الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 151414 / تحميل: 5597
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

فترْك الواجبات: كترْك الصلاة والصيام والحجّ والزكاة ونحوها مِن الواجبات. وطريق التوبة منها بالاجتهاد في قضائها وتلافيها جُهدَ المستطاع.

وأمّا فعل المحرّمات: كالزنا وشرب الخمر والقمار وأمثالها مِن المحرّمات، وسبيل التوبة منها بالندم على اقترافها، والعزم الصادق على تركها.

ومِن الذنوب: ما تكون جرائرها بين المرء والناس، وهي أشدّها تبعةً ومسؤوليّة، وأعسرها تلافياً، كغصبِ الأموال، وقتل النفوس البريئة المحرّمة، وهتك المؤمنين بالسبِّ والضرب والنمّ والاغتياب.

والتوبة منها بإرضاء الخصوم، وأداء الظُّلامات إلى أهلها، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فإنْ عجَز عن ذلك فعليه بالاستغفار، وتوفير رصيد حسَنَاته، والتضرّع إلى الله عزَّ وجل أنْ يرضيهم عنه يوم الحساب.

قبول التوبة:

لا ريب أنّ التوبة الصادقة الجامعة الشرائط مقبولة بالإجماع، لدلالة القرآن والسنّة عليها:

قال تعالى:( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ) ( الشورى: ٢٥ ).

وقال تعالى:( غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ) ( غافر: ٣ ).

وقد عرضنا في فضائل التوبة طرفاً مِن الآيات والأخبار الناطقة بقبول التوبة، وفوز التائبين بشرف رضوان اللّه تعالى، وكريم عفوه، وجزيل آلائه.

٢٦١

وأصدَقُ شاهدٍ على ذلك ما جاء في معرض حديث للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال: ( لولا أنّكم تذنبون فتستغفرون اللّه، لخلق اللّه خلقاً، حتّى يذنبوا ثمّ يستغفروا اللّه فيغفر لهم، إنّ المؤمن مفتنٌ توّاب، أما سمِعت قول اللّه:( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) )( البقرة: ٢٢٢ )(١) .

أشواق التوبة:

تََتلخّص النصائح الباعثة على التوبة والمشوّقة إليها فيما يلي:

١ - أنْ يتذكّر المُذنب ما صوَّرته الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، مِن غوائل الذنوب، ومآسيها الماديّة والروحيّة، في عاجل الحياة وآجلها، وما توعّد اللّه عليها مِن صنوف التأديب وألوان العِقاب.

٢ - أن يستعرض فضائل التوبة ومآثر التائبين، وما حباهم اللّه به من كريم العفو، وجزيل الأجر، وسمو العناية واللطف، وقد مرّ ذلك في بداية هذا البحث.

وكفى بهاتين النصيحتين تشويقاً إلى التوبة، وتحريضاً عليها، ولا يرغب عنها إلا أحمق بليد، أو ضعيف الايمان والبصيرة.

_____________________

(١) البحار م ٣ ص ١٠٣ عن الكافي.

٢٦٢

محاسبة النفس ومراقبتها

المحاسبة هي: محاسبة النفس كلّ يوم عمّا عمِلته مِن الطاعات والمبرّات، أو اقترفته من المعاصي والآثام، فإنْ رجُحت كفّة الطاعات على المعاصي، والحسَنات على السيّئات، فعلى المحاسِب أنْ يشكُر اللّه تعالى على ما وفّقه إليه وشرّفه به مِن جميل طاعته وشرف رضاه.

وإنْ رجُحت المعاصي، فعليه أنْ يؤدّب نفسه بالتأنيب والتقريع على شذوذها وانحرافها عن طاعة اللّه تعالى.

وأمّا المراقبة: فهي ضبطُ النفس وصيانتها عن الإخلال بالواجبات ومقارفة المحرّمات.

وجديرٌ بالعاقل المُستنير بالإيمان واليقين، أنْ يروّض نفسه على المحاسبة والمراقبة فإنّها ( أمّارة بالسوء ): متى أُهمِلَت زاغت عن الحقّ، وانجرفت في الآثام والشهَوات، وأودَت بصاحبها في مهاوي الشقاء والهلاك، ومتى أُخِذَت بالتوجيه والتهذيب، أشرقت بالفضائل، وازدهرت بالمكارم، وسمت بصاحبها نحو السعادة والهناء:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) ( الشمس: ٧ - ١٠ ).

٢٦٣

هذا إلى أنّ للمحاسبة، والمراقبة أهميّة كُبرى في تأهّب المؤمن، واستعداده لمواجهة حساب الآخرة، وأهواله الرهيبة، ومِن ثمّ اهتمامه بالتزوّد مِن أعمال البِر والخير الباعثة على نجاته وسعادة مآبه.

لذلك طفِقَت النصوص تُشوّق، وتحرّض على المحاسبة والمراقبة بأساليبها الحكيمة البليغة:

قال الإمام الصادقعليه‌السلام : ( إذا أراد أحدكم أنْ لا يسأل ربَّه شيئاً إلاّ أعطاه، فلِيَيأس مِن الناس كلّهم، ولا يكون له رجاء إلاّ مِن عند اللّه تعالى، فإذا علِم اللّه تعالى ذلك مِن قلبهِ لم يسأل شيئاً إلاّ أعطاه، فحاسبوا أنفسكم قبل أنْ تُحاسَبوا عليها، فإنّ للقيامة خمسين موقفاً، كلّ موقفٍ مقام ألف سنة، ثمّ تلا:( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) ( المعارج: ٤ )(١) .

وقال الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : ( ليس منّا مَن لم يُحاسِب نفسه في كل ّيوم، فإنْ عمِل حسنةً استزاد اللّه تعالى، وإنْ عمِل سيّئةً استغفر اللّه تعالى منها وتاب إليه )(٢).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( إنّ رجُلاً أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له: يا رسول اللّه، أوصني.

فقال له رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فهل أنت مستوصٍ إنْ أنا أوصيتك ؟ حتّى قال له ذلك ثلاثاً، وفي كلّها يقول له الرجل: نعم

_____________________

(١) الوافي الجزء الثالث ص ٦٢ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٦٢ عن الكافي.

٢٦٤

يا رسول اللّه.

فقال له رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فإنّي أوصيك، إذا أنت همَمْتَ بأمرٍ فتدبّر عاقبته، فإنْ يكُ رُشداً فأمضِه، وإنْ يكُ غيّاً فانته عنه )(١) .

وقال الصادقعليه‌السلام لرجلٍ: ( إنّك قد جُعلتَ طبيب نفسك، وبُيّن لك الدَّاء، وعُرّفت آية الصحّة، ودُلِلْتَ على الدواء، فانظر كيف قياسك على نفسك )(٢) .

وعن موسى بن جعفرعليه‌السلام عن آبائهعليهم‌السلام قال:

( قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث سريّة، فلمّا رجعوا قال: مرحباً بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر، وبقيَ عليهم الجهاد الأكبر.

قيل: يا رسول اللّه، وما الجهاد الأكبر ؟ قال: جهاد النفس. ثمّ قال: أفضل الجهاد مَن جاهد نفسه التي بين جنبيه )(٣).

دستور المحاسبة:

لقد ذكر المعنيّون بدراسة الأخلاق دستور المحاسبة والمراقبة بأُسلوب مفصّل، ربّما يشقّ على البعض تنفيذه، بيد أنّي أعرضه مُجملاً ومُيسّراً في

_____________________

(١)، (٢) الوافي ج ٣ ص ٦٢ عن الكافي.

(٣) البحار م ١٥ ج ٢ ص ٤٠ عن معاني الأخبار وأمالي الصدوق.

٢٦٥

أمرين هامّين:

١ - أوّل ما يجدر محاسبةُ النفس عليه، أداء الفرائض التي أوجَبها اللّه تعالى على الناس، كالصلاة والصيام والحجِّ والزكاة ونحوها من الفرائض، فإنْ أدّاها المرء على الوجه المطلوب، شكَر اللّه تعالى على ذلك ورجّى نفسه فيما أعدَّ اللّه للمطيعين مِن كرَم الثواب وجزيل الأجر.

وإنْ أغفلها وفرّط في أدائها خوّف نفسه بما توعّد اللّه العُصاة والمتمرّدين عن عباده بالعقاب الأليم، وجدّ في قضائها وتلافيها.

٢ - محاسبة النفس على اقتراف الآثام واجتراح المنكرات، وذلك: بزجرها زجراً قاسياً، وتأنيبها على ما فرّط مِن سيّئاتها، ثمّ الاجتهاد بملافاة ذلك بالندم عليه، والتوبة الصادقة منه.

ولقد ضرب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أرفع مثَل لمحاسبة النفس، والتحذير مِن صغائر الذنوب ومحُقَّراتها:

قال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ رسول اللّه نزَل بأرضٍ قَرعاء، فقال لأصحابه: ائتونا بحطب. فقالوا: يا رسول اللّه، نحن بأرضٍ قَرعاء ما بها من حطب. قال: فليأت كلّ إنسانٍ بما قدَر عليه، فجاءوا به حتّى رموا بين يدَيه بعضه على بعض، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : هكذا تجتمع الذنوب.

ثمّ قال: إيّاكم والمحقّرات مِن الذنوب، فإنّ لكلّ شيء طالباً، ألا وأنّ طالبها يكتب:

٢٦٦

(... مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) )( يس: ١٢ )(١) .

وكان بعض الأولياء يُحاسب نفسه بأُسلوبٍ يستثير الدهشة والإكبار:

من ذلك ما نُقِل عن توبة بن الصمّة، وكان مُحاسباً لنفسه في أكثر أوقات ليله ونهاره، فحسب يوماً ما مضى مِن عمره، فإذا هو ستّون سنة، فحسِب أيّامها فكانت إحدى وعشرين ألف يوم وخمسمِئة يوم، فقال: يا ويلتاه !!، ألقى مالكاً بإحدى وعشرين ألف ذنب، ثمّ صُعِق صَعقةً كانت فيها نفسه(٢).

وما أحلى هذا البيت:

إذا المرء أعطى نفسه كلَّ شهوةٍ

ولم ينهها تاقت إلى كلِّ باطلٍ

اغتنام فرصة العمر:

لو وازن الإنسان بين جميع مُتَع الحياة ومباهجها، وبين عمره وحياته لوَجد أنّ العمر أغلى وأنفس منها جميعاً، وأنّه لا يعدله شيء مِن نفائس الحياة وأشواقها الكُثر، إذ من المُمكن اكتسابها أو استرجاع ما نفَر منها.

أمّا العمر فإنّه الوقت المُحدّد الذي لا يستطيع الإنسان إطالة أمده، وتمديد أجلِه المقدّر المحتوم:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( الأعراف: ٣٤ ).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٦٨ عن الكافي.

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ٤٨٨.

٢٦٧

كما يستحيل استرداد ما تصرّم مِن العمر، ولو بذَل المرء في سبيل ذلك جميع مقتنيات الحياة.

وحيث كان الإنسان غفولاً عن قِيَم العمر وجلالة قدره، فهو يُسرِف عابثاً في تَضييعه وإبادته، غير آبهٍ لما تصرّم منه، ولا مُغتنِم فرصته السانحة.

مِن أجل ذلك جاءت توجيهات آل البيتعليهم‌السلام موضّحة نفاسة العمر، وضرورة استغلاله وصرفه فيما يوجِب سعادة الإنسان ورخائه في حياته العاجلة والآجلة.

قال سيّد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله في وصيّته لأبي ذر: ( يا أبا ذر، كُن على عمرك أشحّ منك على درهمك ودينارك )(١) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( إنّما الدنيا ثلاثة أيّام: يومٌ مضى بما فيه فليس بعائد، ويومٌ أنت فيه فحقّ عليك اغتنامه، ويومٌ لا تدري أنت مِن أهله، ولعلك راحل فيه.

أمّا اليوم الماضي فحكيم مُؤدّب، وأمّا اليوم الذي أنت فيه فصديقٌ مودّع، وأمّا غد فإنّما في يديك منه الأمل ).

وقالعليه‌السلام : ( ما مِن يومٍ يمرُّ على ابن آدم، إلاّ قال له ذلك اليوم: أنا يومٌ جديد، وأنا عليك شهيد، فقل فيّ خيراً، واعمل

_____________________

(١) الوافي قسم المواعظ في وصيّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي ذر.

٢٦٨

فيّ خيراً، أشهد لك به يوم القيامة، فإنّك لنْ تراني بعد هذا أبداً )(١).

وروي أنّه جاء رجلٌ إلى عليّ بن الحسينعليهما‌السلام يشكو إليه حاله، فقال: ( مسكينٌ ابن آدم، له في كلّ يومٍ ثلاث مصائب لا يعتبر بواحدةٍ منهنّ، ولو اعتبَر لهانت عليه المصائب وأمر الدنيا:

فأمّا المصيبة الأُولى: فاليوم الذي ينقص من عمره. قال: وإنْ ناله نُقصان في ماله اغتمّ به، والدهر يخلف عنه والعمر لا يردّه شيء.

والثانية: أنّه يستوفي رزقه، فإنْ كان حلالاً حُوسِبَ عليه، وإنْ كان حراماً عوقِب.

قال: والثالثة أعظم من ذلك.

قيل: وما هي ؟ قال: ما مِن يومٍ يمسي إلاّ وقد دنا مِن الآخرة مرحلة، لا يدري على جنّةٍ أم على نار ).

وقال: ( أكبر ما يكون ابن آدم اليوم الذي يولد مِن أمّه ).

( قالت الحُكَماء ما سبَقه إلى هذا أحد )(٢) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( اصبروا على طاعة اللّه، وتصبّروا عن معصية اللّه، فإنّما الدنيا ساعة، فما مضى فلستَ تجِد له سروراً ولا حزناً، وما لم يأتِ فلستَ تعرفه، فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها فكأنّك قد اغتبطت )(٣).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( لا يغرّنك الناس من نفسك،

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٣ عن الفقيه.

(٢) عن كتاب الاختصاص المنسوب للشيخ المفيد.

(٣) الوافي ج ٣ ص ٦٣ عن الكافي.

٢٦٩

فإنّ الأمر يصل إليك دونهم، ولا تقطع نهارك بكذا وكذا، فإنّ معك مَن يحفِظ عليك عملك، فأحسن فإنّي لم أرَ شيئاً أحسن درَكاً، ولا أسرَع طلَباً، مِن حسنةٍ محدّثة لذنب قديم )(١) .

وعن جعفر بن محمّد، عن آبائهعليهم‌السلام قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( بادر بأربَع قبل أربَع، بشبابك قبل هرَمك، وصحّتك قبل سقمك، وغِناك قَبل فقرك، وحياتك قَبل موتك )(٢).

وعن الباقرعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: ( لا يزولُ قدمَ ( قدما ) عبدٍ يوم القيامة مِن بين يدَي اللّه، حتّى يسأله عن أربَع خِصال: عمرك فيما أفنيته، وجسدك فيما أبليته، ومالك مِن أين اكتسبته وأين وضَعته، وعن حبّنا أهل البيت ؟)(٣).

وقال بعض الحكماء: إنّ الإنسان مسافر، ومنازله ستّة، وقد قطع منها ثلاثة وبقي ثلاثة:

فالتي قطعها: -

١ - مِن كتم العدَم إلى صُلب الأب وترائب الأُم.

٢ - رحِم الأُم.

٣ - مِن الرحم إلى فضاء الدنيا.

وأمّا التي لم يقطعها: -

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٢ عن الكافي.

(٢) البحار م ١٥ ص ١٦٥ عن كتاب كمال الدين للصدوق.

(٣) البحار م ٧ ص ٣٨٩ عن مجالس الشيخ المفيد.

٢٧٠

فأوّلها القبر. وثانيها فضاء المحشَر. وثالثها الجنّة أو النار.

ونحن الآن في قطع مرحلة المنزل الثالث، ومدّة قطعها مدّة عمرنا، فأيّامنا فراسخ، وساعاتنا أميال، وأنفاسنا خُطوات.

فكم مِن شخصٍ بقي له فراسخ، وآخر بقيَ له أميال، وآخر بقيَ له خُطوات.

وما أروع قول الشاعر:

دقّات قلبِ المرء قائلةٌ له

إنّ الحياةَ دقائقٌ وثَواني

٢٧١

العمل الصالح

لقد عرَفت في البحث السالِف نَفاسَة الوقت، وجلالة العُمر، وأنّه أعزَّ ذخائر الحياة وأنفسها.

وحيثُ كان الوقت كذلك، وجَب على العاقل أنْ يستغلّه فيما يليق به، ويكافئه عزةً ونفاسة مِن الأعمال الصالحة، والغايات السامية، الموجِبة لسعادته ورخائه المادّي والروحي، الدنيوي والأُخروي، كما قال سيّد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ليس ينبغي للعاقل أن يكون شاخصاً إلا في ثلاث: مرمّة لمعاش، أو تزوّد لمعاد، أو لذّة في غير محرم )(١) .

فهذه هي الأهداف السامية، والغايات الكريمة التي يجدر صَرْف العمر النفيس في طلبها وتحقيقها.

_____________________

(١) الوافي قسم المواعظ في وصيّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّعليه‌السلام .

٢٧٢

وحيث كان الإنسان مدفوعاً بغرائزه وأهدافه وأهوائه إلى كسب المعاش، ونيل المُتَع واللذائذ الماديّة، والتهالك عليها، ممّا يصرفه ويُلهيه عن الأعمال الصالحة، والتأهّب للحياة الآخرة، وتوفير موجبات السعادة والهناء فيها. لذلك جاءت الآيات والأخبار مشوّقة إلى الاهتمام بالآخرة، والتزوّد لها مِن العمل الصالح.

قال تعالى:( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ( الزلزلة: ٧ - ٨ ).

وقال تعالى:( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( النحل: ٩٧ ).

وقال تعالي:( وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) ( غافر: ٤٠ ).

وقال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) ( الجاثية: ١٥ ).

وقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( يا أبا ذر، إنّك في ممرِّ الليل والنهار، في آجالٍ منقوصة، وأعمالٍ محفوظة، والموت يأتي بغتة، ومَن يزرع خيراً يوشَك أنْ يحصِد خيراً، ومَن يزرع شرَّاً يوشِك أنْ يحصدَ ندامة، ولكلّ زارعٍ مثل ما زرَع )(١).

وقال قيس بن عاصم: وفدت مع جماعة مِن بني تميم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقلت: يا نبيّ اللّه، عِظنا موعظةً ننتفع بها، فإنّا قومٌ

_____________________

(١) الوافي في موعظة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي ذر.

٢٧٣

نعمّر في البرّية.

فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( يا قيس، إنّ مع العزِّ ذُلاًّ، وإنّ مع الحياة موتاً، وإنّ مع الدنيا آخرة، وإنّ لكلّ شيء حسيباً، وعلى كلِّ شيءٍ رقيباً، وإنّ لكلّ حسنة ثواباً، ولكلّ سيّئة عقاباً، ولكلِّ أجلٍ كتاباً. وإنّه لا بدَّ لك يا قيس من قرينٍ يُدفَن معك وهو حيّ، وتدفَنُ معه وأنت ميّت، فإنّ كان كريماً أكرمك، وإنْ كان لئيماً أسلمك، ثمّ لا يحشر إلاّ معك، ولا تُبعث إلاّ معه، ولا تُسأل إلاّ عنه، فلا تجعله إلاّ صالحاً، فإنّه إنْ صلُح أُنست به، وإنْ فسُد لم تستوحش إلاّ منه، وهو فعلك )(١).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( إنّ العبد إذا كان في آخر يوم مِن أيّام الدنيا، وأوّل يوم مِن أيّام الآخرة، مُثّل له، ماله، وولده، وعمله، فيلتفت إلى ماله، فيقول: واللّه إنّي كنت عليك حريصاً شحيحاً فمالي عندك ؟ فيقول: خذ منّي كفنك.

قال: فيلتفت إلى ولده فيقول: واللّه إنّي كنت لكم محبّاً، وإنّي كنت عليكم محامياً، فمالي عندكم ؟ فيقولون: نؤدّيك إلى حفرتك فنواريك فيها

قال: فيلتفت إلى عمله فيقول: واللّه إنّي كنت فيك لزاهداً، وإنّك كنت عليّ لثقيلاً، فمالي عندك ؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك، ويوم

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٦٣ عن معاني الأخبار والخِصال وأمالي الصدوق.

٢٧٤

نشرك، حتّى أُعرض أنا وأنت على ربّك )(١).

قال: ( فإنْ كان للّه وليّاً، أتاه أطيب الناس ريحاً، وأحسنهم منظراً وأحسنهم رياشاً، فقال: أبشر بروح وريحان، وجنّة نعيم، ومقدمك خير مقدم، فيقول له: مَن أنت ؟ فيقول: أنا عملُك الصالح، ارتحل مِن الدنيا إلى الجنّة...)(٢) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا وضع الميت في قبره، مُثّل له شخص، فقال له: يا هذا، كنّا ثلاثة: كان رزقك فانقطع بانقطاع أجلك، وكان أهلك فخلّوك وانصرفوا عنك، وكنت عملك فبقيت معك أما إني كنت أهون الثلاثة عليك )(٣).

وعن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن أحسَن فيما بقي من عمره، لم يُؤخَذ بما مضى من ذنبه، ومن أساء فيما بقي من عمره أخذ بالأول والآخر ).

وقد أحسن الشاعر بقوله:

والناس همهم الحياة ولا أرى

طول الحياة يزيد غير خيال

وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد

ذخراً يدوم كصالح الأعمال

_____________________

(١) الوافي ج ١٣ ص ٩٢ عن الفقيه.

(٢) الوافي ج ١٣ ص ٩٢ عن الكافي.

(٣) الوافي ج ١٣ ص ٩٤ عن الكافي.

٢٧٥

طاعة اللّه وتقواه:

الإنسان عنصر أصيل مِن عناصر هذا الكون، ونمط مثالي رفيع بين أنماطه الكثُر، بل هو أجلّها قدراً، وأرفعها شأناً، وذلك بما حباه اللّه عزّ وجل، وشرّفه بصنوف الخصائص والهِبات التي ميّزته على سائر الخلق:( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) (الإسراء: ٧٠ ).

وكان مِن أبرز مظاهر العناية الإلهيّة بالإنسان، ودلائل تكريمه له: أنْ استخلفه في الأرض، واصطفى مِن عيون نوعه وخاصّتهم رُسُلاً وأنبياءً، بعثهم إلى العباد بالشرائع والمبادئ الموجِبة لتنظيم حياتهم، وإسعادهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة.

ولكنّ أغلب البشر، وا أسفاه ! تستعبدهم الأهواء والشهَوات، وتطفي عليهم نوازع التنكّر والتمرّد على النُظُم الإلهيّة، وتشريعها الهادف البنّاء، فيتيهون في مجاهل العصيان، ويتعسّفون طُرُق الغواية والضلال، ومِن ثمّ يعانون ضروب الحيرة والقلق والشقاء، ولو أنّهم استجابوا لطاعة اللّه تعالى، وساروا على هدي نظمه ودساتيره، لسعدوا وفازوا فوزاً عظيماً:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ

٢٧٦

السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ).

أرأيت كيف انتظم الكون، واتّسقت عناصره، واستتبّ نظامه ملايين الأجيال والأحقاب ؟! بخضوعه للّه عزَّ وجل، وسيره على مقتضيات دساتيره وقوانينه ؟!

أرأيت كيف ازدهرت حياة الأحياء، واستقامت بجريها على وفق مشيئة اللّه تعالى، وحكمة نظامه وتدبيره ؟!!.

أرأيت كيف يُطبِّق الناس وصايا وتعاليم مخترعي الأجهزة الميكانيكيّة ليضمنوا صيانتها واستغلالها على أفضل وجه ؟!

أرأيت كيف يخضع الناس لنصائح الأطباء، ويعانون مشقّة العلاج ومرارة الحمية، توخّياً للبرء والشفاء ؟!.

فلِمَ لا يطيع الإنسان خالقه العظيم، ومدبّره الحكيم، الخبير بدخائله وأسراره، ومنافعه ومضارّه ؟!.

إنّه يستحيل على الإنسان أنْ ينال ما يَصبو إليه مِن سعادة وسلام، وطمأنينة ورخاء، إلاّ بطاعة اللّه تعالى، وانتهاج شريعته وقوانينه.

أنظر كيف يشوّق اللّه عزّ وجل، عباده إلى طاعته وتقواه، ويحذّرهم مغبّة التمرّد والعصيان، وهو الغنيّ المُطلق عنهم.

قال تعالى:( وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ) ( الأحزاب: ٦١ ).

وقال سُبحانه:( وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً ) ( الفتح: ١٧ ).

٢٧٧

وأمّا التقوى، فقد علّق اللّه خير الدنيا والآخرة، وأناط بها أعزَّ الأماني والآمال، وإليك بعضها:

١ - المحبّة مِن اللّه تعالى، فقال سُبحانه:( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) ( التوبة: ٤ ).

٢ - النجاة مِن الشدائد وتهيئة أسباب الارتزاق، فقال:( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) ( الطلاق: ٢ - ٣ ).

٣ - النصر والتأييد، قال تعالى:( إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ) ( النحل: ١٢٨ ).

٤ - صلاح الأعمال وقبولها، فقال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) ( الأحزاب: ٧٠ - ٧١ )

وقال:( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ).

٥ - البشارة عند الموت، قال تعالى:( الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ *، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) ( يونس:٦٣ - ٦٤ ).

٦ - النجاة من النار، قال تعالى:( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا ) ( مريم: ٧٢ ).

٧ - الخلود في الجنّة، قال تعالى:( أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) ( آل عمران: ١٣٣).

فتجلّى مِن هذا العرض، أنّ التقوى هي الكنز العظيم، الحاوي لصنوف الأماني والآمال الماديّة والروحيّة، الدينيّة والدنيويّة.

٢٧٨

حقيقة الطاعة والتقوى:

والطاعة: هي الخضوع للّه عزّ وجل، وامتثال أوامره ونواهيه.

والتقوى: مِن الوقاية، وهي صيانة النفس عمّا يضرّها في الآخرة، وقصرها على ما ينفعها فيها.

وهكذا تواترت أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام حاثّة ومرغّبةً على طاعة اللّه تعالى وتقواه، ومحذّرة مِن عِصيانه ومخالفته.

قال الإمام الحسن الزكيعليه‌السلام في موعظته الشهيرة لجُنادة: ( اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً، وإذا أردت عزّاً بلا عشيرة، وهيبةً بلا سلطان، فاخرج مِن ذُلّ معصية اللّه إلى عزِّ طاعة اللّه عزَّ وجل ).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( اصبروا على طاعة اللّه، وتصبّروا عن معصية اللّه، فإنّما الدنيا ساعة، فما مضى فلستَ تجد له سروراً ولا حزناً، وما لم يأتِ فلستَ تعرفه، فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها، فكأنّك قد اغتبطت )(١).

وقالعليه‌السلام : ( إذا كان يوم القيامة يقوم عنُقٌ مِن الناس، فيأتون باب الجنّة فيضربونه، فيُقال لهم: مَن أنتم ؟ فيقولون: نحن أهل الصبر، فيُقال لهم: على ما صبرتم ؟ فيقولون: كنّا نصبر على طاعة اللّه

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٣ عن الكافي.

٢٧٩

ونصبر عن معاصي اللّه. فيقول اللّه عزَّ وجل: صدقوا، أدخلوهم الجنّة، وهو قول اللّه عزّ وجل:( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) )( الزمر: ١٠)(١).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( إذا أردت أنْ تعلم أنّ فيك خيراً، فانظر إلى قلبِك، فإنْ كان يُحبُّ أهل طاعة اللّه عزّ وجل، ويَبغض أهل معصيته ففيك خير، واللّه يُحبُّك.

وإنْ كان يَبغض أهل طاعة اللّه، ويُحِبّ أهل معصيته فليس فيك خير، واللّه يبغضك، والمرء مع مَن أحب )(٢).

وقالعليه‌السلام : ما عرَف اللّه مَن عصاه، وأنشد:

تَعصي الإله وأنتَ تُظهر حُبّه

هذا لعمرك في الفِعال بديعُ

لو كان حُبّك صادقاً لأطَعته

إنّ المحبّ لِمن أحبّ مطيع

وعن الحسن بن موسى الوّشا البغدادي قال: كنت بخُراسان مع عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام في مجلسه، وزيد بن موسى حاضر، وقد أقبل على جماعة في المجلس يفتخر عليهم ويقول: نحن ونحن، وأبو الحسن مُقبلٌ على قومٍ يحدّثهم، فسمِع مقالة زيد، فالتفت إليه.

فقال: ( يا زيد، أغرّك قولُ بقّاليّ الكوفة، إنّ فاطمة أحصنت فرجها، فحرّم اللّه ذرّيتها على النار، واللّه ما ذلك إلاّ للحسن والحسين، وولد بطنها خاصّة، فأمّا أنْ يكون موسى بن جعفر يطيع اللّه، ويصوم نهاره، ويقوم ليله،

_____________________

(١) البحار م ٥ ص ٢ ص ٤٩ عن الكافي.

(٢) البحار م ١٥ ج ١ ص ٢٨٣ عن علل الشرائع والمحاسن للبرقي والكافي.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

«سورة الواقعة»

محتوى السورة :

نقل في كتاب «تأريخ القرآن» عن ابن النديم أنّ سورة الواقعة هي السورة الرابعة والأربعين التي نزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ، وكانت قبلها سورة (طه) وبعدها (الشعراء).

هذه السورة ـ كما هو واضح من لحنها ، وذكره المفسّرون أيضا ـ نزلت في مكّة ، بالرغم من أنّ بعضهم قال : إنّ الآيتين (٨١ ، ٨٢) نزلتا في المدينة ، إلّا أنّ هذا الادّعاء ليس له دليل ، كما أنّ محتوى الآيتين الكريمتين لا يساعدان على ذلك أيضا.

وسورة الواقعة ـ كما هو واضح من اسمها ـ تتحدّث عن القيامة وخصوصياتها ، وهذا المعنى واضح في جميع آيات السورة الستّ والتسعين. ولذا فإنّ هذا الموضوع هو الأساس في البحث.

إلّا أنّنا نستطيع أن نلخّص موضوعات السورة في ثمانية أقسام :

١ ـ بداية ظهور القيامة والحوادث المرعبة المقترنة بها.

٢ ـ تقسيم أنواع الناس في ذلك اليوم إلى ثلاثة طوائف : (أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، والمقرّبين).

٣ ـ بحث مفصّل حول مقام المقرّبين ، وأنواع الجزاء لهم في الجنّة.

__________________

(١) تأريخ القرآن لمؤلّفه أبو عبد الله الزنجاني ، ص ٥٩.

٤٤١

٤ ـ بحث مفصّل حول القسم الثاني في الناس وهم أصحاب اليمين ، وأنواع الهبات الإلهيّة الممنوحة لهم.

٥ ـ بحث حول أصحاب الشمال وما ينتظرهم من جزاء مؤلم في نار جهنّم.

٦ ـ بيان أدلّة مختلفة حول مسألة المعاد من خلال بيان قدرة اللهعزوجل ، وخلق الإنسان من نطفة حقيرة ، وظهور الحياة في النباتات ، ونزول المطر ، اشتعال النار والتي تدخل أيضا ضمن أدلّة التوحيد.

٧ ـ وصف حالة الاحتضار والانتقال من هذا العالم إلى حيث العالم الاخروي والتي تعتبر من مقدّمات يوم القيامة.

٨ ـ وأخيرا نظرة إجمالية كليّة حول جزاء المؤمنين وعقاب الكافرين.

وأخيرا تنهي السورة آياتها باسم الله العظيم.

فضيلة تلاوة هذه السورة :

حول فضيلة تلاوة هذه السورة ذكرت روايات كثيرة في المصادر الإسلامية نقرأ منها حديثا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «من قرأ سورة الواقعة لم يكتب من الغافلين»(١) وذلك لأنّ آيات هذه السورة تتّصف بالتحريك والإيقاظ بصورة لا تسمح للإنسان أن يبقى في جوّ الغفلة.

وحول هذا المعنى نقرأ حديثا آخر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «شيّبتني هود والواقعة والمرسلات وعمّ يتساءلون»(٢) وذلك لأنّ الأخبار التي وردت في هذه السورة أخبار مثيرة عن القيامة والحشر والحوادث المرعبة وعقاب المشركين ، وذكر حالة الأقوام السابقة وما حلّ بهم من البلاء.

ونقرأ أيضا في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ في كلّ ليلة جمعة

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢١٢ ، وتفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٢٧٣.

(٢) خصال الصدوق ، الباب الرابع ، حديث ١٠.

٤٤٢

الواقعة أحبّه الله وحبّبه إلى الناس أجمعين ، ولم ير في الدنيا بؤسا أبدا ولا فقرا ولا فاقة ، ولا آفة من آفات الدنيا ، وكان في رفقاء أمير المؤمنين»(١) .

وجاء في حديث آخر أنّ عثمان بن عفّان عاد عبد الله بن مسعود في مرضه الذي توفّي فيه فقال له : ماذا تشتكي؟ قال : ذنوبي ، قال : فيم ترغب؟ قال : في رحمة ربّي ، قال : ألا ألتمس لك طبيبا؟ قال : أمرضني الطبيب؟ قال : ألا آمر لك بعطيّة؟ قال : لم تأمر لي بها إذ كنت أحوج إليها ، وتأمر لي الآن وأنا مستغن عنها ، قال : فلتكن هي لبناتك ، قال : لا حاجة لهنّ بها فإنّي قد أمرتهنّ بقراءة سورة الواقعة ، وإنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاقة يقول : «من قرأ سورة الواقعة كلّ ليلة لم تصبه أبدا»(٢) .

ولهذا السبب سمّيت سورة الواقعة حسب ما ورد في رواية اخرى بسورة الغنى(٣) .

ومن الواضح أنّنا لا نستطيع الحصول على جميع البركات التي وردت لهذه السورة بالقراءة السطحية ، بل ينبغي بعد تلاوتها التفكّر والتدبّر ، ومن ثمّ الحركة والعمل.

* * *

__________________

(١) ثواب الأعمال ، طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٠٣.

(٢) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢١٢.

(٣) روح المعاني ، ج ٢٧ ، ص ١١١.

٤٤٣

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) )

التّفسير

الواقعة العظيمة :

إنّ الأحداث المرتبطة بالقيامة تذكر غالبا في القرآن الكريم مقترنة بحوادث أساسيّة عظيمة قاصمة ومدمّرة ، وهذا ما يلاحظ في الكثير من السور القرآنية التي

٤٤٤

تتحدّث عن القيامة.

وفي سورة الواقعة حيث يدور البحث حول محور المعاد ، نجد هذا واضحا في الآيات الاولى منها ، حيث يبدأ سبحانه بقوله :( إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ) (١) .

( لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ ) وذلك لأنّ الحوادث التي تسبقها عظيمة وشديدة بحيث تكون آثارها واضحة في كلّ ذرّات الوجود.

«الواقعة» تشير إشارة مختصرة إلى مسألة الحشر ، ولأنّ وقوعها حتمي فقد عبّر عنها بـ (الواقعة) واعتبر البعض أنّها إحدى أسماء القيامة.

كلمة (كاذبة) هنا أخذت بمعناها المصدري ، وهي إشارة إلى أنّ وقوع القيامة ظاهر وواضح إلى حدّ لا يوجد أي مجال لتكذيبه أو بحثه والنقاش فيه.

كما أنّ البعض فسّرها بمعناها الظاهري الذي هو اسم الفاعل ، حيث قالوا بعدم وجود من يكذّب هذا الأمر(٢) .

وعلى كلّ حال فإنّ الحشر لا يقترن بتغيير الكائنات فحسب ، بل إنّ البشر يتغيّر كذلك كما يقول سبحانه في الآية اللاحقة( خافِضَةٌ رافِعَةٌ ) (٣) .

أجل ، أنّها تذلّ المستكبرين المتطاولين ، وتعزّ المحرومين المؤمنين وترفع المستضعفين الصادقين بعض يسقط إلى قاع جهنّم ، وبعض آخر إلى أعلى عليين في الجنّة.

وهذه هي خاصية المبادئ الإلهيّة العظيمة.

ولذلك نقرأ في رواية الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : «خافضة خفضت والله أعداء الله في النار ، رافعة رفعت والله أولياء الله إلى

__________________

(١) تعتبر (إذا) منصوبة على الظرفية والناصب له «ليس» الوارد في الآية الثانية مثل أن نقول «يوم الجمعة ليس لي شغل» ويحتمل أن تكون منصوبة بفعل مقدّر تقديره (ذكر) إلّا أنّ الرأي الأوّل هو الأنسب.

(٢) إنّ سبب كون الضمير مؤنثا لتقديره (نفس كاذبة) أو (قضيّة كاذبة) واعتبر البعض أنّ (اللام) في (لوقعتها) للتوقيت ، إلّا أنّ الظاهر أنّها للتعدية.

(٣) «خافضة رافعة» خبر لمبتدأ محذوف ، وفي الأصل (هي خافضة رافعة).

٤٤٥

الجنّة»(١) .

ثمّ يستعرض القرآن الكريم وصفا أوسع في هذا الجانب حيث يقول :( إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ) .

يا له من زلزال عظيم وشديد إلى حدّ أنّ الجبال فيه تندكّ وتتلاشى ، قال تعالى :( وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا ) .

(رجّت) من مادّة (رجّ) على وزن (حجّ) بمعنى التحرّك الشديد للشيء وتقال رجرجة للاضطراب.

«بسّت» من مادّة (بسّ) على وزن (حجّ). والأصل بمعنى تليّين الطحين وتعجنه بواسطة الماء.

«هباء» بمعنى غبار ، و «منبث» بمعنى منتشر. قال البعض : إنّ «هباء» هو ذرّات الغبار الصغيرة المعلّقة بالفضاء ولا ترى في الحالة الاعتيادية ، إلّا إذا دخل نور الشمس من نافذة إلى مكان مظلم.

والآن يجب التفكير بهذه الزلزلة والإنفجار ، كم هو عظيم بحيث تتلاشى الجبال مع ما لها من القوّة والصلابة بحيث تتحوّل إلى غبار منتشر ، والأعظم هو شدّة الصوت الذي ينتج من هذا الإنفجار الرهيب.

وعلى كلّ حال فقد نلاحظ في الآيات القرآنية تعبيرات مختلفة حول وضع الجبال قبل يوم القيامة ، وتكشف لنا المراحل المتعدّدة للانفجار العظيم الذي يطرأ على الجبال ، حيث يقولعزوجل في هذا الصدد :

( وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً ) الطور.

( وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ ) المرسلات.

( فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) الحاقّة.

__________________

(١) الخصال طبقا ، نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٠٤.

٤٤٦

( وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً ) المزمل أي كالرمل المتراكم.

( فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا ) الواقعة الآية محلّ البحث.

وأخيرا( وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) القارعة أي كالصوف المنفوش حيث لا يرى منها إلّا لونها.

ومن الواضح أن لا أحد يعلم إلّا الله بحقيقة حصول هذه التغيّرات التي لا تحملها الألفاظ ، ولا تجسّدها العبارات ، اللهمّ إلّا إشارات معبّرة تحكي عظمة وهول هذا الإنفجار العظيم.

وبعد بيان وقوع هذه الظاهرة العظيمة والحشر الكبير يستعرض القرآن المجيد ذكر حالة الناس في ذلك اليوم ، حيث قسّم الناس إلى ثلاثة أقسام بقول سبحانه :( وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً ) .

لفظ (الزوج) لا يقال دائما لجنس المؤنث والمذكّر ، بل تطلق هذه اللفظة على الأمور المتقارنة مع بعض ، ولكون أصناف الناس في القيامة والحشر والنشر تكون متقارنة مع بعضها ، لذا يطلق عليها لفظ أزواج.

وحول القسم الأوّل يحدّثنا القرآن الكريم بقوله :( فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ) (١) .

المقصود من أصحاب الميمنة هم الأشخاص الذين يعطون صحيفة أعمالهم بأيديهم اليمنى ، وهذا الأمر رمز لأهل النجاة ، ودليل الأمان للمؤمنين والصالحين في يوم القيامة ، كما ذكر هذا مرارا في الآيات القرآنية.

أو أنّ كلمة (ميمنة) من مادّة (يمن) التي أخذت من معنى السعادة ، وعلى هذا التّفسير فإنّ القسم الأوّل هم طائفة السعداء وأهل الحبور والسرور.

__________________

(١) في تركيب هذه الجملة توجد احتمالات عديدة وأنسبها أن نقول : «أصحاب الميمنة» مبتدأ ، و «ما» استفهامية مبتدأ تان ، وأصحاب الميمنة الثانية خبرها ، والخلاصة أنّ جملة (ما أصحاب الميمنة) خبر للمبتدأ الأوّل ، والفاء في بداية الجملة تفريعيّة وتفسيرية.

٤٤٧

وبالنظر إلى أنّ الآية اللاحقة تعرّف المجموعة الثانية بـ( أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ) والتي هي مأخوذة من مادّة (شؤم) فإنّ التّفسير الأخير هو الأنسب(١) .

عبارة «ما أصحاب الميمنة» هو بيان حقيقة السعادة التي ليس لها حدّ ولا يمكن تصوّرها لهؤلاء المؤمنين ، وهذه قمّة الروعة في الوصف لمثل هذه الحالات ، ويمكن تشبيه ذلك بقولنا : فلان إنسان يا له من إنسان!

ثمّ يستعرض الله تعالى المجموعة الثانية بقوله :( وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ) حيث الشؤم والتعاسة ، واستلام صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى التي هي رمز سوء عاقبتهم وعظيم جرمهم وجنايتهم ، نتيجة عمى البصيرة والسقوط في وحل الضلال.

والتعبير بـ «ما أصحاب المشئمة» هو الآخر يعكس نهاية سوء حظّهم وشقاوتهم.

وأخيرا يصف المجموعة الثالثة أيضا بقوله سبحانه :( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ) (٢) ( أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) .

(السابقون) ليسوا الذين سبقوا غيرهم بالإيمان فحسب ، بل في أعمال الخير والأخلاق والإخلاص ، فهم أسوة وقدوة وقادة للناس ، ولهذا السبب فهم من المقرّبين إلى الحضرة الإلهيّة.

وبناء على هذا ، فما نرى من تفسير أسبقية السابقين بالسبق في طاعة الله ، أو

__________________

(١) جاء في الآيات اللاحقة استعمال أصحاب الشمال بدلا من أصحاب المشئمة.

(٢) في تركيب هذه الآية والآيات اللاحقة احتمالات عديدة : الأوّل : أنّ( السَّابِقُونَ) الأولى مبتدأ ، والثانية وصف أو تأكيد له ،( أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) مبتدأ وخبر والتي هي في المجموع خبر لكلمة( السَّابِقُونَ) الاولى ، ويحتمل البعض الآخر أنّ( السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) مبتدأ وخبر ، وشبّه بشعر أبي النجم المعروف حين يقول : (أنا أبو النجم وشعري شعري) والذي هو في الواقع نوع من الوصف العالي. وهناك احتمال آخر وهو أنّ (السابقون) الاولى هي بمعنى السابقين في الإيمان ، والسابقون الثانية بمعنى السابقين إلى الجنّة والتي ستكون كذلك مبتدأ وخبر.

٤٤٨

أداء الصلوات الخمس ، أو الجهاد والهجرة والتوبة فإنّ كلّ واحد من هذه التفاسير تمثّل جانبا من هذا المفهوم الواسع ، وإلّا فإنّ هذه الكلمة (السابقون) تشمل جميع هذه الأعمال ، والطاعات وغيرها.

وإذا فسّرت (السابقون) كما في بعض الرّوايات الإسلامية بأنّها تعني الأشخاص الأربعة وهم «هابيل» ، و «مؤمن آل فرعون» ، و «حبيب النجّار» الذين تميّز كلّ منهم بأسبقيته في قومه ، وكذلك «أمير المؤمنين»عليه‌السلام الذي هو أوّل من دخل في الإسلام من الرجال ، فإنّ هذا التّفسير في الحقيقة هو بيان للمصاديق الواضحة ، وليس تحديدا لمفهوم الآية(١) .

وجاء في حديث آخر أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أتدرون من السابقون إلى ظلّ الله في يوم القيامة؟ فقال أصحابه : الله ورسوله أعلم ، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (الذين إذا أعطوا الحقّ قبلوه ، وإذا سألوه بذلوه ، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم»(٢) .

وجاء في بعض الرّوايات أيضا أنّ المقصود بـ (السابقون) هم الأنبياء المرسلون وغير المرسلين(٣) .

«ونقرأ في حديث لابن عبّاس أنّه قال : «سألت رسول الله حول هذه الآية فقال : «هكذا أخبرني جبرائيل ، ذلك علي وشيعته هم السابقون إلى الجنّة ، المقرّبون من الله لكرامته لهم»(٤) .

وكما تقدّم إنّه بيان للمصاديق الواضحة من المفهوم الذي ذكر أعلاه ، الذي يشمل جميع (السابقين) في كلّ الأمم والشعوب.

ثمّ يوضّح ـ في جملة قصيرة ـ المقام العالي للمقرّبين حيث يقول سبحانه :

__________________

(١) نقل هذا الحديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام في مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢١٥.

(٢) تفسير المراغي ، ج ٢٧ ، ص ١٣٤.

(٣) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٠٦.

(٤) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٠٩.

٤٤٩

( فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) (١) .

التعبير بـ( جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) يشمل أنواع النعم المادية والمعنوية ، ويمكن اعتبار هذا التعبير إشارة إلى أنّ بساتين الجنّة هي وحدها مركز النعمة والراحة في مقابل بساتين الدنيا التي تحتاج إلى الجهد والتعب ، كما أنّ حالة المقربين في الدنيا تختلف عن حالة المقرّبين في الآخرة ، حيث أنّ مقامهم العالي في الدنيا كان توأما مع المسؤوليات والطاعات في حين أنّ مقامهم في الآخرة سبب للنعمة فقط.

ومن البديهي أنّ المقصود من «القرب» ليس «القرب المكاني» لأنّ الله ليس له مكان ، وهو أقرب إلينا من أنفسنا ، والمقصود هنا هو «القرب المقامي».

ويشير في الآية اللاحقة إلى الحالة العددية في الأمم السابقة وفي هذه الامّة أيضا حيث يقول سبحانه :

( ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ) أي أنّهم جماعة كثيرة في الأمم السالفة والأقوام الاولى.

( وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ ) .

(ثلّة) كما يقول الراغب في المفردات تعني في الأصل قطعة مجتمعة من الصوف ، ثمّ تحوّلت إلى معنى مجموعة من الأشخاص.

وأخذها البعض أيضا من (ثلّ عرشه) بمعنى سقط وانهار ، يقال (سقط عرشه وانقلعت حكومته) واعتبرها البعض (قطعة) ، وذلك بقرينة المقابلة بـ (قليل من الآخرين) يكون المعنى القطعة العظيمة.

وطبقا لهاتين الآيتين فإنّ قسما كبيرا من المقرّبين هم من الأمم السابقة ، وقسم قليل منهم فقط هم من امّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويثار سؤال هنا وهو : كيف يتناسب العدد القليل من مقرّبي امّة محمّد مع الأهميّة البالغة لهذه الامّة التي وصفها القرآن الكريم بأنّها من أفضل الأمم؟ قال

__________________

(١) الجار والمجرور الموجود في الآية (جنّات النعيم) ممكن أن يكون متعلّق بما قبله يعني (المقرّبين) ، أو مرتبطة بحال محذوف جاء للمقرّبين وتقديره (كائنين في جنّات النعيم) ، أو يكون خبرا بعد خبر.

٤٥٠

تعالى :( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) (١) .

وللجواب على هذا السؤال يجدر الالتفات إلى نقطتين :

الاولى : إنّ المقصود من المقرّبين هم السابقون في الإيمان ، ومن المسلّم أنّ السابقين لقبول الإسلام في المصدر الأوّل منه كانوا قلّة ، أوّلهم من الرجال الإمام علىعليه‌السلام ، ومن النساء خديجة (رض) ، في الوقت الذي نعلم أنّ كثرة الأنبياء السابقين وتعدّد أممهم ، ووجود السابقين في كلّ امّة يؤدّي إلى زيادتهم من الناحية العددية.

والنقطة الثانية : أنّ الكثرة العددية ليست دليلا على الكثرة النوعية ، حيث يمكن أن يكون عدد السابقين في هذه الامّة قليلا ، إلّا أنّ مقامهم أفضل كثيرا ، كما هو المعروف بين الأنبياء أنفسهم ، إذ يختلفون باختلاف درجاتهم :( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ) .(٢)

وممّا يلزم ذكره أنّ قسما من المؤمنين لم يندرجوا في زمرة السابقين في الإيمان ، مع توفّر الصفات والخصوصيات فيهم والتي تجعلهم بنفس درجة السابقين من حيث الأجر والجزاء ، لذلك فقد نقل في بعض الرّوايات عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «نحن السابقون السابقون ونحن الآخرون»(٣) .

وجاء في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه خاطب مجموعة من أصحابه فقال لهم : «أنتم السابقون الأوّلون والسابقون الآخرون ، والسابقون في الدنيا إلى ولا يتنا ، وفي الآخرة إلى الجنّة»(٤) .

ومن الجدير بالملاحظة أنّ بعض المفسّرين فسّر «الأوّلين والآخرين» ب

__________________

(١) آل عمران ، ١١٠.

(٢) البقرة ، ٢٥٣.

(٣) تفسير الصافي نهاية الآية مورد البحث.

(٤) تفسير الصافي نهاية الآية مورد البحث

٤٥١

(الأوّلين في الامّة الإسلامية والآخرين فيها) وانسجاما مع هذا الرأي فإنّ جميع المقرّبين هم من الامّة الإسلامية.

إلّا أنّ هذا التّفسير لا يتناسب مع ظاهر الآيات والرّوايات التي وردت في ذيل هذه الآيات ، حيث أنّها عرّفت أشخاصا من الأمم السابقة بالخصوص بعنوان أنّهم من السابقين الأوّلين.

* * *

٤٥٢

الآيات

( عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦) )

التّفسير

الجنّة بانتظار المقرّبين :

هذه الآيات تتحدّث عن أنواع نعم الجنّة التي أعدّها الله سبحانه للقسم الثالث من عباده المقرّبين ، والتي كلّ واحدة منها أعظم من أختها وأكرم.

وقد لخّصت هذه النعم بسبعة أقسام :

يقول تعالى في البداية :( عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ ) .

«سرر» جمع سرير من مادّة (سرور) بمعنى التخت الذي يجلس عليه

٤٥٣

المنعّمين في مجالس الانس والسرور(١) .

(موضون) من مادّة (وضنّ) على وزن (وزن) وهي في الأصل بمعنى نسج الدرع ، ثمّ أطلقت على كلّ منسوج محكم الخيوط والنسيج. والمقصود هنا هي الأسرة الموضوعة جنبا إلى جنب بصورة متراصّة. أو أنّ لهذه الأسرة حياكة مخصوصة من اللؤلؤ والياقوت وما إلى ذلك ، كما قال بعض المفسّرين.

وعلى كلّ حال ، فإنّ بناء هذه الأسرة وكيفية وضعها ، ومجلس الانس الذي يتشكّل عليها ، وأجواء السرور والفرح التي تغمرها ، لا نستطيع وصفه بأي بيان.

ونلاحظ استمرار الأوصاف الرائعة في القرآن الكريم لسرر الجنّة ، ومجالس أهلها ، ومنتديات أحبّتها ممّا يدلّ على أنّ من أهم نعم وملذّات هؤلاء هي جلسات الانس هذه

أمّا أحاديثهم وما يدور في حفلاتهم فليس هنالك أحد يعلم حقيقتها ، فهل هي عن أسرار الخلق وعجائب الكون؟ أو عن اصول المعرفة وأسماء الله وصفاته الحسنى؟ أو عن الحوادث التي حدثت في هذا العالم؟ أو عن الراحة التي هم عليها بعد التعب والعناء؟ أو عن امور اخرى لا نستطيع إدراكها ...؟ هذا هو سرّ لا يعلمه إلّا الله.

ثمّ يتحدث سبحانه عن نعمة اخرى لهم حيث يقول :( يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ) .

التعبير بـ «يطوف» من مادّة (طواف) إشارة إلى استمرار خدمة هؤلاء (الطوافين) لضيوفهم.

والتعبير بـ «مخلّدون» إشارة إلى خلود شبابهم ونشاطهم وجمالهم وطراوتهم ، والأصل أن جميع أهل الجنّة مخلّدون وباقون.

__________________

(١) مفردات الراغب مادّة (سر).

٤٥٤

أمّا من هم هؤلاء الولدان؟

قال البعض : إنّهم أبناء البشر من هذه الدنيا الذين توفّوا قبل البلوغ ، وصحيفة أعمالهم بيضاء لم تدنّس بعد ، فقد بلغوا هذه المرتبة بلطف الله سبحانه ، وخدمتهم للمقرّبين تقترن بارتياح عظيم ورغبة عميقة ولذّة من أفضل اللذّات ، لأنّهم في خدمة المقرّبين من الحضرة الإلهيّة.

وقد ورد في هذا المعنى حديث للإمام عليعليه‌السلام .

إلّا أنّنا نقرأ في تفسير آخر أنّهم أطفال المشركين ولأنّهم لم يرتكبوا ذنبا فقد حصلوا على هذه المرتبة ، وأطفال المؤمنين يلتحقون بآبائهم وامّهاتهم.

ونقرأ في تفسير ثالث أنّهم خدّام الجنّة ، حيث إنّ الله سبحانه قد أعدّهم لهذه المهمّة بشكل خاصّ.

ويضيف القرآن أنّ هؤلاء الولدان يقدّمون لأصحاب الجنّة أقداح الخمر وكؤوس الشراب المأخوذ من أنهار الجنّة( بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ) (١) وشرابهم هذا ليس من النوع الذي يأخذ لباب العقل والفكر ، حيث يقول تعالى :( لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ ) (٢) .

إنّ الحالة التي تنتابهم من النشوة الروحية حين تناولهم لهذا الشراب لا يمكن أن توصف ، إذ تغمر كلّ وجودهم بلذّة ليس لها مثيل.

ثمّ يشير سبحانه إلى رابع وخامس قسم من النعم المادية التي وهبها الله

__________________

(١) أكواب جمع كوب بمعنى القدح أو الإناء الذي لا عروة له ، وأباريق جمع إبريق وهي في الأصل أخذت من الفارسية (آبريز) بمعنى الأواني ذات اليد من جهة ، ومن الاخرى ذات أنبوب لصبّ السائل ، وكلمة كأس تقال للإناء المملوء بالسائل لدرجة يفيض من جوانبه ، ومعين من مادّة (معن) على وزن (صحن) بمعنى الجاري.

(٢) (يصدّعون) من مادّة (صداع) على وزن (حباب) ، بمعنى وجع الرأس ، وهذا المصطلح في الأصل من (صدع) بمعنى (الانفلاق) لأنّ الإنسان عند ما يصاب بوجع رأس شديد فكأنّ رأسه يريد أن ينفلق من شدّة الألم ، لذا فإنّ هذه الكلمة قد استعملت في هذا المعنى. (وينزفون) من أصل (نزف) على وزن (حذف) بمعنى سحب جميع مياه البشر بصورة تدريجيّة ، وتستعمل أيضا حول (السكر) وفقدان العقل.

٤٥٥

للمقرّبين في الجنّة ، حيث يقول سبحانه :( وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ) (١) ( وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ) .

إنّ تقديم الفاكهة على اللحم بلحاظ كون الفاكهة أفضل من الناحية الغذائية بالإضافة إلى نكهتها الخاصّة عند أكلها قبل الطعام.

والذي يستفاد من بعض الرّوايات أنّ غصون أشجار الجنّة تكون في متناول أيدي أهل الجنّة ، بحيث يستطيعون بكلّ سهولة أن يتناولوا أي نوع من الفاكهة مباشرة ، وهكذا الحال بالنسبة لبقيّة الأغذية الموجودة في الجنّة. إلّا أنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ تقديم الغذاء من قبل (الولدان المخلّدين) له صفاء خاصّ ولطف متميّز حيث أنّ تقديم الطعام يعبّر عن مزيد الاحترام والإكرام لأهل الجنّة ، وتضفي رونقا وبهاء أكثر على مجالس أنسهم. ومن المتعارف عليه اجتماعيا بيننا أنّ تقديم الفاكهة وتقريبها من الضيوف من قبل المضيف نفسه يعبّر عن التقدير والمحبّة والاحترام.

وخصّت لحوم الطيور بالذكر هنا لفضلها على بقيّة أنواع اللحوم ، لذا فقد تكرّر ذكرها.

إنّ استعمال تعبير «يتخيّرون» بالنسبة لـ (الفاكهة) ويشتهون بالنسبة لـ (اللحوم) لا يدلّل على وجود اختلاف بين التعبيرين كما ذهب إليه بعض المفسّرين ، بل هما بمعنى واحد بعبارتين مختلفتين ، والمقصود بهما أنّ أي غذاء يشتهيه أهل الجنّة يوضع باختيارهم من قبل (الولدان المخلّدين).

ثمّ يشير سبحانه إلى سادس نعمة وهي الزوجات الطاهرات الجميلات حيث يقول سبحانه :( حُورٌ عِينٌ ) (٢) ( كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ) .

__________________

(١) (فاكهة ولحم) كلاهما معطوف على أكواب وهذه الأشياء تهدى من قبل (الولدان المخلّدون) إلى المقرّبين.

(٢) بالرغم من تصوّر البعض أنّ (حور عين) عطف على (الولدان المخلّدون) وعلى هذا الرأي فإنّ ال (حور عين) يطفن

٤٥٦

«حور» كما قلنا سابقا جمع حوراء وأحور ، ويقال للشخص الذي يكون سواد عينه شديدا وبياضها شفافا ، و (عين) جمع (عيناء) وأعين ، بمعنى العين الواسعة ، لأنّ أكثر جمال الإنسان في عيونه ، فقد ذكر هذا الوصف خصوصا.

وقال البعض : إنّ «حور» أخذت من مادّة (حيرة) يعني أنّهنّ جميلات إلى حدّ تصاب العيون بالحيرة عند رؤيتهنّ(١) .

«مكنون» بمعنى مستور ، والمقصود هنا الاستتار في الصدف ، لأنّ اللؤلؤ عند ما يكون مختفيا في الصدف وبعيدا عن لمس الأيدي يكون شفّافا وناصعا أكثر من أي وقت. وبالإضافة إلى ذلك قد يكون المقصود أنهنّ مستورات عن أعين الآخرين بصورة تامّة ، لا يد تصل إليهنّ ولا عين تقع عليهنّ.

وبعد الحديث عن هذه المنح ، والعطايا المادية الستّة ، يضيف سبحانه :( جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) كي لا يتصوّر أحد أنّ هذه النعم تعطى جزافا ، بل إنّ الإيمان والعمل الصالح هو السبيل لنيلها والحصول عليها ، حيث يلزم للإنسان العمل المستمرّ الخالص حتّى تكون هذه الألطاف الإلهيّة من نصيبه.

«ويلاحظ بأنّ (يعملون) فعل مضارع يعطي معنى الاستمرار».

ويتحدّث القرآن الكريم عن سابع نعمة من نعم أهل الجنّة ، وهي التي تتسم بالطابع الروحي المعنوي حيث يقول تعالى :( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً ) .

فالجوّ هناك جوّ نزيه خالص بعيد عن الدنس ، فلا كذب ، ولا تهم ، ولا افتراءات ، ولا استهزاء ولا غيبة ولا ألفاظ نابية وعبارات لاذعة وليس هنالك لغو ولا كلام فارغ بل الموجود هناك هو اللطف والصفاء والجمال والمتعة والأدب والطهارة ، وكم هو طاهر ذلك المحيط البعيد عن الأحاديث المدنّسة التي

__________________

ـ أيضا حول أصحاب الجنّة ، ونظرا لعدم تناسب هذا المعنى خصوصا في المجالس الجماعية لأهل الجنّة ، لذا فالظاهر أنّه مبتدأ لخبر محذوف ، والتقدير هكذا (ولهم حور عين).

(١) أبو الفتوح الرازي ، ج ١١ نهاية الآية مورد البحث.

٤٥٧

هي السبب في أكثر انزعاجنا وعدم ارتياحنا في هذه الدنيا ، حيث اللغو والثرثرة والكلام اللامسئول والتعبيرات الجارحة!

ثمّ يضيف سبحانه :( إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً ) (١) .

ويسأل هنا : هل أنّ هذا السلام من قبل الله تعالى؟ أو أنّه من قبل الملائكة؟ أو هو سلام متبادل بين أهل الجنّة ، أو كلّ هذه الأمور؟

الظاهر أنّ الرأي الأخير هو الأنسب ، كما أشارت الآيات القرآنية الاخرى إلى ذلك(٢) .

نعم إنّهم لا يسمعون شيئا إلّا السلام ، سلام وتحيّة من الله ، ومن الملائكة المقرّبين ، وسلامهم وتحيّتهم لبعضهم البعض في تلك المجالس العامرة المملوءة بالصفاء والتي تفيض بالودّ والاخوّة والصدق.

إنّ محيطهم وأجواءهم المغمورة بالسلام والسلامة تسيطر على وجودهم ، وإنّ أحاديثهم وحواراتهم المختلفة تنتهي إلى السلام والاخوّة والصفاء ، وأساسا فإنّ الجنّة هي دار السلام وبيت السلامة والأمن والأمان ، كما نقرأ في قوله تعالى :( لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) (٣) (٤) .

* * *

__________________

(١) سلاما مفعول به لـ (قيلا) والذي هو مصدر ، والمقصود أنّ كلامهم هنالك هو (السلام) ويحتمل أن تكون (سلاما) صفة لـ (قيلا) أو مفعول به (أو مفعول مطلق) لفعل محذوف تقديره ، (يسلّمون سلاما) إلّا أنّ المعنى الأوّل هو الأرجح ، وسلاما (الثانية) للتأكيد.

(٢) سورة يس ٥٨ ـ الرعد ٢٤ ـ يونس ١٠.

(٣) يجب الانتباه إلى أنّ الاستثناء في الآية( إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) هو استثناء منقطع ويفيد للتأكيد.

(٤) الأنعام ، ١٢٧.

٤٥٨

الآيات

( وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠) )

التّفسير

أصحاب اليمين وهباتهم :

بعد بيان الهبات والنعم الماديّة والمعنوية (للمقرّبين) يأتي الدور في الحديث عن (أصحاب اليمين) تلك الجماعة السعيدة التي تستلم صفحة أعمالها في (اليد اليمنى) إشارة لنيل الفوز والنجاح في الامتحان الربّاني.

ويشير سبحانه إلى نعم ستّ ، ممّا أنعم به عليهم تمثّل مرحلة أدنى في مقابل سبع نعم منحها سبحانه إلى المقرّبين من عباده.

٤٥٩

تبدأ الآيات في الحديث عنهم أوّلا من حيث مقامهم العالي ، حيث يقولعزوجل :( وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ ) (١) .

إنّ هذا الوصف هو أروع وصف هؤلاء ، لأنّ هذا التعبير يستعمل في موارد لا تستطيع الألفاظ التعبير عنه ، وهو تعبير عن المقام العالي لأصحاب اليمين.

وتشير الآية اللاحقة إلى أوّل نعمة منحت لهذه الجماعة حيث تقول :( فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ) (٢) . وفي الحقيقة أنّ هذا أنسب وأليق وصف توصف به أشجار الجنّة في دائرة ألفاظنا الدنيوية ، لأنّ (السدر) كما يقول أئمّة اللغة : شجر قوي معمّر يصل طوله إلى أربعين مترا أحيانا وعمره يقرب من ألفي سنة ، ولها ظلّ ظليل ولطيف ، والسلبية الموجودة في هذا الشجر أنّه ذو شوك إلّا أنّ وصفه بـ (مخضود) من مادّة (خضد) ـ على وزن (مجد) ـ بمعنى (إزالة الشوك) تنهي آثار هذه السلبية في شجر سدر الجنّة.

وجاء في حديث : كان أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقولون : إنّ الله ينفعنا بالأعراب ومسائلهم ، أقبل أعرابي يوما ، فقال : يا رسول الله لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية وما كنت أرى أنّ في الجنّة شجرة تؤذي صاحبها؟

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وما هي» قال : السدر ، فإنّ لها شوكا.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أليس يقول الله : في سدر مخضود ، يخضده الله من شوكه فيجعل مكان كلّ شوكة ثمرة ، إنّها تنبت ثمرا يفتق الثمر منها عن إثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر»(٣) .

ثمّ يأتي الحديث عن ثاني هبة لهم حيث يقول سبحانه :( وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ) .

«الطلح» : شجرة خضراء لطيفة اللون والرائحة ، وذكر البعض أنّها شجرة الموز

__________________

(١) إنّ الحديث عن تركيب هذه الجملة جاء في نهاية الآية (٨) من نفس هذه السورة.

(٢) الجار والمجرور متعلّق بعامل مقدّر والخلاصة أنّها خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هم في سدر مخضود).

(٣) روح المعاني ج ٢٧ ص ١٢٠ ، والدرّ المنثور ج ٦ ص ١٥٦.

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526