الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177184 / تحميل: 5794
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

و قوله:( وَ لا يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً ) ظاهر السياق أنّه معطوف على موضع قوله:( يَوَدُّ الّذينَ كَفَرُوا ) و فائدته الدلالة بوجه على ما يعلّل به تمنّيهم الموت، و هو أنّهم بارزون يومئذ لله لا يخفى عليه منهم شي‏ء لظهور حالهم عليه تعالى بحضور أعمالهم، و شهادة أعضائهم و شهادة الأنبياء و الملائكة و غيرهم عليهم، و الله من ورائهم محيط فيودّون عند ذلك أن لو لم يكونوا و ليس لهم أن يكتموه تعالى حديثاً مع ما يشاهدون من ظهور مساوي أعمالهم و قبائح أفعالهم.

و أمّا قوله تعالى:( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جميعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) المجادلة: ١٨، فسيجي‏ء إن شاء الله تعالى أنّ ذلك إنّما هو لإيجاب ملكة الكذب الّتي حصّلوها في الدنيا لا للإخفاء و كتمان الحديث يوم لا يخفى على الله منهم شي‏ء.

( بحث روائي‏)

في تفسير العيّاشيّ، في قوله تعالى:( وَ بِالْوالِدَيْنِ إحساناً ) الآية: عن سلام الجعفيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام و أبان بن تغلب عن أبي عبداللهعليه‌السلام : نزلت في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و في عليعليه‌السلام .

ثمّ قال: و روي مثل ذلك في حديث ابن جبلة. قال: قال: و روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا و عليّ أبوا هذه الاُمّة.

أقول: و قال البحرانيّ في تفسير البرهان، بعد نقل الحديث: قلت: و روى ذلك صاحب الفائق.

و روى العيّاشيّ هذا المعنى عن أبي بصير عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام ، و رواه ابن شهرآشوب عن أبان عن أبي جعفرعليه‌السلام . و الّذي تعرّض له الخبر هو من بطن القرآن بالمعنى الّذي بحثنا عنه في مبحث المحكم و المتشابه في الجزء الثالث من هذا الكتاب، إذ الأب أو الوالد هو المبدأ الإنسانيّ لوجود الإنسان و المربّي له، فمعلّم الإنسان و مربّيه للكمال أبوه فمثل النبيّ و الوليّ عليهما أفضل الصلاة أحقّ أن يكون أباً للمؤمن المهتدي به، المقتبس من أنوار علومه و معارفه من الأب الجسمانيّ الّذي

٣٨١

لا شأن له إلّا المبدئيّة و التربية في الجسم فالنبيّ و الوليّ أبوان، و الآيات القرآنيّة الّتي توصي الولد بوالديه تشملهما بحسب الباطن و إن كانت بحسب ظاهرها لا تعدو الأبوين الجسمانيّين.

و في تفسير العيّاشيّ، أيضاً عن أبي صالح عن أبي العبّاس في قول الله:( وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى‏ وَ الْجارِ الْجُنُبِ ) قال: الّذي ليس بينك و بينه قرابة، و الصاحب بالجنب قال: الصاحب في السفر.

أقول: قوله: الّذي ليس بينك، تفسير الجار ذي القربى و الجنب معاً و إن أمكن رجوعه إلى الجار الجنب فقط، و قوله: الصاحب في السفر لعلّه من قبيل ذكر بعض المصاديق.

و فيه، عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمّد عن جدّه قال: قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : في خطبة يصف هول يوم القيامة: ختم على الأفواه فلا تكلّم، و تكلّمت الأيدي، و شهدت الأرجل، و اُنطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثاً.

و اعلم، أنّ الأخبار كثيرة من طرق أهل السنّة في أنّ الآيات نازلة في حقّ اليهود، و هي و إن كان يؤيّدها ما ينتهي إليه ذيل الآيات من التعرّض لحال أهل الكتاب من اليهود في بخلهم و ولعهم بجمع المال و ادّخاره و كذا وسوستهم للمؤمنين و ترغيبهم على الكفّ عن الإنفاق في سبيل الله و تفتينهم إيّاهم و إخزائهم لهم، و إفساد الأمر على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكن الأخبار المذكورة مع ذلك أشبه بالتطبيق النظريّ منها بنقل السبب في النزول كما هو الغالب في الأخبار الناقلة لأسباب النزول، و لذلك تركنا نقلها على كثرتها.

و اعلم أيضاً أنّ الأخبار الواردة عن النبيّ و آلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إحسان الوالدين و ذي القربى و اليتامى و غيرهم من الطوائف المذكورة في الآية فوق حدّ الإحصاء على معروفيّتها و شهرتها، و هو الموجب للإغماض عن إيرادها ههنا على أنّ لكلّ منها وحده مواقع خاصّة في القرآن، ذكر ما يخصّها من الأخبار هناك أنسب.

٣٨٢

( سورة النساء آية ٤٣)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى‏ حَتّى‏ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتّى‏ تَغْتَسِلُوا وَإِن كُنتُم مَرْضَى‏ أَوْ عَلَى‏ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنكُم مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمّمُوا صَعِيداً طَيّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُور( ٤٣)

( بيان)

قد تقدّم في الكلام على قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ ) البقرة: ٢١٩، أنّ الآيات المتعرّضة لأمر الخمر خمس طوائف، و أنّ ضمّ هذه الآيات بعضها إلى بعض يفيد أنّ هذه الآية:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا ) الآية نزلت بعد قوله تعالى:( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حسناً ) النحل: ٦٧، و قوله:( قُلْ إنّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ ) الأعراف: ٣٣، و قبل قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثمّ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) البقرة: ٢١٩، و قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إنّما الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) المائدة: ٩٠، و هذه آخر الآيات نزولاً.

و يمكن بوجه أن يتصوّر الترتيب على خلاف هذا الّذي ذكرناه فتكون النازلة أوّلاً آية النحل ثمّ الأعراف ثمّ البقرة ثمّ النساء ثمّ المائدة فيكون ما يفيده هذا الترتيب من قصّة النهي القطعيّ عن شرب الخمر على خلاف ما يفيده الترتيب السابق فيكون ما في سورة الأعراف نهياً من غير تفسير ثمّ الّذي في سورة البقرة نهياً باتّاً لكنّ المسلمين كانوا يتعلّلون في الاجتناب حتّى نهوا عنها نهياً جازماً في حال الصلاة في سورة النساء، ثمّ نهياً مطلقاً في جميع الحالات في سورة المائدة و لعلّك إن تدبّرت في مضامين الآيات رجّحت الترتيب السابق على هذا الترتيب، و لم تجوّز بعد النهي الصريح الّذي في آية البقرة

٣٨٣

النهي الّذي في آية النساء المختصّ بحال الصلاة فهذه الآية قبل آية البقرة، إلّا أن نقول إنّ النهي عن الصلاة في حال السكر كناية عن الصلاة كسلان كما ورد في بعض الروايات الآتية.

و أمّا وقوع الآية بين ما تقدّمها و ما تأخّر عنها من الآيات فهي كالمتخلّلة المعترضة إلّا أنّ ههنا احتمالاً ربّما صحّح هذا النحو من التخلّل و الاعتراض - و هو غير عزيز في القرآن - و هو جواز أن تتنزّل عدّة من الآيات ذات سياق واحد متّصل منسجم تدريجاً في خلال أيّام ثمّ تمسّ الحاجة إلى نزول آية أو آيات و لمّا تمّت الآيات النازلة على سياق واحد فتقع الآية بين الآيات كالمعترضة المتخلّلة و ليست بأجنبيّة بحسب الحقيقة و إنّما هي كالكلام بين الكلام لرفع توهّم لازم الدفع، أو مسّ حاجة إلى إيراده نظير قوله تعالى:( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثمّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ) الآيات القيامة: ٢٠، انظر إلى موضع قوله:( لا تُحَرِّكْ‏ - إلى قوله -بَيانَهُ ) .

و على هذا فلا حاجة إلى التكلّف في بيان وجه ارتباط الآية بما قبلها، و ارتباط ما بعدها بها، على أنّ القرآن إنّما نزل نجوماً، و لا موجب لهذا الارتباط إلّا في السور النازلة دفعة أو الآيات الواضحة الاتّصال الكاشف ذلك عن الارتباط بينها.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا - إلى قوله -ما تَقُولُونَ ) المراد بالصلاة المسجد، و الدليل عليه قوله:( وَ لا جُنُباً إلّا عابِرِي سَبِيلٍ ) ، و المقتضي لهذا التجوّز قوله حتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ إذ لو قيل: لا تقربوا المسجد و أنتم سكارى لم يستقم تعليله بقوله:( حتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) أو أفاد التعليل معنى آخر غير مقصود مع أنّ المقصود إفادة أنّكم في حال الصلاة تواجهون مقام العظمة و الكبرياء و تخاطبون ربّ العالمين فلا يصلح لكم أن تسكروا و تبطلوا عقولكم برجس الخمر فلا تعلموا ما تقولون، و هذا المعنى - كما ترى - يناسب النهي عن اقتراب الصلاة لكنّ الصلاة لمّا كانت أكثر ما تقع تقع في المسجد جماعة - على السنة - و كان من القصد أن تذكر أحكام الجنب في دخوله المسجد أوجز في المقال و سبك الكلام على ما ترى.

٣٨٤

و على هذا فقوله:( حتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) في مقام التعليل للنهي عن شرب الخمر بحيث يبقى سكرها إلى حال دخول الصلاة أي نهيناكم عنه لغاية أن تعلموا ما تقولون و ليس غاية للحكم بمعنى أن لا تقربوا إلى أن تعلموا ما تقولون فإذا علمتم ما تقولون فلا بأس.

قوله تعالى: ( وَ لا جُنُباً إلّا عابِرِي سَبِيلٍ ) إلى آخر الآية سيأتي الكلام في الآية في تفسير قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) المائدة: ٦.

( بحث روائي‏)

في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن الفضل عن أبي الحسنعليه‌السلام في قول الله:( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى‏ حتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) قال: هذا قبل أن تحرّم الخمر.

أقول: ينبغي أن تحمّل الرواية على أنّ المراد بتحريم الخمر توضيح تحريمها، و إلّا فهي مخالفة للكتاب فإنّ آية الأعراف تحرّم الخمر بعنوان أنّه إثم صريحاً، و آية البقرة تصرّح بأنّ في الخمر إثماً كبيراً فقد حرّمت الخمر في مكّة قبل الهجرة لكون سورة الأعراف مكّيّة و لم يختلف أحد في أنّ هذه الآية ( آية النساء ) مدنيّة، و مثل هذه الرواية عدّة روايات من طرق أهل السنّة تصرّح بكون الآية نازلة قبل تحريم الخمر، و يمكن أن تكون الرواية ناظرة إلى كون المراد بالآية عن الصلاة كسلان.

و فيه، عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: لا تقم إلى الصلاة متكاسلاً و لا متناعساً و لا متثاقلاً فإنّها من خلل النفاق فإنّ الله نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة و هم سكارى يعني من النوم.

أقول: قوله: فإنّها من خلل النفاق استفادعليه‌السلام ذلك من قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا ) ، فالمتمرّد عن هذا الخطاب منافق غير مؤمن، و قوله: يعني من النوم يحتمل أن يكون من كلام الراوي و يحتمل أن يكون من كلامهعليه‌السلام و يكون تفسيراً للآية من قبيل بطن القرآن، و يمكن أن يكون من الظهر.

و قد وردت روايات اُخر في تفسيره بالنوم رواها العيّاشيّ في تفسيره عن الحلبيّ في روايتين، و الكلينيّ في الكافي بإسناده عن زيد الشحّام عن الصادقعليه‌السلام ، و بإسناده عن زرارة عن الباقرعليه‌السلام ، و روى هذا المعنى أيضاً البخاريّ في صحيحة عن أنس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٣٨٥

( سورة النساء الآيات ٤٤ - ٥٨)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلّوا السّبِيلَ( ٤٤) وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى‏ بِاللّهِ وَلِيّاً وَكَفَى‏ بِاللّهِ نَصِير( ٤٥) مِنَ الّذِينَ هَادُوا يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدّينِ وَلَوْ أَنّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِن لَعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلّا قَلِيل( ٤٦) يَا أَيّهَا الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزّلْنَا مُصَدّقاً لِمَا مَعَكُم مِن قَبْلِ أَن نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدّهَا عَلَى‏ أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنّا أَصْحَابَ السّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُول( ٤٧) إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى‏ إِثْماً عَظِيم( ٤٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنْفُسَهُم بَلِ اللّهُ يُزَكّيْ مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيل( ٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى‏ بِهِ إِثْماً مُبِين( ٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاَءِ أَهْدَى‏ مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيل( ٥١) أُولئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِير( ٥٢) أَم لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَ يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِير( ٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَى‏ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُلْكاً عَظِيم( ٥٤) فَمِنْهُم مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَن صَدّ عَنْهُ وَكَفَى‏ بِجَهَنّمَ سَعِير( ٥٥) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيم( ٥٦) وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلّا ظَلِيل( ٥٧) إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى‏ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُم بِهِ إِنّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِير( ٥٨)

٣٨٦

( بيان)

آيات متعرّضة لحال أهل الكتاب، و تفصيل لمظالمهم و خياناتهم في دين الله، و أوضح ما تنطبق على اليهود، و هي ذات سياق واحد متّصل، و الآية الأخيرة:( إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى‏ أَهْلِها ) الآية، و إن ذكر بعضهم أنّها مكّيّة، و استثناها في آيتين من سورة النساء المدنيّة، و هي هذه الآية، و قوله تعالى:( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) الآية: النساء: ١٧٦، على ما في المجمع لكنّ الآية ظاهرة الارتباط بما قبلها من الآيات، و كذا آية الاستفتاء فإنّها في الإرث، و قد شرع في المدينة.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ) الآية، قد تقدّم في الكلام على الآيات (٣٦ - ٤٢) أنّها مرتبطة بعض الارتباط بهذه الآيات، و قد سمعت القول في نزول تلك الآيات في حقّ اليهود.

و بالجملة يلوح من هذه الآيات أنّ اليهود كانوا يلقون إلى المؤمنين المودّة و يظهرون لهم النصح فيفتّنونهم بذلك، و يأمرونهم بالبخل و الإمساك عن الإنفاق ليمنعوا بذلك سعيهم عن النجاح، و جدّهم في التقدّم و التعالي، و هذا لازم كون تلك الآيات نازلة في حقّ اليهود أو في حقّ من كان يسار اليهود و يصادقهم ثمّ تنحرف عن الحقّ بتحريفهم، و يميل إلى حيث يميلونه فيبخل ثمّ يأمر بالبخل.

و هذا هو الّذي يستفاد من قوله:( وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وَ الله أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ ) إلى آخر الآية.

فمعنى الآيتين - و الله أعلم - أنّ ما نبيّنه لكم تصديق ما بيّناه لكم من حال الممسك عن الإنفاق في سبيل الله بالاختيال و الفخر و البخل و الرئاء أنّك ترى اليهود الّذين اُوتوا نصيباً من الكتاب أي حظّاً منه لا جميعه كما يدّعون لأنفسهم يشترون الضلالة و يختارونها على الهدى، و يريدون أن تضلّوا السبيل فإنّهم و إن لقوكم ببشر الوجه،

٣٨٧

و ظهروا لكم في زيّ الصلاح، و اتّصلوا بكم اتّصال الأولياء الناصرين فذكروا لكم ما ربّما استحسنته طباعكم، و استصوبته قلوبكم لكنّهم ما يريدون إلّا ضلالكم عن السبيل كما اختاروا لأنفسهم الضلالة، و الله أعلم منكم بأعدائكم، و هم أعداؤكم فلا يغرّنّكم ظاهر ما تشاهدون من حالهم فإيّاكم أن تطيعوا أمرهم أو تصغوا إلى أقوالهم المزوّقة و إلقاءآتهم المزخرفة و أنتم تقدّرون أنّهم أولياؤكم و أنصاركم، فأنتم لا تحتاجون إلى ولايتهم الكاذبة، و نصرتهم المرجوّة و كفى بالله وليّاً، و كفى بالله نصيراً، فأيّ حاجة مع ولايته و نصرته إلى ولايتهم و نصرتهم.

قوله تعالى: ( مِنَ الّذينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ - إلى قوله -فِي الدِّينِ ) ( من ) في قوله:( مِنَ الّذينَ ) ، بيانيّة، و هو بيان لقوله في الآية السابقة:( الّذينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ) ، أو لقوله:( بِأَعْدائِكُمْ ) ، و ربّما قيل: إنّ قوله: مِنَ الّذينَ هادُوا خبر لمبتدإ محذوف و هو الموصوف المحذوف لقوله يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ، و التقدير: من الّذين هادوا قوم يحرّفون، أو من الّذين هادوا من يحرّفون، قالوا: و حذف الموصوف شائع كقول ذي الرمّة:

فظلوا و منهم دمعه سابق له

و آخر يشني دمعة العين بالمهل

يريد: و منهم قوم دمعه أو و منهم من دمعه و قد وصف الله تعالى هذه الطائفة بتحريف الكلم عن مواضعه، و ذلك إمّا بتغيير مواضع الألفاظ بالتقديم و التأخير و الإسقاط و الزيادة كما ينسب إلى التوراة الموجودة، و إمّا بتفسير ما ورد عن موسىعليه‌السلام في التوراة و عن سائر الأنبياء بغير ما قصد منه من المعنى الحقّ كما أوّلوا ما ورد في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بشارات التوراة، و من قبل أوّلوا ما ورد في المسيحعليه‌السلام من البشارة، و قالوا: إنّ الموعود لم يجي‏ء بعد، و هم ينتظرون قدومه إلى اليوم.

و من الممكن أن يكون المراد بتحريف الكلم عن مواضعه ما سيذكره تعالى بقوله:( وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا ) ، فتكون هذه الجمل معطوفة على قوله:( يُحَرِّفُونَ ) ، و يكون المراد حينئذ من تحريف الكلم عن مواضعه استعمال القول بوضعه في غير

٣٨٨

المحلّ الّذي ينبغي أن يوضع فيه، فقول القائل: سمعنا من حقّه أن يوضع في موضع الطاعة فيقال:( سَمِعْنا وَ أَطَعْنا ) لا أن يقال: سمعنا و عصينا، أو يوضع: سمعنا موضع التهكّم و الاستهزاء، و كذا قول القائل: اسمع ينبغي أن يقال فيه: اسمع أسمعك الله لا أن يقال:( اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ) أي لا أسمعك الله و راعنا، و هو يفيد في لغة اليهود معنى اسمع غير مسمع.

و قوله:( لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ ) أصل اللّيّ الفتل أي يميلون بألسنتهم فيظهرون الباطل من كلامهم في صورة الحقّ، و الإزراء و الإهانة في صور التأدّب و الاحترام فإنّ المؤمنين كانوا يخاطبون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين ما كانوا يكلّمونه بقولهم: راعنا يا رسول الله، و معناه: أنظرنا و اسمع منّا حتّى نوفي غرضنا من كلامنا، فاغتنمت اليهود ذلك فكانوا يخاطبون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقولهم: راعنا و هم يريدون به ما عندهم من المعنى المستهجن غير الحريّ بمقامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذمّوا به في هذه الآية، و هو قوله تعالى:( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ) ثمّ فسّره بقوله:( وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ) ثمّ عطف عليه كعطف التفسير قوله:( وَ راعِنا ) ثمّ ذكر أنّ هذا الفعال المذموم منهم ليّ بالألسن، و طعن في الدين فقال:( لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ ) و المصدران في موضع الحال و التقدير: لاوين بألسنتهم، و طاعنين في الدين.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ أنّهم قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ ) كون هذا القول منهم و هو مشتمل على أدب الدين، و الخضوع للحقّ خيراً و أقوم ممّا قالوه (مع اشتماله على اللّيّ و الطعن المذمومين و لا خير فيه و لا قوام) مبنيّ على مقايسة الأثر الحقّ الّذي في هذا الكلام الحقّ على ما يظنّونه من الأثر في كلامهم و إن لم يكن له ذلك بحسب الحقيقة، فالمقايسة بين الأثر الحقّ و بين الأثر المظنون حقّاً، و المعنى: أنّهم لو قالوا: سمعنا و أطعنا، لكان فيه من الخير و القوام أكثر ممّا يقدّرون في أنفسهم لهذا اللّيّ و الطعن فالكلام يجري مجرى قوله تعالى:( وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ الله خَيْرٌ مِنَ اللهوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ وَ الله خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) الجمعة: ١١.

قوله تعالى: ( وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلّا قَلِيلًا ) تأييس للسامعين

٣٨٩

من أن تقول اليهود سمعنا و أطعنا فإنّه كلمة إيمان و هؤلاء ملعونون لا يوفّقون للإيمان، و لذلك قيل: لو أنّهم قالوا، الدالّ على التمنّي المشعر بالاستحالة.

و الظاهر أنّ الباء في قوله:( بِكُفْرِهِمْ ) للسببيّة دون الآية، فإنّ الكفر يمكن أن يزاح بالإيمان فهو لا يوجب بما هو كفر لعنة تمنع عن الإيمان منعاً قاطعاً لكنّهم لمّا كفروا (و سيشرح الله تعالى في آخر السورة حال كفرهم) لعنهم الله بسبب ذلك لعناً ألزم الكفر عليهم إلزاماً لا يؤمنون بذلك إلّا قليلاً فافهم ذلك.

و أمّا قوله:( فَلا يُؤْمِنُونَ إلّا قَلِيلًا ) فقد قيل: إنّ( قَلِيلًا ) حال، و التقدير: إلّا و هم قليل أي لا يؤمنون إلّا في حال هم قليل، و ربّما قيل: إنّ( قَلِيلًا ) صفة لموصوف محذوف، و التقدير: فلا يؤمنون إلّا إيماناً قليلاً، و هذا الوجه كسابقه لا بأس به لكن يجب أن يزاد فيه أنّ اتّصاف الإيمان بالقلّة إنّما هو من قبيل الوصف بحال المتعلّق أي إيماناً المؤمن به قليل.

و أمّا ما ذكره بعض المفسّرين أنّ المراد به قليل الإيمان في مقابل كاملة، و ذكر أنّ المعنى: فلا يؤمنون إلّا قليلاً من الإيمان لا يعتدّ به إذ لا يصلح عمل صاحبه، و لا يزكّي نفسه، و لا يرقّي عقله فقد أخطأ، فإنّ الإيمان إنّما يتّصف بالمستقرّ و المستودع، و الكامل و الناقص في درجات و مراتب مختلفة، و أمّا القلّة و تقابلها الكثرة فلا يتّصف بهما، و خاصّة في مثل القرآن الّذي هو أبلغ الكلام.

على أنّ المراد بالإيمان المذكور في الآية أمّا حقيقة الإيمان القلبيّ في مقابل النفاق أو صورة الإيمان الّتي ربّما يطلق عليها الإسلام، و اعتباره على أيّ معنى من معانيه، و الاعتناء به في الإسلام ممّا لا ريب فيه، و الآيات القرآنيّة ناصّة فيه، قال تعالى:( وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى‏ إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ) النساء: ٩٤، مع أنّ الّذي يستثني الله تعالى منه قوله:( وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ ) ، كان يكفي فيه أقلّ درجات الإيمان أو الإسلام الظاهريّ بحفظهم الظاهر بقولهم: سمعنا و أطعنا كسائر المسلمين.

و الّذي أوقعه في هذا الخطأ ما توهّمه أنّ لعنه تعالى إيّاهم بكفرهم لا يجوز

٣٩٠

أن يتخلّف عن التأثير بإيمان بعضهم فقدّر أنّ القلّة وصف الإيمان و هي ما لا يعتدّ به من الإيمان حتّى يستقيم قوله:( لَعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ ) ، و قد غفل عن أنّ هذه الخطابات و ما تشتمل عليه من صفات الذمّ و المؤاخذات و التوبيخات كلّ ذلك متوجّهة إلى المجتمعات من حيث الاجتماع، فالّذي لحقه اللّعن و الغضب و المؤاخذات العامّة الاُخرى إنّما هو المجتمع اليهوديّ من حيث أنّه مجتمع مكوّن فلا يؤمنون و لا يسعدون و لا يفلحون، و هو كذلك إلى هذا اليوم و هم على ذلك إلى يوم القيامة.

و أمّا الاستثناء فإنّما هو بالنسبة إلى الأفراد، و خروج بعض الأفراد من الحكم المحتوم على المجتمع ليس نقضاً لذلك الحكم، و المحوج إلى هذا الاستثناء أنّ الأفراد بوجه هم المجتمع فقوله:( فَلا يُؤْمِنُونَ ) حيث نفي فيه الإيمان عن الأفراد - و إن كان ذلك نفياً عنهم من حيث جهة الاجتماع - و كان يمكن فيه أن يتوهّم أنّ الحكم شامل لكلّ واحد واحد منهم بحيث لا يتخلّص منه أحد استثني فقيل:( إلّا قَلِيلًا ) فالآية تجري مجرى قوله تعالى:( وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إلّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ) النساء: ٦٦.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا ) إلخ الطمس محو أثر الشي‏ء، و الوجه ما يستقبلك من الشي‏ء و يظهر منه، و هو من الإنسان الجانب المقدّم الظاهر من الرأس و ما يستقبلك منه، و يستعمل في الاُمور المعنويّة كما يستعمل في الاُمور الحسّيّة، و الأدبار جمع دبر بضمّتين و هو القفا، و المراد بأصحاب السبت قوم من اليهود كانوا يعدون في السبت فلعنهم الله و مسخهم، قال تعالى:( وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الّتي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ ) الأعراف: ١٦٣، و قال تعالى:( وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الّذينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها ) البقرة: ٦٦.

و قد كانت الآيات السابقة - كما عرفت - متعرّضة لحال اليهود أو لحال طائفة من اليهود، و انجرّ القول إلى أنّهم بإزاء ما خانوا الله و رسوله، و أفسدوا صالح دينهم ابتلوا بلعنة من الله لحق جمعهم، و سلبهم التوفيق للإيمان إلّا قليلاً فعمّ الخطاب لجميع

٣٩١

أهل الكتاب - على ما يفيده قوله:( يا أَيُّهَا الّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) و دعاهم إلى الإيمان بالكتاب الّذي نزّله مصدّقاً لما معهم، و أوعدهم بالسخط الّذي يلحقهم لو تمرّدوا و استكبروا من غير عذر من طمس أو لعن يتّبعانهم اتّباعاً لا ريب فيه.

و ذلك ما ذكره بقوله:( مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى‏ أَدْبارِها ) ، فطمس الوجوه محو هذه الوجوه الّتي يتوجّه بها البشر نحو مقاصدها الحيويّة ممّا فيه سعادة الإنسان المترقّبة و المرجوّة لكن لا المحو الّذي يوجب فناء الوجوه و زوالها و بطلان آثارها بل محواً يوجب ارتداد تلك الوجوه على أدبارها فهي تقصد مقاصدها على الفطرة الّتي فطر عليها لكن لمّا كانت منصوبة إلى الأقفية و مردودة على الأدبار لا تقصد إلّا ما خلّفته وراءها، و لا تمشي إليه إلّا القهقرى.

و هذا الإنسان - و هو بالطبع و الفطرة متوجّه نحو ما يراه خيراً و سعادة لنفسه - كلّما توجّه إلى ما يراه خيراً لنفسه، و صلاحاً لدينه أو لدنياه لم ينل إلّا شرّاً و فساداً، و كلّما بالغ في التقدّم زاد في التأخّر، و ليس يفلح أبداً.

و أمّا لعنهم كلعن أصحاب السبت فظاهره المسخ على ما تقدّم من آيات أصحاب السبت الّتي تخبر عن مسخهم قردة.

و على هذا فلفظة( أَوْ ) في قوله:( أَوْ نَلْعَنَهُمْ ) ، على ظاهرها من إفادة الترديد، و الفرق بين الوعيدين أنّ الأوّل أعني الطمس يوجب تغيير مقاصد المغضوب عليهم من غير تغيير الخلقة إلّا في بعض كيفيّاتها، و الثاني أعني اللّعن كلعن أصحاب السبت يوجب تغيير المقصد بتغيير الخلقة الإنسانيّة إلى خلقة حيوانيّة كالقردة.

فهؤلاء إن تمرّدوا عن الامتثال - و سوف يتمرّدون على ما تفيده خاتمة الآية - كان لهم إحدى سخطتين: إمّا طمس الوجوه، و إمّا اللّعن كلعن أصحاب السبت لكنّ الآية تدلّ على أنّ هذه السخطة لا تعمّهم جميعهم حيث قال:( وُجُوهاً ) فأتى بالجمع المنكّر، و لو كان المراد هو الجميع لم ينكّر، و لتنكير الوجوه و عدم تعيينه نكتة اُخرى هي أنّ المقام لمّا كان مقام الإيعاد و التهديد، و هو إيعاد للجماعة بشرّ لا يحلق إلّا ببعضهم كان إبهام الأفراد الّذين يقع عليهم السخط الإلهيّ أوقع في الإنذار و التخويف لأنّ

٣٩٢

وصفهم على إبهامه يقبل الانطباق على كلّ واحد واحد من القوم فلا يأمن أحدهم أن يمسّه هذا العذاب البئيس، و هذه الصناعة شائعة في اللّسان في مقام التهديد و التخويف.

و في قوله تعالى:( أَوْ نَلْعَنَهُمْ ) ، حيث أرجع فيه ضمير( هم ) الموضوع لاُولي العقل إلى قوله:( وُجُوهاً ) كما هو الظاهر تلويحاً أو تصريحاً بأنّ المراد بالوجوه الأشخاص من حيث استقبالهم مقاصدهم، و بذلك يضعف احتمال أن يكون المراد بطمس الوجوه و ردّها على أدبارها تحويل وجوه الأبدان إلى الأقفية كما قال به بعضهم، و يقوى بذلك احتمال أنّ المراد من تحويل الوجوه إلى الأدبار تحويل النفوس من حال استقامة الفكر، و إدراك الواقعيّات على واقعيّتها إلى حال الاعوجاج و الانحطاط الفكريّ بحيث لا يشاهد حقّاً إلّا أعرض عنه و اشمأزّ منه، و لا باطلاً إلّا مال إليه و تولّع به.

و هذا نوع من التصرّف الإلهيّ مقتاً و نقمة نظير ما يدلّ عليه قوله تعالى:( وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مرّة وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) الأنعام: ١١٠.

فتبيّن ممّا مرّ أنّ المراد بطمس الوجوه في الآية نوع تصرّف إلهيّ في النفوس يوجب تغيير طباعها من مطاوعة الحقّ و تجنّب الباطل إلى اتّباع الباطل و الاحتراز عن الحقّ في باب الإيمان بالله و آياته كما يؤيّده صدر الآية:( آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ ) إلخ، و كذا تبيّن أنّ المراد باللّعن المذكور فيها المسخ.

و ربّما قيل: إنّ المراد بالطمس تحويل وجوه قوم إلى أقفيتهم و يكون ذلك في آخر الزمان أو يوم القيامة، و فيه: أنّ قوله:( أَوْ نَلْعَنَهُمْ ) ينافي ذلك كما تقدّم بيانه.

و ربّما قيل: إنّ المراد بالطمس الخذلان الدنيويّ فلا يزالون على ذلّة و نكبة لا يقصدون غاية ذات سعادة إلّا بدّلها الله عليهم سراباً لا خير فيه، و فيه: أنّه و إن كان لا يبعد كلّ البعد لكنّ صدر الآية - كما تقدّم - ينافيه.

و ربّما قيل: إنّ المراد به إجلاؤهم و ردّهم ثانياً إلى حيث خرجوا منه، و قد

٣٩٣

اُخرجوا من الحجاز إلى أرض الشام و فلسطين، و قد جاؤوا منهما، و فيه أنّ صدر الآية بسياقه يؤيّد غير ذلك كما عرفته.

نعم من الممكن أن يقال: إنّ المراد به تقليب أفئدتهم، و طمس وجوه باطنهم من الحقّ إلى نحو الباطل فلا يفلحون بالإيمان بالله و آياته، ثمّ إنّ الدين الحقّ لمّا كان هو الصراط الّذي لا ينجح إنسان في سعادة حياته الدنيا إلّا بركوبه و الاستواء عليه، و ليس للناكب عنه إلّا الوقوع في كانون الفساد، و السقوط في مهابط الهلاك، قال تعالى:( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذي عَمِلُوا ) الروم: ٤١، و قال تعالى:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتّقوا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ ) الأعراف: ٩٦، و لازم هذه الحقيقة أنّ طمس الوجوه عن المعارف الحقّة الدينيّة طمس لها عن حقائق سعادة الحياة الدنيا بجميع أقسامها فالمحروم من سعادة الدين محروم من سعادة الدنيا من استقرار الحال و تمهّد الأمن و سؤدد الاستقلال و الملك، و كلّ ما يطيب به العيش، و يدرّ به ضرع العمل اللّهمّ إلّا على قدر ما نسرّب الموادّ الدينيّة في مجتمعهم و على هذا فلا بأس بالجمع بين الوجوه المذكورة جلّها أو كلّها.

قوله تعالى: ( وَ كانَ أَمْرُ الله مَفْعُولًا ) إشارة إلى أنّ الأمر لا محالة واقع، و قد وقع على ما ذكره الله في كتابه من لعنهم و إنزال السخط عليهم، و إلقاء العداوة و البغضاء بينهم إلى يوم القيامة، و غير ذلك في آيات كثيرة.

قوله تعالى: ( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) ظاهر السياق أنّ الآية في مقام التعليل للحكم المذكور في الآية السابقة أعني قوله:( آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ ) إلخ، فيعود المعنى إلى مثل قولنا: فإنّكم إن لم تؤمنوا به كنتم بذلك مشركين، و الله لا يغفر أن يشرك به فيحلّ عليكم غضبه و عقوبته فيطمس وجوهكم بردّها على أدبارها أو يلعنكم فنتيجة عدم المغفرة هذه ترتّب آثار الشرك الدنيويّة من طمس أو لعن عليه.

و هذا هو الفرق بين مضمون هذه الآية، و قوله تعالى:( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ

٣٩٤

بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً ) النساء: ١١٦، فإنّ هذه الآية (آية ٤٨)، تهدّد بآثار الشرك الدنيويّة، و تلك (آية ١١٦)، تهدّد بآثاره الاُخرويّة، و ذلك بحسب الانطباق على المورد و إن كانتا بحسب الإطلاق كلتاهما شاملتين لجميع الآثار.

و مغفرته سبحانه و عدم مغفرته لا يقع شي‏ء منهما وقوعاً جزافيّاً بل على وفق الحكمة، و هو العزيز الحكيم، فأمّا عدم مغفرته للشرك فإنّ الخلقة إنّما تثبت على ما فيها من الرحمة على أساس العبوديّة و الربوبيّة، قال تعالى:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات: ٥٦، و لا عبوديّة مع شرك، و أمّا مغفرته لسائر المعاصي و الذنوب الّتي دون الشرك فلشفاعة من جعل له الشفاعة من الأنبياء و الأولياء و الملائكة و الأعمال الصالحة على ما مرّ تفصيله في بحث الشفاعة في الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

و أمّا التوبة فالآية غير متعرّضة لشأنها من حيث خصوص مورد الآية لأنّ موردها عدم الإيمان و لا توبة معه، على أنّ التوبة يغفر معها جميع الذنوب حتّى الشرك، قال تعالى:( قُلْ يا عِبادِيَ الّذينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جميعاً أنّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنِيبُوا إِلى‏ ربّكمْ ) الزمر: ٥٤.

و المراد بالشرك في الآية ما يعمّ الكفر لا محالة فإنّ الكافر أيضاً لا يغفر له البتّة و إن لم يصدق عليه المشرك بعنوان التسمية بناءً على أنّ أهل الكتاب لا يسمّون في القرآن مشركين و إن كان كفرهم بالقرآن و بما جاء به النبيّ شركاً منهم أشركوا به (راجع تفسير آية ٢٢١ من البقرة)، و إذا لم يؤمن أهل الكتاب بما نزّل الله مصدّقاً لما معهم فقد كفروا به، و أشركوا ما في أيديهم بالله سبحانه فإنّه شي‏ء لا يريده الله على الصفة الّتي أخذوه بها فالمؤمن بموسىعليه‌السلام إذا كفر بالمسيحعليه‌السلام فقد كفر بالله و أشرك به موسى، و لعلّ ما ذكرناه هو النكتة لقوله تعالى:( أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) دون أن يقول: المشرك أو المشركين.

و قوله تعالى:( لِمَنْ يَشاءُ ) تقييد للكلام لدفع توهّم أنّ لأحد من الناس تأثيراً

٣٩٥

فيه تعالى يوجب به عليه المغفرة فيحكم عليه تعالى حاكم أو يقهره قاهر، و تعليق الاُمور الثابتة في القرآن على المشيئة كثير و الوجه في كلّها أو جلّها دفع ما ذكرناه من التوهّم كقوله تعالى:( خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إلّا ما شاءَ ربّك عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) هود: ١٠٨.

على أنّ من الحكمة إلّا يغفر لكلّ مذنب ذنبه و إلّا لغا الأمر و النهي، و بطل التشريع، و فسد أمر التربية الإلهيّة، و إليه الإشارة بقوله:( لِمَنْ يَشاءُ ) ، و من هنا يظهر أن كلّ واحد من المعاصي لا بدّ أن لا يغفر بعض أفراده و إلّا لغي النهي عنه، و هذا لا ينافي عموم لسان آيات أسباب المغفرة فإنّ الكلام في الوقوع دون الوعد على وجه الإطلاق، و من المعاصي ما يصدر عمّن لا يغفر له بشرك و نحوه.

فمعنى الآية أنّه تعالى لا يغفر الشرك من كافر و لا مشرك، و يغفر سائر الذنوب دون الشرك بشفاعة شافع من عباده أو عمل صالح، و ليس هو تعالى مقهوراً أن يغفر كلّ ذنب من هذه الذنوب لكلّ مذنب بل له أن يغفر و له أن لا يغفر، كلّ ذلك لحكمة.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ) قال الراغب: أصل الزكاة النموّ الحاصل من بركة الله تعالى - إلى أن قال -: و تزكية الإنسان نفسه ضربان: أحدهما: بالفعل و هو محمود، و إليه قصد بقوله:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ) ، و الثاني بالقول كتزكيته لعدل غيره، و ذلك مذموم أن يفعل الإنسان بنفسه، و قد نهى الله تعالى عنه فقال:( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ) ، و نهيه عن ذلك تأديب لقبح مدح الإنسان نفسه عقلاً و شرعاً، و لهذا قيل لحكيم: ما الّذي لا يحسن و إن كان حقّاً؟ فقال: مدح الرجل نفسه، انتهى كلامه.

و لمّا كانت الآية في ضمن الآيات المسرودة للتعرّض لحال أهل الكتاب كان الظاهر أنّ هؤلاء المزكّين لأنفسهم هم أهل الكتاب أو بعضهم، و لم يوصفوا بأهل الكتاب لأنّ العلماء بالله و آياته لا ينبغي لهم أن يتلبّسوا بأمثال هذه الرذائل فالإصرار عليها انسلاخ عن الكتاب و علمه.

و يؤيّده ما حكاه الله تعالى عن اليهود من قولهم:( نَحْنُ أَبْناءُ الله وَ أَحِبَّاؤُهُ ) المائدة: ١٨،

٣٩٦

و قولهم:( لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلّا أيّاماً مَعْدُودَةً ) البقرة: ٨٠، و زعمهم الولاية كما في قوله تعالى:( قُلْ يا أَيُّهَا الّذينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لله مِنْ دُونِ النَّاسِ ) الجمعة: ٦، فالآية تكنّي عن اليهود، و فيها استشهاد لما تقدّم ذكره في الآيات السابقة من استكبارهم عن الخضوع للحقّ و اتّباعه، و الإيمان بآيات الله سبحانه، و استقرار اللّعن الإلهيّ فيهم، و أنّ ذلك من لوازم إعجابهم بأنفسهم و تزكيتهم لها.

قوله تعالى: ( بَلِ الله يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) إضراب عن تزكيتهم لأنفسهم، و ردّ لهم فيما زكّوه، و بيان أنّ ذلك من شؤون الربوبيّة يختصّ به تعالى فإنّ الإنسان و إن أمكن أن يتّصف بفضائل، و يتلبّس بأنواع الشرف و السؤدد المعنويّ غير أنّ اعتناءه بذلك و اعتماده عليه لا يتمّ إلّا بإعطائه لنفسه استغناء و استقلالاً و هو في معنى دعوى الاُلوهيّة و الشركة مع ربّ العالمين، و أين الإنسان الفقير الّذي لا يملك لنفسه ضرّاً و لا نفعاً و لا موتاً و لا حياةً و الاستغناء عن الله سبحانه في خير أو فضيلة؟ و الإنسان في نفسه و في جميع شؤون نفسه، و الخير الّذي يزعم أنّه يملكه، و جميع أسباب ذلك الخير، مملوك لله سبحانه محضاً من غير استثناء، فما ذا يبقى للإنسان؟.

و هذا الغرور و الإعجاب الّذي يبعث الإنسان إلى تزكية نفسه هو العجب الّذي هو من اُمّهات الرذائل، ثمّ لا يلبث هذا الإنسان المغرور المعتمد على نفسه دون أن يمسّ غيره فيتولّد من رذيلته هذه رذيلة اُخرى، و هي رذيلة التكبّر و يتمّ تكبّره في صورة الاستعلاء على غيره من عباد الله فيستعبد به عباد الله سبحانه، و يجري به كلّ ظلم و بغي بغير حقّ و هتك محارم الله و بسط السلطة على دماء الناس و أعراضهم و أموالهم.

و هذا كلّه إذا كان الوصف وصفاً فرديّاً و أمّا إذا تعدّى الفرد و صار خلقاً اجتماعيّاً و سيرة قوميّة فهو الخطر الّذي فيه هلاك النوع و فساد الأرض، و هو الّذي يحكيه تعالى عن اليهود إذ قالوا:( لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) آل عمران: ٧٥.

فما كان لبشر أن يذكر لنفسه من الفضيلة ما يمدحها به سواء كان صادقاً فيما يقول أو كاذباً لأنّه لا يملك ذلك لنفسه لكنّ الله سبحانه لمّا كان هو المالك لما ملّكه، و المعطي

٣٩٧

الفضل لمن يشاء و كيف يشاء كان له أن يزكّي من شاء تزكية عمليّةً بإعطاء الفضل و إفاضة النعمة، و أن يزكّي من يشاء تزكية قوليّة يذكره بما يمتدح به، و يشرّفه بصفات الكمال كقوله في آدم و نوح:( إِنَّ الله اصْطَفى‏ آدَمَ وَ نُوحاً ) آل عمران: ٣٣، و قوله في إبراهيم و إدريس:( أنّه كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ) مريم: ٤١، ٥٦، و قوله في يعقوب:( وَ أنّه لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) يوسف: ٦٨، و قوله في يوسف:( أنّه مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) يوسف: ٢٤، و قوله في حقّ موسى:( أنّه كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا ) مريم: ٥١، و قوله في حقّ عيسى:( وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) آل عمران: ٤٥، و قوله في سليمان و أيّوب:( نِعْمَ الْعَبْدُ أنّه أَوَّابٌ ) ص: ٣٠، ٤٤، و قوله في محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إِنَّ وَلِيِّيَ الله الّذي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) الأعراف: ١٩٦، و قوله:( وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) القلم: ٤، و كذا قوله تعالى في حقّ عدّة من الأنبياء ذكرهم في سور الأنعام و مريم و الأنبياء و الصافّات و ص و غيرها.

و بالجملة فالتزكية لله سبحانه حقّ لا يشاركه فيه غيره إذ لا يصدر عن غيره إلّا من ظلم و إلى ظلم، و لا يصدر عنه تعالى إلّا حقّاً و عدلاً يقدّر بقدره لا يفرط و لا يفرّط، و لذا ذيّل قوله: بل الله يزكّي من يشاء بقوله - و هو في معنى التعليل -:( وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) .

و قد تبيّن ممّا مرّ أنّ تزكيته تعالى و إن كانت مطلقة تشمل التزكية العمليّة و التزكية القوليّة لكنّها تنطبق بحسب مورد الكلام على التزكية القوليّة.

قوله تعالى: ( وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) الفتيل فعيل بمعنى المفعول من الفتل و هو اللّيّ قيل: المراد به ما يكون في شقّ النواة، و قيل: هو ما في بطن النواة، و قد ورد في روايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام : أنّه النقطة الّتي على النواة، و النقير ما في ظهرها، و القطمير قشرها، و قيل: هو ما فتلته بين إصبعيك من الوسخ، و كيف كان هو كناية عن الشي‏ء الحقير الّذي لا يعتدّ به.

و قد بان بالآية الشريفة أمران: أحدهما: أن ليس لصاحب الفضل أن يعجبه فضله و يمدح نفسه بل هو ممّا يختصّ به تعالى فإنّ ظاهر الآية أنّ الله يختصّ به أن يزكّي كلّ من جاز أن يتلبّس بالتزكية فليس لغير صاحب الفضل أيضاً أن يزكّيه إلّا بما زكّاه

٣٩٨

الله به، و ينتج ذلك أنّ الفضائل هي الّتي مدحها الله و زكّاها فلا قدر لفضل لا يعرفه الدين و لا يسمّيه فضلاً، و لا يستلزم ذلك أن تبطل آثار الفضائل عند الناس فلا يعرفوا لصاحب الفضل فضله، و لا يعظّموا قدره بل هي شعائر الله و علائمه، و قد قال تعالى:( وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ الله فإنّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) الحجّ: ٣٢، فعلى الجاهل أن يخضع للعالم و يعرف له قدره فإنّه من اتّباع الحقّ و قد قال تعالى:( هَلْ يَسْتَوِي الّذينَ يَعْلَمُونَ وَ الّذينَ لا يَعْلَمُونَ ) الزمر: ٩، و إن لم يكن للعالم أن يتبجّح بعلمه و يمدح نفسه، و الأمر في جميع الفضائل الحقيقيّة الإنسانيّة على هذا الحال.

و ثانيهما: أنّ ما ذكره بعض باحثينا، و اتّبعوا في ذلك ما ذكره المغاربة أنّ من الفضائل الإنسانيّة الاعتماد بالنفس أمر لا يعرفه الدين، و لا يوافق مذاق القرآن، و الّذي يراه القرآن في ذلك هو الاعتماد بالله و التعزّز بالله قال تعالى:( الّذينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حسبنَا الله وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ ) آل عمران: ١٧٣، و قال:( أَنَّ الْقوّة لله جميعاً ) البقرة: ١٦٥، و قال:( إِنَّ الْعزّة لله جميعاً ) يونس: ٦٥، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: ( انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ ) فتزكيتهم أنفسهم ببنوّة الله و حبّه و ولايته و نحو ذلك افتراء على الله إذ لم يجعل الله لهم ذلك، على أنّ أصل التزكية افتراء و إن كانت عن صدق فإنّه - كما تقدّم بيانه - إسناد شريك إلى الله و ليس له في ملكه شريك قال تعالى:( وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ) الإسراء: ١١١.

و قوله:( وَ كَفى‏ بِهِ إِثْماً مُبِيناً ) أي لو لم يكن في التزكية إلّا أنّه افتراء على الله لكفى في كونه إثماً مبيناً، و التعبير بالإثم - و هو الفعل المذموم الّذي يمنع الإنسان من نيل الخيرات و يبطئها - هو المناسب لهذه المعصية لكونه من أشراك الشرك و فروعه، يمنع نزول الرحمة، و كذا في شرك الكفر الّذي يمنع المغفرة كما وقع في الآية السابقة:( وَ مَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدِ افْتَرى‏ إِثْماً عَظِيماً - بعد قوله -إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) .

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ ) ، الجبت و الجبس كلّ ما لا خير فيه، و قيل: و كلّ ما يعبد من دون الله سبحانه،

٣٩٩

و الطاغوت مصدر في الأصل كالطغيان يستعمل كثيراً بمعنى الفاعل، و قيل: هو كلّ معبود من دون الله، و الآية تكشف عن وقوع واقعة قضى فيها بعض أهل الكتاب للّذين كفروا على الّذين آمنوا بأنّ سبيل المشركين أهدى من سبيل المؤمنين، و ليس عند المؤمنين إلّا دين التوحيد المنزّل في القرآن المصدّق لما عندهم، و لا عند المشركين إلّا الإيمان بالجبت و الطاغوت فهذا القضاء اعتراف منهم بأنّ للمشركين نصيباً من الحقّ، و هو الإيمان بالجبت و الطاغوت الّذي نسبه الله تعالى إليهم ثمّ لعنهم الله بقوله:( أُولئِكَ الّذينَ لَعَنَهُمُ الله ) الآية.

و هذا يؤيّد ما ورد في أسباب النزول أنّ مشركي مكّة طلبوا من أهل الكتاب أن يحكموا بينهم و بين المؤمنين فيما ينتحلونه من الدين فقضوا لهم على المؤمنين، و سيأتي الرواية في ذلك في البحث الروائيّ الآتي.

و قد ذكر كونهم ذوي نصيب من الكتاب ليكون أوقع في وقوع الذمّ و اللّوم عليهم فإنّ إيمان علماء الكتاب بالجبت و الطاغوت و قد بيّن لهم الكتاب أمرهما أشنع و أفظع.

قوله تعالى: ( أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ - إلى قوله -نَقِيراً ) النقير فعيل بمعنى المفعول و هو المقدار اليسير الّذي يأخذه الطير من الأرض بنقر منقاره، و قد مرّ له معنى آخر في قوله:( وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) الآية.

و قد ذكروا أنّ( أَمْ ) في قوله:( أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ ) ، منقطعة و المعنى: بل أ لهم نصيب من الملك، و الاستفهام إنكاريّ أي ليس لهم ذلك.

و قد جوّز بعضهم أن تكون( أم ) متّصلة، و قال: إنّ التقدير: أ هم أولى بالنبوّة أم لهم نصيب من الملك؟ و ردّ بأنّ حذف الهمزة إنّما يجوز في ضرورة الشعر، و لا ضرورة في القرآن، و الظاهر أنّ أم متّصلة و أنّ الشقّ المحذوف ما يدلّ عليه الآية السابقة:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ) الآية، و التقدير: أ لهم كلّ ما حكموا به من حكم أم لهم نصيب من الملك أم يحسدون الناس؟ و على هذا تستقيم الشقوق و تترتّب، و يتّصل الكلام في سوقه.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

منهما خرج عن خطّ الإحسان فلن يشمله رضا الله ولطفه

الثانية : أنّه يستفاد من الروايات الإسلامية أنّ أصحاب النّبي وإن امتازوا بشرف صحبته ، إلّا أنّ من يأتي بعدهم في الفترات المقبلة وهم ذوو عمل صالح وإيمان راسخ أفضل منهم من جهة واحدة وهي أنّ أصحاب النّبي شهدوا معاجزه بجميع أنواعها غير أنّ الآخرين اتبعوا منهاجه دون مشاهدتها وساروا على هداه بالإفادة من الدلائل الأخر

ونقرأ في بعض أحاديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سأله أصحابه : «نحن إخوانك يا رسول الله؟! قال : لا أنتم أصحابي ، وإخواني الذين يأتون بعدي. آمنوا بي ولم يروني ، وقال : للعامل منهم أجر خمسين منكم ، قالوا : بل منهم يا رسول الله؟! قال : بل منكم ردّدها ثلاثا ، ثمّ قال : لأنّكم تجدون على الخير أعوانا»(١) .

كما نقل في صحيح مسلم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «وددت أنّا قد رأينا إخواننا ، قالوا : أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟! فقال : أنتم أصحابي وإخوانا الذين لم يأتوا بعد»(٢) .

ويؤيّد العقل والمنطق هذه المقولة أيضا حيث إنّ من لم يدركوا رسول الله ولم يتعلّموا بين يديه وهم في الوقت ذاته مثل أصحابه من حيث الإيمان والعمل الصالح فهم أفضل من الصحابة

الثالثة : إنّ هذا الكلام من وجهة النظر التاريخية مقدوح فيه كثيرا لأنّ بعض الصحابة بعد زمان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل حتى في عصره حاد عن جادّة الصواب

فكيف يمكن أن نبرّئ الذين أشعلوا نار فتنة «الجمل» وقتلوا ما قتلوا وحملوا على خليفة رسول الله حقّا بالسيف ولا نعدّهم آثمين خاطئين

أو أن نقول إنّ الذين اجتمعوا في النهروان وصفّين وثاروا على وصي رسول الله

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٩ ، ص ٦١.

(٢) صحيح مسلم ، ج ١ ، الحديث ٣٩.

٥٠١

وخليفته المنتخب من قبل المسلمين وسفكوا الدماء الغزيرة مشمولون برضوان الله ولا غبار عليهم من الذنب والإثم؟!

وأعجب من ذلك كله أن يعتذر ـ عن أولئك الذين أخطأوا كلّ هذه الأخطاء وفعلوا ما فعلوا ـ بأنّهم مجتهدون ، والمجتهد معذور! هكذا وجّهوا الأمر!!

وإذا أمكن أن توجّه أمثال هذه الذنوب الكبيرة على أنّها اجتهاد فلا مجال لملامة أي قاتل ، ولا داعي لإقامة حدود الله في شأنه!! فلعلّه اجتهد فأخطأ!!

وبتعبير آخر : أنّه قد تقابلت في معركة الجمل وصفّين والنهروان طائفتان متحاربتان ومن المسلّم به قطعا أنّهما لم تكونا جميعا على الحق ، لأنّ الجمع بين الضدّين محال ، فمع هذا التقدير كيف يمكن القول بأنّ الطائفتين كلتيهما مشمولتان برضا الله ، والمسألة لم تكن من المسائل العويصة الملتوية ولم يكن التمييز بين الحق والباطل صعبا ولا مشكلا فالجميع كانوا يعرفون أنّ علياعليه‌السلام أمّا طبقا لنص النّبي عليه أو بانتخاب المسلمين هو الخليفة الحق ومع هذا فقد واجهوه بالسيف ، فكيف يوجه هذا العمل عن طريق الاجتهاد؟

ولم لا يوجّهون قيام «أصحاب الردّة» في زمان أبي بكر عن طريق الاجتهاد وعدوّهم مرتدّين رسما غير أنّهم برّأوا أصحاب الجمل وصفّين والنهروان من أي ذنب وإثم!!؟

وعلى كلّ حال يبدو أنّ مسألة «تنزيه الصحابة» بصورة مطلقة كانت حكما سياسيا لتحفّظ جماعة بعد النّبي موقعها وتعوّل على هذا الحكم ، وتصون نفسها من الانتقاد

وهذا الموضوع لا ينسجم مع حكم العقل ولا مع التواريخ الإسلامية المسلّم بها

وما أحسن أن نحتكم في شأن أصحاب النّبي في الوقت الذي نجلّهم ونحترمهم ذاته ـ إلى معيار يقضي عليهم بالحق من خلال أعمالهم وعقائدهم عبر حياتهم من

٥٠٢

البداية حتى النهاية ، ذلك المعيار الذي أفدناه من القرآن الكريم وذلك المعيار الذي وزن النّبي به صحابته

٢ ـ المحبّة الإسلامية المتبادلة

في الروايات الإسلامية الواردة في تفسير الآية الأخيرة من سورة الفتح تأكيد لا مزيد عليه على قوله تعالى :( رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ) ومن بين هذه الروايات ما نقرأه عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ولا يخونه ويحقّ على المسلم الاجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف والمواساة لأهل الحاجة وتعاطف بعضهم على بعض ، حتى تكونوا كما أمركم اللهعزوجل رحماء بينكم متراحمين ، مغتّمين لما غاب عنكم من أمرهم على ما مضى عليه معشر الأنصار على عهد رسول الله»(١) .

إلّا أنّ العجيب أنّ المسلمين في هذا العصر لا يقتدون بتعاليم هذه الآية المؤثرة وما تنقله من خصائص أصحاب رسول الله والمؤمنين الصادقين ، وربّما تحامل بعضهم على بعض وأثار الحفيظة وسفك الدماء وهو ما لم يفعله أعداء الإسلام أحيانا

وربّما ارتبطوا بالكفّار وأنشئوا علائق المحبّة حتى تظن أنّهم إخوان من أصل واحد ونسب واحد.

فلا خبر عن الركوع والسجود ولا النيّات الخالصة ولا ابتغاء فضل الله ولا آثار السجود في سيماهم ولا الزرع الذي أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه!!

والعجيب أيضا أنّه كلّما ابتعدنا عن الأصول القرآنية هذه منينا بالذل والنكبة أكثر فأكثر ومع ذلك لا نلتفت من أين نؤكل؟! وما تزال حميّة الجاهلية تصدّنا عن

__________________

(١) أصول الكافي ـ طبقا لتفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٧٧ ، الحديث ٩١.

٥٠٣

التفكير وإعادة النظر والعودة نحو القرآن

اللهمّ نبّهنا من نومة الغافلين!

اللهمّ وفّقنا أن نحيى فيها خلال أصحاب رسول الله وصفاتهم التي ذكرتها هذه الآيات البيّنات

اللهمّ ارزقنا الشدّة على أعدائنا والرحمة فيما بيننا والتسليم لأمرك ، والاهتمام الى ما توليه إيّانا من العنايات الخاصّة والجد والسعي إلى النهوض بالمجتمع الإسلامي إلى الخير والازدهار.

اللهمّ ارزقنا فتحا مبينا يتحرّك في ظلّه المجتمع الإسلامي وأن نوفّق إلى نشر تعاليم هذا الدين القويم الذي يهب الحياة للناس في هذا العصر الذي هو أحوج الى المعنويات من أي وقت آخر ، وأن نفتح كلّ يوم قلوبا جديدة إلى نور الإسلام

آمين يا ربّ العالمين

انتهت سورة الفتح

* * *

٥٠٤
٥٠٥

سورة

الحجرات

مدنيّة

وعدد آياتها ثماني عشرة آية

٥٠٦

«سورة الحجرات»

محتوى السورة :

هذه السورة التي لا تتجاوز ١٨ آية تحمل في ما تحمل مسائل مهمة تتعلّق بشخص النّبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمجتمع الإسلامي بعضه ببعض وحيث أنّ أغلب المسائل الأخلاقية تدور في هذه السورة فيمكن أن نسمّي هذه السورة بـ «سورة الأخلاق والآداب»

ويمكن على الإجمال تقسيم مضامين السورة على النحو التالي :

القسم الأوّل : آيات بداية السورة وهي تبين طريقة التعامل مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآدابها وما ينبغي على المسلمين مراعاته من أصول عند حضرة النبي.

الثّاني : تشتمل هذه السورة على سلسلة من أصول «الأخلاق الاجتماعية» المهمّة التي إن عمل بها وعلى هداها حفظت المحبّة والصفاء والأمن والاتحاد في المجتمع الإسلامي ، وعلى العكس من ذلك لو أهملت تكون سببا للشقاء والنفاق والتفرّق وعدم الأمن

الثّالث : الأوامر الإرشادية المتعلّقة بكيفية مواجهة الاختلافات والتنازع أو القتال الذي قد يقع بين المسلمين أحيانا

الرابع : يتحدّث عن معيار قيمة الإنسان عند الله وأهمية التقوى!

الخامس : يعالج قضية أنّ الإيمان ليس بالقول فحسب بل لا بدّ من ظهور آثاره في أعمال الإنسان والجهاد بالمال والنفس ـ إضافة إلى الإعتقاد في القلب ـ

السادس : يتحدّث عن أنّ الإيمان والإسلام هما هدية إلهية للمؤمنين وبدلا من

٥٠٧

أن يمنّوا بالإسلام أو الإيمان ينبغي أن يشكروا الله على هذه الهدية إذ شملهم بها

السابع : والأخير يتحدّث عن علم الله واطلاعه وعن جميع أسرار الوجود الخفية وأعمال الإنسان ، وهذا القسم بمثابة الضامن لتنفيذ جميع هذه الأقسام الواردة في هذه السورة!

وتسمية هذه السورة بسورة «الحجرات» لورود هذه الكلمة في الآية الرابعة منها وسنبيّن تفسيرها في السطور التالية

فضيلة تلاوة هذه السورة!

يكفي أن نعرف فضيلة هذه السورة من حديث نقرؤه عن النّبي في فضلها!

«من قرأ سورة الحجرات اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أطاع الله وعصاه».

كما نقرأ حديثا آخر عن الإمام الصادق في فضلها يقول : «من قرأ سورة الحجرات في كلّ ليلة أو في كلّ يوم كان من زوّار محمّد»

وبديهي أنّ كلّ هذه الحسنات التي هي بعدد المطيعين والعاصين إنّما تكون في صورة ما لو أخذنا بنظر الإعتبار كلا من الفريقين وأن نفكّر جيدا فنجعل مسيرنا وفقا لمنهج المطيعين ونبتعد عن منهج العاصين.

ونيل زيارة النّبي أيضا فرع على أن نعمل وفق الآداب المذكورة في الحضور عندهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ التلاوة في كلّ مكان مقدمة للعمل

* * *

٥٠٨

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) )

سبب النّزول

ذكر المفسّرون لنزول الآية الأولى من هذه السورة شأنا بل شؤونا كما ذكروا

٥٠٩

لنزول الآيات التي بعدها شؤونا أخر!

فمن الشؤون التي ذكروها لنزول الآية الأولى أنّه : حين أراد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتوجّه إلى خيبر رغب في أن يخلّف شخصا معيّنا مكانه في المدينة وينصّبه خليفة عنه ، فاقترح عمر شخصا آخر ، فنزلت الآية الآنفة وأمرت أن لا تقدموا بين يدي الله ورسوله(١) .

وقال آخرون : كان بعض المسلمين بين الفينة والأخرى يقولون لو نزلت فينا آية لكان أفضل ، فنزلت الآية أن لا تقدموا بين يدي الله ورسوله(٢) .

وقال بعضهم ، إنّ الآية تشير إلى أعمال بعض المسلمين الذين كانوا يؤدّون عباداتهم قبل أوانها ، فنزلت الآية لتنهاهم عن مثل هذه الأعمال(٣) .

وأمّا في شأن الآية الثانية فقد قال المفسّرون إنّ طائفة من «بني تميم» وأشرافهم وردوا المدينة ، فلمّا دخلوا مسجد النّبي نادوا بأعلى صوتهم من وراء الحجرات التي كانت للنبي : يا محمّد أخرج إلينا. فأزعجت هذه الصرخات غير المؤدّبة النبي ، فخرج إليهم فقالوا له : جئناك لنفاخرك فأجز شاعرنا وخطيبنا ليتحدّث عن مفاخر قبيلتنا ، فأجازهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنهض خطيبهم وتحدّث عن فضائلهم الخيالية الوهميّة كثيرا

فأمر النّبي (ثابت بن قيس) أن يردّ عليهم(٤) فنهض وخطب خطبة بليغة فلم يبق لخطبة أولئك من أثرا!

ثمّ نهض شاعرهم وألقى قصيدة في مدحهم فنهض «حسان بن ثابت» فردّ عليه بقصيدة شافية كافية!

فقام رجل من أشراف تلك القبيلة واسمه «الأقرع» فقال : إنّ هذا الرجل يعني

__________________

(١ ، ٢ ، ٣) ـ تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦١٢١.

(٤) كان «ثابت بن قيس» خطيب الأنصار وخطيب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما كان حسّان بن ثابت شاعره [أسد الغابة ، ج ١ ، ص ٢٢٩].

٥١٠

محمّدا خطيبه أبلغ من خطيبنا وشاعره أجدر من شاعرنا وصدى صوته أبعد مدى من صوتنا

فأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تهدى لهم هدايا ليكتسب قلوبهم إليه فكان أن تأثّروا بمثل هذه المسائل فاعترفوا بنبوّته!

فالآيات محل البحث ناظرة إلى هذه القضية والأصوات من خلف الحجرات.

وهناك شأن آخر لنزول الآية بل هو يتعلّق بالآية الأولى وما بعدها وهو أنّه في السنة التاسعة للهجرة [حين كانت القبائل تفد على النّبي للسلام عليه أو للمعاهدة معه] وقد عرف العام ذلك «بعام الوفود» وعند وصول ممثلي قبيلة تميم إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال أبو بكر : ليكن «القعقاع» (أحد أشراف تلك القبيلة) أميرها ، واقترح عمر أن يكون «الحابس بن أقرع» أميرها. فقال أبو بكر لعمر أردت أن تخالفني ، فردّ عليه عمر بأنّه لم يرد مخالفته أبدا ، فتعالى الصياح والضجيج بينهما ، فنزلت الآيات الآنفة أي لا تقترحوا في الأمور على النّبي شيئا ولا تتقدّموا عليه في العمل ولا ترفعوا أصواتكم عند بيت النبي(١) .

* * *

التّفسير

آداب الحضور عند النبي :

كما أشرنا آنفا أنّ في محتوى هذه السورة قسما من المباحث الأخلاقية المهمّة والأوامر والتعليمات الانضباطية التي تدعونا إلى تسمية هذه السورة بسورة الأخلاق ، وهذه المسائل والتعليمات تقع في الآيات الأوّل من السورة محل البحث ـ والآيات هذه على نحوين من التعليمات.

__________________

(١) نقل ذلك القرطبي في تفسيره ، ج ٩ ، ص ٦١٢١ ، وسيد قطب في ظلاله ، ج ٧ ، ص ٥٢٤ ، وابن هشام في سيرته ص ٢٠٦ فما بعد (مع شيء من التفاوت والاختلاف) كما ورد في صحيح البخاري ، ج ٦ ، ص ١٧٢ ، في تفسيره سورة الحجرات

٥١١

الأول : عدم التقدّم على الله ورسوله وعدم رفع الصوت عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

فتقول الآية الأولى في هذا الصدد :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) .

والمراد من عدم التقديم بين يدي الله ورسوله هو أن لا يقترح عليهما في الأمور ، وترك العجلة والإسراع أمام أمر الله ورسوله

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين أرادوا أن يحدّدوا مفهوم الآية وجعلوه منحصرا بأداء العبادات قبل وقتها ، أو التكلّم قبل كلام رسول الله وأمثال ذلك ، إلّا أنّه من الواضح أنّ للآية مفهوما واسعا يشمل أي تقدّم وإسراع في كلّ خطّة ومنهج(١) .

إنّ مسئولية انضباط السائرين إزاء القادة وخاصة إزاء القادة الإلهيين تقتضي ألّا يتقدّموا عليهم في أي عمل وقول ولا يعجل أحد عندهم.

وبالطبع فإنّ هذا الكلام لا يعني بأنّه لا يجوز لهم أن يتشاوروا مع النّبي إذا كان لديهم شيء يجدر بيانه ، بل المراد منه إلّا يعجلوا ويبادروا بالتصميم قبل أن يوافق النّبي على ذلك! حتى أنّه لا ينبغي أن تثار أسئلة ومناقشات أكثر ممّا يلزم في شأن المسائل ، بل ينبغي أن يترك الأمر للقائد نفسه أن يبيّن المسائل في حينها ، لا سيما إذا كان القائد معصوما الذي لا يغفل عن أي شيء! كما أنّه لو سئل المعصوم أيضا ، لا يحقّ للآخرين أن يجيبوا السائل قبل أن يردّ عليه المعصوم ، وفي الحقيقة أنّ الآية جمعت كلّ هذه المعاني في طيّها.

والآية الثانية تشير إلى الأمر الثّاني فتقول :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ

__________________

(١) ورد الفعل «لا تقدموا» على صيغة الفعل المتعدي إلا أن المفعول محذوف هنا وتقديره : لا تقدموا أمرا بين يدي الله ورسوله وقد احتمل بعضهم أن هذا الفعل لازم هنا ومفهومه لا تتقدموا بين يدي الله وبالرغم من أن الفعلين مختلفان شكلا إلا أن المعنى أو النتيجة واحدة

٥١٢

أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) .

والجملة الأولى :( لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ ) إشارة إلى أنّه لا ينبغي رفع الصوت على صوت النبي ، فهو بنفسه نوع من الإساءة الأدبية في محضره المبارك ، والنّبي له مكانته. وهذا الأمر لا يجدر أن يقع أمام الأب والأم والأستاذ لأنّه مخالف للاحترام والأدب أيضا.

أمّا جملة :( لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ ) فيمكن أن تكون تأكيدا على المعنى المتقدّم في الجملة الأولى ، أو أنّها إشارة إلى مطلب آخر ، وهو ترك مخاطبة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنداء «يا محمّد» والعدول عنه بالقول : «يا رسول الله»!

غير أنّ جماعة من المفسّرين قالوا في الفرق بين الجملتين آنفتي الذكر ما يلي : ـ إنّ الجملة الأولى ناظرة إلى زمان يتحادث الناس فيه مع النبي ، فلا ينبغي لأحد أن يرفع صوته فوق صوت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمّا الجملة الثانية فناظرة الى زمان يكون الرّسول فيه صامتا وأصحابه يحدّثونه ، ففي هذه الحالة أيضا لا ينبغي رفع الصوت عنده.

والجمع بين هذه المعنى والمعنى السابق أيضا ـ لا مانع منه كما أنّه ينسجم مع شأن نزول الآية ، وعلى كلّ حال فظاهر الآية هو بيان أمرين مختلفين

وبديهي أنّ أمثال هذه الأعمال إن قصد بها الإساءة والإهانة لشخص النّبي ومقامه الكريم فذلك موجب للكفر ، وإلّا فهو إيذاء له وفيه إثم أيضا

وفي الصورة الأولى تتّضح علة الحبط وزوال الأعمال ، لأنّ الكفر يحبط العمل ويكون سببا في زوال ثواب العمل الصالح

وفي الصورة الثانية أيضا ، لا يمنع أن يكون مثل هذا العمل السيء باعثا على زوال ثواب الكثير من الأعمال.

وقلنا سابقا في بحث الحبط أنّه لا مانع من زوال ثواب بعض الأعمال بسبب بعض الذنوب الخاصة ، كما أنّ زوال أثر بعض الذنوب بسبب الأعمال الصالحة

٥١٣

قطعيّ أيضا وهناك دلائل كثيرة في الآيات القرآنية أو الأحاديث الشريفة على هذا المعنى ورغم أنّ هذا المعنى لم يثبت على أنّه قانون كلّي في جميع الحسنات والسيئات ، إلّا أنّه توجد دلائل نقلية في شأن بعض الحسنات والسيئات المهمّة ولا يوجد دليل عقلي مخالف لها!(١) .

وقد ورد في رواية أنّه حين نزلت الآية آنفة الذكر قال «ثابت بن قيس» خطيب النّبي الذي كان له صوت جهوري عال : أنا الذي رفعت صوتي فوق صوت النّبي فحبطت أعمالي وأنا من أهل النّار

فبلغ ذلك سمع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «هو من أهل الجنّة»(٢) . لأنّه حين فعل ذلك للمؤمنين أو أمام المخالفين وكان ذلك أداء لوظيفة إسلامية.

كما أنّ ابن العباس بن عبد المطلب نادى بأمر النّبي الذين فرّوا في معركة «حنين» بصوت عال ليعودوا إلى ساحات القتال!

وفي الآية الأخرى مزيد تأكيد على الثواب الذي أعدّه الله لأولئك الذين يمتثلون أمر الله ويراعون الآداب عند رسول الله فتقول :( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) (٣) .

كلمة «يغضون» مشتقة من غضّ ـ على وزن حظّ ـ ومعناها تقليل النظر أو خفات الصوت ويقابل هذه الكلمة الإمعان بالنظر والجهر بالصوت.

وكلمة «امتحن» مشتقة من الامتحان ، والأصل في استعمالها إذابة الذهب وتطهيره من غير الخالص ، كما أنّها تستعمل في بسط الجلد المعدّ للدّبغ ، ثمّ

__________________

(١) لمزيد الاطلاع بحثنا مسألة الحبط في ذيل الآية (٢١٧) من سورة البقرة فليراجع.

(٢) يراجع مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ١٣٠ ، وقد ورد هذا الحديث بتفاوت في بعض الكلمات عند كثير من المفسّرين ولا سيما البخاري في صحيحه وسيد قطب في ظلاله وغيرهما.

(٣) «اللام» في كلمة «التقوى» في الحقيقة هي لام الغاية وليست (لام العلّة) أي أنّ الله يجعل قلوب أولئك مهيّأة للقبول والتقوى ، لأنّ القلب إذا لم يخلص ولم يصف فلا يكون محلا للتقوى حقيقة.

٥١٤

استعملت بعدئذ في مطلق الاختبار كما هي الحال بالنسبة للآية محل البحث ، ونتيجة ذلك خلوص القلب وبسطه لقبول التقوى

وممّا يسترعي الانتباه أنّ الآية السابقة ورد فيها التعبير بالنبي ، إلّا أنّ هذه الآية ورد التعبير فيها عنه برسول الله ، وكلتا الآيتين تشير إلى هذه «اللطيفة» : وهي أنّ النّبي ليس عنده شيء من نفسه ، بل هو رسول الله ونبيّه ، فإساءة الأدب إليه إساءة الأدب إلى الله ورعاية الأدب إليه رعاية لله.

ونكّرت كلمة «مغفرة» للتعظيم والأهمية أي أنّ الله يجعل نصيبهم المغفرة الكبرى والتامة ، وبعد تطهيرهم من الذنب يرزقهم الأجر العظيم ، لأنّه لا بدّ من التطهير من الذنب أولا ، ثمّ الانتفاع من الأجر العظيم من قبل الله

أمّا الآية الأخرى فتشير إلى جهل أولئك الذين يجعلون أمر الله وراء ظهورهم ، وعدم إدراكهم فتقول :( إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) .

فأي عقل يدفع الإنسان إلى أن ينادي برفيع صوته أمام أعظم سفير إلهي فلا يلتفت الى آداب النداء كما فعلت قبيلة بني تميم فنادت النّبي بصوت مزعج يا محمّد يا محمّد أخرج إلينا وهو مركز المحبّة والعطف الإلهي؟!

وأساسا كلّما ترقّى عقل الإنسان زيد في أدبه فيعرف القيم الأخلاقية بصورة أحسن ومن هنا فإنّ إساءة الأدب دليل على عدم العقل ، أو بتعبير آخر إنّ إساءة الأدب عمل الحيوان ، أمّا الأدب أو رعاية الأدب فهو من عمل الإنسان

جملة( أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) «الأكثر» في لغة العرب يطلق أحيانا بمعنى الجميع ، وإنّما استعمل هذا اللفظ رعاية للاحتياط في الأدب حتى لو أنّ واحدا أستثني من الشمول لا يضيع حقّه عند التعبير بالأكثر ، فكأنّ الله يريد أن يقول : إنّي أنا الله الذي أحطت بكلّ شيء علما ، عند الكلام على مثل هذه الأمور أراعي الأدب في ذلك فعلام لا تراعون في كلامكم هذه الناحية؟!

أو لأنّه يوجد فيهم أناس يعقلون حقّا ، ولعادة الناس وعدم التفاتهم في رفع

٥١٥

الصوت يريد القرآن أن يحذّرهم بهذا الأسلوب أن لا ينسوا الأدب وأن يستعملوا عقولهم وأفكارهم عند الكلام

«الحجرات» : جمع «حجرة» وهي هنا إشارة إلى البيوت(١) المتعددة لأزواج النّبي المجاورة للمسجد

وأصل الكلمة مأخوذ من «الحجر» على وزن الأجر : أي المنع لأنّ الحجرة تمنع الآخرين من الدخول في حريم «حياة» الإنسان والتعبير بـ «وراء» هنا كناية عن الخارج من أي جهة كان! لأنّ أبواب الحجرات كانت تتفتح على المسجد أحيانا فيقف الجهلة عندها فينادون : يا محمّد أخرج إلينا ، فمنعهم القرآن ونهاهم عن ذلك!

ويضيف القرآن إكمالا للمعنى في نهاية الآية قائلا :( وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ) .

صحيح أنّ العجلة قد تجعل الإنسان أحيانا يبلغ قصده بسرعة ، إلّا أنّ الصبر في مثل هذا «المقام» والتأنّي مدعاة إلى المغفرة والأجر العظيم.

وحيث أنّ بعضهم قد ارتكبوا جهلا هذا الخطأ من قبل ، واستوحشوا من هذا الأمر وحاسبوا أنفسهم بعد نزول الآية ، فإنّ القرآن يضيف قائلا إنّهم تشملهم الرحمة عند التوبة :( وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

* * *

بحوث

١ ـ الأدب أغلى القيم

اهتم الإسلام اهتماما كبيرا بمسألة رعاية الأدب ، والتعامل مع الآخرين مقرونا

__________________

(١) بيوت جمع بيت وهذا اللفظ يطلق على الغرفة الواحدة [أو مجموع الغرف في مكان واحد لعائلة معيّنة] وهو مشتقّ من المبيت ليلا

٥١٦

بالاحترام والأدب سواء مع الفرد أم الجماعة ، ونشير إلى طائفة من الأحاديث الشريفة هنا على أنّها شواهد وأمثال لهذا العنوان

١ ـ يقول الإمام عليعليه‌السلام : «الآداب حلل مجدّدة»(١) .

ويقول في مكان آخر : الأدب يغني عن الحسب(٢) .

كما أنّنا نقرأ حديثا آخرعن الإمام الصادقعليه‌السلام يقول فيه : «خمس من لم تكن فيه لم يكن كثير فيه مستمتع ؛ قيل : وما هنّ يا ابن رسول الله قالعليه‌السلام : الدين والعقل والحياء وحسن الخلق وحسن الأدب»(٣) .

ونقرأ في مكان آخر حديثا عنهعليه‌السلام أيضا يقول فيه : لا يطمعنّ ذو الكبر في الثناء الحسن ولا الخبّ في كثرة الصديق ولا السيء الأدب في الشرف(٤)

ولذلك فإنّنا حين نقرأ تأريخ حياة القادة في الإسلام وننعم النظر فيها نلاحظ أنّهم يراعون أهم النقاط الحسّاسة واللطائف الدقيقة في الأخلاق والآداب حتى مع الأناس البسطاء ، وأساسا فإنّ الدين مجموعة من الآداب ، الأدب بين يدي الله والأدب بين يدي الرّسول والأئمة المعصومين ، والأدب بين يدي الأستاذ والمعلم ، أو الأب والأم والعالم والمفكّر

والتدقيق في آيات القرآن الكريم يكشف عن أنّ الله سبحانه بما له من مقام العظمة حين يتكلّم مع عباده ، يراعي الآداب بتمامها

فحيث يكون الأمر على هذه الشاكلة فمن المعلوم عندئذ ما هي وظيفة الناس أمام الله؟ وما هو تكليفهم؟! ونقرأ في بعض الأحاديث الإسلامية أنّه حين نزلت الآيات الأولى من سورة «المؤمنون» وأمرتهم بسلسلة من الآداب الإسلامية ، ومنها مسألة الخشوع في الصلاة ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينظر أحيانا إلى السماء عند

__________________

(١) نهج البلاغة الحكمة ـ ٥.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٧٥ ، ص ٦٨.

(٣) المصدر السابق ، ص ٦٧.

(٤) المصدر السابق.

٥١٧

الصلاة ثمّ ينظر إلى الأرض مطرقا برأسه «لا يرفعه»(١) .

وفي ما يخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان هذا الموضوع ذا أهمية أيضا إذ صرّح القرآن في آياته بالإعراض عن اللغو عنده وعدم رفع الصوت والصخب ، فكلّ ذلك موجب للحبط في الأعمال واضمحلال الثواب.

وواضح أنّه لا تكفي رعاية هذه المسألة الخلقيّة عند النّبي فحسب ، بل هناك أمور أخرى ينبغي مراعاتها في حضوره ، وكما يعبّر الفقهاء ينبغي إلغاء الخصوصية هنا وتنقيح المناط بما سبق أشباهه ونظائره!

ونقرأ في سورة النور الآية (٦٣) منها :( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ) وقد فسّرها جماعة من المفسّرين بأنّه «عند ما تنادون النّبي فنادوه بأدب واحترام يليقان به لا كما ينادي بعضكم بعضا»

الطريف هنا أنّ القرآن عدّ أولئك الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ويراعون الأدب بأنّهم مطهّرو القلوب وهم مهيّئون للتقوى ، وجديرون بالمغفرة والأجر العظيم في حين أنّه يعدّ الذين ينادونه من وراء الحجرات ويسيئون الأدب عنده ـ كالأنعام ـ أكثرهم لا يعقلون.

حتى أنّ بعض المفسّرين توسّعوا في الآيات محل البحث وجعلوا لها مراحل أدنى أيضا بحيث تشمل المفكّرين والعلماء والقادة من المسلمين ، فوظيفة المسلمين أن يراعوا الآداب بين أيديهم

وبالطبع فإنّ هذه المسألة أكثر وضوحا في شأن الأئمة أولي العصمة ، حتى أنّه بلغنا بعض الروايات الواردة عن أهل البيت أنّه «حين دخل أحد الأصحاب على الإمام بادره الإمام دون مقدّمة : أما تعلم أنّه لا ينبغي للجنب أن يدخل بيوت الأنبياء»(٢) .

__________________

(١) راجع تفسير مجمع البيان وتفسير الفخر الرازي ، ذيل الآية ٢ سورة المؤمنون.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٢٧ ، ص ٢٥٥.

٥١٨

وورد التعبير في رواية أخرى بهذه الصورة : «أنّ بيوت الأنبياء وأولاد الأنبياء لا يدخلها الجنب».

وملخص القول أنّ مسألة رعاية الآداب أمام الكبير والصغير تشمل قسما كبيرا من التعليمات الإسلامية بحيث لو أردنا أن ندرجها ضمن بحثنا هذا لخرجنا عن تفسير الآيات ، إلّا أنّنا نختم بحثنا بحديث عن الإمام علي بن الحسين (السجّاد) في «رسالة الحقوق» حيث قال في «مورد رعاية الأدب أمام الأستاذ» :

«وحقّ سائسك بالعلم التعظيم له والتوقير لمجلسه وحسن الاستماع إليه والإقبال عليه وأن لا ترفع عليه صوتك ولا تجيب أحدا يسأله عن شيء حتى يكون هو الذي يجيب ولا تحدّث في مجلسه أحدا ولا تغتاب عنده أحدا وأن تدفع عنه إذا ذكر عندك بسوء وأن تستر عيوبه وتظهر مناقبه ولا تجالس له عدوا ولا تعادي له وليا فإذا فعلت ذلك شهدت لك ملائكة الله بأنّك قصدته وتعلّمت علمه لله جلّ اسمه لا للناس»(١) .

٢ ـ رفع الصوت عند قبر الرسول

قال جماعة من العلماء والمفسّرين أنّ الآيات محل البحث كما أنّها تمنع رفع الصوت عند النّبي حال حياته فهي كذلك شاملة للمنع بعد وفاته(٢) .

وإذا كان المراد من تعبيرهم آنفا شمول العبارة في الآية ، فظاهر الآية يخصّ زمان حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّها تقول :( لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ ) وذلك في حالة ما يكون النّبي له حياة جسمانية وهو يتكلّم مع أحد فلا يجوز رفع الصوت فوق صوته

لكن إذا كان مرادهم ـ المناط ـ وفلسفة الحكم ـ وهي واضحة في هذه الموارد

__________________

(١) المحجّة البيضاء ، ج ٣ ، ص ٤٥٠ ، باب آداب الصحبة والمعاشرة.

(٢) روح المعاني ، ج ٢٦ ، ص ١٢٥.

٥١٩

وأمثالها ـ وأهل العرف ـ يلغون «الخصوصية» ، فلا يبعد التعميم المذكور. لأنّه من المسلّم به ـ أنّ الهدف هنا رعاية الأدب واحترام ساحة قدس النبي ، فعلى هذا متى ما كان رفع الصوت عند قبره نوعا من هتك الحرمة فهو بدون شكّ غير جائز ، إلّا أن يكون أذانا للصلاة أو تلاوة للقرآن أو إلقاء خطبة وأمثال ذلك فإنّ هذه الأمور ليس فيه أي إشكال لا في حياة النّبي ولا بعد وفاته

ونقرأ حديثا في أصول الكافي نقل عن الإمام الباقر في شأن ما جرى للحسن بعد وفاته وممانعة عائشة عن دفنه في جوار رسول الله جاء فيه أنّه حين ارتفعت الأصوات استدل الإمام الحسينعليه‌السلام بالآية :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ )

ونقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : إنّ الله حرّم من المؤمنين أمواتا ما حرّم منهم أحياء(١) .

وهذا الحديث شاهد آخر على عموم مفهوم الآية!

٣ ـ الانضباط الإسلامي في كلّ شيء وفي كلّ مكان!

إنّ مسألة المديرية لا تتم بدون رعاية الانضباط ، وإذا أريد للناس العمل تحت مديرية وقيادة ـ حسب رغبتهم ، فإنّ اتساق الأعمال سينعدم عندئذ وإن كان المديرون والقادة جديرين.

وكثير من الأحداث والنواقص التي نلاحظها تحدّث عن هذا الطريق ، فكم من هزيمة أصابت جيشا قويا أو نقصا حدث في أمر يهمّ جماعة وما إلى ذلك كان سببه ما ذكرناه آنفا ولقد ذاق المسلمون أيضا مرارة مخالفة هذه التعاليم مرارا في عهد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بعده ، ومن أوضح الأمور قصة هزيمة المسلمين في معركة أحد لعدم الانضباط من قبل جماعة قليلة من المقاتلين.

والقرآن يثير هذه المسألة المهمّة في عبارة موجزة في الآية الآنفة وبأسلوب

__________________

(١) أصول الكافي ـ طبقا لما نقل في نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٨٠.

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592