الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 151255 / تحميل: 5576
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

مؤلف:
العربية

١
٢

٣
٤

سورة

ق

مكّية

وعدد آياتها خمس وأربعون آية

٥
٦

سورة ق

محتوى السورة :

إنّ محور بحوث هذه السورة هو موضوع «المعاد» وجميع هذه الآيات ـ تقريبا ـ تدور حول هذا المحور وبعض المسائل الاخرى التي لها تعلّق به أيضا.

ومن المسائل المرتبطة بالمعاد تمت الإشارة في هذه السورة إلى الأمور التالية :

١ ـ إنكار الكافرين مسألة المعاد وتعجّبهم منها «المراد بالمعاد هنا هو المعاد الجسماني».

٢ ـ الاستدلال على مسألة المعاد عن طريق الالتفات إلى مطلق التكوين والخلق وخاصّة إحياء الأرض الميتة بنزول الغيث.

٣ ـ الاستدلال على مسألة المعاد عن طريق الالتفات إلى الخلق الأوّل.

٤ ـ الإشارة إلى مسألة ثبت الأعمال والأقوال ليوم الحساب.

٥ ـ المسائل المتعلّقة بالموت والانتقال من هذه الدنيا إلى الدار الاخرى.

٦ ـ جانب من حوادث يوم القيامة وأوصاف الجنّة والنار.

٧ ـ إشارة إلى حوادث نهاية هذا العالم المذهلة والمثيرة التي تعتبر بدورها بداية العالم الآخر!

وفي الأثناء إشارات (موجزة وذات تأثير بليغ) عن حال الأمم الماضية وطغيانها وعاقبتها الوخيمة أمثال قوم فرعون وعاد وقوم لوط وقوم شعيب وقوم تبع وما ورد من تعليمات للنبي في التوجّه إلى الله تعالى كما وردت في بداية السورة ونهايتها إشارة موجزة إلى عظمة القرآن!.

٧

فضيلة تلاوة سورة «ق» :

يستفاد من الرّوايات الإسلامية أنّ النّبي كان يهتمّ اهتماما كبيرا بسورة «ق» حتّى أنّه كان يقرؤها في خطبة صلاة كلّ يوم جمعة(١) .

كما ورد في حديث آخر أنّه كان يقرؤها في كلّ عيد وجمعة(٢) وإنّما كان ذلك فلأنّ يومي الجمعة والعيد يومان يتيقّظ فيهما الناس وينتهبون ، وفيما تكون العودة إلى الفطرة الاولى ، والتوجّه إلى الله ويوم الحساب ، وحيث أنّ آيات هذه السورة تتحدّث عن مسائل المعاد والموت وحوادث يوم القيامة وأنّ لاسلوبها تأثيرا بالغا في إيقاظ الناس من الغفلة وتربيتهم ، لذلك كانت موضع اهتمام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم .

وقد ورد في بعض أحاديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «من قرأ سورة (ق) هوّن الله عليه تارات الموت وسكراته»(٣) .

كما ورد عن الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «من أدمن في فرائضه ونوافله سورة (ق) وسّع الله في رزقه وأعطاه كتابا بيمينه وحاسبه حسابا يسيرا».

ولا حاجة للتذكير بأنّ كلّ هذه الفضيلة والفخر لا يحصل بقراءة الألفاظ فحسب ، بل القراءة هي بداية لتيقّظ الأفكار ، وهي بدورها مقدّمة للعمل الصالح والانسجام مع محتوى السورة هذه.

* * *

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦١٧١.

(٢) تفسير في ظلال القرآن ، ج ٧ ، ص ٥٤٧.

(٣) تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ١٤٠.

٨

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥)

التّفسير

المنكرون المعاندون في أمر مريج!

مرّة اخرى نواجه هنا بعض الحروف المقطّعة! وهو الحرف «ق» ، وكما قلنا من قبل أنّ واحدا من التفاسير المتينة هو أنّ هذا القرآن على عظمته مؤلّف من حروف بسيطة هي ألف باء إلخ وهذا يدلّ على أنّ مبدع القرآن ومنزله لديه علم لا محدود وقدرة مطلقة بحيث خلق هذا التركيب الرفيع العالي من هذه الوسائل البسيطة المألوفة!

وبالطبع فإنّ هناك تفاسير أخر للحروف المقطّعة ويمكن مراجعتها في بدايات سور «البقرة ، آل عمران ، الأعراف وسور حم أيضا».

٩

قال بعض المفسّرين أنّ «ق» إشارة إلى بعض أسماء الله تعالى «كالقادر والقيّوم» وما إلى ذلك من الأسماء المبدوءة بحرف القاف.

كما ورد في كثير من التفاسير أنّ «ق» اسم لجبل عظيم يحيط بالكرة الأرضية!

ولكن أي جبل هو بحيث يحيط بالكرة الأرضية أو مجموع العالم؟! وما المراد منه؟ ليس هنا محلّ الكلام عنه! لكن ما ينبغي ذكره هنا أنّه من البعيد جدّا أن يكون «ق» في هذه السورة إشارة إلى جبل قاف! لأنّه ليس هذا لا يتناسب مع مواضيع السورة وما ورد فيها فحسب ، بل حرف «القاف» هنا كسائر الحروف المقطّعة الواردة في بدايات السور في القرآن ، أضف إلى ذلك لو كان «ق» إشارة إلى جبل «قاف» لكان ينبغي أن يقترن بواو القسم كقوله تعالى : والطور وأمثال ذلك ، وذكر كلمة ما من دون مبتدأ ولا خبر أو واو القسم لا مفهوم لها.

ثمّ بعد هذا كلّه ، فإنّ الرسم القرآني لجميع المصاحف هو ورود الحرف «ق» مفردا ، في حين أنّ جبل «قاف» يكتب رسمه على هيئة اسمه الكامل «قاف».

ومن جملة الأمور التي تثبت على أنّ هذا الحرف «ق» هو من الحروف المقطّعة المذكورة لبيان عظمة القرآن هو مجيء القسم مباشرة ـ بعد هذا الحرف ـ بالقرآن المجيد إذ يقول سبحانه :( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) .

كلمة «المجيد» مشتقّة من المجد ومعناها الشرف الواسع ، وحيث أنّ القرآن عظمته غير محدودة وشرفه بلا نهاية ، فهو جدير بأن يكون مجيدا من كلّ جهة ، فظاهره رائق ، ومحتواه عظيم ، وتعاليمه عالية ، ومناهجه مدروسة ، تبعث الروح والحياة في نفوس العباد.

ولسائل أن يسأل : ما المراد من ذكر هذا القسم؟ أو ما هو المقسم له؟! هناك بين المفسّرين احتمالات كثيرة ، ولكن مع الالتفات إلى ما بعد القسم من الآيات فإنّه يبدو أنّ المقصود بالقسم أو جواب القسم هو مسألة النبوّة نبوة محمد أو

١٠

نشور الناس وبعضهم بعد موتهم(١) .

ثمّ يبيّن القرآن جانبا من إشكالات الكفّار والمشركين العرب الواهية فيذكر إشكالين منها الأوّل هو حكايته منهم :( بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ ) .

وهذا إشكال طالما أشار إليه القرآن وردّ عليه ، وتكرار هذا الإشكال يدلّ على أنّه من إشكالات الكفّار الأساسية التي كانوا يكرّروها دائما!.

ولم يكن النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده قد أشكلوا عليه بهذا الإشكال ، فالرسل أيضا أشكلوا عليهم أيضا بذلك بقولهم :( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا ) (٢)

وكانوا يقولون أحيانا :( ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ) (٣) .

وربّما أضافوا أحيانا( لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ) .(٤)

إلّا أنّ جميع هذه الأمور كانت حججا واهية وذريعة لعدم التسليم للحقّ.

والقرآن في هذه الآيات محلّ البحث لا يردّ على هذا الإشكال ، لأنّه أجاب عليه مرارا ، وهو إن أردنا أن نرسل ملكا لجعلناه على صورة بشر أي أنّ قادة الناس ينبغي أن يكونوا منهم فحسب ليكونوا قادرين على معرفة همومهم وآلامهم ورغباتهم وحاجاتهم ومسائل حياتهم ، وليكونوا أسوة لهم من الناحية العملية ولئلّا يقولوا لو كانوا أمثالنا لما ظلّوا طاهرين أنقياء!

فمناهج الملائكة تتناسب معهم ولا تتناسب مع طموحات البشر وآلامهم :

__________________

(١) وتقدير الكلام هكذا «ق» والقرآن المجيد إنّك لرسول الله» أو لتبعثنّ أو أنّ البعث حقّ إلخ.

(٢) سورة ابراهيم ، ١٠.

(٣) سورة المؤمنون ، ٣٣.

(٤) سورة الفرقان ، ٧.

١١

وبعد إشكالهم الأوّل على نبوّة النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو كيف يكون النّبي بشرا؟! كان لهم إشكال آخر على محتوى دعوته ووضعوا أصابع الدهشة على مسألة اخرى كانت عندهم أمرا غريبا وهي( إِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) (١) .

وعلى كلّ حال ، كانوا يتصوّرون أنّ العودة للحياة مرّة اخرى بعيدة لا يصدّقها العقل ، بل كانوا يرونها محالا ويعدوّن من يقول بها ذا جنّة! كما نقرأ ذلك في الآيتين ٧ و٨ من سورة سبأ إذ :( قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ) .

ولم يكن هذا الإشكال الذي أوردوه على النّبي هنا فحسب ، بل أشكلوا عليه به عدّة مرّات وسمعوا ردّه عليهم ، إلّا أنّهم كرّروا عليه ذلك عنادا.

وعلى كلّ حال ، فإنّ القرآن ، يردّ عليهم بطرق متعدّدة! فتارة يشير إلى علم الله الواسع فيقول :( قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ ) .

إذا كان إشكالكم هو أنّه كيف تجتمع عظام الإنسان النخرة ولحمه الذي صار ترابا وذرّاته التي تبدلّت إلى بخار وغازات متفرّقة في الهواء ، ومن يجمعها؟! أو من يعرف عنها شيئا؟! فجواب ذلك معلوم فالله الذي أحاط بكلّ شيء علما يعرف جميع هذه الذرّات ويجمعها متى شاء ، كما أنّ ذرّات الحديد المتناثرة في تلّ من الرمل يمكن جمعها بقطعة من «المغناطيس» فكذلك جمع ذرّات الإنسان أيسر على الله من ذلك.

وإذا كان إشكالهم أنّه من يحفظ أعمال الإنسان ليوم المعاد ، فالجواب على ذلك أنّ جميع أعمال الناس في لوح محفوظ ، ولا يضيع أي شيء في هذا العالم ، وكلّ شيء ـ حتّى أعمالكم ـ سيظلّ باقيا وإن تغيّر شكله.

__________________

(١) جواب إذا محذوف ويعرف من الجملة التالية وتقديرها : «إذا متنا وكنّا ترابا نرجع ونردّ أحياء ذلك رجع بعيد».

١٢

( كِتابٌ حَفِيظٌ ) معناه الكتاب الذي يحفظ جميع أعمال الناس وغيرها ، وهو إشارة إلى «اللوح المحفوظ» الذي بيّنا معناه بتفصيل في ذيل الآية (٣٩) من سورة الرعد.

ثمّ يردّ القرآن عليهم بجواب آخر ، وفيه منحى نفسي أكثر إذ يقول :( بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ ) .

أي إنّهم جحدوا الحقّ مع علمهم به ، وإلّا فإنّه لا غبار على الحقّ ، وكما سيتّضح في الآيات المقبلة فإنّهم يرون صورة مصغّرة للمعاد بأعينهم مرارا في هذه الدنيا وليس عندهم مجال للشّك والتردّد!

لذلك فإنّ القرآن يختتم هذه الآية مضيفا :( فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) ! فلأنّهم كذّبوا الرسالة فهم دائما في تناقض في القول وحيرة في العمل واضطراب في السلوك.

فتارة يتّهمون النّبي بأنّه مجنون أو أنّه شاعر أو كاهن.

وتارة يعبّرون عن كلماته بأنّها «أساطير الأوّلين».

وتارة يقولون بأنّه يعلّمه بشر.

وتارة يقولون عنه بأنّه ساحر لنفوذ كلماته في القلوب.

وتارة يقولون بأنّنا نستطيع أن نأتي بمثله.

وهذه الكلمات المتفرّقة والمتناقضة تدلّ على أنّهم فهموا الحقّ ، إلّا أنّهم يتذرّعون بحجج واهية شتّى ، ولذلك لا يقرّون على كلام واحد أبدا.

وكلمة «مريج» مشتقّة من مرج ـ على زنة حرج ـ ومعناها الأمر المختلط والمشتبه والمشوش ، ولذلك فقد أطلقوا على الأرض التي تكثر فيها النباتات المختلفة والمتعدّدة بأنّها «مرج» أو «مرتع».

* * *

١٣

الآيات

( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١) )

التّفسير

انظروا إلى السماء لحظة!

هذه الآيات تواصل البحث عن دلائل المعاد ، فتارة تتحدّث عن قدرة الله المطلقة لإثبات المعاد ، واخرى تستشهد له بوقائع ونماذج تحدث في الدنيا تمثّل حالة المعاد.

فهي تستجلب وتلفت أنظار المنكرين إلى خلق السماوات فتقول :( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها ) .

١٤

والمراد بالنظر هنا هو النظر المقترن بالتفكير الذي يدعو صاحبه لمعرفة عظمة الخالق الذي خلق السماء الواسعة وما فيها من عجائب مذهلة وتناسق وجمال واستحكام ونظم ودقّة.

جملة( وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ ) أي لا انشقاق فيها ، إمّا أن يكون بمعنى عدم وجود النقص والعيب وارتباك كما ذهب إليه بعض المفسّرين ، أو أن يكون معناه عدم الإنشقاق والإنفطار في السماء المحيطة بأطراف الأرض وهي ما يعبّر عنها بالغلاف الجوّي للأرض أو ما يعبّر القرآن عنه بالسقف المحفوظ كما ورد ذلك في سورة الأنبياء الآية (٣٢) إذ توصد الطريق بوجه النيازك والسدم والشهب التي تهوي باستمرار نحو الأرض وبسرعة هائلة وقبل أن تصل إلى الأرض تستحيل إلى شعلة فرماد ، كما أنّها تحجب الأشعّة الضارّة للشمس وغيرها من الأشعّة الكونية ، وإلّا فإنّ السماء معناها الفضاء الواسع الذي تسبح فيه الأجرام الكروية المعروفة بالنجوم.

وهنا احتمال ثالث أيضا ، وهو أنّ الجملة السابقة إشارة إلى نظرية وجود «الأثير» وطبقا لهذه النظرية فإنّ جميع عالم الوجود بما فيه الفواصل التي تقع ما بين النجوم ـ مليء من مادّة عديمة اللون والوزن تدعى بـ «الأثير» وهي تحمل أمواج النور وتنقلها من نقطة لأخرى ، وطبقا لهذه النظرية فإنّه لا وجود لأيّة فرجة ولا فجوة ولا انشقاق في عالم الإيجاد والخلق ، وجميع الأجرام السماوية والكواكب السيارة تموج في الأثير!

وبالطبع فإنّه لا منافاة بين هذه التفاسير الثلاثة وإن كانت النظرية الثالثة التي تعتمد على فرضية الأثير لا يعوّل عليها ولا يمكن الركون إليها ، لأنّ موضوع الأثير ما يزال قيد الدرس ولم يثبت بصورة قطعيّة عند جميع العلماء لحدّ الآن!

ثمّ تشير الآيات إلى عظمة الأرض فتقول :( وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) .

١٥

أجل ، خلق الأرض من جهة ، ثمّ اتّساعها «وخروجها من تحت الماء» من جهة اخرى ، ووجود الجبال «الرواسي» عليها وارتباط بعضها ببعض كأنّها السلاسل التي تشدّ الأرض وتحفظها من الضغوط الداخلية والخارجية والجزر والمدّ الحاصلين من جاذبية الشمس والقمر من جهة ثالثة ووجود أنواع النباتات بما فيها من عجائب واتّساق وجمال من جهة رابعة جميعها تدلّ على قدرته اللّامحدودة(١) .

والتعبير بـ( مِنْ كُلِّ زَوْجٍ ) إشارة إلى مسألة الزوجية في عالم النباتات التي لم تكن معروفة كأصل كلّي حين نزول الآيات محلّ البحث ، وبعد قرون وسنين متطاولة استطاع العلم أن يميط النقاب عنها. أو أنّه إشارة إلى اختلاف النباتات وأنواعها المتعدّدة ، لأنّ التنوّع والاختلاف في عالم النبات عجيب ومذهل.

أمّا الآية التالية فهي بمثابة الاستنتاج إذ تقول :( تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ) (٢) .

أجل إنّ من له القدرة على خلق السماوات بما فيها من عظمة وجمال وجلال ، والأرض بما فيها من نعمة وجمال ودقّة ، كيف لا يمكنه أن يلبس الموتى ثوب الحياة مرّة اخرى وأنّ يجعل لهم معادا وحياة اخرى!؟

ترى أليست هذه القدرة المذهلة العظيمة دليلا واضحا على إمكان المعاد؟! أمّا الآية التالية ففيها استدلال آخر على هذا الأمر إذ تقول :( وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ) .

«الجنّات» هنا إشارة إلى بساتين الثمار ، أمّا( حَبَّ الْحَصِيدِ ) فإشارة إلى الحبوب التي تعدّ مادّة أساسيّة لغذاء الإنسان كالحنطة والشعير والذرّة وغيرها.

__________________

(١) كنّا قد بحثنا فوائد إيجاد الجبال واتّساع الأرض ويسطها وزوجية النباتات بحثا مفصّلا في سورة الرعد ذيل الآية(٣).

(٢) يمكن أن تكون تبصرة مفعولا لأجله كما يمكن أن تكون مفعولا مطلقا إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أنسب ، ومثل هذا يقع الكلام على كلمة «ذكرى».

١٦

ثمّ تضيف الآية :( وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ ) كلمة : «باسقات» جمع باسقة بمعنى الشجرة المرتفعة العالية و «الطلع» ثمر النخل وما يكون منه الرطب والتمر بعدئذ ، وكلمة «النضيد» معناها المتراكم بشكل دقيق ، والمعروف أنّ عذق النخل قبل أن ينشقّ ، يحمل داخله طلعا متراكبا متراكما وحين ينشقّ هذا الطلع يكون مذهلا وعجيبا.

والآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث تقول :( رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ ) (١) .

وهكذا فانّ هذه الآيات ضمن بيان النعم العظمى للعباد وتحريك إحساس الشكر فيهم في مسير المعرفة تذكّرهم بأنّهم يرون مثلا للمعاد كلّ سنة في حياتهم في هذه الدنيا ، فالأرض الميتة الخالية واليابسة تهتزّ وتنبت النباتات عليها عند نزول قطرات الغيث وكأنّ أصداء القيامة تترنّم على شفاه النباتات قائلة : «وحده لا شريك له».

فهذه الحركة العظيمة نحو الحياة في عالم النباتات تكشف عن هذه الحقيقة ، وهي أنّ بارئ عالم الموجودات قادر على إحياء الموتى مرّة اخرى ، لأنّ وقوع الشيء أقوى دليل على إمكانه!

* * *

__________________

(١) بحثنا هذا الموضوع في آيات اخرى أيضا فراجع ذيل الآية (٩) من سورة فاطر وذيل الآيات الأخيرة من سورة (يس).

١٧

الآيات

( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) )

التّفسير

لست وحدك المبتلى بالعدو

تعالج هذه الآيات مسألة المعاد من خلال نوافذ متعدّدة! ففي البداية ومن أجل تثبيت قلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسليته تقول : لست وحدك المرسل الذي كذّبه الكفّار وكذّبوا محتوى دعواته ولا سيّما المعاد فإنّه :( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ) !.

وجماعة «ثمود» هم قوم صالح النّبي العظيم إذ كانوا يقطنون منطقة «الحجر» شمال الحجاز.

أمّا «أصحاب الرسّ» فهناك أقوال عند المفسّرين ، فالكثير من المفسّرين يعتقدون أنّهم طائفة كانت تقطن اليمامة ، وكان عندهم نبيّ يدعى حنظلة فكذّبوه.

١٨

وألقوه في البئر في آخر الأمر «من معاني الرسّ هو البئر» والمعنى الآخر الأثر اليسير الباقي من الشيء ، وقد بقي من هؤلاء القوم الشيء اليسير في ذاكرة التاريخ!.

ويرى بعض المفسّرين أنّهم «قوم شعيب» لأنّهم كانوا يحفرون الآبار ، ولكن مع الالتفات إلى أنّ «أصحاب الأيكة» المذكورين في الآيات التالية هم قوم شعيب أنفسهم ينتفي هذا الاحتمال أيضا.

وقال بعض المفسّرين : هم بقايا قوم ـ صالح ـ أي ثمود ، ومع الالتفات إلى ذكر ثمود على حدة في الآية فإنّ هذا الاحتمال يبدو بعيدا أيضا.

فعلى هذا يكون التّفسير الأوّل هو الأنسب ، وهو ما اشتهر على أقلام المفسّرين وألسنتهم!.

ثمّ يضيف القرآن قائلا :( وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ ) والمراد بإخوان لوط هم قومه ، وقد عبّر القرآن عن لوط بأنّه أخوهم ، وهذا التعبير مستعمل في اللغة العربية بشكل عام.

وكذلك من بعدهم :( وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ ) . والأيكة : معناها الأشجار الكثيرة المتداخلة بعضها ببعض ـ أو الملتفّة أغصانها ـ و «أصحاب الأيكة» هم طائفة من قوم شعيب كانوا يقطنون منطقة غير «مدين» وهي منطقة ذات أشجار كثيرة(١) !

والمراد من «قوم تبّع» طائفة من أهل اليمن ، لأنّ «تبّع» لقب لملوك اليمن ، باعتبار أنّ هؤلاء القوم يتبعون ملوكهم ، وظاهر تعبير القرآن هنا وفي آية اخرى منه (٣٧ ـ الدخان) هو ملك مخصوص من ملوك اليمن اسمه (أسعد أبو كرب) كما نصّت عليه بعض الرّوايات ، ويعتقد جماعة من المفسّرين بأنّه كان رجلا صالحا

__________________

(١) لمزيد الإيضاح يراجع ذيل الآيات (٧٨) من سورة الحجر و (١٧٦) من سورة الشعراء.

١٩

مؤمنا يدعو قومه إلى اتّباع الأنبياء ، إلّا أنّهم خالفوه(١) .

ثمّ إنّ الآية هذه أشارت إلى جميع من ذكرتهم من الأقوام الثمانية فقالت :( كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ) .

وما نراه في النصّ من أنّ جميع هؤلاء كذّبوا الرسل والحال أنّ كلّ قوم كذّبوا رسولهم فحسب لأنّ الفعل الصادر منهم جميعا التكذيب نال الأنبياء جميعا وإن كان كلّ قوم قد كذّبوا نبيّهم وحده في زمانهم.

أو لأنّ تكذيب أحد النّبيين والرسل يعدّ تكذيبا لجميع الرسل ، لأنّ محتوى دعوتهم سواء.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هؤلاء الأمم كذّبوا أنبياءهم وكذّبوا مسألة المعاد والتوحيد أيضا ، وكانت عاقبة أمرهم نكرا ووبالا عليهم ، فمنهم من ابتلي بالطوفان ، ومنهم من أخذته الصاعقة ، ومنهم من غرق بالنيل ، ومنهم من خسفت به الأرض أو غير ذلك ، وأخيرا فإنّهم ذاقوا ثمرة تكذيبهم المرّة!! فكن مطمئنا يا رسول الله أنّه لو واصل هؤلاء تكذيبهم لك فلن يكونوا أحسن حالا من السابقين.

ثمّ يشير القرآن إلى دليل آخر من دلائل إمكان النشور ويوم القيامة فيقول :( أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ) (٢) .

ثمّ يضيف القرآن : إنّهم لا يشكّون ولا يتردّدون في الخلق الأوّل لأنّهم يعلمون أنّ خالق الإنسان هو الله ولكنّهم يشكّون في المعاد مع كلّ تلك الدلائل الواضحة :( بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .

وفي الحقيقة إنّهم في تناقض بسبب هوى النفس والتعصّب الأعمى ، فمن جهة يعتقدون بأنّ خالق الناس أوّلا هو الله إذ خلقهم من تراب ، إلّا أنّهم من جهة اخرى

__________________

(١) لمزيد الإيضاح يراجع ذيل الآية (٣٧) من سورة الدخان.

(٢) في الجملة الآنفة إيجاز حذف وتقدير الكلام في تماميته أن يقال «أفعيينا بالخلق الأوّل حتّى نعجز عن الثاني».

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

الثالث : لو كان الحسن والقبح شرعيّين لما حكم بهما من ينكر الشرائع ، والتالي باطل ؛ فإنّ البراهمة(٢) بأسرهم ينكرون الشرائع والأديان كلّها ، ويحكمون بالحسن والقبح ، مستندين إلى ضرورة العقل في ذلك(٣) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٣.

(٢) البراهمة أو البرهمانية : نسبة إلى برهمان أو برهام ، وهو اسم مؤسّس هذه الطريقة ، وقيل : هم قبيلة بالهند فيهم أشراف أهل الهند ، ويقولون : إنّهم من ولد برهمي ملك من ملوكهم ؛ ولهم علامة ينفردون بها ، وهي خيوط ملوّنة بحمرة وصفرة يتقلّدونها تقلّد السيوف ، وقيل : إنّهم قائلون بالتوحيد! ومن أصول هذه الطائفة ـ كذلك ـ نفي النبوّات أصلا وقرّروا استحالتها في العقول ، وقد تفرّقوا أصنافا ، فمنهم : أصحاب البددة ، وهم البوذيّون ؛ وأصحاب الفكر والوهم ، وهم العلماء منهم بالفلك والنجوم وأحكامها المنسوبة إليهم ؛ وأصحاب التناسخ.

انظر : الفصل في الملل والأهواء والنحل ١ / ٨٦ ، الملل والنحل ٣ / ٧٠٦ ـ ٧١٦.

(٣) الإرشاد ـ للجويني ـ : ٢٣٠ ـ ٢٣١ ، نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣٧١ ، شرح المواقف ٨ / ١٩٢.

٤٢١

وقال الفضل(١) :

جوابه : إنّ البراهمة المنكرين للشرائع يحكمون بالحسن والقبح للأشياء لصفة الكمال والنقص والمصلحة والمفسدة ، لا تعلّق الثواب والعقاب.

وكيف يحكمون بالثواب والعقاب وهم لا يعرفونهما؟!

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣٦٨.

٤٢٢

وأقول :

البراهمة يحكمون بحسن الأفعال وقبحها بما هي أفعال ، كما هو محلّ الكلام على الصحيح

وما اختلقه بعض الأشاعرة من تعدّد المعاني والتفصيل فيها فإنّما قصدوا به الفرار لكن في غير الطريق المستقيم ، أو تسليم للحقّ لكن بوجه المعارضة.

* * *

٤٢٣

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

الرابع : الضرورة قاضية بقبح العبث ، كمن يستأجر أجيرا ليرمي من ماء الفرات في دجلة ، ويبيع متاعا ـ أعطي في بلده عشرة دراهم ـ في بلد يحمله إليه بمشقّة عظيمة ، ويعلم أنّ سعره كسعر بلده بعشرة دراهم أيضا.

وقبح تكليف ما لا يطاق كتكليف الزمن الطيران إلى السماء ، وتعذيبه دائما على ترك هذا الفعل.

وقبح ذمّ العالم الزاهد على علمه وزهده ، وحسن مدحه ، وقبح مدح الجاهل الفاسق على جهله وفسقه ، وحسن ذمّه عليهما.

ومن كابر في ذلك فقد أنكر أجلى الضروريات ؛ لأنّ هذا الحكم حاصل للأطفال ، والضروريات قد لا تحصل لهم.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٣.

٤٢٤

وقال الفضل(١) :

جوابه : إنّ قبح العبث لكونه مشتملا على المفسدة ، لا لكونه موجبا لتعلّق الذمّ والعقاب ، وهذا ظاهر.

وقبح مذمّة العاقل ، وحسن مدحة الزاهد ؛ للاشتمال على صفة الكمال والنقص.

فكلّ ما يذكر هذا الرجل من الدلائل هو إقامة الدليل على غير محلّ النزاع ، فإنّ الأشاعرة معترفون بأنّ كلّ ما ذكره من الحسن والقبح عقليّان ، والنزاع في غير هذين المعنيين.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣٧٠.

٤٢٥

وأقول :

ليت شعري أكان محلّ الكلام في حسن الأفعال وقبحها عقلا مشروطا بأن لا تكون فيها مصلحة ومفسدة حتّى يقول : إنّ قبح العبث لكونه مشتملا على مفسدة؟!

ومنشأ اشتباهه أنّه رأى أصحابه يعبّرون عن ملاءمة الغرض ومنافرته بالمصلحة والمفسدة(١) ، فتخيّل ذلك ولم يعلم أنّهم إنّما جعلوا الحسن والقبح ـ اللذين بمعنى الملاءمة والمنافرة ، والمصلحة والمفسدة ـ خارجين عن محلّ النزاع ؛ لا أنّه يشترط في محلّ النزاع عدم المصلحة والمفسدة في الفعل واقعا.

على إنّ قبح العبث ضروري وإن لم يشتمل على مفسدة ، بل لو اشتمل عليها لم يثبت القبح عندهم بمعنى المنافرة للغرض ، إذ لا غرض للعابث ، فيلزم أن لا يقبح العبث عندهم وقد أقرّوا بقبحه!

وأمّا قوله : « وقبح مذمّة العالم ، وحسن مدحة الزاهد »

ففيه : تسليم للحقّ باسم المعارضة ، والوفاق بصورة الخلاف ، فما ضرّهم لو أنصفوا؟!

واعلم أنّ الخصم لم يجب عن قبح تكليف ما لا يطاق عجزا عن الجواب ؛ لأنّ التكليف المذكور ليس عندهم صفة نقص ولا مفسدة ، وإلّا لما أجازوه على الله تعالى.

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٨٢.

٤٢٦

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

الخامس : لو كان الحسن والقبح باعتبار السمع لا غير لما قبح من الله تعالى شيء.

ولو كان كذلك لما قبح منه تعالى إظهار المعجزات على يد الكاذبين ، وتجويز ذلك يسدّ باب معرفة النبوّة(٢) .

فإنّ أيّ نبيّ أظهر المعجزة عقيب ادّعاء النبوّة لا يمكن تصديقه مع تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب في دعوى النبوّة.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٤.

(٢) انظر : شرح الأصول الخمسة : ٣١٨ و ٣٢١ ، ومؤدّاه في : المحيط بالتكليف : ٢٣٥.

٤٢٧

وقال الفضل(١) :

جوابه : إنّه لم يقبح من الله شيء.

قوله : « لو كان كذلك لما قبح منه إظهار المعجزات على يد الكاذبين ».

قلنا : عدم إظهار المعجزة على يد الكذّابين ليس لكونه مقبحا عقلا ، بل لعدم جريان عادة الله تعالى ، الجاري مجرى المحال العادي بذلك.

قوله : « تجويز هذا يسدّ باب معرفة النبوّة ».

قلنا : لا يلزم هذا ؛ لأنّ العلم العادي حاكم باستحالة هذا الإظهار ، فلا ينسدّ ذلك الباب.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣٧١.

٤٢٨

وأقول :

كيف تصحّ دعوى العادة؟! والحال أنّه لا اطّلاع له على كلّ من ادّعى النبوّة!

ولو فرض الاطّلاع فمن المحتمل كذب كلّ من جاء بمعجزة ، فلا تثبت نبوّة صادقة فضلا عن جريان العادة بها.

على إنّه كيف يقطع بعدم تخلّف العادة في مقام تخلّف العادة بإظهار المعجزة؟!

* * *

٤٢٩

قال المصنّف ١(١) :

السادس : لو كان الحسن والقبح شرعيّين ، لحسن من الله تعالى أن يأمر بالكفر ، وتكذيب الأنبياء ، وتعظيم الأصنام ، والمواظبة على الزنا والسرقة ، والنهي عن العبادة والصدق ؛ لأنّها غير قبيحة في أنفسها ، فإذا أمر الله بها صارت حسنة ؛ إذ لا فرق بينها وبين الأمر بالطاعة ، فإنّ شكر المنعم ، وردّ الوديعة ، والصدق ، ليست حسنة في أنفسها ، ولو نهى الله عنها كانت قبيحة(٢) .

لكن لمّا اتّفق أنّه تعالى أمر بهذه مجانا لغير غرض ولا حكمة ، صارت حسنة ، واتّفق أنّه نهى عن تلك فصارت قبيحة ، وقبل الأمر والنهي لا فرق بينها.

ومن أدّاه عقله إلى تقليد من يعتقد ذلك فهو أجهل الجهّال ، وأحمق الحمقاء ، إذا علم أنّ معتقد رئيسه ذلك!

ومن لم يعلم ووقف عليه ثمّ استمرّ على تقليده فكذلك!

فلهذا وجب علينا كشف معتقدهم لئلّا يضلّ غيرهم وتستوعب البلية جميع الناس.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٤.

(٢) انظر : شرح الأصول الخمسة : ٣١٨ ـ ٣٢٠.

٤٣٠

وقال الفضل(١) :

جوابه : إنّه لا يلزم من كون الحسن والقبح شرعيّين ، بمعنى أنّ الشرع حاكم بالحسن ، والقبح أن يحسن من الله الأمر بالكفر والمعاصي ؛ لأنّ المراد بهذا الحسن : إن كان استحسان هذه الأشياء ، فعدم هذه الملازمة ظاهر ؛ لأنّ من الأشياء ما يكون مخالفا للمصلحة لا يستحسنه الحكيم ، وقد ذكرنا أنّ المصلحة والمفسدة حاصلتان للأفعال بحسب ذواتها.

وإن كان المراد بهذا الحسن عدم الامتناع عليه ، فقد ذكرنا أنّه لا يمتنع عليه شيء عقلا ، لكن جرى عادة الله على الأمر بما اشتمل على مصلحة من الأفعال ، والنهي عمّا اشتمل على مفسدة من الأفعال.

فالعلم العادي حاكم بأنّ الله تعالى لم يأمر بالكفر وتكذيب الأنبياء قطّ ، ولم ينه عن شكر المنعم وردّ الوديعة ، فحصل الفرق بين هذا الأمر والنهي بجريان عادة الله الذي يجري مجرى المحال العادي ، فلا يلزم شيء ممّا ذكر هذا الرجل ، فقد زعم أنّه فلق الشعر في تدقيق هذا السؤال الظاهر دفعه عند أهل الحقّ ، حتّى رتّب عليه التشنيع والتفظيع ، فيا له من رجل ما أجهله!

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣٧٢.

٤٣١

وأقول :

قد سبق أنّ القبيح عندهم ما نهي عنه شرعا ، والحسن ما لم ينه عنه كما في « المواقف »(١) .

وحينئذ فالأفعال كلّها ليست حسنة أو قبيحة بالنظر إلى ذواتها وقبل تعلّق التكاليف بها ، وإنّما تكون حسنة أو قبيحة بعد تعلّقها بها.

فلو تعلّق أمره تعالى مثلا بالكفر وتكذيب الأنبياء وتعظيم الشياطين كانت حسنة وكان أمره أيضا حسنا ؛ لأنّ أمره من فعله ، وفعله حسن ؛ لأنّه لم ينه عنه فيشمله تعريف الحسن المذكور ، كما صرّح به في « شرح المواقف »(٢) وذكرناه سابقا(٣)

وحينئذ يتمّ ما ذكره المصنّف ١ بقوله : « لو كان الحسن والقبح شرعيّين لحسن من الله تعالى أن يأمر بالكفر » فإنّ الكفر ـ مثلا ـ ليس قبيحا قبل التكليف ، فيصحّ تعلّق الأمر به ، وإذا تعلّق به صار حسنا كما يحسن الأمر به.

وبذلك يعلم أنّه لا محلّ لتفسير الخصم للحسن والقبح الشرعيّين بأنّ الشرع حاكم بهما ، ولا لترديده في مراد المصنّف ; بالحسن بين أمرين لا دخل لهما بمقصود المصنّف ولا بمصطلح الأشاعرة.

على إنّه لو أراد المصنّف الشقّ الأوّل فهو لازم لهم على مذهبهم ؛

__________________

(١) المواقف : ٣٢٣.

(٢) شرح المواقف ٨ / ١٨٢.

(٣) انظر الصفحتين ٤١٣ ـ ٤١٤ من هذا الجزء.

٤٣٢

لأنّ الأمور التي ذكرها المصنّف ، من الكفر وتكذيب الأنبياء وأشباههما مخلوقة لله تعالى عندهم ومن أفعاله ، فلو كانت مخالفة للمصلحة ولا يستحسنها الحكيم لما فعلها.

ودعوى أنّ فعله لها إنّما يدلّ على استحسانه لها من حيث فاعليّته لها ، لا من حيث كسب العبد إيّاها ومحلّيّته لها ، غير ضارّة في المطلوب لو سلّمت ، إذ لا يهمّنا إلّا إثبات ما أنكره الخصم من استحسانها على مذهبهم من أيّ حيثية كانت.

وقوله : « قد ذكرنا أنّ المصلحة والمفسدة حاصلتان للأفعال بحسب ذواتها »

خطأ ظاهر ؛ لأنّ الذي ذكره هو حصول المصلحة والمفسدة بمعنى الملاءمة والمنافرة لا الذاتيّين(١) .

وأمّا ما ذكره في الشقّ الثاني بقوله : « وإن كان المراد عدم الامتناع عليه ، فقد ذكرنا أنّه لا يمتنع عليه شيء عقلا ».

ففيه : إنّه بعد ما بيّن في الشقّ الأوّل أنّ الحكيم لا يستحسن ما يكون مخالفا للمصلحة ، كيف لا يمتنع عليه الأمر به؟! فإنّ الحكيم لا يجوز عليه أن يأمر بما يكون مخالفا للمصلحة ولا يستحسنه.

ثمّ ما ذكره من جريان العادة غير مفيد له ، فإنّه لو سلّم العلم بالعادة مع عدم الاطّلاع على أديان جميع الأنبياء ، فالإشكال إنّما هو من جهة جواز أمره تعالى بالكفر ونحوه وحسنه ، لا من جهة الوقوع حتّى يجيب بعدم جريان العادة.

__________________

(١) انظر الصفحة ٤١١ من هذا الجزء.

٤٣٣

وبالضرورة : إنّ تجويز مثله على الحكيم إخراج له عن الحكمة ، وهو كفر!

فظهر أنّ المصنّف قد فلق الشعر بتدقيقه ، فجزاه الله تعالى عن الدين وأهله أفضل جزاء المحسنين ، وجعلنا من أعوانه على الحقّ ، إنّه أكرم المسؤولين.

* * *

٤٣٤

قال المصنّف ـ أعلى الله درجته ـ(١) :

السابع : لو كان الحسن والقبح شرعيّين ، لزم توقّف وجوب الواجبات على مجيء الشرع ، ولو كان كذلك لزم إفحام الأنبياء ؛ لأنّ النبيّ إذا ادّعى الرسالة وأظهر المعجزة كان للمدعوّ أن يقول : إنّما يجب عليّ النظر في معجزتك بعد أن أعرف أنّك صادق ، فأنا لا أنظر حتّى أعرف صدقك ، ولا أعرف صدقك إلّا بالنظر ، وقبله لا يجب عليّ امتثال الأمر ؛ فينقطع النبيّ ولا يبقى له جواب!

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٤.

٤٣٥

وقال الفضل(١) :

جواب هذا قد مرّ في بحث النظر(٢)

وحاصله : إنّه لا يلزم الإفحام ؛ لأنّ المدعوّ ليس له أن يقول : إنّما يجب عليّ النظر في معجزتك بعد أن أعرف أنّك صادق ؛ بل النظر واجب عليه بحسب نفس الأمر.

ووجوب النظر لا يتوقّف على معرفته له ؛ للزوم الدور كما سبق ، فلا يلزم الإفحام.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣٧٥.

(٢) انظر الصفحة ١٤٥ من هذا الجزء.

٤٣٦

وأقول :

قد سبق أنّ ارتفاع الإفحام إنّما يكون بعلم المدعوّ بالوجوب لا بمجرّد ثبوته واقعا ، كما ذكرناه موضّحا فراجع(١) .

* * *

__________________

(١) انظر الصفحتين ١٤٩ ـ ١٥٠ من هذا الجزء.

٤٣٧

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

الثامن : لو كان الحسن والقبح شرعيّين لم تجب المعرفة ؛ لتوقّف معرفة الإيجاب على معرفة الموجب ، المتوقّفة على معرفة الإيجاب ، فيدور

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٤.

٤٣٨

وقال الفضل(١) :

جواب هذا أيضا قد مرّ في ما سبق(٢) ، وأنّ توقّف وجوب المعرفة على الإيجاب ممنوع.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣٧٦.

(٢) انظر الصفحة ١٤٣ من هذا الجزء.

٤٣٩

وأقول :

قد مرّ فساد جوابه بما لا يخفى على ذي معرفة ، فراجع(١) .

* * *

__________________

(١) انظر الصفحة ١٤٨ ـ ١٥٠ من هذا الجزء.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526