الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل3%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 151335 / تحميل: 5592
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

وكما نلاحظ في هذه الآيات فإنّ البدو الإبهامي الذي كان يحيط الآيات المتقدّمة يحيط هذه الآيات أيضا التي تتضمّن ظلالا من المواضيع السابقة ، ومن أجل أن نفهم مفاد هذه الآيات لا بدّ من الرجوع إلى مفرداتها اللغوية أيضا.

النزلة : هي النّزول مرّة واحدة ، فالنزلة الاخرى تعني نزولا آخر ، ويستفاد من هذا التعبير أنّه حدثت نزلتان ، وهذا الموضوع يتعلّق بالنزلة الثانية(١) .

والسدرة : على وزن حرفة ـ طبقا لتفسير أغلب علماء اللغة هي شجرة وريقة وريفة الظلال والتعبير بـ( سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ) إشارة إلى شجرة ووريقة ذات ظلال وريفة في أوج السماوات في منتهى ما تعرج إليه الملائكة وأرواح الشهداء وعلوم الأنبياء وأعمال الناس. وهي مستقرّة في مكان لا تستطيع الملائكة أن تتجاوزه وحين بلغ جبرئيل أيضا في معراجه مع النّبي إلى ذلك المكان توقّف عنده ولم يتجاوزه!

ورغم أنّه لم يرد توضيح عن سدرة المنتهى في القرآن الكريم ، إلّا أن الأخبار والرّوايات الإسلامية ذكرت لها أوصافا كثيرة وجميعها كاشف عن أنّ انتخاب هذا التعبير هو لبيان نوع من التشبيه ولغاتنا قاصرة عن بيان مثل هذه الحقائق الكبرى.

ففي حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «رأيت على كلّ ورقة من أوراقها ملكا قائما يسبّح الله تعالى»(٢) .

كما جاء عن الإمام الصادقعليه‌السلام نقلا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «انتهيت إلى سدرة المنتهى وإذا الورقة منها تظلّ امّة من الأمم»(٣) .

__________________

(١) قال بعض أصحاب (اللغة) والمفسّرين معنى النزلة هنا «مرّة» وليس المراد منها النّزول ، فالنزلة الاخرى تعني المرّة الثانية لا غير ، لكن لا ندري لم عرفوا عن المادّة الأصلية للنزلة في حين أنّ غيرهم أشاروا إليها وفسّروها بما بيّنا آنفا [فلاحظوا بدقّة].

(٢) مجمع البيان : ذيل الآيات محلّ البحث.

(٣) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٥٥

٢٢١

وهذه التعابير تشير إلى أنّ المراد من هذه الشجرة ليس كما نألفه من الأشجار المورقة والباسقة على الأرض أبدا ، بل إشارة إلى ظلّ عظيم في جوار رحمة الله وهناك محلّ تسبيح الملائكة ومأوى الأمم الصالحة.

أمّا( جَنَّةُ الْمَأْوى ) فمعناها الجنّة التي يسكن فيها(١) وهناك أقوال في ما هو المراد من هذه الجنّة؟! فبعضهم قال بأنّها «جنّة الخلد» التي أعدّت للمتّقين المؤمنين ومكانها في السماء ، والآية (١٩) من سورة السجدة ، دليلهم على مدّعاهم( فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) فهذه الآية بقرينة ما بعدها تتحدّث عن جنّة الخلد ـ ولا شكّ أنّها تتحدّث عن جنّة الخلد.

إلّا أنّنا نجد في آية اخرى قوله :( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ) ،(٢) فاحتمل بعض المفسّرين أنّ جنّة المأوى التي في السماء غير جنّة الخلد التي عرضها السماوات والأرض.

لذلك فقد فسّر بعضهم «جنّة المأوى» بأنّها مكان خاصّ في جنّة الخلد ، وهي قريبة من سدرة المنتهى ومعدّة للمخلصين!

وربّما فسّرها بعضهم بأنّها «جنّة البرزخ» التي تحلّ فيها أرواح الشهداء والمؤمنين بصورة مؤقتة.

ويبدو أنّ التّفسير الأخير أنسب التفاسير وأقربها ، وممّا يدلّ عليه بجلاء أنّنا نقرأ في كثير من الرّوايات الواردة في المعراج أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى جماعة متنعّمين في الجنّة ، مع أنّنا نعرف أنّه لن يدخل جنّة الخلد أحد قبل يوم القيامة ، لأنّ آيات القرآن تشير بوضوح أنّ المتّقين يدخلون الجنان بعد الحساب [في يوم القيامة] لا بعد الموت مباشرة وأنّ أرواح الشهداء أيضا في جنّة برزخية لأنّهم أيضا

__________________

(١) المأوى في الأصل معناه الانضمام ، وحيث أنّ سكون الأفراد في محلّ ما يسبّب انضمام بعضهم لبعض فقد استعملت هذه الكلمة «المأوى» على محلّ السكن مطلقا.

(٢) آل عمران ، الآية ١٣٣.

٢٢٢

لا يدخلون جنّة الخلد قبل يوم القيامة.

والآية :( ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى ) إشارة إلى أنّ بصر النبي ، وأنّ عينيه الكريمتين لم تميلا يمنة ولا يسرة ولم تجاوزا حدّهما ، وما رآه النّبي بعينيه هو عين الواقع ، لأنّ «زاغ» من مادّة زيغ معناه الانحراف يمينا أو شمالا ، و «طغى» من الطغيان ، معناه التجاوز عن الحدّ ، وبتعبير آخر إنّ الإنسان حين يرى شيئا فيخطئ رؤيته ولا يلتفت إليه بدقّة فإمّا أنّه يلتفت يمنة ويسرة أو إلى ما ورائه(١) .

والآن وحيث فرغنا من تفسير مفردات الآي نعود إلى التّفسير العامّ للآيات.

نعود مرّة اخرى إلى النظريتين في تفسير الآية.

فقال جماعة من المفسّرين بأنّ الآيات ناظرة إلى مشاهدة النّبي للمرّة الثانية جبرئيل في صورته الحقيقيّة عند نزوله من المعراج عند سدرة المنتهى ولم يزغ بصره في رؤية الملك ولم يخطئ أبدا.

والنّبي رأى في هذه الحال بعضا من آيات الله الكبرى ، والمقصود بها هي رؤية جبرئيل في صورته الواقعية ، أو بعض آيات السماء في عظمتها وعجائبها ، أو كلتيهما.

إلّا أنّ الإشكالات الواردة على التّفسير السابق ما تزال باقية هنا ، بل تضاف إلى تلك الإشكالات إشكالات أخر ومنها :

إنّ التعبير بـ( نَزْلَةً أُخْرى ) حسب هذا التّفسير ليس فيه مفهوم واضح ، لكن بحسب التّفسير الثاني يكون المعنى إنّ النّبي رأى الله في شهود باطني عند معراجه في السماء ، وبتعبير آخر نزل الله مرّة اخرى على قلب النّبي وتحقّق الشهود الكامل في (المنتهى إليه) القريب إلى الله من عباده عند سدرة المنتهى حيث جنّة المأوى والسدرة تغطّيها حجب من أنوار الله.

__________________

(١) جاء في تفسير الميزان أنّ الزيغ هو الخطأ في مشاهدة كيفية الشيء وأنّ الطغيان في البصر هو الخطأ في أصل الرؤية إلّا أنّه لا دليل واضح على هذا التفاوت بل ما ورد في اللغة هو ما بيّناه في المتن.

٢٢٣

ورؤية قلب النّبي في هذا الشهود لم تكن بغير الحقّ أبدا ، ولم ير سواه ، ولقد رأى من دلائل عظمة الله في الآفاق والأنفس أيضا وشاهدها بعينيه.

ومسألة الشهود الباطني كما أشرنا إليها من قبل هي نوع من الإدراك أو الرؤية التي لا تشبه الإدراكات العقلية ولا الإدراكات الحسيّة التي يدركها الإنسان بواسطة الحواس الظاهرة ، ولعلّه يشبه من بعض الجهات بعلم الإنسان بوجود نفسه وأفكاره وتصوّراته.

توضيح ذلك انّنا نوقن بوجود أنفسنا وندرك أفكارنا ونعرف إرادتنا وميولنا النفسيّة ، إلّا أنّ مثل هذه المعرفة لم تحصل لا عن طريق الاستدلال ولا عن طريق المشاهدة الظاهرية بل هي نوع من الشهود الباطني لنا ، وعن هذا الطريق وقفنا على وجودنا وروحياتنا.

ولذلك فإنّ العلم الحاصل عن الشهود الباطني لا يقع فيه الخطأ ، لأنّه لم يحصل عن طريق الاستدلال الذي قد يقع الخطأ في مقدّماته ، ولا عن طريق الحسّ الذي قد يقع الخطأ فيه بواسطة الحواس.

صحيح أنّنا لا نستطيع أن نكشف حقيقة الشهود الذي حصل للنبي ليلة المعراج في رؤيته اللهعزوجل إلّا أنّ المثال الذي ذكرناه مناسب للتقريب والرّوايات الإسلامية بدورها خير معين لنا في هذا الموضوع.

* * *

بحوث

١ ـ المعراج حقيقة مقطوع بها

لا خلاف بين علماء الإسلام في أصل معراج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالآيات تشهد على ذلك سواء في هذه السورة محل البحث أو في بداية سورة الإسراء ، وكذلك الرّوايات المتواترة.

٢٢٤

غاية ما في الأمر أنّ بعض المفسّرين ولأحكامهم المسبّقة لم يستطيعوا أن يتقبّلوا صعود النّبي بجسده وروحه إلى السماء ، ففسّروه بالمعراج الروحاني وما يشبه حالة الرؤيا والمنام!! مع أنّ هذا الصعود أو المعراج الجسماني للنبي لا إشكال فيه عقلا ولا من ناحية العلوم المعاصرة ، وقد بيّنا تفصيل هذا الموضوع في تفسير سورة الإسراء بشكل مبسّط!.

فبناء على هذا لا داعي للإعراض عن ظاهر الآيات وصريح الرّوايات لمجرّد الاستبعاد

ثمّ بعد هذا كلّه فالتعابير في الآيات هذه تشير إلى أنّ جماعة جادلوا في هذه المسألة ، والتاريخ يقول أيضا إنّ مسألة المعراج أثارت نقاشا حادّا بين المخالفين!

فلو أنّ النّبي كان يدّعي المعراج الروحاني وما يشبه الرؤيا لم يكن لهذا النقاش محلّ من الإعراب.

٢ ـ ما هو الهدف من المعراج؟

الهدف من المعراج هو بلوغ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرحلة الشهود الباطني من جهة ، ورؤية عظمة الله في السماوات بالبصر الظاهري من جهة اخرى والتي أشارت إليه آخر آية من الآيات محلّ البحث :( لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ) .

وفي الآية الاولى من سورة الإسراء :( لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا ) والاطلاع على مسائل مهمّة ـ كثيرة ـ كأحوال الملائكة وأهل الجنّة وأهل النار وأرواح الأنبياء والتي كانت مصدر إلهام للنبي طوال عمره الشريف في تعليم وتربية الناس.

٣ ـ المعراج والجنّة

يستفاد من الآيات ـ محلّ البحث ـ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ بالجنّة ليلة المعراج ودخلها ، وسواء أكانت هذه الجنّة هي جنّة الخلد كما قال بها جماعة من المفسّرين أو جنّة البرزخ كما اخترناه ، فإنّ النّبي على أيّة حال ـ رأى مسائل مهمّة من

٢٢٥

مستقبل الناس في هذه الجنّة ، وقد جاء بيان ذلك في الرّوايات الإسلامية ، وسنشير إلى قسم منها.

٤ ـ المعراج في الرّوايات الإسلامية :

من جملة المسائل المهمّة في قضيّة المعراج والتي كان لها دور مهمّ في إثارة التشكيكات من قبل البعض في أصل قضيّة المعراج هو وجود روايات ضعيفة أو مدسوسة ضمن رواياته حتّى أنّ العلّامة الطبرسي قال : يمكن تقسيم روايات المعراج إلى أربعة أقسام :

أ ـ الرّوايات القطعيّة لتواترها «كأصل مسألة المعراج».

ب ـ الرّوايات المنقولة من مصادر معتبرة ، وهي مشتملة على مسائل لا مانع عقلا من قبولها كالرّوايات الحاكية عن مشاهدة النّبي لكثير من آيات عظمة الله في السماوات!

ج ـ الرّوايات التي لا يتنافى ظاهرها مع ما لدينا من الأصول المستقاة من آيات القرآن والرّوايات الإسلامية المقطوع بها إلّا أنّها مع ذلك تقبل التوجيه ، كالرّوايات القائلة بأنّ النّبي رأى جماعة من أهل الجنّة ينعمون في الجنّة وجماعة من أهل النار يعذّبون فيها «فينبغي أن تؤول بأنّ المراد من الجنّة والنار هو جنّة البرزخ وناره» حيث أنّ أرواح المؤمنين والشهداء في الاولى متنعّمة وأرواح الكفّار والمشركين في الثانية «معذّبة»(١) .

د ـ الرّوايات المشتملة على مطالب باطلة وعارية عن الصحّة ومحتواها يدلّ على أنّها مدسوسة أو مجعولة ، كالرّوايات القائلة بأنّ النّبي رأى الله بعينيه وبصره

__________________

(١) جاء في آيات القرآن «أنّ المتّقين يساقون إلى الجنّة زمرا وأنّ الكفّار يساقون إلى النار زمرا (الزّمر الآيات ٧١ ـ ٧٣) وجاء هذا المعنى في سورة اخرى كالآية (٧٠) من الزخرف ، والآيتين (٨٥) و٨٦) من سورة مريم ، والآية (٤٧) من سورة الدخان.

٢٢٦

الظاهري أو تكلّم معه أو شاهده ، فهذه الرّوايات وأمثالها مجعولة قطعا ، إلّا أن تفسّر بالشهود الباطني.

بعد ملاحظة هذا التقسيم نلقي الضوء على روايات المعراج ، حيث يستفاد من مجموع هذه الرّوايات أنّ النّبي واصل معراجه إلى السماء خلال مراحل عديدة.

١ ـ المرحلة الاولى : وهي ما بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى وقد أشير إليها في الآية الاولى من سورة الإسراء :( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) .

وتقول بعض الرّوايات أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزل في المدينة أثناء إسرائه مع جبرئيل فصلّى بها(١) .

كما صلّى أيضا في المسجد الأقصى مع أرواح الأنبياء العظام كإبراهيم وموسى وعيسىعليهم‌السلام ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إمامهم في الصلاة ، ثمّ بدأ المعراج إلى السماوات السبع(٢) فجابهنّ سماء بعد سماء وواجه في كلّ سماء مشاهد جديدة ، فالتقى الملائكة والنبيين في بعضها ، والجنّة وأهلها في بعضها ، والنار وأهلها في بعضها ، وحمل من كلّ في خاطره وروحه ذكريات قيّمة ، وشاهد في عجائب كلّ واحدة منها رمز من رموز عالم الوجود وسرّ من أسراره ، وبعد عودته ذكرها لامّته صراحة أحيانا وبالكناية أو المجاز أحيانا ، وكان يستلهم منها لتربية أمّته وتعليمه بكثرة.

وهذا الأمر يدلّ على أنّ واحدا من أهداف هذا السفر السماوي الاستفادة من النتائج العرفانيّة والتربوية لهذه المشاهدات ، والتعبير القرآني الغزير( لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ) في هذه الآيات محلّ البحث يمكن أن يكون إشارة إجمالية

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١٨ ، ص ٣١٩.

(٢) طبقا لبعض آيات القرآن كالآية السادسة من سورة الصافات :( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) ما نراه من العالم العلوي من النجوم والمجرّات هو في السماء الاولى فحسب أمّا السماوات الستّ الاخرى فهي فوقها

٢٢٧

لجميع هذه الأمور.

وكما ذكرنا آنفا فإنّ الجنّة والنار اللتين رآهما النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معراجه والأشخاص الذين كانوا منعّمين أو معذّبين فيهما لم تكونا جنّة القيامة ونارها ، بل هما جنّة البرزخ وناره ، لأنّه كما أشرنا سابقا طبقا لآيات القرآن فإنّ الجنّة والنار تكونان بعد يوم القيامة والفراغ من الحساب معدّتين للمتّقين والمسيئين.

وأخيرا وصل النّبي إلى السماء السابعة ورأى حجبا من النور هناك حيث «سدرة المنتهى» و «جنّة المأوى» وبلغ النّبي هناك وفي العالم النوراني أوج الشهود الباطني والقرب إلى الله قاب قوسين أو أدنى وخاطبه الله هناك وأوحى إليه تعاليم مهمّة وأحاديث كثيرة نراها اليوم في الرّوايات الإسلامية تحت عنوان الأحاديث القدسيّة ، وسنعرض قسما منها بإذن الله في الفصل المقبل.

الطريف هنا هو أنّ الرّوايات الكثيرة تصرّح بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى أخاه وابن عمّه عليا في مراحل مختلفة من معراجه بصورة مفاجئة ، وما نجده من التعابير في هذه الرّوايات كاشف عن مدى مقام علي وفضله بعد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وعلى الرغم من كثرة الرّوايات في شأن المعراج فهناك تعابير مغلقة ذات أسرارا ليس من الهيّن كشف محتواها وهي كما يصطلح عليها من الرّوايات المتشابهة أي الرّوايات التي ينبغي إحالة تفسيرها على أهل بيت العصمة!

(لمزيد الاطلاع تراجع الرّوايات في هذا الصدد بالجزء ١٨ من بحار الأنوار من الصفحة ٢٨٢ إلى ٤١٠).

وقد ذكرت كتب أهل السنّة روايات المعراج بشكل موسّع بحيث نقل ثلاثون راوية من رواتهم حديث المعراج(١) .

وهنا ينقدح السؤال التالي وهو : كيف تمّ كلّ هذا السفر الطويل وهذه

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٣ ، ص ٢٩ (ذيل الآيات الاولى من سورة الإسراء بحث روائي).

٢٢٨

المشاهدات العجيبة والمتنوّعة والأحداث الطويلة في ليلة واحدة ، بل في جزء منها؟!

ولكن يتّضح الجواب على السؤال بملاحظة أنّ سفر المعراج لم يكن سفرا بسيطا كالمعتاد حتى يقاس بالمعابير المعتادة! فلا السفر كان طبيعيّا ولا وسيلته وركوبه ولا مشاهده ولا أحاديثه ولا المعايير الواردة فيها كمعاييرنا المحدودة والصغيرة على كرتنا الأرضية فكلّ شيء كان في المعراج خارقا للعادة! وكان وفق مقاييس خارجة عن زماننا ومكاننا.

فبناء على هذا لا مجال للعجب أن تقع كلّ هذه الأمور بمقياس ليلة أو أقل من ليلة من مقاييس ـ الكرة الأرضية ـ الزمانية [فلاحظوا بدقّة].

٥ ـ جانب من إيحاءات الله وكلماته لرسوله في ليلة المعراج :

وردت في كتب الأحاديث رواية عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الشأن «المعراج» وهي مفصّلة وطويلة نذكر جانبا منها وفيها مطالب تكشف عن أحداث وأحاديث تلك الليلة التأريخية وكيف إنّها بلغت أوج السمو والرفعة.

ونقرأ في بداية الحديث أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سأل الله سبحانه : يا ربّ أيّ الأعمال أفضل؟!

فقال تعالى : «ليس شيء عندي أفضل من التوكّل عليّ والرضا بما قسمت ، يا محمّد! وجبت محبّتي للمتحابّين فيّ ووجبت محبّتي للمتعاطفين فيّ ووجبت محبّتي للمتواصلين فيّ ، ووجبت محبّتي للمتوكّلين عليّ وليس لمحبّتي علم ولا غاية ولا نهاية.

وهكذا تبدأ الأحاديث من المحبّة ، المحبّة الشاملة والواسعة ، وأساسا فإنّ عالم الوجود يدور حول هذا المحور!

٢٢٩

وجاء في جانب آخر : «يا أحمد(١) فاحذر أن تكون مثل الصبي إذا نظر إلى الأخضر والأصفر أحبّه وإذا اعطي شيء من الحلو والحامض اغترّ به ، فقال : يا ربّ دلّني على عمل أتقرّب به إليك قال : اجعل ليلك نهارا ونهارك ليلا قال : ربّ وكيف ذلك؟ قال : اجعل نومك صلاة وطعامك الجوع.

كما جاء في مكان آخر منه : يا أحمد محبّتي محبّة للفقراء فادن الفقراء وقرّب مجلسهم منك ادنك وبعد الأغنياء وبعد مجلسهم منك فإنّ الفقراء أحبّائي.

وجاء في موضع آخر أيضا : يا أحمد أبغض الدنيا وأهلها وأحبّ الآخرة وأهلها قال يا ربّ ومن أهل الدنيا ومن أهل الآخرة؟ قال : أهل الدنيا من كثر أكله وضحكه ونومه وغضبه قليل الرضا لا يعتذر إلى من أساء إليه ولا يقبل معذرة من اعتذر إليه ، كسلان عند الطاعة ، شجاع عند المعصية ، أمله بعيد وأجله قريب ، لا يحاسب نفسه قليل المنفعة كثير الكلام ، قليل الخوف ، كثير الفرح عند الطعام وإنّ أهل الدنيا لا يشركون عند الرخاء ولا يصبرون عند البلاء ، كثير الناس عندهم قليل يحمدون أنفسهم بما لا يفعلون ، ويدّعون بما ليس فيهم ، ويتكلّمون بما يتمنّون ويذكرون مساوئ الناس ويخفون حسناتهم.

قال : يا ربّ ، هل يكون سوى هذا العيب في أهل الدنيا ، قال : يا أحمد إنّ عيب أهل الدنيا كثير فيهم ، الجهل والحمق ، لا يتواصفون لمن يتعلّمون منه ، وهم عند أنفسهم عقلاء وعند العارفين حمقاء.

ثمّ يتناول الحديث أهل الجنّة فيقول :

يا أحمد إنّ أهل الخير وأهل الآخرة رقيقة وجوههم كثير حياؤهم قليل حمقهم ،

__________________

(١) ممّا ينبغي الالتفات إليه أنّ اسم النّبي في كلّ مكان من هذا الحديث ورد بلفظ أحمد إلّا في بدايته ، أجل فاسم النّبي في الأرض محمّد وفي السماء أحمد ولم لا يكون كذلك مع أنّ أحمد بالإضافة إلى أنّه اسم تفضيل مبين للحمد والتكريم أكثر ، وقد كان على النّبي في تلك الليلة التاريخية أن يتجاوز من «محمّد» إلى «أحمد» لأنّ الفاصلة بين أحمد واحد غير بعيدة.

٢٣٠

كثير نفعهم ، الناس منهم في راحة وأنفسهم منهم في تعب كلامهم موزون ، محاسبين لأنفسهم ، متعبين لها ، تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم أعينهم باكية وقلوبهم ذاكرة ، إذا كتب الناس في الغافلين كتبوا من الذاكرين ، في أوّل النعمة يحمدون وفي آخرها يشكرون دعاؤهم عند الله مرفوع ، وكلامهم مسموع ، تفرح الملائكة بهم ، الناس (الغفلة) عندهم موتى والله عندهم حي قيّوم «وهمّتهم عالية فلا ينظرون إلّا إليه» قد صارت الدنيا والآخرة عندهم واحدة يموت الناس مرّة ويموت أحدهم في اليوم سبعين مرّة «ويحيا حياة جديدة» من مجاهدة أنفسهم ومخالفة هواهم.

وإن قاموا بين يدي كأنّهم البنيان المرصوص لا أرى في قلبهم شغلا لمخلوق فوعزّتي وجلالي لأحيينّهم حياة طيبة إذا فارقت أرواحهم أبدانهم ولا أسلّط عليهم ملك الموت ولا يلي قبض روحهم غيري ولأفتحنّ لروحهم أبواب السماء كلّها ولأرفعنّ الحجب كلّها دوني ، ولآمرنّ الجنان فلتزيننّ.

يا أحمد إنّ العبادة عشرة أجزاء تسعة منها طلب الحلال فإذا طيّبت مطعمك ومشربك فأنت في حفظي وكنفي.

وجاء في مكان آخر منه : يا أحمد هل تدري أيّ عيش أهنا وأيّ أبقى؟ قال اللهمّ لا ، قال : أمّا العيش الهنيء فهو الذي لا يغترّ صاحبه عن ذكري ولا ينسى نعمتي ولا يجهل حقّي ، يطلب رضاي في ليله ونهاره.

وأمّا الحياة الباقية فهي التي يعمل لنفسه حتّى تهون عليه الدنيا وتصغر في عينه وتعظم الآخرة عنده ويؤثر هواي على هواه ويبتغي مرضاتي ويعظّم حقّ عظمتي ويذكر علمي به ويراقبني بالليل والنهار عند كلّ سيّئة أو معصية وينقّي قلبه عن كلّ ما أكره ويبغض الشيطان ووساوسه ولا يجعل لإبليس على قلبه سلطانا فإذا فعل ذلك أسكنت قلبه حبّا حتّى أجعل قلبه لي وفراغه واشتغاله وهمّه وحديثه من النعمة التي أنعمت على أهل محبّتي من خلقي وافتح عين قلبه

٢٣١

وسمعه حتّى يسمع بقلبه وينظر بقلبه إلى جلالي وعظمتي «وحقائق الغيب».

وأخيرا فإنّ هذا الحديث القدسي الكريم يختتم بهذه العبارات المؤثرة! يا أحمد لو صلّى العبد صلاة أهل السماء والأرض ويصوم صيام أهل السماء والأرض ويطوي من الطعام مثل الملائكة ، ولبس لباس العاري ثمّ أرى في قلبه من حبّ الدنيا ذرّة أو سعتها أو رئاستها أو حليّها أو زينتها لا يجاورني في داري ولأنزعنّ من قلبه محبّتي وعليك سلامي ورحمتي والحمد لله ربّ العالمين»(١) .

هذه الأحاديث القدسيّة «من ربّ العرش» التي تحمل روح الإنسان إلى أوج السماوات معها وتعرج به إلى حالة الشهود هي قسم من الحديث القدسي المشار إليه آنفا.

ونضيف إلى ذلك أنّنا على يقين أنّه كان بين النّبي ومحبوبه في تلك الليلة الكريمة أسرار وإشارات وكلمات اخرى لا تستطيع الآذان الإصغاء إليها ولا الأفكار الساذجة استيعابها ولذلك بقيت في نفس النّبي طيّ الكتمان فلم يبح بها لأحد إلّا لخلصائه المختصّين به.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧٧ ، ص ٢١ ـ ٣٠ بشيء من التلخيص.

٢٣٢

الآيات

( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) )

التّفسير

هذه الأصنام وليدة أهوائكم :

بعد بيان الأبحاث المتعلّقة بالتوحيد والوحي والمعراج وآيات عظمة الواحد الأحد في السماء ، يتناول القرآن أفكار المشركين ، فينقضها ويتحدّث عن معتقداتهم الخرافية فيقول : بعد أن أدركتم عظمة الله وآياته في خلقه فهل أنّ أصنامكم مثل اللات والعزّى والصنم الثالث وهو «مناة» بإمكانها أن تنفعكم أو تضرّكم :( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) (١) ؟!

__________________

(١) سنتحدّث عن الأصنام الثلاثة المشار إليها في الآيات محلّ البحث بإذن الله ، لكن ممّا ينبغي الالتفات إليه هو التعبير

٢٣٣

مع أنّكم تزعمون أنّ قيمة البنت دون قيمة الولد ولو بلغكم أنّ أزواجكم أنجبن بنات حزنتم واسودّت وجوهكم!!

( تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ) (١) فهذه قسمة غير عادلة بينكم وبين الله تعالى فعلام تجعلون نصيب الله دون نصيبكم؟!

وهكذا يتناول القرآن أفكارهم الخرافية مستهزئا بها! ويقول لهم : إنّكم ترون البنت عارا وذلّة وتئدونها وهي حيّة في القبر ، وفي الوقت ذاته تزعمون بأنّ الملائكة بنات الله ، ولا تعبدون الملائكة من دون الله فحسب بل تصنعون لها التماثيل وتجعلون لها تلك القدسيّة! وتسجدون لها وتلتجئون إليها لحلّ مشاكلكم وتطلبون حوائجكم منها ، وذلك مثار للسخرية والاستهزاء حقّا!.

ومن هنا يبدو واضحا أنّ العرب الجاهليين كانوا يعبدون بعض هذه الأصنام على الأقل على أنّها تماثيل الملائكة ، الملائكة التي يسمّون كلّا منها بربّ النوع ومدير الوجود ومدبّره ، وكانوا يرون أنّ الملائكة بنات الله!!

فحين تقرن هذه الخرافات إلى خرافة اخرى وهي نظرتهم عن البنت فإنّ التضادّ العجيب الواقع بين هذه الخرافات بنفسه خير شاهد على سخافة هذه المعتقدات ، وكم هو طريف أن يبطل القرآن جميع تلك الخرافات بعدّة جمل قصيرة وموجزة ويفضحها ساخرا بها.

ومن هنا يتبيّن أنّ القرآن لا يقصد إمضاء ما كان عليه العرب من التفريق بين الذكر والأنثى ، بل يريد بيان ما هو مقبول ومسلّم عندهم (وهو منطق الجدل) ، وإلّا فلا فرق في نظر الإسلام ومنطقه بين الذكر والأنثى من حيث القيمة الإنسانية ، ولا

__________________

بمناة الثالثة الاخرى فقد ذكر لهذه الآية تفاسير عديدة أغلبها عار من الصحّة ولا أساس له ولكن المناسب من هذه التفاسير أنّ أهميّة هذه الأصنام عند مشركي العرب كانت بحسب ما ذكره القرآن فالتعبير بمناة الثالثة أي ثالث الأصنام (في الأهميّة) عند العرب والتعبير بالأخرى هو لتأخّر رتبتها عندهم!

(١) ضيزى أي ناقصة وغير منصفة.

٢٣٤

الملائكة فيهم ذكر وأنثى ، ولا هم بنات الله ، وليس عند الله من ولد أساس ، فهذه افتراضات لا أساس لها إلّا أنّ هذا الردّ خير جواب لمن يعتقد بهذه الخرافات.

وفي آخر آية من الآيات محلّ البحث يقول القرآن بضرس قاطع :( إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ) (١) .

فلا دليل لديكم من العقل ، ولا دليل عن طريق الوحي على مدّعاكم ، وليس لديكم إلّا حفنة من الأوهام والخيالات الباطلة.

ثمّ يختتم القرآن الآية بالقول :( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ ) (٢) فهذه الخيالات والموهومات وليدة هوى النفس( وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى )

إلّا أنّهم أغمضوا أعينهم عنه وخلّفوه وراء ظهورهم وتاهوا في هذه الأوهام والضلالات!

* * *

بحوث

١ ـ أصنام العرب الثلاثة المشهورة

كان لمشركي العرب أصنام كثيرة ، إلّا أنّ ثلاثة منها كانت ذات أهميّة خاصّة عندهم ، وهي «اللات» و «العزّى» و «مناة».

وهناك كلام بل أقوال في تسمية هذه الأصنام ومن صنعها ومكانها والجماعة التي تعبدها ، ونكتفي بما ورد في كتاب «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب» هنا فحسب.

فأوّل صنم معروف اختاره العرب كان (مناة) ، حيث أنّه بعد أن نقل «عمرو بن لحي» عبادة الأصنام من الشام إلى الحجاز ، صنع هذا الصنم في منطقة قريبة من

__________________

(١) السلطان : معناه السلطة والغلبة ، ويطلق على الدليل القاطع أنّه سلطان أيضا ، لأنّه أساس الغلبة على الخصم.

(٢) «ما» في «ما تهوى الأنفس» موصولة ، ويحتمل أن تكون مصدرية ، ولا فرق كبير بينهما.

٢٣٥

البحر الأحمر بين المدينة ومكّة ، وكان العرب جميعهم يحترمون هذا الصنم ويقدّمون له القرابين ، إلّا أنّ أكثر القبائل اهتماما بهذا الصنم قبيلتا الأوس والخزرج حتّى كان فتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة ـ وكان النّبي متّجها من المدينة إلى مكّة ـ فأرسل أمير المؤمنين عليا فكسره.

وبعد أن صنع عرب الجاهلية صنم مناة ، عمدوا فصنعوا صنما آخر ، هو اللات من صخر ذي أربع زوايات ، وجعلوه في الطائف ، في المكان الذي توجد فيه اليوم منارة مسجد الطائف الشمالية ، وكان أغلب ثقيف في خدمة هذا الصنم ، وحين أسلمت ثقيف أرسل النّبي المغيرة ، فكسر ذلك الصنم ، والصنم الثالث الذي اختاره العرب هو العزّى وكان في محلّ قريب من ذات عرق في طريق مكّة باتّجاه العراق وكانت قريش تهتمّ بهذا الصنم كثيرا.

وكان العرب يهتّمون بهذه الأصنام الثلاثة إلى درجة أنّهم كانوا يقولون عند الطواف حول البيت : واللات والعزّي ومناة الثالثة الاخرى فإنّهم الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترتجى(١) .

وكانوا يزعمون بأنّ هذه الأصنام بنات الله «ويظهر أنّهم كانوا يتصوّرون أنّ هذه الأصنام تماثيل الملائكة التي كانوا يزعمون أنّها بنات الله!!».

العجب أنّ تسميتها مستقاة من أسماء الله غالبا غاية ما في الأمر كانت أسماؤها مؤنثة لتدلّ على اعتقادهم فاللات(٢) أصلها اللاهة ، ثمّ سقط حرف الهاء فصارت الكلمة اللات ، والعزّى مؤنث الأعز ، ومناة من منى الله الشيء أي قدّره ، ويعتقد بعضهم أنّ مناة من النوء وهو عبارة عن طلوع بعض النجوم التي تصحبها المزن وبعضهم قالوا بأنّ مناة مأخوذة من «منى» على وزن «سعى» ، ومعناه سفك

__________________

(١) بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب ، ج ٢ ، ص ٢٠٢ و٢٠٣.

(٢) كلمة «اللات» كان ينبغي أن تكتب اللاة بالتاء القصيرة ولكنّها لمّا كانت في الوقف تبدّل هاء فتصير اللاه ويوهم لفظها بالاسم الكريم الله كتبت بالصورة الآنفة اللات.

٢٣٦

الدم ، لأنّ دماء القرابين كانت تسفك(١) عندها وعلى كلّ حال فإنّ العرب كانوا يحترمون هذه الأصنام حتّى أنّهم سمّوا كثيرا من رجالهم بعبد العزّى وعبد منات وربّما سمّوا بعض قبائلهم بمثل هذه الأسماء(٢) .

٢ ـ أسماء دون مسميّات

إنّ واحدا من أقدم أسس الشرك هو تنوّع الموجودات في العالم حيث أنّ ذوي الفكر القصير والنظر الضيّق لم يستطيعوا تصديق أنّ كلّ هذه الموجودات المتنوّعة في السماء ، والأرض مخلوقة لله الأحد «لأنّهم يقيسون ذلك بأنفسهم إذ لا يتسنّى لهم التسلّط إلّا على أمر واحد أو عدّة امور» لذلك كانوا يزعمون أنّ لكلّ نوع من الموجودات ربّا يعبّر عنه «بربّ النوع» كربّ نوع البحر ، وربّ نوع الصحراء ، وربّ نوع المطر ، وربّ نوع الشمس ، وربّ الحرب ، وربّ الصلح

وهذه الآلهة المزعومة التي كانوا يسمّونها الملائكة أحيانا كانت حسب اعتقادهم تحكم هذا العالم وحيثما تقع مشكلة يلتجأ إلى ربّ نوعها وحيث أنّ أرباب الأنواع لم تكن موجودات محسوسة فقد صنعوا لها تماثيل وعبدوها!

هذه العقائد الخرافية انتقلت من اليونان إلى المناطق الاخرى حتّى وصلت إلى الحجاز ، ولكن حيث أنّ التوحيد الإبراهيمي كان سائدا لدى العرب فلم يمكنهم إنكار وجود الله ، فمزجت هذه العقائد واحدة بالأخرى ، ففي الوقت الذي يعتقدون فيه بالله اعتقدوا بالملائكة الذين هم في زعمهم بناته ، وعبدوا الأحجار التي صنعوا منها التماثيل.

فالقرآن هدم هذه الخرافات بعبارة موجزة غزيرة المعنى فقال :( إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ) فلم يك أي شيء صادرا

__________________

(١) الاحتمال الأوّل جاء في الكشّاف والثاني في بلوغ الإرب.

(٢) بلوغ الإرب ، ج ٢ ، ص ٢٠٢ و٢٠٣.

٢٣٧

من ربّ المطر الذي سمّيتموه أنتم ، ولا من ربّ الشمس المزعوم ، ولا البحر ، ولا الحرب ، ولا الصلح.

فكلّ شيء صادر عن الله ، وعالم الوجود كلّه طوع أمره ، واتّساق جميع هذه الموجودات المختلفة في السماء والأرض وانسجامها بعضها مع بعض دليل على وحدة الخالق ، ولو كان فيهما آلهة إلّا الله لفسدتا.

٣ ـ الدافع النفسي لعبادة الأصنام

عرفنا الأصل التاريخي لعبادة الأصنام إلّا أنّ لها دوافع ومبادئ نفسيّة وفكرية أيضا ، وقد أشير إليها في الآيات المتقدّمة ، وذلك هو اتّباع الظنّ وما تهوى الأنفس!! والخيالات والأوهام الحاصلة للجهلاء ، ومن ثمّ تنتقل إلى مقلّديهم من المتحجّرين ، وينتقل هذا التقليد من نسل إلى نسل.

وبالطبع فإنّ معبودا كالصنم يتلاءم جيّدا مع أهوائهم ، لأنّه ليس له سلطة على العباد ، ولا معاد ، ولا جنّة ، ولا نار ، ولا كتاب ، ويعطيهم الحرية الكاملة ، وإنّما يأتونه في المشاكل فحسب ، ويتصوّرون أنّه سينفعهم وأنّهم إنّما يستمدّون منه العون.

وأساسا فانّ «هوى النفس» ذاته يعدّ أكبر الأصنام وأخطرها ، وهو الأصل لظهور الأصنام الاخرى.

٤ ـ اسطورة الغرانيق مرّة اخرى :

من خلال بحثنا حول الأصنام الثلاثة التي كان العرب يهتّمون بها «أي اللات والعزّى ومناة» ويعبدونها ـ من خلال هذا البحث التاريخي وردت الإشارة إلى أنّ هذه الأصنام كانت تدعى بالغرانيق العلى وانّ شفاعتهنّ لترتجى.

و «الغرانيق» جمع غرنوق على زنة عصفور وبهلول والغرنوق نوع من

٢٣٨

الطيور الرمادية أو السوداء ، ولذلك كان العرب أحيانا إذا ذكروا الأصنام قالوا بعد ذكرها : تلك الغرانيق العلى وانّ شفاعتهنّ لترتجى.

وقد وردت هنا قصّة خرافية نقلتها بعض الكتب ، وهي أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قرأ الآية :( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ) أضاف عليها من عنده الجملتين هاتين : تلك الغرانيق العلى وانّ شفاعتهنّ لترتجى فكان سببا لارتياح المشركين وعدوّه انعطافا من قبل النّبي إلى عبادة الأصنام ، وحيث أنّ ختام السورة يدعو الناس للسجود فإنّ المسلمين سجدوا وسجد المشركون أيضا ، فكان هذا الخبر مدعاة لإشاعة إسلام المشركين في كلّ مكان! حتّى بلغ ذلك أسماع المهاجرين إلى الحبشة من المسلمين وسرّ جماعة منهم إلى درجة أنّهم أحسّوا بالأمان فعادوا من مهجرهم إلى مكّة(١) .

ولكن كما فصّلنا ذلك في تفسير الآية ٥٢ من سورة الحجّ فإنّ هذا الادّعاء كذب مفضوح ، وتبطله الدلائل والقرائن الكثيرة بجلاء.

فأولئك المفتعلون لهذه الكذبة لم يفكّروا أنّ القرآن في ذيل هذه الآيات محلّ البحث ينقض عبادة الأصنام بصراحة ، ويعدّها اتّباعا لما تهوى النفس وظنونها ، كما أنّه في الآيات التي تلي هذه الآيات يعنّف عبادة الأصنام بصراحة وبشدّة ، ويعدّها دليلا على عدم الإيمان والمعرفة ، ويأمر النّبي بصراحة أن يقطع علاقته بهم ويعرض عنهم.

فمع هذه الحال كيف يمكن أن يتلفّظ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهاتين الجملتين ، أو أن يكون المشركون حمقى إلى درجة بحيث يصغون إلى هذه العبارة ولا يلتفتوا إلى الآيات بعدها التي تعنّف المشركين على عبادة الأصنام ويفرحوا ويسجدوا في آخر ما يتلى من هذه السورة مع الساجدين.

__________________

(١) نقل الطبري هذه القصّة الخرافية في تاريخه ، ج ٢ ، ص ٧٥ فما بعد.

٢٣٩

والحقيقة أنّ ناسجي هذه الاسطورة سذّج للغاية وسطحيّون ، ويمكن أن يكون عند قراءة النّبي للآية( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ) تلا الشيطان بعدها أو الإنسان المتّصف بالشيطنة الجملتين بين المشركين الحاضرين «لأنّ هاتين الجملتين كانتا بمثابة الشعار الذي يودع المشركون بهما أسماء الأصنام» فاشتبه جماعة مؤقتا بأنّهما تتمّة للآية!!

إلّا أنّه لا معنى لسجود المشركين في انتهاء السورة ، ولا لانعطاف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحو عبادة الأصنام ، لأنّ جميع آيات القرآن وسيرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته كلّ ذلك يكشف عن أنّه لم يظهر أيّ انعطاف نحو الأصنام في أي شكل وصورة ، ولم يقبل بأيّ اقتراح في هذا الصدد ، لأنّ الإسلام بأجمعه كان يتلخّص في التوحيد : لا إله إلّا الله!

فكيف يمكن لنبي الإسلام أن يساوم على روح محتوى الإسلام الأصيل.

«وكان لنا في هذا المجال دلائل واستدلالات ذيل الآية ٥٢ من سورة الحجّ».

* * *

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526