الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 151398 / تحميل: 5597
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

تخصيص الفعل بالإيجاد في وقت دون آخر أو بإيقاعه على وجه دونَ وجه.

ويدلّ على ثبوت الإرادة له - تعالى - بالمعنى المطلق أنّ العالم حادث، فتخصيصُ إيجاده بوقتٍ دونَ ما قبله وما بعده، مع جوازهما، يفتقرُ إلى المخصّص، وليس القدرة، لتساوي نسبتها، ولا العلم لتبعيته، فهو الإرادةُ، ولأنّ تخصيص ما وجد بالإيجاد دونَ غيره من المقدورات يستدعي مخصّصاً هو الإرادةُ.

ويدلّ على إثبات إرادة الفعل منّا أمرُه بالطّاعة، ونهيه عن المعصية، وهما يستلزمان الإرادة والكراهة، خلافاً للأشعريّة الّذين أثبتوا الطلبَ مغايراً للإرادة، لعدم تعقّله، وإلزامُهم بتمهيد عذر السيّد الضّارب عبده للمخالفة إذا أمره مشتركٌ.

المطلب السّادس: في أنّه - تعالى - مُدرِكٌ

اتّفق المسلمون على أنّه - تعالى - سميع بصيرٌ، واختلفوا، فقال أبو الحسين والكعبيّ والأوائل: إنّ معناه علمه بالمسموعات والمبصرات، لاستحالة أن يكونَ هو الإحساسَ بالحواس ولا ما عداه غير العلم، لأنّه غيرُ معقول، وسيأتي أنّه - تعالى - عالم بكلّ معلوم، وللسّمع.

وأثبت الجُبائيّان والأشعريّ والسّيّد المرتضى والخوارزميّ أمراً زائداً على العلم، لأنّ إدراكنا زائدٌ على علمنا؛ للفرق بينَ العلم عندَ المشاهدة وبينه

١٤١

عندَ عدمها. والمقتضي لذلك كونُ المدرك حيّاً، والله - تعالى - حيٌّ، فإدراكه زائد، والمقدّماتُ ضعيفةٌ.

ثمّ استدلّوا على ثبوته بأنّه - تعالى - حيّ، فيصحُّ أن يتّصف بالسّمع والبصر، وكلّ من صحّ اتّصافه بصفة وجب أن يتّصف بها أو بضدّها، وضدّها نقصٌ، وهو على الله - تعالى - مُحال.

والحقّ استنادُ ذلك إلى النّقل، ولا يجبُ صحّةُ اتّصاف الحيّ بالسّمع والبصر، فإنّ أكثرَ الهوامّ والسّمك لا سمعَ لها، والعقربُ والخُلَدُ (1) لا بصرَ لهما. والدّيدان (2) وكثيرٌ من الهوامّ لا سمَ لها ولا بصرَ. فلو لم يمتنع اتّصاف تلك الأنواع بالسّمع والبصر لما خلا جميعُ أشخاصها منهما. (3)

وإذا جاز أن يكونَ بعضُ فصول الأنواع مزيلاً لتلك الصّحة بطلت الكليّة. ولا يجبُ اتّصاف الشّيء بأحد الضّدّين كالشّفاف. نعم يجبُ أن يتصف القابل للصّفة بها أو بعدمها، ونمنع كونَ ضدّهما نقصاً في حقّه تعالى.

والقياسُ باطلٌ، على أنّ حياته - تعالى - مخالفةٌ لحياتنا. ولا يجبُ العموميّةُ، لانتفاء القابليّة، كما أنّ حياتنا مصحّحةٌ للشهوة والنّفرة دونَ حياته تعالى.

____________________

(1) ج: الجراد.

(2) ج: الدّيران.

(3) ج: منها.

١٤٢

المطلب السّابع: في أنّه - تعالى - متكلّمٌ

اتّفق المسلمون على ذلك، لقوله تعالى، ( وَكَلّمَ اللّهُ مُوسَى‏ تَكْلِيماً ) (1) ، ولا دورَ؛ لأنه إثباتٌ لكلامه - تعالى - بإخبار الرّسول المعلوم صدقه بالمعجزة، ولأنّه قادرٌ على كلّ مقدور.

واختلفوا، فعندَ المعتزلة، أنّه خلق في أجسام جماديّة أصواتاً دالّةً على معان مخصوصة، فهو متكلّمٌ بهذا المعنى.

والأشاعرة جوّزوا ذلك، لكن اثبتوا معنىً نفسانيّاً قائماً بذات المتكلّم مغايراً للعلم والإرادة. يدلُّ عليه هذه الحروف والأصواتُ وأنّه قديمٌ في حقّه - تعالى - واحدٌ ليس بأمر ولا نهي ولا خبر؛ لأنّه حيّ يصحّ اتّصافه بالكلام. فلو لم يكن موصوفاً به كان متّصفاً بضدّه، وهو نقصٌ.

ولأنّ أفعاله - تعالى - لمّا جاز عليها التّقدّم والتّأخّرُ أثبتنا الإرادةَ المخصّصةَ، (2) وأفعالُ العباد متردّدةٌ بينَ الحظر والإباحة وغيرهما من الأحكام فلابدّ من مخصّص غير الإرادة، لأنّه قد يأمر بما لا يريدُ وبالعكس، فهو الكلام الّذي هو الطلبُ النّفسانيّ، ولأنّه مَلِك مُطاعٌ، فله الأمرُ والنّهيُ.

اعترضت (3) المعتزلة: بأنّ الاستدلال على الإثبات (4) فرع تصوّر المستدل عليه. وما ذكرتموه غيرُ متصور ويمنع صحة اتّصافه تعالى به،

____________________

(1) النساء: 4/162.

(2) ج: اثبت إرادة مخصوصة.

(3) ألف: اعترض.

(4) ج: إتيان/ ب: إثبات ممنوع وما التزموه.

١٤٣

ويمنع وجوب الاتّصاف بأحدهما وكون الضّدّ نقصاً، بل ثبوته نقصٌ، إذ أمرُ المعدوم ونهيُه وإخباره سفهٌ. والأحكام عقليّةٌ لا سمعيّةٌ فالمُخصّص إمّا الصّفات أو الوجوه والاعتبارات الّتي تقع عليها الأفعال، ويقبح الأمر بما لا يريدُ.

وتمهيدُ العذر في قتل العبد بإيجاد صورةٍ، الأمر، وهو مشترك بين الطلب والإرادة. والمُطاعُ إن عنوا به نفوذَ قدرته في جميع الممكنات فهو حقٌّ، وإن عنوا ما طلبوه منعناه.

المطلب الثّامنُ: في أحكام هذه الصّفات وهي إحدى عشر بحثاً

ألف - ذهب جماعة من المعتزلة والأشاعرة إلى أنّ هذه الصّفات وجوديّةٌ وإلاّ لصحّ حملُها على المعدوم. والملازمةُ ممنوعةٌ، فإنّ كثيراً من العدميّات يمتنعُ حملهُ على المعدوم، وعندَ الأوائل وأبي الحسين أنّها ليست وجوديّةً. وإلاّ لزم تعدّدُ القدماء.

ب - هي نفسُ الذّات في الخارج وإن كانت زائدةً في التّعقّل، وهو اختيارُ الأوائل وأبي الحسين، لما تقدّم، ولأنّ الوجود لو كان زائداً كان ممكناً، لأنّه وصفٌ للماهيّة، فلا يكونُ واجباً، هذا خُلفٌ. ولأنّ مؤثّره إمّا الماهيّةُ لا بشرط الوجود، فالمعدومُ مؤثّر في الموجود أو بشرطه، (1) فيتسلسل (2) أو يدور أو غيرها، فيفتقر إلى الغير.

____________________

(1) ج: لشرطه.

(2) ألف: فتسلسل.

١٤٤

وعندَ جماعة من المعتزلة والأشاعرة أنّها زائدةٌ، للمغايرة بينَ قولنا: واجب الوجود موجودٌ، وبين قولنا: إنّه قادرٌ. وللاستفادة بكلّ منهما، بخلاف قولنا: واجبُ الوجود واجبُ الوجود؛ ولأنّا قد نعلمُ الذّات ونشكّ (1) في الصّفات، وكلّ ذلك يدلٌّ على المغايرة الذّهنيّة.

ج - هذه الصّفات أزليّةٌ وإلاّ لافتقرت إلى مؤثّر، فإن كان ذاته دار، وإن كان غيره افتقر إلى غيره، ولأنّ تأثيره في غيره يستلزم ثبوتها، فهي ثابتة قبل علّتها.

د - هذه الصّفات ذاتيّةٌ عندَ المعتزلة والأوائل، لامتناع استنادها إلى غير ذاته، لما تقدّم، وعندَ الأشعريّة أنّها معلّلةٌ بالمعاني، فهو قادرٌ بقدرة، عالمٌ بعلم، حيّ بحياة، إلى غير ذلك من الصّفات.

قال نفاةُ (الأحوال) منهم إنّ العلمَ نفس العالميّة، والقدرة نفس القادريّة، وهما صفتان زائدتان على الذات وقال مثبتوها: إنّ عالميّته - تعالى - صفةٌ معلّلةٌ بمعنى قائم به، وهو العلم.

هـ - إرادته إمّا نفسُ الدّاعي، كما تقدّم، أو أمرٌ زائدٌ عليه مستندٌ إلى ذاته، كاختيار النّجّار، (2) خلافاً للجمهور. وعند الجبّائيين أنّه مريدٌ بإرادةٍ حادثةٍ لا في محلّ؛ إذ لو كان مريداً لذاته لعمّت إرادته، كالعلم، فيريدُ الضّدّين، أو لإرادةٍ قديمةٍ لزم ثبوتُ القدماء، أو لإرادة حادثة في ذاته كان محلاًّ

____________________

(1) ألف: نشكّل.

(2) ب: كاختيار المختار.

١٤٥

للحوادث، أو في غيره. فإن كان حيّاً رجع حكمها إليه، وإلاّ استحال حلولها فيه، ووجودُ إرادة لا في محلّ غيرُ معقول.

و - خبره - تعالى - صدقٌ، لقبح الكذب عقلاً، فلا يصدر عنه، ولأنّ الكذبَ إن كان قديماً استحال منه الصّدق، والتّالي باطل، للعلم بإمكان صدور الصّدق من العالم بالشّيء. والأخيرُ دليل الأشاعرة ولا يتمّ، لبنائه على أنّ الكلامَ القديمَ هو عين الخبر، وأنّه خبرٌ واحدٌ، ولعدم دلالته على صدق الألفاظ.

ز - قدرته - تعالى - تتعلّقُ بكلّ مقدور، للتّساوي في العلّة الّتي هي الإمكانُ. ومنع الأوائل من صدور اثنين عنه، لأنّه بسيط، ولا يتأتّى في القادر لو صح. ومنع الثّنويّةُ والمجوس من صدور الشّرّ عنه، وإلاّ كان (1) شرّيراً. فعند المجوس فاعلُ الخير يزدانُ وفاعل الشّرّ أهرمن. وعنوا بهما ملكاً وشيطاناً، واللهُ - منزّهٌ عن فعل الخير والشرّ. والمانويّةُ تسند ذلك (2) إلى النّور والظّلمة وكذا الدّيصانيّة.

وعند جميعهم أنّ الخيّر هو الّذي يكون جميع أفعاله خيراً، والشّرّيرَ هو الّذي يكون جميع أفعاله شرّاً. والخيرُ والشّرّ لا يكونان لذاتهما خيراً وشرّاً، بل بالإضافة إلى غيرهما. وإذا أمكن أن يكون شيء واحد بالقياس إلى واحد خيراً وبالقياس إلى غيره شرّاً أمكن أن يكونَ فاعل ذلك الشّيء واحداً.

____________________

(1) ج: لكان.

(2) ج: يستندونهما/ ب: يستند وكذا.

١٤٦

ومنع النّظامُ من قدرته على القبيح، لأنّه محالٌ، لدلالته على الجهل أو الحاجة. والاستحالة من جهة الدّاعي، لا من حيث القدرة.

ومنع عَبّاد من قدرته على ما علم وقوعه أو عدمه لوجوبه أو امتناعه وهو ينفي القدرة، والعلمُ تابعٌ.

ومنع البلخيُّ من قدرته على مثل مقدور العبد؛ لأنه إمّا طاعةٌ أو سفهٌ، وهما وصفان لا يقتضيان المخالفة الذّاتيّة.

ومنع الجُبائيّان من قدرته على عين مقدور العبد، لامتناع اجتماع قدرتين على مقدور واحد؛ لأنّه إن وقع بهما استغنى بكلّ منهما عن الآخر، وإن لم يقع بهما كان المانعُ هو وقوعه بالآخر، فيقع بهما حال ما لا يقعُ بهما وإن وقع بأحدهما لم يكن الآخر قادراً، والأخيرة ممنوعةٌ.

ح - علمُه - تعالى - متعلّقٌ بكلّ معلوم، لأنّه حيّ، فيصحّ أن يعلم كلّ معلوم. فلو اختصّ تعلقه بالبعض افتقر إلى مخصّص، وهو محال ولأنّه يصحُّ أن يعلم كلّ معلوم، فيجب، لأنّها صفةٌ نفسيّةٌ متى صحّت وجبت.

وبيانُ المقدّم، أنّه حيٌّ، وهو يصحّ أن يعلم كلّ معلوم، لأنّ الحيّ هو الّذي لا يستحيل أن يعلم. ونسبةُ الصّحّة إلى الكلّ واحدةٌ.

وبعض الأوائل منع من علمه بذاته، لأنّه إضافةٌ فيستدعي المغايرة. وينتقضُ بعلمنا بأنفسنا.

ومنهم من منع علمه بغيره، لاستحالة حلول صور في ذاته. ويُنتقضُ

١٤٧

بعلم الواحد بنفسه، ولأنّه إضافةٌ، لا صورةٌ، ولأنّ الصّدور (1) عنه أبلغ في الحصول من الصّورة المنتزعة الصّادرة عن العاقل لمشاركة المعقول، ثم تلك الصّورة تعلمُ بذاتها، فهنا أولى.

ومنهم من منع من علمه بالجزئيّات من حيث هي متغيّرةٌ إلاّ على وجه كلّيّ، فلا يعلم أنّ المتغيّر وقع أو سيقع؛ لأنّه عند عدمه إن بقى العلمُ لزم الجهل، وإلاّ كان متغيّراً.

وأجاب بعضهم بأنّ العلم بأنّ الشّيء سيوجد هو غير العلم بالوجود حينَ الوجود.

وهو غلطٌ، لاستدعاء العلم المطابقةَ، بل الحقُّ أنّ التّغيّرَ في الإضافات كتغيّر المقدور المستلزم تغيّر إضافة القدرة، لا القدرة.

ط - وجوبُ وجوده لذاته يقتضي امتناعَ عدمه في وقتٍ مّا. فهو قديمٌ أزليّ باقٍ سرمديٌّ. وبقاؤه لذاته لا لبقاء يقوم به، خلافاً للأشعريّ، وإلاّ افتقر في وجوده إلى غيره، هذا خُلفٌ. ولأنّ بقاءه باق فيتسلسل أو يدور إن بقى بالغير أو بالذّات، وإن بقى لذاته كان أولى بالذّاتيّة.

والتّحقيق أنّ البقاء يراد به امتناع خروج الذّات الثّابتة عن ثبوتها (2) ومفارقة الوجود لأكثر من زمان واحد بعدَ الزّمان الأوّل، والأوّل ثابتٌ في حقّه تعالى، لا زائدَ عليها. والثّاني منتفٍ، (3) لأنّه لا يعقلُ فيما لا يكونُ فانياً. (4)

____________________

(1) ج: المصدور.

(2) ج: ثباتها.

(3) ب: مفتقرٌ.

(4) ب، ج: زمانياً.

١٤٨

كما أنّ الحكم بأنّ الكلّ أعظم من الجزء لا يمكن وقوعه في زمان أو في جميع الأزمنة، كما لا يقال إنّه واقعٌ في مكان أو في جميع الأمكنة. وهو بناءً على أنّ التّغيّر يستدعي الزّمان.

ي - قدرتُه، علمه؛ وإرادته كافيةٌ في الإيجاد، لوجوبه عند اجتماعهما، خلافاً لبعض الحنفيّة، حيث أثبتوا التّكوين صفة أزليّة لله تعالى. والمكوّن محدث، لقوله تعالى: ( إِنّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (1) فـ (كن) متقدّمٌ على (الكون)، وهو المسمّى بالأمر، والكلمة والتّكوين والاختراع والإيجاد والخلق، ولأنّ القدرة مؤثّرةٌ في صحّة وجود المقدور، والتّكوين مؤثّر في نفس وجوده.

وهو غلطٌ، لأنّ التّكوين إن كان قديماً لزم قدم الأثر، لأنّه نسبةٌ، وإن كان محدثاً تسلسل. وقوله (كن) لا يدلّ على إثبات صفة زائدة على القدرة، والقدرةُ لا تأثيرَ لها في صحّة الوجود، لأنّها ذاتيّةٌ للممكن.

يا - أثبت الأشعري (اليد) صفةً وراء القدرة، و(الوجه) صفةً وراء الوجود، و(الاستواء) صفةً أُخرى. وأثبت القاضي (2) إدراكَ الشّمّ والذّوق واللّمس ثلاثَ صفاتٍ. وأثبت عبد الله بن سعيد (القدم) صفةً مغايرةً للبقاء، و

____________________

(1) يس: 36/82.

(2) هو أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد المعروف بقاضي القضاة، من أئمة المعتزلة، له مصنّفات منها: شرح الأُصول الخمسة، تنزيه القرآن من المطاعن، المغني، مات سنة 415هـ. الأعلام: 3/273.

١٤٩

(الرّحمة) و(الكرم) و(الرّضا) صفاتٍ غيرَ الإرادة. ولا دليل على شيء من ذلك.

وجزم آخرون بنفي ما زاد على السّبعة، لأنّا كلّفنا بالمعرفة، وإنّما تحصل بمعرفة الصّفات، فلابُدّ من طريق، وليس إلاّ الاستدلال بالآثار والتّنزيه عن النّقصان، وإنّما يدلاّن على السّبعة، ونمنع من التّكليف بكمال المعرفة.

١٥٠

الفصل الثّاني

في الصّفات السّلبيّة

وفيه مطالبُ [اثنا عشر]:

[المطلب] الأوّل: في أنّه - تعالى - ليس بمتحيّز

اتّفق العقلاء عليه، خلافاً للمجسّمة، لأنّ كلّ متحيّز لا ينفكّ عن الحركة أو السّكون، فيكون مُحدَثاً، ولأنّه حينئذ إمّا جسمٌ فيكون مركّباً فيكون حادثاً أو جزءاً لا يتجزّأ، وهو غير معقول، لامتناع اتّصاف مثل ذلك بالقدرة والعلم غير المتناهيين، ولأنّه لو كان جسماً لكان مركّباً. فالعلمُ الحاصل لأحد الجزأين ليس هو الحاصل للآخر، فيتعدد الآلهةُ. والظواهر متأوّلةٌ، وعجزُ الوهم لا يعارضُ القطع العقليّ.

المطلب الثّاني: في أنّه - تعالى - لا يحلّ في غيره

المعقول من الحلول قيامُ موجود بموجود آخر على سبيل التّبعيّة بشرط امتناع قيامه بذاته. وهو محالٌ في حقّ واجب الوجود، ولقضاء العقل بأنّ الغنيّ عن المحلّ يستحيلُ حلوله فيه. فإن كان حالاًّ في الأزل لزم قدم المحلّ، وإن لم يكن تجدّدت الحاجة، ولأنّ حلول الشّيء في غيره إنّما

١٥١

يتصوّر لو كان الحالُّ إنّما يتعيّنُ بواسطة المحلّ، وواجب الوجود لا يتعيّنُ بغيره.

وعندَ بعض النّصارى، أنّه - تعالى - حالٌّ في المسيح. وعند الصّوفيّة أنّه - تعالى - حالٌّ في (1) العارفين. والكلّ محالٌّ، فهو إذن ليس بعرض ولا صورة، لافتقارهما إلى المحلّ.

المطلب الثّالث: في أنّه - تعالى - مخالفٌ لغيره لذاته

ذهب أبو هاشم إلى أنّ ذاته - تعالى - مساويةٌ لسائر الذّوات في الذّاتيّة، ويخالفها بحالة توجبُ الأحوال الأربعة، أعني الحييّة والعالميّة والقادريّة والموجوديّة. وهي الحالة الإلهيّة لأنّ مفهومَ الذّات هو ما يصحّ أن يعلم ويُخبر عنه. وهو غلطٌ؛ لأنّ هذا المفهوم (2) أمرٌ اعتباريٌّ ليس نفسَ الحقائق الثّابتة في الأعيان، بل من المعقولات الثّانية.

ولا يمكن تساوي كلّ الذّوات، لأنّ اختصاصَ بعضها بما يوجب المخالفة إن لم يكن لمرجّح كان ترجيحاً لأحد طرفي الممكن، لا لمرجّح، وإلاّ تسلسل.

____________________

(1) ج: حالٌّ في الأبدان العارفين.

(2) ج: هذا المفهوم ليس أمر اعتباري.

١٥٢

المطلب الرّابع: في أنّه - تعالى - غيرُ مركّب

كلُّ مركّب ممكنٌ، لأنّه يفتقرُ (1) إلى جزئه، وجزؤه غيره، وكلّ مفتقرٍ ممكنٌ، وواجبُ الوجود ليس بممكن، فليس له أجزاءُ ماهيّة، أعني المادّة والصّورة، ولا عقليّة، أعني الجنس والفصل، ولا مقداريّة؛ ولا يتركّب عنه غيره، فليس جنساً ولا فصلاً ولا نوعاً يندرج تحته أفرادٌ، ولا يتركّب عنه غيره، إذ يستحيل أن ينفعل عن غيره.

المطلب الخامس: في أنّه - تعالى - لا يتحدُ بغيره

اتفق العقلاء من المتكلّمين والحكماء إلى (2) امتناع الاتّحاد، إلاّ فرفوريوس والرّئيس في بعض كتبه، لأنّ الشّيئين بعدَ الاتّحاد إن بقيا موجودين فهما اثنان لا واحدٌ، وإن عُدما فلا اتّحادَ، بل حدث ثالثٌ، وإن عُدم أحدهما لم يتّحد المعدوم بالموجود. وهذا حكمٌ عامٌّ في كلّ الماهيّات. نعم قد يقال: الاتّحادُ بالمجاز على صيرورة شيء شيئاً آخر بأن يخلعُ صورته ويلبس الأخرى، كما يقال: صار الماء هواءً؛ أو بأن يحدث للأجزاء مزاج (3) وهيئة زائدة على الآخر كما يقال: صار العفصُ والزّاجُ حِبراً، وهو منفيٌّ (4) عن واجب الوجود - تعالى -؛ لاستحالة خروجه عن

____________________

(1) ج: مفتقر.

(2) ج: على.

(3) ب، ج: امتزاجاً.

(4) ج: منتفٍ.

١٥٣

حقيقته وعدم أمر زائد عليها وامتناع تركّبه من غيره أو معه.

وقالت النّصارى باتّحاد الأقانيم الثّلاثة: الأب والابن وروح القدس، واتّحد ناسوتُ المسيح باللاّهوت.

والصّوفيّةُ قالوا: أنّه - تعالى - يتّحدُ بالعارفين. والكلُّ غيرُ معقول.

المطلب السادس: في أنّه - تعالى - ليس في جهة

اتفق العقلاء عليه إلاّ المجسّمة والكرّاميّة، لأنّه ليس بمتحيّز ولا حالّ في المتحيّز، فلا يكون في جهة بالضّرورة، ولأنّ الكائن في الجهة لا ينفكّ عن الأكوان بالضّرورة، فيكون مُحدَثاً، وواجبُ الوجود ليس بمُحدَث؛ ولأنّ مكانه مساو لسائر الأمكنة، فاختصاصه به ترجيحٌ عن غير مرجّح، ويلزمُ قِدَم المكان أو حلول المجرّد في مكان بعدَ إن لم يكن. وهو غير معقول.

وأصحابُ أبي عبد الله ابن الكرّام ذهب بعضهم إلى أنّه في جهةٍ فوق العرش لا نهاية لها، والبُعد بينه وبينَ العرش غيرُ متناه أيضاً. وقال بعضهم متناهٍ. والكلّ خطأٌ، لما تقدّم، ولأنّ العالم كرةٌ.

المطلب السابع: في استحالة الألم واللذّة عليه تعالى

اتفق العقلاء على استحالة الألم عليه، لأنّه إدراك منافٍ، ولا منافي له تعالى. أمّا اللذّةُ فقد اتفق المسلمون على استحالتها عليه، لأنّ اللذة والألمَ

١٥٤

من توابع اعتدال المزاج وتنافره، ولا مزاجَ له - تعالى -، ولأنّ اللّذّة إن كانت قديمةً وهي داعيةٌ إلى فعل الملتذّ به وجب وجوده قبل وجوده لوجود الدّاعي وانتفاء المانع، وإن كانت حادثةً كان محلاًّ للحوادث. وفيه نظرٌ، لجواز اتّحاد داعي اللذّة والإيجاد.

والأوائل أثبتوا له لذّةً عقليّةً لا بفعله، بل باعتبار علمه بكماله، فإنّ كلّ من تصوّر في نفسه كمالاً ابتهج، كما أنّ من تصوّر نقصاناً في نفسه تألّمَ. ولمّا كان كماله - تعالى - أعظمَ الكمالات، وعلمه بكماله أتمّ العلوم استلزم ذلك أعظمَ اللّذات.

والصّغرى ممنوعةٌ والقياسُ على الشّاهد ضعيفٌ، والإجماع ينفيه.

تذنيبٌ

يستحيل اتّصافه بكلّ كيفيّة مشروطة بالوضع، كالألوان والطّعوم والرّوائح وغيرها في (1) الأعراض، لامتناع انفعاله تعالى.

المطلب الثّامن: في أنّه - تعالى - ليس محلاًّ للحوادث

اتّفق الأكثرُ عليه، خلافاً للكرّاميّة، لامتناع انفعاله في ذاته، فيمتنع التّغيّرُ عليه، ولأنّ الحادث إن كان صفةَ كمال استحال خلوّه عنها أزلاً، (2) وإلاّ

____________________

(1) ج، ب: من.

(2) ب: أوّلاً.

١٥٥

استحال اتّصافُه بها، ولأنّه لو صحّ اتّصافُه به كانت تلك الصّحّةُ لازمةً لذاته، لاستحالة عروضها، (1) وإلاّ تسلسل، فتكونُ أزليّةً. وصحّةُ الاتّصاف بالحادث تستدعي صحّة وجود الحادث أزلاً، (2) وهو محالٌ.

المطلب التاسع: في أنّه - تعالى - غنيُّ

هذا من أظهر المطالب، لأنّه واجب من جميع الجهات، وكلّ ما عداه ممكنٌ محتاجٌ إليه، فلا يُعقل احتياجُه - تعالى - إلى غيره، ولأنّ ذاتَه واجبةٌ، وصفاته نفسُ حقيقته، فيستغني في ذاته وصفاته، ولأنّه - تعالى - ليس محلاًّ للحوادث، وغيره حادثٌ، والإضافات ليست وجوديّةً.

المطلب العاشر: في أنّه غيرُ معلوم للبشر

هذا مذهبُ ضرار والغزاليّ (3) وجميع الأوائل، لأنّ المعلوم منه - تعالى - ليس إلاّ السّلوبَ، مثلُ أنّه ليس بجسم ولا عرض، أو الإضافات مثل أنّه قادرٌ عالمٌ خالقٌ رازقٌ. والحقيقةُ مغايرةٌ لذلك بالضّرورة. وعندَ جماهير المعتزلة والأشاعرة، أنّه - تعالى - معلومٌ، لأنّ وجوده معلوم، وهو نفس حقيقته، ونمنع الصّغرى.

____________________

(1) ج: عدمها.

(2) ب: أوّلاً.

(3) هو أبو حامد محمد بن محمد المعروف بالغزالي، المتوفّى 505هـ.

١٥٦

المطلب الحادي عشر: في استحالة الرّؤية عليه تعالى

الأشاعرة خالفوا جميعَ الفرق في ذلك.

أمّا المعتزلةُ والفلاسفة فظاهرٌ.

وأمّا المجسّمة، فلأنّه لو كان مجرّداً لاستحال رؤيته عندهم.

واتفق العقلاء إلاّ المجسّمة على انتفاء الرّؤية، بسبب الانطباع أو الشّعاع، عنه - تعالى -.

والأشاعرةُ قالوا، إنّا نفرقُ بينَ علمنا حالةَ فتح العين وتغميضها، وليس بالانطباع ولا الشّعاع، فهو راجعٌ إلى حالةٍ أُخرى ثابتةٍ في حقّه تعالى.

والضّرورةُ قاضيةٌ ببطلانه، لانتفاء الجهة، وكلّ مرئيّ (1) مقابلٌ أو في حكمه، ولأنّه لو كان مرئيّاً لرأيناه الآن، لانتفاء الموانع ووجود الشّرائط، إذ ليست هنا إلاّ صحّة كونه مرئيّاً وسلامة الحاسّة، ولقوله تعالى: ( لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ) (2) تمدّح به، لتخلّله بين مدحين، فإثباته نقصٌ، وهو مُحالٌ عليه تعالى، ولقوله: ( لَنْ تَرَانِي ) (3) و(لن) لنفي الأبد، وإذا انتفت في حقّ موسى (عليه السلام) فكذا غيره.

____________________

(1) ألف: كل مراى.

(2) الأنعام: 6/103.

(3) الأعراف: 7/143.

١٥٧

احتجّوا بأنّ الجوهرَ والعرضَ مرئيّان، والحكمَ المشترك لابُدّ له من علّة مشتركة، وليس إلاّ الوجود والحدوث، والأخير لا يصلحُ للعلّيّة، لأنّ جزءه عدميّ، ولقوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نّاضِرَةٌ * إِلَى‏ رَبّهَا نَاظِرَةٌ ) (1) ولأنّه - تعالى - علّقها على استقرار الجبل الممكن، لأنّه جسمٌ ولأنّ موسى (عليه السلام) سألها.

والجوابُ: وجودُه - تعالى - حقيقته، وهو مخالفٌ لوجودنا، فلا يجب تساويهما في الأحكام. ونمنعُ احتياج صحّة الرّؤية إلى علّة، إذ لو وجب تعليل كلّ حكمٍ تسلسل، ولأنّها عدميّةٌ، ونمنعُ تساوي صحّة رؤية الجوهر وصحّة رؤية العرض، ويجوز تعليل المشترك بعلّتين مختلفتين، ونمنع الحصرَ بوجود الإمكان، فيجوزُ أن يكونَ علّةً لإمكان الرؤية وإن كان عدميّاً.

والحدوث هو الوجودُ المسبوق، ولا يلزمُ من وجود العلّة وجود المعلول، لجواز التّوقّف على شرط أو حصول مانع. و(إلى) واحدُ (الآلاء)، أو أنّ فيها إضماراً، تقديره: (إلى نِعَم ربّها) والتّعليق على الاستقرار حالةَ الحركة، وهو محال، والسّؤالُ وقع لقوم موسى، لقوله تعالى: ( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى‏ أَكْبَرَ مِن ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً ) (2) .

____________________

(1) القيامة: 75/22 - 23.

(2) النساء: 4/53.

١٥٨

المطلب الثاني عشر: في أنّه - تعالى - واحدٌ

لو كان في الوجود واجبا الوجودِ لكانا مشتركين في هذا المعنى، فإمّا أن يكونَ ذاتياً لهما، أو لأحدهما، أو عارضاً لهما. والأوّلُ يستلزم تركّبَ كلّ منهما، فيكون ممكناً. والثّاني والثالث يستلزم كلّ منهما أن لا يكونَ معروضه في ذاته واجباً.

ولا يجوز أن يكونَ الواجبُ لذاته هو المعنى المشترك خاصّةً، إذ لا وجودَ له في الخارج إلاّ مخصّصاً.

ولا يجوز أن يكونَ المخصّص سلبيّاً، فإنّ سلبَ الغير لا يتحصّلُ إلاّ بعدَ حصول الغير؛ ولأنّ المخالفةَ ممكنةٌ، لأنّ كلّ واحد منهما قادرٌ على جميع المقدورات، فيصحّ أن يقصد أحدهما إلى ضدّ ما قصد (1) الآخرُ، فإن حصل المُرادان، اجتمع الضّدّان، وهو محال، وان عدما كان المانع من مُراد كلّ منهما وجودَ مراد الآخر، فيلزمُ وجودهما وإن وُجِدَ أحدهما فهو الإله؛ وللسّمع.

وقالت الثّنويّةُ بقدم النّور والظلمة وكلّ خير في العالم فمن النّور، وكلّ شر فمن الظلمة، وكلٌّ منهما لا نهايةَ له في الجهات الخمس. والنّورُ حيٌّ عالمٌ والظلمةُ حيّةٌ جاهلةٌ. وسببُ حدوث العالم اختلاط أجزاء من النّور

____________________

(1) ب، ج: قصده.

١٥٩

بأجزاء من الظلمة. وأراد النّورُ الأعظم استخلاصَ تلك الأجزاء من الظلمة. فلم يمكنه إلاّ بخلق هذا العالم وخلق الأجسام النّيّرة فيه، بحيث تستخلصُ بنورها تلك الأجزاء النّورانيّة من الظلمة. فإذا خلصت فنى (1) العالم.

وهذا الكلامُ كلّه خطأ، فإنّ النّورَ عرضٌ لا يقومُ بذاته، والظلمةَ عدميّةٌ، وعدمُ التّناهي مُحالٌ، لما تقدّم.

وقال المجوسُ: إنّ للعالم صانعاً قادراً عالماً حيّاً حكيماً، سمّوه يزدان، وكلّ خير في العالم منه، وأنّه أفكر (2) لو كان لي ضدٌّ في الملك كيف تكونُ حالي معه، فحدث الشّيطانُ من تلك الفكرة، وكلّ شرّ في العالم منه، واسمه اهرمن. وبعضهم قال بقدم الشّيطان وهو ظاهر الفساد أيضاً.

وقالت النّصارى: الباري - تعالى - جوهرٌ واحدٌ ثلاثة أقانيم، أقنوم الأب وهو وجوده، وأُقنومُ الابن وهو علمه، واقنومُ روح القدس، وهو حياته.

فإن أرادوا الصّفات فلا منازعةَ إلاّ في اللّفظ، وإلاّ فهو خطأ، لما تقدّم.

____________________

(1) ج: نفى.

(2) ج: فكر.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

الحكايات والأقاويل ، ونستمدّ من الله وحده العون والرعاية.

ج ـ إنّ مسألة الاهتمام بموضوع (سعد ونحس) الأيّام بالإضافة إلى أنّها ترشدنا للكثير من الحوادث التأريخيّة ذات العظة والعبرة ، فإنّها أيضا عامل للتوسّل بالله والتوجّه إلى رحاب عظمته السامقة ، واستمداد العون من ذاته القدسيّة ، وهذا ما نلاحظه في روايات عديدة.

ففي الأيّام النحسة مثلا نستطيع أن نطمئن نفسيّا لممارستنا العملية وبكلّ تفاؤل وموفّقية ، وذلك حينما ندعو الله ونطلب منه العون ونتصدّق على الفقراء ، ونقرأ شيئا من الآيات القرآنية ونتوكّل على الذات الإلهيّة المقدّسة.

روي عن علي بن عمر العطّار ، أنّه قال : دخلت على أبي الحسن العسكري يوم الثلاثاء ، فقال : لم أرك أمس؟ قال : كرهت الحركة في يوم الإثنين ، قال :«يا علي من أحبّ أن يقيه الله شرّ يوم الإثنين ، ليقرأ في أوّل ركعة من صلاة الغداة( هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ ) ثمّ قرأ أبو الحسن :( فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ) (١) .

وفي هذا الصدد نقرأ الرّواية التالية أيضا عن الحلبي عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام ، أيكره السفر في شيء من الأيّام المكروهة ، الأربعاء وغيره؟ قال : «افتتح سفرك بالصدقة ، واقرأ آية الكرسي إذا بدا لك»(٢) .

وذكر أيضا عن الحسن بن مسعود أحد أصحاب الإمام علي الهاديعليه‌السلام أنّه قال : دخلت على أبي الحسن علي بن محمّدعليهما‌السلام ، وقد نكبت إصبعي ، وتلقّاني راكب فصدم كتفي ، ودخلت في زحمة فخرقوا عليّ بعض ثيابي. فقلت : كفانا الله شرّك من يوم فما أشأمك! ، فقالعليه‌السلام لي : «يا حسن هذا وأنت تغشانا ترمي بذنبك من لا ذنب له».

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٥٩ ، ص ٣٩ ، حديث ٧.

(٢) المصدر السابق ، ص ٢٨.

٣٢١

قال الحسن : فأناب إليّ عقلي ، وتبيّنت خطئي ، فقلت يا مولاي : استغفر لي.

فقالعليه‌السلام : «يا حسن ، ما ذنب الأيّام حتّى صرتم تتشاءمون منها إذا جوزيتم بأعمالكم».

قال الحسن : أنا أستغفر الله أبدا ، وهي توبتي ، يا ابن رسول الله.

قالعليه‌السلام : «والله ما ينفعكم ولكنّ الله يعاقبكم بذمّها على ما لا ذمّ عليها فيه ، أما علمت يا حسن أنّ الله هو المثيب والمعاقب والمجازي بالأعمال عاجلا وآجلا؟».

قلت : بلى يا مولاي.

قالعليه‌السلام : «لا تعد ولا تجعل للأيّام صنعا في حكم الله».

قال الحسن : بلى يا ابن رسول الله(١) .

إنّ هذا الحديث الهامّ يشير إلى أنّ التأثير الممكن حصوله في الأيّام مردّه إلى أمر الله ، وليس للأيّام تأثير مستقل على حياة الإنسان ، ولا بدّ من استشعار لطف الله دائما ، الذي لا غنى لنا عنه أبدا ، وبذلك لا ينبغي أن نتصوّر الحوادث التي هي بمثابة كفّارة لأعمالنا وسيئاتنا غالبا على أنّها مرتبطة بتأثير الأيّام ونبرّئ أنفسنا منها ، ولعلّ هذا البيان أفضل طريق للجمع بين الأخبار المختلفة في هذا الباب.

* * *

__________________

(١) تحف العقول ، عن بحار الأنوار ، ج ٥٩ ، ص ٢ باختصار.

٣٢٢

الآيات

( كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢) )

التّفسير

العاقبة الأليمة لقوم ثمود :

تكملة للأبحاث السابقة ، تتحدّث الآيات الكريمة باختصار عن ثالث قوم ذكروا في هذه السورة ، وهم (قوم ثمود) الذين عاشوا في (حجر) الواقعة في شمال الحجاز ، ليستفاد من قصّتهم الدروس والعبر.

٣٢٣

لقد بذل نبيّهم «صالح»عليه‌السلام أقصى الجهد من أجل هدايتهم وإرشادهم ولكن دون جدوى.

قال تعالى :( كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ) .

قال بعض المفسّرين : أنّ كلمة (نذر) تعني (الأنبياء المنذرين) ولذا فإنّهم يرون بأنّ تكذيب قوم ثمود لنبيّهم صالحعليه‌السلام كان بمثابة تكذيب لكلّ الأنبياء ، ذلك أنّ دعوة الأنبياء أجمع هي دعوة واحدة ومنسجمة ، لكن الظاهر أنّ (نذر) جاءت هنا جمع (إنذار) وهو الكلام الذي يتضمّن التهديد ، والذي هو الطابع العام لكلام الأنبياء جميعاعليهم‌السلام .

ويستعرض سبحانه سبب تكذيبهم (الأنبياء) حيث يقول على لسان قوم ثمود :( فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ ، إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ) .

نعم ، إنّ الكبرياء والغرور والنظرة المتعالية تجاه الآخرين ، بالإضافة إلى حبّ الذات كانت حاجزا عن الاستجابة لدعوة الأنبياءعليهم‌السلام ، لقد قالوا : إنّ (صالح) شخص مثلنا وليست له أيّ امتيازات علينا ليصبح زعيما وقائدا نطيعه ونتّبعه ، كما لا يوجد سبب لاتّباعه.

وهذا هو الإشكال الذي تورده جميع الأقوام الضالة على أنبيائها بأنّهم أشخاص مثلنا ، ولذا لا يمكن أن يكونوا أنبياء إلهيين.

واستفاد قسم آخر من المفسّرين من تعبير (واحدا) أنّ قوم صالح كانوا ينظرون إلى نبيّهم أنّه شخص (عادي) وليس له مال وفير ولا نسب رفيع يمتاز به عليهم.

كما يفسّر البعض كلمة (واحدا) أنّه شخص واحد لا يمتلك العمق والامتداد الاجتماعي الذي يتطلّبه الموقع القيادي في ذلك العصر ، حيث النصرة والمؤازرة.

وهنالك رأي ثالث يذهب إلى أنّ المقصود بكلمة (واحدا) ليس هو الواحد العددي ، بل مرادهم الواحد النوعي ، أي انّه فرد من نوعنا وجنسنا ونوع البشر لا

٣٢٤

يستطيع أن يبلغ رسالة سماوية حيث مقتضى ضرورة التبليغ للرسالات السماوية ـ حسب رأيهم ـ أن يكون النّبي أو الرّسول (ملكا).

وطبعا يمكن الجمع بين هذه التفاسير الثلاثة.

وعلى كلّ حال ، فإنّ ادّعاءات قوم صالح كانت واهية وغير منطقية.

(سعر) على وزن (حمر) جمع سعير ، وفي الأصل بمعنى اشتعال النار وهيجانها ، وفي بعض الأحيان بمعنى (جنون) لأنّ الإنسان المجنون يكون في حالة هيجان خاصّة ، لذا يقال في بعض الأحيان ناقة مسعورة.

ويحتمل أنّ قوم ثمود أخذوا هذا التعبير من نبيّهم (صالح)عليه‌السلام حيث كان يقول لهم : إذا لم تتخلّوا عن عبادة الأصنام وتستجيبون إلى دعوة الله فإنّكم في «ضلال وسعر» ، وكان ردّهم :( أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ) وعلى كلّ حال فإنّ ذكر كلمة (سعر) بصيغة الجمع جاءت هنا للتأكيد والاستمرار ، سواء كان معناها الجنون أو اشتعال النار.

وتزداد اللجاجة والعناد في قوم ثمود فيتساءلون : إذا أريد نزول الوحي على إنسان ، فلما ذا اختّص بصالح من بيننا ، مع وجود الشخصيات الأكثر مالا والأقوى اعتبارا :( أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا ) .

وفي الحقيقة أنّ هذه الأقوال لها شبه كبير بأقوال مشركي مكّة ، ذلك أنّهم شكّكوا برسالة النّبي بأقوال مماثلة :( ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ، لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ) .(١)

وتارة يقولون :( لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) .(٢)

ثمّ تساءلوا : إذا قدّر لبشر أن يتصدّى لمهمّة الرسالة الإلهيّة ، فلما ذا كان الإختيار لأشخاص مغمورين ليس لهم ظهير من عشيرة ولا كثرة من مال

__________________

(١) الفرقان ، ٧.

(٢) الزخرف ، ٣١.

٣٢٥

هذه الإشكالات التي تحكي السطحية في التفكير كانت تتناقلها وتتداولها أجيال المشركين جيلا بعد جيل للتشكيك في الرسالات الإلهيّة ، وذلك لتصوّرهم أنّ من كان خلال افتراضهم أنّ من يتصدّى لهذه المهمّة لا بدّ أن يكون ذا قوّة وقوم ومال ونسب وجاه ومنصب فهو شخصية مهمّة ، وهذه الأمور تدلّ على شخصية وكرامة الإنسان ، في حين أنّ أكثر العناصر الظالمة والمتجبّرة هي المتّصفة بالصفات السابقة.

ويمكن تفسير الآية أيضا ـ كما اختاره بعض المفسّرين ـ على ضوء التساؤلات التي أطلقها قوم ثمود والتي تتركّز بما يلي : ما هي علّة نزول الوحي على صالحعليه‌السلام ؟ ولماذا لم ينزل علينا جميعا؟ ، وما هي المميّزات التي اختصر بها صالحعليه‌السلام ليتميّز علينا بهذا الخصوص!؟ وهذا المعنى ورد أيضا في سورة المدثر ، الآية ٥٢ حيث يقول سبحانه في ذلك :( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) .

ثمّ تختتم الآية بقوله سبحانه :( بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ) وذلك اتّهاما لصالحعليه‌السلام بالكذب فيما ادّعاه من اختصاص من الوحي به وإنذار قومه وأنّه يريد أن يتحكّم علينا ويجعل كلّ أمورنا تحت قبضته ويسيرنا وفق هواه وإرادته

(أشر) وصف من مادّة (أشر) على وزن (قمر) بمعنى بطر ومرح زائد عن الحدّ.

ويردّ البارئعزوجل عليهم بصورة قاطعة بقوله :( سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ ) .

وعند ما يدركهم العذاب الإلهي ويسوّيهم مع التراب ويحوّلهم رمادا ، وبعد أن يجازيهم الله بأعمالهم في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون عندئذ سيدركون حقيقة اتّهاماتهم الزائفة التي اتّهموا بها نبي من أنبياء الله المقرّبين ، وسيعلمون أيضا أنّ هذه الافتراءات هي أحقّ بهم وألصق.

ومعلوم أنّ المراد من «غدا» هو المستقبل القريب ، وإنّه حقّا لتعبير رائع.

٣٢٦

والسؤال المطروح هنا : في الوقت الذي نزلت هذه الآيات على قوم ثمود كان العذاب قد وقع عليهم مجازاة لأعمالهم ، فما معنى (سيعلمون) مع أنّهم قد هلكوا؟

هنالك إجابتان على هذا السؤال :

الأولى : إنّ حديث الآيات الكريمة كان موجّها للنبي صالحعليه‌السلام ، ومن المعلوم أنّ العذاب لم يكن قد نزل بهم حينئذ.

الثّانية : إنّ المقصود من (غدا) هو يوم القيامة الذي سيظهر فيه كلّ شيء بوضوح. (والتّفسير الأوّل هو الأنسب عند ملاحظة الآيات اللاحقة).

وهنا يطرح تساؤل آخر : لماذا قال تعالى :( سَيَعْلَمُونَ غَداً ) ؟ في الوقت الذي لمس مشركو قوم ثمود صدق دعوة النّبي صالحعليه‌السلام لما شاهدوه من معجزاته غير القابلة للإنكار؟

ويتّضح الجواب على هذا التساؤل إذا علمنا أنّ للعلم مراتب ، ويمكن إنكاره من قبل الآخرين في بعض مراتبه ، وقد يصل العلم بهم إلى مرتبة ، لا يمكن إنكارها لما تمثّله من حقيقة صارخة متجسّدة للعيان ، والمقصود هنا من جملة :( سَيَعْلَمُونَ غَداً ) هو العلم الحقيقي الذي لا يمكن إنكاره ، والذي هو حقيقة العذاب الذي سيحلّ بقوم ثمود بصورة لا ريب فيها مطلقا.

ثمّ يشير سبحانه إلى قصّة «الناقة» التي أرسلت كمعجزة ودلالة على صدق دعوة صالحعليه‌السلام حيث يقول :( إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ) .

(الناقة) أنثى البعير ، وهي ليست كبقيّة النوق لما تتّصف به من خصوصيات خارقة للعادة ، وطبقا للروايات المشهورة فإنّ هذه الناقة قد خرجت من بطن صخرة جبل حجّة دامغة للمنكرين والمعاندين.

معنى «الفتنة» ـ كما مرّ في بحث سابق ـ هو التمحيص والاختبار ، واكتشاف مدى الإخلاص والصفاء والاستقامة عند الإنسان.

ومن الواضح أنّ قوم ثمود قد جعلوا أمام إمتحان عسير ، حيث يستعرض

٣٢٧

سبحانه هذا الاختبار لهم بقوله :( وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ) (١) يوم لهم ويوم للناقة.

ومع أنّ القرآن الكريم لم يوافنا بتفاصيل أكثر حول هذا الموضوع ، ولكن كما يذكر الكثير من المفسّرين فإنّ ناقة صالحعليه‌السلام كانت تشرب كلّ الماء يوم يكون شربها ، ويعتقد البعض الآخر أنّ هيئتها ووضعها كانا بشكل يدفع الحيوانات إلى الفرار من الماء عند ما تقترب الناقة نحوه ، ولذلك فإنّهم اقترحوا حلا وهو : أن يكون الماء يوما لهم وآخر للناقة.

وعلى كلّ حال فإنّ هؤلاء القوم وقعوا في مضيقة من ناحية الماء ، ولم يطيقوا وجود الناقة ومشاطرتها لمائهم يوما كاملا خصوصا ما يحتمله بعض المفسّرين من شحّة الماء في القرية (مع العلم أنّ هذا لا يتناسب مع ما ذكر في الآيات (١٤٦ ـ ١٤٨) من هذه السورة ، حيث المستفاد من هذه الآيات أنّ هؤلاء القوم كانوا يعيشون في أرض مليئة بالبساتين والعيون).

وعلى كلّ حال فإنّ قوم ثمود المتمردّين عقدوا العزم على قتل الناقة ، في الوقت الذي حذّرهم نبيّهم صالحعليه‌السلام من مسّها بسوء ، وأخبرهم بأنّ العذاب الإلهي سيقع عليهم بعد فترة وجيزة إن فعلوا ذلك.

ونظرا لاستخفافهم بهذا التحذير (فقد نادوا أحد أصحابهم حيث تصدّى للناقة وقتلها) يقول الله سبحانه :( فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ ) .

ويمكن أن يكون المراد بـ (صاحب) أحد رؤساء ثمود ، وكان أحد أشرارهم المعروفين ويعرف في التاريخ بـ (قدارة بن سالف)(٢) .

و (تعاطى) في الأصل بمعنى تناول الشيء ، أو تبنّى الموضوع وتقال أيضا

__________________

(١) «محتضر» اسم مفعول من مادّة (حضور) و (شرب) بمعنى السهم والنوبة الخاصّة بالماء ، وبناء على ذلك فإنّ مفهوم جملة (كلّ شرب محتضر) أي أنّ توبة كلّ شخص من الماء حاضرة له ، ولا يحقّ للآخرين الحضور والتزاحم عليها.

(٢) قدارة على وزن (منارة) ـ كان رجلا قبيح الشكل والسيرة ، ومن أكثر الأشخاص شؤما في التاريخ.

٣٢٨

عند إنجاز الأعمال المهمّة والخطيرة وكذلك الأعمال الشاقّة ، أو العمل المقابل بعوض.

كلّ هذه التفاسير تجمّع في الآية مورد البحث ، لأنّ الإقدام على القتل يستدعي جرأة وخسارة كبيرة ، كما أنّه عمل شاقّ ، وكذلك يستلزم اجرة في الغالب.

(عقر) من مادّة (عقر) على وزن (ظلم) وفي الأصل بمعنى الأساس والجذر ، وإذا استعمل هذا المصطلح بخصوص الناقة فإنّه يعني القتل والنحر.

والجدير بالذكر أنّ قتل الناقة نسب لشخص واحد في هذه الآية ، في الوقت الذي يلاحظ نسبة القتل في سورة (الشمس) لقوم ثمود جميعا حيث يقول سبحانه :( فَعَقَرُوها ) ، ويمكن تعليل هذا الأمر بأنّ فعل الشخص القاتل كان نيابة عن الجميع وبرضاهم ، وكما نعلم فإنّ الذي يرضى بفعل قوم يكون شريكا لهم فيه(١) .

وجاء في بعض الرّوايات أنّ (قدارة) كان قد شرب مسكرا ، وقد أقدم على هذا العمل القبيح والجناية الكبيرة وهو في هذه الحالة.

وفي طريقة قتل الناقة أقوال كثيرة ، حيث يذهب البعض إلى أنّ قتلها كان بالسيف ، ويقول البعض الآخر : إنّ (قدارة) قد نصب لها كمينا وراء صخرة وضربها بالسهم أوّلا ثمّ هجم عليها بالسيف.

وتأتي الآية الكريمة اللاحقة مؤكّدة إنذارهم قبل نزول العذاب الشديد عليهم ، حيث يقول سبحانه :( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ) ثمّ وقع العذاب والسخط الإلهي على هؤلاء المتمردّين المعاندين حيث يضيف سبحانه :( إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ) .

__________________

(١) كما بيّنا شرح هذا الموضوع تحت عنوان (الارتباط الرسالي) في الآية ٦٥ سورة هود.

٣٢٩

«الصيحة» هنا تعني الصوت العظيم الذي يأتي من السماء ، ويحتمل أن يكون إشارة للصاعقة المخيفة التي ضربت قريتهم ، حيث يقول سبحانه :( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ) .(١)

(الهشيم) من مادّة (هشم) على وزن «حسم» وفي الأصل بمعنى انكسار الأشياء الضعيفة كالنباتات ، وتطلق عادة على النباتات اليابسة المتكسّرة التي يهيؤها الرعاة لمواشيهم بعد سحقها ، كما تطلق أحيانا على النباتات اليابسة المسحوقة بأرجل الحيوانات في الحضيرة.

(محتظر) في الأصل من مادّة (حظر) على وزن (حفز) بمعنى المنع ، ولذلك فإنّ إعداد الحظائر للحيوانات والمواشي تكون مانعة لها من الخروج ولدرء المخاطر عنها ، ومفردها (الحظيرة) ، و «محتظر» على وزن محتسب ـ هو الشخص الذي يملك مثل هذا المكان.

والاستعراض الذي ذكرته الآية الكريمة حول عذاب قوم ثمود عجيب جدّا ومعبّر للغاية ، حيث لم يرسل الله لهم جيوشا من السماء أو الأرض للتنكيل بهم ، وإنّما كان عذابهم بالصيحة السماوة العظيمة ، فكانت صاعقة رهيبة ، أخمدت الأنفاس ، وكان انفجارا هائلا حطّم كلّ شيء في قريتهم ، فأصبحت بيوتهم وقصورهم كحظيرة المواشي ، وأجسادهم المحطّمة كالنبات اليابس المرضوض المهشّم.

إنّ استيعاب هذا اللون من العذاب كان صعبا وعسيرا للأقوام السالفة ، ولكنّه يسير بالنسبة لنا ، وذلك من خلال معرفتنا لتأثير الأمواج الناتجة من الإنفجارات ، حيث أنّها تحطّم كلّ شيء يقع ضمن دائرة إشعاعاتها.

ومن الطبيعي أنّنا لا نستطيع المقارنة بين الإنفجارات البشرية وصاعقة

__________________

(١) فصّلت ، ١٣.

٣٣٠

العذاب الإلهي التي أشاعت الدمار الرهيب في هؤلاء القوم الحمقى المستبدّين ، وعلى بيوتهم وقصورهم ، عسى أن يكون عبرة ودرسا للآخرين ، حيث يقول سبحانه :( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) .

وهكذا تنهي الآيات الكريمة هذا المشهد المثير بالتأكيد على ضرورة الاستفادة من هذه الدروس البليغة ، حيث التعابير الحيوية الواضحة ، والقصص المعبّرة ، والإنذارات المحفّزة والتهديدات القويّة.

* * *

٣٣١

الآيات

( كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠) )

التّفسير

المصير الأكثر شؤما :

نلاحظ في هذه الآيات تعبيرات قصيرة وقويّة حول قصّة «قوم لوط» والعذاب الشديد الذي حلّ بهم ، وهم المجموعة الرابعة من الأقوام التي اتّصفت بالقبح والضلال والتي استعرضتهم هذه السورة المباركة حيث يبدأ الحديث عنهم بقوله سبحانه :( كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ) .

و «نذر» كما ذكر سابقا جمع (إنذار) وتعني التهديد والتخويف ، ومن المحتمل

٣٣٢

أن يكون المراد بها بعد ذكرها بصيغة الجمع هو الإنذارات المتعاقبة من النّبي لوطعليه‌السلام لقومه ، والتي كذّب بها أجمع ، كما يمكن أن يكون المقصود منها هو إشارة إلى إنذار لوطعليه‌السلام والأنبياء الذين سبقوه في الدعوة إلى الله ، ذلك أنّ جميع الأنبياء يسعون من أجل تثبيت حقيقة أساسية واحدة وهي العبودية لله.

وتستعرض الآيات التالية بجمل قصيرة مشاهد من العذاب الذي نزل بقوم لوط وكيفية نجاة عائلته حيث يقول سبحانه :( إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً ) .

و «حاصب» تعني الريح الشديدة التي تأتي بالحجارة والحصباء ، والحصباء هي الحصى ، ويكون المقصود : إنّا أمطرناهم بالحجارة والحصباء حتّى علت أجسادهم ودفنوا تحتها ،( إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ ) .

وتتحدّث الآيات القرآنية الاخرى عن هول العذاب الذي حلّ بقوم لوط حيث الزلازل التي قلبت مدنهم فأصبح عاليها سافلها ، وبذلك أصيبت بكارثة الدمار الماحق وتتحدّث عن مطر الحجارة والحصى الذي نزل عليهم بشدّة ، فيقول سبحانه في ذلك :( فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ) .(١)

ويثار السؤال التالي وهو : هل أنّ العذاب الذي نزّل بقوم لوط كان على نوعين : الأوّل : العاصفة التي حملت الحجارة وحصى الصحراء وقذفتهم بها.

والثاني : الأحجار السماوية من السجّيل المنضود. أو أنّهما كانا نوعا واحدا؟ حيث العواصف العظيمة المحمّلة بالحصى والحجارة المأخوذة من الصحراء ترفعه العواصف العاتية نحو السماء ليعود مرّة اخرى إلى الأرض بعد انخفاض العواصف باتّجاهها.

ولذا فليس من المستبعد أن تأخذ العاصفة قسما من الحصى والحجارة

__________________

(١) هود ، ٨٢.

٣٣٣

وترفعها إلى السماء بأمر من الله تعالى لتسقط مرّة اخرى على مدنهم بعد أن أصابها الزلزال العظيم ، فتطمس معالمها المدمّرة ، وتمحو آثار خرائبها من على وجه الأرض ، وتدفن أجسادهم وتنهي كلّ أثر لهم ، كي يكونوا إلى الأبد عبرة وعظة للآخرين(١) .

والذي يفهم من الآية السابقة أنّ نجاة آل لوط كان في وقت السحر ، والسبب في ذلك أنّ الوعد بالانتقام الإلهي من قوم لوط كان وقت الصبح ، لذلك ـ بأمر من الله ـ قد نجت هذه العائلة المؤمنة بخروجها من المدينة آخر الليل ـ باستثناء زوجته التي تنكّبت وأعرضت عن دعوته ـ حيث لم يمض وقت طويل حتّى نزل العذاب عليهم زلزالا وعاصفة عاتية تمطرهم بالحصى والحجارة ، كما يتحدّث القرآن الكريم عن هذا المشهد المثير في سورة هود ويقول :( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) (٢) .

ومن هنا يتّضح عدم تناسب أقوال المفسّرين الذين اتّبعوا أقوال أئمّة اللغة وذلك باعتبارهم «السحر» ما بين الطلوعين في الآية أعلاه(٣) .

ويضيف البارئعزوجل بقوله :( نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ ) (٤) .

إنّ لوطاعليه‌السلام قد أتمّ الحجّة على قومه قبل أن ينزل البلاء عليهم ، حيث يوضّح الله سبحانه هذه الحقيقة فيقول تعالى :( وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ ) .

(بطش) على وزن (فرش) وتعني في الأصل أخذ الشيء بالقوّة ، ولأنّ المجرم لا يؤخذ إلّا بالقوّة ليلقي جزاءه ، لذلك فإنّها تعني المجازاة.

__________________

(١) توجد أبحاث اخرى حول هذا الموضوع في الآية (٨٢) من سورة هود.

(٢) هود ، ٨١.

(٣) يقول الراغب في المفردات : السحر اختلاط ظلام آخر الليل بضياء النهار.

(٤) نعمة مفعول به لفعل مقدّر من نفس جنسه ، أو أنّه مفعول له لـ (نجّينا) الذي ورد في الآية السابقة.

٣٣٤

(تماروا) من (تمارى) بمعنى محادثة طرفين لإيجاد الشكّ وإلقاء الشبهة مقابل الحقّ ، فهؤلاء سعوا بطرق مختلفة إلى إلقاء الشكوك والشبهات بين الناس لإبطال تأثير إنذارات هذا النّبي العظيم «لوط»عليه‌السلام .

ولم يكتف هؤلاء المعاندون بإلقاء الشبهات العقائدية بين الناس ، بل بلغت بهم الوقاحة والصلف وعدم الحياء حدّا أنّهم تجرّؤوا على ملائكة الرحمن وضيوف النّبي الكريم المأمورين بعذاب هؤلاء القوم حينما دخلوا بيت لوطعليه‌السلام بصورة شباب وسيمين ، حيث يقول سبحانه :( وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ ) أي أنّهم طلبوا منه أن يضع ضيوفه تحت تصرّفهم.

لقد بلغ الألم الذي اعترى «لوطا»عليه‌السلام حدّا لا يطاق نتيجة هذا التصرّف القبيح والمخجل لقومه ، وطلب بإصرار أن يكفّوا عن هذا السلوك المشين المخجل البعيد عن الشرف والحياء. بل وأدبى استعدادهعليه‌السلام لتزويج بناته لهم ـ إن أعلنوا توبتهم ـ وهذه أعلى حالات المظلومية التي يتعرّض لها هذا النّبي الكريم من قبل قوم عديمي الحياء والإيمان والقيم الخيرة ، كما في قوله سبحانه :( قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ) .(١)

ولم يمض وقت طويل حتّى واجهت هذه الفئة المجرمة الباغية الجزاء الأوّلي لعملهم الإجرامي حيث يقول في ذلك سبحانه :( فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ ) .

إنّ يد القدرة الإلهيّة امتدّت لتنتقم من هؤلاء القوم المجرمين ، وذلك بأن طمست على أعينهم ، حيث يقول البعض بأنّ جبرائيل قد امر أن يخفق بجناحهم على عيونهم حيث فقدوا بصرهم حالا ، وقيل أنّ بؤر أبصارهم قد أصبحت مستوية مع وجوههم.

__________________

(١) الحجر ، ٧١

٣٣٥

ومع أنّ القرآن الكريم لم يبيّن من هم الأشخاص الذين راودوا (الملائكة) ضيوف النّبي الكريم لوطعليه‌السلام ، إلّا أنّ من الواضح أنّه لم يكن جميع القوم ، بل أوباشهم الأكثر وقاحة وإجراما الذين تسابقوا للقيام بهذا الجرم المشين ، ولذا فإنّ العذاب الذي لحقهم في طمس عيونهم يفترض أن يكون عبرة للآخرين من قومهم. وللأسف الشديد لم يكن هنالك من يتّعظ ويعتبر بهذا الدرس الإلهي البليغ ، والذي كان مقدّمة للعذاب الإلهي المحتوم عليهم جميعا.

ويقال : أنّ سبب تأخير العذاب على قوم لوط إلى الصبح ، هو أنّ هذه الحادثة كانت قد وقعت قبل يوم ، لذا فقد اعطي لهؤلاء المعاندين مهلة ليلة اخرى عسى أن يفكّروا في مصيرهم قبل نزول البلاء عليهم ، ويعتبروا بهذه الثلّة السيّئة الحظّ ممّن فقدوا بصرهم.

وتذكر الرّواية أنّ الجناة الذين فقدوا بصرهم لم يتّعظوا أيضا بما أصابهم ، فقد توعّدوا آل لوط أن لا يبقوا منهم أحدا ، وذلك في طريق عودتهم إلى بيوتهم وهم يتلمّسون الجدران ليهتدوا بواسطتها إلى أهليهم(١) .

وجاءت الساعة المرتقبة حيث أمر الله بفنائهم وقلبت الزلزلة مدينتهم رأسا على عقب وصبّ عليهم العذاب صبّا مع أوّل خيط من أشعّة فجر ذلك اليوم ، فتتمزّق أجسادهم وتتلاشى أبدانهم وتدمّر بيوتهم وتندثر قصورهم وتتحوّل إلى انقاض وخرائب ، وإذا بالمطر الحجري ينهمل عليهم ويطمس كلّ معالم الحياة لديهم حتّى لم يبق أي أثر لهم.

وذلك ما تشير له الآية الكريمة حيث تعكس هذا المعنى باختصار وتركيز( وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ ) .

نعم ، وفي لحظات قصار انتهى كلّ شيء ولم يبق لهم أثر!!

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٨٥.

٣٣٦

كلمة (بكرة) تعني (أوّل اليوم) لأنّ (صبّحهم) واسع المعنى ويشمل كلّ الصباح ، في الوقت الذي يقصد في الصباح هنا (أوّله).

وهل كان وقت العذاب الإلهي بداية طلوع الفجر ، أو أنّه حصل في بداية طلوع الشمس؟ إنّ هذا الأمر لم يعرف بالضبط ولكن تعبير (بكرة) يتناسب أكثر مع بداية طلوع الشمس.

كلمة (مستقرّ) تعني الثبوت والإحكام ، أي بمعنى (ثابت الحكم) ويحتمل أن يكون المراد به هنا هو : أنّ العذاب الإلهي كان شديدا إلى حدّ أنّ أيّ قوة لم تكن قادرة على مواجهته.

ويقال لأنّ العذاب الدنيوي لهؤلاء القوم متّصل مع عذاب البرزخ ، لذا اطلق عليه أنّه (مستقرّ).

ثمّ يضيف سبحانه مؤكّدا ومكرّرا مرّة اخرى قوله :( فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ ) .

لكي لا يكون مجال للشكّ والتردّد في إنذار الأنبياء لكم بعد هذا ، ورغم أنّ هذه الجملة ذكرت مرّتين في القصّة :( فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ ) إلّا أنّه من الواضح هنا أنّ الجملة الاولى تشير إلى العذاب الذي حلّ بالمجموعة التي اقتحمت بيت لوطعليه‌السلام وما نتج من إصابتهم بالعمى مقدّمة للعذاب العامّ ، والثانية إشارة إلى العذاب الذي نزل بقوم لوط أجمع من الزلازل والدمار ومطر الحجارة.

وفي نهاية المطاف وفي آخر آية من بحثنا هذا تتكرّر جمل الموعظة والعبرة وللمرّة الرابعة في هذه السورة بقوله تعالى :( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) .

نعم ، لم يتّعظ قوم لوط من النذر ، ولم يتّعظوا من العذاب الأوّل الذي أعمى أبصار البعض منهم والذي كان بمثابة إنذار لهم فهل أنّ الآخرين الذين يرتكبون نفس الذنوب يتّعظون لدى سماع آيات القرآن هذه وينوبوا إلى رشدهم ويندموا على ما فرط منهم؟!

* * *

٣٣٧

الآيات

( وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) )

التّفسير

هل أنتم أفضل من الأقوام السابقة؟!

المجموعة الخامسة التي يتحدّث عنها القرآن في هذه السلسلة هم قوم فرعون ، ولأنّ الحديث عن هؤلاء القوم قد طرح بصورة تفصيلية في السور القرآنية المختلفة ، لذا فإنّ هذه السورة المباركة تستعرض هذه القصّة في مقاطع مختصرة ومركّزة حول ضرورة الاستفادة من العبر التي جاءت فيها والاتّعاظ منها

٣٣٨

يقول سبحانه :( وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ) (١) .

المقصود من (آل فرعون) ليسوا أهل بيته ومتعلّقيه فقط ، بل يشمل كلّ أتباعه بصورة عامّة ، لأنّ كلمة (آل) وبالرغم من أنّها تستعمل في الغالب لأهل البيت والعائلة ، إلّا أنّ معناها أوسع من ذلك ، حيث تأتي بالمعنى الذي ذكر ، والقرائن العامّة في هذا المورد تؤيّد هذا المعنى الواسع لها.

(نذر) على وزن (كتب) وهي جمع نذير ، وبمعنى «المنذر» سواء كان هذا المنذر إنسانا أو حادثة من الحوادث التي تحذّر الإنسان من عاقبة أعماله ، وفي الحالة الاولى يمكن أن يكون المقصود في الآية أعلاه (موسى وهارون)عليهما‌السلام ، وفي الصورة الثانية إشارة إلى المعجزات التسع لموسىعليه‌السلام ، ومن خلال ملاحظة الآية التي بعدها تشير إلى أنّ المعنى الثاني هو الأنسب.

والآية اللاحقة تكشف عن ردّ الفعل لآل فرعون من دعوة النبيين الإلهيينعليهما‌السلام ، والإنذارات التي وجّهوها لهم حيث يقول الله سبحانه :( كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها ) .

نعم إنّ هؤلاء المغرورين من الجبابرة والمعاندين قد أنكروا كلّ الآيات الإلهيّة وبدون استثناء ، وحسبوها سحرا وكذبا وصدفة.

(آيات) لها معنى واسع تشمل الدلائل العقلية والمعجزات والدلائل النقلية ، وعند ملاحظة قوله تعالى :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ) يتبيّن لنا أنّ المقصود بـ (الآيات) هنا هي المعجزات التسع لموسىعليه‌السلام (٢) .

__________________

(١) (نذر) بالإضافة إلى كونها جمع (نذير) ، فإنّها تعطي أيضا معنى المصدر أو اسم المصدر ، ولكون المصدر يطلق على المعنى الوصفي أيضا ، لذا يمكن جمع الإثنين في مفهوم واحد.

(٢) المعجزات التسع لموسىعليه‌السلام وبالنظر إلى الآيات القرآنية المختلفة فهي عبارة عن : «تبديل العصا لثعبان عظيم» (طه / ٢٠) (٢) «يد بيضاء» ولمعان يد موسىعليه‌السلام كمصدر نور (طه / ٢٢) (٣) الطوفانات المحطّمة الأعراف / ١٣٣ (٤) (الجراد) الذي سلّط على المزارع ، (٥) (والقمل) (وهو نوع من الآفات الزراعية) ، (٦) (الضفادع) التي خرجت من نهر النيل وبعد مدّة قصيرة غطّت سطحه (٧) (الدم) حيث أصبح لون نهر النيل بلون الدم (الأعراف / ١٣٣) ، (٨) ، (٩) عدم نزول الأمطار ونقص الثمرات (الأعراف / ١٣٠).

٣٣٩

إنّ الإنسان إذا كان صادقا في البحث عن الحقيقة فانّه يكفيه أن يرى واحدة منها ، وخاصّة تلك التي يسبقها إنذار ، ثمّ بلاء ، ثمّ زوال هذا البلاء عند دعاء النّبي الإلهي ، ولكن العناد ، والإصرار على الباطل والغرور إذا ركب الإنسان ، فحتّى لو أصبحت جميع السماء والأرض آيات لله ، فلن تكون ذات تأثير على أمثال هؤلاء ، والجواب الحاسم المناسب لهم هو العذاب الإلهي الذي يقضي على النزعات الشريرة والنفوس المريضة التي يملؤها الهوى والغرور. كما قال تعالى :( فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ) تكملة للآية مورد البحث.

«أخذ» في الأصل بمعنى تناول الشيء وأخذه باليد ، ولكون المجرم يؤخذ قبل أن يعاقب ، لذا فإنّها تستعمل كناية عن المجازاة.

والتعبير الآخر الذي أتى في آخر هذه القصّة لا يوجد له شبه في التعابير المماثلة في القصص الاخرى ، وذلك لأنّ الفراعنة كانوا يتباهون بقوّتهم وسطوتهم وعزّهم أكثر من بقيّة الأمم ، والحديث عن قوّة سلطانهم كان في كلّ مكان. يقول الله تعالى :( فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ) وذلك كي يكون واضحا للجميع أنّ القوّة الحقيقة هي لله وحده ، لأنّ كلّ قوّة وعزّة اخرى غير قوّته وما يتّصل بذاته وهميّة لا تساوي شيئا في قبال عزّته وقدرته والعجيب أنّ نهر النيل العظيم الذي كان مصدر خير وثروة لهم ، هو الذي أمر بالانتقام منهم ، والأعجب من ذلك أنّ أضعف المخلوقات سلّطت عليهم كالجراد والضفادع والقمل فجعلتهم في حالة عجز ومسكنة لا يقدرون على دفعها ، وهم الذين كانوا من السطوة والقوّة موضع حديث أهل زمانهم :

وبعد بيان هذه المشاهد المؤثّرة من قصص الأقوام المنصرمة والعذاب الإلهي العظيم الذي حلّ بهؤلاء الجبابرة المتمردّين على الحقّ ، يخاطب الله سبحانه في الآية اللاحقة مشركي مكّة بقوله تعالى :( أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526