الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177193 / تحميل: 5795
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

قوله تعالى: ( حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ ) قيد للتكذيب، و فسّروا اليقين بالموت لكونه ممّا لا شكّ فيه فالمعنى و كنّا في الدنيا نكذّب بيوم الجزاء حتّى أتانا الموت فانقطعت به الحياة الدنيا أي كنّا نكذّب به ما دامت الحياة.

و قيل: المراد به اليقين الحاصل بحقّيّة يوم الجزاء بمشاهدة آيات الآخرة و معاينة الحياة البرزخيّة حين الموت و بعده، و هو معنى حسن.

قوله تعالى: ( فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ ) تقدّم في بحث الشفاعة أنّ في الآية دلالة على أنّ هناك شافعين يشفعون فيشفّعون لكن لا تنفع هؤلاء شفاعتهم لأنّهم محرومون من نيلها.

و قد أوردنا جملة من أخبار الشفاعة في الجزء الأوّل من الكتاب.

١٨١

( سورة المدّثّر الآيات 49 - 56)

فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ( 49 ) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ ( 50 ) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ( 51 ) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفًا مُّنَشَّرَةً ( 52 ) كَلَّا بَل لَّا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ ( 53 ) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ( 54 ) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ ( 55 ) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ( 56 )

( بيان‏)

في معنى الاستنتاج ممّا تقدّم من الوعيد و الوعد اُورد في صورة التعجّب من إعراضهم عن تذكرة القرآن و تنفّرهم عن الحقّ الصريح كأنّه قيل: فإذا كان كذلك فعليهم أن يجيبوا دعوة الحقّ و يتذكّروا بالتذكرة فمن العجب أنهم معرضون عن ذلك كلّا بل لا يؤمنون بالرسالة و يريد كلّ امرئ منهم أن ينزل عليه كتاب من الله. كلّا بل لا يخافون الآخرة فلا يرتدعون عن وعيد.

ثمّ يعرض عليهم التذكرة عرضاً فهم على خيرة من القبول و الردّ فإن شاؤا قبلوا و إن شاؤا ردّوا، لكن عليهم أن يعلموا أنّهم غير مستقلّين في مشيّتهم و ليسوا بمعجزين لله سبحانه فليس لهم أن يذكروا إلّا أن يشاء الله، و حكم القدر جار فيهم البتّة.

قوله تعالى: ( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) تفريع على ما تقدّم من التذكرة و الموعظة، و الاستفهام للتعجيب، و( لَهُمْ ) متعلّق بمحذوف و التقدير فما كان لهم: و( مُعْرِضِينَ ) حال من ضمير( لَهُمْ ) و( عَنِ التَّذْكِرَةِ ) متعلّق بمعرضين.

١٨٢

و المعنى: فإذا كان كذلك فأيّ شي‏ء كان - عرض - للمشركين الّذين يكذّبون بتذكرة القرآن حال كونهم معرضين عنها أي كان من الواجب عليهم أن يصدّقوا و يؤمنوا لكنّهم أعرضوا عنها و هو من العجب.

قوله تعالى: ( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ) تشبيه لهم من حيث حالهم في الإعراض عن التذكرة، و الحمر جمع حمار، و المراد الحمر الوحشيّة و الاستنفار بمعنى النفرة و القسورة الأسد و الصائد، و قد فسّر بكلّ من المعنيين.

و المعنى: معرضين عن التذكرة كأنّهم حمر وحشيّة نفرت من أسد أو من الصائد.

قوله تعالى: ( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) المراد بالصحف المنشّرة الكتاب السماويّ المشتمل على الدعوة الحقّة.

و في الكلام إضراب عمّا ذكر من إعراضهم، و المعنى ليس إعراضهم عن التذكرة لمجرّد النفرة بل يريد كلّ امرئ منهم أن ينزّل عليه كتاب من عند الله مشتمل على ما تشتمل عليه دعوة القرآن.

و هذه النسبة إليهم كناية عن استكبارهم على الله سبحانه أنّهم إنّما يقبلون دعوته و لا يردّونها لو دعا كلّ واحد منهم بإنزال كتاب سماويّ إليه مستقلّاً و أمّا الدعوة من طريق الرّسالة فليسوا يستجيبونها و إن كانت حقّة مؤيّدة بالآيات البيّنة.

فالآية في معنى ما حكاه الله سبحانه من قولهم:( لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‏ مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) الأنعام: 124، و في معنى قول الاُمم لرسلهم:( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ) على ما قرّرنا من حجّتهم على نفي رسالة الرسل.

و قيل: إنّ الآية في معنى قولهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي حكاه الله في قوله:( وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) إسراء: 93.

و يدفعه أنّ مدلول الآية أن ينزل على كلّ واحد منهم صحف منشّرة غير ما ينزل على غيره لا نزول كتاب واحد من السماء على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرؤه الجميع كما هو مدلول آية الإسراء.

١٨٣

و قيل: المراد نزول كتب من السماء عليهم بأسمائهم أن آمنوا بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و قيل: المراد أن ينزل عليهم كتب من السماء بالبراءة من العذاب و إسباغ النعمة حتّى يؤمنوا و إلّا بقوا على كفرهم و قيل غير ذلك.

و هي جميعاً معان بعيدة من السياق و التعويل على ما تقدّم.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ) ردع لهم بما يريدونه من نزول كتاب سماويّ على كلّ واحد منهم فإنّ دعوة الرسالة مؤيّدة بآيات بيّنة و حجج قاطعة لا تدع ريباً لمرتاب فالحجّة تامّة قائمة على الرسول و غيره على حدّ سواء من غير حاجة إلى أن يؤتى كلّ واحد من الناس المدعوّين صحفاً منشّرة.

على أنّ الرسالة تحتاج من طهارة الذات و صلاحيّة النفس إلى ما يفقده نفوس سائر الناس كما هو مدلول جوابه تعالى في سورة الأنعام عن قولهم:( لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‏ مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) بقوله:( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) .

و قوله:( بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ) إضراب عن قوله:( يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ) إلخ، و المراد أنّ اقتراحهم نزول كتاب على كلّ امرئ منهم قول ظاهريّ منهم يريدون به صرف الدعوة عن أنفسهم، و السبب الحقيقيّ لكفرهم و تكذيبهم بالدعوة أنّهم لا يخافون الآخرة، و لو خافوها لآمنوا و لم يقترحوا آية بعد قيام الحجّة بظهور الآيات البيّنات.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ) ردع ثان لاقتراحهم نزول كتاب سماويّ لكلّ امرئ منهم، و المعنى لا ننزل كتاباً كذلك إنّ القرآن تذكرة و موعظة نعظهم به لا نريد به أزيد من ذلك، و أثر ذلك ما أعدّ للمطيع و العاصي عندنا من الجزاء.

قوله تعالى: ( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) أي فمن شاء اتّعظ به فإنّما هي دعوة في ظرف الاختيار من غير إكراه.

قوله تعالى: ( وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) دفع لما يمكن أن يتوهّموه من قوله تعالى:( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) أنّ الأمر إليهم و أنّهم

١٨٤

مستقلّون في إرادتهم و ما يترتّب عليها من أفعالهم فإن لم يشاؤا الذكر و لم يذكروا غلبوه تعالى فيما أراد و أعجزوه فيما شاء من ذكرهم.

و المحصّل من الدفع أنّ حكم القدر جاء في أفعالهم كغيرها من الحوادث، و تذكّرهم إن تذكّروا و إن كان فعلاً اختياريّاً صادراً عنهم باختيارهم من غير إكراه فالمشيّة الإلهيّة متعلّقة به بما هو اختياريّ بمعنى أنّ الله تعالى يريد بإرادة تكوينيّة أن يفعل الإنسان الفعل الفلانيّ بإرادته و اختياره فالفعل اختياريّ ممكن بالنسبة إلى الإنسان و هو بعينه متعلّق الإرادة الإلهيّة ضروريّ التحقّق بالنسبة إليها و لولاها لم يتحقّق.

و قوله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) أي أهل لأن يتّقى منه لأنّ له الولاية المطلقة على كلّ شي‏ء، و بيده سعادة الإنسان و شقاوته، و أهل لأن يغفر لمن اتّقاه لأنّه غفور رحيم.

و الجملة أعني قوله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) صالحة لتعليل ما تقدّم من الدعوة في قوله:( إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) و هو ظاهر، و لتعليل قوله:( وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) فإنّ كونه تعالى أهل التقوى و أهل المغفرة لا يتمّ إلّا بكونه ذا إرادة نافذة فيهم سارية في أعمالهم فليسوا بمخلّين و ما يهوونه و هم معجزون لله بتمرّدهم و استكبارهم.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله تعالى:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) و ذلك أنّهم قالوا: يا محمّد قد بلغنا أنّ الرجل من بني إسرائيل كان يذنب الذنب فيصبح و ذنبه مكتوب عند رأسه و كفّارته.

فنزل جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قال: يسألك قومك سنّة بني إسرائيل

١٨٥

في الذنوب فإن شاؤا فعلنا ذلك بهم و أخذناهم بما كنّا نأخذ بني إسرائيل فزعموا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كره ذلك لقومه.

أقول: و القصّة لا تلائم لحن الآية و الرواية لا تخلو من إيماء إلى ضعف القصّة.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن السدّيّ عن أبي صالح قال: قالوا: إن كان محمّد صادقاً فليصبح تحت رأس كلّ رجل منّا صحيفة فيها براءته و أمنته من النار فنزلت:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) .

أقول: سياق الآيات و ما فيها من الردع لا يلائم القصّة.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن مجاهد( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) قال: إلى فلان بن فلان من ربّ العالمين يصبح عند رأس كلّ رجل صحيفة موضوعة يقرؤها.

أقول: ما في الرواية يقبل الانطباق على الرواية السابقة و على ما قدّمناه من معنى الآية.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن قتادة في قوله تعالى:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) قال: قد قال قائلون من الناس لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن سرّك أن نتابعك فأتنا بكتاب خاصّة يأمرنا باتّباعك.

أقول: الرواية قابلة التطبيق لما في تفسير الآية من القول بأنّ الآية في معنى قوله تعالى:( وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ ) الآية و قد تقدّم ما فيه.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: هو أهل أن يتّقى و أهل أن يغفر.

و في التوحيد، بإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: قال الله عزّوجلّ: أنا أهل أن اُتّقى و لا يشرك بي عبدي شيئاً و أنا أهل إن لم يشرك بي عبدي شيئاً أن اُدخله الجنّة.

١٨٦

و قال: إنّ الله تبارك و تعالى أقسم بعزّته و جلاله أن لا يعذّب أهل توحيده بالنار.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عبدالله بن دينار قال: سمعت أباهريرة و ابن عمر و ابن عبّاس يقولون: سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قول الله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: يقول الله: أنا أهل أن اُتّقى فلا يُجعل معي شريك فإذا اتّقيت و لم يجعل معي شريك فأنا أهل أن أغفر ما سوى ذلك.

أقول: و في معناه غير واحد من الروايات عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٨٧

( سورة القيامة مكّيّة و هي أربعون آية)

( سورة القيامة الآيات 1 - 15)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ( 1 ) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ( 2 ) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ( 3 ) بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ( 4 ) بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ( 5 ) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ( 6 ) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ( 7 ) وَخَسَفَ الْقَمَرُ ( 8 ) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ( 9 ) يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ( 10 ) كَلَّا لَا وَزَرَ ( 11 ) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ( 12 ) يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ( 13 ) بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ( 14 ) وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ ( 15 )

( بيان‏)

يطوف بيان السورة حول القيامة الكبرى فتنبئ بوقوع يوم القيامة أوّلاً ثمّ تصفه ببعض أشراطه تارة، و بإجمال ما يجري على الإنسان اُخرى، و ينبئ أنّ المساق إليه يبدأ من يوم الموت، و تختتم بالاحتجاج على القدرة على الإعادة بالقدرة على الابتداء.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ) إقسام بيوم القيامة سواء قيل بكون( لا أُقْسِمُ ) كلمة قسم أو بكون لا زائدة أو نافية على اختلاف الأقوال.

قوله تعالى: ( وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) إقسام ثان على ما يقتضيه السياق و مشاكلة اللفظ فلا يعبأ بما قيل: أنّه نفي الأقسام و ليس بقسم، و المراد اُقسم بيوم

١٨٨

القيامة و لا اُقسم بالنفس اللوّامة.

و المراد بالنفس اللوّامة نفس المؤمن الّتي تلومه في الدنيا على المعصية و التثاقل في الطاعة و تنفعه يوم القيامة.

و قيل: المراد به النفس الإنسانيّة أعمّ من المؤمنة الصالحة و الكافرة الفاجرة فإنّها تلوم الإنسان يوم القيامة أمّا الكافرة فإنّها تلومه على كفره و فجوره، و أمّا المؤمنة فإنّها تلومه على قلّة الطاعة و عدم الاستكثار من الخير.

و قيل. المراد نفس الكافر الّتي تلومه يوم القيامة على ما قدّمت من كفر و معصية قال تعالى:( وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ) يونس: 54.

و لكلّ من الأقوال وجه.

و جواب القسم محذوف يدلّ عليه الآيات التالية، و التقدير ليبعثنّ، و إنّما حذف للدلالة على تفخيم اليوم و عظمة أمره قال تعالى:( ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ) الأعراف: 187 و قال:( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى‏ كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) طه: 15 و قال:( عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ) النبأ: 1.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ) الحسبان الظنّ، و جمع العظام كناية عن الإحياء بعد الموت، و الاستفهام للتوبيخ، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( بَلى‏ قادِرِينَ عَلى‏ أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ) أي بلى نجمعها( و قادِرِينَ ) حال من فاعل مدخول بلى المقدّر، و البنان أطراف الأصابع و قيل: الأصابع و تسوية البنان تصويرها على ما هي عليها من الصور، و المعنى بلى نجمعها و الحال أنّا قادرون على أن نصوّر بنانه على صورها الّتي هي عليها بحسب خلقنا الأوّل.

و تخصيص البنان بالذكر - لعلّه - للإشارة إلى عجيب خلقها بما لها من الصور و خصوصيّات التركيب و العدد تترتّب عليها فوائد جمّة لا تكاد تحصى من أنواع القبض و البسط و الأخذ و الردّ و سائر الحركات اللطيفة و الأعمال الدقيقة و الصنائع الظريفة الّتي يمتاز بها الإنسان من سائر الحيوان مضافاً إلى ما عليها من الهيئات و الخطوط الّتي لا يزال ينكشف للإنسان منها سرّ بعد سرّ.

١٨٩

و قيل: المراد بتسوية البنان جعل أصابع اليدين و الرجلين مستوية شيئاً واحداً من غير تفريق كخفّ البعير و حافر الحمار، و المعنى قادرين على أن نجعلها شيئاً واحداً فلا يقدر الإنسان حينئذ على ما يقدر عليه مع تعدّد الأصابع من فنون الأعمال، و الوجه المتقدّم أرجح.

قوله تعالى: ( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) قال الراغب: الفجر شقّ الشي‏ء شقّاً واسعاً. قال: و الفجور شقّ ستر الديانة يقال: فجر فجوراً فهو فاجر و جمعه فجّار و فجرة. انتهى، و أمام ظرف مكان أستعير لمستقبل الزمان، و المراد من فجوره أمامه فجوره مدى عمره و ما دام حيّاً، و ضمير( أَمامَهُ ) للإنسان.

و قوله:( لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) تعليل سادّ مسدّ معلّله و هو التكذيب بالبعث و الإحياء بعد الموت، و( بَلْ ) إضراب عن حسبانه عدم البعث و الإحياء بعد الموت.

و المعنى: أنّه لا يحسب أن لن نجمع عظامه بل يريد أن يكذّب بالبعث ليفجر مدى عمره إذ لا موجب للإيمان و التقوى لو لم يكن هناك بعث للحساب و الجزاء.

هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية، و لهم وجوه اُخر ذكروها في معنى الآية بعيدة لا تلائم السياق أغمضنا عن ذكرها.

و ذكر الإنسان في الآية من وضع الظاهر موضع الضمير و النكتة فيه زيادة التوبيخ و المبالغة في التقريع، و قد كرّر ذلك في الآية و ما يتلوها من الآيات أربع مرّات.

قوله تعالى: ( يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ) الظاهر أنّه بيان لقوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) فيفيد التعليل و أنّ السائل في مقام التكذيب و السؤال سؤال تكذيب إذ من الواجب على من دعي إلى الإيمان و التقوى، و اُنذر بهذا النبإ العظيم مع دلالة الآيات البيّنة و قيام الحجج القاطعة أن يتّخذ حذره و يتجهّز بالإيمان و التقوى و يتهيّأ للقاء اليوم قريباً كان أو بعيداً فكلّ ما هو آت قريب لا أن يسأل متى تقوم الساعة؟ و أيّان يوم القيامة؟ فليس إلّا سؤال مكذّب مستهزئ.

قوله تعالى: ( فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَ خَسَفَ الْقَمَرُ وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ ) ذكر

١٩٠

جملة من أشراط الساعة، و بريق البصر تحيّره في إبصاره و دهشته، و خسوف القمر زوال نوره.

قوله تعالى: ( يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ) أي أين موضع الفرار، و قوله:( أَيْنَ الْمَفَرُّ ) مع ظهور السلطنة الإلهيّة له و علمه بأن لا مفرّ و لا فرار يومئذ من باب ظهور ملكاته يومئذ فقد كان في الدنيا يسأل عن المفرّ إذا وقع في شدّة أو هدّدته مهلكة و ذلك كإنكارهم الشرك يومئذ و حلفهم كذباً قال تعالى:( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَ اللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) الأنعام: 23، و قال:( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) المجادلة: 18.

قوله تعالى: ( كَلَّا لا وَزَرَ ) ردع عن طلبهم المفرّ، و الوزر الملجأ من جبل أو حصن أو غيرهما، و هو من كلامه تعالى لا من تمام كلام الإنسان.

قوله تعالى: ( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ‏ ) و هو متعلّق بقوله:( الْمُسْتَقَرُّ ) يفيد الحصر فلا مستقرّ إلى غيره فلا وزر و لا ملجأ يلتجأ إليه فيمنع عنه.

و ذلك أنّ الإنسان سائر إليه تعالى كما قال:( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) الانشقاق: 6 و قال:( إِنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الرُّجْعى‏ ) العلق: 8 و قال:( وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى‏ ) النجم: 42، فهو ملاقي ربّه راجع و منته إليه لا حاجب يحجبه عنه و لا مانع يمنعه منه و أمّا الحجاب الّذي يشير إليه قوله:( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) المطفّفين: 15 فسياق الآيتين يعطي أنّ المراد به حجاب الحرمان من الكرامة لا حجاب الجهل أو الغيبة.

و يمكن أن يكون المراد بكون مستقرّه إليه رجوع أمر ما يستقرّ فيه من سعادة أو شقاوة و جنّة أو نار إلى مشيّته تعالى فمن شاء جعله في الجنّة و هم المتّقون و من شاء جعله في النار و هم المجرمون قال تعالى:( يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ ) المائدة: 40.

١٩١

و يمكن أن يراد به أنّ استقرارهم يومئذ إلى حكمه تعالى فهو النافذ فيهم لا غير قال تعالى:( كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) القصص: 88.

قوله تعالى: ( يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ ) المراد بما قدّم و أخّر ما عمله من حسنة أو سيّئة في أوّل عمره و آخره أو ما قدّمه على موته من حسنة أو سيّئة و ما أخّر من سنّة حسنة سنّها أو سنّة سيّئة فيثاب بالحسنات و يعاقب على السيّئات.

و قيل: المراد بما قدّم ما عمله من حسنة أو سيّئة فيثاب على الأوّل و يعاقب على الثاني، و بما أخّر ما تركه من حسنة أو سيّئة فيعاقب على الأوّل و يثاب على الثاني، و قيل، المراد ما قدّم من المعاصي و ما أخّر من الطاعات، و قيل، ما قدّم من طاعة الله و أخّر من حقّه فضيّعه، و قيل: ما قدّم من ماله لنفسه و ما ترك لورثته و هي وجوه ضعيفة بعيدة عن الفهم.

قوله تعالى: ( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) إضراب عن قوله،( يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ‏ ) إلخ، و البصيرة رؤية القلب و الإدراك الباطنيّ و إطلاقها على الإنسان من باب زيد عدل أو التقدير الإنسان ذو بصيرة على نفسه.

و قيل: المراد بالبصيرة الحجّة كما في قوله تعالى،( ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ ) إسراء: 102 و الإنسان نفسه حجّة على نفسه يومئذ حيث يسأل عن سمعه و بصره و فؤاده و يشهد عليه سمعه و بصره و جلده و يتكلّم يداه و رجلاه، قال تعالى:( إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا ) إسراء: 36، و قال( شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ ) حم السجدة: 20. و قال،( وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ) يس: 65.

و قوله:( وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) المعاذير جمع معذرة و هي ذكر موانع تقطع عن الفعل المطلوب، و المعنى هو ذو بصيرة على نفسه و لو جادل عن نفسه و اعتذر بالمعاذير لصرف العذاب عنها.

١٩٢

و قيل: المعاذير جمع معذار و هو الستر، و المعنى و إن أرخى الستور ليخفي ما عمل فإنّ نفسه شاهدة عليه و مآل الوجهين واحد.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) قال: نفس آدم الّتي عصت فلامها الله عزّوجلّ.

أقول: و في انطباقها على الآية خفاء.

و فيه، في قوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) قال: يقدّم الذنب و يؤخّر التوبة و يقول: سوف أتوب.

و فيه، في قوله:( فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ) قال: يبرق البصر فلا يقدر أن يطرف.

و فيه، في قوله تعالى:( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) قال: يعلم ما صنع و إن اعتذر.

و في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد قال: إنّي لأتعشّى مع أبي عبداللهعليه‌السلام و تلا هذه الآية( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) ، ثمّ قال: يا أبا حفص ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس بخلاف ما يعلم الله منه؟ إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول: من أسرّ سريرة ألبسه الله رداها إن خيراً فخير و إن شرّاً فشرّ.

و في المجمع، و روى العيّاشيّ بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ما يصنع أحدكم أن يظهر حسناً و يستر سيّئاً؟ أ ليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنّه ليس كذلك؟ و الله سبحانه يقول:( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) إنّ السريرة إذا صلحت قويت العلانية.

أقول: و رواه في اُصول الكافي، بإسناده عن فضل أبي العبّاس عنهعليه‌السلام .

و فيه، عن العيّاشيّ عن زرارة قال، سألت أباعبداللهعليه‌السلام ما حدّ المرض الّذي يفطر صاحبه؟ قال،( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) هو أعلم بما يطيق.

أقول: و رواه في الفقيه، أيضاً.

١٩٣

( سورة القيامة الآيات 16 - 40)

لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ( 16 ) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ( 17 ) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ( 18 ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ( 19 ) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ( 20 ) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ( 21 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ( 22 ) إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ( 23 ) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ( 24 ) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ( 25 ) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ( 26 ) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ( 27 ) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ( 28 ) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ( 29 ) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ( 30 ) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ ( 31 ) وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ( 32 ) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ ( 33 ) أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ( 34 ) ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ( 35 ) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ( 36 ) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ ( 37 ) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ ( 38 ) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ ( 39 ) أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ ( 40 )

( بيان‏)

تتمّة صفة يوم القيامة باعتبار حال الناس فيه و انقسامهم إلى طائفة ناضرة الوجوه مبتهجين و اُخرى باسرة الوجوه عابسين آيسين من النجاة، و الإشارة إلى أنّ هذا

١٩٤

المساق تبتدئ من حين نزول الموت ثمّ الإشارة إلى أنّ الإنسان لا يترك سدىً فالّذي خلقه أوّلاً قادر على أن يحييه ثانياً و به تختتم السورة.

قوله تعالى: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏ - إلى قوله -ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) الّذي يعطيه سياق الآيات الأربع بما يحفّها من الآيات المتقدّمة و المتأخّرة الواصفة ليوم القيامة أنّها معترضة متضمّن أدباً إلهيّاً كلّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتأدّب به حينما يتلقّى ما يوحى إليه من القرآن الكريم فلا يبادر إلى قراءة ما لم يقرأ بعد و لا يحرّك به لسانه و ينصت حتّى يتمّ الوحي.

فالآيات الأربع في معنى قوله تعالى:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) طه: 114.

فالكلام في هذه الآيات يجري مجرى قول المتكلّم منّا أثناء حديثه لمخاطبه إذا بادر إلى تتميم بعض كلام المتكلّم باللفظة و اللفظتين قبل أن يلفظ بها المتكلم و ذلك يشغله عن التجرّد للإنصات فيقطع المتكلّم حديثه و يعترض و يقول لا تعجل بكلامي و أنصت لتفقه ما أقول لك ثمّ يمضي في حديثه.

فقوله:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏ ) الخطاب فيه للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الضميران للقرآن الّذي يوحى إليه أو للوحي، و المعنى لا تحرّك بالوحي لسانك لتأخذه عاجلاً فتسبقنا إلى قراءة ما لم نقرأ بعد فهو كما مرّ في معنى قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) طه: 114.

و قوله:( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) القرآن ههنا مصدر كالفرقان و الرجحان، و الضميران للوحي، و المعنى لا تعجل به إذ علينا أن نجمع ما نوحيه إليك بضمّ بعض أجزائه إلى بعض و قراءته عليك فلا يفوتنا شي‏ء منه حتّى يحتاج إلى أن تسبقنا إلى قراءة ما لم نوحه بعد.

و قيل: المعنى إنّ علينا أن نجمعه في صدرك بحيث لا يذهب عليك شي‏ء من معانيه و أن نثبت قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت و لا يخلو من بعد.

و قوله:( فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏ ) أي فإذا أتممنا قراءته عليك وحياً فاتّبع

١٩٥

قراءتنا له و اقرأ بعد تمامها.

و قيل: المراد باتّباع قرآنه اتّباعه ذهناً بالإنصات و التوجّه التامّ إليه و هو معنى لا بأس به.

و قيل: المراد فاتّبع في الأوامر و النواهي قرآنه، و قيل: المراد اتّباع قراءته بالتكرار حتّى يرسخ في الذهن و هما معنيان بعيدان.

و قوله:( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) أي علينا إيضاحه عليك بعد ما كان علينا جمعه و قرآنه فثمّ للتأخير الرتبيّ لأنّ البيان مترتّب على الجمع و القراءة رتبة.

و قيل، المعنى ثمّ إنّ علينا بيانه للناس بلسانك نحفظه في ذهنك عن التغيّر و الزوال حتّى تقرأه على الناس.

و قال بعضهم في معنى هذه الآيات إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحرّك لسانه عند الوحي بما اُلقي إليه من القرآن مخافة أن ينساه فنهي عن ذلك بالآيات و اُمر بالإنصات حتّى يتمّ الوحي فضمير( لا تُحَرِّكْ بِهِ‏ ) للقرآن أو الوحي باعتبار ما قرأ عليه منه لا باعتبار ما لم يقرأ بعد.

و فيه أنّه لا يلائم سياق الآيات، تلك الملاءمة نظراً إلى ما فيها من النهي عن العجل و الأمر باتّباع قرآنه تعالى بعد ما قرأ، و كذا قوله،( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) فذلك كلّه أظهر فيما تقدّم منها في هذا المعنى.

و عن بعضهم في معنى هذه الآيات، الّذي اختاره أنّه لم يرد القرآن، و إنّما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة يدلّ على ذلك ما قبله و ما بعده، و ليس فيه شي‏ء يدلّ على أنّه القرآن و لا شي‏ء من أحكام الدنيا.

و في ذلك تقريع و توبيخ له حين لا تنفعه العجلة يقول: لا تحرّك لسانك بما تقرأه من صحيفتك الّتي فيها أعمالك يعني اقرأ كتابك و لا تعجل فإنّ هذا الّذي هو على نفسه بصيرة إذا رأى سيّئاته ضجر و استعجل فيقال له توبيخاً: لا تعجل و تثبّت لتعلم الحجّة عليك فإنّا نجمعها لك فإذا جمعناه فاتّبع ما جمع عليك بالانقياد

١٩٦

لحكمه و الاستسلام للتبعة فيه فإنّه لا يمكنك إنكاره ثمّ إنّ علينا بيانه لو أنكرت. انتهى.

و يدفعه أنّ المعترضة لا تحتاج في تمام معناها إلى دلالة ممّا قبلها و ما بعدها عليه على أنّ مشاكلة قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) في سياقه لهذه الآيات تؤيّد مشاكلتها له في المعنى.

و عن بعضهم أنّ الآيات الأربع متّصلة بما تقدّم من حديث يوم القيامة، و خطاب( لا تُحَرِّكْ‏ ) للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ضمير( بِهِ) ليوم القيامة، و المعنى لا تتفوّه بالسؤال عن وقت القيامة أصلاً و لو كنت غير مكذّب و لا مستهزئ( لِتَعْجَلَ بِهِ‏ ) أي بالعلم به( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) أي من الواجب في الحكمة أن نجمع من نجمعه فيه و نوحي شرح وصفه إليك في القرآن( فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏ ) أي إذا قرأنا ما يتعلّق به فاتّبع ذلك بالعمل بما يقتضيه من الاستعداد له( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) أي إظهار ذلك بالنفخ في الصور انتهى ملخّصاً و هو كما ترى.

و قد تقدّم في تفسير قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ ) إنّ هذا النهي عن العجل بالقرآن يؤيّد ما ورد في الروايات أنّ للقرآن نزولاً على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفعة غير نزوله تدريجاً.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) خطاب للناس و ليس من تعميم الخطاب السابق في شي‏ء لأنّ خطاب( لا تُحَرِّكْ‏ ) اعتراضيّ غير مرتبط بشي‏ء من طرفيه.

و قوله:( كَلَّا ) ردع عن قوله السابق:( يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ) و قوله:( بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ) - أي الحياة العاجلة و هي الحياة الدنيا -( وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) أي تتركون الحياة الآخرة، و ما في الكلام من الإضراب إضراب عن حسبان عدم الإحياء بعد الموت نظير الإضراب في قوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) .

قوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) وصف ليوم القيامة بانقسام الوجوه فيه إلى قسمين: ناضرة و باسرة، و نضرة الوجه و اللون و الشجر و نحوها و نضارتها

١٩٧

حسنها و بهجتها.

و المعنى: نظراً إلى ما يقابله من قوله:( وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ ) إلخ وجوه يوم إذ تقوم القيامة حسنة متهلّلة ظاهرة المسرّة و البشاشة قال تعالى:( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) المطفّفين: 24، و قال:( وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً ) الدهر: 11.

و قوله:( إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) خبر بعد خبر لوجوه، و( إِلى‏ رَبِّها ) متعلّق بناظرة قدّم عليها لإفادة الحصر أو الأهمّيّة.

و المراد بالنظر إليه تعالى ليس هو النظر الحسّيّ المتعلّق بالعين الجسمانيّة المادّيّة الّتي قامت البراهين القاطعة على استحالته في حقّه تعالى بل المراد النظر القلبيّ و رؤية القلب بحقيقة الإيمان على ما يسوق إليه البرهان و يدلّ عليه الأخبار المأثورة عن أهل العصمةعليهم‌السلام و قد أوردنا شطراً منها في ذيل تفسير قوله تعالى:( قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) الأعراف: 143، و قوله تعالى:( ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) النجم: 11.

فهؤلاء قلوبهم متوجّهة إلى ربّهم لا يشغلهم عنه سبحانه شاغل من الأسباب لتقطّع الأسباب يومئذ، و لا يقفون موقفاً من مواقف اليوم و لا يقطعون مرحلة من مراحله إلّا و الرحمة الإلهيّة شاملة لهم( وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) النمل: 89 و لا يشهدون مشهداً من مشاهد الجنّة و لا يتنعّمون بشي‏ء من نعيمها إلّا و هم يشاهدون ربّهم به لأنّهم لا ينظرون إلى شي‏ء و لا يرون شيئاً إلّا من حيث إنّه آية لله سبحانه و النظر إلى الآية من حيث إنّها آية و رؤيتها نظر إلى ذي الآية و رؤية له.

و من هنا يظهر الجواب عمّا اُورد على القول بأنّ تقديم( إِلى‏ رَبِّها ) على( ناظِرَةٌ ) يفيد الحصر و الاختصاص، أنّ من الضروريّ أنّهم ينظرون إلى غيره تعالى كنعم الجنّة.

و الجواب أنّهم لمّا لم يحجبوا عن ربّهم كان نظرهم إلى كلّ ما ينظرون إليه إنّما هو بما أنّه آية، و الآية بما أنّها آية لا تحجب ذا الآية و لا تحول بينه و بين

١٩٨

الناظر إليه فالنظر إلى الآية نظر إلى ذي الآية فهؤلاء لا ينظرون في الحقيقة إلّا إلى ربّهم.

و أمّا ما اُجيب به عنه أنّ تقديم( إِلى‏ رَبِّها ) لرعاية الفواصل و لو سلّم أنّه للاختصاص فالنظر إلى غيره في جنب النظر إليه لا يعدّ نظراً، و لو سلّم فالنظر إليه تعالى في بعض الأحوال لا في جميعها.

فلا يخلو من تكلّف التقييد من غير مقيّد على أنّه أسند النظر إلى الوجوه لا إلى العيون أو الأبصار و وجوه أهل الجنّة إلى ربّهم دائماً من غير أن يواجهوا بها غيره.

قوله تعالى: ( وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ) فسّر البسور بشدّة العبوس و الظنّ بالعلم و( فاقِرَةٌ ) صفة محذوفة الموصوف أي فعله فاقرة، و الفاقرة من فقره إذا أصاب فقار ظهره، و قيل: من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار.

و المعنى: و وجوه يومئذ شديدة العبوس تعلم أنّه يفعل بها فعلة تقصم ظهورها أو تسم اُنوفها بالنار، و احتمل أن يكون تظنّ خطاباً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أنّه سامع و الظنّ بمعناه المعروف.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ) ردع عن حبّهم العاجلة و إيثارها على الآخرة كأنّه قيل: ارتدعوا عن ذلك فليس يدوم عليكم و سينزل عليكم الموت فتساقون إلى ربّكم و فاعل( بَلَغَتِ ) محذوف يدلّ عليه السياق كما في قوله تعالى:( فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ) الواقعة: 83 و التقدير إذا بلغت النفس التراقي.

و التراقي العظام المكتنفة للنحر عن يمين و شمال جمع ترقوة، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ قِيلَ مَنْ راقٍ‏ ) اسم فاعل من الرقى أي قال من حضره من أهله و أصدقائه من يرقيه و يشفيه؟ كلمة يأس، و قيل: المعنى قال بعض الملائكة لبعض: من يرقى بروحه من الملائكة أ ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب.؟

قوله تعالى: ( وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ ) أي و علم الإنسان المحتضر من مشاهدة هذه

١٩٩

الأحوال أنّه مفارقته للعاجلة الّتي كان يحبّها و يؤثرها على الآخرة.

قوله تعالى: ( وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) ظاهره أنّ المراد به التفاف ساق المحتضر بساقه ببطلان الحياة السارية في أطراف البدن عند بلوغ الروح التراقي.

و قيل: المراد به التفاف شدّة أمر الآخرة بأمر الدنيا، و قيل: التفاف حال الموت بحال الحياة، و قيل: التفاف ساق الدنيا و هي شدّة كرب الموت بساق الآخرة و هي شدّة هول المطّلع.

و لا دليل من جهة اللفظ على شي‏ء من هذه المعاني نعم من الممكن أن يقال: إنّ المراد بالتفاف الساق بالساق غشيان الشدائد و تعاقبها عليه واحدة بعد اُخرى من حينه ذلك إلى يوم القيامة فينطبق على كلّ من المعاني.

قوله تعالى: ( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) المساق مصدر ميميّ بمعنى السوق، و المراد بكون السوق يومئذ إليه تعالى أنّه الرجوع إليه، و عبّر بالمساق للإشارة إلى أن لا خيرة للإنسان في هذا المسير و لا مناص له عنه فهو مسوق مسيّر من يوم موته و هو قوله:( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) حتّى يرد على ربّه يوم القيامة و هو قوله:( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) و لو كان تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ ) لإفادة الحصر أفاد انحصار الغاية في الرجوع إليه تعالى.

و قيل: الكلام على تقدير مضاف و تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ ) لإفادة الحصر و التقدير إلى حكم ربّك يومئذ المساق أي يساق ليحكم الله و يقضي فيه بحكمه، أو التقدير إلى موعد ربّك و هو الجنّة و النار، و قيل: المراد برجوع المساق إليه تعالى أنّه تعالى هو السائق لا غير، و الوجه ما تقدّم.

قوله تعالى: ( فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى‏ أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ) الضمائر راجعة إلى الإنسان المذكور في قوله:( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ ) إلخ، و المراد بالتصديق المنفيّ تصديق الدعوة الحقّة الّتي يتضمّنها القرآن الكريم، و بالتصلية المنفيّة التوجّه العباديّ إليه تعالى بالصلاة الّتي هي عمود الدين.

و التمطّي - على ما في المجمع - تمدّد البدن من الكسل و أصله أن يلوي

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

أخرى من حيث النسب ، وإذا كان الله سبحانه قد خلق كلّ قبيلة وأولاها خصائص ووظائف معيّنة فإنّما ذلك لحفظ نظم حياة الناس الاجتماعية! لأنّ هذه الاختلافات مدعاة لمعرفة الناس ، فلو ، كانوا على شاكلة واحدة ومتشابهين لساد الهرج والمرج في المجتمع البشري أجمع.

وقد اختلف المفسّرون في بيان الفرق بين «الشعوب» جمع شعب ـ على زنة صعب ـ (الطائفة الكبيرة من الناس) و «القبائل» جمع قبيلة فاحتملوا احتمالات متعدّدة:

قال جماعة إنّ دائرة الشعب أوسع من دائرة القبيلة ، كما هو المعروف في العصر الحاضر أن يطلق الشعب على أهل الوطن الواحد.

وقال بعضهم : كلمة «شعوب» إشارة إلى طوائف العجم ، وأمّا «القبائل» فإشارة طوائف العرب.

وأخيرا فإنّ بعضهم قال بأنّ «الشعوب» اشارة إلى انتساب الناس إلى المناطق «الجغرافية» و «القبائل» إشارة إلى انتسابهم إلى العرق والدم.

لكنّ التّفسير الأوّل أنسب من الجميع كما يبدو! وعلى كلّ حال فإنّ القرآن بعد أن ينبذ أكبر معيار للمفاخرة والمباهات في العصر الجاهلي ويلغي التفاضل بالأنساب والقبائل يتّجه نحو المعيار الواقعي القيم فيضيف قائلا :( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) .

وهكذا فإنّ القرآن يشطب بالقلم الأحمر على جميع الامتيازات الظاهرية والمادية ، ويعطي الأصالة والواقعية لمسألة التقوى والخوف من الله ، ويقول إنّه لا شيء أفضل من التقوى في سبيل التقرّب إلى الله وساحة قدسه.

وحيث أنّ «التقوى» صفة روحانية وباطنية ينبغي أن تكون قبل كلّ شيء مستقرّة في القلب والروح ، وربّما يوجد مدّعون للتقوى كثيرون والمتّصفون بها قلة منهم ، فإنّ القرآن يضيف في نهاية الآية قائلا :( إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) .

٥٦١

فالله يعرف المتّقين حقّا وهو مطلع على درجات تقواهم وخلوص نيّاتهم وطهارتهم وصفائهم ، فهو يكرمهم طبقا لعلمه ويثيبهم ، وأمّا المدّعون الكذبة فإنّه يحاسبهم ويجازيهم على كذبهم أيضا.

* * *

بحثان

١ ـ القيم الحقّة والقيم الباطلة

لا شكّ أنّ كلّ إنسان يرغب بفطرته أن يكون ذا قيمة وافتخار ، ولذلك فهو يسعى بجميع وجوده لكسب القيم

إلّا معرفة معيار القيم يختلف باختلاف الثقافات تماما ، وربّما أخذت القيم الكاذبة مكانا بارزا ولم تبق للقيم الحقة مكان في قاموس الثقافة للفرد.

فجماعة ترى بأن قيمتها الواقعية في الانتساب إلى القبيلة المعروفة ، ولذلك فإنّهم من أجل أن تعلو سمعة قبيلتهم وطائفتهم ويظهرون نشاطات وفعاليات عامة ليكونوا برفعة القبيلة وسمّوها كبراء أيضا.

وكان الاهتمام بالقبيلة والافتخار بالانتساب إليها من أكثر الأمور الوهميّة رواجا في الجاهلية إلى درجة كانت كلّ قبيلة تعدّ نفسها أشرف من القبيلة الأخرى ، ومن المؤسف أن نجد رواسب هذه الجاهلية في أعماق نفوس الكثيرين من الأفراد والمجتمعات!! وجماعة أخرى تعوّل على مسألة المال والثروة وامتلاكها للقصور والخدم والحشم وأمثال هذه الأمور ، فتعدّها دليلا على القيمة الشخصيّة وتسعى من أجل كلّ ذلك دائما.

وجماعة تعتبر (المقامات) السياسية والاجتماعية العليا معيارا للشخصية والقيم الاجتماعية!

وهكذا تخطو كلّ جماعة في طريق خاص وتنشدّ قلوبها إلى قيمة معينة

٥٦٢

وتعدّها معيارها الشخصي!

وحيث أنّ هذه الأمور جميعها أمور متزلزلة ومسائل ذاتية ومادية وعابرة فإنّ مبدأ سماويا كمبدأ الإسلام لا يمكنه أن يوافق عليها أبدا لذلك يشطب عليها بعلامة البطلان ويعتبر القيمة الحقيقية للإنسان في صفاته الذاتية وخاصة تقواه وطهارة قلبه والتزامه الديني.

حتى أنّه لا يكترث بموضوعات مهمّة كالعلم والثقافة إذا لم تكن في خطّ «الإيمان والتقوى والقيم الأخلاقية»

ومن العجيب أن يظهر القرآن في محيط يهتمّ بالقيمة القبلية أكثر من اهتمامه بالقيم الأخرى ، إلّا أنّ القرآن حطّم هذه الوثنية وحرّر الإنسان من أسر العرق والدم والقبيلة واللون والمال والمقام والثروة وقاده إلى معرفة نفسه والعثور على ضالّته داخل نفسه وصفاتها العليا.

الطريف أنّ في ما ذكر في شأن نزول الآية محل البحث لطائف ودقائق تحكي عن عمق هذا الدستور الإسلامي.

منها : إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر «بلالا» بعد فتح مكّة أن يؤذّن ، فصعد بلال وأذّن على ظهر الكعبة ، فقال «عتّاب بن أسيد» الذي كان من الأحرار : أشكر الله أن مضى أبي من هذه الدنيا ولم ير مثل هذا اليوم وقال «الحارث بن هشام» : ألم يجد رسول الله غير هذا الغراب الأسود للأذان؟! «فنزلت الآية الآنفة وبيّنت معيار القيم الواقعية»(١) .

وقال بعضهم : نزلت الآية عند ما أمر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتزويج بعض الموالي من بنات العرب «والموالي تطلق على العبيد الذين عتقوا من ربقة أسيادهم أو على غير العرب (المسلمين)». فتعجّبوا وقالوا : يا رسول الله أتأمرنا أن نزوّج بناتنا من

__________________

(١) روح البيان ، ج ٩ ، ص ٩٠ ، كما ورد في تفسير القرطبي ص ٦١٦٠ ج ٩.

٥٦٣

الموالي «فنزلت الآية وأبطلت هذه الأفكار الخرافية»(١) .

ونقرأ في بعض الروايات الإسلامية أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب يوما في مكّة فقال :«يا أيّها الناس إنّ الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعاظمها بآبائها فالناس رجلان رجل برّ تقي كريم على الله وفاجر شقي هيّن على الله والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله تعالى :( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (٢) .

وقد جاء في كتاب «آداب النفوس» للطبري أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التفت إلى الناس وهو راكب على بعيره في أيّام التشريق بمنى «وهي اليوم الحادي عشر والثّاني عشر والثّالث عشر» من ذي الحجة فقال : «يا أيّها الناس! ألا إنّ ربّكم واحد وإنّ أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلّا بالتقوى ألا هل بلّغت : قالوا نعم! قال : ليبلغ الشاهد الغائب»(٣) .

كما ورد في حديث آخر بهذا المعنى ضمن كلمات قصيرة ذات معاني غزيرة أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ الله لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا الى أجسامكم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ، فمن كان له قلب صالح تحنّن الله عليه وإنّما أنتم بنو آدم وأحبّكم إليه أتقاكم»(٤) .

إلّا أنّ العجيب أنّه مع هذه التعليمات الواسعة الغنية ذات المغزى الكبير ما يزال بين المسلمين من يعوّل على الدم والنسب واللسان ويقدّمون وحدة الدم واللغة على الأخوة الإسلامية والوحدة الدينية ويحيون العصبية الجاهلية مرّة أخرى ،

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦١٦١.

(٣) المصدر السابق ، ص ٦١٦٢ ، والتعبير «بالأحمر» في هذه الرواية لا يعني من بشرته حمراء بل من بشرته حنطيّة لأنّ أغلب الناس في ذلك المحيط كانوا بهذه الصفة ومن الطريف أن يطلق الأحمر على الحنطة أيضا

(٤) المصدر السابق.

٥٦٤

وبالرغم من الضربات الشديدة التي يتلقّونها من جراء ذلك ، إلّا أنّهم حسب الظاهر لا يريدون أن يتيقّظوا ويعودوا إلى حكم الإسلام وحظيرة قدسه!

حفظ الله الجميع من شر العصبية الجاهلية.

إنّ الإسلام حارب العصبية الجاهلية في أي شكل كانت وفي أيّة صورة ليجمع المسلمين في العالم من أي قوم وقبيلة وعرق تحت لواء واحد! ـ لواء القومية ولا سواه ـ لأنّ الإسلام لا يوافق على هذه النظريات المحدودة ويعدّ جميع هذه الأمور وهمية ولا أساس لها حتى أنّه ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «دعوها فإنّها منتنة»(١) .

ولكنّ لماذا بقيت هذه الفكرة المنتنة مترسّخة في عقول الكثيرين ممّن يدّعون أنّهم مسلمون ويتّبعون القرآن والأخوة الإسلامية ظاهرا؟! لا ندري!!

وما أحسن أن يبنى المجتمع على أساس معيار القيم الإسلامي( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) وإن تطوى القيم الكاذبة من قوميّة ومال وثروة ومناطق جغرافية وطبقية عن هذا المجتمع.

أجل ، التقوى الإلهية والإحساس بالمسؤولية الداخلية والوقوف بوجه الشهوات والالتزام بالحق والصدق والطهارة والعدل ، هي وحدها معيار القيم الإنسانية لا غير ، بالرغم من أنّ هذه القيم الأصيلة نسيت وأهملت في سوق المجتمعات المعاصرة وحلّت محلها القيم الكاذبة.

في نظام القيم الجاهلية الذي كان يدور حول محور «التفاخر بالآباء والأموال والأولاد» لم ينتج سوى حفنة سرّاق وناهبين ، غير أنّه بتبدّل هذا النظام وإحياء أصل( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) الكبير كان من ثمراته أناس أمثال سلمان وأبو ذر وعمّار وياسر والمقداد. والمهم في ثورات المجتمعات الإنسانية هو الثورة على القيم» وإحياء هذا الأصل الإسلامي الأصيل!

__________________

(١) صحيح مسلم طبقا لما نقل في ظلال الإسلام ، ج ٧ ، ص ٥٣٨.

٥٦٥

ونختتم كلامنا هذا بحديث للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قال : «كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان»(١) .

٢ ـ حقيقة التقوى

كما رأينا من قبل ، فإنّ القرآن جعل أكبر امتياز للقوى ، وعدّها معيارا لمعرفة القيم الإنسانية فحسب!

وفي مكان آخر عدّها خير الزاد والشراب إذ يقول :( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى ) (٢) .

أمّا في سورة الأعراف فقد عبّر عنها باللباس :( وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ) (٣) .

كما أنه عبّر عنها في آيات أخر بأنّها واحدة من أول أسس دعوة الأنبياء ، ويسمو بها في بعض الآيات إلى أن يعبّر عن الله بأنه أهل التقوى فيقول :( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) (٤) .

والقرآن يعدّ التقوى نورا من الله ، فحيثما رسخت التقوى كان العلم والمعرفة إذ يقول :( وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ ) (٥) .

ويقرن التقوى بالبرّ في بعض آياته فيقول :( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) .

أو يقرن العدالة بالتقوى فيقول :( اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ) .

والآن ينبغي أن نرى ما هي «حقيقة التقوى» التي هي أعظم رأس مال معنوي وافتخار للإنسان.

أشار القرآن إشارات تكشف أستارا عن حقيقة التقوى ، فيذكر في آيات متعدّدة

__________________

(١) في ظلال القرآن ، ج ٧ ، ص ٥٣٨.

(٢) البقرة ، الآية ١٩٧.

(٣) الأعراف ، الآية ٢٦.

(٤) المدّثر ، الآية ٥٦.

(٥) البقرة ، الآية ٢٨٢.

٥٦٦

«القلب» مكانا للتقوى ، ومن ضمنها قوله تعالى :( أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى ) (١) .

ويجعل القرآن «التقوى» في مقابل «الفجور» كما نقرأ ذلك في الآية (٨) من سورة الشمس :( فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ) .

ويعدّ القرآن كلّ عمل ينبع من روح الإيمان والإخلاص والنية الصادقة أساسه التقوى ، كما جاء في وصفه في شأن «مسجد قبا» (في المدينة) حيث بنى المنافقون في قباله «مسجد ضرار» فيقول :( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ) (٢) .

ويستفاد من مجموع هذه الآيات أنّ التقوى هي الإحساس بالمسؤولية والتعهّد الذي يحكم وجود الإنسان وذلك نتيجة لرسوخ إيمانه في قلبه حيث يصدّه عن الفجور والذنب ويدعوه إلى العمل الصالح والبر ويغسل أعمال الإنسان من التلوّثات ويجعل فكره ونيّته في خلوص من أية شائبة.

وحين نعود إلى الجذر اللغوي لهذه الكلمة نصل إلى هذه النتيجة أيضا لأنّ «التقوى» مشتقّة من «الوقاية» ومعناها المواظبة والسعي على حفظ الشيء ، والمراد في هذه الموارد حفظ النفس من التلوّث بشكل عام ، وجعل القوى تتمركز في أمور يكون رضا الله فيها :

وقد ذكر بعض الأعاظم للتقوى ثلاث مراحل :

١ ـ حفظ النفس من (العذاب الخالد) عن طريق تحصيل الإعتقادات الصحيحة.

٢ ـ تجنّب كلّ إثم وهو أعم من أن يكون تركا لواجب أو فعلا لمعصية.

٣ ـ التجلّد والاصطبار عن كلّ ما يشغل القلب ويصرفه عن الحق ، وهذه تقوى

__________________

(١) الحجرات ، الآية ٣.

(٢) سورة التوبة : ١٠٨.

٥٦٧

الخواص بل خاص الخاص(١) .

وفي نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام تعابير حيّة وبليغة في شأن التقوى ، حيث ذكرت التقوى في كثير من خطب الإمام وكلماته القصار!

ففي بعض كلماته يقارنعليه‌السلام بين التقوى والذنب فيقول : «ألا وإنّ الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها وخلعت لجمها فتقحّمت بهم في النّار ألا وإنّ التقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها وأعطوا أزمّتها فأوردتهم الجنّة»(٢) .

وطبقا لهذا التشبيه اللطيف فإنّ التقوى هي حالة ضبط النفس والتسلّط على الشهوات ، في حين أنّ عدم التقوى هو الاستسلام للشهوات وعدم التسلّط عليها.

ويقول الإمام علي في مكان آخر : «اعلموا عباد الله أنّ التقوى دار حصن عزيز والفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله ولا يحرز من لجأ إليه ألا وبالتقوى تقطع حمة الخطايا»(٣) .

ويضيف في مكان آخر أيضا : «فاعتصموا بتقوى الله فإنّ لها حبلا وثيقا عروته ومعقلا منيعا ذروته»(٤) .

وتتّضح حقيقة التقوى وروحها من خلال مجموع التعبيرات آنفة الذكر.

وينبغي الالتفات إلى هذه «اللطيفة» وهي أنّ التقوى ثمرة شجرة الإيمان ، ومن أجل الحصول على هذه الثمرة النادرة والغالية ينبغي أن تكون قاعدة الإيمان راسخة ومحكمة!

وبالطبع فإنّ ممارسة الطاعة وتجنّب المعصية والالتفات إلى المناهج الأخلاقية تجعل التقوى راسخة في النفس ، ونتيجتها ظهور نور اليقين والإيمان في نفس الإنسان ، وكلّما إزداد نور التقوى إزداد نور اليقين أيضا ، ولذلك نجد التقوى في

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٧٠ ، ص ١٢٦.

(٢) نهج البلاغة الخطبة رقم ١٦.

(٣) نهج البلاغة الخطبة ١٥٧.

(٤) نهج البلاغة الخطبة ١٩٠.

٥٦٨

بعض الروايات الإسلامية على أنّها درجة أعلى من الإيمان وأدنى من اليقين!

يقول الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام : «الإيمان فوق الإسلام بدرجة والتقوى فوق الإيمان بدرجة واليقين فوق التقوى بدرجة وما قسم في الناس شيء أقلّ من اليقين».

ونختتم بحثنا بأبيات تجسّد حقيقة التقوى ضمن مثال جلي :

خل الذنوب صغيرها

وكبيرها فهو التقى

واصنع كماش فوق أرض

الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرنّ صغيرة

إنّ الجبال من الحصى

٥٦٩

الآيتان

( قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) )

سبب النّزول

ذكر كثير من المفسّرين شأنا لنزول الآيتين وخلاصته ما يلي

ورد المدينة جماعة من «بني أسد» في بعض سنين الجدب والقحط وأظهروا الشهادتين على ألسنتهم أملا في الحصول على المساعدة من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا للرسول أنّ قبائل العرب ركبت الخيول وحاربتكم إلّا أنّنا جئناك بأطفالنا ونسائنا دون أن نحاربك ، وأرادوا أن يمنّوا على النّبي عن هذا الطريق!

فنزلت الآيتان آنفتا الذكر وكشفتا أنّ إسلامهم ظاهري ولم يتغلغل الإيمان في أعماق قلوبهم ، ثمّ إذا كانوا مؤمنين فما ينبغي عليهم أن يمنّوا على الرّسول

٥٧٠

بالإيمان بل الله يمن عليهم أن هداهم للإيمان(١) .

ولكنّ وجود شأن النزول هذا لا يمنع من عمومية مفهوم الآية.

التّفسير

الفرق بين الإسلام والإيمان :

كان الكلام في الآية المتقدّمة على معيار القيم الإنسانية أي التقوى ، وحيث أنّ التقوى ثمرة لشجرة الإيمان الإيمان النافذ في أعماق القلوب ، ففي الآيتين الآنفتين بيان لحقيقة الإيمان إذ تقول الآية الأولى :( قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) .

وطبقا لمنطوق الآية فإنّ الفرق بين «الإسلام» و «الإيمان» في أنّ : الإسلام له شكل ظاهري قانوني ، فمن تشهد بالشهادتين بلسانه فهو في زمرة المسلمين وتجري عليه أحكام المسلمين.

أمّا الإيمان فهو أمر واقعي وباطني ، ومكانه قلب الإنسان لا ما يجري على اللسان أو ما يبدو ظاهرا!

الإسلام ربّما كان عن دوافع متعدّدة ومختلفة بما فيها الدوافع الماديّة والمنافع الشخصية ، إلّا أنّ الإيمان ينطلق من دافع معنوي ، ويسترفد من منبع العلم ، وهو الذي تظهر ثمرة التقوى اليانعة على غصن شجرته الباسقة!

وهذا ما أشار إليه الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تعبيره البليغ الرائع : «الإسلام علانية والإيمان في القلب»(٢) .

كما إنّا نقرأ حديثا آخر عن الإمام الصادق يقول فيه : الإسلام يحقن الدم

__________________

(١) تفسير الميزان وروح البيان وفي ظلال القرآن ، ذيل الآيات محل البحث.

(٢) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ١٣٨.

٥٧١

وتؤدّى به الأمانة وتستحل به الفروج والثواب على الإيمان(١) .

وربما كان لهذا السبب أنّ بعض الروايات تحصر مفهوم الإسلام بالإقرار اللفظي ، في حين أنّ الإيمان إقرار باللسان وعمل بالأركان ، إذ تقول الرواية «الإيمان إقرار وعمل ، والإسلام إقرار بلا عمل»(٢) .

وهذا المعنى نفسه وارد في تعبير آخر في بحث الإسلام والإيمان ، يقول «فضيل بن يسار» سمعت الإمام الصادقعليه‌السلام

يقول : إنّ الإيمان يشارك الإسلام ولا يشاركه الإسلام ، إنّ الإيمان ما وقر في القلوب والإسلام ما عليه المناكح والمواريث وحقن الدماء(٣) .

وهذا التفاوت في المفهومين فيما إذا اجتمع اللفظان معا ، إلّا أنّه إذا انفصل كل عن الآخر فربما أطلق الإسلام على ما يطلق عليه بالإيمان ، أي أنّ اللفظين قد يستعملان في معنى واحد أحيانا.

ثمّ تضيف الآية محل البحث فتقول :( وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً ) وسيوفّيكم ثواب أعمالكم بشكل كامل ولا ينقص منها شيئا.

وذلك لـ( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

لا يَلِتْكُمْ) مشتق من «ليت» على زنة (ريب) ومعناه الإنقاص من الحق(٤) .

والعبارات الأخيرة في الحقيقة إشارات إلى أصل قرآني مسلّم به وهو أنّ شرط قبول الأعمال «الإيمان» ، إذ مضمون الآية أنّه إذ كنتم مؤمنين بالله ورسوله إيمانا قلبيا وعلامته طاعتكم لله والرّسول فإنّ أعمالكم مقبولة ، ولا ينقص من أجركم شيء ، ويثيبكم الله ، وببركة هذه الأعمال يغفر ذنوبكم لأنّ الله غفور رحيم.

وحيث أنّ الحصول على هذا الأمر الباطني أي الإيمان ليس سهلا ، فإنّ الآية التالية تتحدّث عن علائمه ، العلائم التي تميّز المؤمن حقّا عن المسلم والصادق

__________________

(١) الكافي ، ج ٢ ، باب أنّ الإسلام يحقن به الدم ، الحديثان ١ ، ٢.

(٢) المصدر السابق.

(٣) أصول الكافي ، ج ٢ ، باب أنّ الإيمان يشرّك الإسلام ، الحديث ٣.

(٤) فعلى هذا يكون الفعل ليت أجوف يائيا وإن كان الفعل ولت بهذا المعنى أيضا.

٥٧٢

عن الكاذب ، وأولئك الذين استجابوا لله وللرسول رغبة وشوقا منهم عن أولئك الذين استجابوا طمعا أو للوصول إلى المال والدنيا فتقول :( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ) !

أجل ، إنّ أوّل علامة للإيمان هي عدم التردّد في مسير الإسلام ، والعلامة الثانية الجهاد بالأموال ، والعلامة الثالثة التي هي أهم من الجميع الجهاد بالنفس.

وهكذا فإنّ الإسلام يستهدف في الإنسان أجلى العلائم «ثبات القدم وعدم الشك والتردّد من جهة ، والإيثار بالمال والنفس من جهة أخرى».

فكيف لا يرسخ الإيمان في القلب والإنسان لا يقصّر عن بذل المال والروح في سبيل المحبوب!؟

ولذلك فإنّ الآية تختتم بالقول مؤكّدة :( أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) .

هذا هو المعيار الذي حدّده الإسلام لمعرفة المؤمنين الحق وتمييزهم عن الكاذبين المدّعين بالإسلام تظاهرا ، وليس هذا المعيار منحصرا بفقراء جماعة بني أسد ، بل هو معيار واضح وجلي ويصلح لكلّ عصر وزمان لفصل المؤمنين عن المتظاهرين بالإسلام ، ولبيان قيمة أولئك الذين يمنّون بأنّ أسلموا على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك بحسب الظاهر فحسب ، إلّا أنّه عند التطبيق والعمل لا يوجد فيهم أقلّ علامة من الإيمان أو الإسلام.

وفي قبال أولئك رجال لا يدّعون شيئا ولا يمنّون ، بل يرون أنفسهم مقصّرين دائما ، وفي الوقت ذاته هم في طليعة المضحّين والمؤثرين بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله.

ولو أنّا اتخذنا معيار القرآن لمعرفة المؤمنين الواقعيين وتمييزهم عن سواهم لما كان معلوما من خلال هذا العدد الهائل من آلاف الآلاف و «الملايين» ممن يدّعون الإسلام كم هم المؤمنون حقّا؟! وكم هم المسلمون في الظاهر فحسب؟!

* * *

٥٧٣

الآيات

( قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) )

سبب النزول

قال جماعة من المفسّرين إنّه بعد نزول ما تقدّم من الآيات آنفا جاء النّبي طائفة من الأعراب وحلفوا أنّهم صادقون في ادّعائهم بأنّهم المؤمنون وظاهرهم وباطنهم سواء ، فنزلت الآية الأولى من الآيات محل البحث وأنذرتهم أن لا يحلفوا ، فالله يعرف باطنهم وظاهرهم ، ولا يخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض(١) .

__________________

(١) مجمع البيان ، الميزان ، روح البيان ، وتفسير القرطبي.

٥٧٤

التّفسير

( لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ ) :

كانت الآيات السابقة قد بيّنت علائم المؤمنين الصادقين ، وحيث أنّا ذكرنا في شأن النّزول أنّ جماعة جاؤوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا إنّ ادّعاءهم كان حقيقة وإنّ الإيمان مستقر في قلوبهم ، فإنّ هذه الآيات تنذرهم وتبيّن لهم أنّه لا حاجة إلى الإصرار والقسم ، كما أنّ هذا البيان والإنذار هو لجميع الذين على شاكلة تلك الجماعة ، فمسألة (الكفر والإيمان) إنّما يطّلع عليها الله الخبير بكل شيء!

ولحن الآيات فيه عتاب وملامة ، إذ تقول الآية الأولى من الآيات محل البحث :( قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) .

ولمزيد التأكيد تقول الآية أيضا :( وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) . فذاته المقدّسة هي علمه بعينه وعلمه هو ذاته بعينها(١) ولذلك فإنّ علمه أزلي أبدي!

ذاته المقدّسة في كلّ مكان حاضرة ، وهو أقرب إليكم من حبل الوريد ، ويحول بين المرء وقلبه ، فمع هذه الحال لا حاجة لادّعائكم ، وهو يعرف الصادقين من الكاذبين ومطّلع على أعماق أنفسهم حتى درجات إيمانهم المتفاوتة ضعفا وقوّة ، وقد تنطلي عليهم أنفسهم ، إلّا أنّه يعرفها بجلاء ، فعلام تصرون أن تعلّموا الله بدينكم؟!

ثمّ يعود القرآن لكلمات الأعراب من أهل البادية الذين يمنّون على النّبي بأنّهم أسلموا وأنّهم أذعنوا لدينه في الوقت الذي حاربته القبائل العربية الأخرى.

فيقول القرآن جوابا على كلماتهم هذه :( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

__________________

(١) يشيع على ألسنة بعضهم التعبير بـ «صفاته عين ذاته وذاته عين صفاته» وما أشبه ذلك وهذا التعبير ركيك والصحيح ما ورد في المتن (المصحّح).

٥٧٥

«المنة» كما بيّنا سابقا من مادة «المن» ومعناه الوزن الخاص الذي يوزن به ، ثمّ استعمل هذا اللفظ على كلّ نعمة غالية وثمينة ، والمنّة على نوعين : فإذا كان فيها جانب عملي كعطاء النعمة والهبة فهي ممدوحة ، ومنن الله من هذا القبيل ، وإذا كان فيها جانب لفظي ، كمن كثير من الناس بالقول بعد العمل ، فهي قبيحة وغير محبوبة! الطريف أن صدر الآية يقول «يمنّون عليك أن أسلموا» وهذا تأكيد آخر على أنّهم غير صادقين في إيمانهم.

وفي ذيل الآية يأتي التعبير قائلا :( بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

وعلى كلّ حال فهذه مسألة مهمّة أن يتصوّر قاصر والتفكير غالبا أنّهم بقبول الإيمان وأداء العبادات والطاعات يقدمون خدمة لساحة قدس الله أو للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصيائه ، ولذلك فهم ينتظرون الثواب والأجر.

في حين أنّه لو أشرق نور الإيمان في قلب أحد ، ونال هذا التوفيق بأن كان في زمرة المؤمنين ، فقد شمله لطف عظيم من اللهعزوجل .

فالإيمان وقبل كلّ شيء يمنح الإنسان إدراكا جديدا عن عالم الوجود ، ويكشف عنه حجب الأنانية والغرور ، ويوسع عليه أفق نظرته ، ويجسّد له عظمة خلقه في نظره!

انّه يلقي على عواطفه النور والضياء ويربّيها ويحيي في نفسه القيم الإنسانية ، وينمّي استعداداته العالية فيه ، ويمنحه العلم والقوة والشهامة والإيثار والتضحية والعفو والتسامح والإخلاص ، ويجعل منه إنسانا قويا ذا عطاء وثمر بعد أن كان موجودا ضعيفا.

إنّه يأخذ بيده ويصعد به في مدارج الكمال إلى قمة الفخر ، ويجعله منسجما مع عالم الوجود ، ويسخّر عالم الوجود طوع أمره!

٥٧٦

أهذه النعمة التي أنعمها الله على الإنسان ذات قيمة ، أم ما يمنّه الإنسان على النبي؟!!

كذلك كلّ عبادة وطاعة هي خطوة نحن التكامل ، إذ تمنح القلب صفاء وتسيطر على الشهوات ، وتقوّي فيه روح الإخلاص ، وتمنح المجتمع الإسلامي الوحدة والقوّة والعظمة فكأنّه نسيج واحد!

فكل واحدة منها درس كبير في التربية ، ومرحلة من المراحل التكاملية!

ومن هنا كان على الإنسان أن يؤدّي شكر نعمة الله صباح مساء ، وأن يهودي إلى السجود بعد كلّ صلاة وعبادة ، وأن يشكر الله على جميع هذه الأمور!

فإذا كانت نظرة الإنسان ـ في هذا المستوى ـ من الإيمان والطاعة فإنه لا يرى نفسه متفضلا ، بل يجد نفسه مدينا لله ولنبيّه وغريق إحسانه. ويؤدّي عبادته بلهفة ، ويسعى في سبيل طاعته على الرأس لا على القدم وإذا ما أثابه الله أجرا فهو تفضّل آخر منه ولطف ، وإلّا فإنّ أداء الأعمال الصالحة يكون بنفع الإنسان ، والحقيقة أنّه بهذا التوفيق يضاف على ميزانه عند الله.

فهداية الله ـ بناء على ما بيّنا ـ لطف ، ودعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لطف آخر ، والتوفيق للطاعة مضاعف ، والثواب لطف فوق لطف!

وفي آخر آية من الآيات محل البحث التي هي آخر سورة الحجرات تأكيد آخر على ما ورد في الآية الآنفة إذ تقول :( إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) فلا تصرّوا على أنّكم مؤمنون حتما ولا حاجة للقسم فهو حاضر في أعماق قلوبكم ، وهو عليم بما يجري في غيب السماوات والأرض جميعا ، فكيف لا يعلم ما في قلوبكم وما تنطوي عليه صدوركم؟!

اللهم : مننت علينا بنور الإيمان ، فنقسم عليك بعظيم نعمة الهداية أن تثبّت أقدامنا في هذا الطريق وتقودنا في سبيل الكمال

٥٧٧

إلهنا ، أنت عالم بما في قلوبنا ، وتعلم نيّاتنا ودوافعنا ، فاستر عيوبنا عن أنظار عبادك ، وأصلح ما فسد منّا بكرمك.

ربّنا ، وفّقنا للتحلّي بجميل الصفات ومحاسن الأخلاق التي ذكرتها في هذه السورة حتى تتجذّر في وجودنا وتتعمّق في أرواحنا وأفكارنا

آمين ربّ العالمين

انتهاء سورة الحجرات

ونهاية المجلد السادس عشر

٥٧٨

الفهرس

سورة الزّخرف ٧

محتوى سورة الزّخرف ٧

فضل تلاوة السّورة ٨

تفسیر الآيات : ١ ـ ٨ ١٠

ذنوبكم لا تمنع رحمتنا ١٠

تفسیر الآيات : ٩ ـ ١٤ ١٦

بعض أدلّة التوحيد ١٦

ملاحظة

ذكر الله عند الانتفاع بالنعم ٢٢

تفسیر الآيات : ١٥ ـ ١٩ ٢٥

كيف تزعمون أنّ الملائكة بنات الله ٢٥

تفسیر الآيات : ٢٠ ـ٢٢ ٣٠

لا دليل لهم سوى تقليد الآباء الجاهلين ٣٠

تفسیر الآيات : ٢٣ ـ ٢٥ ٣٤

عاقبة هؤلاء المقلدين ٣٤

تفسیر الآيات : ٢٦ ـ ٣٠ ٣٧

التوحيد كلمة الأنبياء الخالدة ٣٧

تفسیر الآيات : ٣١ ـ ٣٢ ٤٢

٥٧٩

لم لم ينزل القرآن على أحد الأغنياء ٤٢

سؤالين مهمّين ٤٤

تفسير الآيات : ٣٣ ـ ٣٥ ٤٨

قصور فخمة سقفها من فضة؟ (قيم كاذبة) ٤٨

ملاحظتان

١ ـ الإسلام يحطم القيم الخاطئة ٥٠

٢ ـ جواب عن سؤال ٥٢

تفسير الآيات : ٣٦ ـ ٤٠ ٥٤

أقران الشياطين ٥٤

تفسير الآيات : ٤١ ـ ٤٥ ٦٠

استمسك بالذي اوحي إليك ٦٠

ملاحظة

من هم قوم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ٦٥

تفسير الآيات : ٤٦ ـ ٥٠ ٦٦

الفراعنة المغرورون ونقض العهد ٦٦

تفسير الآيات : ٥١ ـ ٥٦ ٧٠

إذا كان نبيا فلم لا يملك أسورة من ذهب ٧٠

تفسير الآيات : ٥٧ ـ ٦٢ ٧٧

سبب النّزول ٧٧

أي الالهة في جهنم ٧٨

تفسير الآيات : ٦٣ ـ ٦٥ ٨٤

الذين غالوا في المسيح ٨٤

تفسير الآيات : ٦٦ ـ ٦٩ ٨٨

ماذا تنتظرون غير عذاب الآخرة ٨٨

٥٨٠

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592