الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 592
المشاهدات: 166889
تحميل: 5016


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 166889 / تحميل: 5016
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 16

مؤلف:
العربية

منهما خرج عن خطّ الإحسان فلن يشمله رضا الله ولطفه

الثانية : أنّه يستفاد من الروايات الإسلامية أنّ أصحاب النّبي وإن امتازوا بشرف صحبته ، إلّا أنّ من يأتي بعدهم في الفترات المقبلة وهم ذوو عمل صالح وإيمان راسخ أفضل منهم من جهة واحدة وهي أنّ أصحاب النّبي شهدوا معاجزه بجميع أنواعها غير أنّ الآخرين اتبعوا منهاجه دون مشاهدتها وساروا على هداه بالإفادة من الدلائل الأخر

ونقرأ في بعض أحاديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سأله أصحابه : «نحن إخوانك يا رسول الله؟! قال : لا أنتم أصحابي ، وإخواني الذين يأتون بعدي. آمنوا بي ولم يروني ، وقال : للعامل منهم أجر خمسين منكم ، قالوا : بل منهم يا رسول الله؟! قال : بل منكم ردّدها ثلاثا ، ثمّ قال : لأنّكم تجدون على الخير أعوانا»(١) .

كما نقل في صحيح مسلم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «وددت أنّا قد رأينا إخواننا ، قالوا : أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟! فقال : أنتم أصحابي وإخوانا الذين لم يأتوا بعد»(٢) .

ويؤيّد العقل والمنطق هذه المقولة أيضا حيث إنّ من لم يدركوا رسول الله ولم يتعلّموا بين يديه وهم في الوقت ذاته مثل أصحابه من حيث الإيمان والعمل الصالح فهم أفضل من الصحابة

الثالثة : إنّ هذا الكلام من وجهة النظر التاريخية مقدوح فيه كثيرا لأنّ بعض الصحابة بعد زمان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل حتى في عصره حاد عن جادّة الصواب

فكيف يمكن أن نبرّئ الذين أشعلوا نار فتنة «الجمل» وقتلوا ما قتلوا وحملوا على خليفة رسول الله حقّا بالسيف ولا نعدّهم آثمين خاطئين

أو أن نقول إنّ الذين اجتمعوا في النهروان وصفّين وثاروا على وصي رسول الله

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٩ ، ص ٦١.

(٢) صحيح مسلم ، ج ١ ، الحديث ٣٩.

٥٠١

وخليفته المنتخب من قبل المسلمين وسفكوا الدماء الغزيرة مشمولون برضوان الله ولا غبار عليهم من الذنب والإثم؟!

وأعجب من ذلك كله أن يعتذر ـ عن أولئك الذين أخطأوا كلّ هذه الأخطاء وفعلوا ما فعلوا ـ بأنّهم مجتهدون ، والمجتهد معذور! هكذا وجّهوا الأمر!!

وإذا أمكن أن توجّه أمثال هذه الذنوب الكبيرة على أنّها اجتهاد فلا مجال لملامة أي قاتل ، ولا داعي لإقامة حدود الله في شأنه!! فلعلّه اجتهد فأخطأ!!

وبتعبير آخر : أنّه قد تقابلت في معركة الجمل وصفّين والنهروان طائفتان متحاربتان ومن المسلّم به قطعا أنّهما لم تكونا جميعا على الحق ، لأنّ الجمع بين الضدّين محال ، فمع هذا التقدير كيف يمكن القول بأنّ الطائفتين كلتيهما مشمولتان برضا الله ، والمسألة لم تكن من المسائل العويصة الملتوية ولم يكن التمييز بين الحق والباطل صعبا ولا مشكلا فالجميع كانوا يعرفون أنّ علياعليه‌السلام أمّا طبقا لنص النّبي عليه أو بانتخاب المسلمين هو الخليفة الحق ومع هذا فقد واجهوه بالسيف ، فكيف يوجه هذا العمل عن طريق الاجتهاد؟

ولم لا يوجّهون قيام «أصحاب الردّة» في زمان أبي بكر عن طريق الاجتهاد وعدوّهم مرتدّين رسما غير أنّهم برّأوا أصحاب الجمل وصفّين والنهروان من أي ذنب وإثم!!؟

وعلى كلّ حال يبدو أنّ مسألة «تنزيه الصحابة» بصورة مطلقة كانت حكما سياسيا لتحفّظ جماعة بعد النّبي موقعها وتعوّل على هذا الحكم ، وتصون نفسها من الانتقاد

وهذا الموضوع لا ينسجم مع حكم العقل ولا مع التواريخ الإسلامية المسلّم بها

وما أحسن أن نحتكم في شأن أصحاب النّبي في الوقت الذي نجلّهم ونحترمهم ذاته ـ إلى معيار يقضي عليهم بالحق من خلال أعمالهم وعقائدهم عبر حياتهم من

٥٠٢

البداية حتى النهاية ، ذلك المعيار الذي أفدناه من القرآن الكريم وذلك المعيار الذي وزن النّبي به صحابته

٢ ـ المحبّة الإسلامية المتبادلة

في الروايات الإسلامية الواردة في تفسير الآية الأخيرة من سورة الفتح تأكيد لا مزيد عليه على قوله تعالى :( رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ) ومن بين هذه الروايات ما نقرأه عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ولا يخونه ويحقّ على المسلم الاجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف والمواساة لأهل الحاجة وتعاطف بعضهم على بعض ، حتى تكونوا كما أمركم اللهعزوجل رحماء بينكم متراحمين ، مغتّمين لما غاب عنكم من أمرهم على ما مضى عليه معشر الأنصار على عهد رسول الله»(١) .

إلّا أنّ العجيب أنّ المسلمين في هذا العصر لا يقتدون بتعاليم هذه الآية المؤثرة وما تنقله من خصائص أصحاب رسول الله والمؤمنين الصادقين ، وربّما تحامل بعضهم على بعض وأثار الحفيظة وسفك الدماء وهو ما لم يفعله أعداء الإسلام أحيانا

وربّما ارتبطوا بالكفّار وأنشئوا علائق المحبّة حتى تظن أنّهم إخوان من أصل واحد ونسب واحد.

فلا خبر عن الركوع والسجود ولا النيّات الخالصة ولا ابتغاء فضل الله ولا آثار السجود في سيماهم ولا الزرع الذي أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه!!

والعجيب أيضا أنّه كلّما ابتعدنا عن الأصول القرآنية هذه منينا بالذل والنكبة أكثر فأكثر ومع ذلك لا نلتفت من أين نؤكل؟! وما تزال حميّة الجاهلية تصدّنا عن

__________________

(١) أصول الكافي ـ طبقا لتفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٧٧ ، الحديث ٩١.

٥٠٣

التفكير وإعادة النظر والعودة نحو القرآن

اللهمّ نبّهنا من نومة الغافلين!

اللهمّ وفّقنا أن نحيى فيها خلال أصحاب رسول الله وصفاتهم التي ذكرتها هذه الآيات البيّنات

اللهمّ ارزقنا الشدّة على أعدائنا والرحمة فيما بيننا والتسليم لأمرك ، والاهتمام الى ما توليه إيّانا من العنايات الخاصّة والجد والسعي إلى النهوض بالمجتمع الإسلامي إلى الخير والازدهار.

اللهمّ ارزقنا فتحا مبينا يتحرّك في ظلّه المجتمع الإسلامي وأن نوفّق إلى نشر تعاليم هذا الدين القويم الذي يهب الحياة للناس في هذا العصر الذي هو أحوج الى المعنويات من أي وقت آخر ، وأن نفتح كلّ يوم قلوبا جديدة إلى نور الإسلام

آمين يا ربّ العالمين

انتهت سورة الفتح

* * *

٥٠٤
٥٠٥

سورة

الحجرات

مدنيّة

وعدد آياتها ثماني عشرة آية

٥٠٦

«سورة الحجرات»

محتوى السورة :

هذه السورة التي لا تتجاوز ١٨ آية تحمل في ما تحمل مسائل مهمة تتعلّق بشخص النّبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمجتمع الإسلامي بعضه ببعض وحيث أنّ أغلب المسائل الأخلاقية تدور في هذه السورة فيمكن أن نسمّي هذه السورة بـ «سورة الأخلاق والآداب»

ويمكن على الإجمال تقسيم مضامين السورة على النحو التالي :

القسم الأوّل : آيات بداية السورة وهي تبين طريقة التعامل مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآدابها وما ينبغي على المسلمين مراعاته من أصول عند حضرة النبي.

الثّاني : تشتمل هذه السورة على سلسلة من أصول «الأخلاق الاجتماعية» المهمّة التي إن عمل بها وعلى هداها حفظت المحبّة والصفاء والأمن والاتحاد في المجتمع الإسلامي ، وعلى العكس من ذلك لو أهملت تكون سببا للشقاء والنفاق والتفرّق وعدم الأمن

الثّالث : الأوامر الإرشادية المتعلّقة بكيفية مواجهة الاختلافات والتنازع أو القتال الذي قد يقع بين المسلمين أحيانا

الرابع : يتحدّث عن معيار قيمة الإنسان عند الله وأهمية التقوى!

الخامس : يعالج قضية أنّ الإيمان ليس بالقول فحسب بل لا بدّ من ظهور آثاره في أعمال الإنسان والجهاد بالمال والنفس ـ إضافة إلى الإعتقاد في القلب ـ

السادس : يتحدّث عن أنّ الإيمان والإسلام هما هدية إلهية للمؤمنين وبدلا من

٥٠٧

أن يمنّوا بالإسلام أو الإيمان ينبغي أن يشكروا الله على هذه الهدية إذ شملهم بها

السابع : والأخير يتحدّث عن علم الله واطلاعه وعن جميع أسرار الوجود الخفية وأعمال الإنسان ، وهذا القسم بمثابة الضامن لتنفيذ جميع هذه الأقسام الواردة في هذه السورة!

وتسمية هذه السورة بسورة «الحجرات» لورود هذه الكلمة في الآية الرابعة منها وسنبيّن تفسيرها في السطور التالية

فضيلة تلاوة هذه السورة!

يكفي أن نعرف فضيلة هذه السورة من حديث نقرؤه عن النّبي في فضلها!

«من قرأ سورة الحجرات اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أطاع الله وعصاه».

كما نقرأ حديثا آخر عن الإمام الصادق في فضلها يقول : «من قرأ سورة الحجرات في كلّ ليلة أو في كلّ يوم كان من زوّار محمّد»

وبديهي أنّ كلّ هذه الحسنات التي هي بعدد المطيعين والعاصين إنّما تكون في صورة ما لو أخذنا بنظر الإعتبار كلا من الفريقين وأن نفكّر جيدا فنجعل مسيرنا وفقا لمنهج المطيعين ونبتعد عن منهج العاصين.

ونيل زيارة النّبي أيضا فرع على أن نعمل وفق الآداب المذكورة في الحضور عندهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ التلاوة في كلّ مكان مقدمة للعمل

* * *

٥٠٨

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) )

سبب النّزول

ذكر المفسّرون لنزول الآية الأولى من هذه السورة شأنا بل شؤونا كما ذكروا

٥٠٩

لنزول الآيات التي بعدها شؤونا أخر!

فمن الشؤون التي ذكروها لنزول الآية الأولى أنّه : حين أراد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتوجّه إلى خيبر رغب في أن يخلّف شخصا معيّنا مكانه في المدينة وينصّبه خليفة عنه ، فاقترح عمر شخصا آخر ، فنزلت الآية الآنفة وأمرت أن لا تقدموا بين يدي الله ورسوله(١) .

وقال آخرون : كان بعض المسلمين بين الفينة والأخرى يقولون لو نزلت فينا آية لكان أفضل ، فنزلت الآية أن لا تقدموا بين يدي الله ورسوله(٢) .

وقال بعضهم ، إنّ الآية تشير إلى أعمال بعض المسلمين الذين كانوا يؤدّون عباداتهم قبل أوانها ، فنزلت الآية لتنهاهم عن مثل هذه الأعمال(٣) .

وأمّا في شأن الآية الثانية فقد قال المفسّرون إنّ طائفة من «بني تميم» وأشرافهم وردوا المدينة ، فلمّا دخلوا مسجد النّبي نادوا بأعلى صوتهم من وراء الحجرات التي كانت للنبي : يا محمّد أخرج إلينا. فأزعجت هذه الصرخات غير المؤدّبة النبي ، فخرج إليهم فقالوا له : جئناك لنفاخرك فأجز شاعرنا وخطيبنا ليتحدّث عن مفاخر قبيلتنا ، فأجازهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنهض خطيبهم وتحدّث عن فضائلهم الخيالية الوهميّة كثيرا

فأمر النّبي (ثابت بن قيس) أن يردّ عليهم(٤) فنهض وخطب خطبة بليغة فلم يبق لخطبة أولئك من أثرا!

ثمّ نهض شاعرهم وألقى قصيدة في مدحهم فنهض «حسان بن ثابت» فردّ عليه بقصيدة شافية كافية!

فقام رجل من أشراف تلك القبيلة واسمه «الأقرع» فقال : إنّ هذا الرجل يعني

__________________

(١ ، ٢ ، ٣) ـ تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦١٢١.

(٤) كان «ثابت بن قيس» خطيب الأنصار وخطيب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما كان حسّان بن ثابت شاعره [أسد الغابة ، ج ١ ، ص ٢٢٩].

٥١٠

محمّدا خطيبه أبلغ من خطيبنا وشاعره أجدر من شاعرنا وصدى صوته أبعد مدى من صوتنا

فأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تهدى لهم هدايا ليكتسب قلوبهم إليه فكان أن تأثّروا بمثل هذه المسائل فاعترفوا بنبوّته!

فالآيات محل البحث ناظرة إلى هذه القضية والأصوات من خلف الحجرات.

وهناك شأن آخر لنزول الآية بل هو يتعلّق بالآية الأولى وما بعدها وهو أنّه في السنة التاسعة للهجرة [حين كانت القبائل تفد على النّبي للسلام عليه أو للمعاهدة معه] وقد عرف العام ذلك «بعام الوفود» وعند وصول ممثلي قبيلة تميم إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال أبو بكر : ليكن «القعقاع» (أحد أشراف تلك القبيلة) أميرها ، واقترح عمر أن يكون «الحابس بن أقرع» أميرها. فقال أبو بكر لعمر أردت أن تخالفني ، فردّ عليه عمر بأنّه لم يرد مخالفته أبدا ، فتعالى الصياح والضجيج بينهما ، فنزلت الآيات الآنفة أي لا تقترحوا في الأمور على النّبي شيئا ولا تتقدّموا عليه في العمل ولا ترفعوا أصواتكم عند بيت النبي(١) .

* * *

التّفسير

آداب الحضور عند النبي :

كما أشرنا آنفا أنّ في محتوى هذه السورة قسما من المباحث الأخلاقية المهمّة والأوامر والتعليمات الانضباطية التي تدعونا إلى تسمية هذه السورة بسورة الأخلاق ، وهذه المسائل والتعليمات تقع في الآيات الأوّل من السورة محل البحث ـ والآيات هذه على نحوين من التعليمات.

__________________

(١) نقل ذلك القرطبي في تفسيره ، ج ٩ ، ص ٦١٢١ ، وسيد قطب في ظلاله ، ج ٧ ، ص ٥٢٤ ، وابن هشام في سيرته ص ٢٠٦ فما بعد (مع شيء من التفاوت والاختلاف) كما ورد في صحيح البخاري ، ج ٦ ، ص ١٧٢ ، في تفسيره سورة الحجرات

٥١١

الأول : عدم التقدّم على الله ورسوله وعدم رفع الصوت عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

فتقول الآية الأولى في هذا الصدد :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) .

والمراد من عدم التقديم بين يدي الله ورسوله هو أن لا يقترح عليهما في الأمور ، وترك العجلة والإسراع أمام أمر الله ورسوله

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين أرادوا أن يحدّدوا مفهوم الآية وجعلوه منحصرا بأداء العبادات قبل وقتها ، أو التكلّم قبل كلام رسول الله وأمثال ذلك ، إلّا أنّه من الواضح أنّ للآية مفهوما واسعا يشمل أي تقدّم وإسراع في كلّ خطّة ومنهج(١) .

إنّ مسئولية انضباط السائرين إزاء القادة وخاصة إزاء القادة الإلهيين تقتضي ألّا يتقدّموا عليهم في أي عمل وقول ولا يعجل أحد عندهم.

وبالطبع فإنّ هذا الكلام لا يعني بأنّه لا يجوز لهم أن يتشاوروا مع النّبي إذا كان لديهم شيء يجدر بيانه ، بل المراد منه إلّا يعجلوا ويبادروا بالتصميم قبل أن يوافق النّبي على ذلك! حتى أنّه لا ينبغي أن تثار أسئلة ومناقشات أكثر ممّا يلزم في شأن المسائل ، بل ينبغي أن يترك الأمر للقائد نفسه أن يبيّن المسائل في حينها ، لا سيما إذا كان القائد معصوما الذي لا يغفل عن أي شيء! كما أنّه لو سئل المعصوم أيضا ، لا يحقّ للآخرين أن يجيبوا السائل قبل أن يردّ عليه المعصوم ، وفي الحقيقة أنّ الآية جمعت كلّ هذه المعاني في طيّها.

والآية الثانية تشير إلى الأمر الثّاني فتقول :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ

__________________

(١) ورد الفعل «لا تقدموا» على صيغة الفعل المتعدي إلا أن المفعول محذوف هنا وتقديره : لا تقدموا أمرا بين يدي الله ورسوله وقد احتمل بعضهم أن هذا الفعل لازم هنا ومفهومه لا تتقدموا بين يدي الله وبالرغم من أن الفعلين مختلفان شكلا إلا أن المعنى أو النتيجة واحدة

٥١٢

أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) .

والجملة الأولى :( لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ ) إشارة إلى أنّه لا ينبغي رفع الصوت على صوت النبي ، فهو بنفسه نوع من الإساءة الأدبية في محضره المبارك ، والنّبي له مكانته. وهذا الأمر لا يجدر أن يقع أمام الأب والأم والأستاذ لأنّه مخالف للاحترام والأدب أيضا.

أمّا جملة :( لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ ) فيمكن أن تكون تأكيدا على المعنى المتقدّم في الجملة الأولى ، أو أنّها إشارة إلى مطلب آخر ، وهو ترك مخاطبة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنداء «يا محمّد» والعدول عنه بالقول : «يا رسول الله»!

غير أنّ جماعة من المفسّرين قالوا في الفرق بين الجملتين آنفتي الذكر ما يلي : ـ إنّ الجملة الأولى ناظرة إلى زمان يتحادث الناس فيه مع النبي ، فلا ينبغي لأحد أن يرفع صوته فوق صوت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمّا الجملة الثانية فناظرة الى زمان يكون الرّسول فيه صامتا وأصحابه يحدّثونه ، ففي هذه الحالة أيضا لا ينبغي رفع الصوت عنده.

والجمع بين هذه المعنى والمعنى السابق أيضا ـ لا مانع منه كما أنّه ينسجم مع شأن نزول الآية ، وعلى كلّ حال فظاهر الآية هو بيان أمرين مختلفين

وبديهي أنّ أمثال هذه الأعمال إن قصد بها الإساءة والإهانة لشخص النّبي ومقامه الكريم فذلك موجب للكفر ، وإلّا فهو إيذاء له وفيه إثم أيضا

وفي الصورة الأولى تتّضح علة الحبط وزوال الأعمال ، لأنّ الكفر يحبط العمل ويكون سببا في زوال ثواب العمل الصالح

وفي الصورة الثانية أيضا ، لا يمنع أن يكون مثل هذا العمل السيء باعثا على زوال ثواب الكثير من الأعمال.

وقلنا سابقا في بحث الحبط أنّه لا مانع من زوال ثواب بعض الأعمال بسبب بعض الذنوب الخاصة ، كما أنّ زوال أثر بعض الذنوب بسبب الأعمال الصالحة

٥١٣

قطعيّ أيضا وهناك دلائل كثيرة في الآيات القرآنية أو الأحاديث الشريفة على هذا المعنى ورغم أنّ هذا المعنى لم يثبت على أنّه قانون كلّي في جميع الحسنات والسيئات ، إلّا أنّه توجد دلائل نقلية في شأن بعض الحسنات والسيئات المهمّة ولا يوجد دليل عقلي مخالف لها!(١) .

وقد ورد في رواية أنّه حين نزلت الآية آنفة الذكر قال «ثابت بن قيس» خطيب النّبي الذي كان له صوت جهوري عال : أنا الذي رفعت صوتي فوق صوت النّبي فحبطت أعمالي وأنا من أهل النّار

فبلغ ذلك سمع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «هو من أهل الجنّة»(٢) . لأنّه حين فعل ذلك للمؤمنين أو أمام المخالفين وكان ذلك أداء لوظيفة إسلامية.

كما أنّ ابن العباس بن عبد المطلب نادى بأمر النّبي الذين فرّوا في معركة «حنين» بصوت عال ليعودوا إلى ساحات القتال!

وفي الآية الأخرى مزيد تأكيد على الثواب الذي أعدّه الله لأولئك الذين يمتثلون أمر الله ويراعون الآداب عند رسول الله فتقول :( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) (٣) .

كلمة «يغضون» مشتقة من غضّ ـ على وزن حظّ ـ ومعناها تقليل النظر أو خفات الصوت ويقابل هذه الكلمة الإمعان بالنظر والجهر بالصوت.

وكلمة «امتحن» مشتقة من الامتحان ، والأصل في استعمالها إذابة الذهب وتطهيره من غير الخالص ، كما أنّها تستعمل في بسط الجلد المعدّ للدّبغ ، ثمّ

__________________

(١) لمزيد الاطلاع بحثنا مسألة الحبط في ذيل الآية (٢١٧) من سورة البقرة فليراجع.

(٢) يراجع مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ١٣٠ ، وقد ورد هذا الحديث بتفاوت في بعض الكلمات عند كثير من المفسّرين ولا سيما البخاري في صحيحه وسيد قطب في ظلاله وغيرهما.

(٣) «اللام» في كلمة «التقوى» في الحقيقة هي لام الغاية وليست (لام العلّة) أي أنّ الله يجعل قلوب أولئك مهيّأة للقبول والتقوى ، لأنّ القلب إذا لم يخلص ولم يصف فلا يكون محلا للتقوى حقيقة.

٥١٤

استعملت بعدئذ في مطلق الاختبار كما هي الحال بالنسبة للآية محل البحث ، ونتيجة ذلك خلوص القلب وبسطه لقبول التقوى

وممّا يسترعي الانتباه أنّ الآية السابقة ورد فيها التعبير بالنبي ، إلّا أنّ هذه الآية ورد التعبير فيها عنه برسول الله ، وكلتا الآيتين تشير إلى هذه «اللطيفة» : وهي أنّ النّبي ليس عنده شيء من نفسه ، بل هو رسول الله ونبيّه ، فإساءة الأدب إليه إساءة الأدب إلى الله ورعاية الأدب إليه رعاية لله.

ونكّرت كلمة «مغفرة» للتعظيم والأهمية أي أنّ الله يجعل نصيبهم المغفرة الكبرى والتامة ، وبعد تطهيرهم من الذنب يرزقهم الأجر العظيم ، لأنّه لا بدّ من التطهير من الذنب أولا ، ثمّ الانتفاع من الأجر العظيم من قبل الله

أمّا الآية الأخرى فتشير إلى جهل أولئك الذين يجعلون أمر الله وراء ظهورهم ، وعدم إدراكهم فتقول :( إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) .

فأي عقل يدفع الإنسان إلى أن ينادي برفيع صوته أمام أعظم سفير إلهي فلا يلتفت الى آداب النداء كما فعلت قبيلة بني تميم فنادت النّبي بصوت مزعج يا محمّد يا محمّد أخرج إلينا وهو مركز المحبّة والعطف الإلهي؟!

وأساسا كلّما ترقّى عقل الإنسان زيد في أدبه فيعرف القيم الأخلاقية بصورة أحسن ومن هنا فإنّ إساءة الأدب دليل على عدم العقل ، أو بتعبير آخر إنّ إساءة الأدب عمل الحيوان ، أمّا الأدب أو رعاية الأدب فهو من عمل الإنسان

جملة( أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) «الأكثر» في لغة العرب يطلق أحيانا بمعنى الجميع ، وإنّما استعمل هذا اللفظ رعاية للاحتياط في الأدب حتى لو أنّ واحدا أستثني من الشمول لا يضيع حقّه عند التعبير بالأكثر ، فكأنّ الله يريد أن يقول : إنّي أنا الله الذي أحطت بكلّ شيء علما ، عند الكلام على مثل هذه الأمور أراعي الأدب في ذلك فعلام لا تراعون في كلامكم هذه الناحية؟!

أو لأنّه يوجد فيهم أناس يعقلون حقّا ، ولعادة الناس وعدم التفاتهم في رفع

٥١٥

الصوت يريد القرآن أن يحذّرهم بهذا الأسلوب أن لا ينسوا الأدب وأن يستعملوا عقولهم وأفكارهم عند الكلام

«الحجرات» : جمع «حجرة» وهي هنا إشارة إلى البيوت(١) المتعددة لأزواج النّبي المجاورة للمسجد

وأصل الكلمة مأخوذ من «الحجر» على وزن الأجر : أي المنع لأنّ الحجرة تمنع الآخرين من الدخول في حريم «حياة» الإنسان والتعبير بـ «وراء» هنا كناية عن الخارج من أي جهة كان! لأنّ أبواب الحجرات كانت تتفتح على المسجد أحيانا فيقف الجهلة عندها فينادون : يا محمّد أخرج إلينا ، فمنعهم القرآن ونهاهم عن ذلك!

ويضيف القرآن إكمالا للمعنى في نهاية الآية قائلا :( وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ) .

صحيح أنّ العجلة قد تجعل الإنسان أحيانا يبلغ قصده بسرعة ، إلّا أنّ الصبر في مثل هذا «المقام» والتأنّي مدعاة إلى المغفرة والأجر العظيم.

وحيث أنّ بعضهم قد ارتكبوا جهلا هذا الخطأ من قبل ، واستوحشوا من هذا الأمر وحاسبوا أنفسهم بعد نزول الآية ، فإنّ القرآن يضيف قائلا إنّهم تشملهم الرحمة عند التوبة :( وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

* * *

بحوث

١ ـ الأدب أغلى القيم

اهتم الإسلام اهتماما كبيرا بمسألة رعاية الأدب ، والتعامل مع الآخرين مقرونا

__________________

(١) بيوت جمع بيت وهذا اللفظ يطلق على الغرفة الواحدة [أو مجموع الغرف في مكان واحد لعائلة معيّنة] وهو مشتقّ من المبيت ليلا

٥١٦

بالاحترام والأدب سواء مع الفرد أم الجماعة ، ونشير إلى طائفة من الأحاديث الشريفة هنا على أنّها شواهد وأمثال لهذا العنوان

١ ـ يقول الإمام عليعليه‌السلام : «الآداب حلل مجدّدة»(١) .

ويقول في مكان آخر : الأدب يغني عن الحسب(٢) .

كما أنّنا نقرأ حديثا آخرعن الإمام الصادقعليه‌السلام يقول فيه : «خمس من لم تكن فيه لم يكن كثير فيه مستمتع ؛ قيل : وما هنّ يا ابن رسول الله قالعليه‌السلام : الدين والعقل والحياء وحسن الخلق وحسن الأدب»(٣) .

ونقرأ في مكان آخر حديثا عنهعليه‌السلام أيضا يقول فيه : لا يطمعنّ ذو الكبر في الثناء الحسن ولا الخبّ في كثرة الصديق ولا السيء الأدب في الشرف(٤)

ولذلك فإنّنا حين نقرأ تأريخ حياة القادة في الإسلام وننعم النظر فيها نلاحظ أنّهم يراعون أهم النقاط الحسّاسة واللطائف الدقيقة في الأخلاق والآداب حتى مع الأناس البسطاء ، وأساسا فإنّ الدين مجموعة من الآداب ، الأدب بين يدي الله والأدب بين يدي الرّسول والأئمة المعصومين ، والأدب بين يدي الأستاذ والمعلم ، أو الأب والأم والعالم والمفكّر

والتدقيق في آيات القرآن الكريم يكشف عن أنّ الله سبحانه بما له من مقام العظمة حين يتكلّم مع عباده ، يراعي الآداب بتمامها

فحيث يكون الأمر على هذه الشاكلة فمن المعلوم عندئذ ما هي وظيفة الناس أمام الله؟ وما هو تكليفهم؟! ونقرأ في بعض الأحاديث الإسلامية أنّه حين نزلت الآيات الأولى من سورة «المؤمنون» وأمرتهم بسلسلة من الآداب الإسلامية ، ومنها مسألة الخشوع في الصلاة ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينظر أحيانا إلى السماء عند

__________________

(١) نهج البلاغة الحكمة ـ ٥.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٧٥ ، ص ٦٨.

(٣) المصدر السابق ، ص ٦٧.

(٤) المصدر السابق.

٥١٧

الصلاة ثمّ ينظر إلى الأرض مطرقا برأسه «لا يرفعه»(١) .

وفي ما يخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان هذا الموضوع ذا أهمية أيضا إذ صرّح القرآن في آياته بالإعراض عن اللغو عنده وعدم رفع الصوت والصخب ، فكلّ ذلك موجب للحبط في الأعمال واضمحلال الثواب.

وواضح أنّه لا تكفي رعاية هذه المسألة الخلقيّة عند النّبي فحسب ، بل هناك أمور أخرى ينبغي مراعاتها في حضوره ، وكما يعبّر الفقهاء ينبغي إلغاء الخصوصية هنا وتنقيح المناط بما سبق أشباهه ونظائره!

ونقرأ في سورة النور الآية (٦٣) منها :( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ) وقد فسّرها جماعة من المفسّرين بأنّه «عند ما تنادون النّبي فنادوه بأدب واحترام يليقان به لا كما ينادي بعضكم بعضا»

الطريف هنا أنّ القرآن عدّ أولئك الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ويراعون الأدب بأنّهم مطهّرو القلوب وهم مهيّئون للتقوى ، وجديرون بالمغفرة والأجر العظيم في حين أنّه يعدّ الذين ينادونه من وراء الحجرات ويسيئون الأدب عنده ـ كالأنعام ـ أكثرهم لا يعقلون.

حتى أنّ بعض المفسّرين توسّعوا في الآيات محل البحث وجعلوا لها مراحل أدنى أيضا بحيث تشمل المفكّرين والعلماء والقادة من المسلمين ، فوظيفة المسلمين أن يراعوا الآداب بين أيديهم

وبالطبع فإنّ هذه المسألة أكثر وضوحا في شأن الأئمة أولي العصمة ، حتى أنّه بلغنا بعض الروايات الواردة عن أهل البيت أنّه «حين دخل أحد الأصحاب على الإمام بادره الإمام دون مقدّمة : أما تعلم أنّه لا ينبغي للجنب أن يدخل بيوت الأنبياء»(٢) .

__________________

(١) راجع تفسير مجمع البيان وتفسير الفخر الرازي ، ذيل الآية ٢ سورة المؤمنون.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٢٧ ، ص ٢٥٥.

٥١٨

وورد التعبير في رواية أخرى بهذه الصورة : «أنّ بيوت الأنبياء وأولاد الأنبياء لا يدخلها الجنب».

وملخص القول أنّ مسألة رعاية الآداب أمام الكبير والصغير تشمل قسما كبيرا من التعليمات الإسلامية بحيث لو أردنا أن ندرجها ضمن بحثنا هذا لخرجنا عن تفسير الآيات ، إلّا أنّنا نختم بحثنا بحديث عن الإمام علي بن الحسين (السجّاد) في «رسالة الحقوق» حيث قال في «مورد رعاية الأدب أمام الأستاذ» :

«وحقّ سائسك بالعلم التعظيم له والتوقير لمجلسه وحسن الاستماع إليه والإقبال عليه وأن لا ترفع عليه صوتك ولا تجيب أحدا يسأله عن شيء حتى يكون هو الذي يجيب ولا تحدّث في مجلسه أحدا ولا تغتاب عنده أحدا وأن تدفع عنه إذا ذكر عندك بسوء وأن تستر عيوبه وتظهر مناقبه ولا تجالس له عدوا ولا تعادي له وليا فإذا فعلت ذلك شهدت لك ملائكة الله بأنّك قصدته وتعلّمت علمه لله جلّ اسمه لا للناس»(١) .

٢ ـ رفع الصوت عند قبر الرسول

قال جماعة من العلماء والمفسّرين أنّ الآيات محل البحث كما أنّها تمنع رفع الصوت عند النّبي حال حياته فهي كذلك شاملة للمنع بعد وفاته(٢) .

وإذا كان المراد من تعبيرهم آنفا شمول العبارة في الآية ، فظاهر الآية يخصّ زمان حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّها تقول :( لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ ) وذلك في حالة ما يكون النّبي له حياة جسمانية وهو يتكلّم مع أحد فلا يجوز رفع الصوت فوق صوته

لكن إذا كان مرادهم ـ المناط ـ وفلسفة الحكم ـ وهي واضحة في هذه الموارد

__________________

(١) المحجّة البيضاء ، ج ٣ ، ص ٤٥٠ ، باب آداب الصحبة والمعاشرة.

(٢) روح المعاني ، ج ٢٦ ، ص ١٢٥.

٥١٩

وأمثالها ـ وأهل العرف ـ يلغون «الخصوصية» ، فلا يبعد التعميم المذكور. لأنّه من المسلّم به ـ أنّ الهدف هنا رعاية الأدب واحترام ساحة قدس النبي ، فعلى هذا متى ما كان رفع الصوت عند قبره نوعا من هتك الحرمة فهو بدون شكّ غير جائز ، إلّا أن يكون أذانا للصلاة أو تلاوة للقرآن أو إلقاء خطبة وأمثال ذلك فإنّ هذه الأمور ليس فيه أي إشكال لا في حياة النّبي ولا بعد وفاته

ونقرأ حديثا في أصول الكافي نقل عن الإمام الباقر في شأن ما جرى للحسن بعد وفاته وممانعة عائشة عن دفنه في جوار رسول الله جاء فيه أنّه حين ارتفعت الأصوات استدل الإمام الحسينعليه‌السلام بالآية :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ )

ونقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : إنّ الله حرّم من المؤمنين أمواتا ما حرّم منهم أحياء(١) .

وهذا الحديث شاهد آخر على عموم مفهوم الآية!

٣ ـ الانضباط الإسلامي في كلّ شيء وفي كلّ مكان!

إنّ مسألة المديرية لا تتم بدون رعاية الانضباط ، وإذا أريد للناس العمل تحت مديرية وقيادة ـ حسب رغبتهم ، فإنّ اتساق الأعمال سينعدم عندئذ وإن كان المديرون والقادة جديرين.

وكثير من الأحداث والنواقص التي نلاحظها تحدّث عن هذا الطريق ، فكم من هزيمة أصابت جيشا قويا أو نقصا حدث في أمر يهمّ جماعة وما إلى ذلك كان سببه ما ذكرناه آنفا ولقد ذاق المسلمون أيضا مرارة مخالفة هذه التعاليم مرارا في عهد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بعده ، ومن أوضح الأمور قصة هزيمة المسلمين في معركة أحد لعدم الانضباط من قبل جماعة قليلة من المقاتلين.

والقرآن يثير هذه المسألة المهمّة في عبارة موجزة في الآية الآنفة وبأسلوب

__________________

(١) أصول الكافي ـ طبقا لما نقل في نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٨٠.

٥٢٠