الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177265 / تحميل: 5797
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

(فتأمّل!)(١) .

والجدير بالملاحظة هنا : هو أنّ المفسّرين قد احتملوا عدّة احتمالات في تفسير( فِي عَقِبِهِ ) ففسّرها البعض بكلّ ذريّة إبراهيم وأسرته ، واعتبرها آخرون خاصّة بقوم إبراهيم وأمّته ، وفسّرها جماعة بآل محمّدعليهم‌السلام إلّا أنّ الظاهر هو أنّ لها معنى واسعا يشمل كل ذريته إلى انتهاء الدنيا ، والتّفسير بآل محمّدعليهم‌السلام من قبيل بيان المصداق الواضح لها.

والآية التالية جواب عن سؤال في الحقيقة ، وهو : في مثل هذه الحال لم لا يعذّب الله مشركي مكّة؟ ألم نقرأ في الآيات السابقة :( فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) ؟

فتقول الآية مجيبة :( بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ ) فنحن لم نكتف بحكم العقل ببطلان الشرك والوثنيّة ، ولا بحكم وجدانهم بالتوحيد بل أمهلناهم لإتمام الحجّة عليهم حتّى يقوم هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهذا النّبي العظيم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهدايتهم.

وبتعبير آخر ، فإنّ جملة( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) في الآية السابقة توحي بأنّ الهدف من مساعي إبراهيمعليه‌السلام الحثيثة كان رجوع كل ذرّيته إلى خط التوحيد ، في حين أن العرب كانت تدعي أنّها من ذرية إبراهيمعليه‌السلام ورغم ذلك لم ترجع ، إلّا أنّ الله سبحانه أمهلهم مع ذلك حتى يأتي النّبي العظيم بالكتاب الجديد ليوقظ هؤلاء من نومهم ، وبالفعل فقد استيقظت جماعة عظيمة منهم.

إلّا أنّ العجيب أنّه :( وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ ) !

نعم. لقد عدوّا القرآن المجيد سحرا ، والنّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساحرا ، وإذا لم يرجعوا عمّا قالوا فإنّ عذاب الله سيحيط بهم ويأخذهم من حيث لا يشعرون.

* * *

__________________

(١) نقل صاحب نور الثقلين هذه الأحاديث في المجلّد ٤ ، صفحة ٥٩٦ ـ ٥٩٧ ، ووردت أيضا في تفسير البرهان ، المجلد ٤ ، صفحة ١٣٨ ـ ١٣٩.

٤١

الآيتان

( وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) )

التّفسير

لم لم ينزل القرآن على أحد الأغنياء؟

كان الكلام في الآيات السابقة في ذرائع المشركين في مواجهة دعوة الأنبياء ، فكانوا يتّهمونهم بالسحر تارة ، ويتوسلون تارة أخرى بتقليد الآباء وينبذون كلام الله وراء ظهورهم ، وتشير الآيات ـ مورد البحث ـ إلى حجّة واهية أخرى من حجج أولئك المشركين ، فتقول :( وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) أي مكّة والطائف.

لقد كانوا معذورين بتشبثهم بمثل هذه الذريعة من جهة ، إذ كان المعيار في

٤٢

تقييمهم للبشر هو المال والثروة والمقام الظاهري والشهرة.

إنّ صغار العقول هؤلاء كانوا يتصوّرون أنّ الأثرياء ، وزعماء قبائلهم الظلمة هم أقرب الناس إلى الله سبحانه ، ولذلك فإنّهم كانوا يتعجبون لماذا لم تنزل موهبة النبوّة والرحمة الإلهيّة العظيمة هذه على رجل من قبيل هؤلاء الأفراد ونزلت على يتيم فقير خالي اليد اسمه محمّد! إن هذا لشيء عجاب لا يكاد يصدق!

نعم ، إنّ نظام القيم الخاطئ يستتبع مثل هذا الاستنباط ، وهذا هو السبب في بلاء المجتمعات البشرية العظيم ، والعامل الأساس في انحرافها الفكري ، حيث تقلب الحقائق تماما في بعض الأحيان.

إنّ حامل هذه الدعوة الإلهيّة يجب أن يكون إنسانا تغمر وجوده روح التقوى

أن يكون إنسانا واعيا ، ذا إرادة وتصميم ، شجاعا عادلا ، عارفا بآلام المحرومين والمظلومين ، ذائقا لمرارتها

هذه هي القيم التي يلزم توفّرها من أجل حمل هذه الرسالة السماويّة ، لا الألبسة الفاخرة الجميلة ، والقصور الفخمة الفارهة المزيّنة بأنواع الزينة والزخارف ، خاصّة وإن أيّا من أنبياء الله لم يكن متمتعا بهذه الصفات والمزايا المادية ، لئلّا تشتبه القيم الأصيلة بالقيم المزيّفة.

وللمفسّرين أقوال في مراد المشركين من الرجل في مكّة والطائف؟ إلّا أنّ أغلبهم اعتبروا «الوليد بن المغيرة» رجل مكّة ، و «عروة بن مسعود الثقفي» رجل الطائف ، وإن كان البعض قد ذكر أن عتبة بن ربيعة من مكّة ، وحبيب بن عمر الثقفي من الطائف.

إلّا أنّ الظاهر أن قول أولئك المشركين لم يكن يدور حول شخص معين ، بل كان هدفهم الإشارة إلى أحد الأثرياء المعروفين ، وله عشيرة مشهورة.

ويردّ القرآن الكريم بأجوبة قاطعة على هذا النمط من التفكير المتسافل الخرافي ، ويجسد النظرة الإلهيّة الإسلاميّة تماما ، فيقول أوّلا :( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ

٤٣

رَبِّكَ ) فيمنحوا النبوّة من يشاءون ، وينزلوا عليه الكتاب السماوي ، وإذا لم يعجبهم إنسان أهملوه؟

هؤلاء على خطأ كبير ، فإنّ ربّك هو الذي يقسم رحمته ، وهو يعلم ـ أفضل من سواه ـ من يستحق هذا المقام العظيم ، ومن هو أهل له ، كما ورد ذلك في الآية (١٢٤) من سورة الأنعام أيضا :( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) .

فضلا عن ذلك ، فإنّ وجود التفاوت والاختلاف بين البشر من ناحية مستوى المعيشة ، لا يدلّ على تفاوتهم في المقامات والمنازل المعنويّة مطلقا ، بل :( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ) .

لقد نسي هؤلاء أنّ حياة البشر حياة جماعيّة ، ولا يمكن أن تدار هذه الحياة إلّا عن طريق التعاون والخدمة المتبادلة ، فإذا ما تساوى كلّ الناس في مستوى معيشتهم وقابليّاتهم ومكانتهم الاجتماعية ، فإنّ أصل التعاون والخدمة المتبادلة سيتزلزل.

بناء على هذا فينبغي أن لا يخدعهم هذا التفاوت ، ويظنّوا أنّه معيار القيم الإنسانية ، إذ :( وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) بل إن كل المقامات والثروات لا تعدل جناح بعوضة في مقابل رحمة الله والقرب منه.

إنّ التعبير بـ «ربّك» الذي تكرّر مرّتين في هذه الآية ، إشارة لطيفة إلى لطف الله الخاص بنبي الإسلام الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنحه مقام النبوّة والخاتميّة.

* * *

سؤالين مهمّين :

عند مطالعة الآية أعلاه يتبادر إلى الذهن سؤالان يستخدمهما أعداء الإسلام كحربة للطعن في الفلسفة الإسلاميّة :

٤٤

الأوّل : كيف أقرّ القرآن استخدام الإنسان وتسخيره من قبل الإنسان؟ ألا يماثل هذا نظام الطبقات الاقتصاديّة ، أي نظام المستثمرين والمستثمرين؟

الثّاني : أنّ الأرزاق والمعايش إذا كانت مقسّمة من قبل الله تعالى ، فأي ثمرة يمكن أن تنتج عن جهودنا ومساعينا؟ ألّا يعني هذا إطفاء مشاعل السعي ومصابيح الجهاد من أجل الحياة؟

إنّ الإباحة على هذه الأسئلة تتّضح بالتدقيق في متن الآية ، لأنّ هؤلاء يتصورون أنّ معنى الآية هو أنّ جماعة معيّنة من البشر تسخر جماعة أخرى لأنفسها تسخيرا ظالما يمتصّ الدماء والجهود ، في حين أن الأمر ليس كذلك ، بل هو استخدام الناس بعضهم بعضا ، أي أنّ كل جماعة من الناس لهم إمكانيّات واستعدادات خاصّة يستطيعون العمل بواسطتها في مجال ما من شؤون الحياة ، وهم بطبيعة الحال يقدمون خدماتهم في ذلك الحقل إلى الآخرين ، كما أنّ خدمات الآخرين في الحقول الأخرى تقدم إليهم.

والخلاصة : هو استخدام متبادل ، وخدمة ذات طرفين ، وبتعبير آخر : فإنّ الهدف من التسخير هو التعاون في أمر الحياة ، ولا شيء آخر.

ولا يخفى أنّ البشر لو كانوا متساوين جميعا من ناحية الذكاء والاستعداد الروحي والجسمي ، فسوف لن تتهيّأ مستلزمات الحياة الاجتماعيّة ، والنظم الحياتيّة مطلقا ، كما أن خلايا جسم الإنسان لو كانت متشابهة من ناحية البنية والرقة والمقاومة لا ختل نظام الجسم ، فأين خلايا عظم كعب القدم القويّة جدّا من خلايا العين الرقيقة؟ إن لكل من هاتين مهمّة خاصّة بنيت على أساسها.

والمثال الحي الذي يمكن أن يضرب لهذا الموضوع هو الخدمات المتبادلة في جهاز التنفّس ، ودوران الدم ، والتغذية ، وسائر أجهزة بدن الإنسان ، التي هي مصداق واضح لـ( لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ) في إطار نشاطات البدن الداخليّة ، فهل يمكن الإشكال على مثل هذا التسخير؟ وهل فيه خلل أو نقص؟

٤٥

فإن قيل : إنّ جملة :( رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ) دليل على عدم العدالة الاجتماعية.

قلنا : هذا يصحّ في حالة تفسير العدالة بالمساواة ، في حين أنّ العدالة تعني وضع كلّ شيء في محلّه ضمن منظومته ، فهل أنّ وجود سلسلة المراجع والرتب في فرقة عسكريّة ، أو تنظيم إداري ، أو في الدولة ، دليل على وجود الظلم في تلك الأجهزة؟

من الممكن أن يستعمل بعض الناس كلمة «المساواة» في مجال الشعارات من دون الالتفات إلى معناها الواقعي ، أمّا في الواقع العملي فلا يمكن أن يتمّ أو يقوم أي نظام بدون الاختلاف والتفاوت ، غير أنّ هذا التفاوت يجب أن لا يكون ذريعة لأنّ يستغل الإنسان أخاه الإنسان أبدا ، بل يجب أن يكون الجميع أحرارا في استعمال قواهم الخلاقة ، وتنمية نبوغهم وإبداعهم ، والاستفادة من نتائج نشاطاتهم بدون زيادة أو نقصان ، وأمّا في حال عجزهم فيجب على القادرين أن يجدوا ويجتهدوا في رفع النواقص وسد ما يحتاجونه.

وأمّا فيما يتعلق بالسؤال الثّاني ، وهو : كيف يمكن المحافظة على شعلة الجهاد والسعي والاجتهاد وهاجة مع كون الرزق معينا؟ فإنّ الاشتباه ناشئ من تصورهم أن الله سبحانه لم يجعل لسعي الإنسان واجتهاده أي أثر أو دور.

صحيح أنّ الله سبحانه خلق القابليات متفاوتة لمختلف النشاطات ، وصحيح أنّ العوامل الخارجة عن إرادة الإنسان مؤثّرة في مسير حياته ، لكن مع ذلك فإنّه سبحانه قد جعل سعيه ، واجتهاده أيضا أحد العوامل الأساسيّة ، وأوضح سبحانه ببيان أصل :( أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) (١) ، أنّ سعادة الإنسان وما يجنيه ويحصل عليه يرتبط بسعيه واجتهاده.

وعلى أيّة حال ، فإنّ النكتة الغامضة والدقيقة تكمن في أنّ البشر ليسوا

__________________

(١) النجم ، الآية ٣٩.

٤٦

كالأواني المتساوية الصفات الى صنعت في معمل واحد ، في شكل واحد ، وعلى وتيرة واحدة ، وبحجم واحد ، ولغاية واحدة في الاستعمال ، ولو كانوا كذلك لما أمكنهم التعايش بعضهم مع البعض الآخر يوما واحدا.

وأيضا ليس الناس من قبيل أجهزة وأدوات سيارة نظمها مهندسها على هيئة ما ، فهي تقوم بعملها بصورة إجبارية ، بل لديهم حرية الإرادة ، وعليهم مسئولية وواجب في نفس الوقت الذي تختلف فيه قابلياتهم ولياقاتهم ، وهذا هو المركب الخاص الذي يسمونه الإنسان ، والاعتراضات والإيرادات التي تطرح غالبا تنبع من عدم معرفة هذا الإنسان.

وخلاصة القول : إنّ الله سبحانه لم يفضل أي إنسان على الآخرين من كل الجهات ، بل إنّ جملة :( رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ) إشارة إلى الامتيازات التي تمتاز بها كل جماعة على الجماعة الأخرى ، وتسخير كل فئة لأخرى واستخدامها لها نابع من هذه الامتيازات تماما ، وهذا عين العدالة والتدبير والحكمة(١) .

* * *

__________________

(١) كان لنا بحث مفصّل في هذا الباب في ذيل الآية (٣٢) من سورة النساء ، وبحث آخر في ذيل الآية (١٦٥) من سورة الأنعام.

٤٧

الآيات

( وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥) )

التّفسير

قصور فخمة سقفها من فضة؟ (قيم كاذبة)

تستمر هذه الآيات في البحث حول «نظام القيم في الإسلام» ، وعدم اعتبار كون المال والثروة والمناصب المادية هي المعيار في التقييم ، فتقول الآية الأولى :( وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ ) (١) .

ولجعلنا لهم بيوتا لها عدّة طوابق ولها سلالم جميلة( وَمَعارِجَ عَلَيْها

__________________

(١) «لبيوتهم» بدل اشتمال بـ (لمن يكفر بالرحمن) وتكرار (اللام) لهذا المعنى ، أو بمعنى (على) أي : على بيوتهم ، لكن الاحتمال الأول أصح.

٤٨

يَظْهَرُونَ ) (١) .

وقال بعض المفسّرين : إنّ المراد أن السلالم مصنوعة من الفضة ، وعدم تكرار كلمة الفضة لوضوح المراد. وكأنّهم لم يعتبروا وجود السّلام لوحدها دليلا على أهمية البيوت ، والأمر ليس كذلك ، إذ أن وجود السلالم الكثيرة دليل على عظمة النباء وتكونه من عدّة طوابق.

«السقف» جمع سقف ، ويعتقد البعض أنها جمع سقيفة ، أي المكان المسقف ، إلّا أنّ القول الأوّل أشهر.

ثمّ تضيف الآية الأخرى :( وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ ) .

وربّما كانت هذه الجملة إشارة إلى الأبواب والأسرّة الفضية ، لأنّ الآية السابقة لما تحدثت عن السّقف الفضية امتنع التكرار. ويمكن أيضا أن يكون وجود الأبواب والأسرّة المتعددة ـ خاصّة وأن (أبوابا) و (سررا) نكرة ، وقد وردت هنا لبيان الأهمية ـ دليلا بنفسه على عظمة تلك القصور ، لأنّهم يجعلون لبيت حقير عدّة أبواب أبدا ، بل هي مختصة بالقصور والبيوت الفخمة ، وكذلك الحال بالنسبة لوجود الأسرّة.

ولم تكتف الآية بهذا ، بل استطردت أنّه إضافة إلى كل ذلك فقد جعلنا لهم مباهج وانواع الزينة( وَزُخْرُفاً ) (٢) لتكمل الحياة المادية وزخارفها وزبارجها من كل الجهات ، القصور الفخمة المتعددة الطبقات الأبواب والأسرّة المتعددة ، وكل وسائل الزينة والنقوش والرسوم وسائر الجواذب التي يتحقّق فيها مراد عبيد الدنيا وأمانيهم.

ثمّ تضيف الآية :( وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ

__________________

(١) «المعارج» جمع معراج ، وهو الوسيلة التي يستخدمها الإنسان للصعود إلى الطبقات العليا.

(٢) اعتبر البعض (زخرفا) عطفا على (سقفا) ، ويعتقدون أنها إشارة إلى وسائل الزينة المستقلة التي توضع تحت تصرف أمثال هؤلاء الأفراد. والبعض اعتبرها عطفا على (من فضة) وكانت في الأصل (من زخرف) ثم نصبت بنزع الخافض ، وعلى هذا يصبح معنى الجملة : إنا جعلنا بعض سقوف وأسرة بيوت هؤلاء من ذهب وبعضها من فضة. (تأمل!).

٤٩

لِلْمُتَّقِينَ )

«الزخرف» في الأصل بمعنى كل زينة مقترنة بالرسم والتصوير ، ولما كان الذهب أحد أهم وسائل الزينة ، فقد قيل له : زخرف ، وإنّما قيل للكلام الأجوف الذي لا فائدة فيه : كلام مزخرف ، لأنهم يحيطونه ويلبسونه المزوقات ليصبح مقبولا.

وخلاصة القول : إنّ هذه الأسس المادية ووسائل الزينة الدنيوية ، حقيرة لا قيمة لها عند الله تعالى فلا ينبغي أن تكون إلّا من نصيب الأفراد الذين لا قيمة لهم كالكافرين ومنكري الحق ، ولو لم يتأثر الناس من طلاب الدنيا ويميلوا إلى الكفر لجعل الله تعالى هذه الأمور من نصيب هذه الفئة فقط ، ليعلم الجميع أن هذه الأمور ليست هي المعيار والمقياس لشخصية الإنسان وقيمته ومقامه.

* * *

ملاحظتان

١ ـ الإسلام يحطم القيم الخاطئة

حقّا لا يمكن العثور على تعبير أبلغ مما ورد في الآيات أعلاه لتحطيم المقاييس والقيم الكاذبة والقضاء عليها ، وتغيير بناء ذلك المجتمع الذي يدور محور تقييم شخصية الأفراد فيه حول مقدار ما يملكون من الإبل ، ومقدار الدراهم والدنانير ، وعدد الغلمان والجواري والبيوت وأدوات الزينة ، حتى أنّهم يتعجبون لماذا اختير محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للنبوة وهو اليتيم الفقير ماديا؟!

إن أهم عمل لرسالة السماء هو تحطيم أطر القيم الخاطئة هذه ، وبناء القيم الإنسانية الأصيلة كالتقوى ، والعلم ، الإيثار والتضحية ، الشهامة والحلم على أنقاضها ، وإلّا فإنّ كل الإصلاحات ستكون فوقية وسطحية وغير ثابتة.

وهذا هو الذي قام به الإسلام والقرآن والرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أحسن

٥٠

وجه ، ولهذا فإنّ المجتمع الذي كان أكثر المجتمعات البشرية تخلفا وخرافة ، قد تسلق سلّم الرشد والرقي حتى أصبح في المرتبة الأولى في مدّة قصيرة.

والطريف أنّنا نقرأ في حديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في تكملة هذا البحث : «لو وزنت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء»(١) .

ويبلغ أمير المؤمنين عليعليه‌السلام الكلام في هذا الباب غايته حيث يقول : «ولقد دخل موسى بن عمران وأخوه هارونعليهما‌السلام على فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصي ، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه ودوام عزّه ، فقال : ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العزّ وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر والذل ، فهلّا ألقي عليهما أساورة من ذهب ، إعظاما للذهب وجمعه ، واحتقارا للصوف ولبسه ، ولو أراد الله سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان ، ومعادن العقيان ، ومغارس الجنان ، وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الأرض لفعل ، ولو فعل لسقط البلاء ، وبطل الجزاء».

ويقول في موضع آخر من هذه الخطبة : «ألا ترون ان الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضر ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تسمع ، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياما. ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرا ، وأقل نتائق الأرض مدرا ، وأضيق بطون الأودية قطرا ، بين جبال خشنة ، ورمال دمثة ، وعيون وشلة ، وقرى منقطعة ، لا يزكو بها خف ، ولا حافر ولا ظلف. ثمّ أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه ، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم ...».

«ولو أراد الله سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنات وأنهار ، وسهل وقرار ، جم الأشجار ، داني الثمار ، ملتف البنا ، متصل القرى ، بين برة سمراء ، وروضة خضراء ، وأرياف محدقة ، وعراص مغدقة ، وطرق عامرة ، لكان قد صغر

__________________

(١) تفسير الكشّاف ، المجلد ٤ ، صفحة ٢٥٠.

٥١

قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء»(١) .

وعند ذلك كان الناس سينشغلون بالقيم الظاهرية الخداعة ، ويغفلون عن القيم الإلهيّة الواقعية.

على أية حال ، فإنّ أساس الثورة الإسلامية هو تغيير القيم ، وإذا ما أصبح مسلمو اليوم يعانون من ظروف صعبة خانقة ، وتحت ضغط الأعداء الجلادين القساة ، فإنّ ذلك ناتج عن تركهم لقيم الأصيلة ، وانتشار القيم والأعراف الجاهلية بينهم مرّة أخرى ، فأصبح المال والمنصب الدنيوي مقياس التقييم ، ونسوا العلم والفضيلة والتقوى ، وغرقوا في بحر المغريات والزخارف المادية ، وأضحوا غرباء عن الإسلام ، وما دام الوضع كذلك فيجب أن يدفعوا كفارة هذا الذنب العظيم ، وما داموا لم يشرعوا بالتغيير ابتداء من القيم الحاكمة على وجودهم ، فسوف لن تشملهم رحمة الله ولطفه ، وذلك :( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) (٢) .

٢ ـ جواب عن سؤال

بمطالعة الآيات المذكورة حول التحقير الشديد للزينة الظاهرية ، والثروة والمقام المادي ، يطرح هذا السؤال نفسه ، وهو : إذا كان الحق كذلك ، فلما ذا يقول القرآن في موضع آخر:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) .(٣)

أو يقول في موضع آخر :( يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) (٤) ، فكيف

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٢. الخطبة القاصعة.

(٢) الرعد ، الآية ١١.

(٣) الأعراف ، الآية ٣٢.

(٤) الأعراف ، الآية ٣١.

٥٢

تتوافق هاتان الفئتان مع الآيات؟

ينبغي الالتفات في الجواب إلى أن الهدف في الآيات ـ مورد البحث ـ هو القضاء على القيم الكاذبة الخاطئة ، الهدف هو أن لا يعد الناس شخصية الإنسان متقومة بثروته وزينته ، ولا يغني هذا أنّ الإمكانيات المادية شيء سيّء ، بل المهم أن تكون مجرّد أدوات ومظاهر للنظر ، وليس كهدف سام وغاية تبلغ.

ثمّ إنّ هذه الإمكانيات تكون ذات قيمة عند ما تكون في حد المعقول واللائق بالحال ، وخالية من كلّ أنواع الإسراف والتبذير ، لا أن تبنى القصور من الذهب والفضة ، وتدّخر الثروات الطائلة منهما.

ومن هنا يتّضح أن وجود جماعة من الكفّار والظالمين بهذه القدرة المادية ليس دليلا على رفعة شخصيتهم ، ولا أن حرمان المؤمنين منها ، أو من التمتع بها في حد المعقول كأدوات للزينة ، يضر بإيمانهم وتقواهم ، وهذا هو التفكير الإسلامي والقرآني الصحيح.

* * *

٥٣

الآيات

( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) )

التّفسير

أقران الشياطين!

لما كان الكلام في الآيات السابقة عن عبدة الدنيا الذين يقيّمون كل شيء على أساس المعايير المادية ، فإنّ الآيات ـ مورد البحث ـ تتحدث عن أحد الآثار المميتة الناشئة عن الارتباط بالدنيا والتعلق بها ، ألا وهو الابتعاد عن الله سبحانه. تقول الآية الأولى :( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ

٥٤

قَرِينٌ ) (١) (٢) .

نعم ، إنّ الغفلة عن ذكر الله ، والغرق في لذات الدنيا ، والانهيار بزخارفها ومغرياتها يؤدي إلى تسلط شيطان على الإنسان يكون قرينة دائما ، ويلقي لجاما حول رقبته يشدّه به ، ويجرّه إليه ليذهب به حيث يشاء!

من البديهي أنّه لا مجال لأن يتصور أحد معنى الجبر في هذه الآية لأنّ هذه نتيجة الأعمال التي قام بها هؤلاء أنفسهم ، وقد قلنا مرارا : إنّ أولى نتائج أعمال الإنسان ـ وخاصة الانغماس في ملاذ الدنيا ، والتلوث بأنواع المعاصي ـ هو تكوّن حجاب على القلب والسمع والبصر يبعده عن الله سبحانه ، ويسلط الشياطين عليه ، وقد يستمرّ هذا الحال بالنسبة إليه حتى يغلق بوجهه باب الرجوع ، لأنّ الشياطين والأفكار الشيطانية تكون حينئذ قد أحاطت به من كل جانب ، وهذه نتيجة عمل الإنسان نفسه ، وإن كانت نسبتها إلى الله سبحانه بلحاظ كونه سبب الأسباب صحيحة أيضا ، وهذا هو نفس الشيء الذي عبّر عنه في آيات القرآن الأخرى بعنوان تزيين الشياطين( فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ) (٣) ، أو بعنوان ولاية الشيطان( فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ) .(٤)

وممّا يستحق الانتباه أن جملة( نُقَيِّضْ ) وبالالتفات إلى معناها اللغوي ، تدل على استيلاء الشياطين ، كما تدل على كونهم أقرانا ، وفي الوقت نفسه فقد جاءت جملة :( فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) بعدها لتؤكّد هذا المعنى ، وهو أنّ الشياطين لا يفارقون مثل هؤلاء الأفراد ، ولا يبتعدون عنهم مطلقا!

__________________

(١) «يعش» من مادة العشو ، فإن عديت بـ (إلى) : (عشوت إليه) فهي تعني الهداية بواسطة شيء ما بعين ضعيفة ، وإن عديت بـ (عن) : (عشا عنه) ، وأعطت معنى الإعراض عن الشيء ، وهو المراد في الآية المذكورة. لسان العرب (عشو).

(٢) «نقيّض» من مادة قيض ، وهي في الأصل بمعنى الغشاء الذي يغطي البيضة ، ثمّ جاءت بمعنى جعل شيء مستوليا على شيء آخر.

(٣) النحل ، الآية ٦٣.

(٤) النحل ، الآية ٦٣.

٥٥

والتعبير بـ «الرحمن» إشارة لطيفة إلى أنّه كيف يعرض هؤلاء عن الله الذي عمّت رحمته العامّة الجميع وشملتهم ، ويغفلون عن ذكره؟ فهل يستحق أمثال هؤلاء غير هذا المصير ويكونون أقرانا للشياطين ، يتبعون أوامرهم ، وينفذون ما يملون عليهم؟

واحتمل بعض المفسّرين أن يكون للشياطين هنا معنى واسع بحيث يشمل حتى شياطين الإنس ، واعتبروا الكلمة إشارة إلى رؤوس الضلالة وزعمائها الذين يتسلطون على الغافلين عن ذكر الله سبحانه فيكونون أقرانا لهم ، وهذا التوسع في المعنى ليس ببعيد.

ثمّ أشارت الآية التالية إلى أمر مهم كانت الشياطين تقوم به في شأن هؤلاء الغافلين ، فقالت :( وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) (١) .

فكلما صمّموا على التوبة والرجوع إلى طريق الصواب والرشاد كانت الشياطين تلقي في طريقهم الأحجار والعقبات ، وتنصب الموانع في طريق عودتهم حتى لا يعودوا إلى الصراط المستقيم أبدا. وتزين الشياطين طريق الضلال لهم إلى الحد الذي يظنون :( وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) كما نقرأ ذلك في الآية (٣٨) من سورة العنكبوت حول عاد وثمود :( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ) .

وهكذا تستمر هذه الحالة على هذا المنوال ، فيبقى الإنسان الغافل الجاهل على ضلاله ، وتستمر الشياطين في إضلاله ، حتى ترفع الحجب ، وتنفتح عين رؤيته على الحقيقة:( حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) .

إنّ كل أنواع العذاب من جهة ، ومجالسة قرين السوء هذا من جهة اخرى والنظر إلى وجهه المشؤوم يجسد أمام عينيه كل ذكريات ضياعه وتعاسته ، فويل له إذ

__________________

(١) ضمير الجمع في «أنّهم» والجملة التالية يعود إلى الشياطين ، ومع أنه قد جاء بصيغة المفرد من قبل ، إلّا أنّه كان بمعنى الجمع.

٥٦

أصبح قرين من كان يزين له كل القبائح ويسلكه طريق الضلال على أنّه سبيل الخير والفلاح ، وطريق الانحراف على أنّه طريق الهدى والصلاح ، وويل له إذا أصبح مقيّدا معه بنفس الأصفاد في نفس السجن!

نعم ، إن عرصة القيامة تجسيد واسع لمشاهد هذه الدنيا ، والقرين والرفيق والقائد والدليل هنا وهناك واحد ، بل إنّهما ـ برأي بعض المفسّرين ـ يقرنان بسلسلة واحدة!

من المعلوم أنّ المراد من المشرقين : المشرق والمغرب ، لأنّ العرب عند ما يريدون أن يثنوا جنسين مختلفين بلفظ واحد ، فإنّهم يختارون أحد اللفظين ، كما يقولون : الشمسان ، إشارة إلى الشمس والقمر ، والظهران ، إشارة إلى صلاتي الظهر والعصر ، والعشاء ان ، إشارة إلى صلاتي المغرب والعشاء.

وقد ذكروا تفاسير أخرى لا تبدو مناسبة للآية من أي وجه ، كقولهم : إنّ المراد هو مشرق بداية الشتاء ، ومشرق بداية الصيف ، وإن كان هذا التّفسير مناسبا في موارد أخرى.

وعلى أية حال ، فإنّ هذا التعبير كناية عن أبعد مسافة يمكن تصورها ، حيث يضرب المثل ببعد المشرق عن المغرب في هذا الباب.

إلّا أن هذا الأمل لا يتحقق مطلقا ، ولا يمكن أن يقع الإفتراق أو البون بين هؤلاء وبين الشياطين ، ولذلك فإنّ الآية التالية تضيف :( وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) فيجب أن تذوقوا عذاب قرين السوء هذا مع أنواع العذاب الأخرى إلى الأبد(١) .

وبهذا فإنّ القرآن الكريم يبدل أمل هؤلاء في الإفتراق عن الشياطين إلى يأس دائم ، وكم هو مضن تحمل هذا الجوار؟

__________________

(١) على هذا فإن فاعل «ينفع» هو القول السابق حيث كانوا يأملون أن يكون البعد بينهم وبين الشياطين كما بين المشرق والمغرب ، وجملة (إذ ظلمتم) بيان لعلة عدم النفع ، وجملة( أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) نتيجة هذا الظلم والجور.

٥٧

وهناك احتمالات اخرى في تفسير هذه الآية ، منها أن الإنسان قد يشعر بخفة آلامه عند رؤية متألمين آخرين ، لأنّ المعروف (أن البلية إذا عمّت طابت) غير أنّه يقال لهؤلاء : لا يوجد هناك مثل تسلية الخاطر هذه ، بل ستغوصون في العذاب ، وعذاب الشياطين المشتركين معهم لا يبعث على تسلية الخاطر(١) .

واحتملوا أيضا أن المصيبة عند ما تقع ، تخف وطأتها عند ما يجد الإنسان ثقلها موزعا بينه وبين أصدقائه ، ولكن هذه المسألة لا توجد هناك أيضا ، لأنّ لكل فرد سهما وافرا من العذاب ، من دون أن ينقص من عذاب الآخرين شيء!

لكن بملاحظة أن هذه الآية تكملة للآية السابقة ، فإنّ التّفسير الأوّل الذي اخترناه هو الأنسب.

ويترك القرآن هنا هذه الفئة وشأنها ، ويوجه الخطاب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتحدث عن الغافلين عمي القلوب الذي كذبوا ارتباطه بالله ، وهم من جنس من تقدم الكلام عنهم في الآيات السابقة ، فيقول :( أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

وقد ورد نظير هذا المعنى في آيات أخرى من القرآن الكريم ، حيث شبه المعاندين الذين لا أمل في هدايتهم ، والغارقين في الذنوب بالعمي والصم ، بل وبالأموات أحيانا.

فقد جاء في الآية (٤٢) من سورة يونس :( أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ ) .

وجاء في الآية (٨٠) من سورة النمل :( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) . وآيات أخرى.

إن كل هذه التعابير توضح أن القرآن يقول بنوعين من السمع والبصر والحياة للإنسان : السمع والبصر والحياة الظاهريّة ، والسمع والبصر والحياة الباطنية ،

__________________

(١) بناء على هذا التّفسير ، فإنّ جملة( أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) ستكون فاعل (ينفع) لا نتيجته.

٥٨

والمهم هو القسم الثّاني من الإدراك والنظر والحياة ، فإنّها إذا تعطلت فلا ينفع حينئذ موعظة وإرشاد ، ولا إنذار وتحذير!

ومما يستحق الانتباه أنّ الآيات السابقة قد شبهت هذه الفئة بالأفراد العمش العيون ، والمحدودي البصر ، وتشبههم الآية الأخيرة هنا بالصم والعمي ، وذلك لأنّ الإنسان إذا اشتغل بالدنيا فحاله كمن يشكو ألما بسيطا في عينه ، فكلما زاد تعلقه بالدنيا واشتغاله بها ، ومال إلى الماديات أكثر ، وأهمل المسائل الروحية والمعنوية ، فسيضعف بصره نتيجة ذلك الألم في عينه ، حتى يصل بعدها إلى مرحلة العمى ، وهذا هو الشيء الذي أثبتته الأدلّة القطعية في مجال التشديد على المعنويات السلبية والإيجابية في الإنسان ، ورسوخ الملكات فيه نتيجة تكرار العمل والإصرار عليه ، وقد راعى القرآن الكريم هذا التسلسل أيضا(١) .

* * *

__________________

(١) التّفسير الكبير للفخر الرازي ، المجلد ٢٧ ، صفحة ٢١٤ ـ ٢١٥.

٥٩

الآيات

( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥) )

التّفسير

استمسك بالذي اوحي إليك :

متابعة للآيات السابقة التي كانت تتحدث عن الكفّار المعاندين الظالمين الذين لا أمل في هدايتهم ، تخاطب هذه الآيات نبيّ الإسلام الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهدّدة الكفار أشدّ تهديد من جانب ، ومسليّة خاطر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتقول :( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ) .

وسواء كان المراد من الذهاب بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بين أولئك القوم وفاته أم هجرته من مكّة إلى المدينة ، فإنّه إشارة إلى أنّك حتى وإن لم تكن شاهدا وناظرا لأمرهم ،

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

الآيات

( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) )

التّفسير

يجب الحزم في ساحة الحرب :

كما قلنا سائقا ، فإنّ الآيات السابقة كانت مقدمة لتهيئة المسلمين من أجل إصدار أمر حربي مهم ذكر في الآيات مورد البحث ، فتقول الآية :( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ ) (١) .

__________________

(١) «ضرب» مصدر مفعول مطلق لفعل مقدر ، والتقدير : اضربوا ضرب الرقاب ، كما صرّحت الآية (١٢) من سورة الأنفال بذلك إذ قالت :( فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ ) .

٣٢١

من البديهي أن «ضرب الرقاب» كناية عن القتل ، وعلى هذا فلا ضرورة لأن يبذل المقاتلون قصارى جهدهم لأداء هذا الأمر بالخصوص ، فإنّ الهدف هو دحر العدو والقضاء عليه ، ولما كان ضرب الرقاب أوضح مصداق له ، فقد أكّدت الآية عليه.

وعلى أية حال ، فإنّ هذا الحكم مرتبط بساحة القتال ، لأنّ «لقيتم» ـ من مادة اللقاء ـ تعني الحرب والقتال في مثل هذه الموارد ، وفي نفس هذه الآية قرائن عديدة تشهد لهذا المعنى كمسألة أسر الأسرى ، ولفظة الحرب ، والشهادة في سبيل الله ، والتي وردت في ذيل الآية.

وخلاصة القول : إنّ اللقاء يستعمل ـ أحيانا ـ بمعنى اللقاء بأي شكل كان ، وأحيانا بمعنى المواجهة والمجابهة في ميدان الحرب ، واستعمل في القرآن المجيد بكلا المعنيين ، والآية مورد البحث ناظرة إلى المعنى الثّاني.

ومن هنا يتّضح أنّ أولئك الذين حوّروا هذه الآية وفسّروها بأنّ الإسلام يقول : حيثما وجدتم كافرا فاقتلوه ، لم يريدوا إلّا الإساءة إلى الإسلام ، واتخاذ الآية بمعناها المحرّف حربة ضد الدين الحنيف ، محاولة منهم لتشويه صورة الإسلام الناصعة ، وإلّا فإنّ الآية صريحة في اللقاء في ساحة الحرب وميدان القتال.

من البديهي أنّ الإنسان إذا واجه عدوا شرسا في ميدان القتال ، ولم يقابله بحزم ولم يكل له الضربات القاصمة ولم يذقه حرّ سيفه ليهلكه ، فإنّه هو الذي سيهلك ، وهذا القانون منطقي تماما.

ثمّ تضيف الآية :( حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ ) .

«أثخنتموهم» من مادة ثخن ، بمعنى الغلظة والصلابة ، ولهذا تطلق على النصر والغلبة الواضحة ، والسيطرة الكاملة على العدو.

وبالرغم من أنّ أغلب المفسّرين فسّروا هذه الجملة بكثرة القتل في العدو وشدّته ، إلّا أنّ هذا المعنى لا يوجد في أصلها اللغوي ، كما قلنا ، ولكن لمّا كان دفع

٣٢٢

خطر العدو غير ممكن أحيانا إلّا بكثرة القتل فيه ، فيمكن أن تكون مسألة القتل أحد مصاديق هذه الجملة في مثل هذه الظروف ، لا أنّها معناها الأصلي(١) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية المذكورة تبيّن تعليما عسكريا دقيقا ، وهو أنّه يجب أن لا يقدم على أسر الأسرى قبل تحطيم صفوف العدو والقضاء على آخر حصن لمقاومته ، لأنّ الإقدام على الأسر قد يكون سببا في تزلزل وضع المسلمين في الحرب ، وسيعوق المسلمين الاهتمام بأمر الأسرى ونقلهم إلى خلف الجبهات عن أداء واجبهم الأساسي.

وعبارة( فَشُدُّوا الْوَثاقَ ) وبملاحظة أنّ الوثاق هو الحبل ، أو كلّ ما يربط به ، يشير الى إتقان العمل في شدّ وثاق الأسرى ، لئلا يستغل الأسير فرصة يفر فيها ، ثمّ يوجّه ضربة إلى الإسلام والمسلمين.

وتبيّن الجملة التالية حكم أسرى الحرب الذي يجب أن يقام بحقّهم بعد انتهاء الحرب ، فتقول :( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً ) وعلى هذا لا يمكن قتل الأسير الحربي بعد انتهاء الحرب ، بل إنّ ولي أمر المسلمين ـ طبقا للمصلحة التي يراها ـ يطلق سراحهم مقابل عوض أحيانا ، وبلا عوض أحيانا أخرى ، وهذا العوض ـ في الحقيقة ـ نوع من الغرامة الحربية التي يجب أن يدفعها العدو.

طبعا يوجد حكم ثالث في الإسلام فيما يتعلق بهذا الموضوع ، وهو استعباد الأسرى ، إلّا أنّه ليس أمرا واجبا ، بل هو راجع إلى ولي أمر المسلمين ينفّذه عند ما يراه ضرورة في ظروف خاصة ، ولعلّه لم يرد في القرآن بصراحة لهذا السبب ، بل بيّنته الرّوايات الإسلامية فقط.

يقول فقيهنا المعروف «الفاضل المقداد» في «كنز العرفان» : إنّ ما روي عن مذهب أهل البيتعليهم‌السلام أنّ الأسير لو أسر بعد انتهاء الحرب فإنّ إمام المسلمين مخيّر بين ثلاث : إمّا إطلاقه دون شرط ، أو تحريره مقابل أخذ الفدية ، أو جعله

__________________

(١) ينقل صاحب لسان العرب عن ابن الأعرابي أنّ : أثخن : إذا غلب وقهر.

٣٢٣

عبدا ، ولا يجوز قتله بأي وجه.

ويقول في موضع آخر من كلامه : إنّ مسألة الرق استفيدت من الروايات ، لا من متن الآية(١) .

وقد وردت هذه المسألة في سائر الكتب الفقهية أيضا(٢) .

وسنشير إلى هذا المطلب في بحث الرق الذي سيأتي في ذيل هذه الآيات.

ثمّ تضيف الآية بعد ذلك :( حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ) (٣) فلا تكفوا عن القتال حتى تحطّموا قوى العدو ويصبح عاجزا عن مواجهتكم ، وعندها سيخمد لهيب الحرب.

«الأوزار» جمع وزر ، وهو الحمل الثقيل ، ويطلق أحيانا على المعاصي ، لأنّها تثقل كاهل صاحبها.

والطريف أنّ هذه الأوزار نسبت إلى الحرب في الآية ، إذ تقول :( حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ) وهذه الأحمال الثقيلة كناية عن أنواع الأسلحة والمشاكل الملقاة على عاتق المقاتلين ، والتي يواجهونها ، وهي بعهدتهم ما كانت الحرب قائمة.

لكن متى تنتهي الحرب بين الإسلام والكفر؟

سؤال أجاب عنه المفسّرون إجابات مختلفة :

فالبعض ـ كابن عباس ـ قال : حتى لا تبقى وثنية على وجه البسيطة ، وحتى يقتلع دين الشرك وتجتث جذوره.

وقال البعض الآخر : إنّ الحرب بين الإسلام والكفر قائمة حتى ينتصر المسلمون على الدجال ، وهذا القول يستند إلى حديث روي عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «والجهاد ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمّتي

__________________

(١) كنز العرفان ، المجلد ١ ، صفحة ٣٦٥.

(٢) الشرائع ، كتاب الجهاد. شرح اللمعة ، أحكام الغنيمة.

(٣) «حتى» غاية لـ (فضرب الرقاب). واحتملت احتمالات أخرى لا تستحق الاهتمام.

٣٢٤

الدجال»(١) .

البحث حول «الدجّال» بحث واسع ، لكن القدر المعلوم أنّ الدجّال رجل خدّاع ، أو رجال خدّاعون ينشطون في آخر الزمان من أجل إضلال الناس عن أصل التوحيد والحق والعدالة ، وسيقضي عليهم المهدي (عج) بقدرته العظيمة ، وعلى هذا فإنّ الحرب قائمة بين الحق والباطل ما عاش الدجّالون على وجه الأرض.

إنّ للإسلام نوعين من المحاربة مع الكفر : أحدهما الحروب المرحلية كالغزوات التي غزاها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث كانت السيوف تغمد بعد انتهاء كل غزوة. والآخر هو الحرب المستمرة ضد الشرك والكفر ، والظلم والفساد ، وهذا النوع مستمر حتى زمن اتساع حكومة العدل العالمية ، وظهورها على الأرض جميعا على يد المهدي (عج).

ثمّ تضيف الآية :( ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ ) (٢) بالصواعق السماوية ، والزلازل ، والعواصف ، والابتلاءات الأخرى ، لكن باب الاختبار وميدانه سيغلق في هذه الصورة :( وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ) .

هذه المسألة هي فلسفة الحرب ، والنكتة الأساسية في صراع الحق والباطل ، ففي هذه الحروب ستتميز صفوف المؤمنين الحقيقيين والعاملين من أجل دينهم عن المتكلمين في المجالس المتخاذلين في ساعة العسرة ، وبذلك ستتفتح براعم الاستعدادات ، وتحيا قوّة الاستقامة والرجولة ، ويتحقق الهدف الأصلي للحياة الدنيا ، وهو الابتلاء وتنمية قوّة الإيمان والقيم الإنسانية الأخرى.

إذا كان المؤمنون يتوقعون على ذواتهم وينشغلون بالحياة اليومية الرتيبة ، وفي كل مرة تطغى فيها جماعة من المشركين والظالمين يدحضهم الله سبحانه بالقوى الغيبية ، ويدمّرهم بالطرق الإعجازية ، فإنّ المجتمع سيكون خاملا ضعيفا

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ٩٨.

(٢) «ذلك» خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : الأمر كذلك.

٣٢٥

عاجزا ، ليس له من الإسلام والإيمان إلّا اسمه.

وخلاصة القول : إنّ الله سبحانه غني عن سعينا وجهادنا من أجل تثبيت دعائم دينه ، بل نحن الذين نتربّى في ميدان جهاد الأعداء ، ونحن الذين نحتاج إلى هذا الجهاد المقدّس.

وقد ذكر هذا المعنى في آيات القرآن الأخرى بصيغ أخرى ، فنقرأ في الآية (١٤٢) من سورة آل عمران :( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) .

وجاء في الآية التي سبقتها :( وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ ) .

وتحدّثت آخر جملة من الآية مورد البحث عن الشهداء الذين قدّموا أرواحهم هدية لدينهم في هذه الحروب ، ولهم فضل كبير على المجتمع الإسلامي ، فقالت :( وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ ) .

فلن تذهب جهودهم وآلامهم وتضحياتهم سدى ، بل كلها محفوظة عند الله سبحانه ، فستبقى آثار تضحياتهم في هذه الدنيا ، وكلّ نداء (لا إله إلّا الله) يطرق سمع البشر يمثل ثمرة جهود أولئك الشهداء ، وكلّ سجدة يسجدها مسلم بين يدي الله هي من بركات تضحياتهم ، فبمساعيهم تحطّمت قيود المذلّة والعبودية ، وعزّة المسلمين ورفعتهم رهينة ما بذلوه من الأرواح والتضحيات.

هذه هي أحدى مواهب الله في شأن الشهداء.

وهناك ثلاث مواهب أخرى أضيفت في الآيات التالية :

تقول الآية أوّلا :( سَيَهْدِيهِمْ ) إلى المقامات السامية ، والفوز العظيم ، ورضوان الله تعالى.

والأخرى :( يُصْلِحُ بالَهُمْ ) فيهبهم هدوء الروح ، واطمئنان الخاطر ، والنشاط المعنوي والروحي ، والانسجام مع صفاء ملائكة الله ومعنوياتهم ، حيث يجعلهم جلساءهم وندماءهم في مجالس أنسهم ولذّتهم ، ويدعوهم إلى ضيافته في جوار

٣٢٦

رحمته.

والموهبة الأخيرة هي :( وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ ) .

قال بعض المفسّرين : إنّه تعالى لم يبيّن لهم الصفات الكلية للجنّات العلى وروضة الرضوان وحسب ، بل عرف لهم صفات قصورهم في الجنّة وعلاماتها ، بحيث أنّهم عند ما يردون الجنّة يتوجّهون إلى قصورهم مباشرة(١) .

وفسر البعض (عرّفها) بأنّها من مادة «عرف» ـ على زنة فكر ـ وهو العطر الطيب الرائحة ، أي إنّ الله سبحانه سيدخلهم الجنّة التي عطّرها جميعا استقبالا لضيوفه.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأنسب.

وقال البعض : إذا ضممنا هذه الآيات إلى آية :( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً ) (٢) ، سيتّضح أنّ المراد من إصلاح البال إحياؤهم حياة يصلحون بها للحضور عند ربّهم بانكشاف الغطاء(٣) .

* * *

بحوث

١ ـ مقام الشهداء السامي

تمرّ في تأريخ الشعوب أيام تحدق الأخطار فيها بتلك الأمم والشعوب ، ولا يمكن دفع هذه الأخطار والحفاظ على الأهداف المقدّسة العظيمة إلّا بالتضحية والفداء وتقديم القرابين الكثيرة ، وهنا يجب أن يتوجّه المؤمنون المضحّون إلى ساحات القتال ، ليحفظوا دين الحق بسفك دمائهم ، ويسمى هؤلاء الأفراد في

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ٩٨.

(٢) آل عمران ، الآية ١٦٩.

(٣) الميزان ، المجلد ١٨ ، صفحة ٢٤٤.

٣٢٧

منطق الإسلام بـ «الشهداء».

إنّ إطلاق كلمة الشهيد ـ من مادة الشهود ـ على هؤلاء ، إمّا لحضورهم في ميدان الجهاد ضد أعداء الحق ، أو لأنّهم يشاهدون ملائكة الرحمة لحظة شهادتهم ، أو لمشاهدتهم النعم العظيمة التي أعدّت لهم ، أو لحضورهم عند الله ، كما جاء في الآية الشريفة :( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (١) .

وقلّ من يصل إلى درجة الشهيد في الإسلام أولئك الشهداء الذين يذهبون ساحة الحرب بين الحق والباطل عن وعي وخلوص نيّة ، ويقدّمون آخر قطرة من دمائهم الزكية في هذا السبيل.

وتلاحظ في المصادر الإسلامية روايات عجيبة حول مقام الشهداء ، تحكي عظمة عمل الشهداء ، وقيمته الفذّة.

فتقرأ في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ فوق كلّ بر برا حتى يقتل الرجل شهيدا في سبيل الله»(٢) .

وجاء في حديث آخر روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المجاهدون في الله قوّاد أهل الجنّة»(٣) .

ونطالع في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «ما من قطرة أحبّ إلى الله من قطرة دم في سبيل الله ، أو قطرة من دموع عين في سواد الليل من خشية الله ، وما من قدم أحبّ إلى الله من خطوة إلى ذي رحم ، أو خطوة يتمّ بها زحفا في سبيل الله»(٤) .

وإذا قلبنا أوراق تأريخ الإسلام ، فسنرى الشهداء قد سجّلوا القسم الأعظم من الافتخارات ، وهم الذين قدّموا القسط الأوفر من الخدمة.

__________________

(١) آل عمران ، الآية ١٦٩.

(٢) بحار الأنوار ، المجلد ١٠٠ ، صفحة ١٥.

(٣) المصدر السابق.

(٤) بحار الأنوار ، المجلد ١٠٠ ، صفحة ١٤.

٣٢٨

وليس هذا في الأمس فقط ، فإنّ ثقافة الشهادة المصيرية اليوم ترعب العدو أيضا ، وتمزّق صفوفه ، وتمنعه من النفوذ إلى حصون الإسلام ، وتزرع اليأس في نفسه من إمكان تخطّيها ، فما أكثر بركة ثقافة الشهادة للمسلمين ، وما أشدّها على أعداء الدين.

لكن ، لا شكّ أنّ الشهادة ليست هدفا ، بل الهدف هو الإنتصار على العدو ، وحراسة دين الله والحفاظ عليه ، إلّا أنّ هؤلاء الحراس على دينهم يجب أن يكونوا على أهبّة الاستعداد ، بحيث إذا احتاج الحال بذل النفوس والدماء فإنّهم لا يتأخّرون عن بذلها ، بل يبادرون إلى البذل والتضحية والإيثار ، وهذا هو معنى كون الأمّة منجبة للشهداء ، لا أنّهم يطلبون الشهادة كهدف نهائي.

لهذا نقرأ في نهاية حديث مفصل روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شأن مقام الشهداء أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقسم وقال : «والذي نفسي بيده ، لو كان الأنبياء في طريقهم لترجلوا لهم لمّا يرون من بهائهم ، ويشفع الرجل منهم في سبعين ألفا من أهل بيته وجيرته»(١) .

وهناك نكتة تستحق الاهتمام ، وهي أنّ للشهادة في ثقافة الإسلام معنيين مختلفين : معنى «خاص» ، وآخر «عام» واسع.

أمّا الخاص فهو القتل في سبيل الله في معركة الجهاد ، وله أحكامه الخاصة في الفقه الإسلامي ، ومن جملتها أنّ الشهيد لا يغسل ولا يكفن ، بل يدفن بثيابه ودمائه إذا توفي في ميدان المعركة!!

أمّا المعنى العام الواسع للشهادة ، فهو أن يقتل الإنسان في طريق تأدية الواجب الإلهي ، فإنّ كلّ من يرحل عن الدنيا وهو في حالة أداء هذا الواجب يعد شهيدا ، ولذلك ورد في الروايات الإسلامية أنّ عدة فئات يغادرون الدنيا وهم شهداء :

١ ـ روي عن نبي الإسلام الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا جاء الموت طالب العلم وهو على

٣٢٩

هذا الحال مات شهيدا»(١) .

٢ ـ يقول أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «من مات على فراشه وهو على معرفة حق ربّه ، وحق رسوله وأهل بيته ، مات شهيدا»(٢) .

٣ ـ نقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «من قتل دون ماله فهو شهيد»(٣) .

وكذلك آخرون يقتلون في طريق الحق ، أو يموتون فيه ، ومن هنا تتّضح عظمة ثقافة الإسلام هذه ، ومدى سعتها.

وننهي هذا البحث بحديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ، عن آبائه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أوّل من يدخل الجنّة الشهيد»(٤) .

٢ ـ أهداف القتال في الإسلام

إنّ القتال لا يعتبر في الإسلام قيمة من القيم ، بل يعتبر ضد القيم من جهة كونه باعثا على الخراب والتدمير ، وإزهاق الأنفس ، وإهدار القوى والإمكانيات التي يمكن أن تسخّر لخدمة الإنسان وسعادته ورفاهه ، ولذلك جعل في بعض الآيات القرآنية في مصاف العقوبات الإلهية ، فنرى الآية (٦٥) من سورة الأنعام تقول :( قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) .

فقد اعتبر القتال هنا بمثابة الصاعقة والزلزلة والابتلاءات الأرضية والسماوية ، ولذلك فإنّ الإسلام يمتنع عن القتال والحرب ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

أمّا إذا تعرّض وجود الأمّة للخطر ، أو أنّ أهدافه المقدّسة السامية أصبحت

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلد الأول ، مادة شهد.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٠ ، آخر الخطبة.

(٣) سفينة البحار ، المجلد الأول ، مادة شهد.

(٤) بحار الأنوار ، المجلد ٧١ ، صفحة ٢٧٢.

٣٣٠

مهددة بالسقوط ، فإنّ القتال هنا يعتبر قيمة سامية ، ويكتسب عنوان الجهاد في سبيل الله ، ولذلك توجد في الإسلام أنواع من الجهاد : الجهاد الابتدائي ، المحرر للأمم ، والجهاد الدفاعي ، والجهاد من أجل إخماد نار الفتنة والشرك والوثنية ، وقد أوردنا تفصيلها في موضع آخر(١) .

بناء على هذا فإنّ الجهاد الإسلامي على خلاف ما يدّعيه أعداء الإسلام من أنّه يعني فرض العقيدة على الآخرين ، بل إنّ العقيدة المفروضة لا قيمة لها في الإسلام ، لكن الجهاد يتعلق بالموارد التي يشن فيها العدو الحرب ضد الأمّة الإسلامية ، أو عند ما يسلبها الحريات التي منحها الله إيّاها ، أو أنّه يريد أن يهدر حقوقها ويصادرها ، أو أنّ ظالما قد أخذ بأنفاس مظلوم فيجب على المسلمين حينئذ أن يهبوا لنصرة المظلوم ، حتى وإن أدّى الأمر إلى قتال القوم الظالمين.

وقد عكست الآيات السابقة هذا المعنى في عبارة لطيفة وجيزة ، حينما تقول :( ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ ) وعلى هذا فإنّ الحرب هي حرب بين الحق والباطل ، لا أنّها وسيلة لتكوين الدولة ، ومحاولة توسيع رقعتها ، والإغارة على أموال الآخرين ، والتسلّط وإعمال القوة والإرهاب.

ولهذا السبب ـ أيضا ـ قرأنا في الرواية التي أوردناها في تفسير هذه الآيات أنّ نار الحرب لن تخمد في المجتمع الإنساني إلّا بعد القضاء على الدجّالين ، وتطهير الأرض من دنسهم.

وهنا نكتة تستحق الانتباه ، وهي أنّ الإسلام قد أكّد على مسألة التعايش السلمي مع أتباع الأديان السماوية الأخرى ، وقد وردت في الآيات والرّوايات والفقه الإسلامي بحوث مفصلة في هذا الباب تحت عنوان (أحكام أهل الذمّة) فإذا كان الإسلام يؤيّد فرض العقيدة والإكراه عليها ، ويتوسّل بالقوة والسيف من أجل

__________________

(١) التّفسير الأمثل ، ذيل الآية ١٩٣ من سورة البقرة.

٣٣١

تحقيق أهدافه ، فأي معنى إذن لقانون أهل الذمّة والتعايش السلمي؟

٣ ـ أحكام أسرى الحرب

قلنا : يجب على المسلمين أن لا يفكروا في أسر أفراد العدو إلّا بعد هزيمة العدو الكاملة واندحاره التام ، لأنّ هذا التفكير والانشغال بالأسرى قد يتضمّن أخطارا جسيمة.

غير أنّ أسلوب الآيات ـ مورد البحث ـ يدل على وجوب الإقدام على أسر أفراد العدو بعد هزيمته ، فالآية تقول :( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ ) ثمّ تضيف :( حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ ) وعلى هذا يجب أسرهم بدل قتلهم بعد الإنتصار عليهم ، وهو أمر لا بدّ منه ، لأنّ العدو إذا ترك وشأنه فمن الممكن أن ينظم قواه مرّة أخرى ليهجم على المسلمين من جديد.

إلّا أنّ الحال يختلف بعد الأسر ، إذ يكون الأسير أمانة إلهية بيد المسلمين رغم كلّ الجرائم التي ارتكبها ، ويجب أن تراعى فيه حقوق كثيرة.

إنّ القرآن يمجد أولئك الذين آثروا الأسير على أنفسهم ، وقدّموا له طعامهم ، فيقول :( وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) وهذه الآية ـ طبقا لرواية معروفة ـ نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ، إذ كانوا صائمين وأعطوا إفطارهم لمسكين مرّة وليتيم أخرى ، لأسير ثالثة.

وحتى الأسرى الذين يقتلون بعد الحرب استثناء ، إمّا لكونهم خطرين ، أو لارتكابهم جرائم خاصّة ، فإنّ الإسلام أمر أن يحسن إليهم قبل تنفيذ الحكم بحقّهم ، كما نرى ذلك في حديث عن عليعليه‌السلام : «إطعام الأسير والإحسان إليه حق واجب ، وإنّ قتلته من الغد»(١) .

__________________

(١) وسائل الشيعة ، المجلد ١١ ، صفحة ٦٩.

٣٣٢

والأحاديث في هذا الباب كثيرة(١) ، حتى أنّه ورد في حديث عن الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام أنّه قال : «إذا أخذت أسيرا فعجز عن المشي وليس معك محمل فأرسله ولا تقتله ، فإنّك لا تدري ما حكم الإمام فيه»(٢) .

بل ورد في التأريخ في أحوال أئمة أهل البيتعليهم‌السلام أنّهم كانوا يطعمون الأسرى من نفس الطعام الذي كانوا يتناولونه.

إلّا أنّ حكم الأسير ـ وكما قلنا في تفسير الآيات ـ بعد انتهاء الحرب أحد ثلاثة : إمّا إطلاق سراحه من دون قيد أو شرط ، أو إطلاق سراحه مقابل دفع غرامة مالية هي الفدية ، أو استرقاقه ، واختيار أحد هذه الأمور الثلاثة منوط بنظر إمام المسلمين ، فهو الذي يختار ما يراه الأصلح بعد الأخذ بنظر الإعتبار ظروف الأسرى ، ومصالح الإسلام والمسلمين من الناحية الداخلية والخارجية ، وبعد ذلك يأمر بتنفيذ ما اختاره.

بناء على هذا ، فليس لأخذ الفدية أو الاسترقاق صفة الإلزام والوجوب ، بل هما تابعان للمصالح التي يراها إمام المسلمين ، فإذا لم تكن مصلحة فيهما فله أن يغض النظر عنهما ، ويطلق سراح الأسرى دون طلب الفدية.

وقد بحثنا حول فلسفة أخذ الفدية بصورة مفصلة لدى تفسير الآية ٧٠ من سورة الأنفال.

٤ ـ الرق في الإسلام

بالرغم من أنّ مسألة «استرقاق أسرى الحرب» لم ترد في القرآن المجيد كحكم حتمي ، لكن لا يمكن إنكار ورود أحكام في القرآن فيما يتعلق بالعبيد ، وهي تثبت وجود أصل الرقية حتى في زمان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصدر الإسلام ، كالأحكام المتعلقة

__________________

(١) يراجع فروع الكافي ، المجلد ٥ ، صفحة ٣٥ ، باب الرفق بالأسير وإطعامه.

(٢) المصدر السابق.

٣٣٣

بالزواج من العبيد ، أو كونهم محرما ، أو مسألة المكاتبة (وهي اتفاق يتحرر بموجبه العبد بعد أدائه مبلغا من المال يتفق عليه) وقد وردت هذه الأحكام في آيات عديدة من القرآن في سورة النساء ، النحل ، المؤمنون ، النور ، الروم ، والأحزاب.

وهنا يعترض البعض على الإسلام بأنّه : لماذا لم يلغ هذا الدين الإلهي مسألة الرق تماما مع ما يحتويه من القيم الإنسانية السامية ، ولم يعلن تحرير كلّ العبيد من خلال إصدار حكم قطعي؟!

صحيح أنّ الإسلام أوصى كثيرا بالرقيق ، إلّا أنّ المهم هو تحريرهم بدون قيد شرط ، فلما ذا يكون الإنسان مملوكا لإنسان آخر مثله ، ويفقد الحرية التي هي أعظم عطايا الله سبحانه؟!

الجواب :

يجب القول في جملة موجزة : إنّ للإسلام برنامجا دقيقا مدروسا لتحرير العبيد ، تؤدي نهايته إلى تحرير جميع العبيد تدريجيا ، دون أن يكون لهذه الحرية ردّ فعل سلبي في المجتمع.

وقبل أن نتناول توضيح هذه الخطة الإسلامية الدقيقة ، نرى لزاما ذكر عدة نقاط كمقدمة :

١ ـ الإسلام لم يكن المبتدع للرق مطلقا ، بل إنّه لمّا ظهر كانت مسألة العبودية والرقيق قد عمّت أرجاء العالم ، وكانت معجونة بظلام المجتمعات البشرية وبوجودها ، بل استمرت مسألة الرقيق في كلّ المجتمعات حتى بعد الإسلام أيضا ، وبقيت مستمرة حتى قبل مائة عام حيث بدأت ثورة تحرير الرقيق ، حيث لم تعد مسألة الرقيق مقبولة بشكلها القديم نتيجة اختلاف نظام حياة البشر ، وتغيره عمّا كان عليه.

إنّ إلغاء العبودية بدأ من أوربا ، ثمّ اتسع في سائر الدول ومن جملتها أمريكا

٣٣٤

وآسيا.

لقد استمر الرق في إنجلترا حتى سنة ١٨٤٠ ، وفي فرنسا حتى سنة ١٨٤٨ ، وفي هولندا إلى سنة ١٨٦٣ ، وفي أمريكا إلى سنة ١٨٦٥ ، ثمّ عقد مؤتمر بروكسل فأصدر قرارا بإلغاء الرق في أنحاء العالم ، وكان ذلك سنة ١٨٩٠ ، أي قبل أقل من مائة عام.

٢ ـ تغيير شكل الرق في دنيا اليوم : صحيح أنّ الغربيين كانوا قد سبقوا إلى إلغاء الرق ، إلّا أنّنا عند ما نحقق في المسألة بدقة ، نرى أنّ الرق لم تقتلع جذوره ، بل إنّه تحور من حالة إلى أخرى أخطر وأكثر رعبا ، أي إنّه اتخذ شكل استعمار الشعوب ، واسترقاق المستعمرات ، بحيث كلما ضعف الرق الفردي قوي الاسترقاق الجماعي والاستعمار ، فإنّ الإمبراطورية البريطانية التي كانت سبّاقة إلى إلغاء الرق ، تعتبر السبّاقة أيضا في استعمار الشعوب.

إنّ الجرائم التي ارتكبها المستعمرون الغربيون طوال مدة استعمارهم لم تكن أقل من جرائم مرحلة العبودية ، بل كانت أوسع وأشدّ إجراما.

وحتى بعد تحرر المستعمرات ، فإنّ استعباد الأمم قد استمر ، لأنّ هذه الحرية كانت حرية سياسية ، أمّا الاستعمار الاقتصادي والثقافي فلا يزال حاكما في كثير من المستعمرات التي نالت حريتها ، وغيرها.

وأمّا الدول الشيوعية التي نادت قبل الجميع بإلغاء العبودية ، واتخذتها ذريعة في ثورتها ، فإنّها بالذات مبتلاة بنوع من الاسترقاق العام الذي يندى له الجبين ، فإنّ الشعوب التي تعيش في ظل هذه الدول تكون كالعبيد تماما لا يملكون من أمرهم شيئا ، ويعيّن أعضاء الحزب الشيوعي كلّ مقدراتهم وما يتعلق بشؤون حياتهم ، وإذا ما أبدى أحد وجهة نظر مخالفة فإمّا أن يرسل إلى المخيّمات الإجبارية ، أو يلقى في دهاليز السجون ، وإذا كان من العلماء فإنّه يبعث إلى دار المجانين باعتباره مختل العقل ومصابا بمرض نفسي وعصبي.

٣٣٥

والخلاصة : إنّ الرق لا يتبع الاسم ، فإنّ القبيح والمرفوض هو محتوى الرق ، ونحن نعلم أنّ مفهوم الرق قائم في الدول الاستعمارية والدول الشيوعية بأسوأ أشكاله.

والنتيجة : إنّ إلغاء الرق في العالم كان صوريا ، ولم يكن في الحقيقة إلّا تبديل للصورة والشكل الظاهري.

٣ ـ مصير الرقيق المؤلم في الماضي

لقد كان للرقيق على مرّ التاريخ مصير مؤلم جدّا ، ولنأخذ على سبيل المثال عبيد الرومان ـ باعتبارهم قوما متمدنين ـ كنموذج ، فإنّهم ـ على حدّ قول كاتب «روح القوانين» ـ كانوا تعساء بحيث لم يكونوا عبيدا لفرد ، وإنّما كانوا يعتبرون عبيدا لكل المجتمع ، وكان باستطاعة كلّ شخص أن يعذّب عبده ويؤذيه كما يحلو له دون خوف من القانون. لقد كانت حياة أولئك أسوأ من حياة الحيوانات في الواقع.

لقد كان الكثير من الرقيق يموتون في الفترة بين اصطيادهم من المستعمرات الأفريقية وحتى عرضهم في الأسواق للبيع ، وما تبقى منهم كان يتخذ وسيلة للاستغلال في العمل. وكان تجار العبيد الطامعون لا يعطونهم من الغذاء إلّا ما يبقيهم أحيآء وقادرين على العمل ، أمّا عند كبرهم وعجزهم وابتلائهم بأمراض يصعب علاجها ، فإنّهم كانوا يتركونهم وشأنهم ليسلموا الروح بشكل أليم. ولذلك كان اسم الرق يقترن بسيل من الجرائم المرعبة على مرّ التاريخ.

وباتضاح هذه النكات نعود إلى خطة الإسلام في تحريره العبيد تدريجيا ، ونتناولها بصورة مختصرة.

٤ ـ خطة الإسلام لتحرير العبيد

إنّ ما يغفل عنه غالبا هو أنّ ظاهرة سلبية إذا توغّلت في مفاصل المجتمع ،

٣٣٦

فهناك حاجة إلى فترة زمنية لاقتلاع جذورها ، ولكلّ حركة غير مدروسة ردّ فعل سلبي ، تماما كما إذا ابتلي إنسان بمرض خطير ، وقد استفحل هذا المرض في بدنه ، أو من اعتاد على تناول المخدرات لعشرات السنين حتى تطبع على هذه الطبيعة المستهجنة ، ففي هذه الموارد يجب الاعتماد على برامج زمنية لعلاجه قد تطول وقد تقصر.

ونقول بأسلوب أكثر صراحة : لو أنّ الإسلام كان قد أصدر أمرا عاما بتحرير كل العبيد ، فربّما كان الضرر أكثر ، وقد يهلك منهم عدد أكثر ، لأنّ الرقيق كانوا يشكلون نصف المجتمع أحيانا ، وليس لهم عمل مستقل يتكسبون به ، ولا دار أو ملجأ ، أو وسيلة ما لإدامة الحياة.

إنّ هؤلاء لو تحرّروا في ساعة معينة من يوم معين فستظهر على الساحة فجأة جماعة عظيمة عاطلة عن العمل ، وعندها ستكون حياتهم مهددة وربّما أدّى إلى إرباك نظام المجتمع ، وعند ما يلح عليه الحرمان فسيجد نفسه مضطرا إلى الهجوم على ممتلكات الآخرين ، فتنشب الصراعات والاشتباكات ونزف الدماء.

هنا ندرك الغاية من التحرير التدريجي ، وذلك ليستوعبهم المجتمع ولا يشمئز منهم ، وحينئذ سوف لا تتعرض أرواحهم للخطر ، كما لا يتهدد أمن المجتمع ، وقد اتبع الإسلام هذا البرنامج الدقيق تماما.

إنّ تطبيق وترجمة هذا البرنامج الإنساني على أرض الواقع العملي له قواعد كثيرة نذكر هنا رؤوس نقاطها بصورة موجزة وكفهرس ، أمّا تفصيلها فيحتاج إلى كتاب مستقل :

المادة الأولى : غلق مصادر الرق

لقد كان للرق على طول التاريخ أسباب كثيرة ، فلم يقتصر الاستبعاد على أسرى الحرب ، والمدينين الذين يعجزون عن أداء ديونهم ، حيث كانت القوّة

٣٣٧

والغلبة تبيح الاسترقاق والاستعباد ، بل إنّ الدولة القوية كانت ترسل فرق من جيوشها وهم مدجّجون بأنواع الأسلحة إلى الدول الأفريقية المتخلفة وأمثالها ، ليأسروا شعوب تلك الدول جماعات جماعات ، ثمّ يرسلونهم بواسطة السفن إلى أسواق بلدان آسيا وأوربا.

لقد منع الإسلام كلّ هذه المسائل ، ووقف حائلا دونها ، ولم يبح الاسترقاق إلّا في مورد واحد ، وهو أسرى الحرب ، وحتى هذا لم يكن يتصف بالوجوب والإلزام ، بل إنّ الإسلام قد أجاز ـ وكما قلنا في تفسير الآيات المذكورة ـ إطلاق سراح الأسرى مقابل فدية يؤدّونها تبعا لمصلحة الإسلام والمسلمين.

ولم تكن في تلك الأيام سجون يسجن فيها أسرى الحرب حتى يتبيّن وضعهم وماذا يجب فعله معهم ، بل كان الطريق الوحيد هو تقسيمهم بين العوائل ، والاحتفاظ بهم كرقيق.

من البديهي أنّ هذه الظروف إذا تغيّرت فلا دليل على أنّ إمام المسلمين ملزم بأن يرضى برق الأسرى ، بل هو قادر على تحريرهم إمّا منّا أو فداء ، لأنّ الإسلام خيّر الإمام المسلمين في هذا الأمر ، كي يقدم على اختيار الأصلح من خلال مراعاة المصلحة ، وبهذا فإنّ مصادر الرق الجديدة قد أغلقت في الإسلام.

المادة الثانية : فتح نافذة الحرية

لقد وضع الإسلام برنامجا واسعا لتحرير العبيد ، بحيث أنّ المسلمين لو عملوا بموجبه فإنّ كلّ العبيد كانوا سيتحررون في مدة وجيزة وبصورة تدريجية ، وكان المجتمع سيستوعبهم ويؤمّن لهم ما يحتاجونه من اللوازم الحياتية ، من عمل ومسكن وغير ذلك.

وإليك رؤوس نقاط هذا البرنامج :

٣٣٨

أ ـ إنّ أحد الموارد الثمانية لصرف الزكاة في الإسلام شراء العبيد وعتقهم(١) ، وبهذا فقد خصصت ميزانية دائمية في بيت المال لتنفيذ هذا الأمر ، وهي مستمرة حتى إعتاق العبيد جميعا.

ب ـ ولتكميل هذا المطلب وضع الإسلام أحكاما يستطيع العبيد من خلالها أن يعقدوا اتفاقيات مع مالكيهم ، على أن يؤدّوا إليهم مبلغا من المال يتفق عليه مقابل الحصول على حريتهم. وقد جاء في الفقه الإسلامي فصل في هذا الباب تحت عنوان المكاتبة(٢) .

ج ـ إنّ عتق العبيد يعتبر أحد أهم العبادات والأعمال الصالحة في الإسلام ، وقد كان أئمة أهل البيتعليهم‌السلام من السابقين في هذا المضمار ، حتى كتبوا في أحوال عليعليه‌السلام أنّه أعتق ألف مملوك من كد يده(٣) .

د ـ لقد كان أئمة أهل البيتعليهم‌السلام يعتقون العبيد لأدنى عذر ليكونوا قدوة للآخرين ، حتى أنّ أحد غلمان الإمام الباقرعليه‌السلام عمل عملا صالحا ، فقال له الإمام : «اذهب فأنت حر ، فإنّي أكره أن أستخدم رجلا من أهل الجنّة»(٤) .

وجاء في أحوال الإمام السجاد علي بن الحسينعليه‌السلام ، أنّ جارية كانت تسكب عليه الماء ، فسقط الإبريق من يدها فشجّه ، فرفع رأسه إليها ، فقالت :( وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ ) ، قال : «قد كظمت غيظي» قالت :( وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ ) ، قال : «عفا الله عنك» ، قالت :( وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) قال : «فاذهبي فأنت حرّة لوجه الله»(٥) .

ه ـ ورد في بعض الرّوايات الإسلامية أنّ العبيد يتحرّرون تلقائيا بعد مرور سبع سنين ، ففي رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «من كان مؤمنا فقد عتق بعد سبع سنين ،

__________________

(١) التوبة ، الآية ٦٠.

(٢) كان لنا بحث مفصل حول المكاتبة وأحكامها الرائعة في ذيل الآية (٣٤) من سورة النور.

(٣) بحار الأنوار ، المجلد ٤١ ، صفحة ٤٣.

(٤) الوسائل ، المجلد ١٦ ، صفحة ٣٢.

(٥) نور الثقلين ، المجلد ١ ، ص ٣٩٠.

٣٣٩

أعتقه صاحبه أم لم يعتقه ، ولا يحل خدمة من كان مؤمنا بعد سبع سنين»(١) .

وروي في هذا الباب حديث من النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «ما زال جبرئيل يوصيني بالمملوك حتى ظننت أنّه سيضرب له أجلا يعتق فيه»(٢) .

و ـ إذا كان العبد مشتركا بين اثنين ، وأعتق أحدهما نصيبه ، وجب عليه شراء نصيب شريكه وأعتقا العبد(٣) .

وإذا أعتق مالك العبد بعضه سرت الحرية إلى باقيه فيعتق جميعه(٤) .

ز ـ إذا ملك إنسان أباه ، أو أمّه ، أو أجداده ، أو أبناءه ، أو عمّه ، أو عمّته ، أو خاله ، أو خالته ، أو أخاه ، أو أخته ، أو ابن أخيه ، أو ابن أخته ، فإنّهم يعتقون فورا.

ح ـ إذا استولد المالك جاريته فلا يجوز بيعها ، وتعتق من سهم ولدها من الميراث. وقد كان هذا الأمر سببا في عتق الكثير من العبيد ، لأنّ الجواري كن بمنزلة زوجات مالكيهن ، وكان لهن أولاد منهم.

ط ـ لقد جعل عتق العبيد كفارة لكثير من الذنوب من الإسلام ، ككفارة القتل الخطأ ، وكفارة ترك الصوم عمدا ، وكفارة اليمين ، وغيرها.

ي ـ إذا عاقب المالك عبده ببعض العقوبات الشديدة ، فإنّ العبد ينعتق تلقائيا(٥) .

المادة الثالثة : إحياء شخصية الرقيق

عند ما كان العبيد يطوون مسيرهم نحو الحرية طبقا لبرنامج الإسلام الدقيق ، أقدم الإسلام على خطوات واسعة لإحياء حقوقهم وشخصيتهم الإنسانية ، حتى أنّه

__________________

(١) وسائل الشيعة ، المجلد ١٦ ، صفحة ٣٦.

(٢) المصدر السابق ، صفحة ٣٧.

(٣) الشرائع ، كتاب العتق ، وسائل الشيعة ، المجلد ١٦ ، صفحة ٢١.

(٤) الشرائع ، كتاب العتق.

(٥) وسائل الشيعة ، المجلد ١٦ ، صفحة ٢٦.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592