الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 151397 / تحميل: 5597
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

تخصيص الفعل بالإيجاد في وقت دون آخر أو بإيقاعه على وجه دونَ وجه.

ويدلّ على ثبوت الإرادة له - تعالى - بالمعنى المطلق أنّ العالم حادث، فتخصيصُ إيجاده بوقتٍ دونَ ما قبله وما بعده، مع جوازهما، يفتقرُ إلى المخصّص، وليس القدرة، لتساوي نسبتها، ولا العلم لتبعيته، فهو الإرادةُ، ولأنّ تخصيص ما وجد بالإيجاد دونَ غيره من المقدورات يستدعي مخصّصاً هو الإرادةُ.

ويدلّ على إثبات إرادة الفعل منّا أمرُه بالطّاعة، ونهيه عن المعصية، وهما يستلزمان الإرادة والكراهة، خلافاً للأشعريّة الّذين أثبتوا الطلبَ مغايراً للإرادة، لعدم تعقّله، وإلزامُهم بتمهيد عذر السيّد الضّارب عبده للمخالفة إذا أمره مشتركٌ.

المطلب السّادس: في أنّه - تعالى - مُدرِكٌ

اتّفق المسلمون على أنّه - تعالى - سميع بصيرٌ، واختلفوا، فقال أبو الحسين والكعبيّ والأوائل: إنّ معناه علمه بالمسموعات والمبصرات، لاستحالة أن يكونَ هو الإحساسَ بالحواس ولا ما عداه غير العلم، لأنّه غيرُ معقول، وسيأتي أنّه - تعالى - عالم بكلّ معلوم، وللسّمع.

وأثبت الجُبائيّان والأشعريّ والسّيّد المرتضى والخوارزميّ أمراً زائداً على العلم، لأنّ إدراكنا زائدٌ على علمنا؛ للفرق بينَ العلم عندَ المشاهدة وبينه

١٤١

عندَ عدمها. والمقتضي لذلك كونُ المدرك حيّاً، والله - تعالى - حيٌّ، فإدراكه زائد، والمقدّماتُ ضعيفةٌ.

ثمّ استدلّوا على ثبوته بأنّه - تعالى - حيّ، فيصحُّ أن يتّصف بالسّمع والبصر، وكلّ من صحّ اتّصافه بصفة وجب أن يتّصف بها أو بضدّها، وضدّها نقصٌ، وهو على الله - تعالى - مُحال.

والحقّ استنادُ ذلك إلى النّقل، ولا يجبُ صحّةُ اتّصاف الحيّ بالسّمع والبصر، فإنّ أكثرَ الهوامّ والسّمك لا سمعَ لها، والعقربُ والخُلَدُ (1) لا بصرَ لهما. والدّيدان (2) وكثيرٌ من الهوامّ لا سمَ لها ولا بصرَ. فلو لم يمتنع اتّصاف تلك الأنواع بالسّمع والبصر لما خلا جميعُ أشخاصها منهما. (3)

وإذا جاز أن يكونَ بعضُ فصول الأنواع مزيلاً لتلك الصّحة بطلت الكليّة. ولا يجبُ اتّصاف الشّيء بأحد الضّدّين كالشّفاف. نعم يجبُ أن يتصف القابل للصّفة بها أو بعدمها، ونمنع كونَ ضدّهما نقصاً في حقّه تعالى.

والقياسُ باطلٌ، على أنّ حياته - تعالى - مخالفةٌ لحياتنا. ولا يجبُ العموميّةُ، لانتفاء القابليّة، كما أنّ حياتنا مصحّحةٌ للشهوة والنّفرة دونَ حياته تعالى.

____________________

(1) ج: الجراد.

(2) ج: الدّيران.

(3) ج: منها.

١٤٢

المطلب السّابع: في أنّه - تعالى - متكلّمٌ

اتّفق المسلمون على ذلك، لقوله تعالى، ( وَكَلّمَ اللّهُ مُوسَى‏ تَكْلِيماً ) (1) ، ولا دورَ؛ لأنه إثباتٌ لكلامه - تعالى - بإخبار الرّسول المعلوم صدقه بالمعجزة، ولأنّه قادرٌ على كلّ مقدور.

واختلفوا، فعندَ المعتزلة، أنّه خلق في أجسام جماديّة أصواتاً دالّةً على معان مخصوصة، فهو متكلّمٌ بهذا المعنى.

والأشاعرة جوّزوا ذلك، لكن اثبتوا معنىً نفسانيّاً قائماً بذات المتكلّم مغايراً للعلم والإرادة. يدلُّ عليه هذه الحروف والأصواتُ وأنّه قديمٌ في حقّه - تعالى - واحدٌ ليس بأمر ولا نهي ولا خبر؛ لأنّه حيّ يصحّ اتّصافه بالكلام. فلو لم يكن موصوفاً به كان متّصفاً بضدّه، وهو نقصٌ.

ولأنّ أفعاله - تعالى - لمّا جاز عليها التّقدّم والتّأخّرُ أثبتنا الإرادةَ المخصّصةَ، (2) وأفعالُ العباد متردّدةٌ بينَ الحظر والإباحة وغيرهما من الأحكام فلابدّ من مخصّص غير الإرادة، لأنّه قد يأمر بما لا يريدُ وبالعكس، فهو الكلام الّذي هو الطلبُ النّفسانيّ، ولأنّه مَلِك مُطاعٌ، فله الأمرُ والنّهيُ.

اعترضت (3) المعتزلة: بأنّ الاستدلال على الإثبات (4) فرع تصوّر المستدل عليه. وما ذكرتموه غيرُ متصور ويمنع صحة اتّصافه تعالى به،

____________________

(1) النساء: 4/162.

(2) ج: اثبت إرادة مخصوصة.

(3) ألف: اعترض.

(4) ج: إتيان/ ب: إثبات ممنوع وما التزموه.

١٤٣

ويمنع وجوب الاتّصاف بأحدهما وكون الضّدّ نقصاً، بل ثبوته نقصٌ، إذ أمرُ المعدوم ونهيُه وإخباره سفهٌ. والأحكام عقليّةٌ لا سمعيّةٌ فالمُخصّص إمّا الصّفات أو الوجوه والاعتبارات الّتي تقع عليها الأفعال، ويقبح الأمر بما لا يريدُ.

وتمهيدُ العذر في قتل العبد بإيجاد صورةٍ، الأمر، وهو مشترك بين الطلب والإرادة. والمُطاعُ إن عنوا به نفوذَ قدرته في جميع الممكنات فهو حقٌّ، وإن عنوا ما طلبوه منعناه.

المطلب الثّامنُ: في أحكام هذه الصّفات وهي إحدى عشر بحثاً

ألف - ذهب جماعة من المعتزلة والأشاعرة إلى أنّ هذه الصّفات وجوديّةٌ وإلاّ لصحّ حملُها على المعدوم. والملازمةُ ممنوعةٌ، فإنّ كثيراً من العدميّات يمتنعُ حملهُ على المعدوم، وعندَ الأوائل وأبي الحسين أنّها ليست وجوديّةً. وإلاّ لزم تعدّدُ القدماء.

ب - هي نفسُ الذّات في الخارج وإن كانت زائدةً في التّعقّل، وهو اختيارُ الأوائل وأبي الحسين، لما تقدّم، ولأنّ الوجود لو كان زائداً كان ممكناً، لأنّه وصفٌ للماهيّة، فلا يكونُ واجباً، هذا خُلفٌ. ولأنّ مؤثّره إمّا الماهيّةُ لا بشرط الوجود، فالمعدومُ مؤثّر في الموجود أو بشرطه، (1) فيتسلسل (2) أو يدور أو غيرها، فيفتقر إلى الغير.

____________________

(1) ج: لشرطه.

(2) ألف: فتسلسل.

١٤٤

وعندَ جماعة من المعتزلة والأشاعرة أنّها زائدةٌ، للمغايرة بينَ قولنا: واجب الوجود موجودٌ، وبين قولنا: إنّه قادرٌ. وللاستفادة بكلّ منهما، بخلاف قولنا: واجبُ الوجود واجبُ الوجود؛ ولأنّا قد نعلمُ الذّات ونشكّ (1) في الصّفات، وكلّ ذلك يدلٌّ على المغايرة الذّهنيّة.

ج - هذه الصّفات أزليّةٌ وإلاّ لافتقرت إلى مؤثّر، فإن كان ذاته دار، وإن كان غيره افتقر إلى غيره، ولأنّ تأثيره في غيره يستلزم ثبوتها، فهي ثابتة قبل علّتها.

د - هذه الصّفات ذاتيّةٌ عندَ المعتزلة والأوائل، لامتناع استنادها إلى غير ذاته، لما تقدّم، وعندَ الأشعريّة أنّها معلّلةٌ بالمعاني، فهو قادرٌ بقدرة، عالمٌ بعلم، حيّ بحياة، إلى غير ذلك من الصّفات.

قال نفاةُ (الأحوال) منهم إنّ العلمَ نفس العالميّة، والقدرة نفس القادريّة، وهما صفتان زائدتان على الذات وقال مثبتوها: إنّ عالميّته - تعالى - صفةٌ معلّلةٌ بمعنى قائم به، وهو العلم.

هـ - إرادته إمّا نفسُ الدّاعي، كما تقدّم، أو أمرٌ زائدٌ عليه مستندٌ إلى ذاته، كاختيار النّجّار، (2) خلافاً للجمهور. وعند الجبّائيين أنّه مريدٌ بإرادةٍ حادثةٍ لا في محلّ؛ إذ لو كان مريداً لذاته لعمّت إرادته، كالعلم، فيريدُ الضّدّين، أو لإرادةٍ قديمةٍ لزم ثبوتُ القدماء، أو لإرادة حادثة في ذاته كان محلاًّ

____________________

(1) ألف: نشكّل.

(2) ب: كاختيار المختار.

١٤٥

للحوادث، أو في غيره. فإن كان حيّاً رجع حكمها إليه، وإلاّ استحال حلولها فيه، ووجودُ إرادة لا في محلّ غيرُ معقول.

و - خبره - تعالى - صدقٌ، لقبح الكذب عقلاً، فلا يصدر عنه، ولأنّ الكذبَ إن كان قديماً استحال منه الصّدق، والتّالي باطل، للعلم بإمكان صدور الصّدق من العالم بالشّيء. والأخيرُ دليل الأشاعرة ولا يتمّ، لبنائه على أنّ الكلامَ القديمَ هو عين الخبر، وأنّه خبرٌ واحدٌ، ولعدم دلالته على صدق الألفاظ.

ز - قدرته - تعالى - تتعلّقُ بكلّ مقدور، للتّساوي في العلّة الّتي هي الإمكانُ. ومنع الأوائل من صدور اثنين عنه، لأنّه بسيط، ولا يتأتّى في القادر لو صح. ومنع الثّنويّةُ والمجوس من صدور الشّرّ عنه، وإلاّ كان (1) شرّيراً. فعند المجوس فاعلُ الخير يزدانُ وفاعل الشّرّ أهرمن. وعنوا بهما ملكاً وشيطاناً، واللهُ - منزّهٌ عن فعل الخير والشرّ. والمانويّةُ تسند ذلك (2) إلى النّور والظّلمة وكذا الدّيصانيّة.

وعند جميعهم أنّ الخيّر هو الّذي يكون جميع أفعاله خيراً، والشّرّيرَ هو الّذي يكون جميع أفعاله شرّاً. والخيرُ والشّرّ لا يكونان لذاتهما خيراً وشرّاً، بل بالإضافة إلى غيرهما. وإذا أمكن أن يكون شيء واحد بالقياس إلى واحد خيراً وبالقياس إلى غيره شرّاً أمكن أن يكونَ فاعل ذلك الشّيء واحداً.

____________________

(1) ج: لكان.

(2) ج: يستندونهما/ ب: يستند وكذا.

١٤٦

ومنع النّظامُ من قدرته على القبيح، لأنّه محالٌ، لدلالته على الجهل أو الحاجة. والاستحالة من جهة الدّاعي، لا من حيث القدرة.

ومنع عَبّاد من قدرته على ما علم وقوعه أو عدمه لوجوبه أو امتناعه وهو ينفي القدرة، والعلمُ تابعٌ.

ومنع البلخيُّ من قدرته على مثل مقدور العبد؛ لأنه إمّا طاعةٌ أو سفهٌ، وهما وصفان لا يقتضيان المخالفة الذّاتيّة.

ومنع الجُبائيّان من قدرته على عين مقدور العبد، لامتناع اجتماع قدرتين على مقدور واحد؛ لأنّه إن وقع بهما استغنى بكلّ منهما عن الآخر، وإن لم يقع بهما كان المانعُ هو وقوعه بالآخر، فيقع بهما حال ما لا يقعُ بهما وإن وقع بأحدهما لم يكن الآخر قادراً، والأخيرة ممنوعةٌ.

ح - علمُه - تعالى - متعلّقٌ بكلّ معلوم، لأنّه حيّ، فيصحّ أن يعلم كلّ معلوم. فلو اختصّ تعلقه بالبعض افتقر إلى مخصّص، وهو محال ولأنّه يصحُّ أن يعلم كلّ معلوم، فيجب، لأنّها صفةٌ نفسيّةٌ متى صحّت وجبت.

وبيانُ المقدّم، أنّه حيٌّ، وهو يصحّ أن يعلم كلّ معلوم، لأنّ الحيّ هو الّذي لا يستحيل أن يعلم. ونسبةُ الصّحّة إلى الكلّ واحدةٌ.

وبعض الأوائل منع من علمه بذاته، لأنّه إضافةٌ فيستدعي المغايرة. وينتقضُ بعلمنا بأنفسنا.

ومنهم من منع علمه بغيره، لاستحالة حلول صور في ذاته. ويُنتقضُ

١٤٧

بعلم الواحد بنفسه، ولأنّه إضافةٌ، لا صورةٌ، ولأنّ الصّدور (1) عنه أبلغ في الحصول من الصّورة المنتزعة الصّادرة عن العاقل لمشاركة المعقول، ثم تلك الصّورة تعلمُ بذاتها، فهنا أولى.

ومنهم من منع من علمه بالجزئيّات من حيث هي متغيّرةٌ إلاّ على وجه كلّيّ، فلا يعلم أنّ المتغيّر وقع أو سيقع؛ لأنّه عند عدمه إن بقى العلمُ لزم الجهل، وإلاّ كان متغيّراً.

وأجاب بعضهم بأنّ العلم بأنّ الشّيء سيوجد هو غير العلم بالوجود حينَ الوجود.

وهو غلطٌ، لاستدعاء العلم المطابقةَ، بل الحقُّ أنّ التّغيّرَ في الإضافات كتغيّر المقدور المستلزم تغيّر إضافة القدرة، لا القدرة.

ط - وجوبُ وجوده لذاته يقتضي امتناعَ عدمه في وقتٍ مّا. فهو قديمٌ أزليّ باقٍ سرمديٌّ. وبقاؤه لذاته لا لبقاء يقوم به، خلافاً للأشعريّ، وإلاّ افتقر في وجوده إلى غيره، هذا خُلفٌ. ولأنّ بقاءه باق فيتسلسل أو يدور إن بقى بالغير أو بالذّات، وإن بقى لذاته كان أولى بالذّاتيّة.

والتّحقيق أنّ البقاء يراد به امتناع خروج الذّات الثّابتة عن ثبوتها (2) ومفارقة الوجود لأكثر من زمان واحد بعدَ الزّمان الأوّل، والأوّل ثابتٌ في حقّه تعالى، لا زائدَ عليها. والثّاني منتفٍ، (3) لأنّه لا يعقلُ فيما لا يكونُ فانياً. (4)

____________________

(1) ج: المصدور.

(2) ج: ثباتها.

(3) ب: مفتقرٌ.

(4) ب، ج: زمانياً.

١٤٨

كما أنّ الحكم بأنّ الكلّ أعظم من الجزء لا يمكن وقوعه في زمان أو في جميع الأزمنة، كما لا يقال إنّه واقعٌ في مكان أو في جميع الأمكنة. وهو بناءً على أنّ التّغيّر يستدعي الزّمان.

ي - قدرتُه، علمه؛ وإرادته كافيةٌ في الإيجاد، لوجوبه عند اجتماعهما، خلافاً لبعض الحنفيّة، حيث أثبتوا التّكوين صفة أزليّة لله تعالى. والمكوّن محدث، لقوله تعالى: ( إِنّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (1) فـ (كن) متقدّمٌ على (الكون)، وهو المسمّى بالأمر، والكلمة والتّكوين والاختراع والإيجاد والخلق، ولأنّ القدرة مؤثّرةٌ في صحّة وجود المقدور، والتّكوين مؤثّر في نفس وجوده.

وهو غلطٌ، لأنّ التّكوين إن كان قديماً لزم قدم الأثر، لأنّه نسبةٌ، وإن كان محدثاً تسلسل. وقوله (كن) لا يدلّ على إثبات صفة زائدة على القدرة، والقدرةُ لا تأثيرَ لها في صحّة الوجود، لأنّها ذاتيّةٌ للممكن.

يا - أثبت الأشعري (اليد) صفةً وراء القدرة، و(الوجه) صفةً وراء الوجود، و(الاستواء) صفةً أُخرى. وأثبت القاضي (2) إدراكَ الشّمّ والذّوق واللّمس ثلاثَ صفاتٍ. وأثبت عبد الله بن سعيد (القدم) صفةً مغايرةً للبقاء، و

____________________

(1) يس: 36/82.

(2) هو أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد المعروف بقاضي القضاة، من أئمة المعتزلة، له مصنّفات منها: شرح الأُصول الخمسة، تنزيه القرآن من المطاعن، المغني، مات سنة 415هـ. الأعلام: 3/273.

١٤٩

(الرّحمة) و(الكرم) و(الرّضا) صفاتٍ غيرَ الإرادة. ولا دليل على شيء من ذلك.

وجزم آخرون بنفي ما زاد على السّبعة، لأنّا كلّفنا بالمعرفة، وإنّما تحصل بمعرفة الصّفات، فلابُدّ من طريق، وليس إلاّ الاستدلال بالآثار والتّنزيه عن النّقصان، وإنّما يدلاّن على السّبعة، ونمنع من التّكليف بكمال المعرفة.

١٥٠

الفصل الثّاني

في الصّفات السّلبيّة

وفيه مطالبُ [اثنا عشر]:

[المطلب] الأوّل: في أنّه - تعالى - ليس بمتحيّز

اتّفق العقلاء عليه، خلافاً للمجسّمة، لأنّ كلّ متحيّز لا ينفكّ عن الحركة أو السّكون، فيكون مُحدَثاً، ولأنّه حينئذ إمّا جسمٌ فيكون مركّباً فيكون حادثاً أو جزءاً لا يتجزّأ، وهو غير معقول، لامتناع اتّصاف مثل ذلك بالقدرة والعلم غير المتناهيين، ولأنّه لو كان جسماً لكان مركّباً. فالعلمُ الحاصل لأحد الجزأين ليس هو الحاصل للآخر، فيتعدد الآلهةُ. والظواهر متأوّلةٌ، وعجزُ الوهم لا يعارضُ القطع العقليّ.

المطلب الثّاني: في أنّه - تعالى - لا يحلّ في غيره

المعقول من الحلول قيامُ موجود بموجود آخر على سبيل التّبعيّة بشرط امتناع قيامه بذاته. وهو محالٌ في حقّ واجب الوجود، ولقضاء العقل بأنّ الغنيّ عن المحلّ يستحيلُ حلوله فيه. فإن كان حالاًّ في الأزل لزم قدم المحلّ، وإن لم يكن تجدّدت الحاجة، ولأنّ حلول الشّيء في غيره إنّما

١٥١

يتصوّر لو كان الحالُّ إنّما يتعيّنُ بواسطة المحلّ، وواجب الوجود لا يتعيّنُ بغيره.

وعندَ بعض النّصارى، أنّه - تعالى - حالٌّ في المسيح. وعند الصّوفيّة أنّه - تعالى - حالٌّ في (1) العارفين. والكلّ محالٌّ، فهو إذن ليس بعرض ولا صورة، لافتقارهما إلى المحلّ.

المطلب الثّالث: في أنّه - تعالى - مخالفٌ لغيره لذاته

ذهب أبو هاشم إلى أنّ ذاته - تعالى - مساويةٌ لسائر الذّوات في الذّاتيّة، ويخالفها بحالة توجبُ الأحوال الأربعة، أعني الحييّة والعالميّة والقادريّة والموجوديّة. وهي الحالة الإلهيّة لأنّ مفهومَ الذّات هو ما يصحّ أن يعلم ويُخبر عنه. وهو غلطٌ؛ لأنّ هذا المفهوم (2) أمرٌ اعتباريٌّ ليس نفسَ الحقائق الثّابتة في الأعيان، بل من المعقولات الثّانية.

ولا يمكن تساوي كلّ الذّوات، لأنّ اختصاصَ بعضها بما يوجب المخالفة إن لم يكن لمرجّح كان ترجيحاً لأحد طرفي الممكن، لا لمرجّح، وإلاّ تسلسل.

____________________

(1) ج: حالٌّ في الأبدان العارفين.

(2) ج: هذا المفهوم ليس أمر اعتباري.

١٥٢

المطلب الرّابع: في أنّه - تعالى - غيرُ مركّب

كلُّ مركّب ممكنٌ، لأنّه يفتقرُ (1) إلى جزئه، وجزؤه غيره، وكلّ مفتقرٍ ممكنٌ، وواجبُ الوجود ليس بممكن، فليس له أجزاءُ ماهيّة، أعني المادّة والصّورة، ولا عقليّة، أعني الجنس والفصل، ولا مقداريّة؛ ولا يتركّب عنه غيره، فليس جنساً ولا فصلاً ولا نوعاً يندرج تحته أفرادٌ، ولا يتركّب عنه غيره، إذ يستحيل أن ينفعل عن غيره.

المطلب الخامس: في أنّه - تعالى - لا يتحدُ بغيره

اتفق العقلاء من المتكلّمين والحكماء إلى (2) امتناع الاتّحاد، إلاّ فرفوريوس والرّئيس في بعض كتبه، لأنّ الشّيئين بعدَ الاتّحاد إن بقيا موجودين فهما اثنان لا واحدٌ، وإن عُدما فلا اتّحادَ، بل حدث ثالثٌ، وإن عُدم أحدهما لم يتّحد المعدوم بالموجود. وهذا حكمٌ عامٌّ في كلّ الماهيّات. نعم قد يقال: الاتّحادُ بالمجاز على صيرورة شيء شيئاً آخر بأن يخلعُ صورته ويلبس الأخرى، كما يقال: صار الماء هواءً؛ أو بأن يحدث للأجزاء مزاج (3) وهيئة زائدة على الآخر كما يقال: صار العفصُ والزّاجُ حِبراً، وهو منفيٌّ (4) عن واجب الوجود - تعالى -؛ لاستحالة خروجه عن

____________________

(1) ج: مفتقر.

(2) ج: على.

(3) ب، ج: امتزاجاً.

(4) ج: منتفٍ.

١٥٣

حقيقته وعدم أمر زائد عليها وامتناع تركّبه من غيره أو معه.

وقالت النّصارى باتّحاد الأقانيم الثّلاثة: الأب والابن وروح القدس، واتّحد ناسوتُ المسيح باللاّهوت.

والصّوفيّةُ قالوا: أنّه - تعالى - يتّحدُ بالعارفين. والكلُّ غيرُ معقول.

المطلب السادس: في أنّه - تعالى - ليس في جهة

اتفق العقلاء عليه إلاّ المجسّمة والكرّاميّة، لأنّه ليس بمتحيّز ولا حالّ في المتحيّز، فلا يكون في جهة بالضّرورة، ولأنّ الكائن في الجهة لا ينفكّ عن الأكوان بالضّرورة، فيكون مُحدَثاً، وواجبُ الوجود ليس بمُحدَث؛ ولأنّ مكانه مساو لسائر الأمكنة، فاختصاصه به ترجيحٌ عن غير مرجّح، ويلزمُ قِدَم المكان أو حلول المجرّد في مكان بعدَ إن لم يكن. وهو غير معقول.

وأصحابُ أبي عبد الله ابن الكرّام ذهب بعضهم إلى أنّه في جهةٍ فوق العرش لا نهاية لها، والبُعد بينه وبينَ العرش غيرُ متناه أيضاً. وقال بعضهم متناهٍ. والكلّ خطأٌ، لما تقدّم، ولأنّ العالم كرةٌ.

المطلب السابع: في استحالة الألم واللذّة عليه تعالى

اتفق العقلاء على استحالة الألم عليه، لأنّه إدراك منافٍ، ولا منافي له تعالى. أمّا اللذّةُ فقد اتفق المسلمون على استحالتها عليه، لأنّ اللذة والألمَ

١٥٤

من توابع اعتدال المزاج وتنافره، ولا مزاجَ له - تعالى -، ولأنّ اللّذّة إن كانت قديمةً وهي داعيةٌ إلى فعل الملتذّ به وجب وجوده قبل وجوده لوجود الدّاعي وانتفاء المانع، وإن كانت حادثةً كان محلاًّ للحوادث. وفيه نظرٌ، لجواز اتّحاد داعي اللذّة والإيجاد.

والأوائل أثبتوا له لذّةً عقليّةً لا بفعله، بل باعتبار علمه بكماله، فإنّ كلّ من تصوّر في نفسه كمالاً ابتهج، كما أنّ من تصوّر نقصاناً في نفسه تألّمَ. ولمّا كان كماله - تعالى - أعظمَ الكمالات، وعلمه بكماله أتمّ العلوم استلزم ذلك أعظمَ اللّذات.

والصّغرى ممنوعةٌ والقياسُ على الشّاهد ضعيفٌ، والإجماع ينفيه.

تذنيبٌ

يستحيل اتّصافه بكلّ كيفيّة مشروطة بالوضع، كالألوان والطّعوم والرّوائح وغيرها في (1) الأعراض، لامتناع انفعاله تعالى.

المطلب الثّامن: في أنّه - تعالى - ليس محلاًّ للحوادث

اتّفق الأكثرُ عليه، خلافاً للكرّاميّة، لامتناع انفعاله في ذاته، فيمتنع التّغيّرُ عليه، ولأنّ الحادث إن كان صفةَ كمال استحال خلوّه عنها أزلاً، (2) وإلاّ

____________________

(1) ج، ب: من.

(2) ب: أوّلاً.

١٥٥

استحال اتّصافُه بها، ولأنّه لو صحّ اتّصافُه به كانت تلك الصّحّةُ لازمةً لذاته، لاستحالة عروضها، (1) وإلاّ تسلسل، فتكونُ أزليّةً. وصحّةُ الاتّصاف بالحادث تستدعي صحّة وجود الحادث أزلاً، (2) وهو محالٌ.

المطلب التاسع: في أنّه - تعالى - غنيُّ

هذا من أظهر المطالب، لأنّه واجب من جميع الجهات، وكلّ ما عداه ممكنٌ محتاجٌ إليه، فلا يُعقل احتياجُه - تعالى - إلى غيره، ولأنّ ذاتَه واجبةٌ، وصفاته نفسُ حقيقته، فيستغني في ذاته وصفاته، ولأنّه - تعالى - ليس محلاًّ للحوادث، وغيره حادثٌ، والإضافات ليست وجوديّةً.

المطلب العاشر: في أنّه غيرُ معلوم للبشر

هذا مذهبُ ضرار والغزاليّ (3) وجميع الأوائل، لأنّ المعلوم منه - تعالى - ليس إلاّ السّلوبَ، مثلُ أنّه ليس بجسم ولا عرض، أو الإضافات مثل أنّه قادرٌ عالمٌ خالقٌ رازقٌ. والحقيقةُ مغايرةٌ لذلك بالضّرورة. وعندَ جماهير المعتزلة والأشاعرة، أنّه - تعالى - معلومٌ، لأنّ وجوده معلوم، وهو نفس حقيقته، ونمنع الصّغرى.

____________________

(1) ج: عدمها.

(2) ب: أوّلاً.

(3) هو أبو حامد محمد بن محمد المعروف بالغزالي، المتوفّى 505هـ.

١٥٦

المطلب الحادي عشر: في استحالة الرّؤية عليه تعالى

الأشاعرة خالفوا جميعَ الفرق في ذلك.

أمّا المعتزلةُ والفلاسفة فظاهرٌ.

وأمّا المجسّمة، فلأنّه لو كان مجرّداً لاستحال رؤيته عندهم.

واتفق العقلاء إلاّ المجسّمة على انتفاء الرّؤية، بسبب الانطباع أو الشّعاع، عنه - تعالى -.

والأشاعرةُ قالوا، إنّا نفرقُ بينَ علمنا حالةَ فتح العين وتغميضها، وليس بالانطباع ولا الشّعاع، فهو راجعٌ إلى حالةٍ أُخرى ثابتةٍ في حقّه تعالى.

والضّرورةُ قاضيةٌ ببطلانه، لانتفاء الجهة، وكلّ مرئيّ (1) مقابلٌ أو في حكمه، ولأنّه لو كان مرئيّاً لرأيناه الآن، لانتفاء الموانع ووجود الشّرائط، إذ ليست هنا إلاّ صحّة كونه مرئيّاً وسلامة الحاسّة، ولقوله تعالى: ( لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ) (2) تمدّح به، لتخلّله بين مدحين، فإثباته نقصٌ، وهو مُحالٌ عليه تعالى، ولقوله: ( لَنْ تَرَانِي ) (3) و(لن) لنفي الأبد، وإذا انتفت في حقّ موسى (عليه السلام) فكذا غيره.

____________________

(1) ألف: كل مراى.

(2) الأنعام: 6/103.

(3) الأعراف: 7/143.

١٥٧

احتجّوا بأنّ الجوهرَ والعرضَ مرئيّان، والحكمَ المشترك لابُدّ له من علّة مشتركة، وليس إلاّ الوجود والحدوث، والأخير لا يصلحُ للعلّيّة، لأنّ جزءه عدميّ، ولقوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نّاضِرَةٌ * إِلَى‏ رَبّهَا نَاظِرَةٌ ) (1) ولأنّه - تعالى - علّقها على استقرار الجبل الممكن، لأنّه جسمٌ ولأنّ موسى (عليه السلام) سألها.

والجوابُ: وجودُه - تعالى - حقيقته، وهو مخالفٌ لوجودنا، فلا يجب تساويهما في الأحكام. ونمنعُ احتياج صحّة الرّؤية إلى علّة، إذ لو وجب تعليل كلّ حكمٍ تسلسل، ولأنّها عدميّةٌ، ونمنعُ تساوي صحّة رؤية الجوهر وصحّة رؤية العرض، ويجوز تعليل المشترك بعلّتين مختلفتين، ونمنع الحصرَ بوجود الإمكان، فيجوزُ أن يكونَ علّةً لإمكان الرؤية وإن كان عدميّاً.

والحدوث هو الوجودُ المسبوق، ولا يلزمُ من وجود العلّة وجود المعلول، لجواز التّوقّف على شرط أو حصول مانع. و(إلى) واحدُ (الآلاء)، أو أنّ فيها إضماراً، تقديره: (إلى نِعَم ربّها) والتّعليق على الاستقرار حالةَ الحركة، وهو محال، والسّؤالُ وقع لقوم موسى، لقوله تعالى: ( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى‏ أَكْبَرَ مِن ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً ) (2) .

____________________

(1) القيامة: 75/22 - 23.

(2) النساء: 4/53.

١٥٨

المطلب الثاني عشر: في أنّه - تعالى - واحدٌ

لو كان في الوجود واجبا الوجودِ لكانا مشتركين في هذا المعنى، فإمّا أن يكونَ ذاتياً لهما، أو لأحدهما، أو عارضاً لهما. والأوّلُ يستلزم تركّبَ كلّ منهما، فيكون ممكناً. والثّاني والثالث يستلزم كلّ منهما أن لا يكونَ معروضه في ذاته واجباً.

ولا يجوز أن يكونَ الواجبُ لذاته هو المعنى المشترك خاصّةً، إذ لا وجودَ له في الخارج إلاّ مخصّصاً.

ولا يجوز أن يكونَ المخصّص سلبيّاً، فإنّ سلبَ الغير لا يتحصّلُ إلاّ بعدَ حصول الغير؛ ولأنّ المخالفةَ ممكنةٌ، لأنّ كلّ واحد منهما قادرٌ على جميع المقدورات، فيصحّ أن يقصد أحدهما إلى ضدّ ما قصد (1) الآخرُ، فإن حصل المُرادان، اجتمع الضّدّان، وهو محال، وان عدما كان المانع من مُراد كلّ منهما وجودَ مراد الآخر، فيلزمُ وجودهما وإن وُجِدَ أحدهما فهو الإله؛ وللسّمع.

وقالت الثّنويّةُ بقدم النّور والظلمة وكلّ خير في العالم فمن النّور، وكلّ شر فمن الظلمة، وكلٌّ منهما لا نهايةَ له في الجهات الخمس. والنّورُ حيٌّ عالمٌ والظلمةُ حيّةٌ جاهلةٌ. وسببُ حدوث العالم اختلاط أجزاء من النّور

____________________

(1) ب، ج: قصده.

١٥٩

بأجزاء من الظلمة. وأراد النّورُ الأعظم استخلاصَ تلك الأجزاء من الظلمة. فلم يمكنه إلاّ بخلق هذا العالم وخلق الأجسام النّيّرة فيه، بحيث تستخلصُ بنورها تلك الأجزاء النّورانيّة من الظلمة. فإذا خلصت فنى (1) العالم.

وهذا الكلامُ كلّه خطأ، فإنّ النّورَ عرضٌ لا يقومُ بذاته، والظلمةَ عدميّةٌ، وعدمُ التّناهي مُحالٌ، لما تقدّم.

وقال المجوسُ: إنّ للعالم صانعاً قادراً عالماً حيّاً حكيماً، سمّوه يزدان، وكلّ خير في العالم منه، وأنّه أفكر (2) لو كان لي ضدٌّ في الملك كيف تكونُ حالي معه، فحدث الشّيطانُ من تلك الفكرة، وكلّ شرّ في العالم منه، واسمه اهرمن. وبعضهم قال بقدم الشّيطان وهو ظاهر الفساد أيضاً.

وقالت النّصارى: الباري - تعالى - جوهرٌ واحدٌ ثلاثة أقانيم، أقنوم الأب وهو وجوده، وأُقنومُ الابن وهو علمه، واقنومُ روح القدس، وهو حياته.

فإن أرادوا الصّفات فلا منازعةَ إلاّ في اللّفظ، وإلاّ فهو خطأ، لما تقدّم.

____________________

(1) ج: نفى.

(2) ج: فكر.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

والبعض الآخر قال : إنّها مسألة الخلق والرزق والحياة والموت والعزّة والذلّة فقط.

والبعض الآخر عنون مسألة الخلق والموت بالنسبة للإنسان وقال : إنّ لله جيوشا ثلاثة : جيش ينتقل من أصلاب الآباء إلى أرحام الامّهات ، وجيش يخرج إلى عالم الدنيا من أرحام الامّهات ، وجيش يساق من عالم الدنيا إلى القبور.

وكما قلنا فإنّ للآية مفهوما واسعا يشمل كلّ خلق جديد وخلقة جديدة ، ويشمل كلّ تغيير وتحوّل في هذا العالم.

ونقرأ في رواية لأمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال في أحد خطبه : «الحمد لله الذي لا يموت ولا تنقضي عجائبه لأنّه كلّ يوم هو في شأن ، من إحداث بديع لم يكن»(١) .

ونقرأ في حديث آخر للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسيره الآية الكريمة : «من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرّج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين»(٢) .

ولا بدّ من الانتباه لهذه النقطة أيضا : إنّ المقصود من (يوم) هو ليس (النهار) في مقابل (الليل) بل يشمل الأحقاب المتزامنة ، وكذلك الساعات واللحظات ، ومفهومه أنّ الله المتعال في كلّ زمان في شأن وعمل.

كما أنّ البعض ذكروا شأنا نزوليا للآية ، وهو أنّها نزلت ردّا على قول اليهود الذين يعتقدون أنّ اللهعزوجل يعطّل كلّ الأعمال في يوم السبت ، ولا يصدر أي حكم(٣) . فالقرآن الكريم يقول : إنّ خلق الله وتدبيره ليس له توقّف.

ومرّة اخرى ـ بعد هذه النعم المستمرّة والإجابة لاحتياجات جميع خلقه من أهل السماوات والأرض يكرّر قوله سبحانه :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

* * *

__________________

(١) أصول الكافي مطابق نقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٩٣.

(٢) مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث ، ونقل هذا الحديث أيضا في روح المعاني من صحيح البخاري.

(٣) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٠٢.

٤٠١

بحوث

١ ـ ما هي حقيقة الفناء؟

ما مرّ بنا في الآيات السابقة وهو أنّ «الكلّ يفنى إلّا الله» ليس بمعنى الفناء المطلق ، وأنّ روح الإنسان تفنى أيضا أو أنّ التراب الناشئ من بدنه بعد الموت سينعدم أيضا ، إذ أنّ الآيات القرآنية صرّحت بوجود عالم البرزخ إلى يوم القيامة(١) .

ومن جهة اخرى فإنّ الله سبحانه يذكر لمرّات عدّة أنّ الموتى يخرجون من قبورهم يوم القيامة(٢) .

ويذكر سبحانه في آية اخرى أنّ رميم العظام يلبس الحياة مرّة اخرى بأمر الله(٣) .

وهذه الآيات كلّها شاهد على أنّ الفناء في الآية والآيات الاخرى بمعنى اضطراب نظام الجسم والروح وقطع الارتباط بينهما واضطراب عالم الخلقة كذلك ، وحلول عالم جديد محلّ العالم السابق.

٢ ـ استمرار الخلق والإبداع

قلنا : إنّ الآية الكريمة :( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) تدلّ على دوام الخلقة واستمرار الخلق ، وأنّها مبعث أمل من جهة ، ونافية للغرور من جهة اخرى ، لذا فانّ القادة الإسلاميين يعتمدون عليها كثيرا لبعث الأمل في النفوس ، كما نقرأ ذلك في تبعيد الصحابي الجليل «أبى ذرّ الغفاري» إلى (الربذة) حيث يذكر التاريخ أنّ علياعليه‌السلام جاء لتوديعه فواساه بكلمات مؤثّرة ، ثمّ أعقبه ابنه الإمام الحسنعليه‌السلام حيث خاطب أبا ذر رضى الله عنه بقوله «يا عمّاه» تكريما له وأعقبه أخوه سيّد الشهداء الإمام

__________________

(١) المؤمنون ، ١٠٠.

(٢) سورة يس ، ٥١.

(٣) سورة يس ، ٧٩.

٤٠٢

الحسينعليه‌السلام بقوله لأبي ذرّ : «يا عمّاه إنّ الله تعالى قادر على أن يغيّر ما قد ترى. الله كلّ يوم في شأن ، وقد منعك هؤلاء القوم دنياهم ومنعتهم دينك فاسأل الله الصبر والنصر(١)

ونقرأ أيضا أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام وهو في طريقه إلى كربلاء لقي الشاعر «الفرزدق» عند (صفاح) فسأله الإمامعليه‌السلام عن خبر الناس خلفه ـ إشارة إلى أهل العراق ـ فقال : الخبير سألت ، قلوب الناس معك ، وسيوفهم مع بني أميّة ، والقضاء ينزل من السماء والله يفعل ما يشاء. فقال الإمام الحسينعليه‌السلام : (صدقت لله الأمر يفعل ما يشاء وكلّ يوم ربّنا في شأن)(٢) .

وكلّ ذلك يرينا أنّ هذه الآية هي الآية باعثة للأمل في نفوس المؤمنين.

وثمّة قصّة اخرى في هذا الصدد حيث ذكروا أنّ أحد الأمراء سأل وزيره عن تفسير هذه الآية ، إلّا أنّ الوزير أعلن عن عدم علمه بها وطلب مهلة ليوم غد ، ورجع إلى البيت محزونا ، وكان لديه غلام أسود ذو علم ومعرفة ، فسأله عمّا به ، فحدّث غلامه بالقصّة ، فأجابه : إذا ذهبت إلى الأمير فأخبره إذا كان يرغب في معرفة تفسير هذه الآية فأنا مستعدّ لذلك فطلبه الأمير وسأله ، فأجابه الغلام : يا أمير ، شأنه يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، ويخرج الحيّ من الميّت ، ويخرج الميّت من الحيّ ، ويشفي سقيما ، ويسقم سليما ، ويبتلي معافى ، ويعافي مبتلى ، ويعزّ ذليلا ، ويذلّ عزيزا ، ويفقر غنيّا ، ويغني فقيرا

فقال الأمير : «فرّجت عنّي فرّج الله عنك» ثمّ أكرمه وأنعمه(٣) .

٣ ـ الحركة الجوهرية

__________________

(١) الغدير ، ج ٨ ، ص ٣٠١.

(٢) الكامل لابن الأثير ، ج ٤ ، ص ٤٠.

(٣) تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٣٣٧.

٤٠٣

بعض المؤيديّن للحركة الجوهرية يستدلّون لإثبات مرادهم بالآيات القرآنية أو يعتبرونها إشارة لمقصودهم ، ومن ضمن ما يستشهدون به الآية الكريمة :( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) .

التوضيح : يعتقد الفلاسفة القدماء أنّ للحركة أربع مقولات عرضية هي : (أين ، كيف ، كم ، وضع).

وبتعبير أوضح أنّ حركة الجسم تكون بتغيير مكانه وذلك بانتقاله ، وهذه هي مقولة (الأين) ، أو بنموّه أو زيادة كمّيته وهذه مقولة «الكم». أو تغيّر اللون والطعم والرائحة (كشجرة التفاح) وهذا المقصود من «الكيف» ، أو أن يدور في مكانه حول نفسه كالحركة الوضعية للأرض وهذا ما يراد به من «الوضع».

وقد كان سائدا أنّ الحركة غير ممكنة في جوهر وذات الجسم أبدا ، لأنّه في كلّ حركة يجب أن تكون ذات الجسم المتحرّك ثابتة ، إلّا أنّ عوارضه قد تتغيّر ، فالحركة لا تتصوّر في ذات الشيء وجوهره ، بل في اعراضه.

لكنّ الفلاسفة المتأخرّين رفضوا هذه النظرية واعتقدوا بالحركة الجوهرية ، وقالوا : إنّ أساس الحركة هي الذات ، الجوهر ، والتي تظهر آثارها في العوارض.

وأوّل شخص طرح هذه النظرية بشكل تفصيلي استدلالي هو المولى صدر الدين الشيرازي حيث قال : إنّ كلّ ذرّات الكائنات وعالم المادّة في حركة دائبة ، أو بتعبير آخر : إنّ مادّة الأجسام وجود سيّال متغيّر الذات دائما ، وفي كلّ لحظة له وجود جديد يختلف عن الوجود السابق له ، ولكون هذه التغيّرات متّصلة مع بعضها فإنّها تحسب شيئا واحدا ، وبناء على هذا فإنّ لنا في كلّ لحظة وجودا جديدا ، إلّا أنّ هذه الوجودات متصلة ومستمرة ولها صورة واحدة ، أو بتعبير آخر : إنّ المادة لها أربعة أبعاد (طول وعرض وعمق وأمّا البعد الآخر فهو ما نسمّيه (الزمان) وهذا الزمان ليس بشيء إلّا مقدار الحركة في الجوهر) لاحظوا جيّدا.

وممّا يجدر ذكره أنّ الحركة الجوهرية لا ترتبط بمسألة الحركة في داخل

٤٠٤

الذرّة لأنّها حركة وضعية وعرضية ، أمّا الحركة في الجوهر فلها مفهوم عميق جدّا تشمل الذات والجوهر.

والعجيب هنا أنّ المتحرّك هو نفس الحركة.

ولإثبات هذا المقصود فإنّهم يستدلّون بدلائل عديدة لا مجال لذكرها هنا ، إلّا أنّه لا بأس بالإشارة إلى نتيجة هذا الرأي الفلسفي وهو أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ إدراكنا لمسألة معرفة الله أوضح من أي زمان ، لأنّ الخلق والخلقة لم تكن في بداية الخلق فحسب ، بل إنّها في كلّ ساعة وكلّ لحظة ، وإنّ الله سبحانه مستمر في خلقه ، ونحن مرتبطون به دائما ومستفيضون من فيض ذاته وهذا معنى( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) .

ومن الطبيعي أن لا مانع من أن يكون هذا المفهوم جزءا من المفهوم الواسع للآية الكريمة.

* * *

٤٠٥

الآيات

( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) )

التّفسير

التحدّي المشروط :

النعم الإلهيّة التي استعرضتها الآيات السابقة كانت مرتبطة بهذا العالم ، إلّا أنّ الآيات مورد البحث تتحدّث عن أوضاع يوم القيامة ، وخصوصيات المعاد ، وفي الوقت الذي تحمل تهديدا للمجرمين ، فإنّها وسيلة لتربية وتوعية وإيقاظ المؤمنين ، بالإضافة إلى أنّها مشجّعة لهم للسير في طريق مرضاته سبحانه ، ومن هنا فإنّنا نعتبرها نعمة. لذلك بعد ذكر كلّ واحدة من هذه النعم يتكرّر نفس السؤال الذي كان يعقّب ذكر كلّ نعمة من النعم السابقة.

٤٠٦

يقول سبحانه في البداية :( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ ) (١) (٢) .

نعم ، إنّ الله العالم القادر سيحاسب في ذلك اليوم الإنس والجنّ حسابا دقيقا على جميع أعمالهم وأقوالهم ونيّاتهم ، ويعيّن لكلّ منهم الجزاء والعقاب.

ومع علمنا بأنّ الله سبحانه لا يشغله عمل عن عمل ، وعلمه محيط بالجميع في آن واحد ، ولا يشغله شيء عن شيء (ولا يشغله شأن عن شأن) ولكنّنا نواجه التعبير في (سنفرغ) والتي تستعمل غالبا بالتوجّه الجادّ لعمل ما ، والانصراف الكلّي له ، وهذا من شأن المخلوقات بحكم محدوديتها.

إلّا أنّه استعمل هنا لله سبحانه ، تأكيدا على مسألة حساب الله تعالى لعباده بصورة لا يغادر فيها صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ، ولا يغفل عن مثقال ذرّة من أعمال الإنسان خيرا أو شرّا ، والأظرف من ذلك أنّ الله الكبير المتعال هو الذي يحاسب بنفسه عبده الصغير ، وعلينا أن نتصوّركم هي مرعبة ومخيفة تلك المحاسبة.

(الثقلان) من مادّة (ثقل) على وزن (كبر) بمعنى الحمل الثقيل وجاءت بمعنى الوزن أيضا ، إلّا أنّ (ثقل) على وزن (خبر) تقال عادة لمتاع وحمل المسافرين ، وتطلق على جماعة الإنس والجنّ وذلك لثقلهم المعنوي ، لأنّ الله تبارك وتعالى قد أعطاهم عقلا وشعورا وعلما ووعيا له وزن وقيمة بالرغم من أنّ الثقل الجسدي لهم ملحوظ أيضا كما قال تعالى :( وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ) ،(٣) حيث ورد أنّ أحد معانيها هو خروج الناس من القبور في يوم القيامة ، إلّا أنّ التعبير في الآية مورد البحث جاء باللحاظ المعنوي ، خاصّة وأنّ الجنّ ليس لهم ثقل مادّي.

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أنّ رسم الخطّ القديم في القرآن المجيد كتبت (أيّها) في موارد بصورة (أيّه) والتي هي في الآية مورد البحث وآيتين أخريين (النور آية ٣١ ، والزخرف آية ٤٩) في الوقت الذي تكتب (أيّها) في الحالات الاخرى بالألف الممدودة ، والملاحظ أنّها كانت على أساس قاعدة رسم الخطّ القديم.

(٢) مع كون «الثقلين» تنبيه فالضمير في لكم أتى جمعا وذلك إشارة إلى مجموعتين.

(٣) الزلزلة ، ٢.

٤٠٧

التأكيد على هاتين الطائفتين بالخصوص لأنّ التكاليف الإلهيّة مختّصة بهما في الغالب.

وبعد هذا يكرّر الله سبحانه سؤاله مرّة اخرى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وتعقيبا على الآية السابقة التي كانت تستعرض الحساب الإلهي الدقيق ، يخاطب الجنّ والإنس مرّة اخرى بقوله :( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) للفرار من العقاب الإلهي( فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ) أي بقوّة إلهية ، في حين أنّكم فاقدون لمثل هذه القوّة والقدرة.

وبهذه الصورة فإنّكم لن تستطيعوا أن تفرّوا من محكمة العدل الإلهي ، فحيثما تذهبون فهو ملكه وتحت قبضته ومحلّ حكومته تعالى ، ولا مناصّ لهذا المخلوق الصغير من الفرار من ميدان القدرة الإلهيّة؟ كما قال الإمام عليعليه‌السلام في دعاء كميل بن زياد المربي للروح : (ولا يمكن الفرار من حكومتك).

«معشر» في الأصل من (عشر) مأخوذ من عدد «عشرة» ، ولأنّ العدد عشرة عدد كامل ، فإنّ مصطلح (معشر) يقال : للمجموعة المتكاملة والتي تتكوّن من أصناف وطوائف مختلفة.

«أقطار» جمع (قطر) بمعنى أطراف الشيء.

«تنفذوا» من مادّة (نفوذ) ، وهي في الأصل بمعنى خرق وعبور من شيء ، والتعبير (من أقطار) إشارة إلى شقّ السماوات وتجاوزها إلى خارجها.

وبالمناسبة فإنّ تقديم «الجنّ» هنا جاء لاستعدادهم الأنسب للعبور من السماوات ، وقد ورد اختلاف بين المفسّرين على أنّ الآية أعلاه هل تتحدّث عن القيامة ، أو أنّ حديثها عن عالم الدنيا ، أو كليهما؟

ولأنّ الآيات السابقة واللاحقة تتحدّث عن وقائع العالم الآخر ، فإنّ المتبادر إلى الذهن أنّ الآية تتحدّث عن الهروب والفرار من يد العدالة الإلهية الذي يفكّر به

٤٠٨

العاصون في ذلك اليوم.

إلّا أنّ البعض بلحاظ جملة :( لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ) اعتبرها إشارة إلى الرحلات الفضائية للإنسانية ، وقد ذكر القرآن شروطها من القدرة العلمية والصناعية.

ويحتمل أيضا أن يكون المقصود منها هو عالم الدنيا وعالم القيامة ، يعني أنّكم لن تتمكّنوا من النفوذ بدون قدرة الله في أقطار السماوات ليس في هذه الدنيا فحسب ، بل في عالم الآخرة أيضا ، حيث وضعت في الدنيا وسيلة محدودة لاختباركم ، أمّا في الآخرة فلا توجد أيّة وسيلة لكم.

وفسّرها البعض تفسيرا رابعا حيث قالوا : إنّ المقصود بالنفوذ هو النفوذ الفكري والعلمي في أقطار السماوات ، الذي يمكن للبشر إنجازه بواسطة القدرة الاستدلالية.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل مناسب أكثر ، خاصّة وأنّ بعض الأخبار التي نقلت من المصادر الإسلامية تؤيّده ، ومن جملتها حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث يقول :

«إذا كان يوم القيامة جمع الله العباد في صعيد واحد ، وذلك أن يوحي إلى السماء الدنيا أن اهبطي بمن فيك ، فيهبط أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجنّ والإنس والملائكة ، ثمّ يهبط أهل السماء الثانية بمثل الجميع مرتين ، فلا يزالون كذلك حتّى يهبط أهل سبع سماوات فتصير الجنّ والإنس في سبع سرادقات من الملائكة ثمّ ينادي مناد ،( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ) فينظرون فإذا قد أحاط بهم سبع أطواق من الملائكة»(١) .

__________________

(١) تفسير الصافي ص ٥١٧ وتفسير مجمع البيان ج ٩ ص ٢٠٥.

٤٠٩

كما أنّ الجمع بين التفاسير ممكن أيضا.

ويخاطب سبحانه هاتين المجموعتين «الجنّ والإنس» بقوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

والتهديد هنا لطف إلهي أيضا ، فالبرغم من أنّه يحمل تهديدا ظاهريا ، إلّا أنّه عامل للتنبيه والإصلاح والتربية ، حيث أنّ وجود المحاسبة في كلّ نظام هو نعمة كبيرة.

وما ورد في الآية اللاحقة تأكيد لما تقدّم ذكره في الآيات السابقة ، والذي يتعلّق بعدم قدرة الجنّ والإنس من الفرار من يد العدالة الإلهيّة حيث يقول سبحانه :( يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ ) .

«شواظ» كما ذكر الراغب في المفردات ، وابن منظور في لسان العرب ، وكثير من المفسّرين أنّه بمعنى (الشعلة العديمة الدخان) وفسّرها آخرون بأنّها (ألسنة النار) التي تقتطع من النار نفسها حسب الظاهر ، وتكون خضراء اللون. وعلى كلّ حال فإنّ هذا التعبير يشير إلى شدّة حرارة النار.

و «نحاس» بمعنى الدخان أو (الشعل ذات اللون الأحمر مصحوبة بالدخان) والتي تكون بلون النحاس ، وفسّرها البعض بأنّها (النحاس المذاب) وهي لا تتناسب في الظاهر مع ما ورد في الآية مورد البحث ، لأنّها تتحدّث عن موجود يحيط بالإنسان في يوم القيامة ويمنعه من الفرار من حكومة العدل الإلهي.

وكم هي عجيبة (محكمة القيامة) حين يحاط الإنسان إحاطة تامّة بالملائكة والنار الحارقة والدخان القاتل ، ولا مناص إلّا التسليم لحكم الواحد الأحد في ذلك اليوم الرهيب.

ثمّ يضيف سبحانه قوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

والكلام هنا عن النعم والآلاء من أجل ما ذكرنا من اللطف في الآية السابقة.

* * *

٤١٠

الآيات

( فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥) )

التّفسير

يعرف المجرمون بسيماهم :

تكملة للآيات السابقة يتحدّث القرآن الكريم عن بعض مشاهد يوم القيامة ، والآيات أعلاه تذكر خصوصيات من مشاهد ذلك اليوم الموعود ، وعن كيفية الحساب والجزاء والعقاب ، يقول سبحانه في بداية الحديث :( فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ

٤١١

فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ ) (١) .

ويستفاد من مجموع آيات «القيامة» بصورة واضحة أنّ النظام الحالي للعالم سوف يتغيّر ويضطرب وتقع حوادث مرعبة جدّا في كلّ الوجود ، فتتغيّر الكواكب والسيّارات والأرض والسماء ، وتحصل تغيّرات يصعب تصورها ، ومن جملتها ما ذكر في الآية أعلاه ، وهي انشقاق وتناثر الكرات السماوية ، حيث يصبح لونها أحمر بصورة مذابة كالدهن.

(وردة) و (ورد) هو الورد المتعارف ، ولأنّ لون الورد في الغالب يكون أحمر ، فإنّ معنى الاحمرار يتداعى للذهن منها.

ويأتي هذا المصطلح أيضا بمعنى «الخيل الحمر» ، وبما أنّ لونها يتغيّر في فصول السنة حين يكون في الربيع مائلا إلى الصفرة ، وفي الشتاء يحمّر ، ويقتم لونها في البرد الشديد ، فتشبيه السماء يوم القيامة بها هو بلحاظ التغيّرات التي تحصل في ألوانها فتارة يكون لونها كالشعلة الوهاجة أحمر حارقا ، وأحيانا أصفر ، واخرى أسود قاتم ومعتم.

«دهان» على وزن (كتاب) ، بمعنى الدهن المذاب ، وتطلق أحيانا على الرسوبات المتخلّفة للمادّة الدهنية ، وغالبا ما تكون لها ألوان متعدّدة ، ومن هنا ورد هذا التشبيه حيث يصبح لون السماء كالدهن المذاب بلون الورد الأحمر ، أو إشارة إلى ذوبان الكرات السماوية أو اختلاف لونها.

وفسّر البعض «الدهان» بمعنى الجلد أو اللون الأحمر ، وعلى كلّ حال فإنّ هذه التشبيهات تجسّد لنا صورة من مشهد ذلك اليوم العظيم. حيث أنّ حقيقة الحوادث في ذلك اليوم ليس لها شبيه مع أيّة حوادث اخرى من حوادث عالمنا

__________________

(١) توجد احتمالات متعدّدة في أنّ (إذا) في الآية هل هي شرطية ، أم فجائية ، أم ظرفية ، والظاهر أنّ الاحتمال الأوّل هو الأولى ، وجزاء الشرط محذوف ويمكن تقديره هكذا : (فإذا انشقّت السماء فكانت وردة كالدهان ، كانت أهوال لا يطيقها البيان).

٤١٢

هذا. فهذه المشاهد لا نستطيع إدراكها إلّا إذا رأيناها.

ولأنّ الإخبار بوقوع هذه الحوادث المرعبة في يوم القيامة ـ أو قبلها ـ تنبيه وإنذار للمؤمنين والمجرمين على السواء ، ولطف من ألطاف الله سبحانه ، يتكرّر هذا السؤال :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وفي الآية اللاحقة ينتقل الحديث من الحوادث الكونية ليوم القيامة إلى حالة الإنسان المذنب في ذلك اليوم ، حيث يقول سبحانه :( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ ) .

ولماذا هذا السؤال وكلّ شيء واضح في ذلك اليوم ، فهو يوم البروز ، وكلّ شيء يقرأ في وجه الإنسان.

قد يتوهّم أنّ المعنى الوارد في هذه الآية يتنافى مع الآيات الاخرى التي تصرّح وتؤكّد مسألة سؤال الله تعالى لعباده في يوم القيامة ، كما ورد في الآية :( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) ،(١) وكما في قوله تعالى :( فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ) .(٢)

ويحلّ هذا الإشكال إذا علمنا أنّ يوم القيامة يوم طويل جدّا ، وعلى الإنسان أن يجتاز محطّات ومواقف متعدّدة فيه ، حيث لا بدّ من التوقّف في كلّ محطّة مدّة زمنية ، وطبقا لبعض الرّوايات فإنّ عدد هذه المواقف خمسون موقفا ، وفي بعضها لا يسأل الإنسان إطلاقا ، إذ أنّ سيماء وجهه تحكي عمّا في داخله ، كما ستبيّنه الآيات اللاحقة.

كما أنّ بعض المواقف الاخرى لا يسمح له بالكلام ، حيث تشهد عليه أعضاء بدنه قال تعالى :( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا

__________________

(١) الصافات ، ٢٤.

(٢) الحجر ، ٩٢ ـ ٩٣.

٤١٣

يَكْسِبُونَ ) .(١)

كما أنّ في بعض المحطّات يسأل الإنسان وبدقّة متناهية عن كافّة أعماله(٢) .

وفي بعض المواقف يسلك الإنسان سبيل الجدل والدفاع والمخاصمة(٣) .

وخلاصة القول : إنّ كلّ محطّة لها شروطها وخصوصياتها ، وكلّ واحدة منها أشدّ رعبا من الاخرى.

ومرّة اخرى يخاطب سبحانه عباده حيث يقول :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

نعم إنّه لا يسأل حيث( يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ ) (٤) فهناك وجوه تطفح بالبشر والنور وتعبّر عن الإيمان وصالح الأعمال ، واخرى مسودّة قاتمة مكفهّرة غبراء تحكي قصّة كفرهم وعصيانهم قال تعالى :( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ) .(٥)

ثمّ يضيف سبحانه :( فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ ) .

«النواصي» : جمع ناصية وكما يقول الراغب في المفردات أنّ الأصل بمعنى الشعر بمقدّمة الرأس من مادّة (نصأ) على وزن (نصر) وتعني الاتّصال والارتباط ، «وأخذ بناصيته» بمعنى أخذه من شعره الذي في مقدّمة رأسه ، كما تأتي أحيانا كناية عن الغلبة الكاملة على الشيء.

أقدام : جمع «قدم» بمعنى الأرجل.

والمعنى الحقيقي للآية المباركة هو أنّ الملائكة تأخذ المجرمين في يوم القيامة من نواصيهم وأرجلهم ، ويرفعونهم من الأرض بمنتهى الذلّة ويلقونهم في

__________________

(١) سورة يس ، ٦٥.

(٢) كما ورد في الآية موضع البحث والآيتين المشار لهما أعلاه.

(٣) كما ورد في الآية في سورة النحل الآية (١١١).

(٤) (سيما) في الأصل بمعنى العلامة ، وتشمل كلّ علامة في الوجه وسائر مواضع البدن ، ولأنّ علامة الرضا والغضب تبدو في الوجه أوّلا ، فإنّه يتداعى ذكر الوجه في ذكر هذه المفردات.

(٥) عبس. ٣٩ ـ ٤١.

٤١٤

جهنّم ، أو أنّه كناية عن منتهى ضعف المجرمين وعجزهم أمام ملائكة الرحمن ، حيث يقذفونهم في نار جهنّم بذلّة تامّة ، فما أشدّ هذا المشهد وما أرعبه!!

ومرّة اخرى يضيف سبحانه :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) لأنّ التذكير بيوم القيامة هو لطف منه تعالى.

ثمّ يقول سبحانه :( هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ) .

وذكر المفسّرون تفاسير مختلفة حول المخاطبين المقصودين في هذه الآية الكريمة ، وهل هم حضّار المحشر؟ أو أنّ المخاطب هو شخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب ، وقد ذكر له هذا المعنى في الدنيا؟ والمرجّح في رأينا هو المعنى الثاني خاصّة ، لأنّ الفعل (يكذّب) جاء بصيغة المضارع. وأستفيد من (المجرمون) ما يحمل على الغائب ، وهذا يوضّح أنّ الله تعالى قال لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذه أوصاف جهنّم التي ينكرها المجرمون باستمرار في هذه الدنيا. وقيل : إنّ المخاطب هو جميع الجنّ والإنس حيث يوجّه لهم إنذار يقول لهم فيه : هذه جهنّم التي ينكرها المجرمون ، لها مثل هذه الأوصاف التي تسمعونها ، لذلك يجب أن تنتبهوا وتحذروا أن يكون مصيركم هذا المصير.

ويضيف سبحانه في وصف جهنّم وعذابها المؤلم الشديد حيث يقول :( يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) .

«آن» و «آني» هنا بمعنى الماء المغلي وفي منتهى الحرارة والإحراق ، وفي الأصل من مادّة (إنّا) على وزن (رضا) بمعنى الوقت لأنّ الماء الحارق وصل إلى وقت ومرحلة نهائية.

وبهذه الحالة فإنّ المجرمين يحترقون وسط هذا اللهيب الحارق لنار جهنّم ، ويظمأون ويستغيثون للحصول على ماء يروي ظمأهم ، حيث يعطى لهم ماء مغلي (أو يصبّ عليهم) ممّا يزيد ويضاعف عذابهم المؤلم.

ويستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ (عين حميم) الحارقة تكون بجنب

٤١٥

جهنّم ، ويلقى فيها من يستحقّ عذابها ثمّ في النار يسجرون ، قال تعالى :( يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ) .(١)

والتعبير بـ( يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) في الآية مورد البحث ، يتناسب أيضا مع هذا المعنى.

ومرّة اخرى بعد هذا التنبيه والتحذير الشديد الموقظ ، الذي هو لطف من الله يقول البارئعزوجل :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ )

* * *

__________________

(١) المؤمن ، ٧١ ـ ٧٢.

٤١٦

الآيات

( وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) )

التّفسير

الجنّتان اللتان أعدتا للخائفين :

يترك القرآن الكريم وصفه لأهل النار وحالاتهم البائسة لينقلنا إلى صفحة جديدة من صفحات يوم القيامة ، ويحدّثنا فيها عن الجنّة وأهلها ، وما أعدّ لهم من النعم فيها ، والتي يصوّرها سبحانه بشكل مشوّق ومثير ينفذ إلى أعماق القلوب في عملية مقارنة لما عليه العاصون من عذاب شديد يحيط بهم والتي تحدّثت عنها الآيات السابقة ، وما ينتظر المؤمنين من جنّات وعيون وقصور وحور في الآيات

٤١٧

أعلاه ، يقول سبحانه :( وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ) .

«الخوف» من مقام الله ، جاء بمعنى الخوف من مواقف يوم القيامة والحضور أمام الله للحساب ، أو أنّها بمعنى الخوف من المقام العلمي لله ومراقبته المستمرّة لكلّ البشر(١) .

والتّفسير الثّاني يتناسب مع ما ذكر في الآية (٣٣) من سورة الرعد :( أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) .

ونقرأ في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام في تفسيره لهذه الآية أنّه قال : «ومن علم أنّ الله يراه ويسمع ما يقول ، ويعلم ما يعلمه من خير أو شرّ فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال ، فذلك الذي خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى»(٢) .

ويوجد هنا تفسير ثالث. هو أنّ الخوف من الله تعالى لا يكون بسبب نار جهنّم ، والطمع في نعيم الجنّة ، بل هو الخوف من مقام الله وجلاله فقط.

وهنالك تفسير رابع أيضا ، وهو أنّ المقصود من (مقام الله) هو الخوف من مقام عدالته ، لأنّ ذاته المقدّسة لا تستلزم الخوف ، إنّما هو الخوف من عدالته ، الذي مردّه هو خوف الإنسان من أعماله ، والإنسان المنزّه لا يخشى الحساب.

ومن المعروف أنّ المجرمين إذا مرّوا بالمحكمة أو السجن ينتابهم شيء من الخوف بسبب جناياتهم على عكس الأبرار حيث يتعاملون بصورة طبيعيّة مع الأماكن المختلفة.

وللخوف من الله أسباب مختلفة ، فأحيانا يكون بسبب قبح الأعمال وانحراف الأفكار ، واخرى بسبب القرب من الذات الإلهيّة حيث الشعور بالخوف والقلق من الغفلة والتقصير في مجال طاعة الله ، وأحيانا اخرى لمجرّد تصوّرهم لعظمة الله

__________________

(١) في الصورة الاولى يكون المقام اسم مكان ، وفي الثانية يكون مصدرا (ميميّا).

(٢) اصول الكافي طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٩٧ حيث يستفاد من ذيل الحديث أنّ الإمامعليه‌السلام ذكر هذا في تفسير الآية( وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) سورة النازعات / ٤٠ بالرغم من كون محتوى الآيتين واحد

٤١٨

اللامتناهية وذاته اللامحدودة فينتابهم الشعور بالخوف والضعة أمام قدسيته العظيمة وهذا النوع من الخوف يحصل من غاية المعرفة لله سبحانه ، ويكون خاصا بالعارفين والمخلصين لحضرته.

ولا تضادّ بين هذه التفاسير فيمكن جمعها في مفهوم الآية.

وأمّا (جنّتان) فيمكن أن تكون الاولى ماديّة جسمية ، والثانية معنوية روحية ، كما في قوله تعالى :( لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ ) .(١)

ففي هذه الآية مضافا إلى الجنّة الماديّة حيث الأنهار تجري من تحت الأشجار والمطهّرات من الزوجات ، هناك جنّة معنوية أيضا حيث الحديث عن رضوان الله تعالى.

أو أنّ الجنّة الاولى جزاء أعمالهم ، والجنّة الثانية تفضل على العباد وزيادة في الخير لهم ، يقول سبحانه :( لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) .(٢)

أو أنّ هناك جنّة للطاعة واخرى لترك المعصية.

أو أنّ أحدهما للإيمان ، والثانية للأعمال الصالحة.

أو لأنّ المخاطبين من الجنّ والإنس ، لذا فإنّ كلّ واحدة من هاتين الجنّتين تتعلّق بطائفة منهما.

ومن الطبيعي أن لا دليل على كلّ واحد من هذه التفاسير ، ويمكن جمعها في مفهوم هذه الآية ، إلّا أنّ من الطبيعي أنّ الله تعالى هيّأ لعباده الصالحين نعما عديدة لهم في الجنّة حيث مستقرّهم ، ولأهل النار (مياه حارقة وسعير لا يطاق).

ومرّة اخرى : وبعد ذكر هذه النعم العظيمة يخاطب الجميع بقوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

__________________

(١) آل عمران ، ١٥.

(٢) النور ، ٣٨.

٤١٩

ثمّ يضيف سبحانه في وصفه لهاتين الجنّتين بقوله :( ذَواتا أَفْنانٍ ) .

«ذواتا» تثنية (ذات) بمعنى صاحب ومالك(١) .

«أفنان» جمع (فنن) على وزن (قلم) والكلمة في الأصل بمعنى الغصون الطريّة المملوءة من الأوراق ، كما تأتي أحيانا بمعنى «النوع». ويمكن أن يستعمل المعنيان في الآية مورد البحث ، حيث في الصورة الاولى إشارة إلى الأغصان الطرية لأشجار الجنّة ، على عكس أشجار الدنيا حيث غصونها هرمة ويابسة.

كما يشير في الصورة الثانية إلى تنوّع نعم الجنّة وأنواع الهبات فيها ، لذا فلا مانع من استعمال المعنيين.

كما يحتمل أن يراد معنى آخر وهو أنّ لكلّ شجرة عدّة غصون مختلفة وفي كلّ غصن نوع من الفاكهة.

وبعد ذكر هذه النعم يكرّر سبحانه السؤال مرّة اخرى فيقول :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

ولأنّ البساتين النضرة والأشجار الزاهية ينبغي أن تكون لها عيون ، أضاف سبحانه في وصفه لهذه الجنّة بقوله :( فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ ) .

ثمّ يطرح مقابل هذه النعمة الإضافية قوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وبالرغم من أنّ الآية أعلاه لم توضّح لنا شيئا عن طبيعة هاتين العينين الجاريتين وعبّرت عنها بصيغة نكرة ، فإنّ هذه الموارد عادة تكون دليلا على العظمة الإلهيّة ، وقد ذكر بعض المفسّرين أنّ المقصود بهاتين العينين هما «سلسبيل» وتسنيم» قال تعالى :( عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً ) ،(٢) وقال تعالى :

__________________

(١) يعتقد البعض أنّ أصل ذات والتي هي مفرد مؤنث كانت ذوات ، والواو حذفت للتخفيف وأصبحت ذات ولكون التثنية ترجع الكلمة إلى أصلها ، لذا أصبحت (ذواتان) وقد حذفت النون عند الإضافة ، وجاء في مجمع البحرين أنّ أصل (ذو) هو (ذوا) على وزن (عصا) ولذلك فلا عجب أنّ مؤنثها يصبح (ذوات).

(٢) الإنسان ، ١٨.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526