الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 150468 / تحميل: 5516
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

٦١

بعد معرفة أنّ الأصل الأوّلي ومقتضى القاعدة الأوّليّة، هو أنّ الشارع إذا أوردً عنواناً معيّناً في دليلٍ من الأدلّة فإنّه يجب أن يبقى على معناه اللغوي.

أي أنّ كلّ دليل وردَ من الشارع يبقى على معناه اللغوي ما لم ينقله الشارع إلى الحقيقة الشرعيّة، هذا من جهة.

ومن جهةٍ أخرى، هناك أمر آخر يضيفه الأصوليّون، وهو تحقّق هذا العنوان وحصوله في الخارج.

فنحن تارة نتكلّم في مرحلة التأطير والتنظير، وفي أفق الذهن، أو في أفق اللوح باعتباره القانون، فحينئذٍ يبقى المعنى على حاله.

وتارةً نتكلّم عن مرحلة أخرى هي غير التنظير القانوني، بل هي مرحلة التطبيق في الخارج والوجود في الخارج، في هذه المرحلة أيضاً، فما لم يعبّدنا الشارع ويتصرّف في الوجود الخارجيّ لأيّ عنوان، فالأصل الأوّلي هو أن يكون وجوده ومجاله أيضاً عرفيّاً، سواء كان له وجودٌ تكويني، أو كان له وجود اعتباري لدى العرف، إلاّ أن يجعل الشارع له وجوداً خاصّاً بأن ينصب دليلاً على ذلك.

٦٢

أمثلةٌ على تحديد الوجود الخارجي للموضوع من الشارع المقدّس

مثال 1: في تحقّق الطلاق، لو قال الزوج: طلّقتُ امرأتي، أو أطلّقُكِ، أو سأُطلّقك، فكلّ هذه الصيغ لا يمضيها الشارع ولا يقرّها، وهي غير محقّقة، ولا موجّدة للطلاق، وإن كانت في العرف موجدةً له، لكن عند الشارع لا أثر لها، إلاّ أن يقول: أنتِ طالق، بلفظ اسم الفاعل المراد منه اسم المفعول.

هنا الشارع وإن لم يتصرّف في ماهيّة الطلاق ولم يتصرّف في عنوانه، بل أبقاه على معناه اللغوي، لكنّه تصرّف في كيفيّة وجوده وحصوله في الخارج.

مثال 2: الحلف لا يكون حلفاً شرعيّاً بالله، والنذر لا يكون نذراً لله إلاّ أن تأتي به بالصيغة الخاصّة، فهذا تصرّف في كيفيّة الوجود، فإن دلّ الدليل على كيفيّة تصرّف خاصّة من الشارع وفي كيفيّة الوجود، فلا يتحقّق ذلك الأمر إلاّ بها.

أمّا إذا لم يقم الدليل من الشارع على ذلك، فمقتضى القاعدة الأوّليّة أنّ وجوده يكون وجوداً عرفيّاً - تكوينيّاً كان أو اعتباريّاً - ما لم يرد دليل من الشارع لتحديد وجوده وحصوله في الخارج.

نرجع إلى محلّ البحث، لو لم يكن دليل إلاّ عموم آية( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) .

وعموم آية:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) ، وقلنا: إنّ المعنى يبقى على حاله، حيث إنّ الشارع لم يتصرّف في معناه

٦٣

اللغوي الذي هو ما يقال عنه مرحلة تقنين القانون، ولم يتصرّف أيضاً في مرحلة التطبيق الخارجي من جهة خارجيّة، فما يتّفق عليه العرف بحيث يصبح تبياناً وإضاءةً لمعنى من المعاني الدينيّة، يصبح شعيرةً وشعاراً.

ويجدر التنبيه هنا على أنّ وجودات الأشياء على قسمين:

الوجودُ التكويني والوجود الاعتباري للأشياء

القسم الأوّل: هو الوجود التكويني مثل: وجود الماء، الحجر، الشجر، الإنسان، الحيوان.

القسم الثاني: وجود غير تكويني، بل هو اعتباري - أي فرضي، ولو من العرف - مثل: البيع، فالبائع والمشتري يتّفقان على البيع بخصوصيّاته، فيتقيّدان بألفاظ الإيجاب والقبول فيها، فحينئذٍ: هذا البيع، أو الإجارة، أو الوصيّة، أو المعاملة ليس لها وجود حسّي خارجيّ؛ وإنّما وجودها بكيفيّات اعتباريّة فرضيّة في عالَم فرضي يُمثّل القانون، سواء قانون الوضع البشري، أو حتّى قانون الوضع الشرعي عند الفقهاء، إذ يحملون هذا على الاعتبار الفرضي، فهو عالَم اعتبار لمَا يتّخذه العقلاء من فرضيّات.

العقلاء يفترضون عالَماً فرضيّاً معيّناً، لوحة خاصّة بالعقلاء، لوحة القانون العقلائي.

فوجودات الأشياء على أنحاء: تارةً نَسق الوجود التكويني، وتارة نَسق الوجود الاعتباري، وإن كانت اعتبارات الشارع، وتقنينات الشارع، وفرضيّات الشارع وقوانينه، يُطلق عليها أيضاً اعتبار شرعي، ولكن من الشارع.

٦٤

خلاصةُ القول

إنّ كلّ عنوان أُخذ في دليلٍ - كالبيع، أو الهبة، أو الوصيّة، أو الشعائر، أو الطلاق، أو الزوجيّة - إذا أُبقيَ على معناه اللغوي، وأيضاً أُبقي على ما هو عليه من الوجود عند العرف فبها، غاية الأمر أنّ الوجود عند العرف ليس وجوداً تكوينيّاً، بل وجودٌ طارئ اعتباري في لوحة تقنيناتهم وفي لوحة اعتبارهم، مثلاً: حينما يقول الشارع في الآية الكريمة:( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) ليس معناه: أنّ البيع الذي هو بيع عند الشارع قد أحلّه الله ؛ لأنّ ذلك يكون تحصيل الحاصل، لأنّ البيع الذي عند الشارع هو حلال من أساسه، بل المقصود من:( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) ، وكذلك:( أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ) (2) المراد أنّ البيع والعقود التي تكون متداولة في أُفق اعتباركم أنتم أيها العقلاء قد أوجبتُ - أنا الشارع - الوفاء بها، وقد أحللتُها لكم، فإذاً قد أبقاها الشارع على ما هي عليه من وجود ومعنىً لغوي عند العقلاء والعرف.

وقد يتصرّف الشارع في بعض الموارد - كما بينّا في الطلاق - حيث يقيّدها بوجود خاص.

فحينئذٍ، يتبيّن أنّ الأشياء قد يبقيها الشارع على معناها اللغوي، ويبقي وجودها في المقام الآخر على ما هي عليه من وجود إمّا تكويني أو

____________________

(1) البقرة: 275.

(2) المائدة: 1.

٦٥

اعتباري.

ومن جهةٍ أخرى، فإنّ العلامة أو (الدال) إمّا عقليّة أو طبعيّة، أو وضعية..

فهل الشعائر أو الشعيرة هي علامة تكوينيّة، أم عقليّة، أم طبعيّة، أم هي وضعيّة؟

الشعيرةُ علامة وضعيّة

نرى أنّ الشعيرة والشعار هي علامة وضعيّة وليست عقليّة ولا طبعيّة، وهنا مفترق خطير في تحليل الماهيّة؛ للتصدّي للكثير من الإشكالات أو النظريّات التي تُقال في قاعدة الشعائر.

نقول: إنّ الشعيرة هي علامة وضعيّة، بمعنى أنّ لها نوعاً من الاقتران والربط والعلقة الاعتباريّة، فالوضع هو اعتباري وفرضي بين الشيئين.

والأمر كذلك في الأمور الدينيّة أيضاً، مثلاً كان شعار المسلمين في بدر: (يا منصور أمِت)(1) ، حيث يستحب في باب الجهاد أن يضع قائد جيش المسلمين علامة وشعاراً معيّناً للجيش.

الشعائر أو الشعارة: هي ربط اعتباري ووضع جعلي فطبيعتها عند العرف هو الاعتبار، حتّى شعار الدولة، وشعار المؤسّسات، وشعار الأندية، والوزارات..

والشركات التجارية، والفِرق الرياضيّة، لكنّ كلّ ذلك أمر اعتباري..

____________________

(1) المنصور من أسماء الله سبحانه، أمِت: يعني أمِت الكافرين.

٦٦

فهو علامة حسّيّة دالّة على معنى معيّن، لكنّ الوضع والعلقة فيه اعتباريّة.

فلابدّ من الالتفات إلى تحليلٍ أعمق لماهيّة الشعائر والشعيرة، فماهيّة الشعار والشعيرة علامة حسّيّة لمعنى من المعاني الدينيّة، ولكنّ هذه العلامة ليست تكوينيّة، ولا عقليّة، ولا طبعيّة، وإنّما هي علامة وضعيّة.

فالشعائر هي التي تفيد الإعلام، وكلّ ما يُعلِم على معنى من المعاني الدينيّة، أو يدلّ على شيء له نسبة إلى الله عزّ وجل، فإنّ هذا الإعلام والربط بين الـمَعلم والـمُعلم به، وهذا الربط هو في الماهيّة وضعي اعتباري.

فالموضوع يتحقّق بالعُلقة، والوضع الاعتباري.

وإذا كان تحقّق ماهيّة الشعائر والشعيرة بالعُلقة الوضعيّة الاعتباريّة، وافتراضنا أنّ الشارع لم يتصرّف في كيفيّة الوجود، بمعنى أنّ المتشرّعة إذا اختاروا واتّخذوا سلوكاً ما علامة لمعنى ديني معيّن، فبالتالي يكون ذلك السلوك من مصاديق الشعائر.

وكما قلنا: إنّ ماهيّة الشعائر تتجسّد في كلّ ما يوجب الإعلام والدلالة فيها وضعيّة، والواضع ليس هو الشارع ؛ لأنّه لم يتصرّف بالموضوع، فبذلك يكون الوضع قد أُجيز للعرف والعقلاء.

كما ذكرنا في البيع أنّ له ماهيّة معيّنة، وكيفيّة خاصّة حسب ما يقرِّره العقلاء، وكيفيّة وجوده اعتباريّة، وذَكرنا أنّ الشارع إن لم يتصرّف في الماهيّة والمعنى في الدليل الشرعي، ولم يتصرّف في كيفيّة الوجود، فالماهيّة تبقى على حالها عند العقلاء، بخلاف الطلاق الذي تصرّف الشارع في كيفيّة وجوده في الخارج.

٦٧

الشعائرُ ومناسك الحج

وممّا تقدّم: تبيّن خطأ عدّ مناسك الحجّ - بما هي مناسك - شعائر.

حيث إنّ الشعائر صفة عارضة لها، وليست الشعائر هي عين مناسك الحجّ كما فسّرها بعض اللغويّين.

بيان ذلك: حينما نقول مثلاً: (الإنسانُ أبيض)، هل يعني أنّ الماهيّة النوعيّة للإنسان هي البياض، كلاّ، أو حين نقول: (الإنسان قائم)، فهل يعني أنّ الماهيّة النوعيّة للإنسان هي القيام، كلاّ، إذ القيام والبياض أو السمرة أو السواد ليست ماهيّةً للإنسان، وإنّما هذه عوارض قد تعرض على الماهيّة وقد تزول عنها.

إنّ كُنه الإنسان وماهيّته بشيء آخر، لا بهذه العوارض، وكذلك مناسك الحجّ، إذ ليست ماهيّة المنسك هي الشعار، بل الشِعار هو ما يكمُن وينطوي فيه جنبة الإعلام والعلانيّة لشيء من الأشياء.

مثال آخر: لفظة (زيد) كنهها ليس أنّها سِمة لهذا الإنسان، كُنهها: هو صوت متموّج يتركّب من حروف معيّنة، نعم، من عوارضها الطارئة عليها أنّها سِمة واسم وعلامة لهذا الإنسان، وهذا من عوارضها الاعتباريّة لا الحقيقيّة، حيث إنّها علامة على ذلك الجسم.

إذاً جنبة العلاميّة لون عارض على أعمال الحج، أو على العبادات، أو على الموارد الأخرى، لا أنّها عين كنه أعمال الحج، وليس كون الشعائر هي نفس العباديّة، ولا كون العباديّة هي الشعائر.

أمّا كيف يسمح الشارع في أن يتصرّف العرف بوضع الشعائر أو غير ذلك، فهذا ما سنقف عليه لاحقاً إن شاء الله تعالى.

٦٨

الترخيصُ في جَعل الشعائر بيد العُرف

إنّ الشارع حينما لا يتصرّف في معنى معيّن، ولا في وجوده في الخارج، فهل يعني هذا تسويغاً من الشارع في أن يتّخذ العرف والعقلاء ما شاءوا من علامة لمعاني الدين وبشكلٍ مطلق؟ أم هناك حدود وقيود، وما الدليل على ذلك؟

هل اتّخاذ المسلمين لهذه المعالِم الحسّيّة مَعلماً وشعاراً، سواء كانت مَعالم جغرافيّة: كموقع بدر، وغدير خمّ، أو مَعلماً زمنيّاً: كمولد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهجرته، وتواريخ الوقائع المهمّة، أو مَعلماً آخر غير زماني ولا مكاني، كأن يكون ممارسةً فعليّة، هل هذا فيه ترخيص من الشارع أم لا؟

للإجابة على هذا السؤال المهمّ لابدّ من تحرير النقاط التالية:

النقطة الأولى: وهذه هي جهة الموضوع في قاعدة الشعائر الدينيّة، وهي: أنّ العناوين التي ترد في لسان الشارع إذا لم يرد دليل آخر يدلّ على نقلها من الوضع اللغوي إلى الوضع الجديد والمعنى الجديد، فهي تبقى على حالها، وعلى معانيها الأوّليّة اللغويّة.

النقطة الثانية: أنّ تحقّق تلك الموضوعات وكيفيّة وجودها في الخارج، إن كان الشارع صرّح وتصرّف بها فنأخذ بذلك، وإلاّ فإنّها ينبغي أن تبقى على كيفيّة وجودها العرفي أو التكويني.

النقطة الثالثة: أنّ وجودات الأشياء على نسقَين:

( أ ) بعض الوجودات وجودات تكوينيّة.

٦٩

(ب) وبعض الوجودات وجودات اعتباريّة.

وقد أشرنا سابقاً لذلك، ولكن لزيادة التوضيح نقول: إنّ عناوين أغلب المعاملات وجودها اعتباري: كالبيع، والإجارة، والهبة، والوصيّة، والطلاق، والنكاح وما شابه ذلك، كلّ هذه العناوين كانت وجودات لدى العرف والعقلاء( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) ،( أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ... ) وغيرها من العناوين.

فآية:( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) لسانٌ شرعي وقضيّة شرعيّة تتضمّن حكماً شرعيّاً وهو الحلّيّة، بمعنى حلّيّة البيع وصحّته وجوازه، ولم يتصرّف الشارع بماهيّة البيع، ولا بكيفيّة وجوده، إلاّ ما استُثني(1) ، فكيفيّة وجوده عند العرف والعقلاء تكون معتبرة، فما يصدق عليه وما يسمّى وما يطلق عليه (بيع) في عرف العقلاء جُعل موضوعاً لقضيّة شرعيّة، وهي حلّيّة ذلك البيع، وإلاّ فإنّ هذا الدليل( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) ليس المقصود منه البيع الشرعي، إذ البيع الشرعيّ أحلّه الله، ولو كان البيع المراد في هذا اللسان هو البيع الشرعي، لمَا كان هناك معنىً لحلّيّته؛ لأنّه سوف يكون تحصيلاً للحاصل، البيع الشرعي إذا كان شرعيّاً فهو حلال بذاته، فكيف يُرتّب عليه الشارع حكماً زائداً وهو الحلّيّة.

فلسان الأدلّة الشرعيّة - والتي وردت فيها عناوين معيّنة - إذا لم يتصرّف الشارع بها ولم يتعبّد بدلالة زائدة، تبقى على ما هي عليه من المعاني

____________________

(1) مثل: حُرمة وفساد بيع المكيل والموزون بجنسه مع التفاضل؛ لأنّه ربا، ومثل: بطلان بيع الكالئ بالكالئ وغيرها.

٧٠

الأوّليّة، وتبقى على ما هي عليه عند عُرف العقلاء.

حينئذٍ يأتي البيان المزبور في لفظة (الشعائر) الواردة في عموم الآيات:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (1) أو:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ.. ) (2) وقد مرّ بنا أنّ ماهيّة الشعيرة، أو الشعائر التي هي بمعنى العلامة إذا أُضيفت إلى الله عزّ وجل، أو أُضيفت إلى الدين الإسلامي، أو أُضيفت إلى باب من أبواب الشريعة، فإنّها تعني علامة ذلك الباب، أو علامة أمر الله، أو علامة أحكام الله وما شابه ذلك.

والعلامة - كما ذكرنا - ليست عين المنسك، وليست عين العبادة، وليست عين الأحكام الأخرى في الأبواب المختلفة؛ وإنّما العلامة أو الإعلام شيء طارئ زائد على هذه الأمور، كاللون الذي يكون عارضاً وطارئاً على الأشياء، فيكون طارئاً على العبادة، أو المنسك، أو الحُكم المعيّن.

فجنبة الإعلام والنشر في ذلك الحُكم، أو في تلك العبادة، أو ذلك المنسك، تتمثّل بالشعيرة والشعائر، وبهذا النحو أيضاً تُستعمل في شعائر الدولة أو شعائر المؤسّسة والوزارة - مثلاً - فهي ليست جزءاً من أجزاء الوزارة أو المؤسّسة مثلاً، وإنّما هي علامةٌ عليها.

فالنتيجة: أنّ الشعيرة والشعائر والشِعار تبقى على حالها دون تغيير في كلا الصعيدين: صعيد المعنى اللغوي، وصعيد كيفيّة الوجود في الخارج.

____________________

(1) المائدة: 2.

(2) الحجّ: 32.

(1) الحجّ: 36.

٧١

فإطلاق الشعائر على مناسك الحجّ ليس من جهة وجودها التكويني أو الطبعي، بل من جهة الجعل والاتّخاذ من الله عزّ وجل:( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) (1) يعني: باتّخاذ وضعي واعتباري أصبحت علامة ونبراساً للدين.

هذه الشعائر في مناسك الحج، جُعلت - بالوضع والاعتبار - علامةً للدين، ولعلوّ الدين، ولرقيّه وانتشاره وعزّته ونشر أحكامه.

بعد هذا البسط يتّضح من ماهيّة الشعيرة ومن وجود الشعيرة، أنّ وجودها ليس تكوينيّاً، والمقصود ليس نفي تكوينيّة وجود ذات الشعيرة، بل إنّ تَعَنون الشيء بأنّه شعيرة وجعله علامة على شيء آخر تَعنونه هذا، وجعله كذلك ليس تكوينيّاً بل اعتباريّاً، وإلاّ فالبُدن هي من الإبل، ووجودها تكويني.

ولكن كونها شعيرة وعلامة على حُكم من أحكام الدين، أو على عزّة الإسلام شيء اعتباري، نظير بقيّة الدلالات التي تدلّ على مدلولات أخرى بالاعتبار والجعل.

فالشعائر وإن كانت وجودات في أنفسها تكوينيّة، ولكن عُلقتها ودلالتها على المعاني اتّخاذيّة واعتباريّة، بواسطة عُلقة وضعيّة ربطيّة اعتباريّة، هذا من جهة وجودها.

ومن جهةٍ أخرى، فقد دلّلنا على أنّ الشعائر والشعيرة تكون بحسب ما تُضاف إليه، كما قد يتّخذ المسلمون الشعائر في الحرب مثلاً، كما وردَ

____________________

(1) الحجّ: 36.

٧٢

دليل خاص في باب الجهاد على استحباب اتّخاذ المسلمين شعاراً لهم، مثل ما اتّخذه المسلمون في غزوة بدر، وهو شعار: (يا منصور أمِت).

فالمقصود إذا لم يرد لدينا دليل خاصّ على التصرّف في معنى الشعائر أو الشعيرة - التي هي بمعنى العلامة كما ذكرنا - فإنّه يبقى على معناه اللغوي الأوّلي.

الوجودُ الاعتباري للشعيرة

وكذلك في الوجود الخارجي، إذ المفروض أنّ المتشرّعة إذا اتّخذوا شيئاً ما كشعيرة، يعني علامة على معنى ديني سامي، معنىً من المعاني الدينيّة السامية، أو حكماً من الأحكام العالية، وجعلوا له علامة، شعيرة وشِعار وشعائر. فالمفروض جَعل ذلك بما هي شعيرة لا بما هي هي، أي: بوجودها النفسي، لكن بما هي شعيرة، (كاللفظ بما هو دال على المعنى، لا يكون دالاً على المعنى إلاّ بالوضع..) فالشعيرة بما هي شعيرة، أي بما هي علامة دالّة على معنى سامي من المعاني الدينيّة، وتشير بما هي علامة على حُكم من الأحكام الدينيّة الركنيّة مثلاً، أو الأصليّة وهي دلالة اعتباريّة اتّخاذيّة وضعيّة.

وهذا يعني أنّها مجعولة في ذهن الجاعل، وبالتبادل وبالاتفاق تصبح شيئاً فشيئاً شعيرة وشِعار، مثل ما يجري في العرف بأن يضعوا للمنطقة الفلانيّة اسماً معيّناً مثلاً، وبكثرة الاستعمال شيئاً فشيئاً ينتشر بينهم ذلك الاسم فيتواضعون عليه، ويتعارف بينهم أنّ هذه المنطقة تُعرف باسم كذا، ويحصل الاستئناس في استعمال اللفظ في ذلك المعنى، فينتشر ويتداول، فحينئذٍ يكون اللفظ المخصوص له دلالة على المعنى المعيّن دلالةً وضعيّةً.

٧٣

خلاصةُ القول

إلى هنا عرفنا أنّ في آية:( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (1) ، وآية:( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (2) ثلاثة مَحاور:

محور الحُكم، ومحور المتعلّق، ومحور الموضوع.

فنقول: لو كنّا نحن ومقتضى القاعدة، لو كنّا نحن وهاتين الآيتين الشريفتين فقط وفقط فحينئذٍ، نقول: إنّ المعنى لشعائر الله - كالزوال، وكدِلوك الشمس - بقيَ على ما هو عليه في المعنى، ووجوده أيضاً على ما هو عليه من وجود، وقد بيّنّا في كيفيّة وجوده أنّها ليست تكوينيّة، بل هي وضعيّة واعتباريّة واتخاذيّة، كما في آية( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) نبقيه على ما هو عليه من معنى، ونُبقيه على ما هو عليه من وجود، ووجوده هو وجود اعتباري لدى العقلاء.

وكذلك الأمر في شعائر الله، حيث هناك موارد قد تصرَّف فيها الشارع بنفسه وجعلَ شيئاً ما علامة، وغاية هذا التصرّف هو جعل أحد مصاديق الشعائر، كالمناسك في الحجّ.

وهناك موارد لم يتصرّف الشارع بها ولم يتّخذ بخصوصها علامات معيّنة.

وإنّما اتّخذ المتشرِّعة والمكلّفون شيئاً فشيئاً فعلاً من الأفعال - مثلاً -

____________________

(1) المائدة: 2.

(2) سورة الحج: 32.

٧٤

علامة وشعاراً على معنى من المعاني الإسلاميّة، فتلك الموارد يشملها عموم الآية:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (1) ، وكذلك يشملها عموم:( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (2) .

فلو كنّا نحن وهاتين الآيتين فقط، يتقرّر أنّ معنى الشعائر ووجودها هو اتّخاذي بحسب اتّخاذ العرف.

لكن قبل أن يتّخذها العرف شعيرة ومشاعر، وقبل أن يتواضع عليها العرف، والمتشرِّعة والعقلاء والمكلّفون لا تكون شعيرة، وإنّما تتحقّق شعيريّتها بعد أن تتفشّى وتنتشر ويتداول استعمالها، فتصبح رسماً شعيرة وشعائر، ويشملها عموم( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) ، و( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ... ) .

فالمفروض أنّ المعنى اللغوي لشعائر الله، هو معنىً عام طُبّق في آية سورة المائدة، أو في آية سورة الحجّ على مناسك الحجّ.

ولكن لم تُحصر الشعائر بمناسك الحجّ، بل الآية الكريمة دالّة على عدمه:( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) (3) ، و (من) دالّة على التبعيض والتعميم.

فإذن، اللفظ حسب معناه اللغوي عام، ونفس السياق - الذي هو سياق تطبيقي - ليس من أدوات الحصر، كما ذكرَ علماء البلاغة ؛ فإنّهم لم يجعلوا

____________________

(1) الحجّ: 32.

(2) المائدة: 2.

(3) الحج: 36.

٧٥

تطبيق العام على المصداق من أدوات الحصر.

بل عُلّل تعظيم مناسك الحج لكونها من الشعائر، فيكون من باب تطبيق العام على أفراده، وذَكرنا أنّ أغلب علماء الإماميّة - من مفسّريهم، وفقهائهم، ومحدّثيهم - ذَهبوا في فتاواهم وتفاسيرهم إلى عموم الآية لا إلى خصوصها، ومنهم: الشيخ الطوسي في التبيان، حيث ذَكر أقوالاً كثيرة نقلاً عن علماء العامّة، ثُمّ بعد ذلك ذهب إلى أقوائيّة عموم الآية، وإنّه لا دليل على تخصيصها.

كما أنّ هناك دليلاً على ذلك من الآية الشريفة( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) (1) ، حيث إنّ من الواضح أنّ حُرمات الله أعمّ من حُرمات الحجّ، هنا الموضوع للحُكم هو مُطلق حُرمات الله، وكذلك الأمر بالنسبة لشعائر الله في الآية الأخرى.

فإذن لو كنّا نحن ومقتضى هاتين الآيتين، فهاتان الآيتان - بحسب معناهما اللغوي، وبحسب وجودهما بين العقلاء وعُرف المكلّفين - وجودهما اعتباري اتّخاذي، ولو من قِبَل المتشرِّعة.

هذا الكلام بحسب اللسان الأوّلي في أدلّة الشعائر وقاعدة الشعائر، أمّا بحسب اللسان الإلزامي، فالأمر أوضح بكثير كما سنتعرّض إليه.

الاعتراضُ بتوقيفيّة الشعائر

في مقابل ذلك، أدُّعي وجود أدلّة تُثبت اختصاص جعل الشعائر بيد

____________________

(1) الحج: 30.

٧٦

الشارع المقدّس من حيث تطبيق وجودها، كما أنّ الشارع حينما جعل البيع، صار له وجود وكيفيّة خاصّة، وهو ذلك الوجود الذي رتّب عليه الحلّيّة، وأخذَ فيه قيوداً معيّنة.

ويقرِّر ذلك بعينه في بحث الشعائر، كما هو الحال في الطلاق، حيث إنّ الشارع جعلَ له كيفيّة وجود خاصّة.

فالشعائر لابد أن تُتّخذ وتُجعل من قِبَل الشارع، ومن ثُمّ يَحرم انتهاكها، أمّا مجرّد اتّخاذها - والتعارف عليها والتراضي بها من قِبَل العرف والعقلاء - لا يجعلها شعيرة ولا يترتّب عليها الحُكم، أي: وجوب التعظيم وحرمة الهتك.

أدلّةُ المُعترض:

الأوّل: باعتبار أنّ الشعائر تعني أوامر الله، ونواهي الله، وأحكام الله، فلابدّ أن تكون الشعائر من الله، فكيف يوكَّل تشريعها غير الله سبحانه( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) (1) .

الثاني: ما في الآية من سورة الحجّ( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) (2) من كونها شعائر الله، إنّما هو بجعل الشارع لا بجعل المتشرِّعة.

وآية( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (3) ، وآية:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ

____________________

(1) الأنعام: 57.

(2) الحج: 36.

(3) المائدة: 2.

٧٧

فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) (1) ترتبط كلّ منها بموارد مناسك الحجّ، ومناسك الحجّ مجعولة بجعل الشارع.

فالحاصل أنّ ألفاظ الآيات ظاهرة في أنّ جعل الشعائر إنّما هو جعل من الله، وليس هو جعل وإنشاءٌ واتخاذٌ حسب قريحة واختيار المتشرِّعة.

الثالث: لو كانت الشعائر بيد العرف لاتّسع هذا الباب وترامى، ولمَا حُدّ بحدّ، بحيث يُعطى الزمام للعرف وللمتشرِّعة بأن يجعلوا لأنفسهم شعائر كيف ما اختاروا واقترحوا، وبالتالي سوف تطرأ على الدين تشريعات جديدة وأحكام مستحدَثة ورسوم وطقوس متعدّدة، حسب ما يراه العرف والمتشرِّعة، فتُجعل شعائر دينيّة.

فإيكال الشعائر إلى العرف والمتشرّعة وإلى عامّة الناس المتديّنين، سوف يستلزم إنشاء تشريع دين جديد وفقَ ما تُمليه عليهم رغباتهم وخلفيّاتهم الذهنيّة والاجتماعيّة.

الرابع: يلزم من ذلك تحليل الحرام، وتحريم الحلال، حيث سيتّخذون بعض ما هو محرّم شعائر فيجعلونها عَلَماً وعلامة على أمر ديني، وهذا تحليل للحرام، أو قد يجعلون لأشياء محلّلة حرمة معيّنة مثلاً ؛ لأنّها إذا اتُّخذت شعيرة وعُظِّمت فسوف يُجعل لها حرمة، مع أنّ حكمها في الأصل كان جواز الإحلال والابتذال.

أمّا بعد اتّخاذها شعيرة فقد أصبح ابتذالها حراماً وتعظيمها واجباً، فيلزم من ذلك تحريم الحلال.

____________________

(1) الحج: 30.

٧٨

جوابُ الاعتراض:

والجواب تارةً إجمالاً وأخرى تفصيلاً.. أمّا الجواب الإجمالي: فهو وجود طائفة الأدلّة من النوع الثاني والثالث، حيث مرّ أنّ لقاعدة الشعائر الدينيّة ثلاثة أنواع من الأدلّة:(1)

النوع الأول: لسان الآيات التي وردت فيها نفس لفظة الشعيرة والشعائر.

النوع الثاني: لسان آخر، وهو ظاهر الآيات التي وردت في وجوب نشر الدين، وإعلاء كلمة الله سبحانه، وبثّ الشريعة السمحاء.

وقد قلنا: إنّ قاعدة الشعائر الدينيّة تتقوّم برُكنين:

ركن الإعلام والنشر والبثّ، والانتشار لتلك العلامة الدينيّة ولِذيها.

وركن علوّ الدين واعتزازه، وهذا اللسان نلاحظه في جميع الألسن لبيان القاعدة، سواء كان في اللسان الأوّل الذي وردت فيه بلفظ الشعائر، أو في اللسان الثاني الذي لم يرد فيه لفظ الشعائر.

النوع الثالث : أو اللسان الثالث من الأدلّة: الذي ذكرنا بأنّه العناوين الخاصّة في الألفاظ الخاصّة.

فلو بنينا على نظريّة هذا المعترض؛ فإننّا لن ننتهي إلى النتيجة التي يتوخّاها بأنّ الشعائر حقيقة شرعيّة، أو وجودها حقيقة شرعيّة، لأنّ النتيجة

____________________

(1) راجع ص: 31 - 38 من هذا الكتاب.

٧٩

التي يريد أن يتوصّل إليها هي الحكم ببدعيّة كثير من الرسوم والطقوس التي تمارَس باسم الشعائر الدينيّة المستجدّة والمستحدَثة، وهذه النتيجة سوف لا يصل إليها حتّى لو سلّمنا بأنّ الشعائر الدينيّة هي بوضع الشارع وبتدخّله؛ لعدم انسجام ذلك مع النَمَطين الأخيرين من لسان أدلّ الشعائر، والوجه في ذلك يتّضح بتقرير الجواب التفصيلي على إشكالات المعترِض.

الجوابُ التفصيلي الأوّل

يتمّ بيانه عبر ثلاث نقاط:

النقطة الأولى: تعلّق الأوامر بطبيعة الكلّي

ما ذكرهُ علماء الأصول: من أنّ الشارع إذا أمرَ بفعل كلّي، مثل: الأمر بالصلاة( أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ) (1) ، أو الأمر بعتق رقبة، أو الاعتكاف، ولم يُخصِّص ذلك الفعل بزمن معيّن، أو بمكان معيّن، أو بعوامل معيّنة؛ وإنّما أمرَ بهذه الطبيعة على حدودها الكلّيّة، كأن يأمر الشارع مثلاً بصلاة الظهرين بين الحدّين، أي: بين الزوال والغروب، فالمكلّف يختار الصلاة في أيّ فردٍ زمني من هذه الأفراد، وإن كان بعض الأفراد له فضيلة، إلاّ أنّ المكلّف مُفوّض في إيجاد طبيعة الصلاة، وماهيّة الصلاة، وفعل الصلاة في أيّ فرد شاء، وفي أيّ آنٍ من الآنات بين الزوال والغروب، سواء في أوّل الوقت، أو وسط الوقت، أو آخر الوقت، كما أنّه مفوّض ومخيّر في إيقاع الصلاة في هذا المسجد، أو في ذلك المسجد، أو في منزل، جماعة أو فرادى، وبعبارة

____________________

(1) البقرة: 43، 83، 110.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

والحزن لوقوع حادثة غير مطلوبة!.

ثمّ تبيّن الآيات من هم «المكذّبون» فتقول :( الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ) .

فيزعمون أنّ آيات القرآن ضرب من الكذب والافتراء وأنّ معجزات النّبي سحر وأنّه مجنون ، ويتلقّون جميع الحقائق باللعب ويسخرون منها ويستهزئون بها ويحاربون الحقّ بالكلام الباطل غير المنطقي ، ولا يأبون من أيّة تهمة أو كذب في سبيل الوصول إلى مآربهم.

«خوض» على وزن حوض ـ معناه الدخول في الكلام الباطل ، وهو في الأصل ورود الماء والعبور منه.

ثمّ تبيّن الآيات ذلك اليوم وعاقبة هؤلاء المكذّبين في توضيح آخر : فتقول :( يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ) (١) أي يساقون نحو جهنّم بعنف وشدّة.

ويقال لهم حينئذ :( هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ ) .

كما يقال لهم أيضا :( أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ ) ؟!

لقد كنتم تزعمون في الدنيا إنّ ما جاء به محمّد سحر ، وقد أخذ السحر عن ساحر آخر ، فغطّى على أعيننا ليصرفها عن الحقائق وليختطف عقولنا! ويرينا أمورا على أنّها معاجز ، ويذكر لنا كلاما على أنّه وحي منزل من الله ، إلّا أنّ جميع ذلك لا أساس له وما هو إلّا السحر!!

لذلك فحين يردون نار جهنّم يقال لهم بنحو التوبيخ والملامة والاحتقار وهم يلمسون حرارة النار : أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون؟!

كما يقال لهم هناك أيضا :( اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

أجل هذه هي أعمالكم وقد عادت إليكم ، فلا ينفع الجزع والفزع والآه

__________________

(١) دعّ على وزن جدّ معناه الدفع الشديد والسوق بخشونة وعنف و «اليوم» في الآية منصوب على الظرفية أو البدلية من يومئذ في الآية السابقة.

١٦١

والصراخ ولا أثر لكلّ ذلك أبدا.

وهذه الآية تأكيد على «تجسّم الأعمال» وعودتها نحو الإنسان ، وهي تأكيد جديد أيضا على عدالة الله لأنّ نار جهنّم مهما كانت شديدة ومحرقة فهي ليست سوى نتيجة أعمال الناس أنفسهم ، وأشكالها المتبدّلة هناك!.

* * *

تعقيب

١ ـ كيف يساق المجرمون إلى جهنّم؟

لا شكّ أنّ المجرمين يساقون ويدعّون إلى جهنّم بالتحقير والمهانة والزجر والعذاب ، إلّا أنّه تشاهد آيات متعدّدة في هذا الصدد ذات تعابير مختلفة.

إذ نقرأ في الآيتين (٣٠) و٣١) من سورة الحاقة مثلا( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) .

ونقرأ في الآية (٤٧) من سورة الدخان( خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ ) .

كما جاء التعبير بالسوق في بعض الآيات كالآية (٨٦) من سورة مريم( وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً ) .

وعلى العكس منهم المتّقون والصالحون إذ يتلقّون بكلّ إكرام واحترام عند باب الجنّة :( حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ ) (١) .

وعلى هذا فليست الجنّة والنار ـ كلّ منهما ـ مركزا لرحمة الله أو عذابه فحسب ، بل تشريفات الورود لكلّ منهما كاشفة عن هذا المعنى أيضا.

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية ٧٣.

١٦٢

٢ ـ الخائضون في الأباطيل!.

بالرغم من أنّ كلام القرآن في الآيات الآنفة كان يدور حول المشركين في عصر النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ هذه الآيات دون شكّ عامّة ، فهي تشمل جميع المكذّبين حتّى الفلاسفة الماديين الخائضين في حفنة من الخيالات والأفكار الناقصة ، ويتّخذون حقائق عالم الوجود لعبا وهزوا ، ولا يعتدون إلّا بما يقرّ به عقلهم القاصر ، فهم ينتظرون أن يروا كلّ شيء في مختبراتهم وتحت المجهر حتّى ذات الله المقدّسة ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ وإلّا فلا يؤمنون بوجوده أبدا.

هؤلاء أيضا مصداق للذين هم( فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ) وهم غارقون في أمواج من الخيالات والتصوّرات الباطلة.

إنّ عقل الإنسان مهما بلغ فهو قبال نور الوحي كالشمعة أمام نور الشمس المضيئة في العالم ، فهذه الشمعة تساعد الإنسان أن يخرج من محيط المادّة المظلم وأن يفتح الأبواب نحو ما وراء الطبيعة ، وأن يحلق في كلّ جهة بنور الوحي ليرى العالم الواسع ويتعرّف على مجهولاته وخفاياه.

* * *

١٦٣

الآيات

( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) )

التّفسير

مواهب الله للمتّقين :

تعقيبا على المباحث الواردة في الآيات المتقدّمة حول عقاب المجرمين وعذابهم الأليم تذكر الآيات محلّ البحث ما يقابل ذلك من المواهب الكثيرة والثواب العظيم للمؤمنين والمتّقين لتتجلّى بمقايسة واضحة مكانة كلّ من الفريقين.

تقول الآية الاولى من الآيات محلّ البحث :( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ) .

١٦٤

والتعبير بـ «المتّقين» بدلا من المؤمنين ، لأنّ هذا العنوان يحمل مفهوم الإيمان ، كما يحمل مفهوم العمل الصالح أيضا ، خاصّة أنّ «التقوى» تقع مقدّمة وأساسا للإيمان في بعض المراحل ، كما تقول الآية ٢ من سورة البقرة( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) لأنّ الإنسان إذا لم يكن ذا تعهّد وإحساس بالمسؤولية وروح تطلب الحقّ وتبحث عنه ـ وكلّ ذلك مرحلة من مراحل التقوى ـ فإنّه لا يمضي في التحقيق عن دينه وعقيدته ولا يقبل هداية القرآن أبدا.

والتعبير بـ( فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ) بصيغة الجمع والتنكير لكلّ منهما ، إشارة إلى تنوّع الجنّات والنعيم وعظمتهما.

ثمّ يتحدّث القرآن عن تأثير هذه النعم الكبرى على روحية أهل الجنّة فيقول في الآية التالية :( فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ ) (١) .

خاصّة أنّ الله قد طمأنهم وآمنهم من العقاب( وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ) .

وهذه الجملة قد تكون ذات معنين الأوّل بيان النعمة المستقلّة قبال نعم الله الاخر والثاني أن يكون تعقيبا على الكلام السابق ، أي أنّ أهل الجنّة مسرورون من شيئين «بما آتاهم الله من النعم في الجنّة» ، و «بما وقاهم من عذاب الجحيم».

والتعبير بـ «ربّهم» في الجملتين يشير ضمنا إلى نهاية لطف الله ودوام ربوبيته عليهم في تلك الدار.

ثمّ تشير الآية الاخرى إشارة إجمالية إلى نعم المتّقين في الجنّة فتقول :( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

والتعبير بـ «هنيئا» هو إشارة إلى أنّ أطعمة الجنّة وشرابها السائغة غير المنغّصة ، فهي ليست كأطعمة الدنيا وشرابها التي تجرّ الإنسان إلى الوبال عند

__________________

(١) كلمة «فاكهين» مشتقّة من فكه على وزن نظر ـ وفكاهة على وزن شباهة ، ومعناها كون الإنسان مسرورا ، وجعل الآخرين مسرورين بالكلام العذب ، ويقول الراغب في مفرداته : الفاكهة معناها كلّ نوع من الثمار. والفكاهة أحاديث أهل الأنس وقد احتمل بعضهم أنّ الآية : فاكهين بما أتاهم ربّهم إشارة إلى تناول أنواع الفواكه وهذا المعنى يبدو بعيدا

١٦٥

الإفراط أو التفريط بها إضافة إلى كلّ ذلك لا يحصل عليها بمشقّة ، ولا يخاف من انتهائها ، ولذلك فهي هنيئة!(١) .

ومن المعلوم أنّ أطعمة الجنّة هنيئة بذاتها ، ولكنّ قول الملائكة لأهل الجنّة «هنيئا» هذا القول له لطفه وعذوبته الخاصّة.

والنعمة الاخرى التي يتمتّع بها أهل الجنّة هي كونهم :( مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ ) .

فهم يلتذّون بالاستئناس إلى أصحابهم والمؤمنين الآخرين ، وهذه لذّة معنوية فوق أيّة لذّة اخرى!.

و «سرر» جمع سرير ، وأصل المادّة هو «السرور» وتطلق السرر على الكراسي المهيأة لمجالس السرور ليتّكأ عليها.

و «مصفوفة» من مادّة صف ، ومعناها أنّ هذه السرر مرتبة واحدا إلى جنب الآخر ويتشكّل منه مجلس عظيم للأنس.

ونقرأ في آيات متعدّدة من القرآن أنّ أهل الجنّة يجلسون على سرر متقابلين. [الحجر الآية ٤٧ والصافات الآية ٤٤].

وهذا التعبير لا ينافي ما ورد في هذه الآية محلّ البحث ، لأنّ مجالس الانس والسرور ترتّب الأسّرة فيها على شكل مستدير ومصفوفة جنبا إلى جنب ، فجلّاسها على سرر مصفوفة متقابلون!.

والتعبير بـ «متكئين» إشارة إلى منتهى الهدوء ، لأنّ الإنسان عند الهدوء يتكئ عادة ، والذين هم في قلق وحزن لا يرون كذلك!.

ثمّ يضيف القرآن بأنّا زوجناهم من نساء بيض جميلات ذوات أعين واسعة( وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ) (٢) .

__________________

(١) يقول الراغب في مفرداته : الهنيء كلّ ما لا يلحق فيه المشقّة ولا يعقبه وخامة

(٢) «الحور» : جمع (حوراء) وأحور ، فهو جمع للمذكّر والمؤنث سواء ، ويطلق على من حدقة عينه سوداء وبياضها شفّاف أو

١٦٦

هذه بعض من نعم أهل الجنّة المادية والمعنوية ، إلّا أنّهم لا يكتفون بهذه النعم فحسب ، وإنّما تضاف إليها نعم ومواهب معنوية ومادية أخر!( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) !.

وهذه نعمة بنفسها أيضا أن يرى الإنسان ذريّته في الجنّة ويلتذّ برؤيتهم دون أن ينقص من عمله شيء أبدا.

ويفهم من تعبير الآية أنّ المراد من الذرية هم الأبناء البالغون الذين يسيرون في خطّ الآباء المؤمنين ويتّبعون منهجهم.

فمثل هؤلاء الأبناء وهذه الذريّة إذا كان في عملهم نقص وتقصير فإنّ الله سبحانه يتجاوز عنهم لأجل آبائهم الصالحين ، ويرتفع مقامهم عندئذ فيبلغون درجة آبائهم ، وهذه المثوبة موهبة للآباء والأبناء(١) !.

إلّا أنّ جماعة من المفسّرين يعتقدون أنّ «الذريّة» هنا تشمل الأبناء الكبار والصغار جميعا غير أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع ظاهر الآية ، لأنّ الاتّباع بإيمان دليل على وصولهم مرحلة البلوغ أو مقاربتهم لها.

إلّا أن يقال أنّ الأطفال يصلون في يوم القيامة مرحلة البلوغ ويمتحنون فمتى نجحوا في الامتحان التحقوا بالآباء ، كما جاء هذا المعنى في الكافي إذ ورد فيه أنّه سئل الإمام عن أطفال المؤمنين فقالعليه‌السلام : «إذا كان يوم القيامة جمعهم الله ويشعل نارا فيأمرهم أن يلقوا أنفسهم في النار فمن ألقى نفسه سلم وكان سعيدا وجعل الله النار عليه بردا وسلاما ومن امتنع حرم من لطف الله»(٢) .

__________________

هو كناية عن الجمال ، لأنّ الجمال يتجلّى في العينين قبل كلّ شيء ، والعين جمع لأعين وعيناه معناه العين الواسعة ، وهكذا فإنّ الحور العين مفهوما واسع يشمل الأزواج جميعا الذكور والإناث من أهل الجنّة فالذكور للإناث وبالعكس.

(١) الظاهر أنّ جملة والذين آمنوا جملة مستقلّة والواو للاستئناف ، وقد اختبار جماعة من المفسّرين هذا المعنى «كالعلّامة الطباطبائي والمراغي وسيّد قطب» إلّا أنّ العجب أن يعدّ الزمخشري هذه الجملة معطوفة على وزوجناهم بحور عين مع أنّه لا يتناسب هذا المعنى ومفهوم النصّ ولا ينسجم مع فصاحة القرآن وبلاغته.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٣٩ بتصرّف وتلخيص.

١٦٧

إلّا أنّ ، هذا الحديث إضافة إلى ضعف سنده يواجه إشكالات ومؤخذات في المتن أيضا وليس هنا مجال لبيانها وشرحها.

وبالطبع فإنّه لا مانع أن يلحق الأطفال بالآباء ويكونوا معهم في الجنّة إلّا أنّ الكلام هو هل الآية الآنفة ناظرة إلى هذا المطلب أم لا؟ وقد قلنا إنّ التعبير بـ( اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ) ظاهره أنّ المقصود هو الكبار.

وعلى كلّ حال ـ وحيث أنّ ارتقاء الأبناء إلى درجة الآباء يمكن أن يوجد هذا التوهّم أنّه ينقص من أعمال الآباء ويعطى للأبناء فإنّ الآية تعقّب بالقول :( وَما أَلَتْناهُمْ ) (١) ( مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) .

وينقل ابن عبّاس عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إذا دخل الرجل الجنّة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال له إنّهم لم يبلغوا درجتك وعملك. فيقول : ربّ قد عملت لي ولهم فيؤمر بالحاقهم به»(٢) .

ممّا ينبغي الالتفات إليه أنّ القرآن يضيف في نهاية الآية :( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) .

فلا ينبغي التعجّب من عدم إنقاص أعمال المتّقين ، لأنّ هذه الأعمال مع الإنسان حيثما كان ، وإذا أراد الله أن يلحق أبناء المتّقين بهم تفضّلا منه ورحمة ، فلا يعني ذلك أنّه سينقص من ثواب أعمالهم أي شيء!

وقال بعض المفسّرين : إنّ كلمة «رهين» هنا معناها مطلق ، فكلّ إنسان مرهون بأعماله ، سواء أكانت صالحة أم طالحة ، ولا ينقص من جزاء أعماله شيء.

ولكن مع ملاحظة أنّ هذا التعبير لا يتناسب والأعمال الصالحة ، فإنّ بعض المفسّرين قالوا : إنّ «كلّ امرئ» هنا إشارة إلى أصحاب الأعمال السيّئة! وإنّ كلّ إنسان مرهون بأعماله السيّئة فهو حبيسها وأسيرها.

__________________

(١) الفعل ألتناهم مشتق من مادّة ألت على وزن ثبت : ومعناه الإنقاص.

(٢) تفسير المراغي ، ج ٢٧ ، ص ٢٦.

١٦٨

ويستدلّون أحيانا بالآيتين (٣٨) و٣٩) من سورة المدثر( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ ) .

غير أنّ هذا التّفسير مع الالتفات إلى سياق الآيات السابقة واللاحقة ـ التي تتكلّم في شأن المتّقين وليس فيها كلام على المشركين والمجرمين ـ يبدو غير مناسب!

وقبال هذين التّفسيرين الذين يبدو كلّ منهما غير مناسب ـ من بعض الوجوه ـ هناك تفسير ثالث ينسجم مع صدر الآية والآيات السابقة والآيات اللاحقة ، وهو أنّ من معاني «الرهن» في اللغة «الملازمة» ، وإن كان معروفا أنّه الوثيقة في مقابل الدين ، إلّا أنّه يستفاد من كلمات أهل اللغة أنّ الرهن من معاينة الدوام والملازمة(١) .

بل هناك من يصرّح بأنّ المعنى الأصلي للرهن هو الدوام والثبوت ، ويعدّ الرهن بمعنى الوثيقة من اصطلاحات الفقهاء ، لذلك فإنّه حين يقال «نعمة راهنة» فمعناها أنّها ثابتة ومستقرّة(٢) .

ويقول أمير المؤمنين في شأن الأمم السالفة : «ها هم رهائن القبور ومضامين اللحود»(٣) .

فيكون معنى( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) أنّ أعمال كلّ إنسان ملازمة له ولا تنفصل عنه أبدا ، سواء كانت صالحة أو طالحة ، ولذلك فإنّ المتّقين في الجنّة رهينو أعمالهم ، وإذا كان أبناؤهم وذريّاتهم معهم ، فلا يعني ذلك أنّ أعمالهم ينقص منها شيء أبدا.

وأمّا في شأن الآية (٣٩) من سورة المدثر التي تستثني أصحاب اليمين ممّا

__________________

(١) لسان العرب ، مادّة رهن.

(٢) مجمع البحرين ، مادّة رهن.

(٣) نهج البلاغة ، من كتاب له ٤٥.

١٦٩

سبق ، فيمكن أن تكون إشارة إلى أنّهم مشمولون بألطاف لا حدّ لها حتّى كأنّ أعمالهم لا أثر لها بالقياس إلى ألطاف الله(١)

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه الجملة تؤكّد هذه الحقيقة وهي أنّ أعمال الإنسان لا تنفصل عنه أبدا ، وهي معه في جميع المراحل.

* * *

__________________

(١) هناك تفاسير أخر في أصحاب اليمين سنتناولها ذيل الآية من سورة المدثر إن شاء الله.

١٧٠

الآيات

( وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨) )

التّفسير

مواهب اخرى لأهل الجنّة :

أشارت الآيات المتقدّمة إلى تسعة أقسام من مواهب أهل الجنّة ، وتشير الآيات محلّ البحث إلى خمسة أخر منها بحيث يستفاد من المجموع أنّ ما هو لازم للهدوء والطمأنينة والفرح والسرور واللذّة مهيّأ لهم في الجنّة!

فتشير الآية الاولى من الآيات محلّ البحث إلى نوعين من طعام أهل الجنّة فتقول :( وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ) .

١٧١

«أمددناهم» مشتق من الإمداد ومعناه العطاء والزيادة والإدامة أي أنّ طعام الجنّة وفواكهها لا ينقص منهما شيء بتناولهما ، وهما ليسا كطعام الدنيا وفواكهها بحيث يتغيّران أو ينقصان.

والتعبير بـ( مِمَّا يَشْتَهُونَ ) يدلّ على أنّ أهل الجنّة أحرار تماما في انتخاب الأطعمة ونوعها وكميّتها وكيفيتها ، فمهما طلبوا فهو مهيئ لهم وبالطبع فإنّ طعام الجنّة غير منحصر بهذين النوعين اللحم والفاكهة ، إلّا أنّهما يمثّلان الطعام المهمّ ، وتقديم الفاكهة على اللحم إشارة إلى أفضليّتها عليه.

ثمّ تشير الآية التالية إلى ما يشربه أهل الجنّة من شراب سائغ فتقول :( يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ ) !

حيث يناول أحدهم الآخر كؤوس الشراب الطاهر من الإثم والإفساد ، ويشربون شرابا سائغا عذبا لذيذا يهب النشاط خاليا من أي نوع من أنواع التخدير وفساد العقل! ولا يعقبه لغو ولا إثم ، بل كلّه لذّة وانتباه ونشاط «جسمي وروحاني».

وكلمة «يتنازعون» من مادّة التنازع ومعناه أخذ بعضهم من بعض ، وقد يأتي للمخاصمة والتجاذب ، لذلك قال بعض المفسّرين بأنّ أهل الجنّة يتجاذبون الشراب الطهور بعضهم من بعض على سبيل المزاح والسرور.

لكن كما يستفاد من كلمات أهل اللغة أنّ «التنازع» متى أطلق معه لفظ الكأس أو ما أشبه فمعناه أخذ الكأس من يد الآخر! ولا يعني التخاصم أو التجاذب! وينبغي الالتفات إلى هذه اللطيفة اللغوية وهي أنّ «الكأس» هي الإناء المملوء فإذا كان خاليا لا يطلق عليه كأس(١) .

وعلى كلّ حال ، فحيث أنّ التعبير بالكأس يتداعى منه إلى الشراب المخدّر

__________________

(١) قال الراغب في مفرداته : الكأس : الإناء بما فيه من الشراب وقال في مجمع البحرين كذلك فإذا خلا الإناء سمّي «قدحا».

١٧٢

في الدنيا فإنّ الآية تضيف قائلة( لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ ) ولا يصدر على أثرها عمل قبيح كما يعقب الشراب المخدّر! فشراب هذه الكأس طهور نقي يجعلهم أكثر طهارة وخلوصا.

أمّا النعمة الرابعة المذكورة لأهل الجنّة فوجود الخدم والغلمان إذ تقول الآية :( وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ) .

و «اللؤلؤ المكنون» هو اللؤلؤ داخل صدفه ، وهو في هذه الحالة شفّاف وجميل إلى درجة لا توصف وإن كان خارج الصدف شفّافا وجميلا أيضا ، غير أنّ الهواء الملوّث والأيدي التي تتناوله كلّ ذلك يؤثّر فيه ، فلا يبقى على حالته الاولى من الشفّافية! فالغلمان وخدمة الجنّة هم إلى درجة من الصفاء حتّى كأنّهم اللؤلؤ المكنون كما يعبّر القرآن الكريم.

وبالرغم من أنّه لا حاجة في الجنّة إلى الخدمة ، وما يطلبه الإنسان يجده أمامه ، إلّا أنّ هذا بنفسه إكرام أو احترام آخر لأهل الجنّة!

وقد ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين سئل عن أهل الجنّة فقيل له : يا رسول الله إنّ الغلمان هم كاللؤلؤ المكنون فكيف حالة المؤمنين؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والذي نفسي بيده فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب(١) .

والتعبير بـ (لهم) يدلّ على أنّ كلّ مؤمن له خدمة خاصّون به ، وحيث أنّ الجنّة ليست مكانا للهم والحزن فإنّ الغلمان يلتذّون بخدمتهم المؤمنين!.

وآخر نعمة في هذه السلسلة من النعم هي نعمة الطمأنينة وراحة البال من كلّ عذاب أو عقاب إذ تقول الآية التالية :( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ ) .

__________________

(١) مجمع البيان ، الكشّاف ، روح البيان ، أبو الفتوح الرازي.

١٧٣

فمع أنّنا كنّا نعيش بين ظهراني أهلنا وكان ينبغي أن نحسّ بالأمان والطمأنينة ، إلّا أنّنا كنّا مشفقين مشفقين أن تحدق بنا الحوادث المزعجة والمكدّرة لحياتنا وأن يصيبنا عذاب الله على حين غرّة في أيّة لحظة.

مشفقين أن يسلك أبناؤنا طريق الضلال ، فيتيهوا في مفازة جرداء ويتحيّروا! مشفقين أن يفجؤنا أعداؤنا القساة ويضيّقوا علينا الميدان! ولكن الله منّ علينا برحمته الواسعة :( فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ ) .

أجل : منّ الله الرحيم علينا فنجّانا من سجن الدنيا ووحشتها ، وأنعم علينا في دار القرار وجنّات النعيم.

وحين يتذكّرون ماضيهم وجزئياته ويقيسونه بما هم عليه من حالة منعّمة! يعرفون قدر نعم الله ومواهبه الكبرى أكثر ، وستكون تلك النعم ألذّ وأدعى للقلب ، لأنّ القيم تتجلّى أكثر في القياس بين نعم الدنيا ونعم الآخرة.

والكلام الذي ينقله القرآن على لسان أهل الجنّة هنا يشير إلى اعترافهم بهذه الحقيقة وهي أنّ كون الله برّا رحيما يعرفه أهل الجنّة في ذلك الزمان أكثر من أي وقت مضى فيقولون :( إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ) .

إلّا إنّنا نعرف هذه الصفات الآن بشكل واقعي أكثر ممّا كنّا نعرفها ، إذ شملنا برحمته العظيمة قبال هذه الأعمال التي لا تعدّ شيئا وأحسن إلينا مع كلّ تلك الذنوب الكثيرة!.

أجل إنّ عرصة القيامة ونعم الجنّة مدعاة لتجلّي صفات الله وأسمائه ، والمؤمنون يتعرّفون في عرصة القيامة على حقيقة أسماء الله تعالى وصفاته أكثر من أي زمن آخر.

حتّى الجحيم أيضا تبيّن صفاته وحكمته وعدله وقدرته!

* * *

١٧٤

ملاحظات

١ ـ كلمة «يتساءلون» مشتقّة من السؤال ، ومعناه الاستفهام ، أي يسأل بعضهم بعضا ، وهذا الفعل هنا يشير إلى أنّ أهل الجنّة يسأل بعضهم بعضا عن ماضيه ، لأنّ تذكّر هذه المسائل والنجاة من تلك الآلام والهموم والوصول إلى مثل هذه المواهب كلّ ذلك بنفسه تلذّذ أيضا وهذا يشبه تماما «الإنسان» المسافر العائد من سفر محفوف بالمخاطر إلى محيط آمن. فهو يتحدّث مع من سافر معه عن ما كان في سفره ويعرب عن سروره لسلامته.

٢ ـ كلمة «مشفقين» مشتقّة من الإشفاق ، وكما يقول الراغب في مفرداته معناه التوجّه المقرون بالخوف فحين يتعدّى هذا اللفظ «الإشفاق» بـ «من» يكون مفهوم الخوف فيها أظهر ، وإذا تعدّت بـ «في» يكون مفهوم التوجّه والعناية فيها أكثر!

والأصل أنّ هذه الكلمة مشتقّة من «الشفق» وهو النور المقرون أو الممزوج بشيء من الظلمة.

والآن ينبغي أن يعرف ممّ كانوا مشفقين في الدنيا وخائفين؟ ولأي شيء كانوا يتوجّهون؟!

وهنا احتمالات ثلاثة وقد جمعناها في تفسير الآية إذ لا منافاة بينها جميعا «الخوف من الله والتوجّه إليه لنجاتهم ـ والإشفاق من انحراف أهليهم والالتفات إلى أمر التربية ـ والخوف من الأعداء والتوجّه لحفظ أنفسهم في قبالهم» وإن كان المعنى الأوّل ـ مع ملاحظة الآيات التالية وخاصّة( فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ ) ـ أقرب للنظر!

٣ ـ التعبير «في أهلنا» بإطلاقه يحمل مفهوما واسعا حيث يصدق على جميع الأبناء والأزواج والأحباب ، ويشير هذا التعبير إلى أنّ الإنسان في مثل هذا الجمع يحسّ بالأمن أكثر من أي مكان آخر ، فإذا كان فيهم مشفقا ، فمن المعلوم حاله إذا

١٧٥

كان في غيرهم!!

ويحتمل أيضا أنّ هذا التعبير يشير إلى أولئك المبتلين باسرة غير مؤمنة ، وكانوا خائفين حتّى منهم ، إلّا أنّهم في الوقت ذاته قاوموا وحافظوا على استقلالهم بالاتّكال على الله ولطفه ولم يتلوّنوا بلون الآسرة.

٤ ـ «السموم» يعني الحرارة التي تدخل في مسام البدن فتؤذي الإنسان ، ويطلق على الريح التي تتسم بهذه السمة بريح السموم كما يطلق عذاب السموم على مثل هذا العذاب الذي تدخل حرارته مسام البدن فتؤذيه.

وأمّا إطلاق كلمة «السم» على المواد القاتلة فهو لأنّها تنفذ في جميع أجزاء البدن!

٥ ـ كلمة «البرّ» في الأصل تطلق على اليابسة في قبال البحر ، ثمّ استعملت هذه الكلمة في من يعمل عملا صالحا وواسعا حسنا ، وأجدر بهذه الكلمة الذات المقدّسة ، لأنّ لطفه وإحسانه عمّ العوالم كلّها.

٦ ـ ارتباط الآيات ومضامينها

قلنا أنّ هذه الآيات والآيات المتقدّمة تذكر أربعة عشر قسما من نعم أهل الجنّة.

١ ـ الجنّات ٢ ـ النعيم ٣ ـ السرور ٤ ـ الأمان من عذاب جهنّم ٥ ـ تناول الطعام والشراب السائغ في الجنّة ٦ ـ الاتّكاء على السرر المصفوفة ٧ ـ الأزواج من الحور العين ٨ ـ الحاق الذرية التي تبعت آباءها بإيمان ٩ ـ أنواع الفواكه اللذيذة ١٠ ـ أنواع اللحم ، ١١ ـ ما تشتهي الأنفس ١٢ ـ كؤوس الشراب الطهور ١٣ ـ ويطوف عليهم غلمان لهم كأنّهم لؤلؤ مكنون ١٤ ـ التساؤل عن أيّام الدنيا في مجالس يغمرها الانس!.

١٧٦

وهذه النعم بعضها مادّي وبعضها معنوي ، ومع كلّ ذلك فإنّ نعم الجنّة الماديّة والمعنوية غير منحصرة بهذه النعم ، بل ما هو مذكور هنا يعدّ جانب من جوانب نعم الجنّة!

* * *

١٧٧

الآيات

( فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) )

سبب النّزول

جاء في رواية أنّ قريشا اجتمعت في دار الندوة(١) ليفكّروا في مواجهة دعوة النّبي الإسلامية التي كانت تعدّ خطرا كبيرا على منافعهم غير المشروعة.

فقال رجل من قبيلة «عبد الدار» ينبغي أن ننتظر حتّى يموت ، لأنّه شاعر على كلّ حال ، وسيمضي عنّا كما مات زهير والنابغة والأعشى «ثلاثة شعراء جاهليون» وطوي بساطهم وسيطوى بساط محمّد أيضا بموته. قالوا ذلك

__________________

(١) دار الندوة هي دار «قصي بن كلاب» جدّ العرب المعروف ، وكانوا يجتمعون فيها للمشاورة في الأمور المهمّة ، وكانت هذه الدار إلى جوار بيت الله وتفتح بابه نحو جهة الكعبة ، وكانت هذه الدار ذات مركزية في زمن قصي بن كلاب نفسه (راجع سيرة ابن هشام ، ج ٢ ، ص ١٢٤ وج ص ١٣٢).

١٧٨

وتفرّقوا فنزلت الآيات آنفة الذكر وردّت عليهم(١) .

التّفسير

أمنيات المشركين وتحدّي القرآن

كان الكلام في الآيات المتقدّمة على قسم مهمّ من نعم الجنّة وثواب المتّقين وكان الكلام في الآيات التي سبقتها عن بعض عذاب أهل النار.

لذلك فإنّ الآية الاولى من الآيات محلّ البحث تخاطب النّبي فتقول : «فتذكّر»! لأنّ قلوب عشّاق الحقّ تكون أكثر استعدادا بسماعها مثل هذا الكلام ، وقد أن الأوان أن تبيّن الكلام الحقّ لها!

وهذا التعبير يدلّ بوضوح أنّ الهدف الأصلي من ذكر جميع تلك النعم ومجازاة الفريقين هو تهيئة الأرضية الروحية لقبول حقائق جديدة! وفي الحقيقة فإنّه ينبغي على كلّ خطيب أنّ يستفيد من هذه الطريقة لنفوذ كلامه وتأثيره في قلوب السامعين.

ثمّ يذكر القرآن الاتّهامات التي أطلقها أعداء النّبي الألدّاء المعاندون فيقول :( فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ) .

«الكاهن» يطلق على من يخبر عن الأسرار الغيبية ، وغالبا ما كان الكاهن يدّعي بأنّه له علاقة بالجنّ ويستمد الأخبار الغيبية منهم ، وكان الكهنة في الجاهلية ـ خاصّة ـ كثيرين ومن ضمنهم الكاهنان «سطيح» و «شق» ، والكهنة أفراد أذكياء ، إلّا أنّهم يستغلّون ذكاءهم فيخدعون الناس بادّعاءاتهم الفارغة.

والكهانة محرّمة في الإسلام وممنوعة ولا يعتدّ بأقوال الكهنة! لأنّ أسرار

__________________

(١) راجع تفسير المراغي ، ج ٢٧ ، ص ٣١.

١٧٩

الغيب خاصّة بعلم الله ولا يطلع غيبه إلّا من ارتضى من رسول وإمام وحسب ما تقتضيه المصلحة.

وعلى كلّ حال فإنّ قريشا ومن أجل أن تشتّت الناس وتصرّفهم عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت تتّهمه ببعض التّهم ، فتارة تتّهمه بأنّه كاهن ، وتارة تتّهمه بأنّه مجنون ، والعجب أنّها لم تقف على تضاد الوصفين ، لأنّ الكهنة أناس أذكياء والمجانين على خلافهم!! ولعلّ الجمع بين الافترائين في الآية إشارة إلى هذا التناقض في الكلام من قبل القائلين.

ثمّ يذكر القرآن الاتّهام الثالث الذي يخالف الوصفين السابقين أيضا فيقول :( أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) .

فطالما هو شاعر فعلينا أن نصبر ، إذ أنّ لأشعاره رونقها وجاذبيتها ، فإذا حلّ به الموت وانطوت أشعاره كما ينطوي سجل عمره وأودعت في ضمير النسيان فسنكون حينئذ في راحة من أمره!!.

وكما يفهم من كتب اللغة فإنّ «المنون» مشتقّ من المنّ ، وهو على معنيين : النقصان والقطع ، وهذان المعنيان أيضا بينهما مفهوم جامع!

ثمّ استعملت كلمة «المنون» في الموت أيضا ، لأنّه ينقص العدد ويقطع المدد.

وقد يطلق «المنون» على مرور الزمان ، وذلك لأنّه يوجب الموت ويقطع العلائق وينقص النفر ، كما يطلق «المنون» على الليل والنهار أحيانا ، ولعلّ ذلك للمناسبة ذاتها(١) .

وأمّا كلمة (ريب) فأصلها الشكّ والتردّد والوهم في الشيء الذي تنكشف أستاره بعدئذ فتتضح حقيقته!

وهذا التعبير يستعمل في شأن الموت ، فيقال «ريب المنون» لأنّ وقت

__________________

(١) راجع «لسان العرب» و «المفردات للراغب» و «المنجد» و «تفسير القرطبي».

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526