الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 151326 / تحميل: 5591
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

من بين المسلمين علماء في كافة التخصصات للرجوع إليهم.

وينبغي التنويه هنا إلى ضرورة الرجوع إلى المتخصص الثابت علمه وتمكنه في اختصاصه، بالإضافة إلى توفر عنصر الإخلاص في عمله فهل يصح أن نراجع طبيبا متخصصا ـ على سبيل المثال ـ غير مخلص في علمه؟!

ولهذا وضع شرط العدالة في مسائل التقليد إلى جانب الاجتهاد والأعلمية ، أي لا بدّ لمرجع التقليد من أن يكون تقيا ورعا بالإضافة إلى علميته في المسائل الإسلامية.

* * *

٢٠١

الآيات

( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) )

التّفسير

لكلّ ذنب عقابه :

ثمّة ربط في كثير من بحوث القرآن بين الوسائل الاستدلالية والمسائل الوجدانية بشكل مؤثر في نفوس السامعين ، والآيات أعلاه نموذج لهذا الأسلوب.

فالآيات السابقة عبارة عن بحث منطقي مع المشركين في شأن النّبوة والمعاد ، في حين جاءت هذه الآيات بالتهديد للجبابرة والطغاة والمذنبين.

فتبتدأ القول :( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ ) من الذين حاكوا الدسائس المتعددة حسبا منهم لإطفاء نور الحق والإيمان( أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ ) .

فهل ببعيد (بعد فعلتهم النكراء) أن تتزلزل الأرض زلزلة شديدة فتنشق القشرة الأرضية لتبتلعهم وما يملكون ، كما حصل مرارا لأقوام سابقة؟!

٢٠٢

«مكروا السيئات» : بمعنى وضعوا الدسائس والخطط وصولا لأهدافهم المشؤمة السيئة ، كما فعل المشركون للنيل من نور القرآن ومحاولة قتل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما مارسوه من إيذاء وتعذيب للمؤمنين المخلصين.

«يخسف» : من مادة «خسف» ، بمعنى الاختفاء ، ولهذا يطلق على اختفاء نور القمر في ظل الأرض اسم (الخسوف) ، يقال (بئر مخسوف) للذي اختفى ماؤه ، وعلى هذا يسمّى اختفاء الناس والبيوت في شق الأرض الناتج من الزلزلة خسفا.

ثمّ يضيف :( أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ) أي عند ذهابهم ومجيئهم وحركتهم في اكتساب الأموال وجمع الثروات.( فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ ) .

وكما قلنا سابقا ، فإنّ «معجزين» من الإعجاز بمعنى ازالة قدرة الطرف الآخر ، وهي هنا بمعنى الفرار من العذاب ومقاومته.

أو أنّ العذاب الإلهي لا يأتيهم على حين غفلة منهم بل بشكل تدريجي ومقرونا بالأنذار المتكرر :( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ ) .

فاليوم مثلا ، يصاب جارهم ببلاء ، وغدا يصاب أحد أقربائهم ، وفي يوم آخر تتلف بعض أموالهم والخلاصة ، تأتيهم تنبيهات وتذكيرات الواحدة تلو الأخرى ، فإن استيقظوا فما أحسن ذلك ، وإلّا فسيصيبهم العقاب الإلهي ويهلكهم.

إنّ العذاب التدريجي في هذه الحالات يكون لاحتمال أن تهتدي هذه المجموعة ، واللهعزوجل لا يريد أن يعامل هؤلاء كالباقين( فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .

ومن الملفت للنظر في الآيات مورد البحث ، ذكرها لأربعة أنواع من العذاب الإلهي :

الأوّل : الخسف.

الثّاني : العقاب المفاجئ الذي يأتي الإنسان على حين غرة من أمره.

الثّالث : العذاب الذي يأتي الإنسان وهو غارق في جمع الأموال وتقلبه في

٢٠٣

ذلك.

الرّابع : العذاب والعقاب التدريجي.

والمسلم به أنّ نوع العذاب يتناسب ونوع الذنب المقترف ، وإن وردت جميعها بخصوص( الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ ) لعلمنا أنّ أفعال الله لا تكون إلّا بحكمة وعدل.

وهنا لم نجد رأيا للمفسّرين ـ في حدود بحثنا ـ حول هذا الموضوع ، ولكن يبدو أنّ النوع الأوّل من العقاب يختص بأولئك المتآمرين الذين هم في صف الجبارين والمستكبرين كقارون الذي خسف الله تعالى به الأرض وجعله عبرة للناس ، مع ما كان يتمتع به من قدرة وثروة.

أمّا النوع الثّاني فيخص المتآمرين الغارقين بملذات معاشهم وأهوائهم ، فيأتيهم العذاب الإلهي بغتة وهم لا يشعرون.

والنوع الثّالث يخص عبدة الدنيا المشغولين في دنياهم ليل نهار ليضيفوا ثروة إلى ثروتهم مهما كانت الوسيلة ، حتى وإن كانت بارتكاب الجرائم والجنايات وصولا لما يطمحون له! فيعذبهم الله تعالى وهم على تلك الحالة(1) .

وأمّا النوع الرّابع من العذاب فيخص الذين لم يصلوا في طغيانهم ومكرهم وذنوبهم إلى حيث اللارجعة ، فيعذبهم الله بالتخويف. أي يحذرهم بإنزال العذاب الأليم في أطرافهم فإن استيقظوا فهو المطلوب ، وإلّا فسينزل العذاب عليهم ويهلكهم.

وعلى هذا ، فإنّ ذكر الرأفة والرحمة الإلهية ترتبط بالنوع الرّابع من الذين مكروا السّيئات ، الذين لم يقطعوا كل علائقهم مع الله ولم يخربوا جميع جسور العودة.

* * *

__________________

(1) مع أنّ «التقلب» لغة ، بمعنى التردد والذهاب والمجيء ، مطلقا ولكن في هكذا موارد ـ كما قال أكثر المفسّرين وتأييد الرّوايات لذلك ـ بمعنى التردد في طريق التجارة وكسب المال ـ فتأمل.

٢٠٤

الآيات

( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) )

التّفسير

سجود الكائنات للهعزوجل :

تعود هذه الآيات مرّة أخرى إلى التوحيد بادئة ب :( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ ) (1) .

أي : ألم يشاهد المشركون كيف تتحرك ظلال مخلوقات الله يمينا وشمالا لتعبر عن خضوعها وسجودها له سبحانه؟!

ويقول البعض : إنّ العرب تطلق على الظلال صباحا اسم (الظل) وعصرا

__________________

(1) داخر : في الأصل من مادة (دخور) أي : التواضع.

٢٠٥

(الفيء) ، وإذا ما نظرنا إلى تسمية (الفيء) لقسم من الأموال والغنائم لوجدنا إشارة لطيفة لحقيقة إنّ أفضل غنائم وأموال الدنيا لا تلبث أن تزول ولا يعدو كونها كالظل عند العصر.

ومع ملاحظة ما اقترن بذكر الظلال في هذه الآية من يمين وشمال ، وإنّ كلمة الفيء استعملت للجميع فيستفاد من ذلك : أن الفيء هنا ذو معنى واسع يشمل كل أنواع الظلال.

فعند ما يقف الإنسان وقت طلوع الشمس متجها نحو الجنوب فإنّه سيرى شروق قرص الشمس من الجهة اليسرى لأفق الشرق ، فتقع ظلال جميع الأشياء المجسمة على يمينه (جهة الغرب) ، ويستمر هذا الأمر حتى تقترب الظلال نحو الجهة اليمنى لحين وقت الظهر، وعندها ستتحول الظلال إلى الجهة المعاكسة (اليسرى) وتستمر في ذلك حتى وقت الغروب فتصبح طويلة وممتدة نحو الشرق ، ثمّ تغيب وتنعدم عند غروب الشمس.

وهنا يعرض الباري سبحانه حركة ظلال الأجسام يمينا وشمالا بعنوانها مظهرا لعظمته جل وعلا واصفا حركتها بالسجود والخضوع.

أثر الظلال في حياتنا :

ممّا لا شك فيه أنّ لظلال الأجسام دور مؤثر في حياتنا ، ولعل الكثير منّا غير ملتفت إلى هذه الحقيقة ، فوضع القرآن الكريم إصبعه على هذه المسألة ليسترعي الانتباه لها.

للظلال (التي هي ليست سوى عدم النّور) فوائد جمّة :

1 ـ كما أنّ لأشعة الشمس دور أساسي في حياتنا ، فكذلك الظلال ، لأنّها تقوم بعملية تعديل شدّة الحرارة لأشعة الشمس.

إنّ الحركة المتناوبة للظلال تحفظ حرارة الشمس لحد متعادل ومؤثر ، وبدون

٢٠٦

الظلال فسيحترق كل شيء أمام حرارة الشمس الثابتة وبدرجة واحدة ولمدّة طويلة.

2 ـ وثمّة موضوع مهم آخر وربّما على خلاف تصور معظم الناس ، ألا وهو :إنّ النّور ليس هو السبب الوحيد في رؤية الأشياء ، بل لا بدّ من اقتران الظل بالنّور لتحقيق الرؤية بشكل طبيعي.

وبعبارة أخرى : إنّ النّور لو كان يحيط بجسم ما ويشع عليه باستمرار بما لا يكون هناك مجالا للظل أو نصف الظل ، فإنّه والحال هذه لا يمكن رؤية ذلك الجسم وهو غارق بالنّور

أي : كما أنّه لا يمكن رؤية الأشياء في الظلمة القائمة ، فكذا الحال بالنسبة للنور التام ، ويمكن رؤية الأشياء بوجود النّور والظلمة (النّور والظلال).

وعلى هذا يكون للظلال دور مؤثر جدّا في مشاهدة وتشخيص ومعرفة الأشياء وتمييزها ـ فتأمل.

وثمّة ملاحظة أخرى في الآية : وهي : ورود «اليمين» بصيغة المفرد في حين جاءت الشمال بصيغة الجمع «شمائل».

فالاختلاف في التعبير يمكن أن يكون لوقوع الظل في الصباح على يمين الذي يقف مواجها للجنوب ثمّ يتحرك باستمرار نحو الشمال حتى وقت الغروب حين يختفي في أفق الشرق(1) .

واحتمل المفسّرون أيضا : مع أن كلمة (اليمين) مفردا إلّا أنّه يمكن أن يراد بها الجمع في بعض الحالات ، وهي في هذه الآية تدل على الجمع(2) .

وجاء في الآية أعلاه ذكر سجود الظلال بمفهومه الواسع ، أما في الآية التالية فقد جاء ذكر السجود بعنوانه برنامجا عاما شاملا لكل الموجودات المادية وغير

__________________

(1) تفسير القرطبي ، ضمن تفسير الآية.

(2) تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج 7 ، ص 110.

٢٠٧

المادية ، وفي أي مكان ، فيقول :( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) ، مسلمين لله ولأوامره تسليما كاملا.

وحقيقة السجود نهاية الخضوع والتواضع والعبادة ، وما نؤديه من سجود على الأعضاء السبعة ما هو إلّا مصداق لهذا المفهوم العام ولا ينحصر به.

وبما أنّ جميع مخلوقات الله في عالم التكوين والخلق مسلمة للقوانين العامّة لعالم الوجود، التي أفاضتها الإرادة الإلهية فإنّ جميع المخلوقات في حالة سجود له جلّ وعلا ، ولا ينبغي لها أن تنحرف عن مسير هذه القوانين ، وكلها مظهرة لعظمة وعلم وقدرة الباريعزوجل ، ولتدلل على أنّها آية على غناه وجلاله والخلاصة : كلها دليل على ذاته المقدسة.

«الدابة» : بمعنى الموجودات الحية ، ويستفاد من ذكر الآية لسجود الكائنات الحية في السماوات والأرض على وجود كائنات حية في الأجرام السماوية المختلفة علاوة على ما موجود على الأرض.

وقد احتمل البعض : عبارة «من دابة» قيد لـ «ما في الأرض» فقط ، أي : إنّ الحديث يختص بالكائنات الحية الموجودة على الأرض.

ويبدو ذلك بعيدا بناء على ما جاء في الآية (29) من سورة الشورى( وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ ) .

صحيح أنّ السجود والخضوع التكويني لا ينحصر بالكائنات الحية ، ولكنّ تخصيص الإشارة بها لما تحمله من أسرار وعظمة الخلق أكثر من غيرها.

وبما أنّ مفهوم الآية يشمل كلا من : الإنسان العاقل المؤمن ، والملائكة ، والحيوانات الأخرى ، فقد استعمل لفظ السجود بمعناه العام الذي يشمل السجود الاختياري والتشريعي وكذا التكويني الاضطراري.

أمّا الإشارة إلى الملائكة بشكل منفصل في الآية فلأنّ الدابة تطلق على الكائنات الحيّة ذات الجسم المادي فقط ، بينما للملائكة حركة وحضور وغياب ،

٢٠٨

ولكن ليس بالمعنى المادي الجسماني كي تدخل ضمن مفهوم «الدابة».

وروي في حديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ لله تعالى ملائكة في السماء السابعة سجودا منذ خلقهم إلى يوم القيامة ، ترعد فرائصهم من مخافة الله تعالى ، لا تقطر من دموعهم قطرة إلّا صارت ملكا ، فإذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم وقالوا : ما عبدناك حق عبادتك»(1) .

أمّا جملة( وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) فإشارة لحال وشأن الملائكة التي لا يداخلها أيّ استكبار عند سجودها وخضوعها للهعزوجل .

ولهذا ذكر صفتين للملائكة بعد تلك الآية مباشرة وتأكيدا لنفي حالة الاستكبار عنهم :( يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) .

كما جاء في الآية (6) من سورة التحريم في وصف جمع من الملائكة :( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) .

ويستفاد من هذه الآية بوضوح أنّ علامة نفي الاستكبار شيئان :

أ ـ الشعور بالمسؤولية وإطاعة الأوامر الإلهية من دون أي اعتراض ، وهو وصف للحالة النفسية لغير المستكبرين.

ب ـ ممارسة الأوامر الإلهية بما ينبغي والعمل وفق القوانين المعدة لذلك

وهذا انعكاس للأول ، وهو التحقيق العيني له.

وممّا لا ريب فيه أنّ عبارة( مِنْ فَوْقِهِمْ ) ليست إشارة إلى العلو الحسي والمكاني ، بل المراد منها العلو المقامي ، لأنّ اللهعزوجل فوق كل شي مقاما.

كما نقرأ في الآية (61) من سورة الأنعام :( وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ) ، وكذلك في الآية (127) من سورة الأعراف :( وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ ) حينما أراد فرعون أن يظهر قدرته وقوته!

* * *

__________________

(1) مجمع ذيل البيان ، ذيل الآية المبحوثة.

٢٠٩

الآيات

( وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) )

التّفسير

دين حق ومعبود واحد :

تتناول هذه الآيات موضوع نفي الشرك تعقيبا لبحث التوحيد ومعرفة الله عن طريق نظام الخلق الذي ورد في الآيات السابقة ، لتتّضح الحقيقة من خلال المقارنة بين الموضوع ، ويبتدأ ب :( وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) .

وتقديم كلمة «إيّاي» يراد بها الحصر كما في «إيّاك نعبد» أي : يجب الخوف

٢١٠

من عقابي لا غير.

ومن الملفت للنظر أنّ الآية أشارت إلى نفي وجود معبودين في حين أن المشركين كانوا يعبدون أصناما متعددة.

ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى إحدى النقاط التالية أو إلى جميعها :

1 ـ إنّ الآية نفت عبادة اثنين ، فكيف بالأكثر؟!

وبعبارة أخرى : إنّها بيّنت الحد الأدنى للمسألة ليتأكّد نفي الأكثر ، وأيّ عدد ننتخبه (أكثر من واحد) لا بدّ له أن يمر بالإثنين.

2 ـ كل ما يعبد من دون الله جمع في واحد ، فتقول الآية : أن لا تعبدوها مع الله ، ولا تعبدوا إلهين (الحق والباطل).

3 ـ كان العرب في الجاهلية قد انتخبوا معبودين :

الأوّل : خالق العالم ، أي اللهعزوجل وكانوا يؤمنون به.

والثّاني : الأصنام ، واعتبروها واسطة بينهم وبين الله ، واعتبروها كذلك منبعا للخير والبركة والنعمة.

4 ـ يمكن أن تكون الآية ناظرة إلى نفي عقيدة (الثنويين) القائلين بوجود إله للخير وآخر للشر ، ومع انتخابهم لأنفسهم هذا المنطق الضعيف الخاطئ ، إلّا إنّ عبدة الأصنام قد غالوا حتى في هذا المنطق وتجاوزوه لمجموعة من الآلهة!

وينقل المفسّر الكبير العلّامة الطبرسي في تفسير هذه الآية عبارة لطيفة نقلها عن بعض الحكماء : (نهاك ربك أن تتخذ إلهين فاتخذت آلهة ، عبدت : نفسك وهواك ، وطبعك ومرادك ، وعبدت الخلق فأنّى تكون موحدا).

ثمّ يوضح القرآن أدلة توحيد العبادة بأربعة بيانات ضمن ثلاث آيات فيقول أوّلا( وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) فهل ينبغي السجود للأصنام التي لا تملك شيئا ، أم لمن له ما في السموات والأرض؟

ثمّ يضيف :( وَلَهُ الدِّينُ واصِباً ) .

٢١١

فعند ما يثبت أن عالم الوجود منه ، وهو الذي أوجد جميع قوانينه التكوينية فينبغي أن تكون القوانين التشريعية من وضعه أيضا ، ولا تكون طاعة إلّا له سبحانه.

«واصب» : من «الوصوب» ، بمعنى الدوام. وفسّرها البعض بمعنى (الخالص) (ومن الطبيعي أن ما لم يكن خالصا لم يكن له الدوام. أما الذين اعتبروا «الدين» هنا بمعنى الطّاعة ، فقد فسّروا «واصبا» بمعنى الواجب ، أي : يجب إطاعة الله فقط.

ونقرأ في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ شخصا سأله عن قول الله( وَلَهُ الدِّينُ واصِباً ) قال : «واجبا»(1) .

والواضح أنّ هذه المعاني متلازمة جميعها.

ثمّ يقول في نهاية الآية :( أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ ) .

فهل يمكن للأصنام أن تصدّ عنكم المكروه أو أن تفيض عليكم نعمة حتى تتقوها وتواظبوا على عبادتها؟!

هذا( وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ) .

فهذه الآية تحمل لبيان الثّالث بخصوص لزوم عبادة الله الواحد جلّ وعلا ، وأنّ عبادة الأصنام إن كانت شكرا على نعمة فهي ليست بمنعمة ، بل الكل بلا استثناء منّعمون في نعم الله تعالى ، وهو الأحق بالعبادة لا غيره.

وعلاوة على ذلك( ... ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ) .

فإن كانت عبادتكم للأصنام دفعا للضر وحلا للمعضلات ، فهذا من الله وليس من غيره ، وهو ما تظهره ممارستكم عمليا حين إصابتكم بالضر ، فلمن تلتجئون؟ إنّكم تتركون كل شيء وتتجهون إلى الله.

وهذا البيان الرّابع حول مسألة التوحيد بالعبادة.

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 373.

٢١٢

«تجئرون» : من مادة (الجؤار) على وزن (غبار) ، بمعنى صوت الحيوانات والوحوش الحاصل بلا اختيار عند الألم ، ثمّ استعملت كناية في كل الآهات غير الاختيارية الناتجة عن ضيق أو ألم.

إنّ اختيار هذه العبارة هنا إشارة إلى أنّه عند ما تتراكم عليكم الويلات ويحل بكم البلاء الشديد تطلقون حينها صرخات الإستغاثة اللااختيارية وأنتم بهذه الحال ، أتوجهون النداء لغيره سبحانه وتعالى؟! فلما ذا إذن في حياتكم الاعتيادية وعند ما تواجهون المشاكل اليسيرة تلتجئون إلى الأصنام؟!

نعم. فالله سبحانه يسمع نداءكم في كل الحالات ويغيثكم ويرفع عنكم البلاء( ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) بالعود إلى الأصنام!

وفي الحقيقة فالقرآن في الآية يشير إلى فطرة التوحيد في جميع الناس ، إلّا أنّ حجب الغفلة والغرور والجهل والتعصب والخرافات تغطيها في الأحوال الاعتيادية.

ولكن ، عند ما تهب عواصف البلاء تنقلع تلك الحجب فيظهر نور الفطرة براقا من جديد ليرى الناس لمن يتوجهون ، فيدعون الله مخلصين بكامل وجودهم ، فيرفع عنهم أغطية البلاء المتأتية من تلك الحجب ، (لاحظوا أنّ الآية قالت :( كَشَفَ الضُّرَّ ) أي : رفع أغطية البلاء).

ولكن عند ما تهدأ العاصفة ويرتفع البلاء وتعودون إلى شاطئ الأمان ، تعاودون من جديد على الغفلة والغرور ، وتظهرون الشرك بعبادتكم للأصنام مجددا!

وفي آخر آية (من الآيات مورد البحث) يأتي التهديد بعد إيضاح الحقيقة بالأدلة المنطقية :( لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) .

ويشبّه ذلك بتوجيه النصائح والإرشادات لمنحرف متخلف لا يفيد معه هذا الأسلوب المنطقي فيقطع معه الحديث باللين ليواجه بالتهديد عسى أن يرعوي

٢١٣

فيقال له : مع كل ما قلنا لك افعل ما شئت ولكن سترى نتيجة عملك عاجلا أم آجلا.

وعلى هذا فتكون اللام في «ليكفروا» يراد به التهديد ، وكذا «تمتعوا» أمر يراد به التهديد أيضا ، أمّا مجيء الفعل الأوّل بصيغة الغائب «ليكفروا» والثّاني بصيغة المخاطب «تمتعوا» ، فكأنه افترض غيابهم أوّلا فقال : ليذهبوا ويكفروا بهذه النعم ، وعند تهديدهم يلتفت إليهم ويقول : تمتعوا بهذه النعم الدنيوية قليلا فسيأتي اليوم الذي تدركون فيه عظم خطئكم وسترون عاقبة أعمالكم.

والآية (30) من سورة إبراهيم تشابه الآية المذكورة من حيث الغرض :( قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ) (1)

* * *

__________________

(1) احتمل جمع من المفسّرين : أنّ «ليكفروا» غاية ونتيجة للشرك والكفر الذي نسب إليهم في الآية التي قبلها ، فيكون المعنى أنّهم بعد إنجائهم من الضر تركوا طريق التوحيد وساروا في طريق الشرك ليكفروا بنعم الله وينكرونها.

٢١٤

الآيات

( وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) )

التّفسير

عند ما كانت ولادة البنت عارا!

بعد أن عرضت الآيات السابقة بحوثا استدلالية في نفي الشرك وعبادة الأصنام ، تأتي هذه الآيات لتتناول قسما من بدع المشركين وصورا من عاداتهم القبيحة ، لتضيف دليلا آخرا على بطلان الشرك وعبادة الأصنام ، فتشير الآيات إلى ثلاثة أنواع من بدع وعادات المشركين:

٢١٥

وتقول أوّلا :( وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ ) (1) .

وكان النصيب عبارة عن قسم من الإبل بقية من المواشي بالإضافة إلى قسم من المحاصيل الزراعية ، وهو ما تشير إليه الآية (136) من سورة الأنعام :( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .

ثمّ يضيف القرآن الكريم قائلا :( تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ) .

وسيكون بعد السؤال اعتراف لا مفر منه ثمّ الجزاء والعقاب ، وعليه فما تقومون به له ضرر مادي من خلال ما تعملونه بلا فائدة ، وله عقاب أخروي لأنّكم أسأتم الظن بالله واتجهتم إلى غيره.

أمّا البدعة الثّانية فكانت :( وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ ) من التجسم ومن هذه النسبة.( وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ ) أي : إنّهم لم يكونوا ليقبلوا لأنفسهم ما نسبوا إلى الله ، ويعتبرون البنات عارا وسببا للشقاء!

وإكمالا للموضوع تشير الآية التالية إلى العادة القبيحة الثّالثة :( وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) .(2)

ولا ينتهي الأمر إلى هذا الحد بل( يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ ) .

ولم ينته المطاف بعد ، ويغوص في فكر عميق :( أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي

__________________

(1) ذكر المفسرون رأيين في تفسير «ما لا يعلمون» وضميرها :

الأول : أن ضمير «لا يعلمون» يعود إلى المشركين أي أن المشركين يجعلون للأصنام نصيبا وهم لا يعلمون لها خيرا وشرا (وهذا ما انتخبناه من تفسير).

والثاني : إن الضمير يعود إلى نفس الأصنام ، أي يجعلون للأصنام نصيبا في حين أنها لا تدرك ، لا تعقل ، لا تعلم! والتفسير الثاني يظهر نوعا من التضاد بين عبارات الآية ، لأن «ما» تستعمل عادة لغير العاقل و «يعلمون» تستعمل للعاقل عادة.

أما في التفسير الأول فـ «ما» تعود على الأصنام و «يعلمون» على عبدتها.

(2) الكظيم : تطلق على الإنسان الممتلئ غضبا.

٢١٦

التُّرابِ ) .

وفي ذيل الآية ، يستنكر الباري حكمهم الظالم الشقي بقوله :( أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .

وأخيرا يشير تعالى إلى السبب الحقيقي وراء تلك التلوثات ، ألا هو عدم الإيمان بالآخرة :( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

فكلّما اقترب الإنسان من العزيز الحكيم انعكس في روحه نور صفاته العليا من العلم والقدرة والحكمة وابتعد عن الخرافات والبدع والأفعال القبيحة.

وكلما ابتعد عنه تعالى غرق بقدر ذلك البعد في ظلمات الجهل والضعف والذلة والقبائح.

فالسبب الرئيسي لكل انحراف وقبح وخرافة هو الغفلة عن ذكر الله وعن محكمته العادلة في الآخرة ، أمّا ذكر الله والآخرة فدافع أصيل للإحساس بالمسؤولية ومحاربة الجهل والخرافة ، وعامل قدرة وقوة وعلم للإنسان.

* * *

بحوث

1 ـ لماذا اعتبروا الملائكة بناتا لله؟

تطالعنا الكثير من آيات القرآن الكريم بأنّ المشركين كانوا يقولون بأنّ الملائكة بنات الله جلّ وعلا ، أو أنّهم كانوا يعتبرون الملائكة إناثا دون نسبتها إلى الله

كما في الآية (19) من سورة الزخرف :( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ) ، وفي الآية (40) من سورة الإسراء :( أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً ) .

٢١٧

يمكن أن تكون هذه الإعتقادات بقايا خرافات الأقوام السابقة التي وصلت عرب الجاهلية ، أو ربما يحصل هذا الوهم بسبب ستر الملائكة عنهم وحال الاستتار أكثر ما يختص بحال النساء ، ولهذا تعتبر العرب الشمس مؤنثا مجازيا والقمر مذكرا مجازيا أيضا ، على اعتبار أنّ قرص الشمس لا يمكن للناظر إليه أن يديم النظر لأنه يستر نفسه بقوة نوره ، أمّا قرص القمر فظاهر للعين ويسمح للنظر إليه مهما طالت المدّة.

وثمّة احتمال آخر يذهب إلى الكناية عن لطافة الملائكة ، والإناث أكثر من الذكور لطافة.

وعلى أية حال فهذه إحدى ترسبات الخرافات القديمة التي تكلست في مخيلة البشرية حتى وصلت للبعض ممن يعيش في يومنا هذا ، ولا تختص هذه الخرافة بقوم دون آخر لأنّنا نلاحظ وجودها في أدبيات عدد من لغات العالم! فنرى الأديب مثلا حينما يريد وصف جمال امرأة ينعتها بالملائكة ، وذاك الفنان الذي يريد أن يعبر عن الملائكة فيجعلها بهيئة النساء ، في حين أن الملائكة لا تملك جسما ماديا حتى يمكننا أن نصفه بالمذكر أو المؤنث.

2 ـ لما ذا شاع وأد البنات في الجاهلية؟

الوأد في واقعة أمر رهيب ، لأنّ الفاعل يقوم بسحق كل ما بين جوانحه من عطف ورحمة ، ليتمكن من قتل إنسان بريء ربّما هو من أقرب الأشياء إليه من نفسه!

والأقبح من ذلك افتخاره بعمله الشنيع هذا!

فأين الفخر من قتل إنسان ضعيف لا يقوى حتى للدفاع عن نفسه؟ بل كيف يدفن الإنسان فلذة كبده وهي حية؟!

وهذا ليس بالأمر الهيّن ، فأيّ إنسان ومهما بلغت به الوحشية لا يقدم على

٢١٨

هكذا جريمة بشعة من غير أن تكون لها مقدمات اجتماعية ونفسية واقتصادية عميقة الأثر والتأثير تدعوه لذلك

يقول المؤرخون : إنّ بداية وقوع هذا العمل القبيح كانت على أثر حرب جرت بين فريقين منهم في ذلك الوقت ، فأسر الغالب منهم نساء وبنات المغلوب ، وبعد مضي فترة من الزمن تمّ الصلح بينهم فأراد المغلوبون استرجاع أسراهم إلّا أنّ بعضا من الأسيرات ممن تزوجن من رجال القبيلة الغالبة اخترن البقاء مع الأعداء ورفضن الرجوع إلى قبيلتهن ، فصعب الأمر على آبائهن بعد أن أصبحوا محلا للوم والشماتة ، حتى أقسم بعضهم أن يقتل كل بنت تولد له كي لا تقع مستقبلا أسيرة بيد الأعداء!

ويلاحظ بوضوح ارتكاب أفظع جناية ترتكب تحت ذريعة الدفاع عن الشرف والناموس وحيثية العائلة الكاذبة فكانت النتيجة : ظهور بدعة وأد البنات القبيحة وانتشارها بين جمع منهم حتى أصبحت سنّة جاهلية ، ولفظاعتها فقد أنكرها القرآن الكريم بشدّة بقوله :( وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) (1) .

وثمّة احتمال آخر يذهب إلى دور الطبيعة الإنتاجية للأولاد الذكور ، والنزوع إلى الطبيعة الاستهلاكية عند الإناث ، وما له من أثر على الحياة الاجتماعية والاقتصادية ، فالولد الذكر بالنسبة لهم ذخر مهم ينفعهم في القتال والغارات وفي حفظ الماشية وما شابه ذلك من الفوائد ، في حين أنّ البنات لسن كذلك.

ومن جانب آخر فقد سببت الحروب والنزاعات القبلية قتل الكثير من الرجال والأولاد ممّا أدى لاختلال التوازن في نسبة الإناث إلى الذكور ، حتى وصل وجود الولد الذكر عزيزا ودفع الرجل لأن يتباهى بين قومه حين يولد له مولود ذكرا ، وينزعج ويتألم عند ولادة البنت ووصل حالهم لحد (كما يقول عنه

__________________

(1) سورة التكوير ، 9.

٢١٩

بعض المفسّرون) أنّ الرجل في الجاهلية يغيّب نفسه عن داره عند قرب وضع زوجته لئلا تأتيه بنت وهو في الدار! وإذا ما أخبروه بأنّ المولود ذكر فيرجع إلى بيته وبشائر الفرح تتعالى وجنتيه ، ولكنّ الويل كل الويل والثبور فيما لو أخبروه بأنّ المولود بنتا ويمتلئ غيظا وغضبا(1) .

وقصّة «الوأد» ملأى بالحوادث المؤلمة

منها : ما روي أنّ رجلا جاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعلن إسلامه ، وجاءه يوما فسأله : إنّي أذنبت ذنبا عظيما فهل لي من توبة؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله تواب رحيم». قال : يا رسول الله إنّ ذنبي عظيم قال : «ويلك مهما كان ذنبك عظيما فعفو الله أعظم منه» ، قال : لقد سافرت في الجاهلية سفرا بعيدا وكانت زوجتي حبلى وعند ما عدت بعد أربع سنوات استقبلتني زوجتي فرأيت بنتا في الدار ، فقلت لها : ابنة من هذه؟ قالت : ابنة جازنا. فظننت أنّها سترحل عن دارنا بعد ساعة ، فلم تفعل ، ثمّ قلت لزوجتي:أصدقيني من هذه البنت؟ قالت : ألا تذكر أنّي كنت حاملة عند ما سافرت ، إنّها ابنتك. فنمت تلك الليلة مغتما ، أنام واستيقظ ، حتى اقترب وقت الصباح نهضت من فراشي وذهبت إلى فراش ابنتي فأخرجتها وأيقظتها وطلبت منها أن تصحبني إلى حائط النخل ، فتبعتني حتى اقتربنا من الحائط فأخذت بحفر حفيرة وهي تعينني على ذلك ، وعند ما انتهيت من ذلك وضعتها في وسط الحفرة وهنا فاضت عينا رسول الله بالدمع ثمّ وضعت يدي اليسرى على كتفها وأخذت أهيل التراب عليها بيدي اليمنى ، فأخذت تصرخ وتدافع بيديها ورجليها وتقول : أبي ما تصنع بي!؟ ثمّ أصاب لحيتي بعض التراب فرفعت يدها تمسحه عنها ، وأدمت ذلك حتى دفنتها.

__________________

(1) تفسير الفخر الرازي ، ج 20 ، ص 55.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

التي تتميّز بأوراق عريضة جدّا وخضراء وجميلة ، وفاكهتها حلوة ولذيذة.

و «منضود» : من مادّة (نضد) بمعنى متراكم.

وممكن أن يشير هذا التعبير إلى تراكم الأوراق أو تراكم الفاكهة أو كليهما ، حتّى أنّ البعض قال : إنّ هذه الأشجار مليئة بالفاكهة إلى حدّ أنّها تغطّي سيقان وأوراق الأشجار.

وقال بعض المفسّرين : بالنظر إلى أنّ أوراق شجر السدر صغيرة جدّا ، وأوراق شجر الموز كبيرة جدّا ، فإنّ ذكر هاتين الشجرتين إشارة جميلة إلى جميع أشجار الجنّة التي تكون صفاتها بين صفات هاتين الشجرتين(١) .

ثمّ يستعرض سبحانه ذكر النعمة الثالثة من نعم أهل اليمين بقوله :( وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ) .

فسّر البعض هذا (الظلّ الواسع) بحالة شبيهة للظلّ الذي يكون بين الطلوعين من حيث انتشاره في كلّ مكان ، وقد نقل حديث للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا المعنى في روضة الكافي(٢) .

والمقصود هنا أن لا حرّ في الجنّة ، وأنّ أهلها في ظلال لطيفة واسعد تلطّف الروح.

وينتقل الحديث إلى مياه الجنّة حيث يقول سبحانه :( وَماءٍ مَسْكُوبٍ ) .

«مسكوب» من مادّة (سكب) على وزن «حرب» وتعني في الأصل الصبّ ، ولأنّ صبّ الماء يكون من الأعلى إلى الأسفل بصورة تيّار أو شلّال فإنّه بذلك يصوّر لنا مشهدا رائعا حيث إنّ خرير المياه ينعش الروح ، ويبهر العيون ، وهذه هي إحدى الهبات التي منحها الله لأهل الجنّة ، ومن الطبيعي أنّ هذه الجنّة المليئة بالأشجار العظيمة ، والمياه الجارية ، لا بدّ أن تكون فيها فواكه كثيرة ، وهذا ما ذكرته

__________________

(١) الفخر الرازي في التّفسير الكبير نهاية الآية مورد البحث ، ج ٢٩ ، ص ١٦٢.

(٢) روضة الكافي ، مطابق نقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢١٦.

٤٦١

الآية الكريمة ، حيث يقول سبحانه في ذكر خامس نعمة :( وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ) .

نعم ، ليست كفواكه الدنيا من حيث محدوديتها في فصول معيّنة من أسابيع أو شهور ، أو يصعب قطفها بلحاظ الأشواك ، أو العلو مثل النخيل ، أو مانع ذاتي في نفس الإنسان ، أو أنّ المضيف الأصلي الذي هو الله والملائكة الموكّلين بخدمة أهل الجنّة يبخلون عليهم كلّا ، لا يوجد شيء من هذا القبيل ، فالمقتضي موجود بشكل كامل ، والمانع بكلّ أشكاله مفقود.

ثمّ يشير سبحانه إلى نعمة اخرى حيث يقول :( وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ) أي الزوجات الرفيعات القدر والشأن.

«فرش» : جمع فراش وتعني في الأصل كلّ فراش يفرش ولهذا التناسب فإنّها تستعمل في بعض الأحيان كناية عن الزوج (سواء كان رجلا أو امرأة) لذا جاء في الحديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : (الولد للفراش وللعاهر الحجر).

وفسّر البعض الفرش بمعناها الحقيقي وليس كناية ، واعتبرها إشارة إلى الفرش الثمينة والتي لها قيمة عظيمة في الجنّة. ولكن إذا فسّرت بهذه الصورة ، فسيقطع ارتباط هذه الآية مع الآيات اللاحقة التي تتحدّث عن حوريات وزوجات الجنّة.

ويصف القرآن الكريم زوجات الجنّة بقوله تعالى :( إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً ) .

وهذه الآية لعلّها تشير إلى الزوجات المؤمنات في هذه الدنيا حيث يمنحهنّ الله سبحانه خلقا جديدا في يوم القيامة ، ويدخلن الجنّة وهنّ في قمّة الحيوية والشباب والجمال والكمال الظاهر والباطن ، وبشكل يتناسب مع كمال الجنّة وخلوّها من كلّ نقص وعيب.

وإذا كان المقصود بذلك (الحوريات) فإنّ الله تعالى خلقهنّ بصورة لا يعتريهنّ فيها غبار العجز والضعف ، ويمكن أن يكون التعبير بالإنشاء إشارة إلى

٤٦٢

المعنيين أيضا.

ثمّ يضيف تعالى :( فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً ) .

واحتمال أن يكون الوصف مستمرّا ، كما صرّح كثير من المفسّرين بذلك ، وأشير له في الرّوايات الإسلامية أيضا ، حيث الزواج لا يغيّر وضعهنّ ويبقين أبكارا(١) .

ويضيف في وصفهنّ بوصف آخر فيقول تعالى :( عُرُباً ) .

(عربا) جمع (عروبة) على وزن (ضرورة) بمعنى المرأة التي يحكي وضع حالها عن مقام عفّتها وطهارتها ، وعمّا تكنّه من المحبّة لزوجها ، (إعراب) : على وزن (إظهار) معناه هو نفس مدلول الإظهار ، ويأتي هذا المصطلح أيضا بمعنى الفصاحة ولطافة الكلام ، ويمكن جمع المعنيين في هذه الآية.

والوصف الآخر لهن( أَتْراباً ) أي أنّها متماثلات في الجمال وأتراب في الظاهر والباطن ، ومتماثلات في العمر مع أزواجهنّ.

(أتراب) جمع (ترب) على وزن (ذهن) بمعنى المثل والشبيه ، وقال البعض : إنّ هذا المعنى أخذ من الترائب وهي عظام قفص الصدر ، لأنّها تتشابه الواحدة مع الاخرى.

إنّ هذا الشبه والتماثل يمكن أن يكون في أعمار الزوجات بالنسبة لأزواجهنّ ، كي يدركن إحساسات ومشاعر أزواجهنّ كاملة ، وبذلك تصبح الحياة أكثر سعادة وانسجاما ، بالرغم من أنّ السعادة تحصل مع اختلاف العمر أحيانا ، إلّا أنّ الغالب ليس كذلك. كما يمكن أن يكون المقصود بالتشابه والتساوي في الصفات الجمالية والنفسية وحسن الظاهر والباطن.

ثمّ يضيف تعالى :( لِأَصْحابِ الْيَمِينِ ) .

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٧ ، ص ١٢٣ وبالضمن يجدر الانتباه إلى أنّ هذه الحالة ، مع فاء التفريع عطفت على الآية السابقة.

٤٦٣

وهذا تأكيد جديد على اختصاص هذه الصفات والنعم الإلهيّة بهم.

ويحتمل أيضا أن تكون هذه الجملة مكمّلة لجملة( إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً ) (١) .

وفي نهاية هذا العرض يقول سبحانه :( ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ ) .

«ثلّة» : في الأصل بمعنى قطعة مجتمعة من الصوف ، ثمّ أطلقت على كلّ مجموعة من الناس عظيمة ومتماسكة ، وبهذا الترتيب فإنّ مجموعة عظيمة من أصحاب اليمين هم من الأمم السابقة ، ومجموعة عظيمة من الامّة الإسلامية ، لأنّ بين المجموعتين كثير من الصالحين والمؤمنين. بالرغم من أنّ السابقين للإيمان في الامّة الإسلامية أقلّ من السابقين للإيمان في الأمم السابقة ، وذلك لكثرة تلك الأمم وكثرة أنبيائها.

وقال البعض : إنّ هاتين المجموعتين كلاهما من الامّة الإسلامية ، قسم من أوّلهم وقسم من آخرهم ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل أصحّ.

* * *

__________________

(١) في الصورة الاولى عبارة (أصحاب اليمين) خبر لمبتدأ محذوف ، وفي التقدير تصبح هكذا : (هذه كلّها لأصحاب اليمين) وفي الصورة الثانية جار ومجرور متعلّق بأنشأناهنّ ، والتّفسير الأوّل أصحّ.

٤٦٤

الآيات

( وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) )

التّفسير

العقوبات المؤلمة لأصحاب الشمال :

بعد الاستعراض الذي مرّ بنا حول النعم والهبات العظيمة التي منحها الله سبحانه للمقرّبين من عباده ولأصحاب اليمين من أوليائه ، يتطرّق الآن إلى ذكر المجموعة الثالثة( أَصْحابُ الشِّمالِ ) والعذاب المؤلم والعاقبة السيّئة التي حلّت بهم ، في عملية مقارنة لوضع المجموعات الثلاثة حيث يقول البارئ :( وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ ) .

٤٦٥

أصحاب الشمال هم الذين يستلمون صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى إشارة إلى سوء عاقبتهم ، وأنّهم من أهل المعاصي والذنوب ، وممّن تكون النار مصيرا لهم ، ويستعمل هذا التعبير عادة لبيان (حسن) أو (سوء) نهاية الإنسان كما في قولنا : السعادة أقبلت علينا يا لها من سعادة!. أو المصيبة داهمتنا يا لها من مصيبة. وكذلك في قوله تعالى :( وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ ) .

ثمّ يشير سبحانه إلى ثلاثة أنواع من العقوبات التي يواجهونها ، الهواء الحارق القاتل من جهة( سَمُومٍ ) والماء المغلي المهلك من جهة اخرى( وَحَمِيمٍ ) ، وظلّ الدخان الخالق الحارّ من جهة ثالثة( وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ) هذه الألوان من العذاب حاصرهم وتطوقهم وتسلب منهم الصبر والقدرة إنّها آلام وعذاب لا يطاق ، ولو لم يكن غيره من جزاء لكفاهم.

«سموم» : من مادّة (سمّ) بمعنى الهواء الحارق الذي يدخل في مسام الجلد فتهلكهم ، (ويقال للسمّ سمّا لأنّه ينفذ في جميع خلايا الجسم).

و «حميم» : بمعنى الشيء الحارّ ، وهنا جاء بمعنى الماء الحارق والذي أشير له في آيات قرآنية سابقة كما في قوله تعالى( يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ ) .(١)

«يحموم» : من نفس المادّة أيضا ، وهنا بمناسبة الظلّ فسّرت الكلمة بمعنى الظلّ الغليظ الأسود والحارّ.

ثمّ يضيف البارئ مؤكّدا فيقول :( لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ ) .

المظلّة عادة تحمي الإنسان من الشمس والمطر والهواء ولها منافع اخرى ، والظلّ المشار إليه في الآية الكريمة ليس له من هذه الفوائد شيء يذكر.

والتعبير بـ (كريم) من مادّة (كرامة) بمعنى مفيد فائدة ، ولذلك فإنّ المتعارف بين العرب إذا أرادوا أن يعرفوا شيئا أو شخصا بانّه غير مفيد يقولون (لا كرامة

__________________

(١) الحجّ. ١٩.

٤٦٦

فيه).

ومن الطبيعي أنّ مظلّة من الدخان الأسود الخانق لا ينتظر منها إلّا الشرّ والضرر (لا كرامة).

وبالرغم من أنّ أجزاء أهل النار له أنواع مختلفة مرعبة من العذاب ، إلّا أنّ ذكر الأقسام الثلاثة يكفي لإعطاء فكرة عن بقيّة الأهوال.

وفي الآيات اللاحقة يذكر الأسباب التي أدّت بأصحاب الشمال إلى هذا المصير المخيف والمشؤوم ، وذلك بثلاث جمل ، يقول في البداية :( إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ ) .

«مترف» : كما ورد في لسان العرب من مادّة ترف ـ على وزن (سبب) ـ بمعنى التنعّم ، وتطلق على الشخص الذي ملكته الغفلة وجعلته مغرورا سكران ، وجرّته إلى الطغيان.(١)

صحيح أنّ أصحاب الشمال ليسوا جميعا من زمرة المترفين ، إلّا أنّ المقصودين في القرآن الكريم هم أربابهم وأكابرهم.

والملاحظ في عصرنا الحاضر أنّ فساد المجتمعات وعوامل الانحراف ورأس الحروب والدمار ونزيف الدم وأنواع الظلم ومركز الشهوات والفساد في العالم أجمع بيد «الزمرة» المترفة المغرورة ، ولهذا فالقرآن الكريم قد شخصّهم وحدّد موقفه منهم ابتداء.

وهنالك رأي ثان وهو : إنّ نعم الله سبحانه واسعة وعديدة ولا تنحصر بالأموال فقط ، بل تشمل الصحّة والشباب والعمر فإذا كانت هذه النعم أو بعضها مبعثا للغرور والغفلة ، فإنّها ستكون مصدرا أساسيا للذنوب ، وهذا المفهوم يسري على أصحاب الشمال.

__________________

(١) لسان العرب ، ج ٩ ، ص ١٧.

٤٦٧

ثمّ يشير سبحانه إلى العامل الثاني الذي كان مصدرا وسببا لعذاب أصحاب الشمال ، فيقول سبحانه :( وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ) .

«الحنث» في الأصل يعني كلّ نوع من الذنوب ، وقد استعمل هذا المصطلح في كثير من الموارد بمعنى نقض العهد ومخالفة القسم ، لكونه مصداقا واضحا للذنب ، وبناء على هذا فإنّ خصوصية أصحاب الشمال ليس فقط في ارتكاب الذنوب ولكن في الإصرار عليها ، لأنّ الذنب يمكن صدوره من أصحاب اليمين أيضا ، إلّا أنّهم لا يصرّون عليه أبدا ، ويستغفرون ربّهم ويعلنون التوبة إليه عند تذكّره.

وفسّر البعض «الحنث العظيم» بمعنى الشرك ، لأنّه لا ذنب أعظم من الشرك.

قال تعالى :( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) (١) .

وفسّر (الحنث) بالكذب ، لأنّه أعظم الذنوب ، ومفتاح المعاصي ، خصوصا حينما يكون الكذب توأما لتكذيب للأنبياءعليه‌السلام والمعاد.

والظاهر أنّ هذه جميعا تعتبر مصاديق للحنث العظيم.

وثالث عمل سبب لهم هذا الويل والعذاب ، هو أنّهم قالوا :( وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) .

وعلى هذا فإنّ إنكار القيامة والذي هو بحدّ ذاته مصدر للكثير من الذنوب ، هو وصف آخر لأصحاب الشمال ، ومصدر لشقائهم. وتعبير( كانُوا يَقُولُونَ ) يوضّح لنا أنّهم كانوا يصرّون ويعاندون في إنكار يوم القيامة أيضا.

وهنا مطلبان جديران بالملاحظة وهما :

الأوّل : أنّ القرآن الكريم في معرض حديثه عن (المقرّبين) و (أصحاب اليمين) لم يعط توضيحا عن أعمالهم التي سبّبت لهم تلك النعم وذلك الجزاء ، إلّا ضمن إشارة عابرة. أمّا عند ما جاء دور الحديث عن أصحاب الشمال فقد وضّحت

__________________

(١) النساء ، آية ٤٨.

٤٦٨

أفعالهم بصورة كافية ، وذلك ليكون إتماما للحجّة عليهم من جهة ، وإظهار أنّ جزاءهم هذا كان انسجاما مع مبادئ العدالة تماما من جهة اخرى.

والمسألة الاخرى : أنّ الذنوب الثلاثة التي أشير إليها في الآيات الثلاثة السابقة كانت بمثابة نفي اصول الدين الثلاثة من قبل أصحاب الشمال.

ففي آخر آية تحدّث القرآن الكريم عن تكذيبهم ليوم القيامة ، وفي الآية الثانية عن إنكار التوحيد ، وفي الآية الاولى كانت الحديث عن المترفين وهي إشارة إلى تكذيب الأنبياء كما جاء في قوله تعالى :( وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) .(١)

والتعبير بـ( تُراباً وَعِظاماً ) لعلّه إشارة إلى أنّ لحومنا تتحوّل إلى تراب ، وعظامنا إلى رميم ، ومع ذلك فكيف نكون خلقا جديد؟

ولمّا كانت عودة الحياة إلى التراب أبعد من عودتها إلى العظام لذا ذكر في البداية حيث يقول تعالى :( تُراباً وَعِظاماً ) .

والعجيب أنّ هؤلاء يرون مشاهد المعاد بأعينهم في هذه الدنيا ومع ذلك فإنّهم ينكرونها(٢) . ألم يروا إلى الكثير من الموجودات الحيّة كالنباتات تموت وتجفّ وتصبح ترابا ثمّ تلبس لباس الحياة مرّة اخرى ، وأساسا فإنّ الذي خلق الخلق أوّل مرّة لن يعييه إعادة الخلق ثانية ، ولن يكون عليه ذلك صعبا وعسيرا ولكنّهم مع ذلك يصرّون على إنكار المعاد.

إنّهم لم يكتفوا بما ذكروا وذهبوا إلى أكثر من ذلك حيث قالوا بتعجّب :( أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ ) (٣) الذين لم يبق منهم أثر وتناثرت كلّ ذرّة من تراب أجسادهم

__________________

(١) الزخرف ، ٢٣.

(٢) يجب الانتباه هنا إلى تكرا حرف الاستفهام والتعبير بـ (أنّ) كلّها للتأكيد.

(٣) الهمزة في (أو آبائنا الأوّلون) استفهامية ، والواو واو عطف وهنا قدّمت الهمزة الاستفهامية عليها.

٤٦٩

في جهة ، أو أصبحت جزءا من بدن كائن آخر؟

ولكن ، كما قيل مفصّلا في نهاية سورة ياسين ، فإنّ هذه التساؤلات وغيرها ليست سوى حجج واهية أمام الدلائل القويّة المتوفّرة حول مسألة المعاد.

ثمّ إنّ القرآن الكريم يأمر الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيبهم :( قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ) (١) .

«ميقات» من مادّة (وقت) بمعنى الزمان الذي يحدّد لعمل ما أو موعد.

والمقصود من الميقات هنا هو نفس الوقت المقرّر للقيامة ، حيث يجتمع كلّ البشر للحساب ، ويأتي أحيانا كناية عن المكان الذي عين لإنجاز عمل معيّن ، مثل مواقيت الحجّ ، التي هي أسماء أماكن خاصّة للشروع بالإحرام.

ويستفاد من التعابير المختلفة التي وردت في الآية السابقة والتأكيدات العديدة حول مسألة الحشر ، مثل : (إنّ ، اللام ، «مجموعون» التي جاءت بصيغة اسم مفعول ، ووصف «يوم» بأنّه معلوم) ممّا يكون واضحا ومؤكّدا أنّ حشر جميع الناس ينجز في يوم واحد ، وجاء هذا المعنى في آيات قرآنية اخرى أيضا(٢) .

ومن هنا يتّضح جيّدا أنّ الذين كانوا يتصوّرون أنّ القيامة تقع في أزمنة متعدّدة حيث إنّ لكلّ امّة قيامة ، هم غرباء عن آيات الله تماما.

ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ معلومية يوم القيامة هي عند الله فقط ، وإلّا فإنّ جميع البشر بما فيهم الأنبياء والمرسلون والمقرّبون والملائكة ليس لهم علم بتوقيتها.

* * *

__________________

(١) استعملت (إلى) في هذه الجملة إشارة إلى أنّ القيامة تكون في نهاية هذا العالم ، ويمكن أن تكون هنا بمعنى بـ «لام» كما هو في الكثير من الآيات القرآنية وردت (لميقات).

(٢) هور ، الآية ١٠٣ ، مريم ، الآية ٩٥.

٤٧٠

الآيات

( ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦) )

التّفسير

عقوبات جديدة للمجرمين :

هذه الآيات استمرار للأبحاث المرتبطة بعقوبات أصحاب الشمال ، حيث يخاطبهم بقوله :( ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ ) (١) .

كان الحديث في الآيات السابقة حول الأجواء التي تحيط بـ (أصحاب الشمال) وينتقل الحديث في الآيات أعلاه إلى مشربهم ومأكلهم مقارنا بمأكل ومشرب المقرّبين وأصحاب اليمين.

والجدير بالذكر أنّ المخاطبين في هذه الآيات هم «الضالّون المكذّبون»

__________________

(١) (من) في (من شجر) تبعيضية ، و (من) في (زقّوم) بيانية.

٤٧١

الذين يتّسمون مضافا إلى الضلال والانحراف بأنّ لديهم روح العناد والإصرار على الباطل في مقابل الحقّ.

(زقّوم) كما ذكرنا سابقا : نبات مرّ نتن الرائحة وطعمه غير مستساغ ، وفيه عصارة إذا دخلت جسم الإنسان يصاب بالتورّم ، وتقال أحيانا لكلّ نوع من الغذاء المنفّر لأهل النار(١) .

وللمزيد حول (الزقّوم) يراجع نهاية الآية (٦٢) سورة الصافات ، وكذلك نهاية الآية (٤٣) سورة الدخان.

والتعبير بـ( فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ) إشارة إلى الجوع الشديد الذي يصيبهم بحيث إنّهم يأكلون بنهم وشره من هذا الغذاء النتن وغير المستساغ جدّا فيملئون بطونهم.

وعند تناولهم لهذا الغذاء السيء يعطشون. ولكن ما هو شرابهم؟!

يتبيّن ذلك في قوله تعالى :( فَشارِبُونَ عَلَيْهِ ) (٢) ( مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ) .

إنّ البعير الذي يبتلى بداء العطش فإنّ شدّة عطشه تجعله يشرب الماء باستمرار حتّى يهلك ، وهذا هو نفس مصير( الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ ) في يوم القيامة.

«حميم» : بمعنى الماء الحارّ جدّا والحارق ، وتطلق عبارة (وليّ حميم) على طبيعة العلاقة الصادقة الوديّة الحارّة ، و «حمّام» مشتقّ من نفس المادّة أيضا.

(هيم) على وزن (ميم) جمع هائم ، واعتبرها البعض جمع أهيم وهيماء ، وهي في الأصل من (هيام) على وزن (فرات) بمعنى مرض العطش الذي يصيب البعير ،

__________________

(١) مجمع البحرين ومفردات الراغب ، ولسان العرب ، وتفسير روح المعاني.

(٢) الجدير بالذكر أنّ في الآية السابقة كان الضمير مؤنثا (منها) يعود على (شجر من زقّوم) وفي هذه الآية كان الضمير مذكرا (عليه) يعود على الشجر ، وذلك لأنّ الشجر اسم جنس يستعمل للذكر والمؤنث ، وكذلك ثمر ، (مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث).

٤٧٢

ويستعمل هذا التعبير للعشق الحادّ أو للعشّاق الذين لا يقرّ لهم قرار.

ويعتبر بعض المفسّرين أنّ معنى (هيم) هي الأراضي الرملية والتي كلّما سقيت بماء تسرّب منها فتظهر الظمأ دائما.

وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يشير سبحانه إلى طبيعة مأكلهم ومشربهم في ذلك اليوم حيث يقول :( هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ) .

فأين نزلهم ونزل أصحاب اليمين الذين ينعمون بالاستقرار في ظلال الأشجار الوارفة ، ويتناولون ألذّ الفواكه وأطيب الأطعمة ، وأعذب الشراب الطهور ، ويطوف حولهم الولدان المخلّدون وحور العين ، وهم سكارى من عشق البارئعزوجل ؟

أين أولئك؟ وأين هؤلاء؟

مصطلح (نزل) كما قلنا سابقا بمعنى الوسيلة التي يكرمون بها الضيف العزيز ، وتطلق أحيانا على أوّل طعام أو شراب يؤتى به للضيوف ، ومن الطبيعي أنّ أهل النار ليسوا ضيوفا ، وأنّ الزقّوم والحميم ليس وسيلة لضيافتهم. بل هو نوع من الطعن فيهم ، وأنّه إذا كان كلّ هذا العذاب هو مجرّد استقبال لهم ، فكيف بعد ذلك سيكون حالهم؟

* * *

٤٧٣

الآيات

( نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) )

التّفسير

سبعة أدلّة على المعاد :

بما أنّ الآيات السابقة تحدّثت عن تكذيب الضالّين ليوم المعاد ، فإنّ الآيات اللاحقة استعرضت سبعة أدلّة على هذه المسألة المهمّة ، كي يتركّز الإيمان وتطمئن القلوب بالوعود الإلهيّة التي وردت في الآيات السابقة حول «المقرّبين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال» ، وأساسا فإنّ أبحاث هذه السورة تتركّز على بحث المعاد بشكل عامّ.

يقول سبحانه في المرحلة الاولى :( نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ ) أي لم لا

٤٧٤

تصدّقون بالمعاد(١) ؟!

لماذا تتعجّبون من الحشر والمعاد الجسمي بعد أن تصبح أجسامكم ترابا؟ ألم نخلقكم من التراب أوّل مرّة؟ أليس حكم الأمثال واحدا؟

هذه الاستدلالات في الحقيقة شبيهة بما جاء في قوله تعالى :( وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) .(٢)

وفي الآية اللاحقة يشير البارئ إلى دليل ثان حول هذه المسألة فيقول :( أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ ) (٣) ( أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ ) .

من الذي يجعل من هذه النطفة الحقيرة التي لا قيمة لها في كلّ يوم بخلق جديد وشكل جديد ، وخلق بعد خلق؟! هذه التطورات العجيبة التي بهرت العقول واولى الألباب من المفكّرين ، هل كانت من خلقكم أم من خلق الله تعالى؟

وهل أنّ القادر على الخلق المتكرّر يعجز عن إحياء الموتى في يوم القيامة؟ إنّ المفاهيم التي وردت في هذه الآية تحكي نفس المفاهيم التي جاءت في قوله تعالى :( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) .(٤)

وإذا تجاوزنا ذلك وأخذنا بنظر الإعتبار ما يقوله علماء اليوم حول قطرة الماء هذه (النطفة) التي في ظاهر الأمر لا قيمة لها ، سوف يتّضح لنا الحال أكثر ،

__________________

(١) (لولا) في الاصطلاح تستعمل للحضّ والتحريك لإنجاز عمل ما ، وكما يقول البعض فإنّها في الأصل مركّبة من (لم) و (لا) والتي تعطي معنى السؤال والنفي ثمّ تبدّلت الميم إلى واو ، ويستعمل هذا المصطلح في مكان يتسامح فيه فرد أو أفراد في إنجاز عمل ما ، ويقال لهم : لماذا لا تعملون هكذا وهكذا؟

(٢) سورة يس ، ٧٨ ـ ٧٩.

(٣) جاءت «رأيتم» هنا من الرؤية بمعنى العلم وليست المشاهدة بالعين المجرّدة.

(٤) الحجّ ، ٥.

٤٧٥

حيث يقولون : إنّ الحيمن (الأسبر) هو حيوان مجهري صغير جدّا وإنّ منيّ الرجل يحتوي على عدد هائل من الحيامن في كلّ إنزال تقدّر بين (٢ ـ ٥) مليون حيمن وهذا يمثّل مقدار مجموع سكّان عدّة (بلدان في العالم)(١) هذا الحيوان المنوي يتّحد مع بويضة المرأة (أوول) ، فتتكوّن البيضة المخصّبة التي تنمو بسرعة وتتكاثر بصورة عجيبة ، حيث تصنع خلايا جسم الإنسان ، ومع أنّ الخلايا متشابهة في الظاهر ، إلّا أنّها تتوزّع بسرعة إلى مجاميع عديدة ، فقسم منها يختص بالقلب ، والآخر بالأطراف ، والثالث بالاذن والحنجرة ، وكلّ مجموعة مستقرّة في مكانها المحدّد له ، فلا خلايا الكلية تنتقل إلى خلايا القلب ، ولا خلايا القلب تتحوّل إلى خلايا العين ، ولا العكس.

والخلاصة أنّ «النطفة المخصّبة» في المرحلة الجنينيّة تمرّ بعوالم عديدة مختلفة حتّى تصبح جنينا ، وكلّ هذا في ظلّ خالقية إلهيّة مستمرّة ، في حين أنّ دور الإنسان في هذه العملية بسيط جدّا ، ويقتصر على وضع النطفة في الرحم ، والذي ينجز بلحظة واحدة.

أليست هذه المسألة دليلا حيّا على مسألة المعاد؟

أو ليست هذه القدرة العظيمة تدلّل على قدرة إحياء الموتى أيضا(٢) .

ثمّ يستعرض ذكر الدليل الثالث حيث يقول سبحانه :( نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) .

نعم ، إنّنا لن نغلب أبدا ، وإذا قدّرنا الموت فلا يعني ذلك أنّنا لا نستطيع أن نمنح العمر السرمدي ، بل أنّ الهدف هو أن نذهب بقسم من الناس ونأتي بآخرين محلّهم. وأخيرا نعيدكم خلقا جديدا في عالم لا تعلمون عنه شيئا( عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ ) .

__________________

(١) كتاب أوّل جامعة ، ج ١ (بحث معرفة الجنين) ، ص ٢٤١.

(٢) في هذا الموضوع ذكرنا توضيحات اخرى في نهاية الآية (٥) من سورة الحجّ.

٤٧٦

وفي تفسير هاتين الآيتين هناك وجهة نظر اخرى وهي : أنّ الآية الثانية لم تأت لبيان هدف الآية الاولى ولكن تكملة لها ، حيث يريد سبحانه أن يبيّن المعنى التالي وهو : أنّنا لسنا بعاجزين ومغلوبين على أن نذهب بقسم ونأتي بآخرين مكانهم(١) .

ويوجد تفسيران لجملة( عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ ) .

الأوّل : هو نفس التّفسير المذكور أعلاه ، والذي هو المشهور بين المفسّرين ، وطبقا لهذا الرأي تكون عملية تبديل الأقوام في هذه الدنيا.

والثاني هو : أنّ المقصود من (أمثال) هم نفس البشر الذين يبعثون في يوم القيامة ، والتعبير بـ (مثل) لأنّ الإنسان لا يبعث مرّة اخرى بكلّ خصوصياته التي كان عليها ، إذ أنّه سيكون في وقت جديد وكيفيات جديدة من حيث الروح والجسم.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب حسب الظاهر.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الهدف هو الاستدلال على المعاد من خلال مسألة الموت ، ويمكن توضيح الدليل بالصورة التالية : إنّ الله الحكيم الذي خلق الإنسان وقدّر له الموت فطائفة يموتون وآخرين يولدون باستمرار ، من البديهي أنّ له هدف.

فإذا كانت الحياة الدنيا هي الهدف فالمناسب أن يكون عمر الإنسان خالدا وليس بهذا المقدار القصير المقترن مع ألوان الآلام والمشاكل.

وسنّة الموت تشهد أنّ الدنيا معبّرا وليست منزلا وأنّها جسر وليست مقصدا ، لأنّها لو كانت مستقرّا ومقصد للزم أن تدوم الحياة فيها.

جملة( وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ ) ظاهرا إشارة إلى خلق الإنسان يوم القيامة ،

__________________

(١) طبقا للتفسير الأوّل فإنّ الجار والمجرور في (على أنّ نبدّل) متعلّق بـ (قدّرنا) والذي جاء في الآية السابقة ، طبقا للتفسير الثاني فإنّها متعلّقة بـ (مسبوقين) (يرجى الانتباه).

٤٧٧

والتي هي الهدف لحياة وفناء هذه الدنيا ، ومن البديهي لأي شخص لم ير الدار الآخرة أنّه لن يستطيع إدراكها ومعرفة قوانينها والأنظمة المسيطرة عليها من خلال الألفاظ والصور التي تنقل لنا عنها ، نعم إنّنا نستطيع أن نرى شبحها وظلالها فقط من التصوير اللفظي لها ، ولذا فإنّ الآية أعلاه تعكس هذه الحقيقة ، حيث تذكر أنّ الله سيخلقنا في عالم جديد وبأشكال وظروف جديدة لا ندرك أسرارها(١) .

وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يتحدّث سبحانه عن رابع دليل للمعاد حيث يقول :( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ ) .

هذا الدليل نستطيع بيانه بصورتين :

الاولى : في المثال التالي : إذا كنا نسير في صحراء وشاهدنا قصرا مهيبا عظيما مثيرا للإعجاب في محتوياته ومواد بنائه وهندسته ، وقيل لنا : إنّ الهدف من هذا القصر هو استعماله كمحطّة للراحة والهدوء لعدّة ساعات فقط لقافلة صغيرة فإنّنا سنحكم في أنفسنا بصورة قاطعة على عدم الحكمة في هذا العمل ، إذ من المناسب لمثل الهدف المتقدّم ذكره أن تعد خيمة صغيرة فقط.

وعلى هذا فإنّ خلق هذه الدنيا العظيمة وما فيها من أجرام سماوية وشمس وقمر وأنواع المخلوقات الأرضية الاخرى ، هل يمكن أن يكون لهدف صغير محدود ، كأن يعيش الإنسان فيها بضعة أيّام؟ كلّا ليس كذلك ، وإلّا فانّه يعني أنّ خلق العالم سيكون بدون هدف ، ولكن ممّا لا شكّ فيه أنّ هذه المخلوقات العظيمة قد خلقت لموجود شريف ـ مثل الإنسان ـ ليعرف الله سبحانه من خلالها ، معرفة تكون رأسماله الوحيد في الدار الآخرة ، فالهدف إذن هو الدار الآخرة ، وهذا دليل آخر على المعاد.

وهذا البيان هو ما نجده في الآية الشريفة :( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما

__________________

(١) اعتبر البعض أن الآية هي إشارة إلى مسخ الأقوام السابقين في هذا العالم ، حيث إن الله سبحانه قد مسخهم بأشكال لا يعلمونها ، إلا أن هذا المعنى لا ينسجم مع ظاهر الآية.

٤٧٨

بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) .(١)

الثانية : هو أنّنا نلاحظ مشاهد المعاد في هذا العالم تتكرّر أمامنا في كلّ سنة وفي كلّ زاوية وكلّ مكان ، حيث مشهد القيامة والحشر في عالم النبات ، فتحيى الأرض الميتة بهطول الأمطار الباعثة للحياة قال تعالى :( إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى ) ،(٢) وقد أشير إلى هذا المعنى كذلك في الآية ٦ من سورة الحجّ.

* * *

ملاحظة

حجيّة القياس :

إنّ هذه المسألة تطرح عادة في اصول الفقه ، وهي أنّنا لا نستطيع إثبات الحكم الشرعي عن طريق القياس كقولنا مثلا : (إنّ المرأة الحائض التي يجب أن تقضي صومها يجب أن تقضي صلاتها كذلك) ـ أي يجب أن تكون استنتاجاتنا من الكلّي إلى الجزئي ، وليس العكس ـ وبالرغم من أنّ علماء أهل السنّة قد قبلوا القياس في الغالب كأحد مصادر التشريع في الفقه الإسلامي ، فإنّ قسما منهم يوافقوننا في مسألة (نفي حجيّة القياس).

والظريف هنا أنّ بعض مؤيّدي القياس أرادوا أن يستدلّوا بمقصودهم بالآية التالية :( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى ) أي قيسوا النشأة الاخرى (القيامة) على النشأة الاولى (الدنيا).

إلّا أنّ هذا الاستدلال عجيب ، لأنّه أوّلا : إنّ المذكور في الآية هو استدلال عقلي وقياس منطقي ، ذلك أنّ منكري المعاد كانوا يقولون : كيف تكون لله القدرة على إحياء العظام النخرة؟ فيجيبهم القرآن الكريم بالمفهوم التالي : إنّ القوّة التي

__________________

(١) سورة ص ، ٣٧.

(٢) فصّلت ، ٣٩.

٤٧٩

كانت لها القدرة على خلقكم في البداية هي نفسها ستكون لها القدرة لخلقكم مرّة ثانية ، في الوقت الذي لا يكون القياس الظنّي بالأحكام الشرعية بهذه الصورة أبدا ، لأنّنا لا نحيط بمصالح ومفاسد كلّ الأحكام الشرعية.

وثانيا : إنّ من يقول ببطلان القياس يستثني قياس الأولوية ، فمثلا يقول تعالى :( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما ) ونفهم بطريق أولى ألّا تؤذيهما من الناحية البدنية.

والآية مورد البحث من قبيل قياس الأولوية وليس لها ربط بالقياس الظنّي مورد الخلاف والنزاع ، لأنّه لم يكن شيء من المخلوقات في البداية ، واللهعزوجل خلق الوجود من العدم وخلق الإنسان من التراب ، ولذا فإنّ إعادة الإنسان إلى الوجود مرّة اخرى أيسر من خلقه ابتداء ، وتعكس الآية الكريمة التالية هذا المفهوم حيث يقول تعالى :( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) .(١)

وننهي حديثنا هذا بالحديث التالي : «عجبا كلّ العجب للمكذّب بالنشأة الاخرى وهو يرى النشأة الاولى ، وعجبا للمصدّق بالنشأة الاخرى وهو يسعى لدار الغرور»(٢) .

* * *

__________________

(١) الروم ، ٢٧.

(٢) ذكر هذا الحديث في تفسير روح البيان وروح المعاني والقرطبي والمراغي باختلاف مختصر بعنوان خبر ، وبدون تصريح باسم الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ ظاهر تعبيراتهم أنّ الحديث للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي كتاب الكافي أيضا نقل القسم الأوّل من هذا الحديث عن الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام .

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526