الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177274 / تحميل: 5797
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

وقد نقل جمع آخر من علماء السنة ، وكبائر علماء الشيعة هذه الحادثة في كتب عديدة ، تارة بدون ذكر الآية أعلاه ، وأخرى مع ذكرها(١) .

إنّ القرائن الموجودة في الآيات توحي بأن هذا الحديث المعروف من قبيل تطبيق المصداق ، لا أنه سبب النّزول ، وبتعبير آخر : فإنّ سبب نزول الآية هو قصة عيسى وقول المشركين وأصنامهم ، لكن لما وقع لعليعليه‌السلام حادث شبيه لذاك بعد ذلك القول التاريخي للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلا هذه الآية هنا ليبين أنّ هذا الحادث كان مصداقا لذاك من جهات مختلفة.

ولئلا يتوهموا أنّ الله سبحانه محتاج لعبوديتهم ، وأنّه يصر عليها ، فإنّه تعالى يقول في الآية التالية :( وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ) ملائكة تخضع لأوامر الله ، ولا تعرف عملا إلّا طاعته وعبادته.

واختار جمع من المفسّرين تفسيرا آخر للآية ، يصبح معنى الآية على أساسه : ولو نشاء لجعلنا أبناءكم ملائكة يخلفونكم في الأرض. بناء على هذا فلا تعجبوا من أن يولد المسيح من دون أب ، فإنّ اللهعزوجل قادر على أن يخلق ملكا من الإنسان ، وهو نوع يختلف عنه(٢) .

ولما كان تولد الملك من الإنسان لا يبدوا مناسبا ، فقد فسّره بعض كبار المفسّرين بولادة الأبناء الذين يتمتعون بصفات الملائكة ، وقالوا : إنّ المراد : لا تعجبوا من أن تكون لعبد كالمسيح القدرة على إحياء الموتى ، وإبراء المرضى بإذن الله ، وهو في الوقت نفسه عبد مخلص مطيع لأمر الله ، فإنّ الله قادر على أن يخلق

__________________

(١) لمزيد الاطلاع راجعوا : كتاب إحقاق الحق ، المجلد ٣ ، صفحة ٣٩٨ وما بعدها ، تفسير نور الثقلين ، المجلد ٤ ، صفحة ٦٠٩. وما بعدها ، وتفسير مجمع البيان ذيل الآيات مورد البحث.

(٢) اختار التّفسير الأوّل ، الطبرسي في مجمع البيان ، والشيخ الطوسي في التبيان ، وأبو الفتوح الرازي وآخرون. أما التّفسير الثّاني فقد نقله القرطبي والآلوسي في روح المعاني ، والزمخشري في الكشاف ، والمراغي ، على أنه المعنى الوحيد للآية ، أو أنّه أحد معنيين لها.

٨١

من أبنائكم من تكون فيه كل صفات الملائكة وطبائعهم(١) .

إلّا أنّ التّفسير الأوّل ينسجم مع ظاهر الآية أكثر من الجميع ، وهذه التفاسير بعيدة(٢) .

والآية التالية إشارة إلى خصيصة أخرى من خصائص المسيحعليه‌السلام فتقول : إنّ عيسى سبب العلم بالساعة( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ) إمّا أن ولادته من غير أب دليل على قدرة الله اللامتناهية ، فتحل على ضوئها مسألة الحياة بعد الموت ، أو من جهة نزول المسيحعليه‌السلام من السماء في آخر الزمان طبقا لروايات عديدة ، ونزوله هذا دليل على اقتراب قيام الساعة.

يقول جابر بن عبد الله : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ينزل عيسى بن مريم ، فيقول أميرهم : تعالى صلّ بنا ، فيقول : لا ، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة من الله لهذه الأمّة»(٣) .

ونقرأ في حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم»(٤) .

وعلى أية حال ، فإنّ إطلاق (العلم) على المسيح نوع من التأكيد والمبالغة ، وهو إشارة إلى أن نزوله من علامات القيامة حتما.

واحتمل أيضا أن يعود الضمير في (أنه) على القرآن ، وعلى هذا يكون معنى الآية : إنّ نزول القرآن الذي هو آخر الكتب السماوية ، دليل على اقتراب الساعة ، ويخبر عن قيام القيامة.

غير أنّ الآيات السابقة واللاحقة حول عيسى تقوي التّفسير الأوّل.

ثمّ تقول الآية بعد ذلك : إنّ قيام الساعة حتم ، ووقوعها قريب ،( فَلا تَمْتَرُنَّ بِها )

__________________

(١) الميزان ، ذيل الآية مورد البحث.

(٢) طبقا للتفسير الأوّل ، فإنّ (من) للبدلية ، وبناء على التّفسيرين الثّاني والثّالث فإنّ (من) للإنشاء ، والابتداء.

(٣) نقل هذا الحديث صاحب مجمع البيان عن صحيح مسلم في ذيل الآيات مورد البحث.

(٤) مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث ، وتفسير روح المعاني ، المجلد ٥ ، صفحة ٨٨.

٨٢

لا من حيث الإعتقاد بها ولا من حيث الغفلة عنها.

( وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) وأي صراط أكثر استقامة من الذي يخبركم بالمستقبل الخطير الذي ينتظركم ، ويحذركم منه ، ويدلكم على طريق النجاة من أخطار يوم البعث؟!

إلّا أن الشيطان يريد أن يبقيكم في عالم الغفلة والارتباط بها ، فاحذروا :( وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) .

لقد أظهر عداءه لكم منذ اليوم الأوّل ، مرّة عند وسوسته لأبيكم وأمكم ـ آدم وحواء ـ وإخراجهما من الجنّة ، وأخرى عند ما أقسم على إضلال بني آدم وإغوائهم ، إلّا المخلصين منهم ، فكيف تخضعون أمام هكذا عدو لدود أقسم على أذاكم ودفعكم إلى الهاوية السحيقة؟ وكيف تسمحون له أن يتسلط على قلوبكم وأرواحكم ، وأن يمنعكم عن طريق الحق بوساوسه المستمرة؟!

* * *

٨٣

الآيات

( وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) )

التّفسير

الذين غالوا في المسيح :

مرت الإشارة إلى جانب من خصائص حياة المسيحعليه‌السلام في الآيات السابقة ، وتكمل هذه الآيات ذلك البحث ، وتؤكّد بالخصوص على دعوة المسيح إلى التوحيد الخالص ، ونفي كل شكل من أشكال الشرك.

تقول الآية أوّلا :( وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) وبهذا فقد كانت «البينات» ـ أي آيات الله والمعجزات ـ رأسمال عيسى ، إذ كانت تبين حقانيته من جانب ، وتبين من جانب آخر الحقائق

٨٤

المرتبطة بالمبدأ والمعاد واحتياجات حياة البشر.

ويصف عيسىعليه‌السلام محتوى دعوته بـ «الحكمة» في عبارته ، ونحن نعلم أن أساس الحكمة هو المنع من شيء بقصد إصلاحه ، ثمّ أطلقت على كل العقائد الحقّة ، وبرامج الحياة الصحيحة التي تصون الإنسان من أنواع الانحراف في العقيدة والعمل ، وتتناول تهذيب نفسه وأخلاقه ، وعلى هذا فإنّ للحكمة هنا معنى واسعا يشمل «الحكمة العلمية» و «الحكمة العملية».

ولهذه الحكمة ـ إضافة إلى ما مرّ ـ هدف آخر ، وهو رفع الاختلافات التي تخلّ بنظام المجتمع ، وتجعل الناس حيارى مضطربين ، ولهذا السبب نرى المسيحعليه‌السلام يؤكّد على هذه المسألة.

وهنا يطرح سؤال التفت إليه أغلب المفسّرين ، وهو : لماذا يقول :( قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) ولم لا يبيّن الجميع؟

وقد ذكرت أجوبة عديدة لهذا السؤال ، وأنسبها هو :

إنّ الاختلافات التي بين الناس نوعان : منها ما يكون مؤثرا في مصيرهم من الناحية العقائدية والعملية ، ومنها ما يكون في الأمور غير المصيرية ، كالنظريات المختلفة حول نشأة المنظومة الشمسية والسماوات ، وكيفية الأفلاك ، والنجوم ، وماهية روح الإنسان ، وحقيقة الحياة ، وأمثال ذلك.

ومن الواضح أنّ الأنبياء مكلّفون أن ينهوا الاختلافات من النوع الأوّل ويقتلعوها بواسطة تبيان الحقائق ، ولكنّهم غير مكلّفين برفع أي اختلاف كان حتى وإن لم يكن له تأثير في مصير الإنسان مطلقا.

ويحتمل أيضا أن تبيان بعض الاختلافات نتيجة وغاية لدعوة الأنبياء ، أي إنّهم سيوفقون أخيرا في حل بعض هذه الاختلافات ، أمّا حلّ جميع الاختلافات في الدنيا فإنّه أمر غير ممكن ، ولذلك تبيّن آيات متعددة من القرآن المجيد أن أحد خصائص القيامة هو ارتفاع كل الاختلافات وانتهاؤها ، فنقرأ في الآية (٩٢) من

٨٥

سورة النحل :( وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) .

وقد جاء هذا المعنى في الآيات ، ٥٥ ـ آل عمران ، ٤٨ ـ المائدة ، ١٦٤ ـ الأنعام ، ٦٩ ـ الحج ، وغيرها(١) .

وتضيف الآية في النهاية :( فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ) .

بعد ذلك ، ومن أجل أن ترفع كل نوع من الإبهام في مسألة عبوديته ، تقول الآية :

( إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ) .

الملفت للانتباه تكرار كلمة «الرب» مرّتين في هذه الآية ، مرّة في حقّه ، وأخرى في حق الناس ، ليوضح للناس أنّي وإيّاكم متساوون ، وربّي وربّكم واحد. وأنا مثلكم محتاج في كل وجودي إلى الخالق المدبر ، فهو مالكي ودليلي.

وللتأكيد أكثر يضيف :( فَاعْبُدُوهُ ) إذ لا يستحق العبادة غيره ، ولا تليق إلّا به ، فهو الرب والكل مربوبون ، وهو المالك والكل مملوكون.

ثمّ يؤكّد كلامه بجملة أخرى حتى لا تبقى لمتذرع ذريعة ، فيقول :( هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) (٢) .

نعم ، إنّ الصراط المستقيم هو طريق العبودية لله سبحانه ذلك الطريق الذي لا انحراف فيه ولا اعوجاج ، كما جاء في الآية (٦١) من سورة يس :( وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) .

لكن العجب أن يختلف أقوام من بعده مع كل هذه التأكيدات :( فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ) (٣) :

__________________

(١) قال بعض آخر من المفسّرين : إنّ (بعض) هنا بمعنى الكل ، أو أن التعبير بـ( بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) إضافة موصوف إلى الصفة ، أو أن هذا التعبير إشارة إلى أنّي أبيّن لكم أمور الدين وحسب ، لا اختلافاتكم في أمر الدنيا. إلّا أن أيّا من هذه التفاسير لا يستحق الاهتمام.

(٢) ورد نظير هذه الآية بتفاوت يسير في سورة مريم ـ ٣٦ ، وسورة الأنعام ـ ٥١ ، وتكرار هذا المعنى تأكيد على أن عيسىعليه‌السلام قد أتمّ الحجة على جميع هؤلاء في مورد عبوديته وكونه عبد الله سبحانه.

(٣) الضمير في (بينهم) يعود إلى الذين خاطبهم المسيحعليه‌السلام في الآية السابقة ، ودعاهم إلى عبودية الله سبحانه.

٨٦

فالبعض ذهب إلى أنّه الرب الذي نزل إلى الأرض!

وبعض آخر اعتبره ابن ربّه.

وآخرون بأنّه أحد الأقانيم الثلاثة (الذوات المقدسة الثلاثة : الأب ، والابن ، وروح القدس).

وهناك فئة قليلة فقط هم الذين اعتبروه عبد الله ورسوله ، غير أن عقيدة الأغلبية هي التي هيمنت ، وعمت مسألة التثليث والآلهة الثلاثة عالم المسيحية.

وقد نقل في هذا الباب حديث تاريخي جميل أوردناه في ذيل الآية (٣٦) من سورة مريم.

ويحتمل أيضا في تفسير الآية ، أنّ هذا الاختلافات لم يكن بين المسيحيين وحسب ، بل حدث بين اليهود والنصارى في المسيح ، فغالى أتباعه فيه ، وأو صلوه إلى مقام الألوهية ، في حين اتهمه وأمّه الطاهرة أعداؤه بأشنع الاتهامات ، وهكذا سلوك الجاهلين وعرفهم ، بعضهم صوب الإفراط ، وآخرون نحو التفريط ، أو هم ـ على حد تعبير أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ـ بين محب غال وبين مبغض قال ، حيث يقولعليه‌السلام : «هلك فيّ رجلان : محب غال ، ومبغض قال»(١) !

وكم هي متشابهة أحوال هذين العظيمين!

وهددهم الله سبحانه في نهاية الآية بعذاب يوم القيامة الأليم ، فقال :( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ) (٢) .

نعم ، إنّ يوم القيامة يوم أليم ، فطول حسابه أليم ، وعقوباته أليمة ، وحسرته وغمه أليمان ، وخزيه وفضيحته أليمان أيضا.

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة. الكلمات القصار : ١١٧.

(٢) ينبغي الانتباه إلى أن (أليم) صفة لليوم لا للعذاب.

٨٧

الآيات

( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) )

التّفسير

ماذا تنتظرون غير عذاب الآخرة؟

كان الكلام في الآيات السابقة يدور حول عبدة الأوثان العنودين ، وكذلك حول المنحرفين والمشركين في أمّة عيسىعليه‌السلام ، والآيات مورد البحث تجسد عاقبة أمرهم ، يقول تعالى :( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) ؟

لقد طرح هذا السؤال بصورة الاستفهام الإنكاري ، وهو في الحقيقة بيان لواقع حال أمثال ، هؤلاء الأفراد ، كما نقول في مقام ذم شخص لا يصغي إلى نصيحة ناصح ، ويهيء عوامل فنائه بيده : إنّه بانتظار حتفه فقط!

٨٨

والمراد من «الساعة» في هذه الآية ـ ككثير من آيات القرآن الأخرى ـ هو يوم القيامة ، لأنّ الحوادث تقع سريعة حتى كأنّها تحدث في ساعة واحدة.

وجاءت هذه الكلمة ـ أيضا ـ بمعنى لحفظة انتهاء الدنيا ، ولما لم يكن بين هذين المعنيين كبير فرق ، فمن الممكن أن يكون هذا التعبير شاملا لكلا المعنيين.

وعلى أية حال ، فقد وصف قيام الساعة ، الذي يبدأ بانتهاء الدنيا المفاجئ ، بوصفين في الآية أعلاه : الأوّل : كونه بغتة ، والآخر : عدم علم عامة الناس بتأريخ وقوعها وحدوثها.

من الممكن أن يحدث حدث فجأة ، ولكنّا نتوقع حدوثه من قبل ، ونكون على استعداد لمواجهة المشاكل التي تنجم عنه ، إلّا أن سوء الحظ والتعاسة في أن تقع فاجعة قاسية وصعبة جدّا ، بصورة مفاجئة ونحن غافلون عنها تماما.

هكذا بالضبط حال المجرمين ، فهم يؤخذون وهم في غفلة تامة ، بحيث تصور الروايات الواردة عن نبيّ الإسلام الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك فتقول : «تقوم الساعة والرجلان يحلبان النعجة ، والرجلان يطويان الثوب ، ثمّ قرأصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) (١) .

وأي شيء آلم من أن يكون الإنسان غافلا أمام مثل هذه الحادثة التي ليس فيها أي طريق أو منفذ للرجوع والخلاص ، ويغرق في أمواجها من دون أن يكون معدّا لمستلزمات النجاة؟

ثمّ رفعت الآية الغطاء عن حالة الأخلاء الذين يودّ بعضهم بعضا ، ويسيرون معا في طريق المعصية والفساد ، والاغترار بزخارف الدنيا ، فتقول :( الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ) (٢) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ، المجلد ٢٥ ، صفحة ٨٩.

(٢) «الأخلاء» جمع (خليل) ـ من مادة خلة ـ بمعنى المودّة والمحبّة ، وأصلها من الخلل ـ على وزن شرف ـ أي الفاصلة بين جسمين ، ولما كانت المحبة والصداقة كأنّها تنفذ في أعماق القلب وثناياه ، فقد استعملت فيها هذه الكلمة.

٨٩

إن هذه الآية التي تصف مشهدا من مشاهد القيامة ، تبيّن بوضوح أنّ المراد من الساعة في الآية السابقة هو يوم القيامة أيضا ، اليوم الذي تنفصم فيه عرى العلاقات الأخوية والصداقة والرفقة ، إلّا العلاقات التي قامت لله وفي الله وباسمه.

إن تبدل مثل هذه المودة إلى عداوة في ذلك اليوم أمر طبيعي ، لأنّ كلا منهم يرى صاحبه أساس تعاسته وسوء عاقبته ، فأنت الذي دللتني على هذا الطريق ودعوتني إليه ، وأنت الذي زينت الدنيا في نظري ورغبتني فيها وأطمعتني.

نعم ، أنت الذي أغرقتني في بحر الغفلة والغرور ، وجعلتني جاهلا بمصيري ، غافلا عنه.

وهكذا يقول كل واحد منهم لصاحبه مثل هذه المطالب ، إلّا المتقين الذين تبقى روابط أخوتهم ، وأواصر مودّتهم خالدة ، لأنّها تدور حول محور القيم والمعايير الخالدة ، وتتّضح نتائجها المثمرة في عرصة القيامة أكثر ، فتمنحها قوّة إلى قوّتها.

من الطبيعي أنّ الأخلاء يعين بعضهم بعضا في أمور الحياة ، فإن كانت خلتهم على أساس الشرّ والفساد ، فهم شركاء في الذنب والجريمة ، وإن كانت على أساس الخير والصلاح فهم شركاء في الثواب والعطية ، وعلى هذا فلا مجال للعجب من أن يتبدل الخليل من القسم الأوّل الى عدوّ ، ومن القسم الثّاني إلى خليل يشتد حبّه ومودّته أكثر من ذي قبل.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام : «ألا كل خلّة كانت في الدنيا في غير اللهعزوجل فإنّها تصير عداوة يوم القيامة»(١) .

والآية التالية ـ في الحقيقة ـ تبيان لأوصاف المتقين وأحوالهم ، وبيان لعاقبتهم التي تبعث على الفخر والاعتزاز.

في ذلك اليوم العصيب يقول لهم الله تعالى :( يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ) .

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم ، طبق نقل نور الثقلين ، ج ٤ : صفحة ٦١٢.

٩٠

كم هو جميل هذا النداء؟! نداء مباشر من الله سبحانه من دون واسطة توصله

نداء يبدأ بأحسن الصفات : يا عباد الله! نداء يزيل قلق الإنسان في يوم ليس فيه إلّا القلق والاضطراب نداء يطهر القلب من غم الماضي وحزنه ، وينقيه

نعم ، لهذا النداء هذه المزايا الأربعة المذكورة.

وتبيّن آخر آية ـ من هذه الآيات ـ هؤلاء المتقين والعباد المكرمين بصورة أكثر وضوحا ، بذكر جملتين أخريين ، فتقول :( الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ ) .

أجل ، هؤلاء هم الذين يخاطبون بمثل هذا الخطاب العظيم ، ويسبحون في تلك النعم.

إن هاتين الجملتين تعريف بليغ باعتقادات هؤلاء وأعمالهم ، فهما تبينان إيمانهم الذي هو أساس عقيدتهم الثابت ، وتبينان إسلامهم في تسليمهم لأمر الله سبحانه وتنفيذ أوامره.

* * *

٩١

الآيات

( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣) )

التّفسير

فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين :

تبيّن هذه الآيات جزاء عباد الله المخلصين ، والمؤمنين الصالحين الذين مرّ وصفهم في الآيات السابقة ، وتبشرهم بالجنّة الخالدة مع ذكر سبع نعم من نعمها النفيسة الغالية.

تقول أوّلا :( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ ) وبذلك فإنّ مضيفهم الحقيقي هو الله تعالى الذي يدعو ضيوفه ويقول لهم : أدخلوا الجنّة.

ثمّ أشارت إلى أول نعمة من تلك النعم ، فقالت :( أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ ) ومن الواضح أنّ كون المؤمنين الرحماء إلى جانب زوجاتهم المؤمنات يمنحهما معا

٩٢

اللذة والسرور ، فإذا كانا شريكين في همّ الدنيا ، فإنّهما سيكونان شريكين في سرور الآخرة ونشوتها.

وقد فسّر بعضهم «الأزواج» هنا بالمتساوين في الدرجة والأصدقاء والأقارب ، فلو صحّ فوجودهم نعمة عظيمة ، إلّا أنّ ظاهر الآية هو المعنى الأوّل.

ثمّ تضيف :( تُحْبَرُونَ ) .

«تحبرون» من مادة حبر ـ وزن فكر ـ أي الأثر المطلوب ، وتطلق أحيانا على الزينة وآثار الفرح التي تظهر على الوجه ، وإذا قيل للعلماء أحبار ، فلآثارهم التي تبقى بين المجتمعات البشرية ، كما يقول أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «العلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة»(١) .

وتقول في بيان النعمة الثالثة :( يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ ) فهم يضافون ويخدمون بأفضل الأواني ، وألذّ الأطعمة ، في منتهى الهدوء والاطمئنان والصفاء.

«الصحاف» جمع صحفة ، وهي في الأصل من مادة صحف ، أي التوسع ، وتعني هنا الأواني الكبيرة الواسعة والأكواب جمع كوب ، وهي أقداح الماء التي لا عروة لها.

ومع أنّ الكلام في الآية عن الصحاف الذهبية ، دون طعامهم وشرابهم ، إلّا أن من البديهي أنّ الذين يخدمونهم لا يطوفون عليهم بصحاف خالية مطلقا.

وتشير في الرابعة والخامسة إلى نعمتين أخريين جمعت فيهما كلّ نعم العالم المادية والمعنوية ، فتقول :( وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ) ، وعلى قول المرحوم الطبرسي في مجمع البيان : لو أنّ جميع الخلائق قد اجتمعت لوصف أنواع نعم الجنّة ، فسوف لا يقدرون أن يضيفوا شيئا على ما جاء في هذه الجملة أبدا.

وأي تعبير أجمل من هذا التعبير وأجمع منه؟ فهو تعبير بسعة عالم الوجود ،

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ١٤٧.

٩٣

وبسعبة ما يخطر في أذهاننا اليوم وما لا يخطر ، تعبير ليس فوقه تعبير.

والطريف أن مسألة شهية النفس قد بيّنت منفصلة عن لذة العين ، وهذا الفصل عميق المعنى : فهل هو من قبيل ذكر الخاص بعد العام ، من جهة أنّ للذّة النظر أهمية خاصّة تفوق اللذات الأخرى؟ أم هو من جهة أن جملة :( ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ ) تبيّن لذات الذوق ، والشم والسمع واللمس ، أمّا جملة :( تَلَذُّ الْأَعْيُنُ ) فهي تبيان للذة العين والنظر.

ويعتقد البعض أنّ جملة :( ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ ) إشارة إلى كلّ اللذات الجسمية ، في حين أن جملة :( تَلَذُّ الْأَعْيُنُ ) مبينة للذات الروحية ، وأي لذة في الجنة أسمى من أن ينظر الإنسان بعين القلب إلى جمال الله الذي لا يشبهه جمال ، فإنّ لحظة من تلك اللحظات تفوق كل نعم الجنة المادية.

ومن البديهي أنّ شوق الحبيب كلما زاد ، كانت لذة الإلقاء أعظم.

سؤال :

وهنا يطرح سؤال ، وهو : هل أنّ سعة عمومية مفهوم هذه الآية ، دليل على أنّهم يطلبون من الله هناك أن يمنحهم أمورا كانت حراما في الدنيا؟

والجواب :

إنّ طرح هذا السؤال ناتج عن عدم الالتفات إلى نكتة ، وهي أنّ المحرمات والقبائح كالغذاء المضر لروح الإنسان ، ومن المسلم أنّ الروح السالمة الصحيحة لا تشتهي مثل هذه الغذاء ، وتلك التي تميل أحيانا إلى السموم والأغذية المضرة هي الأرواح المريضة.

إنّنا نرى ، بعض المرضى يميلون حتى في حالة المرض إلى تناول التراب أو أشياء أخرى من هذا القبيل ، إلّا أنّهم بمجرّد أن يزول عنهم المرض تزول عنهم

٩٤

هذه الشهية الكاذبة.

نعم ، إنّ أصحاب الجنّة سوف لا يميلون أبدا إلى مثل هذه الأعمال ، لأن ميل الروح وانجذابها إليها من خصائص أرواح أصحاب الجحيم المريضة.

إنّ هذا السؤال يشبه ما ورد في الحديث من أن أعرابيا أتى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : هل في الجنّة إبل؟ فإنّي أحبّها حبّا جمّا ، فالتفت إليه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان يعلم أن في الجنّة نعما سينسى معها الأعرابي الإبل ، وأجابه بعبارة قصيرة فقال : «يا أعرابي ، إن أدخلك الله الجنّة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك»(١) .

وبتعبير آخر : فهناك العالم الذي ينسجم فيه الإنسان مع الحقائق تماما.

وعلى كل حال ، لما كانت قيمة النعمة في كونها خالدة ، فقد طمأنت الآية أصحاب النعيم من هذه الجهة عند ما ذكرت الصفة السادسة فقالت :( وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ ) لئلّا يكدر التفكير في زوال هذه النعمة صفو عيشهم ولذّتهم ، فيقلقوا من المستقبل وما يخبئه.

وهنا ، من أجل أن يتّضح أن كل نعم الجنّة هذه تعطى جزاء لا اعتباطا وعبثا ، تضيف الآية :( وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

والطريف في الأمر أنّ الآية تطرح مجازاة الأعمال وكون الجنّة في مقابلها من جهة ، ومن جهة أخرى تجعلها إرثا ، وهو يستعمل عادة في الموارد التي تصل فيها النعمة إلى الإنسان من دون أن يبذل جهدا أو سعيا في تحصيلها ، وهذه إشارة إلى أنّ أعمالكم هي أساس خلاصكم ونجاتكم ، إلّا أن ما تحصلون عليه إذا ما قورن بأعمالكم فهو كالشيء المجاني المعطى من قبل الله تعالى ، وكالهبة حصلتم عليها بفضله.

ويعتبر البعض هذا التعبير إشارة إلى ما قلناه سابقا من أن لكل إنسان منزلا في الجنّة ومحلا في الجحيم ، فيرث أصحاب الجنّة منازل أصحاب النّار ، ويرث

__________________

(١) روح البيان ، المجلد ٨ ، صفحة ٣٩١.

٩٥

أصحاب النّار أمكنة أصحاب الجنّة!

إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأنسب.

والكلام في النعمة السابعة والأخيرة في ثمار الجنّة التي هي من أفضل نعم الله ، فتقول الآية :( لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ ) .

لقد كانت الصحاف والأكواب بيانا لأنواع الأطعمة والأشربة في الواقع ، أمّا الفواكه فلها حسابها الخاص ، وقد أشير إليه في آخر آية من هذه الآيات.

والجميل أنّها تبيّن بتعبير (منها) حقيقة أنّ فاكهة الجنّة كثيرة جدّا بحيث لا تتناولون إلّا جزءا منها ، وعلى هذا فإنّها لا تفنى ، وأشجارها مثمرة دائما.

وجاء في الحديث : «لا ينزع رجل في الجنّة ثمرة من ثمرها إلّا نبت مثلها مكانها»(١) .

كانت هذه بعض نعم الجنّة التي تبعث الحياة في النفوس ، وهي بانتظار ذوي الإيمان القوي البيّن ، والأعمال الصالحة النبيلة.

* * *

__________________

(١) تفسير روح البيان ، الجزء ٨ ، صفحة ١٩٢.

٩٦

الآيات

( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠) )

التّفسير

نتمنى أن نموت لنستريح من العذاب :

لقد فصّلت هذه الآيات القول في مصير المجرمين والكافرين في القيامة ، ليتّضح الفرق بينه وبين مصير المؤمنين ـ المطيعين لأمر الله ـ المشرف السعيد من خلال المقارنة بين المصيرين.

تقول الآية الأولى :( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ ) .

«المجرم» من مادة جرم ، وهو في الأصل بمعنى القطع الذي يستعمل في قطع

٩٧

الثمار من الشجرة ـ أي القطف ـ وكذلك في قطع نفس الشجرة ، إلّا أنّه استعمل فيما بعد في القيام بكل عمل سيء ، وربّما كان سبب هذا الاستعمال هو أنّ هذه الأعمال تفصل الإنسان عن ربّه وعن القيم الإنسانية ، وتبعده عنهما.

لكن من المسلم هنا أنّه لا يريد كل المجرمين ، وإنّما المراد هم المجرمون الذين اتخذوا سبيل الكفر سبيلا لهم ، بقرينة ذكر مسألة الخلود والعذاب الخالد ، وبقرينة المقارنة بالمؤمنين الذين مرّ الكلام عنهم في الآيات السابقة. ويبدو بعيدا ما قاله بعض المفسّرين من أنها تشمل كل المجرمين.

ولما كان من الممكن أن يخفف العذاب الدائمي بمرور الزمان ، وتقل شدته تدريجيا ، فإنّ الآية التالية تضيف :( لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ) ، وعلى هذا فإنّ عذاب هؤلاء دائم من ناحيتي الزمان والشدّة ، لأنّ الفتور يعني السكون بعد الحدة ، واللين بعد الشدة ، والضعف بعد القوّة كما يقول الراغب في مفرداته.

«مبلس» من مادة «إبلاس» ، وهي في الأصل الحزن الذي يصيب الإنسان من شدة التأثر والانزعاج ، ولما كان هذا الهم والحزن يدعو الإنسان إلى السكوت ، فقد استعملت مادة الإبلاس بمعنى السكوت والامتناع عن الجواب أيضا. ولما كان الإنسان ييأس من خلاص نفسه ونجاته في الشدائد العصيبة ، فقد استعملت هذه المادة في مورد اليأس أيضا ، ولهذا المعنى سمي «إبليس» إبليس ، إذ أنّه آيس من رحمة الله.

على أية حال ، فإنّ هاتين الآيتين قد أكدتا على ثلاث مسائل : مسألة الخلود ، وعدم تخفيف العذاب ، والحزن واليأس المطلق. وما أشد العذاب الذي تمتزج فيه هذه الأمور الثلاثة وتجتمع.

وتنبه الآية التالية إلى أنّ هؤلاء هم الذين أرادوا هذا العذاب الأليم ، واشتروه بأعمالهم وبظلمهم لأنفسهم ، فتقول :( وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ) .

فكما أن الآيات السابقة قد بينت أن منبع كل تلك النعم اللامتناهية هي أعمال

٩٨

المؤمنين المتقين ، فإن هذه الآيات تعد أعمال هؤلاء الظالمين سبب هذا العذاب الخالد ومنبعه. وأي ظلم أكبر من أن يكذّب الإنسان بآيات الله سبحانه ، ويضرب جذور سعادته بمعول الكفر والافتراء :( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ) .(١)

نعم ، إن القرآن يرى ارادة الإنسان وأعماله السبب الأساسي لكل سعادة أو شقاء ، لا المسائل الظنية والوهمية التي اصطنعها البعض لأنفسهم.

ثمّ تطرقت الآية إلى بيان جانب من مذلة هؤلاء ومسكنتهم ، فقالت ،( وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ) فمع أن كل امرئ يهرب من الموت ويريد استمرار الحياة وبقاءها ، إلّا أنّه عند ما تتوالى عليه المصائب أحيانا ويضيق عليه الخناق يتمنى على الله الموت ، وإذا كانت هذه الأمنية قد تحدث أحيانا لبعض الناس في الدنيا ، فانّها تعمّ جميع المجرمين هناك ، فكلهم يتمنى الموت.

ولكن حيث لا فائدة من ذلك ، فإنّ مالك النّار وخازنها يجيبهم :( قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ ) (٢) .

والعجيب أنّ خازن النّار يجيبهم بعد ألف سنة ـ برأي بعض المفسّرين ـ وبكل احتقار وعدم اهتمام ، فما أشد إيلام هذا الاحتقار(٣) .

قد يقال : كيف يطلب هؤلاء مثل هذا الطلب مع يقينهم أن لا موت هناك؟ غير أن مثل هذا الطلب طبيعي من إنسان أحاطت به المصائب والآلام ، وقطع أمله من كل شيء.

أجل ، إنّ هؤلاء عند ما يرون كل سبل النجاة مغلقة في وجوههم ، سيطلقون هذه الصرخة من أعماق قلوبهم ، ولكن حق القول عليهم بالعذاب ، فلا فائدة من

__________________

(١) الصف ، الآية ٧.

(٢) «ماكثون» من مادة (مكث) ، وهو في الأصل التوقف المقترن بالانتظار ، وربّما كان هذا التعبير من مالك استهزاء ، كما تقول ـ أحيانا ـ لمن يطلب شيئا لا يستحقه انتظر!

(٣) مجمع البيان ، ذيل الآيات مورد البحث وقال البعض : إنّ المسافة بين السؤال والجواب مائة سنة ، وآخرون : أربعون سنة ، ومهما تكن فإنّها دليل على الاحتقار وعدم الاهتمام.

٩٩

صراخهم ، ولا صريخ لهم.

أمّا لماذا لا يطلب هؤلاء الموت من الله مباشرة ، بل يقولون لمالك :( لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ) ؟ فلأنّهم في ذلك اليوم محجوبون عن ربّهم ، كما نقرأ ذلك في الآية (١٥) من سورة المطففين :( كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) ولذلك يطلبون طلبتهم هذه من ملك العذاب. أو بسبب أن مالكا ملك مقرب عند الله سبحانه.

وتقول الآية الأخرى ، والتي هي في الحقيقة علة لخلود هؤلاء في نار جهنم :( لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ ) .

وللمفسّرين رأيان مختلفان في أن هذا الكلام هل هو من قبل مالك خازن النّار ، وأن ضمير الجمع يعود على الملائكة ومنهم مالك ، أم أنّه كلام الله تعالى؟

السياق يوجب أن يكون الكلام كلام مالك ، لأنّه أتى بعد كلامه السابق ، إلّا أنّ محتوى نفس الآية ينسجم مع كونه كلام الله تعالى ، والشاهد الآخر لهذا الكلام الآية (٧١) من سورة الزمر :( وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ ) فهنا يعد الملائكة الرسل هم الذين جاؤوا بالحق ، لا هم.

وللتعبير «بالحق» معنى واسع يشمل كل الحقائق المصيرية ، وإن كانت مسألة التوحيد والمعاد والقرآن تأتي في الدرجة الأولى.

وهذا التعبير يشير ـ في الحقيقة ـ إلى أنّكم لم تخالفوا الأنبياء فحسب ، وإنّما خالفتم الحق في الواقع ، وهذه المخالفة هي التي ساقتكم إلى العذاب الخالد الأبدي.

وتعكس الآية التالية جانبا من كراهية هؤلاء للحق واشمئزازهم منه ، وكذلك مناصرتهم للباطل والتمسك به ، فتقول :( أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ) (١) فقد حاك هؤلاء الأشرار الدسائس ودبروا المؤامرات لإطفاء نور الإسلام ، وقتل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يتورعوا في إنزال الضربات بالإسلام والمسلمين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

__________________

(١) «أم» في الآية منقطعة ، وهي بمعنى (بل) والإبرام بمعنى الإحكام.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

مطاه أي ظهره، و المراد بتمطّيه في ذهابه التبختر و الاختيال استعارة.

و المعنى: فلم يصدّق هذا الإنسان الدعوة فيما فيها من الاعتقاد و لم يصلّ لربّه أي لم يتّبعها فيما فيها من الفروع و ركنها الصلاة و لكن كذّب بها و تولّى عنها ثمّ ذهب إلى أهله يتبختر و يختال مستكبراً.

قوله تعالى: ( أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى‏ ثُمَّ أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى‏ ) لا ريب أنّه كلمة تهديد كرّرت لتأكيد التهديد، و لا يبعد - و الله أعلم - أن يكون قوله:( أَوْلى‏ لَكَ ) خبراً لمبتدإ محذوف هو ضمير عائد إلى ما ذكر من حال هذا الإنسان و هو أنّه لم يصدّق و لم يصلّ و لكن كذّب و تولّى ثمّ ذهب إلى أهله متبختراً مختالاً، و إثبات ما هو فيه من الحال له كناية عن إثبات ما هو لازمه من التبعة و العقاب.

فيكون الكلام و هي كلمة ملقاة من الله تعالى إلى هذا الإنسان كلمة طبع طبع الله بها على قلبه حرم بها الإيمان و التقوى و كتب عليه أنّه من أصحاب النار، و الآيتان تشبهان بوجه قوله تعالى:( فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى‏ لَهُمْ ) سورة محمّد: 20.

و المعنى: ما أنت عليه من الحال أولى و أرجح لك فأولى ثمّ أولى لك فأولى لتذوق وبال أمرك و يأخذك ما اُعدّ لك من العذاب.

و قيل: أولى لك اسم فعل مبنيّ و معناه وليك شرّ بعد شرّ.

و قيل: أولى فعل ماض دعائيّ من الولي بمعنى القرب و فاعل الفعل ضمير مستتر عائد إلى الهلاك و اللّام مزيدة و المعنى أولاك الهلاك.

و قيل: الفاعل ضمير مستتر راجع إليه تعالى و اللّام مزيدة، و المعنى أولاك الله ما تكرهه، أو غير مزيدة و المعنى أدناك الله ممّا تكرهه.

و قيل: معناه الذمّ أولى لك من تركه إلّا أنّه حذف و كثر في الكلام حتّى صار بمنزلة الويل لك و صار من المحذوف الّذي لا يجوز إظهاره.

٢٠١

و قيل: المعنى أهلكك الله هلاكاً أقرب لك من كلّ شرّ و هلاك.

و قيل: أولى أفعل تفضيل بمعنى الأحرى، و خبر لمبتدإ محذوف يقدّر كما يليق بمقامه فالتقدير هنا النار أولى لك أي أنت أحقّ بها و أهل لها فأولى.

و هي وجوه ضعيفة لا تخلو من تكلّف و الوجه الأخير قريب ممّا قدّمنا و ليس به.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ) مختتم فيه رجوع إلى ما في مفتتح السورة من قوله:( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ) .

و الاستفهام للتوبيخ، و السدي المهمل، و المعنى أ يظنّ الإنسان أن يترك مهملاً لا يعتنى به فلا يبعث بإحيائه بعد الموت و لازمه أن لا يكلّف و لا يجزى.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى‏ ) اسم كان ضمير راجع إلى الإنسان، و إمناء المنيّ صبّه في الرحم.

قوله تعالى: ( ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ) أي ثمّ كان الإنسان - أو المنيّ - قطعة من دم منعقد فقدّره فصوّره بالتعديل و التكميل.

قوله تعالى: ( فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى) أي فجعل من الإنسان الصنفين: الذكر و الاُنثى.

قوله تعالى: ( أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى‏ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى‏ ) احتجاج على البعث الّذي ينكرونه استبعاداً له بعموم القدرة و ثبوتها على الخلق الابتدائيّ و الإعادة لا تزيد على الابتداء مئونة بل هي أهون، و قد تقدّم الكلام في تقريب هذه الحجّة في تفسير الآيات المتعرّضة لها مراراً.

٢٠٢

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج الطيالسيّ و أحمد و عبد بن حميد و البخاريّ و مسلم و الترمذي و النسائيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن الأنباريّ في المصاحف و الطبرانيّ و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقيّ معاً في الدلائل عن ابن عبّاس قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعالج من التنزيل شدّة، و كان يحرّك به لسانه و شفتيه مخافة أن ينفلت منه يريد أن يحفظه فأنزل الله( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) قال: إنّ علينا أن نجمعه في صدرك ثمّ نقرأه( فَإِذا قَرَأْناهُ‏ ) يقول: إذا أنزلناه عليك( فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏ ) فاستمع له و أنصت( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) بيّنه( نبيّنه ظ) بلسانك، و في لفظ علينا أن نقرأه فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل أطرق - و في لفظ استمع - فإذا ذهب قرأ كما وعده الله.

و فيه، أخرج ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا اُنزل عليه القرآن تعجّل بقراءته ليحفظه فنزلت هذه الآية( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ‏ ) .

و كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يعلم ختم سورة حتّى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم.

أقول: و روي ما في معنى صدر الحديث في المجمع، عن ابن جبير و في معناه غير واحد من الروايات، و قد تقدّم أنّ في انطباق هذا المعنى على الآيات خفاء.

و في تفسير القمّيّ قوله تعالى:( كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ) قال: الدنيا الحاضرة( وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) قال: تدعون( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ) أي مشرقة( إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) قال: ينظرون إلى وجه الله أي رحمة الله و نعمته.

و في العيون، في باب ما جاء عن الرضاعليه‌السلام من أخبار التوحيد بإسناده إلى إبراهيم بن أبي محمود قال: قال عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ

٢٠٣

ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) يعني مشرقة تنتظر ثواب ربّها.

أقول: و رواه في التوحيد، و الاحتجاج، و المجمع، عن عليّعليه‌السلام ، و قد اعترض على أخذ ناظرة بمعنى منتظرة بأنّ الانتظار لا يتعدّى بإلى بل هو متعدّ بنفسه، و ردّ عليه في مجمع البيان بالاستشهاد بقول جميل بن معمر:

و إذا نظرت إليك من ملك

و البحر دونك جدتني نعما

و قول الآخر:

إنّي إليك لما وعدت لناظر

نظر الفقير إلى الغني الموسر

و عدّ في الكشّاف إطلاق النظر في الآية بمعنى الانتظار استعمالاً كنائيّاً و هو معنى حسن.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و الترمذي و ابن جرير و ابن المنذر و الآجريّ في الشريعة و الدارقطنيّ في الرؤية و الحاكم و ابن مردويه و اللالكائيّ في السنّة و البيهقيّ عن ابن عمر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أدنى أهل الجنّة منزلاً لمن ينظر إلى جنانه و أزواجه و نعيمه و خدمه و سرره مسيرة ألف سنة و أكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة و عشيّة.

ثمّ قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ) قال: البياض و الصفاء( إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) قال: ينظر كلّ يوم في وجهه.

أقول: الرواية تقبل الانطباق على المعنى الّذي أوردناه في تفسير الآية، و مع الغضّ عنه تقبل الحمل على رحمته و فضله و كرمه تعالى و سائر صفاته الفعليّة فإنّ وجه الشي‏ء ما يستقبل به الشي‏ء غيره و ما يستقبل به الله سبحانه خلقه هو صفاته الكريمة فالنظر إلى رحمة الله و فضله و كرمه و صفاته الكريمة نظر إلى وجه الله الكريم.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قول الله:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) قال: ينظرون إلى ربّهم بلا كيفيّة و لا حدّ محدود و لا صفة معلومة.

أقول: و الرواية تؤيّد ما قدّمنا في تفسير الآية أنّ المراد به النظر القلبيّ

٢٠٤

و رؤية القلب دون العين الحسّيّة، و هي تفسّر ما ورد في عدّة روايات من طرق أهل السنّة ممّا ظاهره التشبيه و أنّ الرؤية بالعين الحسّيّة الّتي لا تفارق المحدوديّة.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ) قال: يعني النفس إذا بلغت الترقوة( وَ قِيلَ مَنْ راقٍ‏ ) قال: يقال له: من يرقيك( وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ ) علم أنّه الفراق‏.

و في الكافي، بإسناده إلى جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله عزّوجلّ:( وَ قِيلَ مَنْ راقٍ وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ‏ ) قال: فإنّ ذلك ابن آدم إذا حلّ به الموت قال: هل من طبيب( وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ ) أيقن بمفارقة الأحبّة( وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) قال: التفت الدنيا بالآخرة( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) قال: المسير إلى ربّ العالمين.

و في تفسير القمّيّ:( وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) قال: التفّت الدنيا بالآخرة( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) قال: يساقون إلى الله.

و في العيون، بإسناده عن عبدالعظيم الحسنيّ قال، سألت محمّد بن عليّ الرضاعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى‏ ثُمَّ أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى) قال: يقول الله عزّوجلّ بعداً لك من خير الدنيا و بعداً لك من خير الآخرة.

أقول: يمكن إرجاعه إلى ما قدّمناه من معنى الآيتين، و كذا إلى بعض ما قيل فيه.

و في المجمع، و جاءت الرواية: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ بيد أبي جهل ثمّ قال له: أولى لك فأولى ثمّ أولى لك فأولى. فقال أبوجهل: بأيّ شي‏ء تهدّدني لا تستطيع أنت و ربّك أن تفعلاً بي شيئاً، و إنّي لأعزّ أهل هذا الوادي، فأنزل الله سبحانه كما قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: و روي ما في معناه في الدرّ المنثور، عن عدّة عن قتادة قال: ذكر لنا و ساق الحديث.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ) قال:

٢٠٥

لا يحاسب و لا يعذّب و لا يسأل عن شي‏ء.

و في العلل، بإسناده إلى مسعدة بن زياد قال: قال رجل لجعفر بن محمّدعليه‌السلام ، يا أباعبدالله إنّا خلقنا للعجب قال: و ما ذلك لله أنت؟ قال: خلقنا للفناء فقال يا ابن أخ خلقنا للبقاء، و كيف يفنى جنّة لا تبيد و نار لا تخمد؟ و لكن قل: إنّما نتحوّل من دار إلى دار.

و في المجمع، و جاء في الحديث عن البراء عن عازب قال: لمّا نزلت هذه الآية( أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى‏ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سبحانك اللّهمّ و بلى: و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهم‌السلام .

أقول: و روي في الدرّ المنثور، عن أبي هريرة و غيره: أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قرأ الآية قال: سبحانك اللّهمّ و بلى‏، و كذا في العيون، عن الرضاعليه‌السلام : أنّه كان إذا قرأ السورة قال عند الفراغ سبحانك اللّهمّ بلى.

٢٠٦

( سورة الدهر مدنيّة و هي إحدى و ثلاثون آية)

( سورة الإنسان الآيات 1 - 22)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا ( 1 ) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ( 2 ) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ( 3 ) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ( 4 ) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ( 5 ) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ( 6 ) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ( 7 ) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ( 8 ) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ( 9 ) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ( 10 ) فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ( 11 ) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ( 12 ) مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ( 13 ) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا ( 14 ) وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا ( 15 ) قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ( 16 ) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا ( 17 ) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلًا ( 18 ) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا ( 19 ) وَإِذَا

٢٠٧

رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ( 20 ) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ( 21 ) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا ( 22 )

( بيان‏)

تذكر السورة خلق الإنسان بعد ما لم يكن شيئاً مذكوراً ثمّ هدايته السبيل إمّا شاكراً و إمّا كفوراً و أنّ الله اعتد للكافرين أنواع العذاب و للأبرار ألوان النعم - و قد فصّل القول في وصف نعيمهم في ثمان عشرة آية و هو الدليل على أنّه المقصود بالبيان -.

ثمّ تذكر مخاطباً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ القرآن تنزيل منه تعالى عليه و تذكرة فليصبر لحكم ربّه و لا يتّبع الناس في أهوائهم و ليذكر اسم ربّه بكرة و عشيّاً و ليسجد له من الليل و ليسبّحه ليلاً طويلاً.

و السورة مدنيّة بتمامها أو صدرها - و هي اثنتان و عشرون آية من أوّلها - مدنيّ، و ذيلها - و هي تسع آيات من آخرها - مكّيّ و قد أطبقت روايات أهل البيتعليهم‌السلام على كونها مدنيّة، و استفاضت بذلك روايات أهل السنّة.

و قيل بكونها مكّيّة بتمامها، و سيوافيك تفصيل القول في ذلك في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) الاستفهام للتقرير فيفيد ثبوت معنى الجملة و تحقّقه أي قد أتى على الإنسان إلخ و لعلّ هذا مراد من قال من قدماء المفسّرين: إنّ( هَلْ ) في الآية بمعنى قد، لا على أنّ ذلك أحد معاني( هل ) كما ذكره بعضهم.

و المراد بالإنسان الجنس: و أمّا قول بعضهم: إنّ المراد به آدمعليه‌السلام فلا

٢٠٨

يلائمه قوله في الآية التالية:( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ ) .

و الحين قطعة من الزمان محدودة قصيرة كانت أو طويلة، و الدهر الزمان الممتدّ من دون تحديد ببداية أو نهاية.

و قوله:( شَيْئاً مَذْكُوراً ) أي شيئاً يذكر باسمه في المذكورات أي كان يذكر مثلاً الأرض و السماء و البرّ و البحر و غير ذلك و لا يذكر الإنسان لأنّه لم يوجد بعد حتّى وجد فقيل: الإنسان فكونه مذكوراً كناية عن كونه موجوداً بالفعل فالنفي في قوله:( لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) متوجّه إلى كونه شيئاً مذكوراً لا إلى أصل كونه شيئاً فقد كان شيئاً و لم يكن شيئاً مذكوراً و يؤيّده قوله:( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ ) إلخ فقد كان موجوداً بمادّته و لم يتكوّن بعد إنساناً بالفعل و الآية و ما يتلوها من الآيات واقعة في سياق الاحتجاج يبيّن بها أنّ الإنسان حادث يحتاج في وجوده إلى صانع يصنعه و خالق يخلقه، و قد خلقه ربّه و جهّزه التدبير الربوبيّ بأدوات الشعور من السمع و البصر يهتدي بها إلى السبيل الحقّ الّذي من الواجب أن يسلكه مدى حياته فإن كفر فمصيره إلى عذاب أليم و إن شكر فإلى نعيم مقيم.

و المعنى هل أتى - قد أتى - على الإنسان قطعة محدودة من هذا الزمان الممتدّ غير المحدود و الحال أنّه لم يكن موجوداً بالفعل مذكوراً في عداد المذكورات.

قوله تعالى: ( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) النطفة في الأصل بمعنى الماء القليل غلب استعماله في ماء الذكور من الحيوان الّذي يتكوّن منه مثله، و أمشاج جمع مشيج أو المشج بفتحتين أو بفتح فكسر بمعنى المختلط الممتزج، و وصفت بها النطفة باعتبار أجزائها المختلفة أو اختلاط ماء الذكور و الإناث.

و الابتلاء نقل الشي‏ء من حال إلى حال و من طور إلى طور كابتلاء الذهب في البوتقة، و ابتلاؤه تعالى الإنسان في خلقه من النطفة هو ما ذكره في مواضع من كلامه أنّه يخلق النطفة فيجعلها علقة و العلقة مضغة إلى آخر الأطوار الّتي تتعاقبها حتّى ينشئه خلقاً آخر.

٢٠٩

و قيل: المراد بابتلائه امتحانه بالتكليف، و يدفعه تفريع قوله:( فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) على الابتلاء و لو كان المراد به التكليف كان من الواجب تفريعه على جعله سميعاً بصيراً لا بالعكس، و الجواب عنه بأنّ في الكلام تقديماً و تأخيراً و التقدير إنّا خلقناه من نطفة أمشاج فجعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه، لا يصغي إليه.

و قوله:( فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) سياق الآيات و خاصّة قوله:( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ) إلخ يفيد أنّ ذكر جعله سميعاً بصيراً للتوسّل به في التدبير الربوبيّ إلى غايته و هي أن يرى آيات الله الدالّة على المبدإ و المعاد و يسمع كلمة الحقّ الّتي تأتيه من جانب ربّه بإرسال الرسل و إنزال الكتب فيدعوه البصر و السمع إلى سلوك سبيل الحقّ و السير في مسير الحياة بالإيمان و العمل الصالح فإن لزم السبيل الّذي هدي إليه أداه إلى نعيم الأبد و إلّا فإلى عذاب مخلّد.

و ذكر الإنسان في الآية من وضع الظاهر موضع الضمير و النكتة فيه تسجيل أنّه تعالى هو خالقه و مدبّر أمره.

و المعنى: إنّا خلقنا الإنسان من نطفة هي أجزاء مختلطة ممتزجة و الحال أنّا ننقله من حال إلى حال و من طور إلى طور فجعلناه سميعاً بصيراً ليسمع ما يأتيه من الدعوة الإلهيّة، و يبصر الآيات الإلهيّة الدالّة على وحدانيّته تعالى و النبوّة و المعاد.

قوله تعالى: ( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) الهداية بمعنى إراءة الطريق دون الإيصال إلى المطلوب و المراد بالسبيل السبيل بحقيقة معنى الكلمة و هو المؤدّي إلى الغاية المطلوبة و هو سبيل الحقّ.

و الشكر استعمال النعمة بإظهار كونها من منعمها و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( وَ سَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) آل عمران: 144 أنّ حقيقة كون العبد شاكراً لله كونه مخلصاً لربّه، و الكفران استعمالها مع ستر كونها من المنعم.

و قوله:( إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) حالان من ضمير( هَدَيْناهُ ) لا من( السَّبِيلَ ) كما قاله بعضهم، و( إِمَّا ) يفيد التقسيم و التنويع أي إنّا هديناه السبيل حال كونه

٢١٠

منقسماً إلى الشاكر و الكفور أي إنّه مهديّ سواء كان كذا أو كذلك.

و التعبير بقوله:( إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) هو الدليل أوّلاً: على أنّ المراد بالسبيل السنّة و الطريقة الّتي يجب على الإنسان أن يسلكها في حياته الدنيا لتوصله إلى سعادته في الدنيا و الآخرة و تسوقه إلى كرامة القرب و الزلفى من ربّه و محصّله الدين الحقّ و هو عندالله الإسلام.

و به يظهر أنّ تفسير بعضهم السبيل بسبيل الخروج من الرحم غير سديد.

و ثانياً: أنّ السبيل المهديّ إليه سبيل اختياريّ و أنّ الشكر و الكفر اللّذين يترتّبان على الهداية المذكورة واقعان في مستقرّ الاختيار للإنسان أن يتلبّس بأيّهما شاء من غير إكراه و إجبار كما قال تعالى:( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) عبس: 20، و ما في آخر السورة من قوله تعالى:( فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) إنّما يفيد تعلّق مشيّته تعالى بمشيّة العبد لا بفعل العبد الّذي تعلّقت به مشيّة العبد حتّى يفيد نفي تأثير مشيّة العبد المتعلّقة بفعله، و قد تقدّمت الإشارة إلى هذا المعنى في هذا الكتاب مراراً.

و الهداية الّتي هي نوع إيذان و إعلام منه تعالى للإنسان هداية فطريّة هي تنبيه بسبب نوع خلقته و ما جهّز به وجوده بإلهام من الله سبحانه على حقّ الاعتقاد و صالح العمل قال تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) الشمس: 8 و أوسع مدلولاً منه قوله تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم: 30.

و هداية قوليّة من طريق الدعوة يبعث الأنبياء و إرسال الرسل و إنزال الكتب و تشريع الشرائع الإلهيّة، و لم يزل التدبير الربوبيّ تدعم الحياة الإنسانيّة بالدعوة الدينيّة القائم بها أنبياؤه و رسله، و يؤيّد بذلك دعوة الفطرة كما قال:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ - إلى أن قال -رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) النساء: 165.

٢١١

و من الفرق بين الهدايتين أنّ الهداية الفطريّة عامّة بالغة لا يستثني منها إنسان لأنها لازم الخلقة الإنسانيّة و هي في الأفراد بالسويّة غير أنّها ربّما تضعف أو يلغو أثرها لعوامل و أسباب تشغل الإنسان و تصرفه عن التوجّه إلى ما يدعو إليه عقله و يهديه إليه فطرته أو ملكات و أحوال رديئة سيّئة تمنعه عن إجابة نداء الفطرة كالعناد و اللجاج و ما يشبه ذلك قال تعالى:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى‏ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى‏ بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ ) الجاثية: 23، و الهداية المنفيّة في الآية بمعنى الإيصال إلى المطلوب دون إراءة الطريق بدليل قوله:( وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) .

و أمّا الهداية القوليّة و هي التي تتضمّنها الدعوة الدينيّة فإنّ من شأنها أن تبلغ المجتمع فتكون في معرض من عقول الجماعة فيرجع إليها من آثر الحقّ على الباطل و أمّا بلوغها لكلّ واحد واحد منهم فإنّ العلل و الأسباب الّتي يتوسّل بها إلى بيان أمثال هذه المقاصد ربّما لا تساعد على ذلك على ما في الظروف و الأزمنة و البيئات من الاختلاف و كيف يمكن لإنسان أن يدعو كلّ إنسان إلى ما يريد بنفسه أو بوسائط من نوعه؟ فمن المتعذّر ذلك جدّاً.

و إلى المعنى الأوّل أشار تعالى بقوله:( وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ ) فاطر: 24، و إلى الثاني بقوله:( لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ ) يس: 6.

فمن بلغته الدعوة و انكشف له الحقّ فقد تمّت عليه الحجّة و من لم تبلغه الدعوة بلوغاً ينكشف به له الحقّ فقد أدركه الفضل الإلهيّ بعدّه مستضعفاً أمره إلى الله إن يشأ يغفر له و إن يشأ يعذّبه قال تعالى:( إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ) النساء: 98.

ثمّ من الدليل على أنّ الدعوة الإلهيّة و هي الهداية إلى السبيل حقّ يجب على الإنسان أن يتّبعها فطرة الإنسان و خلقته المجهّزة بما يهدي إليها من الاعتقاد و العمل، و وقوع الدعوة خارجاً من طريق النبوّة و الرسالة فإنّ سعادة كلّ موجود و كماله في الآثار و الأعمال الّتي تناسب ذاته و تلائمها بما جهّزت به من القوى

٢١٢

و الأدوات فسعادة الإنسان و كماله في اتّباع الدين الإلهيّ الّذي هو سنّة الحياة الفطرية و قد حكم به العقل و جاءت به الأنبياء و الرسل عليهم السلام.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَ أَغْلالًا وَ سَعِيراً ) الاعتاد التهيئة، و سلاسل جمع سلسلة و هي القيد الّذي يقاد به المجرم، و أغلال جمع غلّ بالضمّ قيل هي القيد الّذي يجمع اليدين على العنق، و قال الراغب: فالغلّ مختصّ بما يقيّد به فيجعل الأعضاء وسطه. انتهى. و السعير النار المشتعلة، و المعنى ظاهر.

و الآية تشير إلى تبعة الإنسان الكفور المذكور في قوله:( إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) و قدّم بيان تبعته على بيان جزاء الإنسان الشاكر لاختصار الكلام فيه.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً ) الكأس إناء الشراب إذا كان فيه شراب، و المزاج ما يمزج به كالحزام لما يحزم به، و الكافور معروف يضرب به المثل في البرودة و طيب الرائحة، و قيل: هو اسم عين في الجنّة.

و الأبرار جمع برّ بفتح الباء صفة مشبهة من البرّ و هو الإحسان و يتحصّل معناه في أن يحسن الإنسان في عمله من غير أن يريد به نفعاً يرجع إليه من جزاء أو شكور فهو يريد الخير لأنّه خير لا لأنّ فيه نفعاً يرجع إلى نفسه و إن كرهت نفسه ذلك فيصبر على مرّ مخالفة نفسه فيما يريده و يعمل العمل لأنّه خير في نفسه كالوفاء بالنذر أو لأنّ فيه خيراً لغيره كإطعام الطعام للمستحقّين من عباد الله.

و إذ لا خير في عمل و لا صلاح إلّا بالإيمان بالله و رسوله و اليوم الآخر كما قال تعالى:( أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ ) الأحزاب: 19 إلى غير ذلك من الآيات.

فالأبرار مؤمنون بالله و رسوله و اليوم الآخر، و إذ كان إيمانهم إيمان رشد و بصيرة فهم يرون أنفسهم عبيداً مملوكين لربّهم، له خلقهم و أمرهم، لا يملكون لأنفسهم نفعاً و لا ضرّاً عليهم أن لا يريدوا إلّا ما أراده ربّهم و لا يفعلوا إلّا ما يرتضيه فقدّموا إرادته على إرادة أنفسهم و عملوا له فصبروا على مخالفة أنفسهم فيما تهواه

٢١٣

و تحبّه و كلفة الطاعة، و عملوا ما عملوه لوجه الله، فأخلصوا العبوديّة في مرحلة العمل لله سبحانه.

و هذه الصفات هي الّتي عرّف سبحانه الأبرار بها كما يستفاد من قوله:( يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ ) و قوله:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) و قوله:( وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا ) و هي المستفادة من قوله في صفتهم:( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ ) الخ البقرة: 177 و قد مرّ بعض الكلام في معنى البرّ في تفسير الآية و سيأتي بعضه في قوله:( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ) المطفّفين: 18.

و الآية أعني قوله:( إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ ) إلخ بما يتبادر من معناها من حيث مقابلتها لقوله:( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ ) إلخ المبيّن لحال الكافرين في الآخرة، تبيّن حال الأبرار في الآخرة في الجنّة، و أنّهم يشربون من شراب ممزوج بالكافور بارداً طيّب الرائحة.

قوله تعالى:: ( عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ) ( عَيْناً ) منصوب بنزع الخافض و التقدير من عين أو بالاختصاص و التقدير أخصّ عينا، و الشرب - على ما قيل - يتعدّى بنفسه و بالباء فشرب بها و شربها واحد، و التعبير عنهم بعباد الله للإشارة إلى تحلّيهم بحلية العبوديّة و قيامهم بلوازمها على ما يفيده سياق المدح.

و تفجير العين شقّ الأرض لإجرائها، و ينبغي أن يحمل تفجيرهم العين على إرادتهم جريانها لأنّ نعم الجنّة لا تحتاج في تحقّقها و التنعّم بها إلى أزيد من مشيّة أهلها قال تعالى:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها ) ق: 35.

و الآيتان - كما تقدّمت الإشارة إليه - تصفان تنعّم الأبرار بشراب الجنّة في الآخرة، و بذلك فسّرت الآيتان.

و لا يبعد أن تكون الآيتان مسوقتين على مسلك تجسّم الأعمال تصفان حقيقة عملهم الصالح من الإيفاء بالنذر و إطعام الطعام لوجه الله، و أنّ أعمالهم المذكورة بحسب باطنها شرب من كأس مزاجها كافور من عين لا يزالون يفجّرونها بأعمالهم الصالحة

٢١٤

و ستظهر لهم بحقيقتها في جنّة الخلد و إن كانت في الدنيا في صورة الأعمال فتكون الآيتان في مجرى أمثال قوله تعالى:( إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) يس: 8.

و يؤيّد ذلك ظاهر قوله( يَشْرَبُونَ ) و( يَشْرَبُ بِها ) و لم يقل: سيشربون و سيشرب بها، و وقوع قوله: يشربون و يوفون و يخافون و يطعمون متعاقبة في سياق واحد، و ذكر التفجير في قوله:( يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ) الظاهر في استخراج العين و إجرائها بالتوسّل بالأسباب.

و لهم في مفردات الآيتين و إعرابها أقاويل كثيرة مختلفة مذكورة في المطولات فليراجعها من أراد الوقوف عليها.

قوله تعالى: ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) المستطير اسم فاعل من استطار إذا فشا و انتشر في الأقطار غاية الانتشار و هو أبلغ من طار كما قيل: يقال: استطار الحريق و استطار الفجر إذا اتّسعا غايته، و المراد باستطارة شرّ اليوم و هو يوم القيامة بلوغ شدائده و أهواله و ما فيه من العذاب غايته.

و المراد بالإيفاء بالنذر ما هو ظاهره المعروف من معناه، و قول القائل: إنّ المراد به ما عقدوا عليه قلوبهم من العمل بالواجبات أو ما عقدوا عليه القلوب من اتّباع الشارع في جميع ما شرّعه خلاف ظاهر اللفظ من غير دليل يدل عليه.

قوله تعالى: ( وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى‏ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً ) ضمير( عَلى‏ حُبِّهِ ) للطعام على ما هو الظاهر، و المراد بحبّه توقان النفس إليه لشدّة الحاجة، و يؤيّد هذا المعنى قوله تعالى:( لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) آل عمران: 92.

و قيل: الضمير لله سبحانه أي يطعمون الطعام حبّاً لله لا طمعاً في الثواب، و يدفعه أنّ قوله تعالى حكاية منهم:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) يغني عنه.

و يليه في الضعف ما قيل: إنّ الضمير للإطعام المفهوم من قوله:( وَ يُطْعِمُونَ )

٢١٥

وجه الضعف أنّه إن اُريد بحب الإطعام حقيقة معناه فليس في حبّ الإطعام في نفسه فضل حتّى يمدحوا به، و إن اُريد به كون الإطعام بطيب النفس و عدم التكلّف فهو خلاف الظاهر، و رجوع الضمير إلى الطعام هو الظاهر.

و المراد بالمسكين و اليتيم معلوم، و المراد بالأسير ما هو الظاهر منه و هو المأخوذ من أهل دار الحرب.

و قول بعضهم: إنّ المراد به اُسارى بدر أو الأسير من أهل القبلة في دار الحرب بأيدي الكفّار أو المحبوس أو المملوك من العبيد أو الزوجة كلّ ذلك تكلّف من غير دليل يدلّ عليه.

و الّذي يجب أن يتنبّه له أنّ سياق هذه الآيات سياق الاقتصاص تذكر قوماً من المؤمنين تسمّيهم الأبرار و تكشف عن بعض أعمالهم و هو الإيفاء بالنذر و إطعام مسكين و يتيم و أسير و تمدحهم و تعدهم الوعد الجميل.

فما تشير إليه من القصّة سبب النزول، و ليس سياقها سياق فرض موضوع و ذكر آثارها الجميلة، ثمّ الوعد الجميل عليها، ثمّ إنّ عدّ الأسير فيمن أطعمه هؤلاء الأبرار نعم الشاهد على كون الآيات مدنيّة فإنّ الأسر إنّما كان بعد هجرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ظهور الإسلام على الكفر و الشرك لا قبلها.

قوله تعالى: ( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً ) وجه الشي‏ء هو ما يستقبل به غيره، و وجهه تعالى صفاته الفعليّة الكريمة الّتي يفيض بها الخير على خلقه من الخلق و التدبير و الرزق و بالجملة الرحمة العامّة الّتي بها قيام كلّ شي‏ء، و معنى كون العمل لوجه الله على هذا كون الغاية في العمل هي الاستفاضة من رحمة الله و طلب مرضاته بالاقتصار على ذلك و الإعراض عمّا عند غيره من الجزاء المطلوب، و لذا ذيّلوا قولهم:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) بقولهم:( لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً ) .

و وراء ذلك صفاته الذاتيّة الكريمة الّتي هي المبدأ لصفاته الفعليّة و لما يترتّب

٢١٦

عليها من الخير في العالم، و مرجع كون العمل لوجه الله على هذا هو الإتيان بالعمل حبّاً لله لأنّه الجميل على الإطلاق، و إن شئت فقل: عبادته تعالى لأنّه أهل للعبادة.

و ابتغاء وجه الله بجعله غاية داعية في الأعمال مذكور في مواضع من كلامه تعالى كقوله:( وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) الكهف: 28، و قوله:( وَ ما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ ) البقرة: 272، و في هذا المعنى قوله:( وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) البيّنة: 5، و قوله:( فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) المؤمن: 65، و قوله:( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ) الزمر: 3.

و قوله:( لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً ) الجزاء مقابلة العمل بما يعادله إن خيراً فخيراً و إن شرّاً فشرّاً، و يعمّ الفعل و القول لكن المراد به في الآية بقرينة مقابلته الشكور مقابلة إطعامهم عملاً لا لساناً.

و الشكر و الشكور ذكر النعمة و إظهارها قلباً أو لساناً أو عملاً، و المراد به في الآية و قد قوبل بالجزاء الثناء الجميل لساناً.

و الآية أعني قوله:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) إلخ خطاب منهم لمن أطعموه من المسكين و اليتيم و الأسير إمّا بلسان المقال فهي حكاية قولهم أو بتقدير القول و كيف كان فقد أرادوا به تطييب قلوبهم أن يأمنوا المنّ و الأذى، و إمّا بلسان الحال و هو ثناء من الله عليهم لما يعلم من الإخلاص في قلوبهم.

قوله تعالى: ( إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ) عدّ اليوم و هو يوم القيامة عبوساً من الاستعارة، و المراد بعبوسه ظهوره على المجرمين بكمال شدّته، و القمطرير الصعب الشديد على ما قيل.

و الآية في مقام التعليل لقولهم المحكي:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) إلخ ينبّهون بقولهم هذا أنّ قصرهم العمل في ابتغاء وجه الله تعالى إخلاصاً للعبوديّة لمخافتهم ذاك اليوم

٢١٧

الشديد، و لم يكتفوا بنسبة المخافة إلى اليوم حتّى نسبوه نحواً من النسبة إلى ربّهم فقالوا:( نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً ) إلخ لأنّهم لمّا لم يريدوا إلّا وجه ربّهم فهم لا يخافون غيره كما لا يرجون غيره و إنّما يخافون و يرجون ربّهم فلا يخافون يوم القيامة إلّا لأنّه من ربّهم يحاسب فيه عباده على أعمالهم فيجزيهم بها.

و أمّا قوله قبلاً:( وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) حيث نسب خوفهم إلى اليوم فإنّ الواصف فيه هو الله سبحانه و قد نسب اليوم بشدائده إلى نفسه قبلاً حيث قال:( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ ) إلخ.

و بالجملة ما ذكروه من الخوف مخافة في مقام العمل لما يحاسب العبد على عمله فالعبوديّة لازمة للإنسان لا تفارقه و إن بلغ ما بلغ قال تعالى:( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) الغاشية: 26.

قوله تعالى: ( فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً ) الوقاية الحفظ و المنع من الأذى و لقّي بكذا يلقّيه أي استقبله به و النضرة البهجة و حسن اللون و السرور مقابل المساءة و الحزن.

و المعنى: فحفظهم الله و منع عنهم شرّ ذلك اليوم و استقبلهم بالنضرة و السرور، فهم ناضرة الوجوه مسرورون يومئذ كما قال:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ) القيامة: 22.

قوله تعالى: ( وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً ) المراد بالصبر صبرهم عند المصيبة و على الطاعة و عن المعصية فإنّهم ابتغوا في الدنيا وجه ربّهم و قدّموا إرادته على إرادتهم فصبروا على ما قضى به فيهم و أراده من المحن و مصائب الدنيا في حقّهم، و صبروا على امتثال ما أمرهم به و صبروا على ترك ما نهاهم عنه و إن كان مخالفاً لأهواء أنفسهم فبدّل الله ما لقوه من المشقّة و الكلفة نعمة و راحة.

قوله تعالى: ( مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً ) الأرائك جمع أريكة و هو ما يتّكئ عليه، و الزمهرير البرد الشديد، و المعنى حال كونهم

٢١٨

متّكئين في الجنّة على الأرائك لا يرون فيها شمساً حتّى يتأذّوا بحرّها و لا زمهريراً حتّى يتأذّوا ببرده.

قوله تعالى: ( وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا ) الظلال جمع ظلّ، و دنوّ الظلال عليهم قربها منهم بحيث تنبسط عليهم فكانّ الدنوّ مضمّن معنى الانبساط و قطوف جمع قطف بالكسر فالسكون و هو الثمرة المقطوفة المجتناة، و تذليل القطوف لهم جعلها مسخّرة لهم يقطفونها كيف شاؤا من غير مانع أو كلفة.

قوله تعالى: ( وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا ) الآنية جمع إناء كأكسية جمع كساء و هو الوعاء، و أكواب جمع كوب و هو إناء الشراب الّذي لا عروة له و لا خرطوم و المراد طواف الولدان المخلّدين عليهم بالآنية و أكواب الشراب كما سيأتي في قوله:( وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ ) الآية.

قوله تعالى: ( قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً ) بدل من قوارير في الآية السابقة، و كون القوارير من فضّة مبنيّ على التشبيه البليغ أي إنّها في صفاء الفضّة و إن لم تكن منها حقيقة، كذا قيل. و احتمل أن يكون بحذف مضاف و التقدير من صفاء الفضّة.

و ضمير الفاعل في( قَدَّرُوها) للأبرار و المراد بتقديرهم الآنية و الأكواب كونها على ما شاؤا من القدر ترويهم بحيث لا تزيد و لا تنقص كما قال تعالى:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها ) ق: 35 و قد قال تعالى قبل:( يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ) .

و يحتمل رجوع الضمير إلى الطائفين المفهوم من قوله:( يُطافُ عَلَيْهِمْ ) و المراد بتقديرهم الآنية و الأكواب إتيانهم بها على قدر ما أرادوا محتوية على ما اشتهوا قدر ما اشتهوا.

قوله تعالى: ( وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا ) قيل: إنّهم كانوا يستطيبون الزنجبيل في الشراب فوعد الأبرار بذلك و زنجبيل الجنّة أطيب و ألذّ.

قوله تعالى: ( عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا ) أي من عين أو التقدير أعني أو أخصّ

٢١٩

عينا.

قال الراغب: و قوله:( سَلْسَبِيلًا ) أي سهلاً لذيذاً سلساً حديد الجرية.

قوله تعالى: ( وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً ) أي ولدان دائمون على ما هم عليه من الطراوة و البهاء و صباحة المنظر، و قيل: أي مقرّطون بخلدة و هي ضرب من القرط.

و المراد بحسبانهم لؤلؤاً منثوراً أنّهم في صفاء ألوانهم و إشراق وجوههم و انعكاس أشعّة بعضهم على بعض و انبثاثهم في مجالسهم كاللؤلؤ المنثور.

قوله تعالى: ( وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً ) ( ثَمَّ ) ظرف مكان ممحّض في الظرفيّة، و لذا قيل: إنّ معنى( رَأَيْتَ ) الأوّل: رميت ببصرك، و المعنى و إذا رميت ببصرك ثمّ يعني الجنّة رأيت نعيماً لا يوصف و ملكاً كبيراً لا يقدّر قدره.

و قيل:( ثَمَّ ) صلة محذوفة الموصول و التقدير و إذا رأيت ما ثمّ من النعيم و الملك، و هو كقوله:( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ) الأنعام: 94 و الكوفيّون من النحاة يجوّزون حذف الموصول و إبقاء الصلة و إن منعه البصريّون منهم.

قوله تعالى: ( عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ ) إلخ الظاهر أنّ( عالِيَهُمْ ) حال من الأبرار الراجعة إليه الضمائر و( ثِيابُ ) فاعله، و السندس - كما قيل - ما رقّ نسجه من الحرير، و الخضر صفة ثياب و الإستبرق ما غلظ نسجه من ثياب الحرير، و هو معرّب كالسندس.

و قوله:( وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ ) التحلية التزيين، و أساور جمع سوار و هو معروف، و قال الراغب: هو معرّب دستواره.

و قوله:( وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً ) أي بالغاً في التطهير لا تدع قذارة إلّا أزالها و من القذارة قذارة الغفلة عن الله سبحانه و الاحتجاب عن التوجّه إليه فهم غير محجوبين عن ربّهم و لذا كان لهم أن يحمدوا ربّهم كما قال:( وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) يونس: 10 و قد تقدّم في تفسير سورة الحمد أنّ الحمد وصف لا يصلح له إلّا المخلصون من عباد الله تعالى لقوله:( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات: 160.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592