الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 151311 / تحميل: 5586
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

ومن المعلوم أنّ وقوع الخطاء في هذه المرحلة أعني مرحلة الدين ورفع الاختلاف عن الاجتماع يعادل نفس الاختلاف الاجتماعيّ في سدّ طريق استكمال النوع الإنسانيّ، وإضلاله هذا النوع في سيره إلى سعادته، فيعود المحذور من رأس.

قلت: الأبحاث السابقة تكفي مؤنة حلّ هذه العقدة، فإنّ الّذي ساق هذا النوع نحو هذه الفعليّة أعني الأمر الروحي الّذي يرفع الاختلاف إنّما هو الناموس التكوينيّ الّذي هو الإيصال التكوينيّ لكلّ نوع من الأنواع الوجوديّة إلى كماله الوجوديّ وسعادته الحقيقيّة، فإنّ السبب الّذي أوجب وجود الإنسان في الخارج وجوداً حقيقيّاً كسائر الأنواع الخارجيّة هو الّذي يهديه هداية تكوينيّة خارجيّة إلى سعادته، ومن المعلوم أنّ الاُمور الخارجيّة من حيث أنّها خارجيّة لا تعرضها الخطاء والغلط، أعني: أنّ الوجود الخارجيّ لا يوجد فيه الخطاء والغلط لوضوح أنّ ما في الخارج هو ما في الخارج! وإنّما يعرض الخطاء والغلط في العلوم التصديقيّة والاُمور الفكريّة من جهة تطبيقها على الخارج فإنّ الصدق والكذب من خواصّ القضايا، تعرضها من حيث مطابقتها للخارج وعدمها، وإذا فرض أنّ الّذي يهدي هذا النوع إلى سعادته ورفع اختلافه العارض على اجتماعه هو الإيجاد والتكوين لزم أن لا يعرضه غلط ولا خطاء في هدايته، ولا في وسيلة هدايته الّتي هي روح النبوّة وشعور الوحى، فلا التكوين يغلط في وضعه هذا الروح والشعور في وجود النبيّ، ولا هذا الشعور الّذي وضعه يغلط في تشخيصه مصالح النوع عن مفاسده وسعادته عن شقائه، ولو فرضنا له غلطاً وخطائاً في أمره وجب أن يتداركه بأمر آخر مصون عن الغلط والخطاء، فمن الواجب أن يقف أمر التكوين على صواب لا خطاء فيه ولا غلط.

فظهر: أنّ هذا الروح النبويّ لا يحلّ محلّاً إلّا بمصاحبة العصمة، وهي المصونيّة عن الخطاء في أمر الدين والشريعة المشرّعة، وهذه العصمة غير العصمة عن المعصية كما أشرنا إليه سابقاً، فإنّ هذه عصمة في تلقّي الوحى من الله سبحانه، وتلك عصمة في مقام العمل والعبوديّة، وهناك مرحلة ثالثة من العصمة وهي العصمة في تبليغ الوحى، فإنّ كلتيهما واقعتان في طريق سعادة الإنسان التكوينيّة وقوعاً تكوينيّاً،

١٦١

ولا خطاء ولا غلط في التكوين.

وقد ظهر بما ذكرنا الجواب عن إشكال آخر في المقام وهو: أنّه لم لا يجوز أن يكون هذا الشعور الباطنيّ مثل الشعور الفطريّ المشترك أعني الشعور الفكريّ في نحو الوجود بأن يكون محكوماً بحكم التغيّر والتأثّر؟ فإنّ الشعور الفطريّ وإن كان أمراً غير مادّيّ، ومن الاُمور القائمة بالنفس المجرّدة عن المادّة إلّا أنّه من جهة ارتباطه بالمادّة يقبل الشدّة والضعف والبقاء والبطلان كما في مورد الجنون والسفاهة والبلاهة والغباوة وضعف الشيب وسائر الآفات الواردة على القوى المدركة، فكذلك هذا الشعور الباطنيّ أمر متعلّق بالبدن المادّيّ نحواً من التعلّق، وإن سلّم أنّه غير مادّيّ في ذاته فيجب أن يكون حاله حال الشعور الفكريّ في قبول التغيّر والفساد، ومع إمكان عروض التغيّر والفساد فيه يعود الإشكالات السابقة البتّة.

والجواب: أنّا بيّنّا أن هذا السوق أعني سوق النوع الإنسانيّ نحو سعادته الحقيقيّة إنّما يتحقّق بيد الصنع والإيجاد الخارجيّ دون العقل الفكريّ، ولا معنى لتحقّق الخطاء في الوجود الخارجيّ.

وأمّا كون هذا الشعور الباطنيّ في معرض التغيّر والفساد لكونه متعلّقاً نحو تعلّق بالبدن فلا نسلّم كون كلّ شعور متعلّق بالبدن معرضاً للتغيّر والفساد، وإنّما القدر المسلّم من ذلك هذا الشعور الفكريّ (وقد مرّ أنّ الشعور النبويّ ليس من قبيل الشعور الفكريّ) وذلك أنّ من الشعور شعور الإنسان بنفسه، وهو لا يقبل البطلان والفساد والتغيّر والخطاء فإنّه علم حضوريّ معلومه عين المعلوم الخارجيّ، وتتمّة هذا الكلام موكول إلى محلّه.

فقد تبيّن ممّا مرّ اُمور:أحدها: انسياق الاجتماع الإنساني إلى التمدّن والاختلاف.

ثانيها: أنّ هذا الاختلاف القاطع لطريق سعادة النوع لا يرتفع ولن يرتفع بما يضعه العقل الفكريّ من القوانين المقرّرة.

ثالثها: أنّ رافع هذا الاختلاف إنّما هو الشعور النبويّ الّذي يوجده الله سبحانه

١٦٢

في بعض آحاد الإنسان لا غير.

رابعها: أنّ سنخ هذا الشعور الباطنيّ الموجود في الأنبياء غير سنخ الشعور الفكريّ المشترك بين العقلاء من أفراد الإنسان.

خامسها: أنّ هذا الشعور الباطنيّ لا يغلط في إدراكه الاعتقادات والقوانين المصلحة لحال النوع الإنسانيّ في سعادته الحقيقيّة.

سادسها: أنّ هذه النتائج (ويهمّنا من بينها الثلثة الأخيرة أعني: لزوم بعثة الأنبياء، وكون شعور الوحى غير الشعور الفكريّ سنخاً، وكون النبيّ معصوماً غير غالط في تلقّي الوحى) نتائج ينتجها الناموس العامّ المشاهد في هذه العالم الطبيعيّ، وهو سير كلّ واحد من الأنواع المشهودة فيه نحو سعادته بهداية العلل الوجوديّة الّتي جهّزتها بوسائل السير نحو سعادته والوصول إليها والتلبّس بها، والإنسان أحد هذه الأنواع، وهو مجهّز بما يمكنه به أن يعتقد الاعتقاد الحقّ ويتلبّس بالملكات الفاضلة، ويعمل عملاً صالحاً في مدينة صالحة فاضلة، فلا بدّ أن يكون الوجود يهيّئ له هذه السعادة يوماً في الخارج ويهديه إليه هداية تكوينيّة ليس فيها غلط ولا خطاء على ما مرّ بيانه.

١٦٣

( سورة البقرة آية ٢١٤)

أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ( ٢١٤ )

( بيان)

قد مرّ أنّ هذه الآيات آخذة من قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) إلى آخر هذه الآية، ذات سياق واحد يربط بعضها ببعض.

قوله تعالى: ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ) ، تثبيت لما تدلّ عليه الآيات السابقة، وهو أنّ الدين نوع هداية من الله سبحانه للناس إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، ونعمة حباهم الله بها، فمن الواجب أن يسلّموا له ولا يتّبعوا خطوات الشيطان، ولا يلقوا فيه الاختلاف، ولا يجعلوا الدواء دائاً، ولا يبدّلوا نعمة الله سبحانه كفراً ونقمة من اتّباع الهوى وابتغاء زخرف الدنيا وحطامها فيحلّ عليهم غضب من ربّهم كما حلّ ببني إسرائيل حيث بدّلوا نعمة الله من بعد ما جائتهم، فإنّ المحنة دائمة، والفتنة قائمة، ولن ينال أحد من الناس سعادة الدين وقرب ربّ العالمين إلّا بالثبات والتسليم.

وفي الآية التفات إلى خطاب المؤمنين بعد تنزيلهم في الآيات السابقة منزلة الغيبة، فإنّ أصل الخطاب كان معهم ووجه الكلام إليهم في قوله: يا أيّها الّذين آمنوا ادخلوا في السلم كافّة، وإنّما عدل عن ذلك إلى غيره لعناية كلاميّة أوجبت ذلك، وبعد انقضاء الوطر عاد إلى خطابهم ثانياً

وكلمة أم منقطعة تفيد الإضراب، والمعنى على ما قيل: بل أحسبتم أن تدخلوا الجنّة الخ، والخلاف في أم المنقطعة معروف، والحقّ أنّ أم لإفاده الترديد، وأنّ الدلالة على معنى الإضراب من حيث انطباق معنى الإضراب على المورد، لا أنّها دلالة وضعيّة، فالمعنى في المورد مثلاً: هل انقطعتم بما أمرناكم من التسليم بعد الإيمان والثبات على

١٦٤

نعمة الدين، والاتّفاق والاتّحاد فيه أم لا بل حسبتم أن تدخلوا الجنّة الخ.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ) ، المثل بكسر الميم فسكون الثاء، والمثل بفتح الميم والثاء كالشبه والشبه، والمراد به ما يمثّل الشئ ويحضره ويشخّصه عند السامع، ومنه المثل بفتحتين، وهو الجملة أو القصّة الّتي تفيد استحضار معنى مطلوب في ذهن السامع بنحو الاستعارة التمثيليّة كما قال تعالى:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) الجمعة - ٥، ومنه أيضاً المثل بمعنى الصفة كقوله تعالى:( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ ) الفرقان - ٩، وإنّما قالوا لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مجنون وساحر وكذّاب ونحو ذلك، وحيث أنّه تعالى يبيّن المثل الّذي ذكره بقوله: مسّتهم البأساء والضرّاء إلخ فالمراد به المعنى الأوّل.

قوله تعالى: ( مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ ) إلى آخره لمّا اشتدّ شوق المخاطب ليفهم تفصيل الإجمال الّذي دلّ عليه بقوله: ولمّا يأتكم مثل الّذين، بيّن ذلك بقوله: مسّتهم البأساء والضرّاء والبأساء هو الشدّة المتوجّهة إلى الإنسان في خارج نفسه كالمال والجاه والأهل والأمن الّذي يحتاج إليه في حياته، والضرّاء هي الشدّة الّتي تصيب الإنسان في نفسه كالجرح والقتل والمرض، والزلزلة والزلزال معروف وأصله من زلّ بمعنى عثر، كرّرت اللفظة للدلالة على التكرار كأنّ الأرض مثلاً تحدث لها بالزلزلة عثرة بعد عثرة، وهو كصّر وصرصر، وصّل وصلصل، وكبّ وكبكب، والزلزال في الآية كناية عن الاضطراب والادّهاش.

قوله تعالى: ( حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) ، قرء بنصب يقول، والجملة على هذا في محلّ الغاية لما سبقها، وقرء برفع يقول والجملة على هذا لحكاية الحال الماضية، والمعنيان وإن كانا جميعاً صحيحين لكنّ الثاني أنسب للسياق، فإنّ كون الجملة غاية يعلّل بها قوله: وزلزلوا لا يناسب السياق كلّ المناسبة.

قوله تعالى: ( مَتَىٰ نَصْرُ اللَّه ) ، الظاهر أنّه مقول قول الرسول والّذين آمنوا معه جميعاً، ولا ضير في أن يتفّوّه الرسول بمثل هذا الكلام استدعائاً وطلباً للنصر الّذي وعد به الله سبحانه رسله والمؤمنين بهم كما قال تعالى:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا

١٦٥

الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ) الصافّات - ١٧٢، وقال تعالى:( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) المجادلة - ٢١، وقد قال تعالى أيضاً:( حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) يوسف - ١١٠، وهو أشدّ لحناً من هذه الآية.

والظاهر أيضاً أنّ قوله تعالى: ألا إنّ نصر الله قريب مقول له تعالى لا تتمّة لقول الرسول والّذين آمنوا معه

والآية (كما مرّت إليه الإشارة سابقاً) تدلّ على دوام أمر الابتلاء والامتحان وجريانه في هذه الاُمّة كما جرى في الاُمم السابقة.

وتدل أيضاً على اتّحاد الوصف والمثل بتكرّر الحوادث الماضية غابراً، وهو الّذي يسمّى بتكرّر التاريخ وعوده.

١٦٦

( سورة البقرة آية ٢١٥)

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ٢١٥ )

( بيان)

قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ ) ، قالوا: إنّ الآية واقعة على اُسلوب الحكمة، فإنّهم إنّما سألوا عن جنس ما ينفقون ونوعه، وكان هذا السؤال كاللّغو لمكان ظهور ما يقع به الإنفاق وهو المال على أقسامه، وكان الأحقّ بالسؤال إنّما هو من ينفق له: صرف الجواب إلى التعرّض بحاله وبيان أنواعه ليكون تنبيهاً لهم بحقّ السؤال.

والّذي ذكروه وجه بليغ غير أنّهم تركوا شيئاً، وهو أنّ الآية مع ذلك متعرّضه لبيان جنس ما ينفقونه، فإنّها تعرّضت لذلك: أوّلاً بقولها: من خير، إجمالاً، وثانياً بقولها: وما تفعّلوا من خير فإنّ الله به عليم، ففي الآية دلالة على أنّ الّذي ينفق به هو المال كائناً ما كان، من قليل أو كثير، وأنّ ذلك فعل خير والله به عليم، لكنّهم كان عليهم أن يسألوا عمّن ينفقون لهم ويعرفوه، وهم: الوالدان والأقربون واليتامى والمساكين وابن السبيل.

ومن غريب القول ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ المراد بما في قوله تعالى: ماذا له ينفقون ليس هو السؤال عن المهيّة فإنّه اصطلاح منطقيّ لا ينبغي أن ينزّل عليه الكلام العربيّ ولا سيّما أفصح الكلام وأبلغه، بل هو السؤال عن الكيفيّة، وأنّهم كيف ينفقونه، وفي أيّ موضع يضعونه، فاُجيب بالصرف في المذكورين في الآية، فالجواب مطابق للسؤال لا كما ذكره علماء البلاغة!.

ومثله وهو أغرب منه ما ذكره بعض آخر: أنّ السؤال وإن كان بلفظ ما إلّا أنّ

١٦٧

المقصود هو السؤال عن الكيفيّة فإنّ من المعلوم أنّ الّذي ينفق به هو المال، وإذا كان هذا معلوماً لم يذهب إليه الوهم، وتعيّن أنّ السؤال عن الكيفيّة، نظير قوله تعالى:( قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ) البقرة - ٧٠، فكان من المعلوم أنّ البقرة بهيمة نشأتها وصفتها كذا وكذا، فلا وجه لحمل قوله: ما هي على طلب المهيّة، فكان من المتعيّن أن يكون سؤالاً عن الصفة الّتي بها تمتاز البقرة من غيرها، ولذلك اُجيب بالمطابقة بقوله تعالى:( إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ ) الآية البقرة - ٧١.

وقد اشتبه الأمر على هؤلاء، فإنّ ما وإن لم تكن موضوعة في اللغة لطلب المهيّة الّتي اصطلح عليها المنطق، وهي الحدّ المؤلّف من الجنس والفصل القريبين، لكنّه لا يستلزم أن تكون حينئذ موضوعة للسؤال عن الكيفيّة، حتّى يصحّ لقائل أن يقول عند السؤال عن المستحقّين للانفاق: ماذا اُنفق: أي على من اُنفق؟ فيجاب عنه بقوله: للوالدين والأقربين، فإنّ ذلك من أوضح اللحن.

بل ما موضوعة للسؤال عما يعرّف الشئ سواء كان معرّفاً بالحدّ والمهيّة، أو معرّفاً بالخواصّ والأوصاف، فهي أعمّ ممّا اصطلح عليه في المنطق لا أنّها مغايرة له وموضوعة للسؤال عن كيفيّة الشيئ، ومنه يعلم أنّ قوله تعالى:( يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ) وقوله تعالى:( إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ ) سؤال وجواب جاريان على أصل اللغة، وهو السؤال عمّا يعرّف الشئ ويخصّه والجواب بذلك.

وأمّا قول القائل: إنّ المهيّة لمّا كانت معلومة تعيّن حمل ما على السؤال عن الكيفيّة دون المهيّة فهو من أوضح الخطاء، فإنّ ذلك لا يوجب تغيّر معنى الكلمة ممّا وضع له إلى غيره. ويتلوهما في الغرابة قول من يقول: إنّ السؤال كان عن الأمرين جميعاً: ما ينفقون؟ وأين ينفقون فذكر أحد السؤالين وحذف الآخر، وهو السؤال الثاني لدلالة الجواب عليه! وهو كما ترى.

وكيف كان لا ينبغي الشكّ في أنّ في الآية تحويلاً ما للجواب إلى جواب آخر تنبيهاً على أنّ الأحقّ هو السؤال عن من ينفق عليهم، وإلّا فكون الإنفاق من الخير

١٦٨

والمال ظاهر، والتحوّل من معنى إلى آخر للتنبيه على ما ينبغي التحوّل إليه والاشتغال به كثير الورود في القرآن، وهو من ألطف الصنائع المختصّة به كقوله تعالى:( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ) البقرة - ١٧١ وقوله تعالى:( مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ ) آل عمران - ١١٧ وقوله تعالى:( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ ) البقرة - ٢٦١، وقوله تعالى:( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الشعراء - ٨٩، وقوله تعالى:( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ) الفرقان - ٥٧، وقوله تعالى:( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات - ١٦٠، إلى غير ذلك من كرائم الآيات.

قوله تعالى: ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) ، في تبديل الإنفاق من فعل الخير هيهنا كتبديل المال من الخير في أوّل الآية إيماء إلى أنّ الإنفاق وإن كان مندوباً إليه من قليل المال وكثيره، غير أنّه ينبغي أن يكون خيراً يتعلّق به الرغبة وتقع عليه المحبّة كما قال تعالى:( لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) آل عمران - ٩٢، وكما قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ) البقرة - ٢٦٧.

وايماء إلى أن الإنفاق ينبغى أن لا يكون على نحو الشرّ كالإنفاق بالمنّ والأذى كما قال تعالى:( ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ) البقرة - ٢٦٢، وقوله تعالى:( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) البقرة - ٢١٩.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور عن ابن عبّاس قال ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب محمّد ما سألوه إلّا عن ثلاث عشرة مسألة حتّى قبض، كلّهنّ في القرآن، منهنّ: يسئلونك عن الخمر والميسر، ويسألونك عن الشهر الحرام، ويسألونك عن اليتامى، ويسألونك عن المحيض، ويسألونك عن الأنفال، ويسألونك ماذا ينفقون، ما كانوا يسألون إلّا عمّا كان ينفعهم.

١٦٩

في المجمع في الآية: نزلت في عمرو بن الجموح - وكان شيخاً كبيراً ذا مال كثير - فقال: يا رسول الله! بماذا أتصدّق؟ وعلى من أتصدّق؟ فأنزل الله هذه الآية.

اقول: ورواه في الدرّ المنثور عن ابن المنذر عن ابن حيّان، وقد استضعفوا الرواية، وهي مع ذلك غير منطبق على الآية حيث لم يوضع في الآية إلّا السؤال عمّا يتصدّق به دون من يتصدّق عليه.

ونظيرها في عدم الانطباق ما رواه أيضاً عن ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريح قال: سأل المؤمنون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أين يضعون أموالهم؟ فنزلت يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير، فذلك النفقة في التطوّع، والزكوة سوى ذلك كلّه.

ونظيرها في ذلك أيضاً ما رواه عن السدّي، قال: يوم نزلت هذه الآية لم يكن زكاة، وهي النفقة ينفقها الرجل على أهله، والصدقة يتصدّق بها فنسختها الزكاة.

اقول: وليست النسبة بين آية الزكاة:( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ) التوبة - ١٠٣، وبين هذه الآية نسبه النسخ وهو ظاهر إلّا أن يعني بالنسخ معنى آخر.

١٧٠

( سورة البقرة آية ٢١٦ - ٢١٨)

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( ٢١٦ ) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٢١٧ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢١٨ )

( بيان)

قوله تعالى: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ) ، الكتابة كما مرّ مراراً ظاهرة في الفرض إذا كان الكلام مسوقاً لبيان التشريع، وفي القضاء الحتم إذا كان في التكوين فالآية تدلّ على فرض القتال على كافّة المؤمنين لكون الخطاب متوجّهاً إليهم إلّا من أخرجه الدليل مثل قوله تعالى:( يْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) النور - ٦١، وغير ذلك من الآيات والأدلّة.

ولم يظهر فاعل كتب لكون الجملة مذيّلة بقوله:( وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ) وهو لا يناسب إظهار الفاعل صوناً لمقامه عن الهتك، وحفظاً لاسمه عن الاستخفاف أن يقع الكتابة المنسوبة إليه صريحاً مورداً لكراهة المؤمنين.

والكره بضمّ الكاف المشقّة الّتي يدركها الإنسان من نفسه طبعاً أو غير ذلك، والكره بفتح الكاف: المشقّة الّتي تحمّل عليه من خارج كأن يجبره إنسان آخر على

١٧١

فعل ما يكرهه، قال تعالى:( لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًاً ) النساء - ١٩، وقال تعالى:( فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًاً ) فصّلت - ١١، وكون القتال المكتوب كرهاً للمؤمنين إمّا لأنّ القتال لكونه متضمّناً لفناء النفوس وتعب الأبدان والمضارّ الماليّة وارتفاع الأمن والرخص والرفاهية، وغير ذلك ممّا يستكرهه الإنسان في حياته الإجتماعيّة لا محالة كان كرهاً وشاقّاً للمؤمنين بالطبع، فإنّ الله سبحانه وإن مدح المؤمنين في كتابه بما مدح، وذكر أنّ فيهم رجالاً صادقين في إيمانهم مفلحين في سعيهم، لكنّه مع ذلك عاتب طائفة منهم بما في قلوبهم من الزيغ والزلل، وهو ظاهر بالرجوع إلى الآيات النازلة في غزوة بدر واُحد والخندق وغيرها، ومعلوم أنّ من الجائز أن ينسب الكراهة والتثاقل إلى قوم فيهم كاره وغير كاره وأكثرهم كارهون، فهذا وجه.

وإمّا لأنّ المؤمنين كانوا يرون أنّ القتال مع الكفّار مع ما لهم من العدّة والقوّة لا يتمّ على صلاح الإسلام والمسلمين، وأنّ الحزم في تأخيره حتّى يتمّ لهم الاستعداد بزيادة النفوس وكثرة الأموال ورسوخ الاستطاعة، ولذلك كانوا يكرهون الإقدام على القتال والاستعجال في النزال، فبيّن تعالى أنّهم مخطئون في هذا الرأي والنظر، فإنّ لله أمراً في هذا الأمر هو بالغه، وهو العالم بحقيقة الأمر وهم لا يعلمون إلّا ظاهره وهذا وجه آخر.

وإمّا لأنّ المؤمنين لكونهم متربّين بتربية القرآن تعرق فيهم خلق الشفقة على خلق الله، وملكة الرحمة والرأفة فكانوا يكرهون القتال مع الكفّار لكونه مؤدّياً إلى فناء نفوس منهم في المعارك على الكفر، ولم يكونوا راضين بذلك بل كانوا يحبّون أن يداروهم ويخالطوهم بالعشرة الجميلة، والدعوة الحسنة لعلّهم يسترشدوا بذلك، ويدخلوا تحت لواء الإيمان فيحفظ نفوس المؤمنين من الفناء، ونفوس الكفّار من الهلاك الأبديّ والبوار الدائم، فبيّن ذلك أنّهم مخطئون في ذلك، فإنّ الله - وهو المشّرع لحكم القتال - يعلم أنّ الدعوة غير مؤثّرة في تلك النفوس الشقيّة الخاسرة، وأنّه لا يعود من كثير منهم عائد إلى الدين ينتفع به في دنياً أو آخرة، فهم في الجامعة الإنسانيّة كالعضو الفاسد الساري فساده إلى سائر الأعضاء، الّذي لا ينجع فيه علاجٌ دون

١٧٢

أن يقطع ويرمي به، وهذا أيضاً وجه.

فهذه وجوه يوجه بها قوله تعالى:( وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ) إلّا أنّ الأوّل أنسب نظراً إلى ما اُشير إليه من آيات العتاب، على أنّ التعبير في قوله: كتب عليكم القتال، بصيغة المجهول على ما مرّ من الوجه يؤيّد ذلك.

قوله تعالى: ( وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ) ، قد مرّ فيما مرّ أنّ أمثال عسى ولعلّ في كلامه تعالى مستعمل في معنى الترجيّ، وليس من الواجب قيام صفة الرجاء بنفس المتكلّم بل يكفي قيامها بالمخاطب أو بمقام التخاطب، فالله سبحانه إنّما يقول: عسى أن يكون كذا لا لأنّه يرجوه، تعالى عن ذلك، بل ليرجوه المخاطب أو السامع.

وتكرار عسى في الآية لكون المؤمنين كارهين للحرب، محبّين للسلم، فأرشدهم الله سبحانه على خطائهم في الأمرين جميعاً، بيان ذلك: أنّه لو قيل: عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم أو تحبّوا شيئاً وهو شرٌّ لكم، كان معناه أنّه لا عبرة بكرهكم وحبّكم فإنّهما ربّما يخطئان الواقع، ومثل هذا الكلام إنّما يلقى إلى من أخطأ خطأ واحداً كمن يكره لقاء زيد فقط، وأمّا من أخطأ خطائين كان يكره المعاشرة والمخالطة ويحبّ الاعتزال، فالّذي تقتضيه البلاغة أن يشار إلى خطائه في الأمرين جميعاً، فيقال له: لا في كرهك أصبت، ولا في حبّك اهتديت، عسى أن تكره شيئاً وهو خير لك وعسى أن تحبّ شيئاً وهو شرّ لك لأنّك جاهل لا تقدر أن تهتدي بنفسك إلى حقيقة الأمر، ولمّا كان المؤمنون مع كرههم للقتال محبّين للسلم كما يشعر به أيضاً قوله تعالى سابقاً: أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يأتكم مثل الّذين خلوا من قبلكم، نبّههم الله بالخطائين بالجملتين المستقلّتين وهما: عسى أن تكرهوا، وعسى أن تحبّوا.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) ، تتميم لبيان خطائهم، فإنّه تعالى تدرّج في بيان ذلك إرفاقاً بأذهانهم، فأخذ أوّلاً بإبداء احتمال خطائهم في كراهتهم للقتال بقوله: عسى أن تكرهوا، فلمّا اعتدلت أذهانهم بحصول الشكّ فيها، وزوال صفة الجهل المركّب كرّ عليهم ثانياً بأنّ هذا الحكم الّذي كرهتموه أنتم إنّما شرّعه

١٧٣

الله الّذي لا يجهل شيئاً من حقائق الاُمور، والّذي ترونه مستند إلى نفوسكم الّتي لا تعلم شيئاً إلّا ما علّمها الله إيّاه وكشف عن حقيقته، فعليكم أن تسلّموا إليه سبحانه الأمر.

والآية في إثباته العلم له تعالى على الإطلاق ونفى العلم عن غيره على الإطلاق تطابق سائر الآيات الدالّة على هذا المعنى كقوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ ) آل عمران - ٥، وقوله تعالى:( وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ) البقرة - ٢٥٥، وقد سبق بعض الكلام في القتال في قوله:( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) البقرة - ١٩٠.

قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ) ، الآية تشتمل على المنع عن القتال في الشهر الحرام وذمّة بأنّه صدّ عن سبيل الله وكفر، واشتمالها مع ذلك على أنّ إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند الله، وأنّ الفتنة أكبر من القتل، يؤذن بوقوع حادثة هي الموجبة للسؤال وأنّ هناك قتلاً، وأنّه إنّما وقع خطائاً لقوله تعالى في آخر الآيات( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) الآية، فهذه قرائن على وقوع قتل في الكفّار خطائاً من المؤمنين في الشهر الحرام في قتال واقع بينهم، وطعن الكفّار به، ففيه تصديق لما ورد في الروايات من قصّة عبدالله بن جحش وأصحابه.

قوله تعالى: ( قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) ، الصدّ هو المنع والصرف، والمراد بسبيل الله العبادة والنسك وخاصّة الحجّ، والظاهر أن ضمير به راجع إلى السبيل فيكون كفراً في العمل دون الاعتقاد، والمسجد الحرام عطف على سبيل الله أي صدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام.

والآية تدلّ على حرمة القتال في الشهر الحرام، وقد قيل: إنّها منسوخة بقوله تعالى:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ) التوبة - ٦، وليس بصواب، وقد مرّ بعض الكلام في ذلك في تفسير آيات القتال.

قوله تعالى: ( وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ) ، أي والّذي فعله المشركون من إخراج رسول الله والمؤمنين من المهاجرين - وهم أهل المسجد

١٧٤

الحرام - منه أكبر من القتال، وما فتنوا به المؤمنين من الزجر والدعوة إلى الكفر أكبر من القتل، فلا يحقّ للمشركين أن يطعنوا المؤمنين وقد فعلوا ما هو أكبر ممّا طعنوا به، ولم يكن المؤمنون فيما أصابوه منهم إلّا راجين رحمة الله والله غفور رحيم.

قوله تعالى: ( وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) إلى آخر الآية حتّى للتعليل أي ليردّوكم.

قوله تعالى: ( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ ) الخ تهديد للمرتدّ بحبط العمل وخلود النار.

( كلام في الحبط)

والحبط هو بطلان العمل وسقوط تأثيره، ولم ينسب في القرآن إلّا إلى العمل كقوله تعالى:( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) الزمر - ٦٥، وقوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) محمّد - ٣٣، وذيل الآية يدلّ بالمقابلة على أنّ الحبط بمعنى بطلان العمل كما هو ظاهر قوله تعالى:( وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) هود - ١٦، ويقرب منه قوله تعالى:( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) الفرقان - ٢٣.

وبالجملة الحبط هو بطلان العمل وسقوطه عن التأثير، وقد قيل: إنّ أصله من الحبط بالتحريك وهو أن يكثر الحيوان من الأكل فينتفخ بطنه وربّما أدّى إلى هلاكه.

والّذي ذكره تعالى من أثر الحبط بطلان الأعمال في الدنيا والآخرة معاً، فللحبط تعلّق بالأعمال من حيث أثرها في الحياة الآخرة، فإنّ الإيمان يطيّب الحياة الدّنيا كما يطيّب الحياة الآخرة، قال تعالى:( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل - ٩٧، وخسران سعى الكافر، وخاصّة من ارتدّ إلى الكفر بعد الإيمان، وحبط عمله في الدنيا ظاهر لا غبار عليه، فإنّ قلبه غير متعلّق بأمر ثابت - وهو الله سبحانه - يبتهج به عند النعمة،

١٧٥

ويتسلّى به عند المصيبة، ويرجع إليه عند الحاجة، قال تعالى:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) الانعام - ١٢٢، تبيّن الآية أن للمؤمن في الدنيا حياة ونوراً في أفعاله، وليس للكافر، ومثله قوله تعالى،( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ) طه - ١٢٤، حيث يبيّن أنّ معيشة الكافر وحياته في الدّنيا ضنك ضيّقة متعبة، وبالمقابلة معيشة المؤمن وحياته سعيدة رحبة وسيعة.

وقد جمع الجميع ودلّ على سبب هذه السعادة والشقاوة قوله تعالى:( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ ) محمّد - ١١.

فظهر ممّا قرّبناه أنّ المراد بالأعمال مطلق الأفعال الّتي يريد الإنسان بها سعادة الحياة، لا خصوص الأعمال العباديّة، والأفعال القربيّة الّتي كان المرتد عملها وأتى بها حال الإيمان، مضافاً إلى أنّ الحبط وارد في مورد الّذين لا عمل عباديّ، ولا فعل قربيّ لهم كالكفّار والمنافقين كقوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) محمّد - ٩، وقوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ) آل عمران - ٢٢، إلى غير ذلك من الآيات.

فمحصّل الآية كسائر آيات الحبط هو أنّ الكفر والإرتداد يوجب بطلان العمل عن أن يؤثّر في سعادة الحياة، كما أنّ الإيمان يوجب حياة في الأعمال تؤثّر بها أثرها في السعادة، فإن آمن الإنسان بعد الكفر حييت أعماله في تأثير السعادة بعد كونها محبطة باطلة، وإن ارتدّ بعد الإيمان ماتت أعماله جميعاً وحبطت، فلا تأثير لها في سعادة دنيويّة ولا اُخرويّة، لكن يرجى له ذلك إن هو لم يمت على الردّة وإن مات على الردّة حتم له الحبط وكتب عليه الشقاء.

١٧٦

ومن هنا يظهر بطلان النزاع في بقاء أعمال المرتدّ إلى حين الموت والحبط عنده أو عدمه.

توضيح ذلك: أنّه ذهب بعضهم إلى أنّ أعمال المرتدّ السابقة على ردّته باقية إلى حين الموت، فإن لم يرجع إلى الإيمان بطلت بالحبط عند ذلك، واستدلّ عليه بقوله تعالى( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) الآية وربّما أيّده قوله تعالى:( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) الفرقان - ٢٣، فإنّ الآية تبيّن حال الكفّار عند الموت، ويتفرّع عليه أنّه لو رجع إلى الإيمان تملّك أعماله الصالحة السابقة على الارتداد.

وذهب آخرون إلى أنّ الردّة تحبط الأعمال من أصلها فلا تعود إليه وإن آمن من بعد الارتداد، نعم له ما عمله من الأعمال بعد الإيمان ثانياً إلى حين الموت، وأمّا الآية فإنّما أخذت قيد الموت لكونها في مقام بيان جميع أعماله وأفعاله الّتي عملها في الدنيا!

وأنت بالتدبّر فيما ذكرناه تعرف: أن لا وجه لهذا النزاع أصلاً، وأنّ الآية بصدد بيان بطلان جميع أعماله وأفعاله من حيث التأثير في سعادته!

وهنا مسألة اُخرى كالمتفرّعة على هذه المسألة وهي مسألة الإحباط والتكفير، وهي أنّ الأعمال هل تبطل بعضها بعضاً أو لا تبطل بل للحسنة حكمها وللسيّئة حكمها؟ نعم الحسنات ربّما كفّرت السيّئآت بنصّ القرآن.

ذهب بعضهم إلى التباطل والتحابط بين الأعمال وقد اختلف هؤلاء بينهم، فمن قائل بأنّ كلّ لاحق من السيّئة تبطل الحسنة السابقة كالعكس، ولازمه أن لا يكون عند الإنسان من عمله إلّا حسنة فقط أو سيّئة فقط، ومن قائل بالموازنة وهو أن ينقص من الأكثر بمقدار الأقلّ ويبقى الباقي سليماً عن المنافي، ولازم القولين جميعاً أن لا يكون عند الإنسان من أعماله إلّا نوع واحد حسنة أو سيّئة لو كان عنده شئ منهما.

ويردّهما أوّلاً قوله تعالى:( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) التوبة - ١٠٢، فإنّ الآية ظاهرة في اختلاف الأعمال وبقائها على حالها إلى أن تلحقها توبة من الله سبحانه، وهو ينافي التحابط

١٧٧

بأيّ وجه تصوّروه.

وثانياً: أنّه تعالى جرى في مسألة تأثير الأعمال على ما جرى عليه العقلاء في الاجتماع الإنسانيّ من طريق المجازاة، وهو الجزاء على الحسنة على حدة وعلى السيّئة على حدة إلّا في بعض السيّئآت من المعاصي الّتي تقطع رابطة المولويّة والعبوديّة من أصلها فهو مورد الإحباط، والآيات في هذه الطريقة كثيرة غنيّة عن الإيراد.

وذهب آخرون إلى أنّ نوع الأعمال محفوظة، ولكلّ عمل أثره سواء في ذلك الحسنة والسيّئة.

نعم الحسنة ربّما كفّرت السيّئة كما قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) الأنفال - ٢٩، وقال تعالى:( فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ) الآية البقرة - ٢٠٣، وقال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء - ٣٠، بل بعض الأعمال يبدّل السيّئة حسنة كما قال تعالى:( إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) الفرقان - ٧٠.

وهنا مسألة اُخرى هي كالأصل لهاتين المسألتين، وهي البحث عن وقت استحقاق الجزاء وموطنه، فقيل: إنّه وقت العمل، وقيل: حين الموت، وقيل: الآخرة، وقيل: وقت العمل بالموافاة بمعنى إنّه لو لم يدم على ما هو عليه حال العمل إلى حين الموت وموافاته لم يستحقّ ذلك إلّا أن يعلم الله ما يؤل إليه حاله ويستقرّ عليه، فيكتب ما يستحقّه حال العمل.

وقد استدلّ أصحاب كلّ قول بما يناسبه من الآيات، فإنّ فيها ما يناسب كلّاً من هذه الأوقات بحسب الانطباق، وربّما استدلّ ببعض وجوه عقليّة ملفّقة.

والّذي ينبغي أن يقال: إنّا لو سلكنا في باب الثواب والعقاب والحبط والتكفير وما يجري مجراها مسلك نتائج الأعمال على ما بيّناه في تفسير قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ) البقرة - ٢٦، كان لازم ذلك كون النفس الإنسانيّة ما دامت متعلّقة بالبدن جوهراً متحوّلاً قابلاً للتحوّل في ذاته وفي آثار ذاته من الصور الّتي تصدر عنها وتقوم بها نتائج وآثار سعيدة أو شقيّة، فإذا صدر منه

١٧٨

حسنة حصل في ذاته صورة معنويّة مقتضية لاتّصافه بالثواب، وإذا صدر منه معصية فصورة معنويّة تقوم بها صورة العقاب، غير أنّ الذات لمّا كانت في معرض التحوّل والتغيّر بحسب ما يطرؤها من الحسنات والسيّئآت كان من الممكن أن تبطل الصورة الموجودة الحاضرة بتبدّلها إلى غيرها، وهذا شأنها حتّى يعرضها الموت فتفارق البدن وتقف الحركة ويبطل التحوّل واستعداده، فعند ذلك يثبت لها الصور وآثارها ثبوتاً لا يقبل التحوّل والتغير إلا بالمغفرة أو الشفاعة على النحو الّذي بيّناه سابقاً.

وكذا لو سلكنا في الثواب والعقاب مسلك المجازاة على ما بيّناه فيما مرّ كان حال الإنسان من حيث اكتساب الحسنة والمعصية بالنسبة إلى التكاليف الإلهيّة وترتّب الثواب والعقاب عليها حاله من حيث الإطاعة والمعصية في التكاليف الإجتماعيّة وترتّب المدح والذمّ عليها، والعقلاء يأخذون في مدح المطيع والمحسن وذمّ العاصي والمسئ بمجرّد صدور الفعل عن فاعله، غير أنّهم يرون ما يجازونه به من المدح والذمّ قابلاً للتغيّر والتحوّل لكونهم يرون الفاعل ممكن التغيّر والزوال عمّا هو عليه من الانقياد والتمرّد، فلحوق المدح والذمّ على فاعل الفعل فعليّ عندهم بتحقّق الفعل غير أنّه موقوف البقاء على عدم تحقّق ما ينافيه، وأمّا ثبوت المدح والذم ولزومهما بحيث لا يبطلان قطّ فإنّما يكون إذا ثبت حاله بحيث لا يتغيّر قطّ بموت أو بطلان استعداد في الحياة.

ومن هنا يعلم: أنّ في جميع الأقوال السابقة في المسائل المذكورة انحرافاً عن الحقّ لبنائهم البحث على غير ما ينبغي أن يبنى عليه.

وأنّ الحقّ أوّلاً: أنّ الإنسان يلحقه الثواب والعقاب من حيث الاستحقاق بمجرّد صدور الفعل الموجب له لكنّه قابل للتحوّل والتغيّر بعد، وإنّما يثبت من غير زوال بالموت كما ذكرناه.

وثانياً: أنّ حبط الأعمال بكفر ونحوه نظير استحقاق الأجر يتحقّق عند صدور المعصية ويتحتّم عند الموت.

وثالثاً: أنّ الحبط كما يتعلّق بالأعمال الاُخرويّة كذلك يتعلّق بالأعمال الدنيويّة.

ورابعاً: أنّ التحابط بين الأعمال باطل بخلاف التكفير ونحوه.

١٧٩

( كلام في أحكام الأعمال من حيث الجزاء)

من أحكام الأعمال: أنّ من المعاصي ما يحبط حسنات الدنيا والآخرة كالارتداد. قال تعالى:( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) وكالكفر بآيات الله والعناد فيه. قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) آل عمران - ٢٢، وكذا من الطاعات ما يكفّر سيّئآت الدنيا والآخرة كالإسلام والتوبة، قال تعالى:( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم ) الزمر - ٥٥، وقال تعالى:( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ) طه - ١٢٤.

وأيضاً: من المعاصي ما يحبط بعض الحسنات كالمشاقّة مع الرسول، قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) سورة محمّد - ٣٣، فإنّ المقابلة بين الآيتين تقضي بأن يكون الأمر بالإطاعة في معنى النهي عن المشاقّة، وإبطال العمل هو الإحباط، وكرفع الصوت فوق صوت النبيّ، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) الحجرات - ٢.

وكذا من الطاعات ما يكفّر بعض السيّئآت كالصلوات المفروضة، قال تعالى:( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) هود - ١١٤، وكالحجّ، قال تعالى:( فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ) البقرة - ٢٠٣، وكاجتناب الكبائر، قال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ )

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

( وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ) .(١)

وقيل أيضا أنّ هاتين العينين هما ، الاولى : «الشراب الطهور» ، والثانية : «العسل المصفّى» وقد جاءتا كليهما في سورة محمّد ، الآية ١٥.

وإذا فسّرنا ال «جنّتان» في الآيات السابقة بـ (الجنّتين المعنوية والمادية) فإنّ (العينين) يمكن أن تكونا عين معنوية وهي (عين المعرفة) وعين ماديّة (عيون الماء الزلال أو الحليب أو العسل أو الشراب الطهور) ولكن لا يوجد دليل خاصّ لأيّ من هذه التفاسير.

وفي الآية اللاحقة ينتقل البحث إلى فاكهة هاتين الجنّتين حيث يقول سبحانه :( فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ ) قسم يشاهد مثيله في الدنيا ، والآخر لا نظير له في هذا العالم أبدا. كما فسّرها البعض أنّهما نوعان من الفاكهة صيفي وشتوي ، أو يابس وطري ، أو صغير وكبير ، إلّا أنّه لا يوجد دليل واضح على أي من هذه الآراء.

إلّا أنّ من المسلّم به ، أنّ الفاكهة الموجودة في الجنّة متنوّعة ومختلفة تماما عن فواكه الدنيا ولا يقاس طعم فواكه الجنّة بطعم فواكه الدنيا ومذاقها.

ثمّ يضيف سبحانه قوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

لقد طرحت في الآيات السابقة ثلاث صفات لهاتين الجنّتين ، وتستعرض الآية الكريمة التالية الصفة الرابعة حيث يقول تعالى :( مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ) (٢) .

وفي الغالب أنّ الإنسان عند ما يتكئ يكون في جوّ هادئ وفي أمان تامّ ، وهذا التعبير يدلّل على الهدوء الكامل والاستقرار التامّ لدى أهل الجنّة.

«فرش» على وزن «حجب» ، جمع فراش ، وهو الفراش الذي يبسط.

و «بطائن» جمع بطانة ، وهي القماش الداخلي للفرش.

__________________

(١) المطففون ، ٢٧

(٢) متكئين حال لأهل الجنّة الذين ذكروا في الآيات السابقة بعنوان أنّهم( وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) .

٤٢١

و «إستبرق» بمعنى الحرير السميك.

والشيء الظريف هنا أنّ أثمن قماش يتصوّر في هذه الدنيا يكون بطانة لتلك الفرش ، إشارة إلى أنّ القسم الظاهر لا يمكننا وصفه من حيث الجمال والجاذبية.

حيث أنّ البطانة غالبا ما تستعمل من القماش الرديء قياسا للوجه الظاهري ، وعلى هذا فإنّنا نلاحظ أنّ أراد نوع من القماش في ذلك العالم يعتبر من أثمن وأرقى أنواع القماش في الدنيا ، فكيف الحال بالثمين من متاع الجنّة؟

ومن المسلّم أنّ الهبات الإلهية في عالم الآخرة لا نستطيع وصفها بالألفاظ ، ولا حتّى تصوّرها ، إلّا أنّ الآيات الكريمة تعكس لنا شبحا وظلالا عنها من خلال ألفاظها المعبّرة.

ونقرأ أيضا في وصف المتع لأهل الجنّة حيث يحدّثنا القرآن عنهم بأنّهم يتكئون على «الأرائك» ـ التخت الذي له متّكأ ـ و «السرير» هو ـ التخت الذي ليس له متكأ ـ والاتّكاء هنا على فرش ، وعلينا عندئذ أن نتصوّركم هي اللذات المتنوّعة في الجنّة ، حيث تارة يتكأ على الأرائك واخرى على السرر المفروشة بهذه الأفرشة الثمينة ، وقد تكون امور اخرى من هذه النعم لا نستطيع إدراكها نحن سكّان هذا العالم.

وأخيرا ، وفي خامس نعمة يشير سبحانه إلى كيفية هذه النعم العظيمة حيث يقول :( وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ ) .

نعم لا توجد صعوبة في قطف ثمار الجنّة كالصعوبة التي نواجهها في عالمنا هذا.

(جنى) على وزن (بقي) وتعني الفاكهة التي نضج قطفها. (دان) في الأصل (داني) بمعنى قريب.

ومرّة اخرى يخاطب الجميع سبحانه بقوله تعالى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

* * *

٤٢٢

الآيات

( فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١) )

التّفسير

الجنّة والزوجات الحسان :

في الآيات السابقة ذكرت خمسة أقسام من هبات وخصوصيات الجنّتين ، وهنا نتطرّق لذكر النعمة السادسة وهي الزوجات الطاهرات ، حيث يقول سبحانه :( فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ ) (١) قد قصرن نظرهنّ على أزواجهنّ ، وليس لهنّ معشوق سواهم. ثمّ يضيف تعالى :( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ ) (٢) .

__________________

(١) إنّ ضمير الجمع في (فيهنّ) يمكن أن يرجع إلى قصور الجنّة أو الحدائق المختلفة لتلك «الجنّتين» أو «نعمها وهباتها».

(٢)( لَمْ يَطْمِثْهُنَ) من مادّة (طمث) ، في الأصل بمعنى دم الدورة الشهرية ، وجاءت بمعنى زوال البكارة ، والمراد هنا أنّ النساء الباكرات في الجنّة لم يكنّ لهنّ أزواج قطّ.

٤٢٣

وبناء على هذا فإنّهن بواكر ولم يمسهنّ أحد طاهرات من كلّ الجوانب.

نقل عن (أبي ذرّ) أنّ (زوجة الجنّة تقول لزوجها أقسم بعزّة ربّي إنّي لم أجد شيئا أفضل منك في الجنّة ، فالشكر لله وحده ، الذي جعلني زوجة لك وجعلك زوجا لي)(١) .

«طرف» على وزن (حرف) بمعنى جانب العين ، وبما أنّ الإنسان عند ما يريد النظر يحرّك أجفانه ، لذا فقد استعمل هذا اللفظ كناية عن النظر ، وبناء على هذا فإنّ التعبير بقاصرات الطرف إشارة إلى النساء اللواتي يقصرن نظراتهنّ على أزواجهنّ. ويعني أنّهنّ يكننّ الحبّ والودّ لأزواجهنّ فقط ، وهذه هي إحدى ميزات الزوجة التي لا تفكّر بغير زوجها ولا تضمر لسواه الودّ.

وفي التعقيب على نعمة الجنّة هذه يكرّر قوله تعالى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

ثمّ يتطرّق إلى المزيد من وصف الزوجات الموجودات في الجنّة حيث يقول :( كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ ) حيث تكون بشرتهنّ باحمرار وصفاء ولمعان الياقوت وبياض وجمال غصون المرجان ، وعند ما يختلط هذان الوصفان (الأبيض والأحمر الشفّاف) فإنّه يمنحهنّ روعة الجمال التي لا مثيل لها.

الياقوت : حجر معدني ويكون غالبا أحمر اللون.

والمرجان : هو حيوان بحري يشبه أغصان الشجر ، يكون أبيض اللون أحيانا واخرى أحمر وألوان اخرى ، والظاهر أنّ المقصود به هنا هو النوع الأبيض(٢) .

ومرّة اخرى ، وبعد ذكر هذه النعمة يقول سبحانه :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وفي نهاية هذا البحث يقولعزوجل :( هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ ) (٣) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٠٨.

(٢) بيّنا شرحا تفصيليا حول المرجان في نهاية الآية (٢٢) من هذه السورة.

(٣) ورد السؤال «هل» هنا بصيغة الاستفهام الاستنكاري ، وفي الحقيقة أنّ هذه الآية هي نتيجة للآيات السابقة والتي

٤٢٤

وهل ينتظر أن يجازى من عمل عملا صالحا في الدنيا بغير الإحسان الإلهي؟

وبالرغم من أنّ بعض الرّوايات الإسلامية فسّرت «الإحسان» في هذه الآية بالتوحيد فقط ، أو التوحيد والمعرفة ، أو الإسلام ، إلّا أنّ الظاهر أنّ كلّ واحد في هذه التفاسير هو مصداق لهذا المفهوم الواسع الذي يشمل كلّ إحسان في العقيدة والقول والعمل.

جاء في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «آية في كتاب الله مسجّلة. قلت : وما هي؟ قال : قول اللهعزوجل :( هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ ) جرت في الكافر والمؤمن والبرّ والفاجر ، من صنع إليه معروف فعليه أن يكافئ به ، وليس المكافأة أن تصنع كم صنع حتّى تربي ، فإنّ صنعت كما صنع كان له الفضل في الابتداء»(١) .

وبناء على هذا فالجزاء الإلهي في يوم القيامة يكون أكثر من عمل الإنسان في هذه الدنيا. وذلك تماشيا مع الاستدلال المذكور في الحديث أعلاه.

يقول الراغب في المفردات : الإحسان فوق العدل ، وذاك أنّ العدل هو أن يعطي ما عليه ، ويأخذ ماله ، والإحسان أن يعطي أكثر ممّا عليه ويأخذ أقلّ ممّا له فالإحسان زائد على العدل

ويتكرّر قوله سبحانه مرّة اخرى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وذلك لأنّ جزاء الإحسان بالإحسان نعمة كبيرة من قبل الله تعالى ، حيث يؤكّد سبحانه أنّ جزاءه مقابل أعمال عباده مناسب لكرمه ولطفه وليس لأعمالهم ، مضافا إلى أنّ طاعاتهم وعباداتهم إنّما هي بتوفيق الله ولطفه ، وبركاتها تعود عليهم.

* * *

__________________

تحدثت عن ستّ نعم من نعم الجنّة.

(١) تفسير العياشي طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٩٩ ، تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٠٨.

٤٢٥

بحث

جزاء الإحسان :

ما قرأناه في الآية الكريمة :( هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ ) هو قانون عام في منطق القرآن الكريم ، حيث يشمل الله سبحانه والخلق وكافّة العباد ، والمسلمون جميعا يعلمون بعمومية هذا القانون وعليهم مقابلة كلّ خير بزيادة ، كما ذكر الإمام الصادقعليه‌السلام في حديثه أعلاه حيث يفترض أن يكون التعويض أفضل من العمل المنجز (المقدّم) وليس مساويا له ، وإلّا فإنّ المبتدئ بالإحسان هو صاحب الفضل.

وحول أعمالنا في حضرة البارئعزوجل فإنّ المسألة تأخذ بعدا آخر ، حيث أنّ أحد الطرفين هو الله العظيم الكريم الذي شملت رحمته وألطافه كلّ عالم الوجود ، وإنّ عطاءه وكرمه يليق بذاته وليس على مستوى أعمال عباده ، وبناء على هذا فلا عجب أن نقرأ في تأريخ الأمم بصورة متكرّرة أنّ أشخاصا قد شملتهم العناية الإلهيّة الكبيرة بالرغم من إنجازهم لأعمال صغيرة ، وذلك لخلوص نيّاتهم ومن ذلك القصّة التالية :

نقل بعض المفسّرين أنّ شخصا مسلما شاهد امرأة كافرة تنثر الحبّ للطيور في الشتاء فقال لها : لا يقبل هذا العمل من أمثالك ، فأجابته : إنّي أعمل هذا سواء قبل أم لم يقبل ، ولم يمض وقت طويل حتّى رأى الرجل هذه المرأة في حرم الكعبة. فقالت له : يا هذا ، إنّ الله تفضّل عليّ بنعمة الإسلام ببركة تلك الحبوب القليلة(١) .

* * *

__________________

(١) روح البيان ، ج ٩ ، ص ٣١٠.

٤٢٦

الآيات

( وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) )

التّفسير

جنّتان بأوصاف عجيبة :

بعد بيان صفات جنّتي الخائفين وخصوصياتهما المتميّزة ، واستمرارا للبحث ينتقل الحديث في الآيات التالية عن جنّتين بمرتبة أدنى من السابقتين يكونان لأشخاص أقلّ خوفا وإيمانا بالله تعالى من الفئة الاولى ، حيث إنّ هدف العرض هو بيان سلسلة درجات ومراتب للجنان تتناسب مع الإيمان والعمل الصالح للأفراد.

يقول سبحانه في البداية :( وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ ) .

ذكر تفسير أنّ لهذه الآية الأوّل : أحدهما ما بيّناه أعلاه.

والتّفسير الآخر هو أنّه توجد جنّتان أخريان غير تلكما الجنّتين لهؤلاء

٤٢٧

الأشخاص أنفسهم حيث يتجوّلون ويتنقّلون بين حدائق هذه الجنان ، لأنّ طبع الإنسان ميّال للتنوّع والتبدّل.

وبالنظر إلى لحن هذه الآيات والرّوايات التي وردت في تفسيرها فانّ التّفسير الأوّل هو الأنسب.

ونقرأ حديثا للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير هذه الآية أنّه قال : «وجنّتان من فضّة آنيتهما وما فيهما ، جنّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما» (أنّ التعبير بالذهب والفضّة يمكن أن يكون كناية عن اختلاف مرتبة ودرجة كلّ من الجنّتين)(١) .

ونقرأ في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية قال : «لا تقولنّ الجنّة الواحدة ، إنّ الله تعالى يقول : «ومن دونهما جنّتان» ، ولا تقولنّ درجة واحدة ، إنّ لله تعالى يقول «درجات بعضها فوق بعض» إنّما تفاضل القوم بالأعمال»(٢) .

وفي نفس الموضوع ورد حديث للرسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «جنّتان من ذهب للمقرّبين ، وجنّتان من ورق لأصحاب اليمين»(٣) أي من فضّة.

ثمّ يضيف سبحانه :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

ثمّ ذكر القرآن الخصوصيات الخمس لهاتين الجنّتين التي تشبه ـ إلى حدّ ما ـ ما ذكر حول الجنّتين السابقتين ، كما أنّهما تختلفان في بعض الخصوصيات الاخرى حيث يقول سبحانه :( مُدْهامَّتانِ ) .

«مدهامتان» : من مادّة (أدهيمام) ومن أصل (دهمه) على وزن (تهمه) ومعناها في الأصل السواد وظلمة الليل ، ثمّ أطلقت على الخضرة الغامقة المعتمة ، ولأنّ مثل هذا اللون يحكي عن غاية النضرة للنباتات والأشجار ، ممّا يعكس منتهى السرور

__________________

(١) مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث.

(٢) المصدر السابق.

(٣) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٤٦ وكما ذكرنا أنّ التعبير بالذهب والفضّة يمكن أن يكون إشارة إلى اختلاف درجة هاتين الجنّتين.

٤٢٨

والإنشراح ، لهذا فقد استعمل لهذا المعنى.

ويضيف سبحانه مرّة اخرى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وفي الآية اللاحقة يصف الجنّة وصفا إضافيا حيث يقول سبحانه :( فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ ) .

«نضّاختان» من مادّة (نضخ) بمعنى فوران الماء.

ومرّة اخرى يسأل سبحانه عن الإنس والجنّ سؤالا استنكاريا فيقول :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وتتحدّث الآية التالية حول فاكهة هاتين الجنّتين حيث تقول :( فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ) .

لا شكّ أنّ للفاكهة مفهوما واسعا يشمل جميع أنواعها ، إلّا أنّ التمر والرمّان خصّا بالذكر هنا لأهميّتهما الخاصّة ، لا كما يذهب بعض المفسّرين إلى أنّ ذكرهما هو لأنّهما لا يدخلان ضمن مفهوم الفاكهة ، إذ أنّ هذا التصوّر خاطئ ، لأنّ علماء اللغة أنكروا ذلك ، بالإضافة إلى أنّ عطف الخاصّ على العام في الموارد التي لها امتيازات أمر معمول به وطبيعي. قال تعالى :( مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ ) .(١)

وهنا جاءت عبارة (جبريل وميكال) وهما من الملائكة العظام بعد ذكر لفظ الملائكة بصورة عامّة.

ويكرّر سبحانه السؤال مرّة اخرى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

* * *

__________________

(١) البقرة ، ٩٨.

٤٢٩

بحث

قيمة الفاكهة :

الشيء الجدير بالذكر أنّ الآيات أعلاه خصّت الفاكهة بالذكر من بين مختلف أنواع أغذية الجنّة كما خصّت فاكهتي (الرطب والرمّان) بالذكر من بين جميع فواكه الجنّة أيضا.

والغريب هنا ذكر النخل بدلا من الرطب ، أمّا الرمّان فقد ذكر باسمه ، ولا بدّ أن يكون لكلّ واحد من هذه الفواكه خصوصية.

أمّا ذكر الفاكهة بالخصوص من بين عموم الأغذية الموجودة في الجنّة فذلك لأهميّة الفاكهة في تغذية الإنسان : حتّى قيل : أنّ الإنسان موجود آكل للفاكهة ، وللفاكهة دور مهمّ في وجود الإنسان ودوام حياته لا على الصعيد العلمي فقط ، بل من الناحية التجريبيّة لعموم الناس أيضا.

أمّا ذكر شجرة النخيل بدل فاكهتها فيمكن أن يكون للحاظ أنّ هذه الشجرة موضع استفادة من جهات عديدة ، في حين أنّ شجرة الرمّان ليست كذلك.

فالنخلة يستفاد من ورقها في صنع وسائل عديدة من لوازم الحياة كالفرش والقبّعات والملابس ووسائل الحمل والنقل والأسرّة ، ويستفاد من أليافها في امور شتّى كذلك ، كما أنّ البعض منها له خواص طبية ، وحتّى أنّ جذعها يستخدم كأعمدة في البناء أو جسور لعبور الأنهار.

أمّا إختيار هاتين الفاكهتين من بين جميع فواكه الجنّة فهو بسبب تنوّعهما : فأحدهما : ينمو في المناطق الحارّة (النخيل). والاخرى : تنمو في المناطق الباردة (الرمّان). أحدهما تتميّز بالمادّة السكرية ، والاخرى تتميّز بالمادّة الحامضية ، واحدة حارّة من حيث طبيعتها والاخرى باردة ، إحداهما مغذّية والاخرى مرويّة.

كما أنّ التمر يتمتّع بالكثير من المواد الحياتية وأنواع الفيتامينات ، وقد اكتشفت ثلاث عشرة مادّة حياتية فيه ، وخمس أنواع من الفيتامينات بالإضافة

٤٣٠

إلى بقيّة خواصها الاخرى ، (وقد بحثناها في نهاية الآية رقم (٥) من سورة مريم في هذا التّفسير تحت عنوان : التمر غذاء مقوّ وباعث للنشاط).

وأمّا «الرمّان» الذي عرّف في بعض الرّوايات الإسلامية بأنّه سيّد الفواكه(١) ، فقد ذكر العلماء تفاصيل كثيرة حول فوائد هذه الفاكهة ومنها تنقية الدم ، واحتوائها على مقادير كبيرة من فيتامين (سي). كما ذكرت في الكتب فوائد كثيرة اخرى للرمّان (الحلو والحامض) كتقوية المعدة ، ودفع الحمى الصفراء ، واليرقان ، والجرب (مرض جلدي) وتقوية البصر ، ورفع التقيّحات المزمنة ، وتقوية اللثة ، ودفع الإسهال كما نقرأ في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام في التأكيد على هذه الفاكهة : «أطعموا صبيانكم الرمّان فإنّه أسرع لشبابهم»(٢) .

وجاء في حديث آخر : «فإنّه أسرع لألسنتهم»(٣) .

وجاء في حديث آخر للإمام الصادقعليه‌السلام والإمام الباقرعليه‌السلام أنّهما قالا : «وما على وجه الأرض ثمرة كانت أحبّ إلى رسول الله من الرمّان»(٤) .

* * *

__________________

(١) نقل هذا التعبير في حديث للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بحار الأنوار ، ج ٦٦ ، ص ١٦٣).

(٢) بحار الأنوار ، ج ٦٦ ، ص ١٦٤ حيث جاء في حديث آخر أنّه أسرع لألسنتهم.

(٣) المصدر السابق ، ص ١٦٥.

(٤) الكافي ، ج ٦ ، ص ٣٥٢.

٤٣١

الآيات

( فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨) )

التّفسير

زوجات الجنّة مرّة اخرى :

استمرار لشرح نعم الجنّتين التي ذكرت في الآيات السابقة ، تتحدّث هذه الآيات عن قسم آخر من هذه النعم التي تزخر بها جنان الله التي أعدّها للصالحين من عباده ، حيث يقول سبحانه في البداية :( فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ ) (١) .

__________________

(١) الضمير في (فيهنّ) والذي هو جمع مؤنث يمكن أن يرجع إلى مجموع الجنّات الأربع ، ويمكن أن يكون إشارة إلى الجنّتين اللتين ذكرتا أخيرا ، بلحاظ ما فيهما من حدائق عديدة وقصور مختلفة ، وهذا أنسب لأنّه في هذا فصل بين الجنّتين

٤٣٢

تستعمل كلمة (خير) غالبا للصفات الجيّدة والجمال المعنوي ، أمّا «حسن» فإنّها تستعمل للجمال الظاهر. لذا فإنّ المقصود بـ( خَيْراتٌ حِسانٌ ) أولئك النسوة اللواتي جمعن بين حسن السيرة ، وحسن الظاهر.

وجاء في الرّوايات في تفسير هذه الآية أنّ الصفات الحسنة للزوجات في الجنّة كثيرة ومن جملتها طيب اللسان والنظافة والطهارة ، وعدم الإيذاء ، وعدم النظر للرجال الأجانب والخلاصة أنّ جميع صفات الخير والجمال التي يجب أن تكون في الزوجة الصالحة موجودة فيهنّ ، وهذه الصفات إشارة للصفات العالية التي يجب أن تكون في نساء هذه الدنيا ويجسّدن الاسوة بذلك لجميع الناس والقرآن الكريم يعبّر عنهنّ باختصار رائع أنهنّ( خَيْراتٌ حِسانٌ ) (١) .

ثمّ يضيف مستمرّا في وصف الزوجات في الجنّة :( حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ ) .

«حور» : جمع حوراء وأحور ، وتطلق على الشخص الذي يكون سواد عينه قاتما وبياضها ناصعا ، وأحيانا تطلق على النساء اللواتي يكون لون وجوههنّ أبيض.

والتعبير بـ «مقصورات» إشارة إلى أنهنّ مرتبطات ومتعلّقات بأزواجهنّ ومحجوبات عن الآخرين.

«خيام» : جمع خيمة ، وكما ورد في الرّوايات الإسلامية ، فإنّ الخيم الموجودة في الجنّة لا تشبه خيم هذا العالم من حيث سعتها وجمالها.

و «الخيمة» كما ذكر علماء اللغة وبعض المفسّرين لا تطلق على الخيم المصنوعة من القماش المتعارف فحسب. بل تطلق أيضا على البيوت الخشبية وكذلك كلّ بيت دائري. وقيل أنّها تطلق على كلّ بيت لم يكن من الحجر

__________________

(١) قال البعض : إنّ خيرات جمع (خيّرة) على وزن (سيّدة) ، وقيل لها خيرات للتخفيف ، واعتبرها آخرون أنّها جمع (خيرة) على وزن (حيرة) وعلى كلّ حال فإنّها تعطي معنى الوصف ، وليس بمعنى (أفعل التفضيل) لأنّه لا يجمع.

٤٣٣

وأشباهه(١) .

ومرّة اخرى يكرّر السؤال نفسه بقوله تعالى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

ويضيف سبحانه وصفا آخر لحوريات الجنّة حيث يقول :( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ ) (٢) .

ويستفاد من الآيات القرآنية أنّ الزوجين المؤمنين في هذه الدنيا سيلتحقان في الجنّة مع بعضهما ويعيشان في أفضل الحالات(٣) .

ويستفاد أيضا من الرّوايات أنّ درجة ومقام زوجات المؤمنين الصالحات أعلى وأفضل من حوريات الجنّة(٤) وذلك بما قمن به في الدنيا من صالح الأعمال وعبادة الله سبحانه.

ثمّ يضيف تعالى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وفي آخر وصف للنعم الموجودة في هذه الجنّة يذكر سبحانه تعالى :( مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ ) .

«رفرف» في الأصل بمعنى الأوراق الواسعة للأشجار ، ثمّ أطلقت على الأقمشة الملوّنة الزاهية التي تشبه مناظر الحدائق.

«عبقري» في الأصل بمعنى كلّ موجود قلّ نظيره ، ولذا يقال للعلماء الذين يندر وجودهم بين الناس (عباقرة) ويعتقد الكثير أنّ كلمة (عبقر) كان في البداية اسما لمدينة (بريان) انتخبه العرب لها ، لأنّ هذه المدينة كانت في مكان غير معلوم ونادر. لذا فإنّ كلّ موضوع يقلّ نظيره ينسب لها ويقال «عبقري» ، وذكر البعض أنّ «عبقر» كانت مدينة تحاك فيها أفضل المنسوجات الحريرية(٥) .

__________________

(١) لسان العرب ومجمع البحرين والمنجد.

(٢) حول معنى الطمث أعطينا توضيحا كافيا في نهاية الآية رقم (٥٦) من نفس السورة.

(٣) الرعد ، ٢٣ ، والمؤمن ، ٨.

(٤) الدّر المنثور ، ص ١٥١.

(٥) تفسير أبو الفتوح الرازي نهاية الآية مورد البحث.

٤٣٤

والمعنى الأصلي لهذه الكلمة متروك في الوقت الحاضر وتستعمل كلمة «عبقري» ككلمة مستقلّة بمعنى نادر الوجود ، وتأتي جمعا في بعض الأحيان ، كما في الآية مورد البحث.

و (حسان) جمع (حسن) على وزن «نسب» بمعنى جيّد ولطيف.

وعلى كلّ حال فإنّ هذه التعابير حاكية جميعا عن أنّ كلّ موجودات الجنّة رائعة : الفاكهة ، الغذاء ، القصور ، الأفرشة والخلاصة أنّ كلّ شيء فيها لا نظير له ولا شبيه في نوعه ، ولا بدّ من القول هنا أنّ هذه التعبيرات لا تستطيع أبدا أن تعكس تلك الإبداعات العظيمة بدقّة ، وإنّها تستطيع ـ فقط ـ أن ترسم لنا صورة تقريبية من الصورة الحقيقيّة للموجودات في الجنّة.

وللمرّة الأخيرة وهي (الحادية والثلاثون) يسأل سبحانه جميع مخلوقاته من الجنّ والإنس هذا السؤال :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

هل النعم المعنوية؟ أم النعم الماديّة؟ أم نعم هذا العالم؟ أم الموجودة في الجنّة؟ إنّ كلّ هذه النعم شملت وجودكم وغمرتكم إلّا أنّه ـ مع الأسف ـ قد أنساكم غروركم وغفلتكم هذه الألطاف العظيمة ، ومصدر عطائها وهو الله سبحانه الذي أنتم بحاجة مستمرّة إلى نعمه في الحاضر والمستقبل فأيّا منها تنكرون وتكذّبون؟

ويختم السورة سبحانه بهذه الآية الكريمة :( تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) .

«تبارك» من أصل (برك) على وزن (درك) بمعنى صدر البعير ، وذلك لأنّ الجمال حينما تبرك تضع صدرها على الأرض أوّلا ، ومن هنا استعمل هذا المصطلح بمعنى الثبات والدوام والاستقامة ، لذا فإنّ كلمة (مبارك) تقال للموجودات الكثيرة الفائدة ، وأكرم من تطلق عليه هذه الكلمة هي الذات الإلهيّة المقدّسة باعتبارها مصدرا لجميع الخيرات والبركات.

٤٣٥

واستعملت هذه المفردة هنا لأنّ جميع النعم الإلهيّة ـ سواء كانت في الأرض والسماء في الدنيا والآخرة والكون والخلق ـ فهي من فيض الوجود الإلهي المبارك ، لذا فإنّ هذا التعبير من أنسب التعابير المذكورة في الآية لهذا المعنى.

والمقصود من (اسم) هنا هو صفات الله تعالى خصوصا الرحمانية التي هي منشأ البركات ، وبتعبير آخر فإنّ أفعال الله تعالى مصدرها من صافته ، وإذا خلق عالم الوجود فذلك من إبداعه ونظام خلقه ، وإذا وضع كلّ شيء في ميزان فذلك ما أوجبته حكمته ، وإذا وضع قانون العدالة حاكما على كلّ شيء فإنّ (علمه وعدالته) توجبان ذلك. وإذا عاقب المجرمين بأنواع العذاب الذي مرّ بنا في هذه السورة فإنّ (انتقامه يقضي ذلك ، وإذا شمل المؤمنين الصالحين بأنواع الهبات والنعم العظيمة الماديّة والمعنوية ـ في هذا العالم وفي الآخرة ـ فإنّ رحمته الواسعة أوجبت ذلك ، وبناء على هذا فإنّ اسمه يشير إلى صفاته وصفاته هي نفس ذاته المقدّسة.

والتعبير بـ( ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) إشارة إلى كلّ صفات جماله وجلاله :( ذِي الْجَلالِ ) إشارة إلى الصفات السلبية ، و (ذي الإكرام) إشارة إلى الصفات الثبوتية.

والملفت للنظر هنا أنّ هذه السورة بدأت باسم الله (الرحمن) وانتهت باسم الله ذي الجلال والإكرام) وكلاهما ينسجمان مع مجموعة مواضيع السورة.

* * *

ملاحظات

١ ـ في الآية رقم (٣٧) من هذه السورة بعد ذكر النعم الإلهيّة المختلفة المعنوية والماديّة في الدنيا يقول سبحانه :( وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) .

وفي نهاية السورة وبعد ذكر أنواع النعم الاخروية يقول سبحانه :( تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) .

٤٣٦

إنّ هاتين الآيتين توضّحان حقيقة مهمّة وهي أنّ جميع الخطوط تنتهي إلى ذاته المقدّسة ، وأنّ جميع ما في الوجود مصدره الله سبحانه ، فالدنيا منه ، والعقبى كذلك ، وإنّ جلاله وإكرامه قد شمل كلّ شيء.

٢ ـ ونقرأ في حديث للرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ رجلا كان يدعو الله في حضرته حيث قال : «يا ذا الجلال والإكرام فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد استجيب لك فسل(١) .

وجاء في حديث آخر أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاهد رجلا يقيم الصلاة حيث دعا بعد الركوع والسجود والتشهّد بهذا الدعاء : اللهمّ انّي أسألك بأنّ لك الحمد ، لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك ، المنّان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيّوم انّي أسألك فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى»(٢) .

٣ ـ نقرأ في حديث للإمام الباقرعليه‌السلام في تفسير الآية :( تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) أنّه قال : «نحن جلال الله وكرامته التي أكرم العباد بطاعتنا»(٣) .

ومن الواضح أنّ أهل البيتعليه‌السلام لا يدعون لغير الله ، ولا يأمرون بغير طاعته وهم هداة الطريق إليه ، وسفن النجاة في بحر الحياة المتلاطم. وبناء على هذا ، فإنّهم يمثّلون مصاديق جلال الله وإكرامه ، لأنّ الله تعالى قد شمل الناس بنعمة الهداية بواسطة أوليائه.

٤ ـ ذكر البعض أنّ أوّل آيات قرئت في مكّة على قريش علنا هي الآيات الأوائل لهذه السورة يقول عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : اجتمع يوما أصحاب رسول الله فقالوا : والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قطّ. فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبد الله بن مسعود : أنا ، قالوا : إنّا نخشاهم عليك ، إنّما نريد رجلا

__________________

(١) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ص ١٥٣.

(٢) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٥٣.

(٣) تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٢٧٢.

٤٣٧

له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه ، قال : دعوني فإنّ الله سيمنعني ، قال : فغذا ابن مسعود حتّى أتى المنام في الضحى ، وقريش في أنديتها ، حتّى قام عند المقام ثمّ قرأ :( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) رافعا بها صوته :( الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ) قال : ثمّ استقبلها يقرؤها قال : فتأمّلوه فجعلوا يقولون : ماذا قال ابن أمّ عبد؟ قال : ثمّ قالوا : إنّه ليتلو بعض ما جاء به محمّد فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجهه ، وجعل يقرأ حتّى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ. ثمّ انصرف إلى أصحابه وقد أثّروا في وجهه.

فقالوا له : هذا الذي خشينا عليك ، فقال : ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن ، ولئن شئتم لأغادينّهم بمثلها غدا ، قالوا : لا حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون(١) .

ولهذا السبب فقد اعتبر ابن مسعود أوّل مسلم جهر بالقرآن في مكّة أمام المشركين(٢) .

ربّنا ، يا ذا الجلال والإكرام ، نقسم عليك بجلالك وإكرامك ألّا تحرمنا من نعم وهبات الجنّة.

ربّاه ، إنّ دائرة رحمتك واسعة جدّا ، وإنّنا لم نعمل عملا يليق برحمتك ، فعاملنا بما يليق بمقام رحمانيّتك.

إلهنا ، نحن لا نكذّب أيّا من نعمك ، ونعتبر أنفسنا غارقين بإحسانك دائما ، فأدم نعمك علينا.

آمين يا ربّ العالمين.

نهاية سورة الرحمن

* * *

__________________

(١) سيرة ابن هشام ، ج ١ ، ص ٣٣٦.

(٢) اسد الغابة ، ج ٣ ، ص ٢٥٧.

٤٣٨
٤٣٩

سورة

الواقعة

مكّية

وعدد آياتها ستّ وتسعون آية

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526