجليز والنمسا والبروس والإسبانيا والبرتغال والبلجيك وهولاندا وغيرهم إلّا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلاديّ سنة ٤٩٦.

ولم تزل تتقدّم وترتقي الكنيسة من جانب، ومن جانب آخر كانت تهاجم الاُمم الشماليّة والعشائر البدويّة على الروم، والحروب والفتن تضعّف سلطنة القياصرة،

____________________

(١) المراد بالمعمودية طهارة الباطن وقداسته.

(٢) أورد عليه أنّه يستلزم القول بالمعاد الجسمانيّ والنصارى تقول بالمعاد الروحانيّ كما يدلّ عليه الانجيل وأظنّ أنّ الانجيل إنّما يدلّ على عدم وجود اللذائذ الجسمانيّة الدنيويّة في القيامة وأمّا كون الإنسان روحاً مجرّداً من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدلّ على أنّ الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم وظاهر العهدين أنّ الله سبحانه وملائكته جميعاً أجسام فضلا عن الإنسان يوم القيامة.

(٣) الملل والنجل للشهرستاني.

٣٥٧

وآل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم والاُمم المتغلّبة على إلقاء زمام اُمور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام اُمور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانيّة والجسمانيّة لرئيس الكنيسة اليوم وهو (البابا جريجوار) وكان ذلك سنة ٥٩٠ الميلاديّة.

وضارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحيّ غير أنّ الروم لمّا كانت انشعبت إمبراطوريّته إلى الروم الغربيّ الّذي عاصمتها رومة، والروم الشرقيّ الّذي عاصمتها قسطنطينيّة كانت قياصرة الروم الشرقيّ يعدّون أنفسهم رؤساء دينيّين لمملكتهم من غير أن يتّبعوا كنيسة روما وهذا مبدأ انشعاب المسيحيّة إلى الكاثوليك، أتباع كنيسة روما والأرثوذوكس وهم غيرهم.

وكان الأمر على ذلك حتّى إذا فتحت قسطنطينيّة بيد آل عثمان، وقتل القيصر (بالي اُولوكوس) وهو آخر قياصرة الروم الشرقيّ وقسّيس الكنيسة اليوم (قتل في كنيسة(أياصوفيا)).

وادّعى وراثة هذا المنصب الدينيّ أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببيّة كانت بينهم وبين قياصرة الروم، وكانت الروس تنصّرت في القرن العاشر الميلاديّ فصارت ملوك روسيا قسّيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة رومة، وكان ذلك سنة ١٤٥٤ الميلاديّة.

وبقي الأمر على هذا الحال نحواً من خمسة قرون حتّى قتل (تزار نيكولا) وهو آخر قياصرة الروسيا قتل هو وجميع أهل بيته سنة ١٩١٨ الميلاديّة بيد الشيوعيّين فعادت كنيسة رومة تقريباً إلى حالها قبل الانشعاب.

لكنّ الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤسائها السلطة على جميع جهات حياة الناس في القرون الوسطى الّتي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها وإرتفاعها ثار عليها جماهير من المتديّنين تخلّصاً من القيود الّتي كانت تحملها عليهم الكنيسة.

فخرجت طائفة عن تبعيّة أحكام رؤساء الكنيسة والباباوات وطاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيليّ على ما يفهمه مجامعهم، ويقرّره اتّفاق علمائهم وقسّيسهم وهؤلاء هم الأرثوذكس.

٣٥٨

 وطائفة خرجت عن متابعة كنيسة رومة أصلاً فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيليّ لكنيسة رومة ولا معتنين للأوامر الصادرة منها وهؤلاء هم البروتستانت.

فأنشعب العالم المسيحيّ اليوم إلى ثلاث فرق: الكاثوليك وهي التابعة لكنيسة رومة وتعليمها والاُورثوذكس وهي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها وقد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة وخاصّة بعد انتقال كنيسة قسطنطينيّة إلى مسكو بالروسيا (كما تقدّم) والبروتستانت وهي الخارجة عن تبعيّة الكنيسة وتعليمها جميعاً. وقد استقلّت طريقتهم وتظاهرت في القرن الخامس عشر الميلاديّ.

هذا إجمال ما جرى عليه الدعوة المسيحيّة في زمان يقرب من عشرين قرناً والبصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أنّ القصد من ذكر جمل تاريخهم:

أوّلا: أن يكون الباحث على بصيرة من التحوّلات التاريخيّة في مذهبهم والمعاني الّتي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينيّة بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج أو الإلف والعادة من عقائد الوثنيّة والأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.

وثانياً: أنّ اقتدار الكنيسة وخاصّة كنيسة رومة بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلاديّة إلى نهاية أوجه حتّى كانت لهم سيطرة الدين والدنيا وانقادت لهم كراسيّ الملك بأوربه فكان لهم عزل من شاءوا ونصب من شاءوا(١) .

يروى أنّ البابا مرّة أمر إمبراطور آلمانيا أن يقف ثلاثة أيّام حافياً على باب قصره في فصل الشتاء لزلّة صدرت منه يريد ان يغفرها له(٢) .

ورفس البابا مرّة تاج الملك برجله حيث جائه جاثياً يطلب المغفرة(٣) .

وقد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفاً لم يدعهم إلّا أن يروا دين الإسلام دين الوثنيّة يستفاد ذلك من الشعارات والأشعار الّتي نظموها في استنهاض النصارى و

____________________

(١) الفتوحات الإسلاميّة.

(٢) المدرك السابق.

(٣) المدرك السابق.

٣٥٩

تهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبيّة الّتي نشبت بينهم وبين المسلمين سنين متطاولة.

فإنّهم كانوا(١) يرون أنّ المسلمين يعبدون الأصنام وأنّ لهم آلهة ثلاثة أسماؤها على الترتيب (ماهوم) ويسمّى بافوميد وماهومند وهو أوّل الآلهة وهو (محمّد) وبعده (ايلين) وهو الثاني وبعده (ترفاجان) وهو الثالث وربّما يظهر من بعض كلماتهم أنّ للمسلمين إلهين آخرين وهما (مارتوان) و(جوبين) ولكنّهما بعد الثلاثة المتقدّمة رتبة وكانوا يقولون: إنّ محمّداً بنى دعوته على دعوى الاُلوهيّة وربّما قالوا: إنّه كان اتّخذ لنفسه صنماً من ذهب.

وفي أشعار ريشار الّتي قالها لاستنهاض الإفرنج على المسلمين: (قوموا وقلّبوا ماهومند وترفاجان وألقوهما في النار تقرّباً من إلهكم).

وفي أشعار رولان في وصف (ماهوم) إله المسلمين: (إنّه مصنوع تامّاً من الذهب والفضّة ولو رأيته أيقنت أنّه لا يمكن لصانع أن يصوّر في خياله أجمل منه ثمّ يصنعه عظيمة جثّته جيّدة صنعته وفي سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ماهوم مصنوع من الذهب والفضّة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر. وقد اُقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات وأجودها بطنه خال وربّما أحسّ الناظر من بطنه ضوءاً هو مرصّعة بالأحجار الثمينة المتلالئة، يرى باطنه من ظاهره ولا يوجد له في جودة الصنعة نظير.

ولمّا كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدّة وقد انهزم المسلمون في بعض حروبهم بعث قائد القوم واحداً في طلب إلههم الّذي كان بمكّة (يعني محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)). يروي بعض من شاهد الواقعة: أنّ الإله (يعني محمّداً) جائهم وقد أحاط به جمّ غفير من أتباعه وهم يضربون الطبول والعيدان والمزامير والبوقات المعمولة من فضّة ويتغنّون ويرقصون حتّى أتوا به إلى المعسكر بسرور وترح ومرح، وقد كان خليفته منتظراً لقدومه فلمّا رآه قام على ساقه، واشتغل بعبادته بخضوع وخشوع.

____________________

(١) هذا وما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب (هنري دوكاستري) في الديانة الإسلاميّة الفصل الأوّل منه.

٣٦٠

الآيات

( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩) )

التّفسير

ظهرت علامات القيامة!

تعكس هذه الآيات صورة عن وضع المنافقين ، وطريق تعاملهم مع الوحي الإلهي ، وكلمات النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومسألة قتال أعداء الإسلام ومحاربتهم.

وقد ورد الحديث حول المنافقين في السور المدنية كثيرا ، في حين لا نرى أثرا

٣٦١

للحديث حولهم في السور المكية ، وذلك لأنّ مسألة النفاق ظهرت بعد انتصار الإسلام وتسلّمه السلطة والقوّة ، حيث أصبح المشركون في موقع ضعف وانهيار ، بحيث لم يكن باستطاعتهم إظهار مخالفتهم ، ولذلك اضطروا إلى التلبّس بالإسلام ليأمنوا غضب المسلمين الحقيقيين ، أمّا في الباطن فإنّهم لم يألوا جهدا في التآمر ضد الإسلام ، وكان يهود المدينة الذين كانوا يتمتّعون بقوة عسكرية واقتصادية لا يستهان بها ، يعتبرون سندا للمنافقين.

وعلى أي حال ، فقد توغّل هؤلاء بين المسلمين المخلصين ، وكانوا يحضرون عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويشاركون في صلاة الجمعة ، إلّا أنّ تعاملهم تجاه آيات القرآن كان يفضح ما تنطوي عليه سرائرهم وقلوبهم المريضة.

تقول الآية الأولى من الآيات مورد البحث :( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً ) وكان مرادهم من ذلك الرجل هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إنّ تعبير هؤلاء في شأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلماته البليغة ، كان من القبح والبذاءة إلى درجة تدل على أنّهم لم يؤمنوا بالوحي السماوي قط.

«آنفا» من مادة (أنف) ، ولما كان للأنف بروزا متميّزا في وجه الإنسان ، فإنّ هذه الكلمة تستعمل في شأن أشراف القوم ، وكذلك تستعمل في مورد الزمان المتقدم على زمان الحال ، كما جاء في الآية مورد البحث.

ثمّ إنّ التعبير بـ( لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) يوحي بأنّ إحدى علامات المؤمن امتلاكه الوعي الكافي ، فكما أنّ العلم مصدر الإيمان ، فكذلك هو وليد الإيمان وحاصله.

إلّا أنّ القرآن الكريم قد أجابهم جوابا قاطعا ، فقال : إنّ كلام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن غامضا ولا معقّدا ، بل( أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ) .

وفي الحقيقة فإنّ الجملة الثّانية علّة للجملة الاولى ، أي إنّ اتباع الهوى يسلب الإنسان القدرة على إدراك الحقائق وتمييزها ، ويلقي الحجاب على قلبه ، بحيث

٣٦٢

أنّ قلوب متبعي الهوى تصبح كالظرف المختوم ، فلا يدخله شيء ، ولا يخرج منه شيء.

ويقف المؤمنون الحقيقيون في الطرف المقابل لهؤلاء ، وعنهم تتحدّث الآية التالية فتقول :( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ ) .

نعم ، لقد خطا هؤلاء الخطوة الأولى بأنفسهم ، واستخدموا عقلهم وفطرتهم في هذا المسير ، ثمّ أخذ الله سبحانه بيدهم كما وعدهم من قبل ، فزادهم هدى إلى هداهم ، وألقى نور الإيمان في قلوبهم ، وشرح صدورهم ورزقهم حسن الفكرة والنظر. هذا من الناحية العقائدية.

وأمّا من الناحية العملية فإنّه سبحانه يحيي فيهم روح التقوى ، حتى أنّهم يشمئزون من الذنب والمعصية ، ويعشقون الطاعة والعمل الصالح.

إنّ هؤلاء يقفون من الناحيتين في الطرف المقابل للمنافقين الذين أشارت إليهم الآية السابقة ، فقد طبع على قلوبهم فلا يفقهون شيئا من جهة ، ومن جهة اخرى فإنّهم يتّبعون أهواءهم في العمل ، أمّا المؤمنون فإنّ هدايتهم تعظم يوما بعد يوم ، وتتضاعف تقواهم في مجال العمل.

وتحذّر الآية التالية أولئك المستهزئين الذين لا إيمان لهم ، فتقول :( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ ) .

أجل ، إنّ هؤلاء لم يذعنوا للحق حيث كان الإيمان واجبا عليهم ، ومفيدا لهم ، بل كانوا في طغيانهم يعمهون ، وبآيات الله يستهزئون ، غير أنّهم يوم يرون الحوادث المرعبة وبداية القيامة تهزّ العالم وتزلزله ، يصيبهم الفزع ويظهرون خضوعهم ويؤمنون ، ولا ينفعهم يومئذ إيمانهم وخضوعهم.

إنّ هذه العبارة تشبه تماما أن نقول لإنسان : أتنتظر حتى يشرف بك مرضك على الموت ، ولا ينفع حينئذ علاج ، ثمّ تدعو الطبيب وتأتي بالدواء؟ انهض واسرع إلى المعالجة وتناول الدواء قبل أن تفقد هذه الفرصة ، فإنّ السعي الآن ذو فائدة ،

٣٦٣

وبعد اليوم لا ينفع.

«الأشراط» جمع (شرط) ، وهي العلامة ، وعلى هذا فإنّ أشراط الساعة إشارة إلى علامات اقتراب القيامة.

وللمفسرين أقوال كثيرة حول المراد من علامات اقتراب القيامة هنا ، حتى كتبت رسائل مختصرة ومفصّلة ، في هذا الباب. إلّا أنّ الكثير يعتقدون أنّ المراد من «أشراط الساعة» في الآية ـ مورد البحث ـ هو ظهور شخص النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويشهد لذلك الحديث المروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «بعثت أنا والساعة كهاتين» وضمّ إصبعيه السبابة والوسطى(١) .

وعدّ البعض مسألة «شقّ القمر» ، وقسما آخر من حوادث عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أشراط الساعة أيضا.

لقد وردت أحاديث عديدة في هذا الباب ، وقد اعتبرت شيوع كثير من المعاصي بين الناس بالذات من علامات اقتراب القيامة ، كالحديث الذي يرويه «الفتال النيسابوري» (ره) في روضة الواعظين ، عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويظهر الجهل ، ويشرب الخمر ، ويفشو الزنا»(٢) .

بل ، حتى الحوادث المهمّة والمؤثرة ، كقيام المهدي ـ أرواحنا له الفداء ـ عدّت من أشراط الساعة.

لكن ينبغي أن نذكر أنّنا نبحث تارة في أشراط الساعة بصورة مطلقة ، فنسأل : ما هي علامات اقتراب القيامة؟ وأخرى نبحث في مورد خصوص الآية. والمطلب في مورد الآية هو ما قلناه. وأمّا حول علامات اقتراب القيامة بصورة مطلقة فقد وردت بحوث وروايات كثيرة في الكتب الإسلامية المعروفة ، وسنشير إليها فيما يأتي(٣) .

__________________

(١) مجمع البيان ، تفسير القرطبي ، تفسير في ظلال القرآن ، وتفاسير أخرى ، في ذيل الآيات مورد البحث ، بتفاوت يسير في التعبير.

(٢) نور الثقلين ، المجلد ٥ ، صفحة ٣٧.

(٣) يتّضح ممّا قلناه أنّ ليس المراد من جملة : (فقد جاء أشراطها) تحقق كلّ علامات القيامة وظهورها في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل المراد أنّ بعضها قد ظهر ، وهو يخبر عن اقتراب القيامة ، وإنّ كانت بعض الأشراط ستتحقق وتتّضح فيما بعد.

٣٦٤

هل أن ظهور النبي من علامات قرب القيامة؟

يطرح هنا سؤال ، وهو : كيف عدوا ظهور النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من علامات اقتراب القيامة ، وقد مرّ إلى الآن خمسة عشر قرنا ولا أثر للقيامة؟

والإجابة عن هذا السؤال تتّضح بملاحظة واحدة ، وهي أنّنا يجب أن نقارن بين ما مرّ من الدنيا وما بقي منها ، وسيظهر من خلال هذه المقارنة أن ما بقي من عمر الدنيا قليل جدا ، وهو سريع الانقضاء ، كما ورد في حديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه كان يخطب في أصحابه قبيل الغروب ، فقال : «والذي نفس محمّد بيده ما مثل ما مضى من الدنيا فيما بقي منها إلّا مثل ما مضى من يومكم هذا فيما بقي منه ، وما بقي منه إلّا اليسير»(١) .

وتقول آخر آية من هذه الآيات وكاستخلاص لنتيجة البحوث التي وردت في الآيات السابقة حول الإيمان والكفر ، ومصير المؤمنين والكفّار :( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ ) أي : اثبت على خط التوحيد ، فإنّه الدواء الشافي ، واعلم أنّ أفضل وسيلة للنجاة هو التوحيد الذي بيّنت الآيات السالفة آثاره.

وبناء على هذا ، فلا يعني هذا الكلام أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن عالما بالتوحيد بل المراد الاستمرار في هذا الخط ، وهذا يشبه تماما ما ذكروه في تفسير الآية :( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) في سورة الحمد ، بأنّها لا تعني عدم الهداية من قبل ، بل تعني : ثبّتنا على خط الهداية.

ويحتمل أيضا أن يكون المراد التدبّر في أمر التوحيد أكثر ، والارتقاء إلى المقامات الأسمى ، حيث أنّه كلمّا تدبّر البشر فيه أكثر ، وطالعوا آيات الله بدقّة أكبر ، فإنّهم سيصلون إلى مراتب أرقى ، والتدبّر بما قيل في الآيات السالفة في مورد الإيمان والكفر ، عامل يؤثر بحدّ ذاته في زيادة الإيمان والكفر.

__________________

(١) روح المعاني ، المجلد ٢٦ ، صفحة ٤٨.

٣٦٥

والتّفسير الثّالث أنّ المراد : الجوانب العملية للتوحيد ، أي : اعلم أنّ الملجأ والمأوى الوحيد في العالم هو الله تعالى ، فالتجئ إليه ، ولا تطلب حل معضلاتك إلّا منه ، ولا تخف سيل المشاكل ، ولا تخش كثرة الأعداء.

ولا تنافي بين هذه التفاسير الثلاثة ، فمن الممكن أن تجمع في معنى الآية.

وبعد هذه المسألة العقائدية ، تعود الآية إلى مسألة التقوى والعفّة عن المعصية ، فتقول :( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ) .

لا يخفى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرتكب ذنبا قط بحكم مقام العصمة ، وأمثال هذه التعابير إشارة إلى ترك الأولى ، فإنّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين ، أو إلى أنّه قدوة للمسلمين.

وجاء في حديث : أنّ حذيفة بن اليمان يقول : كنت رجلا ذرب اللسان على أهلي ، فقلت : يا رسول الله إنّي لأخشى أن يدخلني لساني في النّار ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فأين أنت من الاستغفار؟ إنّي لأستغفر الله في اليوم مائة مرّة»(١) . وجاء في بعض الروايات أنّه كان يستغفر في اليوم سبعين مرّة.

إذا كان الآخرون يستغفرون ممّا ارتكبوا من المعاصي والذنوب ، فإنّ النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغفر الله من تلك اللحظة التي شغل فيها عن ذكره ، أو أنّه ترك فعل الأحسن وفعل الحسن.

وهنا نكتة جديرة بالانتباه ، وهي أنّ الله سبحانه قد شفع للمؤمنين والمؤمنات ، وأمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستغفر لهم لتسعهم رحمته ، ومن هنا يتبيّن عمق مسألة «الشفاعة» في الدنيا والآخرة ، وكذلك تتبيّن أهمية التوسّل وكونه مشروعا.

ويقول سبحانه في ذيل الآية ، وكتبيان للعلّة( وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ ) فهو يعلم ظاهركم وباطنكم ، كتمانكم وعلانيتكم ، سرّكم ونجواكم ، بل ويعلم حتى نيّاتكم ، وما توسوس به أنفسكم ، ويخطر على أذهانكم ، وما يجري في ضمائركم ،

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ١٠٢ ، ذيل الآيات مورد البحث.

٣٦٦

ويعلم حركاتكم وسكناتكم ، ولهذا وجب عليكم التوجّه إليه ورفع الأكف بين يديهو وطلب العفو والمغفرة والرحمة منه.

«المتقلّب» : هو المكان الذي يكثر التردّد عليه ، و «المثوى» هو محل الاستقرار(١) .

والظاهر أنّ لهاتين الكلمتين معنى واسعا يشمل كلّ حركات ابن آدم وسكناته ، سواء التي في الدنيا أم في الآخرة ، في فترة كونه جنينا أم كونه من سكان القبور ، وإن كان كثير من المفسّرين قد ذكر لهما معاني محددة :

فقال بعضهم : إنّ المراد حركة الإنسان في النهار ، وسكونه في الليل.

وقال آخرون : إنّ المراد مسير الإنسان في الحياة الدنيا ، واستقراره في الآخرة.

وقال بعض آخر : إنّ المراد تقلّب الإنسان في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ، وثباته في القبر.

وأخيرا ذكر البعض أنّ المراد : حركاته في السفر ، وسكناته في الحضر.

ولكن كما قلنا ، فإنّ للآية معنى واسعا يشمل كلّ هذه المعاني.

* * *

بحث

ما هي أشراط الساعة؟

قلنا سابقا : إنّ الأشراط جمع شرط ، وهي العلامة ، ويقال لعلامات اقتراب القيامة : أشراط الساعة ، وقد بحثت كثيرا في مصادر الشيعة والسنّة ، ولم يشر القرآن إليها إلّا في هذه الآية.

ومن أجمع الأحاديث وأكثرها تفصيلا في هذا الباب ، الحديث الذي رواه ابن

__________________

(١) بناء على هذا ، فإنّ (متقلّب) اسم مفعول جاء هنا بمعنى المكان ، إلّا أنّ جماعة يعتبرونه مصدرا ميميا يعني الانتقال من حال الى حال. غير أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب بملاحظة قرينة مقابلته بالمثوى الذي لا ريب في كونه اسم مكان.

٣٦٧

عباس عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قضية حجّة الوداع ، وهو يعلّمنا كثيرا من المسائل ، ويحتوي على نكات ودقائق كثيرة ، ولهذا نورده كاملا :

قال ابن عباس : حججنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة الوداع وهي آخر حجّة حجّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته ـ فأخذ بحلقة باب الكعبة ثمّ أقبل علينا بوجهه فقال : «ألا أخبركم بأشراط الساعة»؟ فكان أدنى الناس منه يومئذ سلمان رحمة الله عليه فقال : بلى يا رسول الله.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ من أشراط الساعة إضاعة الصلوات ، واتباع الشهوات ، والميل مع الأهواء ، وتعظيم أصحاب المال ، وبيع الدين بالدنيا ، فعندها يذاب قلب المؤمن في جوفه كما يذاب الملح في الماء مما يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيّره».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : إنّ عندها يليهم أمراء جورة ، ووزراء فسقة ، وعرفاء ظلمة ، وأمناء خونة».

فقال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : إنّ عندها يكون المنكر معروفا ، والمعروف منكرا ، ويؤتمن الخائن ، ويخوّن الأمين ، ويصدّق الكاذب ، ويكذّب الصادق».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : فعندها تكون إمارة النساء ، ومشاورة الإماء ، وقعود الصبيان على المنابر ، ويكون الكذب ظرفا ، والزكاة مغرما ، والفيء مغنما ، ويجفو الرجل والديه ويبرّ صديقه ، ويطلع الكوكب المذنب».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها تشارك المرأة زوجها في التجارة [ويبذل كل منهما قصارى جهد خارج المنزل لتحصيل المال] ويكون

٣٦٨

المطر غيضا ، ويغيض الكرام غيضا ، ويحتقر الرجل المعسر ، فعندها تقارب الأسواق ، قال هذا : لم أبع شيئا ، وقال هذا : لم أربح شيئا ، فلا ترى إلّا ذاما لله».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : فعندها يليهم أقوام إن تكلّموا قتلوهم ، وإن سكتوا استباحوهم ، ليستأثرون بفيئهم ، وليطؤن حرمتهم ، وليسفكن دماءهم ، وليملؤن قلوبهم دغلا ورعبا ، فلا تراهم إلّا وجلين خائفين مرعوبين مرهوبين».

فقال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : إنّ عندها يؤتى بشيء من المشرق ، وشيء من المغرب [فقوانين من الشرق ، وقوانين من الغرب] يلون أمّتي ، فالويل لضعفاء أمّتي منهم ، والويل لهم من الله ، لا يرحمون صغيرا ، ولا يوقّرون كبيرا ، ولا يتجافون عن مسيء ، جثّتهم جثة الآدميين ، وقلوبهم قلوب الشياطين».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها يكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء ، ويغار على الغلمان كما يغار على الجارية في بيت أهلها ، وتشبه الرجال بالنساء ، والنساء بالرجال ، وتركب ذوات الفروج السروج [ويظهرن أنفسهن] فعليهن من أمّتي لعنة الله».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : إنّ عندها تزخرف المساجد كما تزخرف الكنائس وتحلى المصاحف [دون أن يعمل بها] وتطول المنارات ، وتكثر الصفوف ، قلوب متباغضة ، وألسن مختلفة».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها تحلّى ذكور أمّتي بالذهب ، ويلبسون الحرير والديباج ، ويتّخذون جلود النمور صفافا».

٣٦٩

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها يظهر الزنا ، ويتعاملون بالعينة والرشا ، ويوضع الدين وترفع الدنيا».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها يكثر الطلاق ، فلا يقام لله حد ، ولن يضرّوا الله شيئا [وإنّما يضرّون أنفسهم]».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها تظهر القينات والمعازف ، وتليهم أشرار أمّتي».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها يحج أغنياء أمّتي للنزهة ، ويحج أوساطها للتجارة ، ويحج فقراؤهم للرياء والسمعة ، فعندها يكون أقوام يتعلّمون القرآن لغير الله ، ويتّخذونه مزامير ، ويكون أقوام يتفقّهون لغير الله ، ويكثر أولاد الزنا ، ويتغنّون بالقرآن ، ويتهافتون بالدنيا».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : ذاك إذا انتهكت المحارم ، واكتسبت المآثم ، وسلّط الأشرار على الأخيار ، ويفشو الكذب ، وتظهر اللجاجة ، وتفشو الفاقة ، ويتباهون في اللباس ، ويمطرون في غير أوان المطر ، ويستحسنون الكوبة والمعازف ، وينكرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حتى يكون المؤمن في ذلك الزمان أذلّ من الأمة ، ويظهر قرّاؤهم وعبادهم فيما بينهم التلاوم ، فأولئك يدعون في ملكوت السماوات الأرجاس الأنجاس».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : فعندها لا يخشى الغني على الفقير ،

٣٧٠

حتى أنّ السائل يسأل في الناس فيما بين الجمعتين لا يصيب أحدا يضع في كفه شيئا».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : فعندها يتكلم الرويبضة».

قال سلمان : ما الرويبضة يا رسول الله فداك أبي وأمّي؟

قال : «يتكلّم في أمر العامة من لم يكن يتكلّم ، فلم يلبثوا إلّا قليلا حتى تخور الأرض خورة ، فلا يظن كلّ قوم إلّا أنّها خارت في ناحيتهم ، فيمكثون ما شاء الله ، ثمّ يمكثون في مكثهم ، فتلقي لهم الأرض أفلاذ أكبادها» قال : «ذهبا وفضة» ، ثمّ أومأ بيده إلى الأساطين ، فقال : مثل هذا ، فيومئذ لا ينفع ذهب ولا فضة ـ ويحل أمر الله ـ فهذا يعني معنى قوله :( فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها ) (١) .

* * *

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم طبقا لنقل نور الثقلين ، وتفسير الصافي ، ذيل الآية مورد البحث.

٣٧١

الآيات

( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) )

التّفسير

يخافون حتى من اسم الجهاد!

تبيّن هذه الآيات المواقف المختلفة للمؤمنين والمنافقين تجاه الأمر بالجهاد ، تكملة للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة حول هذين الفريقين.

٣٧٢

تقول الآية الأولى :( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ) سورة يكون فيها أمر بالجهاد ، يوضح واجبنا تجاه الأعداء القساة الجلّادين الذين لا منطق لهم سورة تبعث آياتها نور الهداية في قلوبنا ، وتضيء أرواحنا بنورها الوهّاج ، هذا حال المؤمنين.

وأمّا المنافقون :( فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ) .

فعند سماع اسم الحرب يصيبهم الهلع ، ويضطرب كيانهم أجمع ، وتتوقف عقولهم عن التفكير ، وتتسمّر عيونهم ، وينظرون إليك كمن يوشك على الموت ، وهذا أبلغ وأروع تعبير عن حال المنافقين الجبناء الخائفين.

إنّ سبب اختلاف تعامل المؤمنين والمنافقين مع أمر الجهاد ، ينبع من أن الفريق الأوّل قد علقوا آمالهم بالله سبحانه لإيمانهم القوي به ، فهم يرجون عنايته ولطفه ونصرته ، ولا خوف لديهم من الشهادة في سبيله.

إنّ ميدان الجهاد بالنسبة إلى هؤلاء ميدان إظهار عشقهم لمحبوبهم ، ميدان الشرف والفضيلة ، ميدان تفجّر الاستعدادت والقابليات ، وهو ميدان الثبات والمقاومة والإنتصار ، ولا معنى للخوف في مثل هذا الميدان.

إلّا أنّه بالنسبة إلى المنافقين ميدان موت وفناء وتعاسة ، ميدان هزيمة ومفارقة لذائذ الدنيا ، وهو أخيرا ميدان مظلم يعقبه مستقبل مرعب غامض!

والمراد من «السورة المحكمة» ـ باعتقاد بعض المفسّرين ـ هي السور التي ذكرت فيها مسألة الجهاد. لكن لا دليل على هذا التّفسير ، بل الظاهر أنّ «المحكم» هنا بمعنى المستحكم والثابت والقاطع ، والخالي من أي غموض أو إبهام ، حيث يقع المتشابه في مقابلة أحيانا ، ولمّا كانت آيات الجهاد تتمتّع عادة بحزم استثنائي ، فإنّها تنسجم مع مفهوم هذه اللفظ أكثر ، إلّا أنّها ليست منحصرة فيه.

والتعبير بـ( الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) تعبير يستعمل في لسان القرآن في شأن

٣٧٣

المنافقين عادة ، وما احتمله بعض المفسّرين من أنّ المراد ضعفاء الإيمان لا ينسجم مع سائر آيات القرآن ، بل ولا مع الآيات السابقة لهذه الآيات والتي بعدها ، التي تتحدّث جميعا عن المنافقين.

وعلى أية حال ، فإنّ الآية تضيف في النهاية جملة قصيرة ، فتقول :( فَأَوْلى لَهُمْ ) .

إنّ جملة( فَأَوْلى لَهُمْ ) تعبّر في الأدب العربي عن التهديد واللعنة ، وتمنّي التعاسة والفناء للآخر(١) .

وفسّرها البعض بأنّها تعني : الموت أولى لهم ، ولا مانع من الجمع بينها كما أوردنا في تفسير الآية.

وتضيف الآية التالية :( طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) (٢) .

إنّ التعبير بـ( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) يمكن أن يكون في مقابل الكلمات الهزيلة المنكرة التي كان يتفوّه بها المنافقون بعد نزول آيات الجهاد ، فقد كانوا يقولون تارة( لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ) (٣) ، وأخرى :( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ) (٤) ، وثالثة كانوا يقولون :( هَلُمَّ إِلَيْنا ) (٥) ، من أجل إضعاف المؤمنين وإعاقتهم عن التوجّه إلى ميدان الجهاد.

ولم يكونوا يكتفون بعدم ترغيب الناس في أمر الجهاد ، بل كانوا يبذلون قصارى جهودهم من أجل صدّهم عن الجهاد ، أو تثبيط معنوياتهم وعزائمهم على الأقل.

ثمّ تضيف الآية :( فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ) وسيرفع

__________________

(١) اعتقد جماعة أنّ معنى الجملة يصبح : يليه مكروه ، وهو يعادل معنى ويل لهم.

(٢) (طاعة) مبتدأ ، وخبره محذوف ، والتقدير : طاعة وقول معروف أمثل لهم ، واعتبرها البعض خبرا لمبتدأ محذوف ، وكان التقدير : أمرنا طاعة ، إلّا أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب.

(٣) التوبة ، الآية ٨١.

(٤) الأحزاب ، الآية ١٢.

(٥) الأحزاب ، الآية ١٨.

٣٧٤

رؤوسهم في الدنيا ، ويمنحهم العزّة والفخر ، ويؤدّي إلى أن ينالوا الثواب الجزيل ، والأجر الكبير ، والفوز العظيم في الآخرة.

وجملة( عَزَمَ الْأَمْرُ ) تشير في الأساس إلى استحكام العمل ، إلّا أنّ المراد منها هنا الجهاد ، بقرينة الآيات التي سبقتها والتي تليها.

وتضيف الآية التالية :( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ ) (١) لأنّكم إن أعرضتم عن القرآن والتوحيد ، فإنّكم سترجعون إلى جاهليّتكم حتما ، ولم يكن في الجاهلية إلّا الفساد في الأرض ، والإغارة والقتل وسفك الدماء ، وقطيعة الرحم ، ووأد البنات. هذا إذا كانت «توليّتم» من مادة «تولّي» بمعنى الإعراض.

غير أنّ كثيرا من المفسّرين احتمل أن تكون من مادة «ولاية» ، أي : الحكومة ، فيكون المعنى : إنّكم إذا توليّتم زمام السلطة فلا يتوقع منكم إلّا الضلال والفساد وسفك الدماء وقطيعة الرحم.

وكأنّ جمعا من المنافقين قد اعتذر من أجل أن يفرّ من ميدان الجهاد بأنّا كيف نطأ ساحة الحرب ونقتل أرحامنا ونسفك دماءهم ، وعندها سنكون من المفسدين في الأرض؟

فيجيبهم القرآن قائلا : ألم تقتلوا أرحامكم وتسفكوا دماءهم ، ولم يظهر منكم إلّا الفساد في الأرض يوم كانت الحكومة بأيديكم؟ إن هذا إلّا تذرّع وتهرّب ، فإنّ الهدف من الحرب في الإسلام هو إخماد نار الفتنة ، لا الفساد في الأرض ، والهدف اقتلاع جذور الظلم وإزالته من الوجود ، لا قطع الرحم.

وقد ورد في بعض الروايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّ هذه الآية في بني

__________________

(١) بالرغم من أنّ القليل من المفسّرين قد بحث في تركيب هذه الآية ، لكن يبدو أنّ (إن توليّتم) جملة شرطية وقعت بين اسم «عسى» وخبرها ، وجزاء إن الشرطية مجموع جملة (فهل عسيتم أن تفسدوا في الأرض) ، والتقدير : إن توليّتم عن كتاب الله فهل يترقب منكم إلّا الفساد في الأرض؟

٣٧٥

أمية الذين لم يرحموا صغيرا ولا كبيرا ، بل سفكوا دماء الجميع حتى أقاربهم لمّا تسلّموا زمام الحكم(١) .

من المعلوم أنّ بني أمية جميعا ، ابتداء من أبي سفيان إلى أبنائه وأحفاده ، كانوا مصداقا واضحا لهذه الآية ، وهذا هو المراد من الرواية ، إذ أنّ للآية معنى واسعا يشمل كلّ المنافقين الظالمين والمفسدين.

وتوضح الآية التالية المصير النهائي لهؤلاء القوم المنافقين المفسدين المتذرّعين بأوهى الحجج فتقول :( أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ ) .

إنّ هؤلاء يظنّون أنّ الجهاد الإسلامي القائم على أساس الحق والعدالة ، قطيعة للرحم ، وفسادا في الأرض ، أمّا كلّ الجرائم التي ارتكبوها في الجاهلية ، والدماء البريئة التي سفكوها أيّام تسلطهم ، والأطفال الأبرياء الذين وأدوهم ودفنوهم وهم أحياء يستغيثون ، كانت قائمة على أساس الحق والعدل! لعنهم الله إذ لا أذن واعية لهم ، ولا عين ناظرة بصيرة!

ونقرأ في رواية عن الإمام علي بن الحسين ، أنّه قال لولده الإمام الباقرعليه‌السلام : «إيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه ، فإنّي وجدته ملعونا في كتاب اللهعزوجل في ثلاثة مواضع ، قال اللهعزوجل : فهل عسيتم ...»(٢) .

«الرحم» في الأصل محل استقرار الجنين في بطن أمّه ، ثمّ أطلق هذا التعبير على كل الأقرباء ، لأنّهم نشأوا وولدوا من رحم واحد.

وجاء في حديث آخر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ثلاثة لا يدخلون الجنّة : مدمن خمر ، ومدمن سحر ، وقاطع رحم»(٣) .

__________________

(١) راجع : نور الثقلين ، المجلد ٥ ، صفحة ٤٠.

(٢) أصول الكافي ، المجلد ٢ ، باب «من تكره مجالسته» ، الحديث ٧. أمّا الآيتان اللتان وردتا في بقية الحديث فإحداهما الآية (٢٥) من سورة الرعد ، والأخرى الآية (٢٧) من سورة البقرة ، وقد ورد اللعن في إحداهما صريحا ، وفي الأخرى كناية وتلميحا.

(٣) التّفسير الأمثل ذيل الآية (٧٧) من سورة المائدة (نقلا عن الخصال).

٣٧٦

ولا يخفى أنّ لعن الله تعالى لهؤلاء القوم ، وطردهم من رحمته ، وكذلك سلبهم القدرة على إدراك الحقائق ، لا يستلزم الجبر ، لأنّ ذلك جزاء أعمالهم ، وردّ فعل لسلوكهم وأفعالهم.

وتناول آخر آية من هذه الآيات ذكر العلة الحقيقية لانحراف هؤلاء القوم التعساء ، فقالت :( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) ؟

نعم ، إنّ عامل مسكنة هؤلاء وضياعهم أحد اثنين : إمّا أنّهم لا يتدبّرون في القرآن ، برنامج الهداية الإلهية ، والوصفة الطبية الشافية تماما ، أو أنّهم يتدبّرونه ، إلّا أنّ قلوبهم مقفلة نتيجة اتباع الهوى والأعمال التي قاموا بها من قبل ، وهي مقفلة بشكل لا تنفذ معه أي حقيقة إلى قلوبهم.

وبتعبير آخر ، فإنّهم كرجل ضلّ طريقه في الظلمات ، فلا سراج في يده ، ولا هو يبصر إذ هو أعمى ، فلو كان معه سراج ، وكان مبصرا ، فإنّ الاهتداء إلى الطريق في أي مكان سهل ويسير.

«الأقفال» جمع قفل ، وهي في الأصل من مادة القفول أي الرجوع ، أو من القفيل ، أي الأشياء اليابسة ، ولمّا كان المتعارف أنّهم إذا أغلقوا الباب وقفلوها بقفل ، فكلّ من يأت يقفل راجعا ، وكذلك لمّا كان القفل شيئا صلبا لا ينفذ فيه شيء ، لذا فقد أطلقت هذه الكلمة على هذه الآلة الخاصة.

* * *

بحث

القرآن كتاب فكر وعمل :

تؤكّد آيات القرآن المختلفة على حقيقة أنّ هذا الكتاب السماوي العظيم ليس للتلاوة وحسب ، بل إنّ الهدف النهائي منه هو الذكر ، والتدبّر في عواقب الأمور والإنذار ، وإخراج البشر من الظلمات ، والشفاء والرحمة والهداية.

٣٧٧

فنقرأ في الآية (٥٠) من سورة الأنبياء :( وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ ) .

وفي الآية (٢٩) من سورة ص :( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ) .

وجاء في الآية (١٩) من سورة الأنعام :( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) .

وتقول الآية الأولى من سورة إبراهيم :( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) .

وأخيرا ، جاء في الآية (٨٢) من سورة الإسراء :( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

ولهذا ، فإنّ القرآن الكريم يجب أن يأخذ مكانه من حياة المسلمين ، ويكون في صميمها لا على هامشها ، وعليهم أن يجعلوه قدوتهم وأسوتهم ، وأن ينفذوا كلّ أوامره ، وأن يجعلوا خطوط حياتهم وطبيعتها منسجمة معه.

لكنّ ، جماعة من المسلمين ـ مع الأسف الشديد ـ لا يتعاملون مع القرآن إلّا على أنّه مجموعة أوراد وأذكار ، فهم يتلونه جميعا تلاوة مجرّدة ، ويهتمون أشدّ الاهتمام بالتجويد ومخارج الحروف وحسن الصوت ، وأكثر شقاء المسلمين وتعاستهم يكمن في أنّهم أخرجوا القرآن عن كونه دستورا جامعا لحياة البشر ، واكتفوا بترديد ألفاظه ، وقنعوا بذلك.

والجدير بالانتباه أنّ الآيات مورد البحث تقول بصراحة : إنّ هؤلاء المنافقين المرضى القلوب لم يتدبّروا في القرآن ، فلاقوا هذا المصير الأسود.

«التدبّر» من مادة دبر ، وهو تحقيق وبحث نتائج الشيء وعواقبه ، بعكس «التفكر» الذي يقال غالبا عن علل الشيء وأسبابه ، واستعمل كلا التعبيرين في القرآن.

لكن ، ينبغي أن لا ننسى أنّ الاستفادة من القرآن تحتاج إلى نوع من تهذيب النفس وجهادها ، وإن كان القرآن بنفسه معينا في تهذيبها ، لأنّ القلوب إذا كانت

٣٧٨

مقفلة بأقفال الهوى والشهوة ، والكبر والغرور ، واللجاجة والتعصّب ، فسوف لا يلجها نور الحق ، وقد أشارت الآيات ـ مورد البحث ـ إلى هذا المعنى.

وما أروع كلام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في خطبته حول صفات المتّقين ، إذ يقول : «أمّا الليل فصافون أقدامهم ، تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا ، يحزنون به أنفسهم ، ويستثيرون به دواء دائهم ، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا ، وتطّلعت نفوسهم إليها شوقا ، وظنّوا أنّها نصب أعينهم ، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم»(١) .

حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام :

ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير جملة :( أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) : «إنّ لك قلبا ومسامع ، وإنّ الله إذا أراد أن يهدي عبدا فتح مسامع قلبه ، وإذا أراد به غير ذلك ختم مسامع قلبه فلا يصلح أبدا ، وهو قول اللهعزوجل :( أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) (٢) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٣ ، المعروفة بخطبة همام.

(٢) نور الثقلين ، المجلد ٥ ، صفحة ٤١.

٣٧٩

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) )

التّفسير

أفلا يتدبّرون القرآن :

تواصل هذه الآيات الكلام حول المنافقين ومواقفهم المختلفة ، فتقول :( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ ) .

وبالرغم من أنّ البعض احتمل أنّ هذه الآية تتحدّث عن جماعة من الذين

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592