الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 151308 / تحميل: 5586
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

والمراد من «الوازرة» من يتحمّل الوزر(١) .

ولمزيد الإيضاح يضيف القرآن قائلا :( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) (٢) .

«السعي» في الأصل معناه السير السريع الذي لا يصل مرحلة الركض ، إلّا أنّه يستعمل غالبا في الجدّ والمثابرة ، لأنّ الإنسان يؤدّي حركات سريعة في جدّه ومثابرته سواء كان ذلك في الخير أو الشرّ!

والذي يسترعي الانتباه أنّ القرآن لا يقول : وان ليس للإنسان إلّا ما أدّى من عمل بل يقول : إلّا ما سعى. وهذا التعبير إشارة إلى أنّ على الإنسان أن يجدّ ويثابر فذلك هو المطلوب منه وإن لم يصل إلى هدفه ، فالعبرة بالنيّة ، فإذا نوى خيرا أعطاه الله ثوابه ، لأنّ الله يتقبّل النيّات والمقاصد لا الأعمال المؤدّاة فحسب.

أمّا الآية التالية فتقول :( وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ) فالإنسان لا يرى غدا نتائج أعماله التي كانت في مسير الخير أو الشرّ فحسب ، بل سيرى أعماله نفسها يوم الحساب ، كما نجد التصريح بذلك في الآية (٣٠) من سورة آل عمران :( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ) .

كما ورد التصريح بمشاهدة الأعمال الصالحة والطالحة عند القيامة في سورة الزلزلة الآيتين (٧) و٨) :( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ! أمّا الآية الأخيرة من الآيات محل البحث فتقول :( ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى ) (٣) .

والمراد من «الجزاء الأوفى» هو الجزاء الذي يكون طبقا للعمل. وبالطبع هذا

__________________

(١) أتت لفظ الوازرة لكونه وصفا للنفس المحذوفة في الآية ومثلها تأنيث اخرى.

(٢) كلمة «ما» في «ما سعى» مصدرية.

(٣) نائب الفاعل في يجزاه ضمير يعود على الإنسان والهاء في يجزاه تعود على العمل (مع حذف حرف الجرّ) وتقدير الآية هكذا ثمّ يجزى الإنسان بعمله أو على عمله الجزاء الأوفى يقول الزمخشري في الكشّاف : يمكن أن لا يكون هناك حرف مقدّر لأنّه يقال يجزى العبد سعيه إلّا أنّه ينبغي الالتفات إلى أنّه يقال مثلا جزاه الله على عمله ويندر أن يقال جزاه الله عمله ، والجزاء الأوفى يمكن أن يكون مفعولا ثانيا أو مفعولا مطلقا.

٢٦١

لا ينافي لطف الله وتفضّله بأن يضاعف الجزاء على الأعمال الصالحة عشرة أضعاف أو عشرات الأضعاف ومئاتها وإلى ما شاء الله! وما فسّره بعضهم بأنّ «الجزاء الأوفى» معناه الجزاء الأكثر في شأن الحسنات ، لا يبدو صحيحا ، لأنّ كلام هذه الآية يشمل الذنوب والأعمال الطالحة ، بل الكلام فيها أساسا على الوزر والذنب «فلاحظوا بدقّة»!

* * *

بحوث

١ ـ ثلاثة اصول إسلامية مهمّة

أشير في الآيات ـ آنفة الذكر ـ إلى ثلاثة اصول من الأصول الإسلامية ، وقد أكّدت عليها الكتب السماوية السابقة وهي :

أ ـ كلّ إنسان مسئول عن ذنبه ووزره.

ب ـ ليس للإنسان في آخرته إلّا سعيه.

ج ـ يجزي الله كلّ إنسان على عمله الجزاء الأوفى.

وهكذا فإنّ القرآن يشجب الكثير من الأوهام والخرافات التي يهتمّ بها عامّة الناس أو السائدة بينهم وكأنّها مذهب عقائدي!

والقرآن لا ينفي ـ عن هذا الطريق ـ عقيدة العرب المشركين الذين يعتقدون أنّ بإمكان الإنسان أن يتحمّل وزر الآخر فحسب! بل ينفي الإعتقاد الذي كان سائدا ـ ولا يزال ـ بين المسيحيين ، وهو أنّ الله أرسل ابنه المسيح ليصلب ويذوق العذاب والألم ويحمل على عاتقه ذنوب المذنبين!.

وكذلك يحكم على جماعة من القسسة والرهبان بقبح عملهم لما كانوا يبيعونه من صكوك الغفران ومنح قطع الأراضي في الجنّة لمن يشاءون ، والعفو عن المخطئين!! فكلّ هذه الأمور باطلة.

٢٦٢

ومنطق العقل أيضا يقتضي أنّ كلّا مسئول عن عمله ، ويعود عليه عمله بالنفع أو الضرر.

وهذا المبدأ الإسلامي يؤدّي إلى أن يسعى الإنسان إلى الخير وأن يجتهد بدلا من الالتجاء إلى الخرافات أو أن يتحمّل آثامه غيره! وأن يتجنّب الذنب ويتّقي الله ، وإذا ما اتّفق له أن عثرت قدمه في معصية ، فعليه أن يبادر إلى التوبة ويجبر ذلك بالاستغفار والعمل الصالح!

وتأثير هذه العقيدة التربوية في الناس واضح تماما ولا يقبل الإنكار ، كما أنّ أثر تلك المعتقدات الجاهلية الفاسدة ـ المخرّب لا يخفى على أحد.

وصحيح أنّ هذه الآيات ناظرة إلى السعي والمثابرة والعمل للآخرة ورؤية الثواب في الآخرة! إلّا أنّ الملاك والمعيار الأصلي له يتجلّى في الدنيا أيضا أي أنّ الأفراد المؤمنين لا ينبغي لهم أن يتوقّعوا من الآخرين أن يعملوا لهم ويحلّوا مشاكلهم الاجتماعية ، بل عليهم أنفسهم أن ينهضوا ويجدّوا ويثابروا أبدا.

ويستفاد من هذه الآيات أصل حقوقي في المسائل الجزائية أيضا ، وهو أنّ الجزاء أو العقاب إنّما ينال المذنب الحقيقي ، وليس لأحد أن يجعل إثم غيره في ذمّته!

٢ ـ سوء الاستفادة من مفاد الآية :

كما بيّنا آنفا ، فإنّ هذه الآيات بقرينة الآيات التي قبلها والآيات التي بعدها ناظرة إلى سعي الإنسان لأمور الآخرة ، إلّا أنّه مع هذه الحال ـ لما كان ذلك على أساس حكم عقلي مسلّم به فيمكن تعميم السعي والجدّ حتّى يشمل السعي لأمور الدنيا ويشمل أيضا الجزاء الدنيوي ، إلّا أنّ ذلك لا يعني أن يتأثّر بعضهم بالمذاهب الاشتراكية فيقول : إنّ مفهوم الآية أنّ المالكية إنّما تحصل عن طريق العمل فحسب ، وبذلك يخطّي قانون الإرث والمضاربة والإجارة وأمثالها!

٢٦٣

والعجب أنّه ينادي بالإسلام ويستدلّ بآيات القرآن أيضا مع أنّ مسألة الإرث من الأصول الإسلامية القطعية ، وكذلك الخمس والزكاة! علما بأنّه لم يسع الوارث إلى إرثه ولا مستحقّو الزكاة أو الخمس إليهما ، ولم يقع سعي في مواطن النذر والوصايا ومع كلّ ذلك فإنّ القرآن الكريم ذكر هذه الأمور.

وبتعبير آخر أنّ هذا هو الأصل ، إلّا أنّه غالبا ما يوجد استثناء أمام كلّ أصل ، فمثلا الولد يرث أباه هذا أصل إسلامي ، لكن متى قتل الولد أباه أو خرج عن الإسلام حرم حقّ الإرث.

وكذلك نتيجة سعي كلّ شخص تعود عليه أو إليه ، هذا هو الأصل ، إلّا أنّه لا مانع من أن يعطي مقدار من المال للآخر طبقا لقرار الإجارة بين الطرفين ، وهو أصل قرآني(١) كذلك ، أو أن ينتقل المال عن طريق النذر أو الوصية ، كما صرّح به القرآن الكريم.

٣ ـ الجواب على سؤالين

يرد هنا سؤالان وينبغي أن نجيب عليها :

أوّلا : إذا كان ما يناله الإنسان يوم القيامة هو نتيجة سعيه ، فما معنى الشفاعة إذا؟!

والثّاني : إنّنا نقرأ في الآية (٢١) من سورة الطور في شأن أهل الجنّة :( أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) ! مع أنّ الذريّة لم تسع في هذا المضمار ، ثمّ إنّنا نجد في الرّوايات الإسلامية أنّ الإنسان إذا عمل عملا صالحا فإنّ نتيجة ذلك تنعكس على أبنائه أيضا.

والجواب على هذه الأسئلة جملة واحدة وهي أنّ القرآن يقول أنّ الإنسان

__________________

(١) جاء هذا الأصل في قصّة موسى وشعيب في سورة القصص الآية (٢٧).

٢٦٤

ليس له أن يأخذ أكثر من سعيه وعمله ، إلّا أنّه لا يمنع أن ينال بعض الناس اللائقين نعما أخر عن طريق اللطف والتفضّل الإلهي.

فالاستحقاق شيء ، والتفضّل شيء آخر! كما أنّ الله يضاعف الحسنات عشرات المرّات بل مئات المرّات وآلافها أحيانا.

ثمّ ـ الشفاعة ـ كما ذكرنا في محلّه ـ ليست اعتباطا ـ بل هي بحاجة إلى السعي والجدّ وإيجاد العلاقة بالشافع أيضا ، وكذلك الأمر في شأن ذريّة الأشخاص الصالحين ، فإنّ القرآن يقول أيضا :( وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ) !.

٤ ـ صحف إبراهيم وموسى

«الصحف» جمع صحيفة ، وتطلق هذه الكلمة على كلّ شيء واسع كما يقال مثلا صحيفة الوجه ، ثمّ استعملوا هذه الكلمة على صفحات الكتاب.

فالمراد من صحف موسى هي التوراة النازلة عليه وأمّا صحف إبراهيم فما نزل عليه من كتاب سماوي أيضا.

ينقل المرحوم الطبرسي في مجمع البيان حديثا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير سورة الأعلى وخلاصته ما يلي.

يسأل أبو ذرّ النّبي : يا رسول الله كم عدد الأنبياء؟

فيجيبه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم مائة الف نبي وأربعة وعشرون ألفا.

فيسأله ثانية عن الرسل منهم : كم المرسلون؟

فيجيبه النبي : ثلاثمائة وثلاثة عشر وبقيّتهم أنبياء «والرّسول هو المأمور بالإنذار والإبلاغ في حين أنّ النّبي أعمّ منه مفهوما».

ويسأل أبو ذرّ مرّة اخرى : كان آدم نبيّا؟!

فيجيب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم ، كلّمه الله وخلقه بيده.

فيسأله أبو ذرّ : كم أنزل الله من كتاب؟ فيجيب النبي : مائة وأربعة كتب أنزل الله

٢٦٥

منها على آدم عشر صحف ، وعلى شيث خمسين صحيفة وعلى أخنوخ وهو «إدريس» ثلاثين صحيفة ، وهو أوّل من خطّ بالقلم ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان»(١) .

٥ ـ المسؤولية عن الأعمال في كتب السابقين

الذي يلفت النظر أنّ التّوراة الحالية أوردت المضمون الذي ذكرته الآيات محلّ البحث في كتاب حزقيل إذ جاء فيه :

«الجاني الذي يذنب سيموت ، والابن لا يحمل عبء أبيه والأب لا يحمل ذنب ابنه»(٢) .

وجاء هذا المعنى ذاته أيضا في مورد القتل في سفر التثنية من التوراة.

«لا يقتل الآباء عوضا عن الأبناء ولا يقتل الأبناء عوضا عن الآباء ، فكلّ يقتل بذنبه»(٣) .

وبالطبع فإنّ كتب الأنبياء الأصلية ليست في متناول اليد ، وإلّا لكان من الممكن أن نعثر على موارد أكثر في شأن هذا الأصل وأمثاله.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٧٦ وذكر هذا الحديث في روح البيان أيضا ، ج ٩ ، ص ٢٤٦.

(٢) كتاب حزقيل ، الفصل ١٨ ص ٢٠.

(٣) التوراة ، سفر التثنية ، باب ٢٤ الرقم ١٦.

٢٦٦

الآيات

( وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) )

التّفسير

كلّ شيء ينتهى إليه :

في هذه الآيات تتجلّى بعض صفات الله التي ترشد الإنسان إلى مسألة التوحيد وكذلك المعاد أيضا.

ففي هذه الآيات وإكمالا للبحوث الواردة في شأن جزاء الأعمال يقول القرآن :( وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ) .

وليس الحساب والثواب والجزاء في الآخرة بيد قدرته فحسب ، فإنّ الأسباب والعلل جميعها تنتهي سلسلتها إلى ذاته المقدّسة ، وجميع تدبيرات هذا العالم تنشأ من تدبيراته ، وأخيرا فإنّ ابتداء هذا العالم والموجودات وانتهاؤها كلّها

٢٦٧

منه وإليه ، وتعود إلى ذاته المقدّسة.

ونقرأ في بعض الرّوايات في تفسير هذه الآية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا»(١) .

أي لا تتكلّموا في ذات الله فإنّ العقول تحار فيه ولا تصل إلى حدّ فإنّه لا يمكن للعقول المحدودة أن تفكّر في ما هو غير محدود لأنّه مهما فكّرت العقول فتفكيرها محدود وحاشا لله أن يكون محدودا.

وبالطبع فإنّ هذا التّفسير يبيّن مفهوما آخر لهذه الآية ولا ينافي ما ذكرناه آنفا ويمكن الجمع بين المفهومين في الآية.

ثمّ يضيف القرآن في الآية التالية مبيّنا حاكمية الله في أمر ربوبيته وانتهاء امور هذا العالم إليه فيقول :( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ) (٢) ( مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى ) !

وهذه الآيات الأربع وما قبلها في الحقيقة هي بيان جامع وتوضيح طريف لمسألة انتهاء الأمور إليه وتدبيره وربوبيته ، لأنّها تقول : إنّ موتكم وحياتكم بيده واستمرار النسل عن طريق الزوجين بيده ، وكلّ ما يحدث في الحياة فبأمره ، فهو يضحك ، وهو يبكي ، وهو يميت ، وهو يحيي ، وهكذا فإنّ أساس الحياة والمعوّل عليه من البداية حتّى النهاية هو ذاته المقدّسة.

وقد جاء في بعض الأحاديث ما يوسع مفهوم الضحك والبكاء في هذه الآية ففسّرت بأنّه سبحانه : أبكى السماء بالمطر وأضحك الأرض بالنبات(٣) .

وقد أورد بعض الشعراء هذا المضمون في شعره فقال :

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم طبقا لما جاء في نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٧٠.

(٢) هذه الأفعال وإن جاءت بصيغة الماضي إلّا أنّها تعطي معنى الفعل المضارع أيضا والدلالة على الدوام (فلاحظوا بدقّة).

(٣) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٧٢.

٢٦٨

انّ فصل الربيع فصل جميل

تضحك الأرض من بكاء السماء

وما يسترعي النظر أنّ القرآن أشار إلى صفتي الضحك والبكاء دون سائر أفعال الإنسان ، لأنّ هاتين الصفتين خاصّتان بالإنسان وغير موجودتين في الحيوانات الاخر أو نادرتان جدّا.

أمّا تصوير انفعالات الإنسان عند الضحك أو البكاء وعلاقتهما بالتغيّرات في نفس الإنسان وروحه فانّها غريبة وعجيبة جدّا ، وكلّ هذه الأمور في مجموعها يمكن أن تكون آية واضحة من آيات المدبّر الحقّ ، بالإضافة إلى التناسب الموجود بين الضحك والبكاء والحياة والفناء!

وعلى كلّ حال ، فانتهاء جميع الأمور إلى تدبير الله وربوبيته لا ينافي أصل الإختيار وحرية إرادة الإنسان ، لأنّ الإختيار وحرية الإرادة في الإنسان أيضا من قبل الله وتدبيره وتنتهي إليه!.

وبعد ذكر الأمور المتعلّقة بالربوبية والتدبير من قبل الله يتحدّث القرآن عن موضوع المعاد فيقول :( وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى ) .

«النشأة» : معناها الإيجاد والتربية ، و «النشأة الاخرى» ليست شيئا سوى القيامة!

والتعبير بـ «عليه» من جهة أنّ الله لمّا خلق الناس وحمّلهم الوظائف والمسؤوليات وأعطاهم الحرية وكان بينهم المطيعون وغير المطيعون والظلمة والمظلومون ولم يبلغ أي من هؤلاء جزاءه النهائي في هذا العالم ، اقتضت حكمته أن تكون نشأة اخرى للتحقّق العدالة.

أضف إلى ذلك فإنّ الحكيم لا يخلق هذا العالم الواسع لأيّام أو سنوات محدودة بما فيها من مسائل غير منسجمة ، فلا بدّ أن يكون مقدّمة لحياة أوسع تكمن فيها قيمة هذا الخلق الواسع ، وبتعبير آخر إذا لم تكن هناك نشأة اخرى فإيجاد هذا العالم لا يبلغ هدفه النهائي!

٢٦٩

وممّا ينبغي الالتفات إليه أنّ الله سبحانه جعل هذا الوعد لعباده وعدا محتوما على نفسه ، وصدق كلام الله يوجب أن لا يخلف وعده.

ثمّ يضيف القرآن في الآية التالية قائلا :( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى ) فالله سبحانه لم يرفع حاجات الإنسان المادية عنه بلطفه العميم فحسب ، بل أولاده غنى يرفع عنه حاجاته المعنوية من امور التربية والتعليم والتكامل عن طريق إرسال الرسل إليه وإنزال الكتب السماوية وإعطائه المواهب العديدة.

«وأغنى» : فعل مشتق من غني ومعناه عدم الحاجة.

«وأقنى» : فعل مشتقّ من قنية على وزن جزية ، ومعناها الأموال التي يدّخرها الإنسان(١) .

فيكون معنى الآية على هذا النحو : هو أغنى أي رفع الحاجات الفعلية ، وأقنى معناه إيلاء المواهب التي تدخّر سواء في الأمور المادية كالحائط أو البستان والأملاك وما شاكلها ، أو الأمور المعنوية كرضا الله سبحانه الذي يعدّ أكبر «رأس مال» دائم!

وهناك تفسير آخر لأقنى ، وهو أنّه ما يقابل أغنى ، أي أنّ الغنى والفقر بيد قدرته ، نظير ذلك ما جاء في الآية (٢٦) من سورة الرعد :( اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ) .

إلّا أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع ما ورد عن «أقنى» من معنى في كتب اللغة والآية المذكورة في هذا الصدد لا يمكن أن تكون «شاهدا» على هذا التّفسير.

أمّا آخر آية من الآيات محلّ البحث فتقول :( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى ) .

والتعويل في القرآن على «الشعرى» النجم المعروف في السماء بالإضافة إلى أنّه أكثر النجوم لمعانا ويطّلع عند السحر في مقربة من الجوزاء ممّا يلفت النظر

__________________

(١) راجع المفردات للراغب ، مادّة قني.

٢٧٠

تماما هذا التعويل والتصريح به لأنّ طائفة من المشركين العرب كانت تعبده ، فالقرآن يشير إلى أنّ الأولى بالعبادة هو الله لأنّه ربّ الشعرى «وربّكم».

وينبغي الالتفات ـ ضمنا ـ أنّ هناك نجمين معروفين باسم الشعرى أحدهما إلى الجنوب ويدعى بنجم الشعرى اليماني «لأنّ اليمن جنوب الجزيرة العربية» والآخر نجم الشعرى الشامي الواقع في الجهة الشمالية «والشام شمال الجزيرة أيضا» إلّا أنّ المعروف والمشهور هو الشعرى اليماني.

وهناك لطائف ومسائل خاصّة في هذا النجم «الشعرى» سنتحدّث عنه بعد قليل.

* * *

بحوث

١ ـ كلّ الدلائل تشير إليه

إنّ ما تثيره هذه الآيات في الحقيقة إشارة إلى هذا المعنى ، وهو أنّ أي نوع من أنواع التدبير في هذا العالم إنّما يعود إلى ذات الله المقدّسة ، بدءا من مسألة الموت والحياة ، إلى خلق الإنسان من نطفة لا قيمة لها ، وكذلك الحوادث المختلفة التي تقع في حياة الإنسان فتضحكه تارة وتبكيه اخرى ، كلّ ذلك من تدبير الله سبحانه.

والنجوم والكواكب المشرقة في السماء تطلع وتغيب بأمره وتحت ربوبيته.

وفي الأرض الغنى وعدم الحاجة وما يقتنيه الإنسان كلّ ذلك يعود إلى ذاته المقدّسة.

وبالطبع فإنّ النشأة الاخرى بأمره أيضا ، لأنّها حياة جديدة وامتداد لهذه الحياة واستمرارها.

هذا البيان ـ يبرز خطّ التوحيد من جهة ومن ـ جهة اخرى ـ خطّ المعاد ، لأنّ خالق الإنسان من نطفة لا قيمة لها في الرحم قادر على تجديد حياته أيضا.

٢٧١

وبتعبير آخر ، إنّ جميع هذه الأمور كاشفة عن توحيد أفعال الله وتوحيد ربوبيته أجل كلّ هذي الأصداء من إيحائه!

٢ ـ عجائب نجم الشعرى :

«نجم الشعرى» كما أشرنا إليه آنفا من أشدّ النجوم في السماء لمعانا وإشراقا وهو معروف بنجم الشعرى اليماني ، لأنّه يقع في جهة جنوب الجزيرة العربية ، وحيث أنّ اليمن في جنوب الجزيرة أيضا فقد أطلق عليه «باليماني»!

وكانت طائفة من العرب كقبيلة «خزاعة» تقدّس هذا النجم وتعبده وتعتقد أنّه مبدأ الموجودات على الأرض فتأكيد القرآن على أنّ الله ربّ الشعرى هو لإيقاظ هذه القبيلة وأمثالها من غفوتها ، لئلّا يشتبه المخلوق بالخالق ويجعل المربوب مكان الربّ كما كانت القبيلة آنفة الذكر عليه.

هذا النجم العجيب الخلقة لإشراقه الكثير عدّ ملك النجوم وله أسرار وعجائب نشير إليها في هذا البحث مع ملاحظة أنّ هذه الحقائق كانت في ذلك العصر مجهولة عند العرب وغيرهم عن الشعرى فإنّ تأكيد القرآن على هذا الموضوع ذو معنى غزير!

أ ـ طبقا للتحقيقات التي أجريت في المراصد المعروفة في العالم عن «الشعرى» ظهر أنّ حرارة هذا النجم تبلغ ١٢٠ ألف درجة سانتيغراد!.

مع العلم أنّ حرارة سطح الشمس لا تتجاوز ٦٥٠٠ درجة سانتيغراد وهذا التفاوت بين الحرارتين يبيّن مدى حرارة الشعرى بالنسبة إلى الشمس.

ب ـ الجرم المخصوص لهذا النجم أثقل وزنا من الماء بمقدار خمسين ألف مرّة تقريبا ، أي أنّ وزن الليتر من الماء على الشعرى يعادل خمسين طنّا على سطح الأرض! مع أنّ من بين مجموع المنظومة الشمسية يعدّ كوكب عطارد أكثر الأجرام في وزنه النوعي ولا يتجاوز وزنه النوعي ستّة أضعاف الوزن النوعي للماء!

٢٧٢

فينبغي أن نعرف بهذا الوصف كم هذا النجم مثير للدهشة والعجب ، ومن أي عنصر يتألّف حتّى صار مضغوطا بهذا المستوى؟!

ج ـ يظهر نجم الشعرى ـ في قرننا ـ عند فصل الشتاء إلّا أنّ هذا النجم أو الكوكب كان يظهر في عصر منجمّي مصر في الصيف! وهو كوكب كبير يعادل عشرين ضعفا من كوكب الشمس ، ومسافته تبعد عن الأرض أكثر من مسافة الشمس بمقدار كبير وقد ذكروا أنّ مسافة بين الشعرى والأرض تعادل مليون مرّة المسافة بيننا وبين الشمس.

ونعرف أنّ سرعة النور في الثانية ٣٠٠ ألف ألف متر (ثلاثمائة ألف كيلومتر) وأنّ نور الشمس يصل إلينا خلال ثماني دقائق وثلاث عشرة ثانية مع أنّها تبعد عنّا مسافة خمسة عشر مليون كيلو «مترا» في حين أنّ شعاع الشعرى لا يصلنا إلّا بعد عشر سنين ، والآن قدّروا كم هي الفاصلة بين الشعرى والأرض!

د ـ لكوكب الشعرى نجم تابع له يدور حوله وهو من نجوم السماء الغامضة.

وأوّل من اكتشفه عالم يدعى بسل Besell عام ١٨٤٤ م إلّا أنّه رؤي عام ١٨٦٢ بالمجهر «التلسكوب» ويكمل هذا النجم دورته حول الشعرى في ٥٠ عاما(١) .

كلّ هذا يدلّ أنّ تعابير القرآن إلى أيّ مدى عميقة وذات معنى غزير ، وفي طيّات تعابيره حقائق كامنة إذا لم يقدّر لها أن تعرف في عصر نزولها فإنّها تتجلّى بمرور الزمان.

٣ ـ حديث عميق المحتوى عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

جاء في بعض الأحاديث أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ بقوم يضحكون فقال : لو تعلمون

__________________

(١) دائرة المعارف الإسلامية مادّة ، شعرى.

٢٧٣

ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا فنزل عليه جبرئيل فقال : إنّ الله هو أضحك وأبكى فرجع النّبي إليهم وقال ما خطوت أربعين خطوة حتّى أتاني جبرئيل فقال : ائت هؤلاء ، فقل لهم : إنّ الله أضحك وأبكى(١) .

وفي ذلك إشارة إلى أنّ المؤمن لا يلزمه أن يبكي دائما ، فالبكاء من خوف الله في محلّه مطلوب ، والضحك في محلّه مطلوب أيضا ، لأنّهما من الله!

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه التعابير لا تنافي أصل الإختيار وحرية الإرادة في الإنسان ، لأنّ الهدف هو بيان علّة العلل وخالق هذه الغرائز والإحساسات!

وعند ما نقرأ في الآية ٨٢ من سورة التوبة قوله تعالى :( فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) فهذا الأمر وارد في المنافقين ، لأنّ الآيات التي قبل هذه الآية وبعدها تشهد بذلك!

الذي يلفت النظر أنّ القرآن يقسم في بداية السورة بالنجم فيقول :( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ) وفي الآية محلّ البحث يقول في بيان صفات الله :( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى ) فإذا جمعنا الآيتين جنبا إلى جنب فهمنا لم لا يصحّ عبادة الشعرى ، لأنّ كوكب الشعرى يأفل أيضا ، وهو أسير في قبضة قوانين الخلق!

* * *

__________________

(١) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٣٠.

٢٧٤

الآيات

( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) )

التّفسير

ألا تكفي دروس العبرة هذه؟!

هذه الآيات ـ كالآيات المتقدّمة ـ تستكمل المسائل المذكورة في الصحف الاولى وما جاء في صحف إبراهيم وموسى.

وكانت الآيات المتقدّمة قد ذكرت عشر مسائل ضمن فصلين :

الأوّل : كان ناظرا إلى مسئولية كلّ إنسان عن أعماله.

الثاني : ناظر إلى انتهاء جميع الخطوط والحوادث إلى الله سبحانه! أمّا الآيات محلّ البحث فتتحدّث عن مسألة واحدة ـ وإن شئت قلت ـ تتحدّث عن موضوع واحد ذلك هو مجازاة أربع امم من الأمم المنحرفة الظالمة وإهلاكهم ، وفي ذلك إنذار لأولئك الذين يلوون رؤوسهم عن طاعة الله ولا يؤمنون بالمبدأ والمعاد(١) .

__________________

(١) ينبغي الالتفات بأنّ هذه المسائل أو المواضيع المشار إليها في القرآن في أحد عشر فصلا ، كلّها بدأت بأنّ : فأوّلها جاء

٢٧٥

فتبدأ الآية الاولى من الآيات محلّ البحث فتقول :( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى ) وصف عاد بـ «الاولى» إمّا لقدمها حتّى أنّ العرب تطلق على كلّ قديم أنّه «عاديّ» أو لوجود امّتين في التاريخ باسم «عاد» والامّة المعروفة التي كانت نبيّها هودعليه‌السلام تدعى بـ «عاد الاولى»(١) .

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا :( وَثَمُودَ فَما أَبْقى ) .

ويقول في شأن قوم نوح :( وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى ) .

لأنّ نبيّهم نوحا عاش معهم زمانا طويلا ، وبذل قصارى جهده في إبلاغهم ونصحهم ، فلم يستجب لدعوته إلّا قليل منهم ، وأصرّوا على شركهم وكفرهم وعتوّهم واستكبار هم وإيذائهم نبيّهم نوحا وتكذيبهم إيّاه وعبادة الأوثان بشكل فظيع كما سنعرض تفصيل ذلك في تفسير سورة نوح إن شاء الله.

وأمّا رابعة الأمم فهي «قوم لوط» المشار إليهم بقوله تعالى :( وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى ) .

والظاهر أنّ زلزلة شديدة أصابت حيّهم وقريتهم فقذفت عماراتهم نحو السماء بعد اقتلاعها من الأرض وقلبتها على الأرض ، وطبقا لبعض الرّوايات كان جبرئيل قد اقتلعها بإذن الله وجعل عاليها سافلها ودمّرها تدميرا( فَغَشَّاها ما غَشَّى ) (٢) .

أجل لقد أمطروا بحجارة من السماء ، فغشّت حيّهم وعماراتهم المنقلبة ودفنتها عن آخرها.

وبالرغم من أنّ التعبير في هذه الآية والآية السابقة لم يصرّح بقوم لوط ، إلّا

__________________

في الآية ٣٨ ألا تزر وازرة وزر اخرى وآخرها وأنّه أهلك عادا الاولى.

(١) مجمع البيان وروح المعاني ، وتفسير الرازي.

(٢) «ما» في ما غشّى يمكن أن تكون مفعولا به أو فاعلا نظير والسماء وما بناها إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أكثر انسجاما مع ظاهر الآية وعلى كلّ حال فإنّ هذا التعبير يأتي للتهويل!

٢٧٦

أنّ المفسّرين فهموا منه كما فهموا من الآية ٧٠ من سورة التوبة والآية ٩ من سورة الحاقة هذا المعنى من عبارة المؤتفكات ، وقد احتمل بعضهم أنّه هذا التعبير يشمل كلّ المدن المقلوبة والنازل عليها العذاب من السماء ، إلّا أنّ آيات القرآن الاخر تؤيّد ما ذهب إليه المشهور بين المفسّرين!.

وقد جاء في الآية (٨٢) من سورة هود :( فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ) !

وجاء في تفسير علي بن إبراهيم أنّ المؤتفكة «المدينة المقلوبة» هي «البصرة»! لأنّه ورد في رواية أنّ أمير المؤمنين عليا خاطب أهلها بالقول : يا أهل البصرة ويا أهل المؤتفكة ويا جند المرأة وأتباع البهيمة!

غير أنّه من المعلوم أنّ هذا التعبير في كلام الإمام عليعليه‌السلام هو من باب التطبيق والمصداق ، لا التّفسير ، لاحتمال أن يكون أهل البصرة يومئذ فيهم شبه بأهل المؤتفكة من الناحية الأخلاقية وما ابتلي به قوم لوط من عذاب الله!

وفي ختام هذا البحث يشير القرآن إلى مجموع النعم الوارد ذكرها في الآيات المتقدّمة ويلمح إليها بصورة استفهام إنكاري قائلا :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى ) ؟

فهل تشّك وتتردّد بنعم الله ، كنعمة الحياة أو أصل نعمة الخلق والإيجاد ، أو نعمة أنّ الله هذه لا يأخذ أحدا بوزر أحد ، وما جاء في الصحف الاولى وأكّده القرآن؟!

وهل من شاكّ بهذه النعمة ، وهي أنّ الله أبعدكم عن البلاء الذي عمّ الأمم السابقة بكفرهم وشملكم بعفوه ورحمته؟!

أو هل هناك شكّ في نعمة نزول القرآن وموضوع الرسالة والهداية؟

صحيح أنّ المخاطب بالآية هو شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ مفهومها شامل لجميع المسلمين ، بل الهدف الأصلي من هذه الآية إفهام الآخرين.

٢٧٧

«تتمارى»(١) مشتقّ من تماري ومعناه المحاجة والمجادلة المقرونة بالشكّ والتردّد!

«آلاء» جمع : ألأ ، أو إلي ـ على وزن فعل ـ والألئ معناها النعمة وبالرغم من أنّ بعض ما جاء في الآيات المتقدّمة ومن ضمنها إهلاك الأمم السابقة وتعذيبهم ليس مصداقا للنعمة إلّا أنّه من جهة كونه درسا للعبرة «للآخرين» ولأنّ الله لم يعذّب المسلمين وحتّى الكفّار المعاصرين لهم بذلك العذاب يمكن اعتبار ذلك نعمة عظيمة.

* * *

__________________

(١) بالرغم من أنّ باب التفاعل في اللغة العربية يدلّ على اشتراك طرفين في الفعل ، إلّا أن تتمارى هنا مخاطب به شخص واحد ، وهو أمّا لتعدّد الحالات أو للتأكيد «فلاحظوا بدقّة».

٢٧٨

الآيات

( هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢) )

التّفسير

اسجدوا له جميعا

تعقيبا على الآيات المتقدّمة التي كانت تتحدث عن إهلاك الأمم السالفة لظلمهم ، تتوجّه هذه الآيات ـ محلّ البحث ـ إلى المشركين ، والكفّار ومنكري دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتخاطبهم بالقول :( هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى ) أي النّبي أو القرآن نذير كمن سبقه من المنذرين.

وقوله عن «القرآن أو النّبي «هذا نذير من النذر الاولى» يعني أنّ رسالة محمّد وكتابه السماوي لم يكن (أي منهما) موضوعا لم يسبق إليه ، فقد أنذر الله أمما بمثله في ما مضى من القرون ، فعلام يكون ذلك مثار تعجّبكم؟

وقال بعض المفسّرين إنّ المراد من( هذا نَذِيرٌ ) هو الإشارة إلى الإخبار

٢٧٩

الوارد في الآيات المتقدّمة عن نهاية الأمم السالفة ، لأنّ هذا الإخبار بنفسه نذير أيضا ، إلّا أنّ التّفسيرين السابقين أنسب كما يبدو.

ومن أجل أن يلتفت المشركون والكفّار إلى الخطر المحدق بهم ويهتّموا به أكثر يضيف القرآن قائلا :( أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ) .

أجل ، فقد اقترب وعد القيامة فأعدّوا أنفسكم للحساب ، والتعبير بـ «الآزفة» عن القيامة هو لاقترابها وضيق وقتها ، لأنّ الكلمة هذه مأخوذة من الأزف على وزن نجف. ومعناه ضيق الوقت ، وبالطبع فإنّ مفهومه يحمل الاقتراب أيضا

وتسمية القيامة بالآزفة في القرآن بالإضافة إلى هذه الآية محلّ البحث ، واردة في الآية ١٨ من سورة غافر أيضا وهو تعبير بليغ وموقظ ، وهذا المعنى جاء بتعبير آخر في سورة القمر (الآية الاولى)( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ) ، وعلى كلّ حال فإنّ اقتراب القيامة مع الأخذ بنظر الإعتبار عمر الدنيا المحدود والقصير يمكن إدراكه بوضوح ، خاصّة ما ورد أنّ من يموت تقوم قيامته الصغرى.

ثمّ يضيف القرآن قائلا : أنّ المهمّ هو أنّه لا أحد غير الله بإمكانه إغاثة الناس في ذلك اليوم والكشف عمّا بهم من شدائد :( لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ ) (١) .

«الكاشفة» هنا معناه مزيحة الشدائد. إلّا أنّ بعضهم فسّرها بأنّها العامل لتأخير القيامة ، وبعضهم فسّرها بأنّها الكاشفة عن تاريخ وقوع يوم القيامة ، إلّا أنّ المعنى الأوّل أنسب ظاهرا.

وعلى كلّ حال ، فالحاكم والمالك وصاحب القدرة في ذلك الحين وكلّ حين هو الله سبحانه ، فإذا أردت النجاة فالتجئوا إليه وإلى لطفه وإذا طلبتم الدّعة والأمان فاستظلّوا بالإيمان به.

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا :( أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ) .

__________________

(١) الضمير في لها يعود على الآزفة وتأنيث الكاشفة ، لأنّها صفة للنفس المحذوفة ، وقال آخرون هي تاء المبالغة كالتاء في العلامة.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس.

قوله: إنّ إبراهيم نظر إلى جيفة إلى قوله فقال: يا ربّ أرني الخ، بيان للشبهة الّتي دعته إلى السؤال وهى تفرّق أجزاء الجسد بعد الموت تفرّقاً يؤدّي إلى تغيّرها وانتقالها إلى أمكنة وحالات متنوّعة لا يبقى معها من الأصل شئ.

فإن قلت: ظاهر الرواية: أنّ الشبهة كانت هي شبهة الآكل والمأكول، حيث اشتملت على وثوب بعضها على بعض، وأكل بعضها بعضاً، ثمّ فرّعت على ذلك تعجّب إبراهيم وسؤاله.

قلت: الشبهة شبهتان - إحداهما - تفرّق أجزاء الجسد وفناء أصلها من الصور والأعراض وبالجملة عدم بقائها حتّى تتميّز وتركبها الحياة - وثانيتهما - صيرورة أجزاء بعض الحيوان جزء من بدن بعض آخر فيؤدّي إلى استحالة إحياء الحيوانين ببدنيهما تامّين معاً لأنّ المفروض أنّ بعض بدن أحدهما بعينه بعض لبدن الآخر، فكلّ واحد منهما اُعيد تامّاً بقي الآخر ناقصاً لا يقبل الإعادة، وهذه هي شبهة الآكل والمأكول.

وما أجاب الله سبحانه به - وهو تبعيّة البدن للروح - وإن كان وافياً لدفع الشبهتين جميعاً، إلّا أنّ الّذي أمر به إبراهيم على ما تحكيه الآية لا يتضمّن مادّة شبهة الآكل والمأكول، وهو أكل بعض الحيوان بعضاً، بل إنّما تشتمل على تفرّق الأجزاء واختلاطها وتغيّر صورها وحالاتها، وهذه مادّة الشبهة الاُولى، فالآية إنّما تتعرّض لدفعها وإن كانت الشبهتان مشتركتين في الاندفاع بما اُجيب به في الآية كما مرّ، وما اشتملت عليه الرواية من أكل البعض للبعض غير مقصود في تفسير الآية.

قولهعليه‌السلام فأخذ إبراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب، وفي بعض الروايات أنّ الطيور كانت هي النسر والبطّ والطاووس والديك، رواه الصدوق في العيون عن الرضاعليه‌السلام ونقل عن مجاهد وابن جريح وعطاء وابن زيد، وفي بعضها أنّها الهدهد والصرد والطاووس والغراب، رواه العيّاشيّ عن صالح بن سهل عن الصادقعليه‌السلام وفي بعضها: أنّها النعامة والطاووس والوزّة والديك، رواه العيّاشيّ عن معروف بن خرّبوذ

٤٠١

عن الباقرعليه‌السلام ونقل عن ابن عبّاس، وروي من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس أيضاً: أنّها الغرنوق والطاووس والديك والحمامة، والّذي تشترك فيه جميع الروايات والأقوال: الطاووس.

قولهعليه‌السلام : وفرّقهن على عشرة جبال، كون الجبال عشرة ممّا اتّفقت عليه الأخبار المأثورة عن أئمّة أهل البيت وقيل إنّها كانت أربعة وقيل سبعة.

وفي العيون مسنداً عن عليّ بن محمّد بن الجهم قال حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليّ بن موسى فقال له المأمون: يا بن رسول الله أليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله أن قال له فأخبرني عن قول الله: ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي، قال الرضا: إنّ الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم: أنّي متّخذ من عبادي خليلاً إن سألني إحياء الموتى أجبته فوقع في قلب إبراهيم أنّه ذلك الخليل فقال: ربّ أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي بالخلّة، الحديث.

اقول: وقد تقدّم في أخبار جنّة آدم كلام في عليّ بن محمّد بن الجهم وفي هذه الرواية الّتي رواها عن الرضاعليه‌السلام فارجع.

واعلم: أنّ الرواية لا تخلو عن دلالة ما على أنّ مقام الخلّة يستلزم استجابة الدعاء، واللفظ يساعد عليه فإنّ الخلّة هي الحاجة، والخليل إنّما يسمّى خليلاً لأنّ الصداقة إذا كملت رفع الصديق حوائجة إلى صديقه، ولا معنى لرفعها مع عدم الكفاية والقضاء.

٤٠٢

( سورة البقرة آية ٢٦١ - ٢٧٤)

مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦١ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٦٢ ) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ( ٢٦٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( ٢٦٤ ) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٢٦٥ ) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( ٢٦٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( ٢٦٧ ) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦٨ ) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو

٤٠٣

الْأَلْبَابِ ( ٢٦٩ ) وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( ٢٧٠ ) إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( ٢٧١ ) لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ( ٢٧٢ ) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ٢٧٣ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٧٤ )

( بيان)

سياق الآيات من حيث اتّحادها في بيان أمر الإنفاق، ورجوع مضامينها وأغراضها بعضها إلى بعض يعطي أنّها نزلت دفعة واحدة، وهي تحثّ المؤمنين على الإنفاق في سبيل الله تعالى، فتضرب أوّلاً مثلاً لزيادته ونموّه عند الله سبحانه: واحد بسبعمائة، وربّما زاد على ذلك بإذن الله، وثانياً مثلاً لكونه لا يتخلّف عن شأنه على أيّ حال وتنهى عن الرياء في الإنفاق وتضرب مثلاً للإنفاق ريائاً لا لوجه الله، وأنّه لا ينمو نمائاً ولا يثمر أثراً، وتنهي عن الإنفاق بالمنّ والأذى إذ يبطلان أثره ويحبطان عظيم أجره، ثمّ تأمر بأن يكون الإنفاق من طيّب المال لامن خبيثه بخلاً وشحّاً، ثمّ تعيّن المورد الّذي توضع فيه هذه الصنيعة وهو الفقراء المحضرون في سبيل الله، ثمّ تذكر ما لهذا الإنفاق من عظيم الأجر عند الله.

٤٠٤

وبالجملة الآيات تدعو إلى الإنفاق، وتبيّن أوّلاً وجهه وغرضه وهو أن يكون لله لا للناس، وثانياً صورة عمله وكيفيّته وهو أن لا يتعقّبه المنّ والأذى، وثالثاً وصف مال الإنفاق وهو أن يكون طيّباً لا خبيثاً، ورابعاً نعت مورد الإنفاق وهو أن يكون فقيراً اُحصر في سبيل الله، وخامساً ما له من عظيم الأجر عاجلاً وآجلاً.

( كلام في الإنفاق)

الإنفاق من أعظم ما يهتمّ بأمره الإسلام في أحد ركنيه وهو حقوق الناس وقد توسّل إليه بأنحاء التوسّل إيجاباً وندباً من طريق الزكاة والخمس والكفّارات الماليّة وأقسام الفدية والإنفاقات الواجبة والصدقات المندوبة، ومن طريق الوقف والسكنى والعمرى والوصايا والهبة وغير ذلك.

وإنّما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة الّتي لا تستطيع رفع حوائج الحياة من غير إمداد ماليّ من غيرهم، ليقرب اُفقهم من اًفق أهل النعمة والثروة، ومن جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال والزينة في مظاهر الحياة بما لا يقرب من المعروف ولا تناله أيدي النمط الأوسط من الناس، بالنهي عن الإسراف والتبذير ونحو ذلك.

وكان الغرض من ذلك كلّه ايجاد حياة نوعيّة متوسّطة متقرّبة الأجزاء متشابهة الأبعاض، تحيى ناموس الوحدة والمعاضدة، وتميت الإرادات المتضادّة وأضغان القلوب ومنابت الأحقاد، فإنّ القرآن يرى أنّ شأن الدين الحقّ هو تنظيم الحياة بشؤونها، وترتيبها ترتيباً يتضمّن سعادة الإنسان في العاجل والآجل، ويعيش به الإنسان في معارف حقّة، وأخلاق فاضلة، وعيشة طيّبة يتنعّم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في الدنيا، ويدفع بها عن نفسه المكاره والنوائب ونواقص المادّة.

ولا يتمّ ذلك إلّا بالحياة الطيّبة النوعيّة المتشابهة في طيبها وصفائها، ولا يكون ذلك إلّا بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة، ولا يكمل ذلك إلّا بالجهات

٤٠٥

الماليّة والثروة والقنية، والطريق إلى ذلك إنفاق الأفراد ممّا اقتنوه بكدّ اليمين وعرق الجبين، فإنّما المؤمنون إخوة، والأرض لله، والمال ماله.

وهذه حقيقة أثبتت السيرة النبويّة على سائرها أفضل التحيّة صحّتها واستقامتها في القرار والنماء والنتيجة في برهة من الزمان وهي زمان حياتهعليه‌السلام ونفوذ أمره.

وهي الّتي يتأسّف عليها ويشكو انحراف مجراها أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام إذ يقول: وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلّا إدباراً، والشرّ فيه إلّا إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلّا طمعاً، فهذا أو ان قويت عدّته وعمّت مكيدته - وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلّا فقيراً يكايد فقراً؟ أو غنيّاً بدّل نعمة الله كفراً؟ أو بخيلاً اتّخذ البخل بحقّ الله وفراً أو متمرّداً كأنّ باذنه عن سمع المواعظ وقراً؟ (نهج البلاغة).

وقد كشف توالي الأيّام عن صدق القرآن في نظريّته هذه - وهي تقريب الطبقات بإمداد الدانية بالإنفاق ومنع العالية عن الإتراف والتظاهر بالجمال - حيث إنّ الناس بعد ظهور المدنيّة الغربيّة استرسلوا في الإخلاد إلى الأرض، والإفراط في استقصاء المشتهيات الحيوانيّة واستيفاء الهوسات النفسانيّة، وأعدّوا له ما استطاعوا من قوّة، فأوجب ذلك عكوف الثروة وصفوة لذائذ الحياة على أبواب اُولي القوّة والثروة، ولم يبق بأيدي النمط الأسفل إلّا الحرمان، ولم يزل النمط الأعلى يأكل بعضه بعضاً حتّى تفرّد بسعادة الحياة المادّيّة نزر قليل من الناس وسلب حقّ الحياة من الأكثرين وهم سواد الناس، وأثار ذلك جميع الرذائل الخلقيّة من الطرفين، كلّ يعمل على شاكلته لا يبقي ولا يذر، فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين، واشتباك النزاع والنزال بين الفريقين، والتفاني بين الغنيّ والفقير والمنعم والمحروم والواجد والفاقد، ونشبت الحرب العالميّة الكبرى، وظهرت الشيوعيّة، وهجرت الحقيقة والفضيلة وارتحلت السكن والطمأنينة وطيب الحياة من بين النوع وهذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الإنسانيّ، وما يهدّد النوع بما يستقبله أعظم وأفظع.

ومن أعظم العوامل في هذا الفساد انسداد باب الإنفاق وانفتاح أبواب الرباء الّذي

٤٠٦

سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آيات تالية لهذه الآيات أعني آيات الإنفاق ويذكر أنّ في رواجه فساد الدنيا وهو من ملاحم القرآن الكريم، وقد كان جنيناً أيّام نزول القرآن فوضعته حامل الدنيا في هذه الأيّام.

وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبّر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إذ قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ - إلى ان قال -فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ - إلى أن قال -ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) الآيات الروم - ٣٠ - ٤٣، وللآيات نظائر في سور هود ويونس والإسراء والأنبياء وغيرها تنبئ عن هذا الشأن، سيأتي بيانها إنشاء الله.

وبالجملة هذا هو السبب فيما يترآئى من هذه الآيات أعني آيات الإنفاق من الحثّ الشديد والتأكيد البالغ في أمره.

قوله تعالى: ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ) الخ، المراد بسبيل الله كلّ أمر ينتهي إلى مرضاته سبحانه لغرض دينيّ فعل الفعل لأجله، فإنّ الكلمة في الآية مطلقة، وإن كانت الآية مسبوقة بآيات ذكر فيها القتال في سبيل الله، وكانت كلمة، في سبيل الله، مقارنة للجهاد في غير واحد من الآيات، فإنّ ذلك لا يوجب التخصيص وهو ظاهر.

وقد ذكروا أنّ قوله تعالى: كمثل حبّة أنبتت الخ، على تقدير قولنا كمثل من

٤٠٧

زرع حبّة أنبتت الخ فإنّ الحبّة المنبتة لسبع سنابل مثل المال الّذي اُنفق في سبيل الله لا مثل من أنفق وهو ظاهر.

وهذا الكلام وإن كان وجيهاً في نفسه لكنّ التدبّر يعطي خلاف ذلك فإنّ جلّ الأمثال المضروبة في القرآن حالها هذا الحال فهو صناعة شائعه في القرآن كقوله تعالى:( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ) البقرة - ١٧١، فإنّه مثل من يدعو الكفّار لامثل الكفّار، وقوله تعالى:( نَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ ) الآية يونس - ٢٤، وقوله تعالى:( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ) النور - ٣٥، وقوله تعالى في الآيات التالية لهذه الآية: فمثله كمثل صفوان الآية: وقوله تعالى: مثل الّذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنّة بربوة الآية إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.

وهذه الأمثال المضروبة في الآيات تشترك جميعاً في أنّها اقتصر فيها على مادّة التمثيل الّذي يتقوّم بها المثل مع الإعراض عن باقي أجزاء الكلام للإيجاز.

توضيحه: أنّ المثل في الحقيقة قصّة محقّقة أو مفروضة مشابهة لاُخرى في جهاتها يؤتي بها لينتقل ذهن المخاطب من تصوّرها إلى كمال تصوّر الممثّل كقولهم: لا ناقة لي ولا جمل، وقولهم: في الصيف ضيّعت اللبن من الأمثال الّتي لها قصص محقّقة يقصد بالتمثيل تذكّر السامع لها وتطبيقها لمورد الكلام للاستيضاح، ولذا قيل: إنّ الأمثال لا تتغيّر، وكقولنا: مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل من زرع حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مأة حبّة، وهي قصّة مفروضة خياليّة.

والمعنى الّذي يشتمل عليه المثل ويكون هو الميزان الّذي يوزن به حال الممثّل ربّما كان تمام القصّة الّتي هي المثل كما في قوله تعالى:( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ) الآية إبراهيم - ٢٦، وقوله تعالى:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) الجمعة - ٥، وربّما كان بعض القصّة ممّا يتقوّم به غرض التمثيل وهو الّذي نسمّيه مادّة التمثيل، وإنّما جئ بالبعض الآخر لتتميم القصّة كما في المثال الأخير (مثال الإنفاق والحبّة) فإنّ مادّة التمثيل إنّما هي

٤٠٨

الحبة المنبتة لسبعمأة حبّة وإنّما ضممنا إليها الّذي زرع لتتميم القصّة.

وما كان من أمثال القرآن مادّة التمثيل فيه تمام المثل فإنّه وضع على ما هو عليه، وما كان منها مادّة التمثيل فيه بعض القصّة فإنّه اقتصر على مادّة التمثيل فوضعت موضع تمام القصّة لأنّ الغرض من التمثيل حاصل بذلك، على ما فيه من تنشيط ذهن السامع بفقده أمراً و وجدانه أمراً آخر مقامه يفي بالغرض منه، فهو هو بوجه وليس به بوجه، فهذا من الإيجاز بالقلب على وجه لطيف يستعمله القرآن.

قوله تعالى: ( أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ) ، السنبل معروف وهو على فنعل، قيل الأصل في معنى مادّته الستر سمّي به لأنّه يستر الحبّات الّتي تشتمل عليها في الأغلفة.

ومن أسخف الإشكال ما اُورد على الآية أنّه تمثيل بما لا تحقّق له في الخارج وهو اشتمال السنبلة على مأة حبّة، وفيه أنّ المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقّق مضمونة في الخارج فالأمثال التخيّليّة أكثر من أن تعدّ وتحصى، على أنّ اشتمال السنبلة على مأة حبّة وإنبات الحبّة الواحدة سبعمأة حبّة ليس بعزيز الوجود.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، أي يزيد على سبعمأة لمن يشاء فهو الواسع لا مانع من جوده ولا محدّد لفضله كما قال تعالى:( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) البقرة - ٢٤٥، فأطلق الكثرة ولم يقيّدها بعدد معيّن.

وقيل: إنّ معناه أنّ الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء فالمضاعفة إلى سبعمأة ضعف غاية ما تدلّ عليه الآية، وفيه أنّ الجملة على هذا يقع موقع التعليل، وحقّ الكلام فيه حينئذ أن يصدّر بإنّ كقوله تعالى:( اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ) المؤمن - ٦١، وأمثال ذلك.

ولم يقيّد ما ضربه الله من المثل بالآخرة بل الكلام مطلق يشمل الدنيا كالآخرة وهو كذلك والاعتبار يساعده، فالمنفق بشئ من ماله وإن كان يخطر بباله ابتدائاً أنّ المال قد فات عنه ولم يخلّف بدلاً، لكنّه لو تأمّل قليلاً وجد أنّ المجتمع الإنسانيّ

٤٠٩

بمنزلة شخص واحد ذو أعضاء مختلفة بحسب الأسماء والأشكال لكنّها جميعاً متّحدة في غرض الحياة، مرتبطة من حيث الأثر والفائدة، فإذا فقد واحد منها نعمة الصحّة والاستقامة، وعىّ في فعله أوجب ذلك كلال الجميع في فعلها، وخسرانها في أغراضها فالعين واليد وإن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم والفعل ظاهراً، لكنّ الخلقة إنّما جهّز الإنسان بالبصر ليميّز به الأشياء ضوئاً ولوناً وقرباً وبعداً فتتناول اليد ما يجب أن يجلبه الإنسان لنفسه، وتدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه، فإذا سقطت اليد عن التأثير وجب أن يتدارك الإنسان ما يفوته من عامّة فوائدها بسائر أعضائه فيقاسي أوّلاً كدّاً وتعباً لا يتحمّل عادة، وينقص من أفعال سائر الأعضاء بمقدار ما يستعملها في موضع العضو الساقط عن التأثير، وأمّا لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادّخره لبعض الأعضاء الاُخر كان في ذلك إصلاح حال الجميع، وعاد إليه من الفائدة الحقيقيّة أضعاف ما فاته من الفضل المفيد أضعافاً ربّما زاد على المآت والاُلوف بما يورث من إصلاح حال الغير، ودفع الرذائل الّتي يمكّنها الفقر والحاجة في نفسه، وإيجاد المحبّة في قلبه، وحسن الذكر في لسانه، والنشاط في عمله، والمجتمع يربط جميع ذلك ويرجعه إلى المنفق لا محالة، ولا سيّما إذا كان الإنفاق لدفع الحوائج النوعيّة كالتعليم والتربية ونحو ذلك، فهذا حال الإنفاق.

وإذا كان الإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضات الله كان النماء والزيادة من لوازمه من غير تخلّف، فإنّ الإنفاق لو لم يكن لوجه الله لم يكن إلّا لفائدة عائدة إلى نفس المنفق كإنفاق الغنيّ للفقير لدفع شرّه، أو إنفاق المثري الموسر للمعسر ليدفع حاجته ويعتدل حال المجتمع فيصفو للمثري المنفق عيشه، وهذا نوع استخدام للفقير واستثمار منه لنفع نفسه، ربّما أورث في نفس الفقير أثراً سيّئاً، وربّما تراكمت الآثار وظهرت فكانت بلوى، لكنّ الإنفاق الّذي لايراد به إلّا وجه الله ولا يبتغي فيه إلّا مرضاته خال عن هذه النواقص لا يؤثّر إلّا الجميل ولا يتعقّبه إلّا الخير.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ) الخ الإتباع اللحوق والإلحاق، قال تعالى:( فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ) الشعراء - ٦١،

٤١٠

أي لحقوهم، وقال تعالى:( وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ) القصص - ٤٢، أي ألحقناهم. والمنّ هو ذكر ما ينغّص المعروف كقول المنعم للمنعم عليه: أنعمت عليك بكذا وكذا ونحو ذلك، والأصل في معناه على ما قيل القطع، ومنه قوله تعالى:( لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) فصّلت - ٨، أي غير مقطوع، والأذى الضرر العاجل أو الضرر اليسير، والخوف توقّع الضرر، والحزن الغمّ الّذي يغلظ على النفس من مكروه واقع أو كالواقع.

قوله تعالى: ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ ) الخ المعروف من القول ما لا ينكره الناس بحسب العادة، ويختلف باختلاف الموارد، والأصل في معنى المغفرة هو الستر، والغنى مقابل الحاجة والفقر، والحلم السكوت عند المكروه من قول أو فعل.

وترجيح القول المعروف والمغفرة على صدقة يتبعها أذى ثمّ المقابلة يشهد بأنّ المراد بالقول المعروف الدعاء أو لفظ آخر جميل عند ردّ السائل إذا لم يتكلّم بما يسوء المسؤول عنه، والستر والصفح إذا شفّع سؤاله بما يسوئه وهما خير من صدقة يتبعها أذى، فإنّ أذى المنفق للمنفق عليه يدلّ على عظم إنفاقه والمال الّذي أنفقه في عينه، وتأثّره عمّا يسوئه من السؤال، وهما علّتان يجب أن تزاحا عن نفس المؤمن، فإنّ المؤمن متخلّق بأخلاق الله، والله سبحانه غنيّ لا يكبر عنده ما أنعم وجاد به، حليم لا يتعجّل في المؤاخذة على السيّئة، ولا يغضب عند كلّ جهالة، وهذا معنى ختم الآية بقوله: والله غنيّ حليم.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم ) الخ تدلّ الآية على حبط الصدقة بلحوق المنّ والأذى، وربّما يستدلّ بها على حبط كلّ معصية أو الكبيرة خاصّة لما يسبقها من الطاعات، ولا دلالة في الآية على غير المنّ والأذى بالنسبة إلى الصدقة وقد تقدّم إشباع الكلام في الحبط.

قوله تعالى: ( كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) ، لمّا كان الخطاب للمؤمنين، والمرائي غير مؤمن كما ذكره الله سبحانه لأنّه لا يقصد بأعماله وجه الله لم يعلّق النهي بالرئاء كما علّقه على المنّ والأذى، بل إنّما شبّه المتصدّق الّذي يتبع صدقته بالمنّ والأذى بالمرائي في بطلان الصدقة، مع أنّ عمل المرائي

٤١١

باطل من رأس وعمل المانّ والمؤذي وقع أوّلاً صحيحاً ثمّ عرضه البطلان.

واتّحاد سياق الأفعال في قوله: ينفق ماله، وقوله: ولا يؤمن من دون أن يقال: ولم يؤمن يدلّ على أنّ المراد من عدم إيمان المرائي في الإنفاق بالله واليوم الآخر عدم إيمانه بدعوة الإنفاق الّذي يدعو إليها الله سبحانه، ويعد عليه جزيل الثواب، إذ لو كان يؤمن بالداعي في دعوته هذه، وبيوم القيامة الظاهر فيه الجزاء لقصد في فعله وجه الله، وأحبّ واختار جزيل الثواب، ولم يقصد به رئاء الناس، فليس المراد من عدم إيمان المرائي عدم إيمانه بالله سبحانه رأساً.

ويظهر من الآية: أنّ الرياء في عمل يستلزم عدم الإيمان بالله واليوم الآخر فيه.

قوله تعالى: ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ ) إلى آخر الآية، الضمير في قوله: فمثله راجع إلى الّذي ينفق ماله رئاء الناس والمثل له، والصفوان والصفا الحجر الأملس وكذا الصلد، والوابل: المطر الغزير الشديد الوقع.

والضمير في قوله: لا يقدرون راجع إلى الّذي ينفق رئائاً لأنّه في معنى الجمع، والجملة تبيّن وجه الشبه وهو الجامع بين المشبّه والمشبّه به، وقوله تعالى: والله لا يهدي القوم الكافرين بيان للحكم بوجه عامّ وهو أنّ المرائي في ريائه من مصاديق الكافر، والله لا يهدي القوم الكافرين، ولذلك أفاد معنى التعليل.

وخلاصة معنى المثل: أنّ حال المرائي في إنفاقه رئائاً وفي ترتّب الثواب عليه كحال الحجر الأملس الّذي عليه شئ من التراب إذا اُنزل عليه وابل المطر، فإنّ المطر وخاصّة وابله هو السبب البارز لحياة الأرض واخضرارها وتزيّنها بزينة النبات، إلّا أنّ التراب إذا وقع على الصفوان الصلد لا يستقرّ في مكانه عند نزول الوابل بل يغسله الوابل ويبقى الصلد الّذي لا يجذب الماء، ولا يتربّى فيه بذر لنبات، فالوابل وإن كان من أظهر أسباب الحياة والنمو وكذا التراب لكن كون المحلّ صلداً يبطل عمل هذين السببين من غير أن يكون النقص والقصور من جانبهما فهذا حال الصلد.

وهذا حال المرائي فإنّه لمّا لم يقصد من عمله وجه الله لم يترتّب على عمله ثواب

٤١٢

وإن كان العمل كالإنفاق في سبيل الله من الأسباب البارزة لترتّب الثواب، فإنّه مسلوب الاستعداد لا يقبل قلبه الرحمة والكرامة.

وقد ظهر من الآية: أنّ قبول العمل يحتاج إلى نيّة الإخلاص وقصد وجه الله، وقد روى الفريقان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه قال: إنّما الأعمال بالنيّات.

قوله تعالى: ( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) ، ابتغاء المرضاة هو طلب الرضاء، ويعود إلى إرادة وجه الله، فإنّ وجه الشئ هو ما يواجهك ويستقبلك به، ووجهه تعالى بالنسبه إلى عبده الّذي أمره بشئ وأراده منه هو رضائه عن فعله وامتثاله، فإنّ الآمر يستقبل المأمور أوّلاً بالأمر فإذا امتثل استقبله بالرضاء عنه، فمرضات الله عن العبد المكلّف بتكليف هو وجهه إليه، فابتغاء مرضاة الله هو إرادة وجهه عزّوجلّ.

وأمّا قوله: وتثبيتاً من أنفسهم فقد قيل: إنّ المراد التصديق واليقين. وقيل: هو التثبّت أي يتثبّتون أين يضعون أموالهم، وقيل: هو التثبّت في الإنفاق فإن كان لله أمضى، وإن كان خالطه شئ من الرياء أمسك، وقيل: التثبيت توطين النفس على طاعة الله تعالى، وقيل: هو تمكين النفس في منازل الإيمان بتعويدها على بذل المال لوجه الله. وأنت خبير بأنّ شيئاً من الأقوال لا ينطبق على الآية إلّا بتكلّف.

والّذي ينبغي أن يقال - والله العالم - في المقام: هو أنّ الله سبحانه لمّا أطلق القول أوّلاً في مدح الإنفاق في سبيل الله، وأنّ له عند الله عظيم الأجر اعترضه أن استثنى منه نوعين من الإنفاق لا يرتضيهما الله سبحانه، ولا يترتّب عليهما الثواب، وهما الإنفاق ريائاً الموجب لعدم صحّة العمل من رأس والإنفاق الّذي يتبعه منّ أو أذى فإنّه يبطل بهما وإن انعقد أوّلاً صحيحاً، وليس يعرض البطلان. لهذين النوعين إلّا من جهة عدم ابتغاء مرضاة الله فيه من رأس، أو لزوال النفس عن هذه النيّة أعني ابتغاء المرضات ثانياً بعد ما كانت عليها أوّلاً، فأراد في هذه الآية بيان حال الخاصّة من أهل الإنفاق الخالصة بعد استثناء المرائين وأهل المنّ والأذى، وهم الّذين ينفقون أموالهم

٤١٣

ابتغاء وجه الله ثمّ يقرّون أنفسهم على الثبات على هذه النيّة الطاهرة النامية من غير أن يتبعوها بما يبطل العمل ويفسده.

ومن هنا يظهر أنّ المراد بابتغاء مرضاة الله أن لا يقصد بالعمل رئاء ونحوه ممّا يجعل النيّة غير خالصة لوجه الله، وبقوله تثبيتاً من أنفسهم تثبيت الإنسان نفسه على ما نواه من النيّة الخالصة، وهو تثبيت ناش من النفس واقع على النفس. فقوله تثبيتاً تميز وكلمة من نشويّة وقوله أنفسهم في معنى الفاعل، وما في معنى المفعول مقدّر. والتقدير تثبيتاً من أنفسهم لأنفسهم، أو مفعول مطلق لفعل من مادّته.

قوله تعالى: ( كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ ) إلى آخر الآية، الأصل في مادّة ربا الزيادة، والربوة بالحركات الثلاث في الراء الأرض الجيّدة الّتي تزيد وتعلو في نموّها، والاُكّل بضمّتين ما يؤكل من الشئ والواحدة أكلة، والطلّ أضعف المطر القليل الأثر.

والغرض من المثل أنّ الإنفاق الّذي اُريد به وجه الله لا يتخلّف عن أثرها الحسن البتّة، فإنّ العناية الإلهيّة واقعة عليه متعلّقة به لانحفاظ اتّصاله بالله سبحانه وإن كانت مراتب العناية مختلفة لاختلاف درجات النيّة في الخلوص، واختلاف وزن الأعمال باختلافها، كما أنّ الجنّة الّتي في الربوة إذا أصابها المطر لم تلبث دون أن تؤتي اُكلها إيتائاً جيّداً البتّة وإن كان إيتائها مختلفاً في الجودة باختلاف المطر النازل عليه من وابل وطلّ.

ولوجود هذا الاختلاف ذيّل الكلام بقوله: والله بما تعملون بصير أي لا يشتبه عليه أمر الثواب، ولا يختلط عليه ثواب الأعمال المختلفة فيعطي ثواب هذا لذاك وثواب ذاك لهذا.

قوله تعالى: ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) الخ، الودّ هو الحبّ وفيه معنى التمنّي، والجنّة: الشجر الكثير الملتفّ كالبستان سمّيت بذلك لأنّها تجنّ الأرض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه، ولذلك صحّ أن يقال: تجري من تحتها الأنهار، ولو كانت هي الأرض بما لها من الشجر مثلاً لم يصحّ ذلك

٤١٤

لإفادته خلاف المقصود، ولذلك قال تعالى في مثل الربوة وهي الأرض المعمورة:( رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) المؤمنون - ٥٠، وكرّر في كلامه قوله: جنّات تجري من تحتها الأنهار فجعل المعين (وهو الماء) فيها لاجارياً تحتها.

ومن في قوله: من نخيل وأعناب للتبيين ويفيد معنى الغلبة دون الاستيعاب، فإنّ الجنّة والبستان وما هو من هذا القبيل إنّما يضاف إلى الجنس الغالب فيقال جنّة العنب أو جنّة من أعناب إذا كان الغالب فيها الكرم وهي لا تخلو مع ذلك من شجر شتّى، ولذلك قال تعالى ثانياً: له فيها من كلّ الثمرات.

والكبر كبر السنّ وهو الشيخوخة، والذرّيّة الأولاد، والضعفاء جمع الضعيف، وقد جمع تعالى في المثل بين إصابة الكبر ووجود الذرّيّة الضعفاء لتثبيت مسيس الحاجة القطعيّة إلى الجنّة المذكورة مع فقدان باقي الأسباب الّتي يتوصّل إليها في حفظ سعادة الحياة وتأمين المعيشة، فإنّ صاحب الجنّة لو فرض شابّاً قويّاً لأمكنه أن يستريح إلى قوّة يمينه لو اُصيبت جنّته بمصيبة، ولو فرض شيخاً هرماً من غير ذرّيّة ضعفاء لم يسوء حاله تلك المسائة لأنّه لا يرى لنفسه إلّا أيّاماً قلائل لا يبطئ عليه زوالها وانقضائها، ولو فرض ذا كبر وله أولاد أقوياء يقدرون على العمل واكتساب المعيشة أمكنهم أن يقتاتوا بما يكتسبونه، وأن يستغنوا عنها بوجه! لكن إذا اجتمع هناك الكبر والذرّيّة الضعفاء، واحترقت الجنّة انقطعت الأسباب عنهم عند ذلك، فلا صاحب الجنّة يمكنه أن يعيد لنفسه الشباب والقوّة أو الأيّام الخالية حتّى يهيّئ لنفسه نظير ما كان قد هيّأها، ولا لذرّيّته قوّة على ذلك، ولا لهم رجاء أن ترجع الجنّة بعد الاحتراق إلى ما كانت عليه من النضارة والإثمار.

والإعصار الغبار الّذي يلتفّ على نفسه بين السماء والأرض كما يلتفّ الثوب على نفسه عند العصر.

وهذا مثل ضربه الله للّذين ينفقون أموالهم ثمّ يتبعونه منّاً وأذى فيحبط عملهم ولا سبيل لهم إلى إعادة العمل الباطل إلى حال صحّته واستقامته، وانطباق المثل على الممثّل ظاهر، ورجا منهم التفكّر لأنّ أمثال هذه الأفاعيل المفسدة للأعمال إنّما تصدر

٤١٥

من الناس ومعهم حالات نفسانيّة كحبّ المال والجاه والكبر والعجب والشحّ، لا تدع للإنسان مجال التثبّت والتفكّر وتميّز النافع من الضارّ، ولو تفكّروا لتبصّروا.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ) الخ، التيمّم هو القصد والتعمّد، والخبيث ضدّ الطيّب، وقوله: منه، متعلّق بالخبيث، وقوله: تنفقون حال من فاعل لاتيمّموا، وقوله: ولستم بآخذيه حال من فاعل تنفقون، وعامله الفعل، وقوله أن تغمضوا فيه في تأويل المصدر، واللام مقدّر على ما قيل والتقدير إلّا لإغماضكم فيه، أو المقدّر باء المصاحبة والتقدير إلّا بمصاحبة الإغماض.

ومعنى الآية ظاهر، وإنّما بيّن تعالى كيفيّة مال الإنفاق، وأنّه ينبغي أن يكون من طيّب المال لا من خبيثه الّذي لا يأخذه المنفق إلّا بإغماض، فإنّه لا يتّصف بوصف الجود والسخاء، بل يتصوّر بصورة التخلّص، فلا يفيد حبّاً للصنيعة والمعروف ولا كمالاً للنفس، ولذلك ختمها بقوله: واعلموا أنّ الله غنيّ حميد أي راقبوا في إنفاقكم غناه وحمده فهو في عين غناه يحمد إنفاقكم الحسن فأنفقوا من طيّب المال، أو أنّه غنيّ محمود لا ينبغي أن تواجهوه بما لا يليق بجلاله جلّ جلاله.

قوله تعالى: ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ) إقامة للحجّة على أنّ اختيار خبيث المال للإنفاق ليس بخير للمنفقين بخلاف اختيار طيّبه فإنّه خير لهم، ففي النهى مصلحة أمرهم كما أنّ في المنهىّ عنه مفسدة لهم، وليس إمساكهم عن إنفاق طيّب المال وبذله إلّا لما يرونه مؤثّراً في قوام المال والثروة فتنقبض نفوسهم عن الإقدام إلى بذله بخلاف خبيثه فإنّه لا قيمة له يعنى بها فلا بأس بإنفاقه، وهذا من تسويل الشيطان يخوّف أوليائه من الفقر، مع أنّ البذل وذهاب المال والإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضاته مثل البذل في المعاملات لا يخلو عن العوض والربح كما مرّ، مع أنّ الّذي يغني ويقني هو الله سبحانه دون المال، قال تعالى:( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ ) النجم - ٤٨.

وبالجملة لمّا كان إمساكهم عن بذل طيّب المال خوفاً من الفقر خطاء نبّه عليه بقوله: الشيطان يعدكم الفقر، غير أنّه وضع السبب موضع المسبّب، أعني أنّه وضع وعد الشيطان موضع خوف أنفسهم ليدلّ على أنّه خوف مضرّ لهم فإنّ الشيطان لا

٤١٦

يأمر إلّا بالباطل والضلال إمّا ابتدائاً ومن غير واسطة، وإمّا بالآخرة وبواسطة ما يظهر منه أنّه حقّ.

ولمّا كان من الممكن أن يتوهّم أنّ هذا الخوف حقّ وإن كان من ناحية الشيطان دفع ذلك بإتباع قوله: الشيطان يعدكم الفقر بقوله: ويأمركم بالفحشاءأوّلا ، فإنّ هذا الإمساك والتثاقل منهم يهيّئ في نفوسهم ملكة الإمساك وسجيّة البخل، فيؤدّي إلى ردّ أوامر الله المتعلّقة بأموالهم وهو الكفر بالله العظيم، ويؤدّي إلى إلقاء أرباب الحاجة في تهلكة الإعسار والفقر والمسكنة الّتي فيه تلف النفوس وانهتاك الأعراض وكلّ جناية وفحشاء، قال تعالى:( وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ - إلى ان قال -الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) التوبة - ٧٩.

ثمّ بإتباعه بقوله: والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليمثانياً ، فإنّ الله قد بيّن للمؤمنين: أنّ هناك حقّاً وضلالاً لا ثالث لهما، وأنّ الحقّ وهو الطريق المستقيم هو من الله سبحانه، وأنّ الضلال من الشيطان، قال تعالى:( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ) يونس - ٣٢، وقال تعالى:( قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) يونس - ٣٥، وقال تعالى في الشيطان:( إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ) القصص - ١٥، والآيات جميعاً مكّيّة، وبالجملة نبّه تعالى بقوله: والله يعدكم، بأنّ هذا الخاطر الّذي يخطر ببالكم من جهة الخوف ضلال من الفكر فإنّ مغفرة الله والزيادة الّتي ذكرها في الآيات السابقة إنّما هما في البذل من طيّبات المال.

فقوله تعالى: والله يعدكم الخ، نظير قوله: الشيطان يعدكم الخ، من قبيل وضع السبب موضع المسبّب، وفيه إلقاء المقابلة بين وعد الله سبحانه الواسع العليم ووعد الشيطان، لينظر المنفقون في أمر الوعدين ويختاروا ما هو أصلح لبالهم منهما.

فحاصل حجّة الآية: أنّ اختياركم الخبيث على الطيّب إنّما هو لخوف الفقر،

٤١٧

والجهل بما يستتبعه هذا الإنفاق، أمّا خوف الفقر فهو إلقاء، شيطانيّ، ولا يريد الشيطان بكم إلّا الضلال والفحشاء فلا يجوز أن تتّبعوه، وأمّا مايستتبعه هذا الإنفاق فهو الزيادة والمغفرة اللّتان ذكرتا لكم في الآيات السابقة، وهو استتباع بالحقّ لأنّ الّذي يعدكم استتباع الإنفاق لهذه المغفرة والزيادة هو الله سبحانه ووعده حقّ، وهو واسع يسعه أن يعطي ما وعده من المغفرة والزيادة وعليم لا يجهل شيئاً ولا حالاً من شئ فوعده وعد عن علم.

قوله تعالى: ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ) ، الإيتاء هو الإعطاء، والحكمة بكسر الحاء على فعلة بناء نوع يدلّ على نوع المعنى فمعناه النوع من الإحكام والإتقان أو نوع من الأمر المحكم المتقن الّذي لا يوجد فيه ثلمة ولا فتور، وغلب استعماله في المعلومات العقليّة الحقّة الصادقة الّتي لا تقبل البطلان والكذب البتّة.

والجملة تدلّ على أنّ البيان الّذي بيّن الله به حال الإنفاق بجمع علله وأسبابه وما يستتبعه من الأثر الصالح في حقيقة حياة الإنسان هو من الحكمة، فالحكمة هي القضايا الحقّة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الإنسان كالمعارف الحقّة الإلهيّة في المبدأ والمعاد، والمعارف الّتي تشرح حقائق العالم الطبيعيّ من جهة مساسها بسعادة الإنسان كالحقائق الفطريّة الّتي هي أساس التشريعات الدينيّة.

قوله تعالى: ( وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) ، المعنى ظاهر، وقد اُبهم فاعل الإيتاء مع أنّ الجملة السابقة عليه تدلّ على أنّه الله تبارك وتعالى ليدلّ الكلام على أنّ الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالتلبّس بها يتضمّن الخير الكثير، لامن جهة انتساب إتيانه إليه تعالى، فإنّ مجرّد انتساب الإتيان لا يوجب ذلك كإيتاء المال، قال تعالى في قارون( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّة ِ ) إلى آخرالآيات القصص - ٧٦، وإنّما نسب إليها الخير الكثير دون الخير مطلقاً، مع ما عليه الحكمة من ارتفاع الشأن ونفاسة الأمر لأنّ الأمر مختوم بعناية الله وتوفيقه، وأمر السعادة مراعيّ بالعاقبة والخاتمة.

قوله تعالى: ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) ، اللبّ هو العقل لأنّه في الإنسان

٤١٨

بمنزلة اللبّ من القشر، وعلى هذا المعنى استعمل في القرآن، وكأنّ لفظ العقل بمعناه المعروف اليوم من الأسماء المستحدثة بالغلبة ولذلك لم يستعمل في القرآن وإنّما استعمل منه الأفعال مثل يعقلون.

والتذكّر هو الانتقال من النتيجة إلى مقدّماتها، أو من الشئ إلى نتائجها، والآية تدلّ على أنّ اقتناص الحكمة يتوقّف على التذكّر، وأنّ التذكّر يتوقّف على العقل، فلا حكمة لمن لا عقل له. وقد مرّ بعض الكلام في العقل عند البحث عن ألفاظ الإدراك المستعملة في القرآن الكريم.

قوله تعالى: ( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ) ، أي ما دعاكم الله سبحانه إليه أو دعوتم أنفسكم إليه بإيجابه عليها بالنذر من بذل المال فلا يخفى على الله يثيب من أطاعة ويؤاخذ من ظلمه، ففيه إيماء إلى التهديد، ويؤكّده قوله تعالى: وما للظالمين من أنصار.

وفي هذه الجملة أعني قوله: وما للظالمين من أنصار، دلالةأوّلا: على أنّ المراد بالظلم هو الظلم على الفقراء والمساكين في الإمساك عن الإنفاق عليهم، وحبس حقوقهم الماليّة، لا الظلم بمعنى مطلق المعصية فإنّ في مطلق المعصية أنصاراً ومكفّرات وشفعاء كالتوبة، والاجتناب عن الكبائر، وشفعاء يوم القيامة إذا كان من حقوق الله تعالى، قال تعالى:( لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا - إلى ان قال -وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ ) الزمر - ٥٤، وقال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء - ٣١، وقال تعالى:( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) الأنبياء - ٢٨.

ومن هنا يظهر: وجه اتيان الأنصار بصيغة الجمع فإنّ في مورد مطلق الظلم أنصاراً.

وثانياً: أنّ هذا الظلم وهو ترك الإنفاق لا يقبل التكفير ولو كان من الصغائر لقبله فهو من الكبائر، وأنّه لا يقبل التوبة، ويتأيّد بذلك ما وردت به الروايات: أنّ التوبة في حقوق الناس غير مقبولة إلّا بردّ الحقّ إلى مستحقّه، وأنّه لا يقبل الشفاعة يوم القيامة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ

٤١٩

الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ - إلى أن قال -فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) المدّثّر - ٤٨.

وثالثاً: أنّ هذا الظالم غير مرتضى عند الله إذ لا شفاعة إلّا لمن ارتضى الله دينه كما مرّ بيانه في بحث الشفاعة، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، حيث أتى بالمرضاة ولم يقل ابتغاء وجه الله.

ورابعاً: أنّ المتناع من أصل إنفاق المال على الفقراء مع وجودهم واحتياجهم من الكبائر الموبقة، وقد عدّ تعالى الامتناع عن بعض أقسامه كالزكاة شركاً بالله وكفراً بالآخرة، قال تعالى:( وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) فصّلت - ٧، والسورة مكّيّة ولم تكن شرّعت الزكاة المعروفة عند نزولها.

قوله تعالى: ( إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ) الخ، الإبداء هو الإظهار، والصدقات جمع صدقة، وهي مطلق الإنفاق في سبيل الله أعمّ من الواجب والمندوب وربّما يقال: إنّ الأصل في معناها الإنفاق المندوب.

وقد مدح الله سبحانه كلّاً من شقّى الترديد، لكون كلّ واحد من الشقّين ذا آثار صالحة، فأمّا إظهار الصدقة فإنّ فيه دعوة عمليّة إلى المعروف، وتشويقاً للناس إلى البذل والإنفاق، وتطييباً لنفوس الفقراء والمساكين حيث يشاهدون أنّ في المجتمع رجالاً رحماء بحالهم، وأموالاً موضوعة لرفع حوائجهم، مدّخرة ليوم بؤسهم فيؤدّي إلى زوال اليأس والقنوط عن نفوسهم، وحصول النشاط لهم في أعمالهم، واعتقاد وحدة العمل والكسب بينهم وبين الأغنياء المثرين، وفي ذلك كلّ الخير، وأمّا إخفاؤها فإنّه حينئذ يكون أبعد من الرياء والمنّ والأذى، وفيه حفظ لنفوس المحتاجين عن الخزي والمذلّة، وصون لماء وجوههم عن الابتذال، وكلائة لظاهر كرامتهم، فصدقة العلن أكثر نتاجاً، وصدقة السرّ أخلص طهارة.

ولمّا كان بناء الدين على الإخلاص وكان العمل كلّما قرب من الإخلاص كان أقرب من الفضيلة رجّح سبحانه جانب صدقة السرّ فقال: وإن تخفوها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم فإنّ كلمة خير أفعل التفضيل، والله تعالى خبير بأعمال عباده لا يخطئ

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526