الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177341 / تحميل: 5797
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الموقف التاسع:

شروطهعليه‌السلام على المأمون لقبول ولاية العهد، وهي:

((أن لا يولي أحداً، ولا يعزل أحداً، ولا ينقض رسماً، ولا يغير شيئاً مما هو قائم، ويكون في الأمر مشيراً من بعيد)) (١) ، فأجابه المأمون إلى ذلك كله!!!.

وفي ذلك تضييع لجملة من أهداف المأمون.. إذ إن:

١ ـ السلبية تعني الاتهام:

فإن من الطبيعي أن تثير سلبيته هذه الكثير من التساؤلات لدى الناس، ولسوف تكون سبباً في وضع علامات استفهام كبيرة، حول الحكم، والحكام. وكل أعمالهم وتصرفاتهم، إذ إن السلبية إنما تعني: أن نظام الحكم لا يصلح حتى للتعاون معه، بأي نحو من أنحاء التعاون، وإلا فلماذا يرفض ـ حتى ولي العهد ـ التعاون مع نظام هو ولي العهد فيه، ويأبى التأييد لأي من تصرفاته وأعماله؟!.

____________

(١) الفصول المهمة، لابن الصباغ المالكي ص ٢٤١، ونور الأبصار من ص ١٤٣، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ٢٠، و ج ٢ ص ١٨٣، ومواضع أخرى، ومناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٦٣، وعلل الشرايع ج ١، ص ٢٣٨، وإعلام الورى ص ٣٢٠، والبحار ج ٤٩ ص ٣٤ و ٣٥، وغيرها، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٩، وإرشاد المفيد ص ٣١٠، وأمالي الصدوق ص ٤٣، وأصول الكافي ص ٤٨٩، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٨، ٢٦٩، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥.

٣٠١

٢ ـ رفض الاعتراف بشرعية ذلك النظام:

ولقد قدمنا: أن من جملة أهداف المأمون هو أن يحصل من الإمامعليه‌السلام على اعتراف ضمني بشرعية حكمه وخلافته، كما صرح هو نفسه بذلك (وليعترف بالملك، والخلافة لنا).

والإمام.. بشروطه تلك يكون قد رفض الاعتراف بشرعية النظام القائم. بأي نحو من أنحاء الاعتراف، ولم يعد قبوله بولاية العهد يمثل اعترافا بذلك، ولا يدل على أن ذلك الحكم يمثل الحكم الإسلامي الأصيل.

هذا.. وقد عضد شروطه هذه، بسلوكه السلبي مع المأمون، والهيئة الحاكمة، طيلة فترة ولاية العهد، يضاف إلى ذلك تصريحاته المتكررة، التي تحدثنا عنها فيما سبق.

٣ ـ النظام القائم لا يمثل وجهة نظره في الحكم:

والأهم من كل ذلك: أن شروطه هذه كانت بمثابة الرفض القاطع لتحمل المسؤولية عن أي تصرف يصدر من الهيئة الحاكمة. وليس للناس ـ بعد هذا ـ أن ينظروا إلى تصرفات وأعمال المأمون وحزبه، على أنها تحظى برضى الإمامعليه‌السلام وموافقته. ولا يمكن لها ـ من ثم ـ أن تعكس وجهة نظرهعليه‌السلام في الحكم ورأيه في أساليبه، التي هي في الحقيقة وجهة نظر الإسلام الصحيح فيه. الإسلام.. الذي يعتبر الأئمةعليه‌السلام الممثلين الحقيقيين له، في سائر الظروف، ومختلف المجالات..

وانطلاقاً مما تقدم: نراهعليه‌السلام يرفض ما كان يعرضه عليه المأمون، من: كتابة بتولية أو عزل إلى أي إنسان.. ويرفض أيضاً: أن يؤم الناس في الصلاة مرتين.. إلى آخر ما سيأتي بيانه.

وفي كل مرة كان يرفض فيها مطالب المأمون هذه نراه يحتج عليه بشروطه تلك، فلا يجد المأمون الحيلة لما يريده، وتضيع الفرصة من يده، ولا بد من ملاحظة: أنه عندما أصر عليه المأمون بأن يؤم الناس في الصلاة، ورأىعليه‌السلام : أنه لا بد له من قبول ذلك ـ نلاحظ ـ: أنه اشترط عليه أن يخرج كما كان يخرج جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا كما يخرج الآخرون..

٣٠٢

ولم يكن المأمون يدرك مدى أهمية هذا الشرط، ولا عرف أهداف الإمام من وراء اشتراطه هذا، فقال له ولعله بدون اكتراث: أخرج كيف شئت.. وكانت نتيجة ذلك.. أنهعليه‌السلام قد أفهم الناس جميعاً:

أن سلوكه وأسلوبه، وحتى مفاهيمه، تختلف عن كل أساليب ومفاهيم وسلوك الآخرين. وأن خطه هو خط محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنهاجه هو منهاج عليعليه‌السلام ، ربيب الوحي، وغذي النبوة، وليس هو خط المأمون وسواه من الحكام، الذين اعتاد الناس عليهم، وعلى تصرفاتهم وأعمالهم.

ولم يعد يستطيع المأمون، أن يفهم الناس: أن الحاكم: من كان، ومهما كان، هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته. وأن كل شخصية: من ومهما كانت، وإن كانت قبل أن تصل إلى الحكم تتخذ العدل، والحرية: والمساواة، وغير ذلك شعارات لها، إلا أنها عندما تصل إلى الحكم، لا يمكن إلا أن تكون قاسية ظالمة، مستأثرة بكل شيء، ومستهترة بكل شيء، ولذا فليس من مصلحة الناس أن يتطلعوا إلى حكم أفضل مما هو قائم، حتى ولو كان ذلك هو حكم الإمامعليه‌السلام المعروف بعلمه وتقواه وفضله الخ.. فضلاً عن غيره من العلويين أو من غيرهم ـ لم يعد يستطيع أن يقول ذلك ـ لأن الواقع الخارجي قد أثبت عكس ذلك تماماً، إذ قد رأينا: كيف أن الإمامعليه‌السلام بشروطه تلك، وبسائر مواقفه من المأمون ونظام حكمه.. يضيع على المأمون هذه الفرصة، ولم تجده محاولاته فيما بعد شيئاً، بل إن كثيراً منها كان سوءا ووبالاً عليه، كما سيأتي.

٤ ـ لا مجال بعد للمأمون لتنفيذ مخططاته:

ولعل من الواضح: أن شروطه تلك قد مكنته من أن يقطع الطريق على المأمون، ولا يمكنه من استغلال الظروف لتنفيذ بقية حلقات مؤامرته، إذ لم يعد بإمكانه أن يصر على الإمام أن يقوم بأعمال تنافي وتضر بقضيته هو، وقضية العلويين، ومن ثم تؤثر على الأمة بأسرها.. وعدا عن ذلك فإن هذه الشروط، قد حفظت لهعليه‌السلام حياته في حمام سرخس، حيث كان المأمون قد حاك مؤامرته للتخلص من وزيره وولي عهده مرة واحدة، كما سيأتي بيانه.. مما يعني أن سلبيتهعليه‌السلام مع النظام كانت أمراً لابد منه، إذا أراد أن لا يعرض نفسه إلى مشاكل، وأخطار هو في غنى عنها.. والذي أمن له هذه السلبية ليس إلا شروطه تلك، التي جعلت من لعبة ولاية العهد لعبة باهتة مملة لا حياة فيها، ولا رجاء..

٣٠٣

ولعل الأهم من كل ذلك.. أنها ضيعت على المأمون الكثير من أهدافه من البيعة، التي صرح الإمامعليه‌السلام أنه كان عارفاً بها، ولم يكن له خيار في تحملها، والصبر عليها، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

وعدا عن ذلك كله أن تعاونه مع النظام إنما يعني أن يحاول تصحيح السلوك، وتلافي الأخطاء، التي كان يقع فيها الحكم، والهيئة الحاكمة. وذلك معناه أن ينقلب جهاز الحكم كله ضد الإمام، ويجد المأمون ـ من ثم ـ العذر، والفرصة لتصفيتهعليه‌السلام من أهون سبيل، فشروطه تلك أبعدت عنه الخطر ـ إلى حد ما ـ الذي كان يتهدده من قبل المأمون وأشياعه، وجعلته ـ كما قلنا ـ في منأى ومأمن من كل مؤامراتهم ومخططاتهم.

٥ ـ الإمام.. لا ينفذ إرادات الحكم:

ولعل من الأهمية بمكان.. أن نشير إلى أنهعليه‌السلام كان يريد بشروطه تلك أن يفهم المأمون: أنه ليس على استعداد لتنفيذ إرادات الحكم، والحاكم، ولا على استعداد لأن يقتنع بالتشريفات، والأمور الشكلية، فإنه.. بصفته القائد والمنقذ الحقيقي للأمة، لا يمكن أن يرضى بديلاً عن أن ينقذ الأمة، ويرتفع بها من مستواها الذي أوصلها إليه الطواغيت والظلمة، الذين جلسوا في مكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأوصيائهعليهم‌السلام ، وحكموا بغير ما أنزل الله.

إنه يريد أن يخدم الأمة، ويحقق لها مكاسب تضمن لها الحياة الفضلى، والعيش الكريم، ولا يريد أن يخدم نفسه، ويحقق مكاسب شخصيته على حساب الآخرين، ولذلك فهو لا يستطيع أن يقتنع بالسطحيات والشكليات التي لا تسمن، ولا تغني من جوع..

٦ ـ لا زهد أكثر من هذا:

إنه مضافاً إلى أن مجرد رفض الإمام كلا عرضي المأمون: الخلافة، وولاية العهد، دليل قاطع على زهده فيه. فإن هذه الشروط كان لها عظيم الفائدة، وجليل الأثر في الإظهار لكل أحد أن الإمام ليس رجل دنيا، ولا طالب جاه ومقام. وما أراده المأمون من إظهار الإمام على أنه لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه.. لم يكن إلا هباء اشتدت به الريح في يوم عاصف.. ولم تفلح بعد محاولات المأمون وعمله الدائب، من أجل تشويه الإمام والنيل من كرامته.

٣٠٤

ولقد قدمنا: أن الإمامعليه‌السلام قد واجه نفس المأمون بحقيقة نواياه، وأفهمه أن خداعه لن ينطلي عليه، ولن تخفى عليه مقاصده، ولذا فإن من الأفضل والأسلم له أن يكف عن كل مؤامراته ومخططاته.. وإلا فإنه إذا ما أراد إجبار الإمام على التعاون معه، فلسوف يجد أنهعليه‌السلام على استعداد لفضحه، وكشف حقيقته وواقعه أمام الملأ، وإفهام الناس السبب الذي من أجله يجهد المأمون ليزج بالإمامعليه‌السلام في مجالات لا يرغب، بل واشترط عليه أن لا يزج فيها ـ كما فعل في مناسبات عديدة ـ الأمر الذي لن يكون أبداً في صالح المأمون، ونظام حكمه..

ومن هنا رأيناهعليه‌السلام يجيب الريان عندما سأله عن سر قبوله بولاية العهد، وإظهاره الزهد بالدنيا ـ يجيبه ـ: ببيان أنه مجبر على هذا الأمر، ويذكره بالشروط هذه، التي يعني أنه قد دخل فيه دخول خارج منه، كما تقدم..

وهكذا.. وبعد أن كانعليه‌السلام سلبياً مع النظام، وبعد رفضه لكلا عرضي المأمون، وبعد أن اشترط هذه الشروط للدخول في ولاية العهد، فليس من السهل على المأمون، ولا على أي إنسان آخر أن ينسب إليهعليه‌السلام : أنه رجل دنيا فقط، وأنه ليس زاهدا في الدنيا، وإنما هي التي زهدت فيه.

وعلى كل حال: ورغم كل محاولات المأمون تلك.. فقد استطاع الإمامعليه‌السلام ، بفضل وعيه، ويقظته، وإحكام خطته: أن يبقى القمة الشامخة للزهد، والورع، والنزاهة، والطهر، وكل الفضائل الإنسانية، وإلى الأبد.

الموقف العاشر:

موقفهعليه‌السلام في صلاتي العيد.. ففي إحداهما:

(بعث المأمون له يسأله: أن يصلي بالناس صلاة العيد، ويخطب، لتطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضله، وتقر قلوبهم على هذه الدولة المباركة، فبعث إليه الرضاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال:((قد علمت ما كان بيني وبينك من الشرط في دخولي في هذا الأمر، فأعفني من الصلاة بالناس، فقال المأمون: إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة، والجند، والشاكرية هذا الأمر، فتطمئن قلوبهم، ويقروا بما فضلك الله تعالى به..

٣٠٥

ولم يزل يراده الكلام في ذلك. فلما ألح عليه قال:يا أمير المؤمنين، إن أعفيتني من ذلك، فهو أحب إلي، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكما خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام )) قال المأمون: أخرج كيف شئت..

وأمر المأمون القواد، والحجاب، والناس: أن يبكروا إلى باب أبي الحسنعليه‌السلام ، فقعد الناس لأبي الحسن في الطرقات، والسطوح: من الرجال، والنساء، والصبيان، وصار جميع القواد، والجند إلى بابهعليه‌السلام ، فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس.

فلما طلعت الشمس قام الرضاعليه‌السلام فاغتسل، وتعمم بعمامة بيضاء من قطن، وألقى طرفاً منها على صدره، وطرفاً بين كتفيه، ومس شيئاً من الطيب، وتشمر. ثم قال لجميع مواليه:((افعلوا مثل ما فعلت)) .

ثم أخذ بيده عكازة، وخرج، ونحن بين يديه، وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق، وعليه ثياب مشمرة..

فلما قام، ومشينا بين يديه، رفع رأسه إلى السماء، وكبر أربع تكبيرات، فخيل إلينا: أن الهواء والحيطان تجاوبه، والقواد والناس على الباب، قد تزينوا، ولبسوا السلاح، وتهيئوا بأحسن هيئة..

فلما طلعنا عليهم بهذه الصورة: حفاة، قد تشمرنا. وطلع الرضا وقف وقفة على الباب، وقال:((.. الله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد لله على ما أبلانا)) . ورفع بذلك صوته، ورفعنا أصواتنا.

فتزعزعت مرو بالبكاء، فقالها: ثلاث مرات، فلما رآه القواد والجند على تلك الصورة، وسمعوا تكبيره سقطوا كلهم من الدواب إلى الأرض، ورموا بخفافهم، وكان أحسنهم حالاً من كان معه سكين قطع بها شرابة جاجيلته ونزعها، وتحفى.. وصارت مرو ضجة واحدة، ولم يتمالك الناس من البكاء والضجة.

فكان أبو الحسن يمشي، ويقف في كل عشر خطوات وقفة يكبر الله أربع مرات: فيتخيل إلينا: أن السماء، والأرض، والحيطان تجاوبه.

وبلغ المأمون ذلك، فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين: يا أمير المؤمنين: إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس، وخفنا كلنا على دمائنا، فالرأي أن تسأله أن يرجع..

٣٠٦

فبعث المأمون إلى الإمام يقول له: إنه قد كلفه شططا، وأنه ما كان يحب أن يتعبه، ويطلب منه: أن يصلي بالناس من كان يصلي بهم..

فدعا أبو الحسن بخفه، فلبسه، ورجع.

واختلف أمر الناس في ذلك اليوم، ولم ينتظم في صلاتهم إلخ..)(١) .

ولقد قال البحري يصف هذه الحادثة والظاهر أنه يمين بن معاوية العائشي الشاعر على ما في تاج العروس:

ذكـروا بطلعتك النبي، فهللوا

لما طلعت من الصفوف وكبروا

حتى انتهيت إلى المصلى لابساً

نـور الهدى يبدو عليك فيظهر

ومـشيت مشية خاشع متواضع

لـله، ولا يـزهى، ولا يـتكبر

ولـوان مـشتاقا تكلف غير ما

في وسعه لمشى إليك المنبر(٢)

ومما يلاحظ هنا: أنه في هذه المرة أرسل إليه من يطلب منه أن يرجع. ولكننا في مرة أخرى نراه يسارع بنفسه، ويصلي بالناس، رغم تظاهره بالمرض..

وعلى كل حال.. فإننا وإن كنا قد تحدثنا في هذا الفصل، وفي فصل: ظروف البيعة وسنتحدث فيما يأتي عن بعض ما يتعلق بهذه الرواية، إلا أننا سوف نشير هنا إلى نقطتين فقط.. وهما:

١ ـ الأثر العاطفي، والقاعدة الشعبية:

فنلاحظ: أننا حتى بعد مرور اثني عشر قرنا على هذه الواقعة، لا نملك أنفسنا ونحن نقرأ وقائعها، من الانفعال والتأثر بها، فكيف إذن كانت حال أولئك الذين قدر لهم أن يشهدوا ذلك الموقف العظيم؟!.

____________

(١) قد ذكرنا بعض مصادر هذه الرواية في فصل: ظروف البيعة.. فراجع..

(٢) مناقب آل أبي طالب. لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٧٢، ولكن هذا الشعر ينسب أيضاً للبحتري في المتوكل عندما خرج لصلاة العيد.. وانتحال الشعر، وكذلك الاستشهاد بشعر الآخرين، في المواضع المناسبة ظاهرة شائعة في تلك الفترة ومن يدري فلعل الشعر للبحتري ونسب للبحري أو لعله للبحري وانتحله أو نسب للبحتري، ولعل البحتري قد صحف وصار: البحري.. ولعل العكس.

٣٠٧

وغني عن البيان هنا: أن شأن هذه الواقعة هو شأن واقعة نيشابور، من حيث دلالتها دلالة قاطعة على كل ما كان للرضا من عظمة وتقدير في نفوس الناس وقلوبهم، وعلى مدى اتساع القاعدة الشعبية لهعليه‌السلام ..

٢ ـ لماذا يجازف المأمون بإرجاعهعليه‌السلام :

وإذا كان هدف المأمون من الإصرار على الإمام بأن يصلي بالناس هو أن يخدع الخراسانيين والجند والشاكرية، ويجعلهم يطمئنون على دولته المباركة فإنه من الواضح أيضاً أن إرجاع المأمون للإمامعليه‌السلام في مثل تلك الحالة، وذلك التجمع الهائل، وتلك الثورة العاطفية في النفوس، كان ينطوي على مجازفة ومخاطرة لم تكن لتخفى على المأمون، وأشياعه، حيث لا بد وأن يثير تصرفه هذا حنق تلك الجماهير التي كانت في قمة الهيجان العاطفي، ويؤكد كراهيتها له.. وعلى الأقل لن تكون مرتاحة لتصرفه هذا على كل حال.

وبعد هذا.. فإنه إذا كان المأمون يخشى من مجرد إقامة الإمام للصلاة.. فلا معنى لأن يلح عليه هو بقبولها.. وكذلك لا معنى لأن يخشى ذلك الهيجان العاطفي، وتلك الحالة الروحية، التي أثارها فعل الإمامعليه‌السلام وتصرفه في هذا الموقف.. فذلك إذن ما لم يكن يخافه ويخشاه.. فمن أي شيء خاف المأمون إذن؟! إنه كان يخشى ما هو أعظم وأبعد أثراً، وأشد خطراً.. إنه خشي من أن الرضا إذا ما صعد المنبر، وخطب الناس، بعد أن هيأهم نفسيا، وأثارهم عاطفيا إلى هذا الحد ـ خشي ـ أن يأتي بمتمم لكلامه الذي أورده في نيشابور:((وأنا من شروطها..)) وأنه ظهر إليهم على الهيئة التي كان يخرج عليها النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصيه عليعليه‌السلام وهو أمر جديد عليهم.. ما من شأنه أن يجعل المأمون وأشياعه لا يأمنون بعد على أنفسهم، كما ذكر الفضل بن سهل.. ولسوف يحول الإمام مرواً من معقل للعباسيين والمأمون، وعاصمة، وحصن قوي لهم ضد أعدائهم ـ من العرب وغيرهم ـ سوف يحولها إلى حصن لأعداء العباسيين والمأمون، حصن لأئمة أهل البيت. ففضل المأمون: أن يختار إرجاعهعليه‌السلام عن الصلاة، لأنه رأى أن ذلك هو أهون الشرين، وأقل الضررين..

ولقد جرب المأمون الرضا أكثر من مرة، وأصبح يعرف أنه مستعد لأن يعلن رأيه صراحة في أي موقف تؤاتيه فيه الفرصة، ويقتضي الأمر فيه ذلك. ولم ينس بعد موقفه في نيشابور، ولا ما كتبه في وثيقة العهد، ولا غير ذلك من مواقفهعليه‌السلام وتصريحاته في مختلف الأحوال والظروف..

٣٠٨

الموقف الحادي عشر:

وأخيراً.. فقد كان سلوك الإمامعليه‌السلام العام، سواء بعد عقد ولاية العهد له، أو قبلها. يمثل ضربة لكل خطط المأمون ومؤامراته، ذلك السلوك المثالي، الذي لم يتأثر بزبارج الحكم وبهارجه.. ويكفي أن نذكر هنا ما وضعه به إبراهيم بن العباس، كاتب القوم وعاملهم، حيث قال: (ما رأيت أبا الحسن جفا أحداً بكلامه قط، وما رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه. وما رد أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مد رجليه بين يدي جليس له قط. ولا اتكأ بن يدي جليس له قط، ولا شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط، ولا رأيته تفل قط، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسم. وكان إذا خلا، ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه، حتى البواب والسائس.

وكان قليل النوم بالليل، يحيى أكثر لياليه من أولها إلى الصبح. وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول:((ذلك صوم الدهر)) . وكان كثير المعروف والصدقة في السر، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله، فلا تصدقوه..)(١) .

وهذه الصفات بلا شك قد أسهمت إسهاماً كبيراً في أن يكون الإمامعليه‌السلام هو الأرضى في الخاصة والعامة، وأن تنفذ كتبه في المشرق والمغرب، إلى غير ذلك مما تقدم..

الحكم ليس امتيازاً وإنما هو مسؤولية:

وقد اعترض عليه بعض أصحابه، عندما رآه يأكل مع خدمه وغلمانه، حتى البواب والسائس، فأجابهعليه‌السلام :((مه، إن الرب تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال..)) (٢) .

وقال له أحدهم: أنت والله خير الناس، فقال له الإمام:((لا تحلف يا هذا، خير مني من كان أتقى لله تعالى. وأطوع له، والله ما

____________

(١) كلام إبراهيم بن العباس هذا معروف ومشهور، تجده في كثير من كتب التاريخ والرواية، ولذا فلا نرى أننا بحاجة إلى تعداد مصادره.

(٢) البحار ج ٤٩ ص ١٠١، والكافي الكليني، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣٠٩

نسخت هذه الآية: ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ.. ) )) (١) .

وقال لإبراهيم العباسي إنه لا يرى أن قرابته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجعله خيراً من عبد أسود، إلا أن يكون له عمل صالح فيفضله به(٢) .

وقال رجل له: ما على وجه الأرض أشرف منك إباء. فقال:((التقوى شرفتهم، وطاعة الله أحظتهم))( ٣) .

وما نريد أن نشير إليه ونؤكد عليه هنا، هو أنهعليه‌السلام يريد بذلك أن يفهم الملأ: أن الحكم لا يعطي للشخص ـ من كان، ومهما كان ـ امتيازاً، ولا يجعل له من الحقوق ما ليس لغيره، وإنما الامتياز ـ فقط ـ بالتقوى والفضائل الأخلاقية.. وكل شخص حتى الحاكم سوف يلقى جزاء أعماله: إن خيراً فخير، وإن شرا فشر، وعليه فما يراه الناس من سلوك الحكام، ليس هو السلوك الذي يريده الله، وتحكم به النواميس الأخلاقية، والإنسانية. والامتيازات التي يجعلونها لأنفسهم، ويستبيحون بها ما ليس من حقهم لا يقرها شرع، ولا يحكم بها قانون..

وبكلمة مختصرة: إن الإمامعليه‌السلام يرى: أن الحكم ليس امتيازاً، وإنما هو مسؤولية.

وعلى كل حال.. فإن سلوك الإمامعليه‌السلام ، لخير دليل على ما كان يتمتع به من المزايا الأخلاقية، والفضائل النفسية.. ويكفي أنه لم يظهر منهعليه‌السلام طيلة الفترة التي عاشها في الحكم إلا ما ازداد به فضلاً بينهم، ومحلاً في نفوسهم، على حد تعبير أبي الصلت. وعلى حد تعبير شخص آخر: أقام بينهم لا يشركهم في مأثم من مآثم الحكم.. بل لقد كان لوجوده أثر كبير في تصحيح جملة من الأخطاء والانحرافات التي اعتادها الحكام آنئذٍ.. حتى لقد استطاع أن يؤثر على نفس المأمون، ويمنعه من الشراب والغناء، طيلة الفترة التي عاشها معه، إلى آخر ما هنالك، مما لسنا هنا في صدد تتبعه واستقصائه.

____________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٧.

(٣) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦. ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣١٠

وفي نهاية المطاف نقول:

وحسبنا هنا ما ذكرنا من الأمثلة، التي نحسب أنها تكفي لأن تلقي ضوءاً كاشفاً على الخطة التي اتبعها الإمامعليه‌السلام في مواجهة خطط المأمون ومؤامراته.. تلك الخطة التي كانت تكفي لأن لا تبقى الصورة التي أرادها المأمون في أذهان الناس، ولا مبرر للشكوك لأن تبقى تراود نفوسهم.

ولقد نجحت تلك الخطة نجاحا أذهل المأمون، وأعوانه، وجعلهم يتصرفون بلا روية، ويقعون بالمتناقضات.. حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك. حسبما صرح به المأمون نفسه. وكانت النتيجة أن دبر فيه المأمون بما يحسم عنه مواد بلائه، كما وعد حميد بن مهران، وجماعة من العباسيين.

القسم الرابع

من خلال الأحداث

١ ـ مع بعض خطط المأمون..

٢ ـ كاد المريب أن يقول خذوني.

٣ ـ ما يقال حول وفاة الإمام..

٤ ـ دعبل والمأمون.

٥ ـ كلمة ختامية.

مع بعض خطط المأمون

التوجيهات الراضية غير مقبولة:

كل ما تقدم يلقي لنا ضوءاً على بعض نوايا المأمون مع الإمامعليه‌السلام ، وعلى كثير من الأحداث التي اكتنفت ذلك الحدث التاريخي الهام.

وإننا حتى لو سلمنا جدلاً، وغضضنا النظر عن كل تلك الأسئلة، وعلامات الاستفهام التي يمكن استخلاصها مما تقدم.. فإننا لا نستطيع ـ مع ذلك ـ أن نعتبر البيعة صادرة عن حسن نية، وسلامة طوية.

٣١١

ولا أن نقبل بالتوجيهات الراضية عن تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وبعدها تجاه الإمام، الذي كان يكبر المأمون بـ (٢٢‍) سنة، والذي كان مجبراً على قبول هذا الأمر، ومهددا بالقتل إن لم يقبل. ولم يتركه وشأنه ما دام أنه لا يريد أن يتقلد هذا الشرف الذي تتهافت النفوس عليه، وتزهق الأرواح من أجله.

نعم.. إننا لا نستطيع أن نسلم بذلك، ونحن نرى منه تلك التصرفات والمواقف المشبوهة، بل والمفضوحة تجاه الإمامعليه‌السلام ، والتي لا تبقي مجالاً للشك في حقيقة نواياه وأهدافه من كل ما أقدم وما كان عاقداً العزم على الإقدام عليه..

وهذا الفصل معقود للحديث عن بعض تلك التصرفات، ومن أجل بيان تلك الخطط.

المأمون يفضح نفسه:

وقد تعجب إذا قلنا لك: إن المأمون نفسه يصرح ببعض خططه، التي كانت تصرفاته تدور في فلكها، ويعلن بعض الدوافع، ويبوح ببعض النوايا تجاه الإمام، وبالنسبة لقضية ولاية العهد فإليك ما أجاب به حميد بن مهران، وجمعاً من العباسيين، عندما عاتبوه ولاموه على ما أقدم عليه، من البيعة للرضاعليه‌السلام يقول المأمون:

(.. قد كان هذا الرجل مستتراً عنا، يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به بأنه ليس مما ادعى في قليل ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.

وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال: أن ينفتق علينا منه ما لا نسده، ويأتي علينا ما لا نطيقه..

والآن.. فإذ قد فعلنا به ما فعلنا، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا. وأشرفنا من الهلاك بالتنويه باسمه على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره. ولكننا نحتاج إلى أن نضع منه قليلاً، قليلاً، حتى نصوره عند الرعية بصورة من لا يستحق هذا الأمر، ثم ندبر فيه بما يحسم عنا مواد بلائه..).

ثم طلب منه حميد بن مهران: أن يسمح له بمجادلة الإمامعليه‌السلام ، ليفحمه، وينزله منزلته، ويبين للناس قصوره، وعجزه، فقال المأمون: (لا شيء أحب إلي من هذا).

٣١٢

ثم كانت النتيجة عكس ما كان يتوقعه المأمون والعباسيون، وأشياعهم وباءوا كلهم بالفشل الذريع، والخيبة القاتلة(١) .

والذي يعنينا الحديث عنه هنا:

هو قوله: وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال.. إلى آخر ما نقلناه عنه آنفاً، فإنها أوضحت أن المأمون الذي كان يخشى الإمام خشية شديدة، كان يخطط أولاً إلى أخذ زمام المبادرة من الإمام، وتحاشي الاصطدام معه ثم كان يخطط بعد ذلك إلى الوضع منهعليه‌السلام قليلاً قليلاً إلى آخر ما تقدم..

ولا يرد: أن كلام المأمون مع حميد بن مهران ظاهره: أنه لم يكن يريد في بادئ الأمر الحط من الإمامعليه‌السلام ، وإنما بدا له ذلك حين قوي مركز الإمامعليه‌السلام ، واستحكم أمره.. لا يرد ذلك..

لأن كلامه هذا لا ينفي أنه كان يريد من أول الأمر ذلك. بل هو يؤكد ذلك. لأنه يصرح فيه: أنه إنما قدم على ما أقدم عليه، عندما رأى افتتان الناس بهعليه‌السلام ، فأراد أن يعمل عملا يفقد الإمامعليه‌السلام مركزه، ويقضي على كل نشاطاته، ويذهب بماله من القدرة والنفوذ نهائياً، وإلى الأبد.

ولقد تحدثنا فيما سبق عن بعض تصرفاته التي تدور في فلك خطط تلك مثل: فرضه للرقابة على الإمامعليه‌السلام ، والتضييق عليه، فلا يصل إليه إلا من أحب، وعزله عن شيعته ومواليه، وأيضاً تفريقه الناس عنه، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وكذلك قضية صلاة العيد، وغير ذلك ما تقدم.

____________

(١) راجع: شرح ميمية أبي فراس ص ١٩٦، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٧٠، والبحار ج ٤٩ ص ١٨٣، ومسند الإمام الرضا ج ٢ ص ٩٦.

٣١٣

نزيد هنا بعض الأمور الأخرى، التي وإن كان قد سبق الحديث عن بعضها، ولكنه كان حديثا من زاوية أخرى، ومن أجل استفادة أمور غير الأمور التي نحاول استفادتها منها هنا. وذلك أمر طبيعي، ولا يكون تكراراً ما دام أن الواقعة الواحدة قد يكون لها دلالات متعددة، وإفادات مختلفة.. ولذا فإننا نقول:

لماذا على البصرة فالأهواز:

إن من جملة الأمور التي كانت من جملة خطط المأمون للتأثير على مكانة الإمامعليه‌السلام وحتى على معنوياته النفسية.. الطريق الذي أمر رجاء ابن أبي الضحاك(١) قرابة الفضل بن سهل، والذي كان من قواد المأمون، وولاته ـ أمره ـ بسلوكه، عندما أرسله ليأتي بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو مهما كلفه الأمر..

فقد أمره: أن يجعل طريقه بالإمام (على البصرة، والأهواز، ففارس. وحذره كثيراً من المرور على طريق الكوفة، والجبل، وقم)(٢) .

____________

(١) وذكر أبو الفرج، والمفيد: أن المرسل هو الجلودي، ولكن الصحيح هو الذي ذكرناه.. إذ من الخطأ أن يرسله المأمون لإحضار الرضاعليه‌السلام ، لأن ذلك يضر بقضيته، ويفسد عليه ما كان دبره، لأنه موجب لسوء ظن الرضاعليه‌السلام ، والعلويين، وسائر الناس، وتنبههم مبكرا لحقيقة الأمر، وواقع القضية.

وذلك لأن الجلودي هو الذي أمره الرشيد: أن يغير على دور آل أبي طالب، ويسلب نساءهم إلخ ما تقدم.. كما أنه كان عدواً متجاهراً للإمامعليه‌السلام ، وقد سجنه المأمون بسبب معارضته للبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد! ولعل سر خطأهم هو أن الجلودي كان والياً على المدينة من قبل المأمون، حين استقدام المأمون للإمام إلى مرو، حسبما جاء في كتاب: الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٣٥.

(٢) تهذيب التهذيب ج ٧ ص ٣٨٧، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٧٦، وينابيع المودة ص ٣٨٤، والخرائج والجرائح طبعة حجرية ص ٢٣٦. وإثبات الوصية ص ٢٠٥.

وإعلام الورى ص ٣٢٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩، ١٨٠، والكافي ج ١ ص ٤٨٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٤٠ والبحار ج ٤٩ ص ٩١، ٩٢ ١١٨ و ١٣٤، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٥، وغير ذلك كثير.

٣١٤

بل لقد ورد: أن المأمون قد كتب إلى الرضا نفسه، يقول له: (لا تأخذ على طريق الجبل وقم. وخذ على طريق البصرة، فالأهواز، ففارس..)(١) .

وسر ذلك واضح، فإن أهل الكوفة، وقم، كانوا معروفين بالتشيع للعلويين(٢) وأهل البيت، ومرور الإمام عليه‌السلام من هذين البلدين، وخصوصاً الكوفة، التي كانت تعتبر من المراكز الحساسة جداً في الدولة.. سوف يكون من نتيجته: أن يستقبله أهلها بما يليق بشأنه: من الإجلال، والإعزاز والتكريم.

____________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ٤٨٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩ و ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٤، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٧٣، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٤.

(٢) تشيع أهل الكوفة وقم أشهر من أن يحتاج إلى بيان، أو إقامة برهان.. لكننا نورد ـ مع ذلك ـ بعض الشواهد، تبصرة للقارئ، فنقول: أما الكوفة: فقد تقدم قول محمد بن علي العباسي أنها وسوادها شيعة علي وولده.. وفي الطبري، وابن الأثير، وغيرهما تجد قول عبد الله بن علي للمنصور، عندما استشاره في أمر محمد بن عبد الله بن الحسن: (.. ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة، فاجثم على أكتافهم، فإنهم شيعة أهل هذا البيت، وأنصاره الخ)، وفي قضية وفاة السيد الحميري، التي ذكرها المرزباني في كتابه أخبار السيد الحميري دلالة واضحة على تشيع الكوفيين، وانحراف البصريين..

ولأجل ذلك نرى المأمون يستقبل وفدا من أهل الكوفة في منتهى الغلظة والجفاء، فراجع مروج الذهب ج ٣ ص ٤٢١. وفي البداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣: أن المنصور قد اعترف بأن لإبراهيم بن عبد الله بن الحسن في الكوفة مئة ألف سيف مغمدة، وأعرب عن مخاوفه من تشيع أهل الكوفة للعلويين، وولائهم لهم.. بل إننا لا نستبعد أن يكون بناء المنصور لبغداد هو من أجل أن يبتعد عن الكوفة، وأهلها، ويأمن على نفسه، قال البلاذري في فتوح البلدان ص ٤٠٥: (أخذ المنصور أهل الكوفة بحفر خندقها. وألزم كل امرئ للنفقة عليه أربعين درهما. وكان ذاما لهم. لميلهم إلى الطالبيين، وإرجافهم بالسلطان..) وقد تقدم أنه عندما ذهب إليهم العباس بن موسى، أخو الإمام الرضاعليه‌السلام يدعوهم للبيعة، لم يجبه إلا البعض منهم، وقال له آخرون: (إن كنت تدعو للمأمون، ثم من بعده لأخيك، فلا حاجة لنا في دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك، أو بعض أهل بيتك، أو إلى نفسك أجبناك..).

وعلى كل حال.. فقد كانت الكوفة مصدرا لثورات كثيرة على الأمويين والعباسيين على حد سواء، تلك الثورات التي كانت كلها تقريباً بقيادة علوي، أو داعية إلى علوي..

ولم ينس المأمون بعد ثورة أبي السرايا التي كادت تغير الموازين، وتقلب مجريات الأحداث.. إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه. =

٣١٥

= وأما تشيع القميين، فذلك أعرف وأشهر. وقضيتهم مع جبة دعبل التي أهداه إياه الإمام لا يكاد يجهلها أحد. وعندما طلب المأمون من الريان أن يحدث بفضائل عليعليه‌السلام ، وأجاب بأنه لا يحسن شيئاً، قال المأمون: (سبحان الله! ما أجد أحداً يعينني على هذا الأمر لقد هممت أن أجعل أهل قم شعاري ودثاري).

ولعل تشيع أهل قم هذا هو الذي دفع بالمأمون لأن يوجه إليهم عامله علي بن هشام، لينكل بهم، ويحاربهم حتى يهزمهم، ويدخل البلد، ويهدم سورها، ويجعل على أهلها مبلغ سبعة ملايين درهم، بدلا من مليونين، وهو ما لم يكن يدفعه أي بلد آخر يضاهي بلدهم في عدد السكان وغير ذلك من المميزات، فكيف بالسبعة.. ومع أنه كان قد خفض الخراج عن السواد، وبعد البلدان الأخرى، فلما سمعوا بذلك طالبوا بتخفيض الخراج عنهم أيضاً، ففعل ذلك.. وكان تخفيضه عنهم بزيادة المليونين إلى سبعة، كما قلنا.. راجع في تفصيل ذلك: الطبري ج ١١ ص ١٠٩٣، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٢١٢، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٥٥، والنجوم الزاهرة ج ٢ ص، ١٩٠ وتاريخ التمدن الإسلامي مجلد ١ جزء ٢ ص ٣٣٧، وفتوح البلدان للبلاذري ص ٤٤٠، وتجارب الأمم ج ٦ ص ٤٦٠.

٣١٦

ولا شك أن الإمامعليه‌السلام سوف يستطيع أن يستقطب المزيد من الناس، ويؤثر عليهم بما حباه الله من الفضائل والكمالات الأخلاقية، وبما آتاه الله من العلم والحكمة، والورع والتقوى، الذي سار ذكره في الآفاق، حتى لا يكاد يجهله أحد.. وإذا كان أهل نيشابور، بل وحتى أهل مرو، معقل العباسيين والمأمون، قد كان منهم تجاه الإمام ما لا يجهله أحد. حتى إنهم كانوا بين صارخ، وباك ومتمرغ في التراب إلخ.. وحتى لقد خاف المأمون وأشياعه على دمائهم ـ إذا كان هؤلاء هكذا ـ فكيف ترى سوف تكون حالة أهل الكوفة وقم، معقلي العلويين، والمحبين لأهل البيت، والمتفانين فيهم، لو أنهم رأوا الإمامعليه‌السلام بينهم، وبالقرب منهم..

يقول الراوندي في ذلك: (إن المأمون أمر رجاء بن أبي الضحاك: أن لا يمر بالإمام عن طريق الكوفة، لئلا يفتتن به أهلها..)(١) !.

والمأمون لا يريد أن يفتتن الناس بالإمام، وإنما الذي يريده هو عكس ذلك تماماً.. إنه يريد أن يضع من الإمام لا أن يرفع.

أما أهل البصرة: فعثمانية، يدينون بالكف، ويقولون: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل.. بل لقد كانت البصرة معقلاً مهما للعباسيين، الذين حرق دورهم زيد النار، ابن الإمام الكاظمعليه‌السلام ، كما قدمنا، ولهذا نلاحظ: أن دور البصريين في التشيع لم يكن يضارع دور غيرهم، لا روائياً، ولا كلامياً..

وأما ما ربما يحتمله البعض: من أن المأمون كان يأمل أن يخرج من البصرة، أو غيرها من يخلصه من الإمامعليه‌السلام نهائياً.. فلا أرى أنه يتفق مع أهداف وأغراض المأمون، التي كان يرمي إليها من وراء لعبته تلك..

____________

(١) الخرائج والجرائح، طبعة حجرية ص ٢٣٦.

٣١٧

الإمام يرفض كل مشاركة تعرض عليه:

إنه برغم شروط الإمام على المأمون، والتي أشرنا إليها فيما سبق، فإننا نرى المأمون كل مدة يحاول أن يجري اختبارا للإمام، ليعرف حقيقة نواياه، وأنه هل أصبح له طمع بالخلافة، وطموح لها(١) ، ليعجل عليه بما يحسم عنه مواد بلائه.. أم لا. فكان يأتي كل مدة إليه، يطلب منه أن يولي فلانا، أو أن يعزل فلاناً، أو أن يصلي بالناس.. بل لقد طلب منه بعد مقتل الفضل أن يساعده في إدارة شؤون الخلافة(٢) بحجة أنه يعجز وحده أن يقوم بأعباء الحكم. ويدير دفة السلطان!

هذا.. إن لم نقل: أنه كان يريد من وراء ذلك: أن يجعل ذلك ذريعة للقضاء على الإمام، بحجة أنه نقض الشرط، وليكون بذلك قد قضى على العلويين جميعاً، وإلى الأبد.

أو على الأقل كان يريد بذلك: أن يوجد للإمام أعداء في الأوساط ذات القوة والنفوذ..

وأياً ما كانت نوايا المأمون وأهدافه، فإن الإمامعليه‌السلام كان يرفض ذلك كله بكل عزم وإصرار، ويذكره بالشروط تلك، ويقول له:((إن وفيت لي وفيت لك)) . وهذا تهديد صريح له من الإمامعليه‌السلام . ولا نعجب كثيراً ـ بعد أن اتضحت لنا نوايا المأمون وأهدافه ـ إذا رأينا المأمون يتحمل هذا التهديد، بل ويخضع له، ويقول: (بل أفي لك)!.

وهكذا.. فقد كان الإمامعليه‌السلام يضيع على المأمون ما كان يحسب أنه فرصة مؤاتية له، ولا يمكنه من معرفة ما يريد معرفته، ولا من تنفيذ ما يريد تنفيذه.

____________

(١) وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد رأينا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، يسأل ابن عباس عن عليعليه‌السلام : إن كان لا يزال يطمح إلى الخلافة، ويأمل فيها.. أم لا!.

(٢) الكافي ج ٨ ص ١٥١، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٨ و ٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٤ و ١٦٦ و ١٦٧ والبحار ج ٤٩ ص ١٤٤ و ١٥٥ و ١٧١، وغير ذلك.

٣١٨

الاختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام :

كما أنه كان كل مدة يقوم بعملية اختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام ، ولمدى ما يتمتع به من تأييد في الأوساط الشعبية، ليعرف إن كان أصبحعليه‌السلام يشكل خطراً حقيقياً، ليعجل بالقضاء عليه أم لا.. فكان كل مدة يكلفه بأن يؤم الناس بالصلاة للعيد. أو ما شاكل.. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى ما يعتمر قلب المأمون من الخوف والخشية منهعليه‌السلام . (راجع: السبب الثالث من فصل البيعة، والموقف العاشر في فصل: خطة الإمامعليه‌السلام ).

سؤال.. وجوابه:

ولعلك تقول: إذا كان المأمون يخشى الإمامعليه‌السلام إلى هذا الحد، لما يعلمه من نفوذه ومكانته، فلماذا لا يتخلص منه بذلك الأسلوب التقليدي الذي انتهجه أسلافه من الأمويين، والعباسيين، وتبعهم عليه هو فيما بعد، وكذلك من أتى بعده.. وذلك بأن يدس إليه شربة من السم، وهو في المدينة، من دون أن يحتاج إلى اشخاصه إلى مرو، والبيعة له بولاية العهد، وتزويجه ابنته، إلى غير ذلك من الأمور التي من شأنها أن تعزز من مركز الإمام، وترفع من شأنه، وتوجه إليه الأنظار والقلوب، حتى يضطر في نهاية الأمر لأن يعود إلى ما جرت عليه عادة أسلافه، وأتباعه..

ولكن الجواب على هذا قد اتضح مما قدمناه، فإن المأمون لم يكن يريد في بادئ الأمر موت الإمام، ولا كان يستطيع أن يفعل ذلك.

ولو أن ذلك كان قد حدث لوقع المأمون في ورطة، لها أول وليس لها آخر، حيث إنه كان بأمس الحاجة إلى حياة الإمامعليه‌السلام ، وذلك لما قدمناه من الأسباب والظروف التي كانت تحتم على المأمون أن يلعب لعبته تلك، التي وإن كانت تنطوي على مخاطرة جريئة، إلا أنه كان ـ كما قدمنا ـ قد رسم الخطة، وأحكم التدبير للتخلص من الإمامعليه‌السلام بمجرد أن يحقق مآربه، وأهدافه، بالطريقة التي لا تثير شك أحد، ولا توجب تهمة أحد، وقد حدث ذلك بالفعل، كما سيمر علينا..

وأما كتمه لفضائل الإمامعليه‌السلام :

ومن جملة الأمور التي كانت تدور في فلك خطة المأمون، التي لخصها بأنه يريد الوضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ محاولاته كتم فضائل الإمامعليه‌السلام ومزاياه عن الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً..

٣١٩

وقد تقدم: أنه عندما سأل رجاء بن أبي الضحاك، الذي تولى إشخاص الرضاعليه‌السلام من المدينة إلى مرو، عن حال الرضاعليه‌السلام في الطريق، فأخبره عما شاهده من عبادتهعليه‌السلام ، وزهده وتقواه، وما ظهر له من الدلائل والبراهين، قال له المأمون: (.. بلى يا ابن أبي الضحاك، هذا خير أهل الأرض، وأعلمهم، وأعبدهم، فلا تخبر أحداً بما شهدت منه، لئلا يظهر فضله إلا على لساني..)!.

وهكذا: فإن المأمون وإن استطاع أن يمرر الكثير، إلا أنه لم يكن يجد بداً في كثير من الأحيان من أن يظهر على حقيقته وواقعه. وهذا هو أحد تلك المواقف التي مرت وسيمر معنا بعضها، والتي اضطر فيها المأمون لأن يكشف عن وجهه الحقيقي،.. وإن كان قد حاول ـ مع ذلك ـ أن يتستر بما لا يسمن ولا يغني من جوع.

ولا أعتقد أن المأمون كان يجهل: أن ما يأتي به لم يكن لينطلي كله على أعين الناس، بل كان يعلم ذلك حق العلم، ولكن كما يقولون: (الغريق يتشبث بالطحلب).

ولكن.. بالرغم من محاولات المأمون تلك.. فإننا نرى أن فضائل الإمام ومزاياه كانت كالعرف الطيب، لم تزل تظهر، وتنتشر وتذاع.. بل ولعل محاولات المأمون تلك التي كانت ترمي للحط من الإمام وإسقاطه، قد أسهمت كثيراً وساعدت على إظهار فضائله، وشيوعها، كما سيتضح.

الشائعات الكاذبة!

وكان بالإضافة إلى ما تقدم يحاول ترويج شائعات كاذبة، من شأنها أن تنفر الناس من العلويين عامة، ومن الإمامعليه‌السلام ، وسائر الأئمةعليهم‌السلام خاصة.

فهذا أبو الصلت يسأل الإمامعليه‌السلام فيقول: (يا ابن رسول الله، ما شيء يحكيه الناس عنكم؟!.

قالعليه‌السلام :((ما هو؟!.

قال: يقولون: إنكم تدعون: أن الناس لكم عبيد!.

قالعليه‌السلام :يا عبد السلام، إذا كان الناس كلهم عبيدنا ـ على ما حكوه ـ فممن نبيعهم)) ؟! إلخ(١) .

____________

(١) مسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٥، والبحار ج ٤٩ ص ١٧٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٨٤.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

وهنا يأتي سؤال ، وهو : إنّ الآيات السابقة قد ذكرت أنّ الله لا يسألكم أموالكم ، فكيف أمرت هذه الآية بالإنفاق في سبيل الله؟

غير أنّ تتمة الآية تجيب عن هذا السؤال عن طريقين ، فتقول أولا :( وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ) (١) لأنّ ثمرة الإنفاق تعود عليكم أنفسكم في الدنيا والآخرة ، حيث يقل التفاوت الطبقي ، وعندها سيعم الأمن والهدوء في المجتمع ، وتحل المحبّة والصفاء محل العداوة والحقد. هذا ثوابكم الدنيوي.

وأمّا في الآخرة ، فستمنحون مقابل كلّ درهم أو دينار تنفقونه الهبات والنعم العظيمة التي لم تخطر على قلب بشر ، وعلى هذا فإنّ من يبخل يبخل عن نفسه! وبتعبير آخر : فإنّ الإنفاق هنا يعني أكثر ما يعني الإنفاق في أمر الجهاد ، والتعبير بـ( فِي سَبِيلِ اللهِ ) يلائم هذا المعنى أيضا ، ومن الواضح أنّ أي نوع من المساهمة في تقدّم أمر الجهاد سيضمن وجود المجتمع واستقلاله وشرفه.

والجواب الآخر هو :( وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ ) فهو غني عن إنفاقكم في سبيله ، وغني عن طاعتكم ، وإنّما أنتم الفقراء إلى لطفه ورحمته وثوابه وكرمه في الدنيا والآخرة.

إنّ الموجودات الممكنة ـ وما سوى الله سبحانه ـ متسربلة في الفقر جميعا ، والغني بذاته هو الله سبحانه لا غير ، فإنّها فقيرة إليه دائما ، حتى في أصل وجودها ، وتستمد العون من منبع الفيض الأزلي كلّ لحظة ، فإذا انقطعت عنها رعايته ولطفه لحظة ، فسينتهي وجودها ، وتخرّ أبدانها جثثا هامدة!

وتحذر الجملة الأخير جميع المسلمين أن اعرفوا قدر هذه النعمة الجليلة ، والموهبة العظيمة ، حيث جعلكم سبحانه حماة دينه القويم وأنصار دينه وأتباع رسوله وأصحابه ، فحذار أن تقصروا في تعظيم هذه النعمة وإكبارها ، إذ :( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ ) .

__________________

(١) «البخل» يتعدّى مرة بعن ، وأخر بعلى ، وعلى الأوّل يعني المنع ، وعلى الثّاني يعني الإضرار.

٤٠١

أجل ، إنّ هذا الحمل لن يسقط على الأرض أبدا ، وهذه الرسالة العظيمة لا يمكن أن يتوقّف مسيرها ، فإن أنتم لم تستمروا في موقفكم في الذب عن دين الله ، واستصغرتم شأن هذه الرسالة العظيمة ، فإنّ الله سبحانه سوف يأتي بقوم يتحمّلون أعباء هذه الرسالة أولئك قوم يفوقونكم مرّات في الإيثار والتضحية وبذل الأنفس والأموال والإنفاق في سبيل الله!

وقد جاء نظير هذا التهديد في الآية (٥٤) من سورة المائدة ، حيث تقول :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) .

والطريف أنّ أكثر المفسّرين قد نقلوا في ذيل الآية ـ مورد البحث ـ أنّ جماعة من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سألوه بعد نزول هذه الآية : من هؤلاء الذين ذكرهم الله في كتابه؟ وكان «سلمان» جالسا قريبا من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فضرب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده على فخذ سلمان ـ وفي رواية على كتفه ـ وقال : «هذا وقومه ، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس».

لقد أورد هذا الحديث وأمثاله محدّثو السنّة المعروفون في كتبهم المعروفة ، كالبيهقي والترمذي ، وعليه اتفاق مفسّري الشيعة والسنّة المشهورين ، كصاحب تفسير القرطبي ، وروح البيان ، ومجمع البيان ، والفخر الرازي ، والمراغي ، وأبي الفتوح الرازي وأمثالهم.

وورد في تفسير الدر المنثور عدة أحاديث في هذا الباب في ذيل الآية مورد البحث(١) .

وروي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، يكمل الحديث السابق ، إذ يقول : «والله أبدل بهم خيرا منهم الموالي»(٢) .

__________________

(١) الدر المنثور ، المجلد ٦ ، صفحة ٦٧.

(٢) تفسير مجمع البيان ، الجزء ٩ ، صفحة ١٠٨.

٤٠٢

إذا نظرنا إلى تاريخ الإسلام والعلوم الإسلامية بدقّة ، وبنظرة بعيدة عن التعصّب ، ولا حظنا سهم المسلمون غير العرب الإيرانيين خاصة ـ في ميادين الجهاد ومحاربة العدو من جهة ، وتنقيح العلوم الإسلامية ، وتدوينها من جهة أخرى ، فسنطلع على حقيقة هذا الحديث ، وتفصيل هذا الكلام طويل.

اللهمّ! ثبّت أقدامنا في طريق الجهاد والإيثار والتضحية في سبيل دينك القويم.

اللهمّ! لا تسلبنا ما منحتنا من الفخر العظيم إذ جعلتنا دعاة لدينك الحنيف.

إلهنا! زد في قوّتنا وإيماننا ، وتضحياتنا وإخلاصنا في هذا الوقت الذي هبّت فيه عواصف الشرق والغرب الهوجاء لمحو آثار دينك.

آمين يا رب العالمين.

نهاية سورة محّمد

* * *

٤٠٣
٤٠٤

سورة

الفتح

مدنيّة

وعدد آياتها تسع وعشرون آية

٤٠٥
٤٠٦

سورة الفتح

محتوى السورة

هذه السورة كما هو ظاهر من اسمها تحمل رسالة الفتح والنصر! الفتح والنصر على أعداء الإسلام ، الفتح المبين والأكيد «سواء كان هذا الفتح متعلقا بفتح مكّة أو بصلح الحديبيّة أو فتح خيبر أو كان هذا الفتح بشكل مطلق».

ومن أجل أن نفهم محتوى هذه السورة فينبغي أن نعرف ـ قبل كلّ شيء ـ أنّ هذه السورة نزلت في السنة السادسة للهجرة بعد قضيّة «صلح الحديبية».

وبيان ذلك أنّ النّبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صمّم في السنّة السادسة للهجرة مع أصحابه من المهاجرين والأنصار وباقي المسلمين أن يتحرّكوا نحو مكّة للعمرة ، وكان من قبل قد أخبر المسلمين بأنّه رأى رؤيا في منامه وكأنّه مشغول بأداء مناسكه مع أصحابه في المسجد الحرام معتمرين فعقد المسلمون إحرامهم عند «ذي الحليفة» «المنطقة التي تقرب من المدينة المنوّرة» وتحرّكوا نحو مكّة المكرّمة في إبل كثيرة لتنحر «يوم الهدي» هناك.

وكانت الحالة التي يتحرك النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليها توحي بصورة جيدة أنّه لا هدف لديه سوى هذه العبادة الكبرى إلى أن وصل النّبي منطقة الحديبيّة «وهي قرية على مقربة من مكّة ولا تبعد عنها أكثر من عشرين كيلو مترا».

إلّا أنّ قريشا علمت بوصول النّبي إلى الحديبيّة فأوصدت بوجهه الطريق ومنعته من الدخول إلى مكّة المكرمة.

٤٠٧

وبهذا ألغت قريش جميع السنن التي ترتبط بأمن المسجد الحرام وضيوف الله والشهر الحرام ووضعتها تحت أقدامها إذ كانت تعتقد بحرمة الأشهر الحرام «ومن ضمنها شهر ذي القعدة الذي عزم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه على العمرة» وخاصّة إذا كان الناس حال الإحرام فلا ينبغي التعرّض لهم حتى لو كان المحرم قاتل واحد من رجالهم ، ورئي محرما في مناسكه فلا يمس بسوء أبدا».

وفي هذا المكان أي «الحديبية» جرى ما جرى بين رسول الله والمشركين من الكلام حتى انتهى إلى عقد معاهدة الصلح بين المسلمين وبين المشركين من أهل مكّة وقد سمّي هذا الصلح بصلح الحديبيّة وسنتحدث عنه في الصفحات المقبلة بإذن الله.

وعلى كلّ حال فقد منع النّبي أن يدخل مكّة ويؤدي مناسك العمرة فاضطر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأمر أصحابه بأن ينحروا إبلهم ويحلقوا رؤوسهم ويحلّوا من إحرامهم! وأن يعودوا نحو المدينة!

وهنا غمر المسلمين طوفان من الحزن والغم وربّما تغلّب الشك والترديد على قلوب بعض الأفراد ضعيفي الإيمان!

وعن عبد الله بن مسعود قال : أقبل رسول الله من الحديبيّة فجعلت ناقته تثقل فتقدّمنا فأنزل الله عليه( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ) فأدركنا رسول الله وبه من السرور ما شاء الله. فأخبر أنّها نزلت عليه(١) .

ومن هنا فإنّه يبدو واضحا هذا الجو الخاص الحاكم على هذه السورة وبمراجعة إجمالية للسورة يمكن القول إنّها تتألف من سبعة أقسام!

١ ـ تبدأ السورة بموضوع البشرى بالفتح كما أنّ آياتها الأخيرة لها علاقة بهذا الموضوع أيضا ، وفيها تأكيد على تحقق رؤيا النّبي التي تدور حول دخوله وأصحابه مكّة وأداء مناسك العمرة.

__________________

(١) مجمع البيان ، سورة الفتح ، ومثله في تفسير القمي وفي ظلال القرآن.

٤٠٨

٢ ـ يتحدّث قسم آخر من هذه السورة عن الحوادث المتعلّقة بصلح الحديبية ونزول السكينة على قلوب المؤمنين و «بيعة الرضوان» وما إلى ذلك!

٣ ـ ويتحدّث قسم ثالث منها عن مقام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهدفه الأسمى.

٤ ـ ويكشف القسم الرابع الستار عن غدر المنافقين ونقضهم العهد ونكثهم له ويعطي أمثلة من أعذارهم الواهية في مسألة عدم مشاركتهم النّبي جهاده المشركين والكفّار.

٥ ـ وفي قسم آخر يقع الكلام على طلبات «المنافقين» في غير محلّها.

٦ ـ والقسم السادس يوضح من هم المعذورون الذين لا حرج عليهم!

٧ ـ وأخيرا فإنّ القسم السابع يتحدّث عن خصائص أصحاب النّبي وأتباعه في طريقته وسنّته وصفاتهم التي يتميّزون بها وبشكل عام فإنّ آيات هذه السورة حسّاسة للغاية كما أنّها مصيريّة وخاصّة لمسلمي اليوم الذين يواجهون الحوادث المختلفة في مجتمعاتهم الإسلامية ففيها إلهام كبير لهم!

فضيلة تلاوة سورة الفتح :

تلاحظ روايات عجيبة في فضيلة هذه السورة في المصادر الإسلامية ففي حديث عن أنس أنّه قال : حين كنّا نعود من الحديبيّة وكان المشركون قد منعونا من الدخول الى مكّة وأداء مناسك العمرة فكنّا في حزن وغم شديدين فأنزل الله آيته( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ) .

فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لقد أنزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدنيا كلّها» وفي بعض الروايات : «لقد أنزلت عليّ سورة هي أحبّ من الدنيا كلّها»(١) .

ويقول عبد الله بن مسعود حين كنّا نرجع من الحديبيّة ونزلت( إِنَّا فَتَحْنا ) على

__________________

(١) مجمع البيان ، الجزء التاسع ، الصفحة ١٠٨.

٤٠٩

النّبي سرّ سرورا لا يعلم مداه إلّا الله(١) .

ونقرأ في حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «من قرأها فكأنّما شهد مع محمّد فتح مكّة».

وفي رواية «فكأنّما كان مع من بايع محمّدا تحت الشجرة»(٢) .

وأخيرا نقرأ حديثا للإمام الصادقعليه‌السلام يقول فيه : «حصّنوا أموالكم ونساءكم وما ملكت إيمانكم من التلف بقراءة( إِنَّا فَتَحْنا ) فإنّه إذا كان ممّن يدمن قراءتها نادى مناد يوم القيامة حتى يسمع الخلائق أنت من عبادي المخلصين ، الحقوه بالصالحين من عبادي وأدخلوه جنّات النعيم واسقوه من رحيق مختوم بمزاج الكافور»(٣) .

ومن الواضح أنّ كلّ هذه الفضيلة والفخر لا يحصل بتلاوة خالية من التفكّر ، بل الهدف الأصلي من تلاوة هذه السورة هو تطبيق أعمال القارئ وخلقه وطبعه على مفاد هذه السورة ومضامينها.

* * *

__________________

(١) المصدر السابق ، ص ١٠٩.

(٢) مجمع البيان الجزء التاسع ، ص ١٠٨.

(٣) ثواب الأعمال طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٦.

٤١٠

الآية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) )

التّفسير

الفتح المبين :

في الآية الأولى من هذه السورة بشرى عظيمة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشرى هي عند النّبي طبقا لبعض الرّوايات أحبّ إليه من الدنيا وما فيها إذ تقول الآية :( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ) .

( ... فَتْحاً مُبِيناً ) تظهر آثاره في حياة المسلمين في فترة وجيزة ، وفي فترة مديدة أيضا وذلك في انتشار الإسلام فتحا يقل نظيره أو ينعدم نظيره في طول تاريخ الإسلام وعلى امتداده.

وهنا كلام عريض وبحث طويل بين المفسّرين حول المراد من هذا الفتح أيّ فتح هو؟!

فأكثر المفسّرين يرون أنّه إشارة إلى ما كان من نصيب للمسلمين من الفتح الكبير على أثر «صلح الحديبية»(١) .

__________________

(١) اختار هذا التّفسير جماعة منهم أبو الفتوح الرازي في تفسيره ، والآلوسي في روح المعاني ، والفيض الكاشاني في تفسير

٤١١

وبعض ذهبوا إلى أنّه «فتح مكّة».

وآخرون قالوا بأنّه «فتح خيبر».

وآخرون أنّه إشارة إلى انفتاح أسرار العلوم على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

غير أنّ قرائن كثيرة لدينا ترجح أنّ هذا الفتح هو ما يتعلّق بموضوع صلح الحديبية.

ومن الأفضل وقبل الولوج في تفسير الآيات أن نعرض ولو بشكل مضغوط قصة صلح الحديبيّة ليتّضح «المقام» وليكون هذا العرض الموجز بمثابة شأن نزول الآيات أيضا.

قصّة «صلح الحديبية» :

في السنة السادسة للهجرة وفي شهر ذي القعدة منها تحرّك النّبي نحو مكّة لأداء مناسك العمرة ورغب المسلمين جميعا في هذا الأمر غير أنّ قسما منهم امتنع عن ذلك ، في حين أنّ معظم المهاجرين والأنصار وجماعة من أهل البادية عزموا على الاعتمار(١) مع النّبي فساروا نحو مكّة!

فأحرم هؤلاء المسلمون الذين كانوا مع النّبي وكان عددهم في حدود «الألف والأربعمائة» ولم يحملوا من أسلحة الحرب شيئا سوى السيوف التي كانت تعدّ أسلحة للسفر فحسب!.

ولمّا وصل النّبي إلى «عسفان» التي لا تبعد عن مكّة كثيرا أخبر أنّ قريشا تهيّأت لصدّه وصمّمت على منعه من الدخول إلى مكّة. ولمّا بلغ النّبي الحديبيّة [وهي قرية على مسافة عشرين كيلو مترا من مكّة وسمّيت بذلك لوجود بئر فيها

__________________

الصافي والعلّامة الطباطبائي في الميزان في حين أنّ بعض المفسّرين يرجحون أنّ المراد من هذا الفتح هو فتح مكّة كما هو في تفسير التبيان للطوسي ، والكشاف للزمخشري وتفسير الفخر الرازي وغيرهم أمّا العلّامة الطبرسي فقد جمع بين القولين في مجمع البيان مع أقوال أخرى إلّا أنّه يميل إلى تفسير الطائفة الثانية

(١) الاعتمار مصدر من : اعتمر والعمرة أو اسم مصدر من عمر وكلا المصدرين بمعنى واحد وهو الزيارة مطلقا (لغة) غير أنّه اصطلح عليهما في زيارة بيت الله خاصّة.

٤١٢

أو شجرة] أمر أصحابه أن يحطّوا رحالهم فيها. فقالوا : يا رسول الله ليس هنا ماء ولا كلأ ، فهيّأ النّبي عن طريق الاعجاز لهم ماء من البئر الموجودة في تلك المنطقة وبدأ التزاور بين سفراء النّبي وممثليه وسفراء قريش وممثليها لتحلّ المشكلة على أي نحو كان ، وأخيرا جاء عروة بن مسعود الثقفي الذي كان رجلا حازما عند النّبي فقال له النبي : «إنّا لم نجيء لقتال أحد ولكن جئنا معتمرين ...».

وهذا وقد لاحظ عروة الثقفي ، ضمنا حالة الأصحاب وهم يكتنفون نبيّهم عند وضوئه فلا يدعون قطرة تهوي إلى الأرض منه.

وحين رجع عروة إلى قريش قال : لقد ذهبت إلى قصور كسرى وقيصر والنجاشي فلم أر قائدا في قومه في عظمته كعظمة محمّد بين أصحابه وقال عروة لرجال قريش أيضا إذا كنتم تتصورون أنّ أصحاب محمّد يتركونه فأنتم في خطأ كبير فأنتم في مواجهة أمثال هؤلاء الرجال الذين يؤثرون على أنفسهم فاعرفوا كيف تواجهونهم!؟

ثمّ أنّ النّبي أمر عمر أن يمضي إلى مكّة ليطلع أشراف قريش على الهدف من سفر النّبي فاعتذر عمر وقال إنّ بينه وبين قريش عداوة شديدة وهو منها على حذر فالأفضل أن يرسل عثمان بن عفان ليبادر إلى هذا العمل ، فمضى عثمان إلى مكّة ولم تمض فترة حتى شاع بين المسلمين خبر مفاده أنّ عثمان قتل ، فاستعد النّبي لأن يواجه قريشا بشدّة! فطلب بتجديد البيعة من أصحابه فبايعوه تحت الشجرة بيعة سمّيت «بيعة الرضوان» وتعاهدوا على مواصلة الجهاد حتى آخر نفس ؛ إلّا أنّه لم يمض زمن يسير حتى عاد عثمان سالما وأرسلت قريش على أثره سهيل بن عمرو للمصالحة مع النّبي غير أنّها أكّدت على النّبي أنّه لا يدخل مكّة في عامه هذا أبدا.

وبعد كلام طويل تمّ عقد الصلح بين الطرفين وكان من موادّه ما بيّناه آنفا وهو أن يغض المسلمون النظر عن موضوع العمرة لذلك العام وأن يأتوا في العام القابل

٤١٣

الى مكّة شريطة أن لا يمكثوا في مكّة أكثر من ثلاثة أيّام وأن لا يحملوا سلاحا غير سلاح السفر كما كان من مواد العقد أمور أخرى تدور حول سلامة الأرواح والأموال التي تعود للمسلمين والذين يأتون مكّة منهم [من قبل المدينة] ومن مواد العقد أيضا إيقاف القتال بين المسلمين والمشركين لعشر سنين وأن يكون مسلمو مكّة أحرارا في أداء مناسكهم وفرائضهم الإسلامية.

وكان هذا العقد [أو هذه المعاهدة] بمثابة عدم التعرض لكلا الجانبين ولحسم المعارك المستمرّة بين المسلمين والمشركين بصورة مؤقتة.

وكان مؤدّى هذه المعاهدة وما يتضمّنه عقد الصلح بالنحو التالي :

«قال النّبي لعلي اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم : فقال سهيل بن عمرو الذي كان سفير المشركين لا أعرف هذه العبارة بل ليكتب بسمك اللهمّ! فقال النّبي لعلي اكتب : بسمك اللهمّ : ثمّ قال النّبي لعلي اكتب : هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله سهيل بن عمرو ، فقال سهيل : لو كنّا نعرفك رسول الله لما حاربناك فاكتب اسمك واسم أبيك فحسب. فقال النبيّ : لا مانع من ذلك اكتب هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن عمرو أن يترك القتال عشر سنين ليجد الناس مأمنهم ثانية ، وإضافة إلى ذلك من يأت محمّدا من قريس مسلما دون إذن وليّه فيجب إعادته الى أهله ومن جاء قريشا من أصحاب محمّد فلا يجب إعادته إلى محمّد!

والجميع أحرار فمن شاء دخل في عهد محمّد ومن شاء دخل في عهد قريش! ويتعهّد الطرفان أن لا يخون كلّ منهما [صاحبه] الآخر وأن يحترم ماله ونفسه! ثمّ بعد هذا ليس لمحمّد هذا العام أن يدخل مكّة ، لكن في العام المقبل تخرج قريش من مكّة لثلاثة أيّام ويأتي محمّد وأصحابه إلى مكّة على أن لا يمكثوا فيها أكثر من ثلاثة أيّام ويؤدّوا مناسك العمرة ثمّ يعودوا إلى أهلهم شريطة أن لا يحملوا معهم سلاحا سوى السيف الذي هو من عدة السفر وأن يكون في الغمد وشهد على هذه المعاهدة جماعة من المسلمين وجماعة من المشركين وأملى المعاهدة علي

٤١٤

بن أبي طالبعليه‌السلام »(١) .

وذكر العلّامة المجلسي في «بحار الأنوار» مواد أخرى منها :

«ينبغي أن يكون الإسلام في مكّة غير خفي وأن لا يجبر أحد في اختيار مذهبه وأن لا ينال المسلمين أذى من المشركين»(٢) .

وهذا المضمون كان موجودا في التعبير السابق بصورة إجمالية.

وهنا أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تنحر الإبل التي جيء بها مع المسلمين وأن يحلق المسلمون رؤوسهم وأن يتحلّلوا من إحرامهم!

لكن هذا الأمر كان على بعض المسلمين عسيرة للغاية وغير مستساغ أيضا لأنّ التحلل من الإحرام في نظرهم دون أداء العمرة غير ممكن!! لكنّ النّبي تقدّم بنفسه ونحر «هديه» وتحلّل من إحرامه وأشعر المسلمين أنّ هذا «استثناء» في قانون الإحرام أمر به الله سبحانه نبيّه!

ولمّا رأى المسلمون ذلك من نبيّهم أذعنوا للأمر الواقع ونفذوا أمر النّبي بدقة وعزموا على التوجّه نحو المدينة من هناك ، غير أنّه كان بعضهم يحسّ كأنّ جبلا من الهم والحزن يجثم على صدره لأنّ ظاهر القضية أنّ هذا السفر كان غير موفّق بل مجموعة من الهزائم! لكنّ مثل هذا وأضرابه لم يعلموا ما ينطوي وراء صلح الحديبية من انتصارات للمسلمين ولمستقبل الإسلام. وفي ذلك الحين نزلت سورة الفتح وأعطت للنبي الكريم بشرى كبرى بالفتح المبين(٣) .

* * *

__________________

(١) منقول بتصرّف يسير عن تأريخ الطبري ، ج ٢ ، ص ٢٨١.

(٢) بحار الأنوار ، الجزء العشرون ، ص ٣٥٢.

(٣) راجع سيرة ابن هشام ، ج ٣ ، ص ٣٢١ ـ ٣٢٤ ، تفسير مجمع البيان وتفسير في ظلال القرآن والكامل لابن الأثير ، ج ٢ ومصادر أخرى [مع شيء من التلخيص طبعا].

٤١٥

الآثار السياسية والاجتماعية والمذهبية لصلح الحديبية :

يتّضح بمقايسة إجمالية بين حال المسلمين في السنة السادسة للهجرة «أي عند صلح الحديبية» وحالهم بعدها بسنتين حيث تحرّك المسلمون لفتح مكّة بعشرة آلاف مقاتل ليردّوا على نقض العهد بشدّة ، وقد فتحوا مكّة دون أية مواجهة عسكرية لأنّ قريشا لم تجد في نفسها القدرة على المقاومة أبدا.

يتّضح بهذه المقايسة الإجمالية ـ سعة ردّ الفعل ـ التي أحدثتها معاهدة صلح الحديبية!

وباختصار فإنّ المسلمين حصلوا على امتيازات عديدة من وراء هذا الصلح وفتحا كبيرا نذكرها على النحو التالي :

١ ـ بيّنوا عمليا للمضللين من أهل مكّة أنّهم ليس لديهم نيّة للحرب وسفك الدماء وأنّهم يحترمون مكّة وكعبتها المقدسة وكان هذا الأمر سببا لاكتساب قلوب الكثيرين نحو الإسلام.

٢ ـ اعترفت قريش لأوّل مرّة بالإسلام والمسلمين «بصورة رسمية» وكان ذلك سببا لتثبيت موقعهم في جزيرة العرب!

٣ ـ استطاع المسلمون بعد صلح الحديبيّة أن يمضوا حيث يشاءون وأن تبقى أرواحهم وأموالهم في مأمن من الخطر واتصلوا بالمشركين من قريب اتصالا أثمر نتيجته ، فكان أن عرف المشركون الإسلام بصورة أكثر واسترعى أنظارهم نحوه!.

٤ ـ انفتح الطريق بعد صلح الحديبيّة لنشر الإسلام في الجزيرة العربية. وأثار موقف النّبي الإيجابي من الصلح القبائل العربية وأصلح نظرتها إلى الإسلام ورسوله الكريم. وحصل المسلمون على مجال إعلامي واسع في هذا الصدد.

٥ ـ هيّأ صلح الحديبيّة الطريق لفتح «خيبر» واستئصال هذه الغدة السرطانية «المتمثلة باليهود» والتي كانت تشكل خطرا مهمّا «بالفعل والقوّة» على الإسلام والمسلمين!

٤١٦

٦ ـ وأساسا فإنّ استيحاش قريش من مواجهة الجيش الذي كان يتألّف من ألف وأربعمائة مسلم فحسب ولا يحمل أي منهم سلاحا سوى سلاح السفر وقبول قريش بمعاهدة الصلح كان بنفسه أيضا عاملا مهما على تقوية المعنويات عند المسلمين وهزيمة أعداء الإسلام إلى درجة أنّهم كانوا يتهيّبون من مواجهة المسلمين!.

٧ ـ وبعد صلح الحديبيّة كتب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتبا و (رسائل) متعددة إلى رؤساء الدول الكبرى (إيران والروم والحبشة) وملوك العالم البارزين يدعوهم فيها إلى الإسلام ، وهذا بنفسه يدل على أن صلح الحديبيّة أعطى المسلمين الثقة بأنفسهم وأن ينفتحوا لا على الجزيرة العربية فحسب بل على آفاق العالم قاطبة!

* * *

والآن لنعد ثانية إلى تفسير الآيات!

نستطيع أن ندرك ممّا ذكر آنفا ـ بشكل جيد ـ أنّ صلح الحديبيّة كان بحق انتصارا للإسلام وفتحا للإسلام والمسلمين فلا غرابة أن يعبّر عنه القرآن بالفتح المبين!.

ثمّ بعد هذا كله فإنّ هناك قرائن كثيرة تؤيد هذا التّفسير

١ ـ جملة ـ فتحنا ـ التي جاءت بصيغة الفعل الماضي تدل على أنّ هذا الأمر قد تحقق عند نزول الآيات في حين أنّه لم يكن وقتئذ أي شيء سوى صلح الحديبية!.

٢ ـ زمان نزول الآيات المشار إليها آنفا والآيات الأخرى المذكورة في هذه السورة التي تمدح المؤمنين وتذم المنافقين والمشركين في صلح الحديبيّة كلّ ذلك شاهد آخر على هذا المعنى ، والآية (٢٧) من سورة الفتح التي تؤكّد على تحقق رؤيا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ ) هي شاهد بليغ على أنّ

٤١٧

هذه السورة نزلت بعد الحديبيّة وقبل فتح مكّة!.

٣ ـ هناك روايات كثيرة تعبّر عن صلح الحديبيّة بأنّه «الفتح المبين»! ومن ضمنها ما ورد في تفسير «جوامع الجامع» أنّه حين كان النّبي راجعا من الحديبيّة ونزلت عليه سورة الفتح قال أحد أصحابه : ما هذا الفتح؟! لقد صددنا عن البيت وصدّ هدينا!.

فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بئس الكلام «هذا» بل هو أعظم الفتوح قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراع ويسألوكم القضيّة! ورغبوا إليكم في الأمان وقد رأوا منكم ما كرهوا ...»(١) .

ثمّ ذكّرهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما تحمل المشركون من مساءة يوم بدر ويوم الأحزاب فصدّق المسلمون رسولهم على أنّ هذا أعظم الفتوح وأنّهم قضوا عن عدم اطلاعهم بما قالوا(٢) .

يقول «الزهري» وهو من التابعين : لم يكن فتح أعظم من الحديبيّة وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكّن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير كثر بهم سواد الإسلام.

ففي هذه الأحاديث إشارة إلى جانب من الامتيازات التي حصل عليها المسلمون ببركة صلح الحديبية.

إلّا أنّ حديثا واحدا ورد عن الإمام الرضا «علي بن موسى»عليه‌السلام يقول( إِنَّا فَتَحْنا ) نزلت بعد «فتح مكّة»(٣) .

بيد أنّه يمكن توجيه هذه الرواية ببساطة بالقول بأنّ صلح الحديبيّة كان مقدمة لفتح مكّة بعد سنتين ، فيرتفع الإشكال.

__________________

(١) جوامع الجامع «طبقا لنور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٨ ، الحديث التاسع».

(٢) الدر المنثور ، ج ٦ ، ص ٦٨ ـ ٣ ـ نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٨.

(٣) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٨.

٤١٨

أو بتعبير آخر أنّ «صلح الحديبية» كان سببا لفتح خيبر في فترة وجيزة «في السنة السابعة للهجرة» وأوسع من ذلك كان سببا لفتح مكّة (السنة الثامنة للهجرة) وانتصارات الإسلام في مجالات شتى من حيث النفوذ في قلوب العالمين!.

وبهذا يمكن الجمع بين التفاسير الأربعة مع هذا القيد وهو أنّ صلح الحديبيّة يشكل المحور الأصلي لهذه التفاسير!.

* * *

٤١٩

الآيتان

( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣) )

التّفسير

نتائج الفتح المبين الكبرى :

في هاتين الآيتين بيان للنتائج المباركة من «الفتح المبين» [صلح الحديبية] والتي ورد ذكره في الآية السابقة فتقول الآيتان :( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً ، وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً ) .

وبهذا فإنّ الله منح نبيّه الكريم في ظل هذا الفتح المبين أربع مواهب عظيمة هي «المغفرة» ، و «إتمام النعمة» ، و «الهداية» و «النصر».

* * *

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592