الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 592
المشاهدات: 167207
تحميل: 5031


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 167207 / تحميل: 5031
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 16

مؤلف:
العربية

بحثان

١ ـ الإجابة على بعض الأسئلة المهمة :

تثار هنا أسئلة كثيرة دأب المفسّرون منذ زمن قديم حتى يومنا هذا بالإجابة على هذه الأسئلة!

ومن هذه الأسئلة ، الأسئلة الثلاثة التالية حول قوله تعالى لنبيّه : ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر!.

١ ـ ما المراد من العبارة الآنفة( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ) مع أنّ النّبي معصوم من الذنب؟!

٢ ـ وعلى فرض أن نغض النظر عن هذا الإشكال! فما علاقة المغفرة بالفتح وصلح الحديبية؟!

٣ ـ وإذا كان المقصود من قوله تعالى «وما تأخّر» هو الذنوب المستقبلية! فكيف يمكن أن تكون الذنوب الآتية تحت دائرة العفو والمغفرة. أليس مثل هذا التعبير ترخيصا لارتكاب الذنب؟!

وقد أجاب كلّ من المفسّرين بنحو خاص على مثل هذه الإشكالات ، ولكن للحصول على الإجابة «الجامعة» لهذه الإشكالات والتّفسير الدقيق لهذه الآيات لا بدّ من ذكر مقدمة لهذا البحث وهي :

إنّ المهم هو العثور على العلاقة الخفيّة بين فتح الحديبيّة ومغفرة الذنب لأنّها المفتاح الأصيل للإجابة على الأسئلة الثّلاثة المتقدّمة!

وبالتدقيق في الحوادث التاريخية وما تمخّضت عنه نصل إلى هذه النتيجة ، وهي أنّه حين يظهر أيّ مذهب حق ويبرز في عالم الوجود فإنّ أصحاب السنن الخرافية الذين يرون أنفسهم ووجودهم في خطر يكيلون التهم والأمور التافهة إليه ويشيعون الشائعات والأباطيل وينشرون الأراجيف الكاذبة بصدده وينسبون إليه الذنوب العديدة وينتظرون عاقبته وإلى أين ستصل؟!

فإذا واجه هذا المذهب في مسيره الاندحار فإنّ ذلك يكون ذريعة قوية

٤٢١

لإثبات النسب الباطلة ضدّه على أيدي أعدائه ويصرخون : ألم نقل كذا وكذا!!

ولكن حين ينال الانتصار وتحظى مناهجه وخططه بالموفقية فإنّ تلك النسب تمضي كما لو كانوا قد رقموا على الماء!! وتتبدّل جميع أقوالهم إلى حسرات وندامة ويقولون عندئذ لم نكن نعلم!

وخاصّة في شأن النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت هذه التصوّرات والذنوب التي وصموها به كثيرة!! إذ عدّوه باغيا للحرب والقتال ومثيرا لنار الفتنة معتدا بنفسه لا يقبل التفاهم وما إلى ذلك!

وقد كشف صلح الحديبيّة أنّ مذهبه على خلاف ما يزعمه أعداؤه إذ كان مذهبا «تقدّميا» إلهيا وكان آيات قرآنه ضامنة لتربية النفوس الإنسانية وطاوية لصحائف الظلم والاضطهاد والحرب والنزيف الدموي!.

فهو يحترم كعبة الله وبيته العتيق ولا يهاجم أية جماعة أو قبيلة دون سبب ، فهو رجل منطقيّ ويعشقه اتباعه ، ويدعو جميع الناس بحقّ إلى محبوبهم «الله» وإذا لم يضطره أعداؤه إلى الحرب فهو داعية للسلام والصلح والدعة!

وعلى هذا فقد غسل صلح الحديبيّة جميع الذنوب التي كانت قبل الهجرة وبعد الهجرة قد نسبت إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو جميع الذنوب التي نسبت إليه قبل هذا الحادث أو ستنسب إليه في المستقبل احتمالا وحيث أنّ الله جعل هذا الفتح نصيب النّبي فيمكن أن يقال أن الله غفر للنبي ذنوبه جميعا.

والنتيجة أنّ هذه الذنوب لم تكون ذنوبا حقيقية أو واقعية بل كانت ذنوبا تصورية وفي أفكار الناس وظنّهم فحسب ، وكما نقرأ في الآية (١٤) من سورة الشعراء في قصة موسى قوله مخاطبا ربّه( وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ) في حين أنّ ذنبه لم يكن سوى نصرة المظلوم من بني إسرائيل وسحق ظلم الفراعنة لا غير!.

وبديهي أنّ هذا الفعل لا يعدّ ذنبا ، بل دفاع عن المظلومين ولكنّه كان يعدّ ذنبا

٤٢٢

في نظر الفراعنة وأتباعهم.

وبتعبير آخر أنّ «الذنب» في اللغة يعني الآثار السيئة والتبعات التي تنتج عن العمل غير المطلوب ، فكان ظهور الإسلام في البداية تدميرا لحياة المشركين ، غير أنّ انتصاراته المتلاحقة والمتتابعة كانت سببا لنسيان تلك التبعات.

فمثلا لو كان لدينا بيت قديم يوشك على الخراب ولكنّنا نلتجئ إليه ولنا به علاقة وطيدة فقام أحد الناس بتخريبه فإنّنا نغضب منه ونخطّئه على فعله ولكنّه بعد بنائه من جديد محكما سامقا فإنّ أحكامنا السابقة تمضي أدراج الرياح!

وهكذا بالنسبة لمشركي مكّة سواء قبل هجرة النّبي أم بعدها إذ كانت أفكارهم وأذهانهم مبلبلة عن الإسلام وشخص النّبي بالذات ، غير أنّ انتصارات الإسلام أزالت هذه التصورات والأفكار!

أجل : لو أخذنا مسألة العلاقة بين مغفرة هذه الذنوب وفتح الحديبيّة بنظر الاعتبار لا تضح الموضوع بجلاء ، واستفدنا العلاقة من «اللام» في «ليغفر لك الله» في كونها مفتاح «الرمز» لفتح معنى الآية المغلق!

غير أنّ من لم يلتفت إلى هذه «اللطيفة» جعل عصمة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موضع استفهام وقال : «والعياذ بالله» أنّ لديه ذنوبا غفرها الله بفتح «الحديبية» أو حمل الآية على خلاف ظاهر معناها وأنّ المراد (الذنوب عامّة).

وقال بعضهم : بل هي ذنوب الناس التي ارتكبوها في حقّ النّبي كأذاهم والإساءة إليه وقد غفرها الله بفتح «الحديبية» [وفي هذه الصورة يكون الذنب قد أضيف إلى مفعوله معنى لا إلى فاعله].

أو حملوا الذنب على [ترك الأولى].

وبعضهم فسّر ذلك بالفرض فقال : ليغفر لك الذنب الذي لو كنت عملته فرضا أو ستعمله فقد غفر الله كلّ ذلك لك!.

لكن من المعلوم أنّ كلّ هذه التفاسير لا تتجاوز التكلّف والتمحّل ودون أي

٤٢٣

دليل! إذ لو خدشنا في عصمة الأنبياء لأنكرنا فلسفة وجودهم ، لأنّ النّبي ينبغي أن يكون قدوة في كلّ شيء ، فكيف يمكن المذنب أن يفي بهذا المنهج ويؤدّي حقّه؟!

زد على ذلك ، فالمذنب بنفسه يحتاج إلى قائد يرشده ويدلّه ليهتدي به.

وهناك تفاسير أخرى تخالف ظاهر الآية ، والإشكال المهم فيها أنّها تقطع العلاقة ما بين مغفرة الذنب والفتح «صلح الحديبية».

فأحسن التفاسير هو ما ذكرناه آنفا ، وهو ما يجيب على الأسئلة الثلاثة المتقدّمة في مكان واحد! ويبيّن ارتباط الجمل في الآية

كل ذلك هو في شأن الموهبة الأولى من المواهب الأربعة التي وهبها الله نبيّه في صلح الحديبية!.

أمّا «إتمام النعمة» على النّبي وهدايته إيّاه الصراط المستقيم ونصره النصر العزيز بعد الفتح في الحديبيّة فليست هذه الأمور ممّا تخفى على أحد فقد انتشر الإسلام بسرعة وسخّر القلوب المهيّأة! وظهرت عظمة تعليماته للجميع وأبطل السموم (المضادّة) وتمّت نعمة الله على النّبي وعلى المسلمين وهداهم الصراط المستقيم نحو الانتصارات حتى أنّ جيش الإسلام لم يجد أية مقاومة في فتح مكّة وفتح أكبر حصن للمشركين!.

٢ ـ المراد من «ما تقدّم» و «ما تأخّر»

قرأنا في الآية السابقة قوله تعالى :( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ) فما المراد من هذا النص «ما تقدّم وما تأخّر» اختلف المفسّرون في بيان الآية :

فقال بعضهم : المراد بما تقدّم هو عصيان آدم وحواء وترك الأولى من قبلهما ، أمّا المراد بما تأخّر فهو ذنوب أمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقال بعضهم : «ما تقدّم» إشارة إلى المسائل المتعلّقة بما قبل النبوة ، و «ما

٤٢٤

تأخّر» إشارة إلى المسائل المتعلّقة بما بعدها

وقال بعضهم : المراد بما تقدّم هو ما تقدّم على صلح الحديبية ، وما تأخّر أي ما تأخّر عنها من أمور وحوادث!.

ولكن مع ملاحظة التّفسير الذي أوضحناه في أصل معنى الآية وخاصة العلاقة بين مغفرة الذنب مع مسألة فتح الحديبية ، يبدو بجلاء أنّ المراد هو التهم الباطلة التي وصمها المشركون ـ بزعمهم ـ بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ما سبق وما لحق ولو لم يتحقّق هذا النصر العظيم لكانوا يتصوّرون أنّ جميع هذه الذنوب قطعية

غير أنّ هذا الانتصار الذي تحقّق للنبي طوى جميع الأباطيل والتهم (المتقدّمة) في حقّ النّبي وما سيتّهم به في المستقبل في حال عدم انتصاره!.

والشاهد الآخر على هذا التّفسير هو الحديث المنقول عن الإمام الرضا علي بن موسىعليهما‌السلام إذ سأله المأمون عن تفسير هذه الآية فقال : «لم يكن أحد عند مشركي أهل مكّة أعظم ذنبا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وثلاثين صنما فلمّا جاءهم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص «التوحيد» كبر ذلك عليهم وقالوا : أجعل الآلهة إلها واحدا إنّ هذا لشيء عجاب إلى أن قالوا ما سمعنا بهذا في الملّة الآخرة إن هذا إلّا اختلاق(١) .

فلمّا فتح الله تعالى على نبيّه مكّة قال الله تعالى :( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ) عند مشركي أهل مكّة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدّم وما تأخّر لأنّ مشركي مكّة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكّة ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذ دعا الناس إليه فصار ذنبه عندهم مغفورا بظهوره عليهم» فلمّا سمع المأمون كلام الرضا قال له : «أحسنت ، بارك الله فيك يا أبا الحسن».

* * *

__________________

(١) راجع في هذا الصدد سورة في الآية ٤ ـ ٧ وتفسير الصافي نقلا عن عيون الأخبار ـ وراجع نور الثقلين الجزء الخامس ، ص ٥٦.

٤٢٥

الآية

( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) )

التّفسير

نزول السكينة على قلوب المؤمنين :

ما قرأناه في الآيات السابقة هو ما أعطاه الله من مواهب عظيمة لنبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالفتح المبين «صلح الحديبية» ، أمّا في الآية أعلاه فالكلام عن الموهبة العظيمة التي تلطف الله بها على جميع المؤمنين إذ تقول الآية :

( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) .

ولم لا تنزل السكينة والاطمئنان على قلوب المؤمنين؟( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ) .

ماذا كانت هذه السكينة؟!

من الضروري هنا أن نعود إلى قصة «صلح الحديبيّة» وأن نتصوّر أنفسنا في

٤٢٦

فضاء الحديبيّة وفي جوّها لنطّلع على عمق هذه الآية.

لقد كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد رأى رؤيا «رحمانية وإلهية» أنّه دخل المسجد الحرام مع أصحابه ، وعلى أثر رؤياه تحرّك نحو زيارة بيت الله مع أصحابه وكان أغلب أصحابه يتوقّعون أنّ هذه الرؤيا الصالحة سيتحقّق تعبيرها في هذا السفر نفسه ، لكنّ الذي قدّره الله كان شيئا آخر! هذا كلّه من جانب.

ومن جانب آخر كان المسلمون قد أحرموا وجاءوا بالإبل ليهدوها أو ينحروها ، ولكنّهم وعلى خلاف ما توقّعوا لم يوفّقوا لزيارة بيت الله ، وأمر النّبي أن ينحروا الإبل في الحديبيّة التي توقّفوا فيها هناك. وأن يحلّوا من إحرامهم ، وكان ذلك أمرا صعبا عليهم ولا يمكن تصديقه ، لأنّ آدابهم وسننهم وتعليمات الإسلام أيضا تنصّ على عدم الخروج والإحلال من الإحرام ما لم يتمّ أداء المناسك الخاصة بالعمرة.

ومن جانب ثالث كان من مواد معاهدة الصلح في الحديبية ، مادة تقضي بإعادة المسلمين من يلجأ إليهم من قريش ويعلن إسلامه ويدخل المدينة! ولا يلزم العكس ، وكان هذا الموضوع صعبا على المسلمين للغاية.

ومن جانب رابع ، فإنّ قريشا لم ترغب أن تكتب كلمة «رسول الله» التي كان يدعى بها النّبي محمّد وأصرّ ممثلها سهيل بن عمرو على حذف الكلمة من معاهدة الصلح ، ولم يوافق حتى على كتابة بسم الله الرحمن الرحيم ، وأصرّ أن يكتب مكانها «بسمك اللهمّ» ، التي كانت تنسجم مع سنّة أهل مكّة ، فهذه الأمور كلّ واحد منها كان غير مرغوب فيه ، فكيف بجميعها؟ ولذلك تزلزلت قلوب بعض ضعاف الإيمان من أصحاب النّبي إلى درجة أنّه حين نزلت سورة( إِنَّا فَتَحْنا ) قالوا أي فتح هذا؟!

هنا ينبغي أن يشمل لطف الله حال المسلمين وأن ينزل عليهم السكينة والاطمئنان وأن لا يوجد في قلوبهم الضعف والفتور فحسب ، بل( لِيَزْدادُوا إِيماناً

٤٢٧

مَعَ إِيمانِهِمْ ) وتنطبق مصداقية الآية عليهم ، فإنّ الآية نزلت في مثل هذه الظروف.

«السكينة» في الأصل مشتقة من «السكون» ، ومعناها الاطمئنان والدعة وما يزيل كل أنواع الشك والتردّد والوحشة من الإنسان ويجعله ثابت القدم في طوفان الحوادث!

وهذه السكينة يمكن أن يكون لها جانب عقائدي فيزيل ضعف تزلزل العقيدة أو يكون لها جانب عملي بحيث يهب الإنسان ثبات القدم والمقاومة والاستقامة والصبر.

وبالطبع فإنّ البحوث السابقة وتعبيرات الآية نفسها تتناسب مع استعمال السكينة في معناها الأوّل أكثر.

في حين أنّها في الآية (٢٤٨) من سورة البقرة في قصة «طالوت وجالوت» تعوّل على الأسس العملية أكثر! وقد ذكر جماعة من المفسّرين معاني أخر للسكينة وترجع في نهايتها إلى هذا التّفسير أيضا.

الطريف أنّ «السكينة» في بعض الرّوايات فسّرت بالإيمان(١) كما فسّرت في بعضها بنسيم الجنّة الذي يبدو في هيئة الإنسان ويمنح المؤمنين الاطمئنان(٢) ! وكل هذه التفاسير تأييد لما قلناه ، لأنّ السكينة وليدة الإيمان ، وهي تهب الاطمئنان كنسيم الجنّة!

وينبغي الالتفات أيضا إلى هذه اللطيفة في شأن السكينة ، إذ عبّر عنها بالإنزال( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ ) ونعلم أنّ هذا التعبير في القرآن قد يعني الخلق والإيجاد وإيلاء النعمة أحيانا وحيث أنّها من عال إلى دان فقد ورد في شأنها التعبير بالإنزال!.

* * *

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ١١٤.

(٢) المصدر السابق.

٤٢٨

ملاحظات

١ ـ السكينة التي لا نظير لها!

إذا لم يكن للإيمان أية ثمرة سوى مسألة السكينة لكان على الإنسان أن يتقبّله! فكيف به وهو يرى آثاره وثمراته وبركاته!.

والتحقيق في حال المؤمنين وحال غير المؤمنين يكشف هذه الحقيقة ، وهي أنّ الفئة الثّانية يعانون حالة الاضطراب والقلق الدائم ، في حين أنّ الجماعة الأولى في اطمئنان خاطر عديم النظير

وفي ظل الاطمئنان ، فإنّهم( لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ ) (١) .

كما أنّهم في مواصلة نهجهم لا يؤثر اللوم والتهديد فيهم أبدا( وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) (٢) .

وهم يتمسّكون بأصلين مهمّين في حفظ هذه السكينة ، وهما : عدم الحزن على ما فاتهم ، وعدم التعلّق والفرح بما لديهم ، فهم مصداق لقوله تعالى :( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ) (٣) .

وأخيرا فإنّهم لا يضعفوا أبدا أمام الشدائد ، ولا يركعوا مقابل الأعداء ويتحلّون بشعار( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (٤) .

إنّ المؤمن لا يرى نفسه وحيدا في ميدان الخطوب والحوادث بل يحسّ بيد الله على رأسه ويلمس إعانة الملائكة ونصرتهم له ، في حين أنّ غير المؤمنين يحكمهم الاضطراب في أحاديثهم وسلوكهم ولا سيما عند هبوب العواصف وطوفان الأحداث إذ يرى كلّ ذلك منهم بصورة بيّنة!

__________________

(١) الأحزاب ، الآية ٣٩.

(٢) المائدة ، الآية ٥٤.

(٣) الحديد ، الآية ٢٣.

(٤) آل عمران ، الآية ١٣٩.

٤٢٩

٢ ـ سلسلة مراتب الإيمان :

الإيمان ، سواء بمعنى العلم والمعرفة ، أم روح التسليم والإذعان للحق فإنّ له درجات وسلسلة مراتب ، لأنّ العلم له درجات ، والتسليم والإذعان لهما درجات مختلفة أيضا ، حتى العشق والحب الذي هو توأم الإيمان يتفاوت من حالة إلى أخرى!

فالآية محل البحث التي تقول :( لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) تأكيد على هذه الحقيقة أيضا وعلى هذا فلا ينبغي للمؤمن أن يتوقّف في مرحلة واحدة من مراحل الإيمان ، بل عليه أن يتسامى إلى درجاته العليا عن طريق بناء شخصيّته والعلم والعمل.

ففي حديث عن الإمام الصادق أنّه قال : «إنّ الإيمان عشر درجات بمنزلة السلم يصعد منه مرقاة بعد مرقاة»(١) .

كما نقرأ عنه حديثا آخر إذ قال : «إنّ اللهعزوجل وضع الإيمان على سبعة أسهم على البر والصدق واليقين والرضا والوفاء والعلم والحلم فمن جعل فيه السبعة الأسهم فهو كامل محتمل وقسّم لبعض الناس السهم والسهمين ولبعض الثلاثة حتى انتهوا إلى (ال) سبعة».

ثمّ يضيف الإمامعليه‌السلام : «لا تحملوا على صاحب السهم سهمين ولا على صاحب السهمين ثلاثة فتبهضوهم» ثمّ قال كذلك حتى انتهى إلى (ال) سبعة(٢) .

ومن هنا يتّضح ما نقل عن بعضهم أنّ الإيمان ليس فيه زيادة ولا نقصان لا أساس له ، لأنّه لا ينسجم مع الثوابت العلميّة ولا مع الرّوايات الإسلامية!.

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٦٩ ، ص ١٦٥.

(٢) الكافي ، ج ٢ ، باب درجات الإيمان ، حديث ١.

٤٣٠

٣ ـ ركني السكينة :

قرأنا في ذيل الآية محل البحث جملتين ، كلّ منهما تمثّل ركنا من أركان «السكينة» والاطمئنان للمؤمنين.

فالأولى جملة( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

والأخرى جملة( وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ) .

فالأولى تقول للإنسان : إذا كنت مع الله فإنّ جميع ما في الأرض والسماء معك!.

والأخرى تقول : إنّ الله يعلم حاجاتك ومشاكلك كما يعلم سعيك وطاعتك وعبادتك.

ومع الإيمان بهذين «الأصلين» كيف يمكن أن لا يحكم الاطمئنان وسكينة القلب وجود الإنسان!

* * *

٤٣١

الآيات

( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧) )

التّفسير

نتيجة أخرى من الفتح المبين :

نقل جماعة من مفسّري الشيعة وأهل السنّة أنّه حين بشّر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «بالفتح المبين» و «إتمام النعمة» و «الهداية» و «النصرة» قال بعض المسلمين ممّن كان مستاء من صلح الحديبيّة : هنيئا لك يا رسول الله! لقد بيّن لك الله ماذا يفعل بك!

٤٣٢

فما ذا يفعل بنا فنزلت الآية( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ) (١) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه الآيات تتحدّث عن علاقة صلح الحديبيّة وآثاره وردّ الفعل المختلف في أفكار الناس ونتائجه المثمرة ، وكذلك عاقبة كلّ من الفريقين اللذين امتحنا في هذه «البوتقة» والمختبر ـ فتقول الآية الأولى من هذه الآيات محل البحث( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ) . فلا تسلب هذه النعمة الكبرى عنهم أبدا

وإضافة إلى ذلك فإنّ الله يعفو عنهم( وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً ) (٢) .

وبهذا فإنّ الله قد وهب المؤمنين بإزاء ما وهب لنبيّه في فتحه المبين من المواهب الأربعة موهبتين عظميين هما «الجنّة خالدين فيها» و «التكفير عن سيّئاتهم» بالإضافة إلى إنزال السكينة على قلوبهم ومجموع هذه المواهب الثلاث يعدّ فوزا عظيما لأولئك الذين خرجوا من الامتحان بنجاح وسلامة!.

وكلمة «الفوز» التي توصف في القرآن غالبا بـ «العظيم» وأحيانا توصف بـ «المبين» أو «الكبير» بناء على ما يقول «الراغب» في «مفرداته» معناها الانتصار ونيل الخيرات المقرون بالسلامة ، وذلك في صورة ما لو كان فيه النجاة في الآخرة وإن اقترن مع زوال بعض المواهب الدنيوية.

وطبقا للرواية المعروفة عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام حين ضربه اللعين عبد الرحمن بن ملجم في محراب العبادة بالسيف على أمّ رأسه قال هاتفا «فزت وربّ الكعبة» وكأنّه يقول فزت بأنّي أمضيت ختم صحيفتي بدم رأسي.

__________________

(١) تفسير المراغي ، ج ٢٦ ، ص ٨٥ وتفسير أبو الفتوح الرازي ، ج ١٠ ، ص ٢٦ وتفسير روح المعاني للآلوسي ، ج ٢٦ ، ص ٨٦.

(٢) طبقا لهذا البيان فإنّ جملتي «ليدخل» وكذلك «ويعذّب» اللتين هما في الآية التالية معطوفان على جملة ليغفر ، وقد اختار جماعة من المفسّرين هذا الرأي كالشيخ الطوسي في «التبيان» والطبرسي في «مجمع البيان» وأبو الفتوح الرازي في تفسيره ، غير أنّ جماعة آخرين قالوا أنّ ما سبق آنفا معطوف على جملة ليزدادوا إيمانا وهذا لا ينسجم مع شأن النّزول ولا مجازاة الكفّار.

٤٣٣

أجل قد تبلغ الامتحانات الإلهية درجة أن تضعضع الإيمان الضعيف وتغيّر القلوب ، وإنّما يثبت المؤمنين الصادقون الذين تحلّوا بالسكينة والاطمئنان وسينعمون في يوم القيامة بنتائجه ، وذلك هو الفوز العظيم حقّا!.

غير أنّ إزاء هذه الجماعة ، جماعة المنافقين والمشركين الذين تتحدّث الآية التالية عن عاقبتهم بهذا الوصف فتقول :( وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ ) .

أجل ، لقد ظنّ المنافقون حين تحرّك النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه المؤمنون من المدينة أن لا يعودوا نحوها سالمين كما تتحدّث عنهم الآية (١٢) من هذه السورة ذاتها فتقول :( بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً ) .

كما ظنّ المشركون أيضا أنّ محمّدا لن يعود إلى المدينة سالما مع قلّة العدد والعدد وسيأفل كوكب الإسلام عاجلا ثمّ يفصل القرآن ببيان عذاب هؤلاء وعقابهم ويجعله تحت عناوين أربعة فيقول أوّلا :( عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ ) (١) .

«الدائرة» في اللغة هي الحوادث وما ينجم عنها أو ما يتّفق للإنسان في حياته ، فهي أعم من أن تكون حسنة أو سيئة غير أنّها هنا بقرينة كلمة «السوء» يراد منها الحوادث غير المطلوبة!.

وثانيا :( وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) .

وثالثا :( وَلَعَنَهُمْ ) .

ورابعا وأخيرا : فإنّه بالمرصاد( وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً ) .

والذي يسترعي الانتباء أنّه في الحديبيّة كان أغلب الحاضرين من المسلمين رجالا ، وفي مقابلهم من المنافقين والمشركين رجالا أيضا ، غير أنّ الآيات الآنفة أشركت الرجال والنساء في ذلك الفوز العظيم ، وهذا العذاب الأليم ، وذلك لأنّ

__________________

(١) «سوء» على زنة «نوع» كما يقول صاحب صحاح اللغة فيه معنى مصدري ، والسوء) على وزن (نور) اسم مصدر ، غير أنّ صاحب الكشّاف يقول أنّ كليهما ، بمعنى واحد.

٤٣٤

الرجال المؤمنين أو المنافقين الذين يقاتلون في «ساحات القتال» لا يحقّقون أهدافهم إلّا أن تدعمهم النساء بالدعم اللازم.

وأساسا فإنّ الإسلام ليس دين الرجال فحسب فيهمل شخصيّة المرأة ، بل يهتمّ بها ، في كلّ موطن يوهم الكلام بالاقتصار على الرجل مع عدم ذكر المرأة فيه يصرّح بذكرها ليعلم أنّ الإسلام دين الجميع دون استثناء رجالا ونساء.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة أخرى إلى عظمة قدرة الله فتقول الآية :( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) .

وقد ورد هذا التعبير مرّة في ذيل مقامات أهل الإيمان ومواهبهم ، ومرّة هنا في ذيل الآية التي تحكي عن عقاب المنافقين والمشركين ليتّضح أنّ الله الذي له جنود السماوات والأرض جميعا قادر على الأمرين ، فهو قادر أن تشمل رحمته مستحقيها من عباده الصالحين وناصريه ، كما أنّه قادر على أن ينزل غضبه وانتقامه نارا تحرق المجرمين.

وممّا يستلفت النظر أنّ القرآن حين يذكر المؤمنين يصف الله بالعلم والحكمة ، وهما يناسبان مقام الرحمة ، ولكنّه حين يذكر المنافقين والمشركين يصف الله بالعزة والحكمة ، وهما يناسبان العذاب!

ما المراد من «جنود السماوات والأرض»؟!

هذا التعبير له معنى واسع حيث يشمل الملائكة «وهي من جنود السماء» كما يشمل جنودا أخر كالصواعق والزلازل والطوفانات والسيول والأمواج والقوى الغيبية غير المرئية التي لا نعرف عنها شيئا لأنّ جميع هذه الأشياء هي جنود الله وهي مطيعة لأوامره!.

٤٣٥

من هم الظانّون بالله ظنّ السوء؟!

قد يكون سوء الظن تارة بالنفس ، وقد يكون سوء الظن بالآخرين ، كما قد يكون بالله ، وبهذا التقسيم وعلى منواله يكون «حسن الظن» أيضا.

أمّا سوء الظن بالنفس إذا لم يبلغ درجة الإفراط فهو سلّم إلى التكامل ويدفع الإنسان إلى التدقيق في أعماله والإخلاص فيها ، ويكون حاجزا عن العجب والغرور منه عند قيامه بالأعمال الصالحة.

وبهذا فإنّ الإمام علياعليه‌السلام يصف المتّقين في جوابه لهمّام قائلا : «فهم لأنفسهم متّهمون ، ومن أعمالهم مشفقون ، إذا زكّي أحد منهم خاف ممّا يقال له ، فيقول : أنا أعلم بنفسي من غيري وربّي أعلم بي منّي بنفسي ، اللهمّ لا تؤاخذني بما يقولون واجعلني أفضل ممّا يظنّون واغفر لي ما لا يعلمون»(١) .

وإذا كان سوء الظن بالناس فهو ممنوع إلّا أن يغلب الفساد في المجتمع حيث لا ينبغي هناك حسن الظن «وسيأتي بيان هذا الموضوع بإذن الله ذيل الآية ١٢ من سورة الحجرات».

أمّا سوء الظن بالله أي سوء الظن بوعده أو رحمته وكرمه الذي لا حدّ له فهو قبيح ومذموم ، وقد يدلّ على ضعف الإيمان وربّما دلّ على عدم الإيمان!

ويشير القرآن عدّة مرّات إلى سوء ظنّ ضعاف الإيمان أو عديمي الإيمان وخاصة عند بروز الحوادث الاجتماعية الصعبة وطوفان الابتلاء والامتحان ، وكيف أنّ المؤمنين يبقون ثابتي الأقدام عند هذه الحوادث وهم في كمال حسن الظن والاطمئنان بلطف الله ولكنّ ضعيفي الإيمان يطلقون لسان الشكوى ، كما كان ذلك في قصة الحديبيّة ، حيث إنّ المنافقين ومن على شاكلتهم أساءوا الظنّ ، وقالوا أنّ محمّدا وأصحابه يمضون في سفرهم هذا ولا يعودون بعده ، فكأنّهم نسوا وعود الله أو أنّهم اتهموها.

__________________

(١) نهج البلاغة.

٤٣٦

والنموذج الآخر ما حدث في ساحة يوم الأحزاب حين زلزل المسلمون زلزالا شديدا ووقعوا تحت التأثير والمحنة الصعبة فهناك ذمّ الله المسيئين الظنّ به فقال :( إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ، هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً ) (١) .

وقد عبّرت الآية (١٥٤) من سورة آل عمران عن مثل هذه الظنون بـ «ظنّ الجاهلية».

وعلى كلّ حال ، فطنّ حسن الظن بالله ورحمته ووعده وكرمه ولطفه وعنايته من علائم الإيمان المهمّة ومن الأسباب المؤثّرة في النجاة والسعادة!.

حتى أنّه ورد في بعض أحاديث الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «ليس من عبد يظنّ بالله خيرا إلّا كان عند ظنّه به»(٢) .

كما ورد عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام أنّه قال : «أحسن بالله الظن فإنّ اللهعزوجل يقول أنا عند ظنّ عبدي المؤمن بي إن خير فخير وإن شر فشر»(٣) .

وأخيرا فقد ورد حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول فيه : «إنّ حسن الظنّ باللهعزوجل ثمن الجنّة»(٤) !.

فأي قيمة أيسر من هذا وأيّ متاع أعظم قيمة منه!؟

* * *

__________________

(١) الأحزاب ، الآيتان ١٠ ـ ١١.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٧٠ ، ص ٣٨٤.

(٣) بحار الأنوار ج ٧٠ ، ص ٣٨٥.

(٤) المصدر السابق.

٤٣٧

الآيات

( إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠) )

التّفسير

مكانة النّبي وواجب الناس تجاهه!

قلنا إنّ بعض الجهلاء اعترضوا بشدّة على صلح الحديبيّة وحتى أنّ بعض تعبيراتهم لم تخل من عدم الاحترام بالنسبة إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان مجموع هذه الأمور يستوجب أن يؤكّد القرآن مرّة أخرى على عظمة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجلالة قدره!.

لذلك فإنّ الآية الأولى من الآيات أعلاه تخاطب النّبي فتقول :( إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) .

وهذه ثلاثة أوصاف بارزة هي من أهم ما يتمتّع به النّبي من صفات ومقام. كونه

٤٣٨

«شاهدا» و «مبشّرا» ، و «نذيرا».

«شاهدا» على جميع الأمّة الإسلامية ، بل هو شاهد على جميع الأمم كما نقرأ هذا التعبير في الآية (٤١) من سورة النساء( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ) .

ونقرأ في الآية (٥) من سورة التوبة قوله تعالى :( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) .

وأساسا فإنّ لكلّ إنسان شهودا كثيرين!.

أولهم الله الذي هو عالم الغيب والشهادة المطّلع على جميع أعماله ونيّاته!.

ومن بعده الملائكة المأمورون بحفظ أعماله كما ورد التعبير في الآية (٢١) من سورة (ق)( وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ ) .

ثمّ أعضاء بدن الإنسان وحتى جلده شاهد عليه( ... يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (١) .

وجاء في الآية ٢١ من سورة فصلت في هذا الصدد أيضا :( وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) .

و «الأرض» أيضا ، من زمرة الشهود وكما جاء في سورة الزلزلة( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها ) .

وطبقا لبعض الروايات فإنّ «الزمان» أحد الشهود أيضا ، إذ نقرأ في بعض أحاديث الإمام عليعليه‌السلام قوله : «ما من يوم يمرّ على بني آدم إلّا قال له ذلك اليوم أنا يوم جديد وأنا عليك شهيد فافعل فيّ خيرا واعمل فيّ خيرا ، اشهد لك يوم القيامة فإنّك لن تراني بعد هذا أبدا»(٢) ،(٣) .

__________________

(١) النور ، الآية ٢٤.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١١٢.

(٣) مرّ البحث عن الشهود في محكمة القيامة ذيل الآيات ٢٠ ـ ٢٢ من سورة فصلت.

٤٣٩

ولا شك أنّ شهادة الله وحدها كافية ، لكنّ تعدّد الشهود فيه إتمام للحجّة أكثر وله أثر تربويّ ـ أقوى ـ في الناس

وعلى كلّ حال فإنّ القرآن الكريم بيّن هذه الأوصاف الثلاثة وهي الشهادة والبشارة والإنذار التي هي من الأوصاف الأساسية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتكون مقدمة لما ورد في الآية التي بعدها.

وفي الآية التالية خمسة أوامر مهمّة ـ هي في الحقيقة بمثابة الهدف من سمات النبي المذكورة آنفا : وتشكل أمرين في طاعة الله وتسبيحه وتقديره ، وثلاثة أوامر منها في «طاعة» رسوله و «الدفاع عنه» و «تعظيم مقامه» ، إذ تقول الآية :( لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) .

كلمة «تعزّروه» مشتقة من مادة تعزير ، وهو في الأصل يعني «المنع» ثمّ توسّعوا فيه فأطلق على كلّ دفاع ونصرة وإعانة للشخص في مقابل أعدائه كما يطلق على بعض العقوبات المانعة عن الذنب «التعزير» أيضا.

وكلمة «توقّروه» مشتقة من مادة توقير ، وجذورها «الوقر» ومعناها الثقل فيكون معنى التوقير هنا التعظيم والتكريم.

وطبقا لهذا التّفسير فإنّ الضميرين في «تعزّروه» و «توقّروه» يعودان على شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والهدف من ذلك هو الدفاع عنه بوجه أعدائه وتعظيمه واحترامه «وقد اختار هذا التّفسير الشيخ الطوسي في «التبيان» و «الطبرسي» في مجمع البيان وغيرهما أيضا».

غير أنّ جماعة من المفسّرين(١) ذهبوا إلى أنّ جميع الضمائر في الآية تعود على الله ، والمراد بالتعزيز والتوقير هنا نصرة دين الله وتعظيمه وتكريمه دينه ودليلهم على هذا التّفسير انسجام جميع الضمائر بعضها مع بعض.

__________________

(١) منهم الزمخشري في «الكشاف» والآلوسي في «روح المعاني» و «الفيض الكاشاني» في تفسير الصافي و «العلّامة الطباطبائي في الميزان».

٤٤٠