الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196913 / تحميل: 5659
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

الآيات

( قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤) )

سبب النّزول

نقل أغلب المفسّرين أنّ للآيات الاولى في هذه السورة سببا للنزول ،

١٠١

ومضمونها بشكل عامّ واحد ، بالرغم من وجود اختلافات في الجزئيّات ، إلّا أنّ هذه الاختلافات لا تؤثّر على ما نحتاجه من البحث التّفسيري.

وجاء في تفسير القمّي : حدّثنا علي بن الحسين قال : حدّثنا محمّد بن أبي عبد الله ، عن الحسن بن محبوب ، عن أبي ولّاد ، عن حمران ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : «إنّ امرأة من المسلمات أتت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يا رسول الله إنّ فلان زوجي قد نثرت له بطني وأعنته على دنياه وآخرته ، لم ير منّي مكروها أشكوه إليك. قال : فيم تشكينه؟ قالت : إنّه قال : أنت عليّ حرام كظهر أمّي ، وقد أخرجني من منزلي فانظر في أمري. فقال لها رسول الله : ما أنزل الله تبارك وتعالى كتابا أقضي فيه بينك وبين زوجك ، وأنا أكره أن أكون من المتكلّفين ، فجعلت تبكي وتشتكي ما بها إلى اللهعزوجل وإلى رسول الله وانصرفت.

قال : فسمع الله تبارك وتعالى مجادلتها لرسول الله في زوجها وما شكت إليه وأنزل الله في ذلك قرآنا :( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ) ـ إلى قوله ـ( وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) .

قال فبعث رسول الله إلى المرأة ، فأتته فقال لها : جيئي بزوجك ، فأتته فقال له : أقلت لامرأتك هذه : أنت حرام عليّ كظهر امّي؟ فقال : قد قلت لها ذلك. فقال له رسول الله قد أنزل الله تبارك وتعالى فيك وفي امرأتك قرآنا وقرأ :( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ) ـ إلى قوله تعالى ـ( إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) ، فضمّ إليك امرأتك فإنّك قد قلت منكرا من القول وزورا ، وقد عفى الله عنك وغفر لك ولا تعد.

قال : فانصرف الرجل وهو نادم على ما قاله لامرأته ، وكره اللهعزوجل ذلك للمؤمنين بعد وأنزل الله :( وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا ) يعني ما قال الرجل لامرأته أنت عليّ كظهر أمّي.

قال : فمن قالها بعد ما عفى الله وغفر للرجل الأوّل فإنّ عليه «تحرير رقبة من

١٠٢

قبل أن يتماسّا ـ يعني مجامعتها ـ ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسّا فمن لم يستطع فإطعام ستّين مسكينا ، قال : فجعل الله عقوبة من ظاهر بعد النهي هذا. ثمّ قال : «ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله» قال : هذا حدّ الظهار»(١) .

وكما قلنا فإنّ كثيرا من المفسّرين ذكروا لها هذا السبب للنزول ، ومن جملتهم القرطبي ، وروح البيان ، وروح المعاني ، والميزان ، والفخر الرازي ، وفي ظلال القرآن ، وأبو الفتوح الرازي وكنز العرفان ، وكثير من كتب الحديث والتاريخ مع وجود اختلافات.

* * *

التّفسير

الظهار عمل جاهلي قبيح :

بالنظر إلى ما قيل في سبب النزول ، وكذلك طبيعة الموضوعات التي وردت في السورة ، فإنّ الآيات الاولى منها واضحة في دلالتها حيث يقول سبحانه :( قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ) .

«تجادل» من المجادلة مأخوذة من مادّة (جدل) وتعني في الأصل (فتل الحبل) ولأنّ الجدال بين الطرفين وإصرار كلّ منهما على رأيه في محاولة لإقناع صاحبه ، اطلق على هذا المعنى لفظ (المجادلة).

ثمّ يضيف تعالى :( وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما ) .

«تحاور» من مادّة (حور) على وزن (غور) بمعنى المراجعة في الحديث أو الفكر ، وتطلق كلمة «المحاورة» على بحث بين طرفين.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٤٦ مع تلخيص قليل.

١٠٣

( إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) نعم إنّ الله عالم بكلّ المسموعات والمرئيات ، بدون أن يحتاج إلى حواس نظر أو سمع ، لأنّه حاضر وناظر في كلّ مكان ، يرى كلّ شيء ويسمع كلّ حديث.

ثمّ يستعرض تعالى حكم الظهار بجمل مختصرة وحاسمة تقضي بقوّة على هذا المفهوم الخرافي حيث يقول سبحانه :( الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ ) .

«الامّ» و «الولد» ليس بالشيء الذي تصنعه الألفاظ ، بل إنّهما حقيقة واقعية عينية خارجية لا يمكن أن تكون من خلال اللعب بالألفاظ ، وبناء على هذا فإذا حدث أن قال الرجل لزوجته مرّة : (أنت عليّ كظهر امّي) فإنّ هذه الكلمة لا تجعل زوجته بحكم والدته ، إنّه قول هراء وحديث خرافة.

ويضيف تعالى مكمّلا الآية :( وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً ) (١) .

وبالرغم من أنّ قائل هذا الكلام لا يريد بذلك الإخبار ، بل إنّ مقصوده إنشائي ، يريد أن يجعل هذه الجملة بمنزلة (صيغة الطلاق) إلّا أنّ محتوى ذلك واه ، ويشبه بالضبط خرافة (جعل الولد) حين كانوا في زمن الجاهلية يتبنّون طفلا معيّنا كولد لهم ، ويجرون أحكام الولد عليه ، حيث أدان القرآن الكريم هذه الظاهرة واعتبرها عملا باطلا ولا أساس له ، حيث يقولعزوجل :( ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ ) (٢) ، وليس له أي واقعية.

وتماشيا مع مفهوم هذه الآية فإنّ «الظهار» عمل محرّم ومنكر ، ومع أنّ التكاليف الإلهية لا تشمل الممارسات السابقة ، إلّا أنّها ملزمة لحظة نزول الحكم ، ولا بدّ عندئذ من ترتيب الأثر ، حيث يضيف الله سبحانه هذه الآية :( وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ

__________________

(١) «زور» في الأصل بمعنى الانحناء الموجود على الصدر وجاءت أيضا بمعنى الانحراف ، ولأن حدود الكذب والباطل منحرفة عن الحق ، فيقال له (زور) كما يطلق على الصنم أيضا بهذا اللحاظ.

(٢) الأحزاب ، الآية ٤.

١٠٤

غَفُورٌ ) .

وبناء على هذا فإذا كان المسلم قد ارتكب مثل هذا العمل قبل نزول الآية فلا بأس عليه لأنّ الله سيعفو عنه.

ويعتقد بعض الفقهاء والمفسّرين أنّ «الظهار» ذنب مغفور الآن ، كما في الذنوب الصغيرة حيث وعد الله بالعفو عنها(١) ـ في صورة ترك الكبائر ـ إلّا أنّه لا دليل على هذا الرأي ، والجملة أعلاه لا تقوى أن تكون حجّة في ذلك.

وعلى كلّ حال فإنّ مسألة الكفّارة باقية بقوّتها.

وفي الحقيقة أنّ هذا التعبير شبيه لما جاء في الآية (٥) من سورة الأحزاب ، حيث يقول سبحانه :( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) .

وذلك بعد نهيه عن مسألة التبنّي.

ويثار تساؤل عن الفرق الموجود بين (العفوّ) و (الغفور).

قال البعض : (العفو) إشارة إلى الله تعالى (الغفور) إشارة إلى تغطية الذنوب إذ أنّ من الممكن أن يعفو شخص عن ذنب ما ، ولكن لا يستره أبدا ، غير أنّ الله تعالى يعفو ويستر في نفس الوقت.

وقيل أنّ «الغفران» هو الستر من العذاب ، حيث أنّ مفهومها مختلف عن العفو بالرغم من أنّ النتيجة واحدة.

إلّا أنّ مثل هذا العمل القبيح (الظهار) لم يكن شيئا يستطيع الإسلام أن يغضّ النظر عنه ، لذلك فقد جعل له كفّارة ثقيلة نسبيّا كي يمنع من تكراره ، وذلك بقوله تعالى :( وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) .

__________________

(١) كنز العرفان ، ج ٢ ، ص ٢٩٠ كما يلاحظ في الميزان إشارة لهذا المعنى أيضا.

١٠٥

وقد ذكر المفسّرون احتمالات عديدة في تفسير جملة :( ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا ) حيث ذكر المقداد ـ في كنز العرفان ستّة تفاسير لها ، إلّا أنّ الظاهر ـ خصوصا بالنظر إلى جملة :( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) ـ أنّ هؤلاء قد ندموا لقولهم وأرادوا الرجوع إلى حياتهم العائلية ، وقد ذكر هذا المعنى في روايات أهل البيتعليهم‌السلام أيضا(١) .

وذكرت تفاسير اخرى لهذا المقطع من الآية ، إلّا أنّها لا تتناسب بصورة تامّة مع معنى الآية ونهايتها. منها أنّ المراد من «العود» هو تكرار الظهار ، أو أنّ المقصود من العود هو العودة إلى السنّة الجاهلية في مثل هذه الأمور ، أو أنّ العود بمعنى تدارك وتلافي هذا العمل وما إلى ذلك(٢) .

«رقبة» جاءت هنا كناية عن الإنسان ، وهذا بلحاظ أنّ الرقبة أكثر أعضاء الجسم حسّاسية ، كما تأتي كلمة «رأس» بهذا المعنى ، لذا فإنّه يقال بدلا من خمسة أشخاص ـ مثلا ـ خمسة رؤوس.

ثمّ يضيف تعالى :( ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ) .

أي يجب ألّا تتصوّروا أنّ مثل هذه الكفّارة في مقابل الظهار ، كفّارة ثقيلة وغير متناسبة مع الفعل. إنّ المقصود بذلك هو الموعظة والإيقاظ لنفوسكم ، والكفّارة عامل مهمّ في وضع حدّ لمثل هذه الأعمال القبيحة والمحرّمة ، ومن ثمّ السيطرة على أنفسكم وأقوالكم.

وأساسا فإنّ جميع الكفّارات لها جنبة روحية وتربوية ، والكفّارات المالية يكون تأثيرها غالبا أكثر من التعزيرات البدنية.

ولأنّ البعض يحاول أن يتهرّب من إعطاء الكفّارة بأعذار واهية في موضوع الظهار ، يضيفعزوجل أنّه يعلم بذلك حيث يقول في نهاية الآية :( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ

__________________

(١) مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث.

(٢) يراجع كنز العرفان ، ج ٢ ، ص ٢٩٠ ، ومجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٤٧.

١٠٦

خَبِيرٌ ) .

إنّه عالم بالظهار ، وكذلك عالم بالذين يتهرّبون من الكفّارة ، وكذلك بنيّاتكم! ولكن كفّارة تحرير (رقبة) قد لا تتيسّر لجميع من يرتكب هذا الذنب كما لا حظنا ذلك ـ في موضوع سبب نزول هذه الآية المباركة ، حيث أنّ «أوس بن الصامت» ـ الذي نزلت الآيات الاولى بسببه ـ قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي غير قادر على دفع مثل هذه الكفّارة الثقيلة ، وإذا فعلت ذلك فقدت جميع ما أملك. وقد يتعذّر وجود المملوك. ليقوم المكلّف بتحرير رقبته حتّى مع قدرته المالية ، كما في عصرنا الحاضر ، لهذا كلّه ولأنّ الإسلام دين عالمي خالد فقد عالج هذه المسألة بحكم آخر يعوّض عن تحرير الرقبة ، حيث يقولعزوجل :( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) .

وهذا اللون من الكفّارة في الحقيقة له أثر عميق على الإنسان ، حيث أنّ الصوم بالإضافة إلى أنّه وسيلة لتنقية الروح وتهذيب النفس ، فإنّ له تأثيرا عميقا وفاعلا في منع تكرّر مثل هذه الأعمال في المستقبل.

ومن الواضح ـ كما في ظاهر الآية ـ أنّ مدّة الصوم يجب أن تكون ستّين يوما متتابعا ، وكثير من فقهاء أهل السنّة أفتوا طبقا لظاهر الآية ، إلّا أنّه قد ورد في روايات أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ المكلّف إذا صام أيّام قلائل حتّى ولو يوما واحدا بعد صوم الشهر الأوّل ، فإنّ مصداق التتابع في الشهرين يتحقّق ، وهذا الرأي حاكم على ظاهر الآية(١) .

وهذا يوضّح لنا أنّ المقصود من التتابع في الآية أعلاه والآية (٩٢) من سورة النساء في موضوع كفّارة القتل غير المتعمّد. أنّ المقصود هو التتابع بصورة إجمالية.

__________________

(١) يراجع وسائل الشيعة ، ج ٧ ، ص ٢٧١ ، الباب الثالث من أبواب بقية الصوم الواجب.

١٠٧

وطبيعي أنّ مثل هذا التّفسير لا يسمع إلّا من إمام معصوم ، حيث أنّه وارث لعلوم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا النوع من الصيام يكون تسهيلا للمكلّفين.

(تراجع الكتب الفقهية في الصوم وأبواب الظهار وكفّارة القتل ، للحصول على شرح أو فى حول هذا الموضوع)(١) .

وضمنا فإنّ المقصود من جملة :( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ) لا يعني عدم وجود أصل المال لديه ، بل المقصود منه ألّا يوجد لديه فائض على احتياجاته وضروريات حياته كي يشتري عبدا ويحرّره.

ولأنّ الكثير من الناس غير قادرين على الوفاء بالكفّارة الثانية ، وهي صوم الشهرين المتتابعين ، فقد ذكر لذلك بديل آخر حيث يقول سبحانه :( فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ) .

والظاهر من الإطعام أن يعطي غذاء يشبع الشخص في وجبة طعام ، إلّا أنّ الروايات الإسلامية ذكرت أنّ المقصود بذلك هو (مدّ) لإطعام كلّ واحد (والمدّ يعادل ٧٥٠ غم) رغم أنّ بعض الفقهاء قد حدّدها بمدّين أي ما يعادل (٥٠٠ ، ١) غم(٢) .

ثمّ يشير تعالى في تكملة الآية مرّة اخرى إلى الهدف الأساس لمثل هذه الكفّارات :( ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) .

نعم إنّ إزالة الذنوب بوسيلة الكفّارات تقوّي أسس الإيمان ، وتربط الإنسان

__________________

(١) إذا كان المقصود هو توالي الشهرين وليس توالي جميع أيّامها ، فإنّ هذا النوع من التوالي يحصل بمجرّد البدء في الشهر الثاني (يرجى ملاحظة ذلك).

(٢) المشهور بين الفقهاء ـ كما قلنا سابقا ـ هو (مدّ واحد) ودليله روايات كثيرة لعلّها بلغت حدّ التواتر ، فقد ورد بعضها في كفّارة القتل الخطأ ، وبعض في كفّارة القسم ، وبعض في كفّارة شهر رمضان ، بضميمة أنّ الفقهاء لم يوجدوا أي فرق بين أنواع الكفّارات ، إلّا أنّه نقل عن المرحوم الطوسي في الخلاف والمبسوط والنهاية والتبيان أنّ مقدار الكفّارة (مدّان) ، وفي هذا المجال يستدلّ الشيخرحمه‌الله برواية أبي بصير التي وردت في كفّارة الظهار حيث عيّن حدّها (مدّين). إلّا أنّ هذه الرواية إمّا أن تكون مخصوصة في كفّارة الظهار ، أو أنّها تحمل على الاستحباب.

١٠٨

بالتعاليم الإلهيّة قولا وعملا.

وفي نهاية الآية يؤكّد سبحانه بصورة قاطعة على الالتزام بأوامره حيث يقول :( وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

ويجدر الانتباه إلى أنّ مصطلح (الكفر) له معاني مختلفة ، منها «الكفر العملي» الذي يعني المعصية واقتراف الذنوب ، وقد أريد في الآية الكريمة هذا المعنى ، وكما جاء في الآية (٩٧) من سورة آل عمران بالنسبة للمتخلّفين عن أداء فريضة الحجّ ، حيث يقول سبحانه :( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) .

«حدّ» بمعنى الشيء الذي يفصل بين شيئين ، ومن هنا يقال لحدود البلدان (حدود) وبهذا اللحاظ يقال للقوانين الإلهية إنّها حدود ، وذلك لحرمة تجاوزها ، ولدينا شرح أوفى في هذا المجال في نهاية الآية (١٨٧) من سورة البقرة.

* * *

ملاحظات

١ ـ قسم من أحكام الظهار

أشير للظهار بآيتين في القرآن الكريم (الآية مورد البحث ، والآية رقم (٤) من سورة الأحزاب) وهو من الأعمال والعادات القبيحة في عصر الجاهلية ، حيث يمارس هذا الفعل في حالة سأم وضجر الرجل من زوجته ، وكي يوقعها في حرج ويركعها لإرادته يقول لها (أنت عليّ كظهر امّي)(١) وكانوا يعتقدون بعد إطلاق هذه الصيغة أنّ الزوجة تحرم على زوجها إلى الأبد ، ولا تستطيع أن تختار زوجا آخر

__________________

(١) «ظهر» في العبارة أعلاه ليس بمعناها المتعارف عليه كما قال بعض المفسّرين ، بل إنّها كناية عن طبيعة العلاقة الزوجية الجاهلية ، وبناء على هذا فإنّ معنى الجملة يصبح هكذا (الزوجية معك كالزوجية مع أمّي) يراجع لسان العرب مادّة ظهر والتّفسير الكبير للفخر الرازي.

١٠٩

لها.

وقد أدان الإسلام هذا التصرّف وشرّع له حكم الكفّارة.

وبناء على هذا فكلّما جعل الرجل على زوجته ظهارا فإنّ الزوجة تستطيع أن تراجع الحاكم الشرعي وتلزمه ، إمّا أن يطلّقها بصورة شرعية ، أو يرجعها إلى حالتها الزوجية السابقة ، بعد دفعه للكفّارة بالصورة التي مرّت بنا سابقا ، وهي إمّا تحرير رقبة في حالة القدرة ، أو صوم شهرين متتابعين في حالة الاستطاعة ، وإلّا فإطعام ستّين مسكينا ، وهذا يعني أنّ خصال الكفّارة ليست مخيّرة ، بل مرتّبة.

٢ ـ الظهار من كبائر الذنوب

لحن الآيات أعلاه شاهد معبّر عن هذا المضمون ، والبعض يعتبرونه من الصغائر ومورد عفو ، إلّا أنّها نظرة خاطئة.

٣ ـ إذا كان الشخص غير قادر على أداء الكفّارة بمختلف صورها ، فهل يستطيع أن يرجع إلى حياته الزوجية السابقة بالتوبة والاستغفار فقط؟

هنالك وجهات نظر مختلفة بين الفقهاء حول هذه المسألة ، فقسم منهم ـ بالاستناد على الحديث المنقول عن الإمام الصادقعليه‌السلام (١) ـ يعتقد أنّ التوبة والاستغفار تكفي في الكفّارات ـ عند عدم القدرة ـ إلّا في كفّارة الظهار حيث لا تكفي التوبة وتجب الكفّارة.

في حين يرى البعض الآخر أنّ الاستغفار والتوبة تعوضان عن الكفّارة ، ودليلهم هو الرواية الأخرى التي نقلت عن الإمام الصادقعليه‌السلام في هذا المجال(٢) .

ويعتقد آخرون بوجوب صوم ثمانية عشر يوما في هذه الصورة(٣) .

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٥٤٤ ، (حديث ١ باب ٦).

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٥٥٥ ، حديث ٤.

(٣) كنز العرفان ، ج ٢ ، ص ٢٩٢.

١١٠

والجمع بين الروايات لا يستبعد أيضا ، ففي صورة عدم القدرة بكلّ شكل من الأشكال السابقة ، فإنّه يستطيع أن يرجع إلى حياته الزوجية مستغفرا الله ، بالرغم من أنّ المستحبّ في مثل هذه الحالة أن يطلّق زوجته (لأنّ مثل هذا الجمع جمع معروف وتوجد له مظانّ كثيرة في الفقه ، وذلك بالنظر إلى صحّة سند الحديثين).

٤ ـ يرى الكثير من الفقهاء أنّ الشخص إذا كرّر الظهار عدّة مرّات (يعني الجملة السابقة بقصد جدّي) يجب أن يدفع عدّة كفّارات ، بالرغم من أنّ التكرار حدث في جلسة واحدة. إلّا أن يكون مقصوده من التكرار هو التأكيد ، وليس الظهار الجديد.

٥ ـ إذا قارب زوجته قبل الكفّارة وجبت عليه كفّارتان ، كفّارة للظهار وكفّارة للمواقعة الجنسية ، وهذا الحكم مورد اتّفاق بين الفقهاء ، والآيات أعلاه لم تذكر هذه المسألة ، إلّا أنّ روايات أهل البيتعليهم‌السلام أشارت إليها(١) .

٦ ـ التعامل القاطع الجدّي مع مسألة الظهار ، تؤكّد على حقيقة أنّ الإسلام لا يسمح أبدا أن تهضم حقوق المرأة عن طريق تسلّط الرجال واستبدادهم ، وذلك باستثمار الأعراف والتقاليد الظالمة ، حيث أنّ السنّة الخاطئة والخرافية في هذا المجال كلّما كانت مستحكمة كان تأثيرها المدمّر أقوى.

٧ ـ بالنسبة لموضوع (تحرير الرقبة) والتي هي أوّل كفّارة للظهار ، فبالإضافة إلى كونها إجراء مناسبا للقضاء على ظاهرة المرأة في قبضة الاستبداد ، فإنّما تمثّل رغبة الإسلام في القضاء على العبودية بكلّ طريق ، وذلك ليس فقط في كفّارة الظهار بل في كفّارة القتل الخطأ ، وكفّارة عدم صيام شهر رمضان ـ الإفطار المتعمّد ـ وكذلك في كفّارة مخالفة القسم ، أو عدم الوفاء بالنذر.

* * *

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٥٢٦ ، الأحاديث (١ ، ٢ ، ٣ ، ٤ ، ٥ ، ٦).

١١١

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) )

التّفسير

أولئك أعداء الله :

إذا كانت آخر جملة في الآيات السابقة تحثّ الجميع بضرورة الالتزام بالحدود الإلهيّة وعدم تجاوزها ، فإنّ الآيات مورد البحث لا تتحدّث عن

١١٢

الأشخاص الذين تجاوزوا حدود الله فحسب ، بل عن الذين حاربوا الله ورسوله ، وتوضّح عاقبتهم ومصيرهم في هذه الدنيا والعالم الآخر كذلك.

يقول سبحانه في البداية :( إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) .

«يحادون» من مادّة (محادة) بمعنى الحرب المسلّحة والاستفادة من الحديد وقال أيضا للحرب غير المسلّحة.

وقال البعض : إنّ (المحادّة) في الأصل بمعنى الممانعة من مادّة (حدّ) والتي تجيء بمعنى المانع بين شيئين ، ولذلك يقال للحارس (حداد) ، والمعنيان من حيث النتيجة متقاربان بالرغم من أنّهما مأخوذان من أصلين مختلفين.

«كبتوا» من مادّة (كبت) على وزن (ثبت) بمعنى المنع بذلّة ، و (كبتوا) إشارة إلى أنّ الله تعالى يجعل جزاء المحاربين لله ورسوله الذلّة والهوان ويمنعهم من لطفه الشامل(١) .

وهذا التعبير شبيه ما ورد في الآية (١١٤) من سورة البقرة التي تتحدّث عن الأشخاص الذين يمنعون الناس من المساجد وعبادة الله سبحانه ، ويحاربون مبدأ الحقّ حيث يقول سبحانه :( لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .

أو كما ورد في الآية (٣٣) من سورة المائدة في الحديث عن مصير الأشخاص الذين يحاربون الله ورسوله ويفسدون في الأرض حيث يقول :( ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .

ثمّ يضيف الباري سبحانه :( وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ ) .

وبناء على هذا فقد تمّت الحجّة بشكل كامل ، ولم يبق عذر ، وحجّة للمخالفة ، ومع ذلك فإن خالفوا ، فلا بدّ من أن يجازوا ، ليس في هذه الدنيا فحسب ، بل في

__________________

(١) فسّر بعض المفسّرين (كتبوا) بمعنى اللعنة ، ولأنّ اللعنة من قبل الله تعالى القادر على كلّ شيء دليل على تحقيقها ، فالنتيجة هي الذلّة والهوان لهذه المجموعة في الدنيا ، إلّا أنّ ظاهر تعبير الآية أنّها جملة خبريّة وليست إنشائية.

١١٣

القيامة :( وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ ) .

وبهذه الصورة فقد أشير إلى عذابهم الدنيوي في الجملة السابقة ، وفي هذه الجملة إلى العذاب الاخروي ، والشاهد على هذا المعنى في الآية الكريمة التالية :( كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) كما أنّ الآية اللاحقة تؤكّد هذا المعنى أيضا.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا التهديد الإلهي للأشخاص الذين يقفون بوجه الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن الكريم قد تحقّق ، حيث واجهوا الذلّة والانكسار في غزوة بدر وخيبر والخندق وغير ذلك ، وأخيرا في فتح مكّة حيث كسرت شوكتهم وأحبط كيدهم بانتصار الإسلام في كلّ مكان.

والآية اللاحقة تتحدّث عن استعراض زمان وقوع العذاب الاخروي عليهم حيث يقولعزوجل :( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا ) (١) نعم( أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ ) .

ولذا فعند ما تقدّم لهم صحيفة أعمالهم يصرخون :( ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) (٢) .

وهذا بحدّ ذاته عذاب مؤلم ، لأنّ الله تعالى يذكّرهم بذنوبهم المنسيّة ويفضحهم في مشهد الحشر أمام الخلائق.

وفي نهاية الآية يقول البارئ سبحانه :( وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) .

وهذه في الحقيقة بمثابة الدليل على ما ورد في الجملة السابقة ، فانّ حضور الله سبحانه في كلّ مكان وفي كلّ زمان وفي الداخل والخارج ، يوجب ألّا يحصي أعمالنا ـ فقط ـ بل نيّاتنا وعقائدنا ، وفي ذلك اليوم الكبير الذي هو «يوم البروز» يعرف كلّ شيء. ولكي يعلم الإنسان السبب في صعوبة الجزاء الإلهي.

__________________

(١) يوم ظرف ومتعلّق بالكافرين أو بالمهيمن ، والاحتمال الأوّل أنسب ، واختاره كثير من المفسّرين. واحتمال البعض انّ المتعلّق مقدّر بمعنى (اذكر) مستبعد.

(٢) الكهف ، الآية ٤٩.

١١٤

ولتأكيد حضور الله سبحانه في كلّ مكان وعلمه بكلّ شيء ينتقل الحديث إلى مسألة «النجوى» حيث يقول سبحانه :( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ ) .

بالرغم من أنّ المخاطب في هذه الآية هو الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ المقصود هو عموم الناس(١) ، ومقدّمة لبيان مسألة النجوى.

ثمّ يضيف تعالى :( ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (٢) .

نلاحظ هنا عدّة نقاط تستحقّ الانتباه :

١ ـ «النجوى» و «النجاة» في الأصل بمعنى المكان المرتفع الذي انفصل عن أطرافه وجوانبه بسبب ارتفاعه ، ولأنّ الإنسان إذا أراد التكتم على حديثه يعتزل في مكان بعيد عن الآخرين ، أو بلحاظ أنّ المتحدّث بالنجوى يريد أن ينجي أسراره من الكشف ويبعدها عن تناول أسماع الآخرين.

٢ ـ يرى البعض أنّ «النجوى» يجب أن تكون بين ثلاثة أشخاص أو أكثر ، وإذا كانت بين شخصين فيقال لها (سرار) على وزن (ستار) إلّا أنّ هذا خلاف ظاهر الآية ، لأنّ الجملة :( وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ ) تشير إلى أقلّ من ثلاثة أشخاص ـ أي شخصين ـ ومن الطبيعي أنّه إذا تناجى شخصان فلا بدّ من أن يكون شخص ثالث قريب منهما ، وإلّا فلا ضرورة للنجوى. إلّا أنّ ذلك لا يرتبط بما ذكرنا.

٣ ـ والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا هي أنّ الآية أعلاه تحدّثت في البداية عن نجوى ثلاثة ، ومن ثمّ عن نجوى خمسة ، ولم يرد الكلام عن نجوى أربعة أشخاص والتي هي بين المرتبتين (ثلاثة وخمسة) ، وبالرغم من أنّ كلّ ذلك جاء من باب

__________________

(١) «ألم تر» : من مادّة (رؤية) في الأصل بمعنى المشاهدة الحسيّة ، إلّا أنّها في كثير من الموارد جاءت بمعنى الشهود القلبي والعلم والمعرفة.

(٢) «نجوى» بالرغم من أنّها مصدر إلّا أنّها جاءت هنا اسم فاعل ، أي من قبيل (زيد عادل).

١١٥

المثال ، إلّا أنّ بعض المفسّرين ذكروا له وجوها مختلفة ، وأنسبها أنّ المقصود بذلك رعاية الفصاحة في الكلام وعدم التكرار ، لأنّه إذا قال تعالى (كلّ ثلاثة أشخاص يتناجون فإنّ الله رابعهم ، وكلّ أربعة أشخاص يتناجون فإنّ الله خامسهم) فإنّ العدد (أربعة) يتكرّر هنا ، وهذا بعيد عن البلاغة. وقال البعض : إنّ هذه الآيات نزلت حول مجموعة من المنافقين الذين كان عددهم نفس العدد المذكور.

٤ ـ المقصود من أنّ «الله» رابعهم أو سادسهم هو أنّ اللهعزوجل موجود حاضر وناظر في كلّ مكان وعالم بكلّ شيء ، وإلّا فإنّ ذاته المقدّسة لا مكان لها ، ولا يوصف بالعدد أبدا ، ووحدانيّته أيضا ليست وحدة عدديّة ، بل بمعنى أنّه لا شبيه له ، ولا نظير ولا مثيل.

٥ ـ وجدير بالذكر أنّ الحديث في ذيل الآية يتجاوز النجوى ، حيث تؤكّد الآية أنّ الله مع الإنسان في كلّ مكان ، وسوف يطلع الإنسان على أعماله يوم القيامة وتنتهي الآية بالإحاطة العلمية لله سبحانه ، كما ابتدأت بالإحاطة العلمية بالنسبة لكلّ شيء.

٦ ـ نقل بعض المفسّرين أنّ سبب نزول الآية ، ما ورد عن ابن عبّاس أنّه قال : إنّ الآية نزلت حول ثلاثة أشخاص ، هم (ربيعة وحبيب وصفوان) كانوا يتحدّثون مع بعضهم ، وقال أحدهم للآخر : هل يعلم الله ما نقول؟ قال الثاني : قسم يعلمه وقسم لا يعلمه. وقال الثالث : إذا كان يعلم قسما منه فإنّه يعلم جميعه ، فنزلت الآية وأعلنت أنّ الله تعالى حاضر في كلّ نجوى وفي كلّ مكان في الأرض وفي السماء ، كي يتّضح خطأ الغافلين عمي القلوب(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٦٥.

١١٦

بحث

حضور الله سبحانه في كلّ نجوى :

تقدّم آنفا أنّ الله تعالى ليس جسما وليست له عوارض جسمانية ، ومن هنا فلا يمكن أن نتصوّر له زمانا أو مكانا ، ولكن توهّم أن يوجد مكان لا يكون للهعزوجل فيه حاضرا وناظرا يستلزم القول بتحديده سبحانه.

وبتعبير آخر فإنّ لله سبحانه إحاطة علمية بكلّ شيء في الوقت الذي لا يكون له مكان ، مضافا إلى أنّ ملائكته حاضرون في كلّ مكان ، ويسمعون كلّ الأقوال والأعمال ويسجّلونها.

لذا نقرأ في حديث لأمير المؤمنينعليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : «إنّما أراد بذلك استيلاء أمنائه بالقدرة التي ركبها فيهم على جميع خلقه ، وإن فعلهم فعله»(١) .

وطبيعي أنّ هذا هو بعد من أبعاد الموضوع ، وأمّا البعد الآخر فيطرح فيه حضور ذات اللهعزوجل ، كما نقرأ في حديث آخر هو أنّ أحد كبار علماء النصارى سأل عن أمير المؤمنينعليه‌السلام : أين الله؟ قالعليه‌السلام : هو هاهنا وهاهنا وفوق وتحت ، ومحيط بنا ومعنا ، وهو قوله :( ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ) (٢) .

وفي الحديث المعروف (الإهليلجة) نقرأ عن الإمام الصادقعليه‌السلام : إنّ الله تعالى سمّي «السميع» بسبب أنّه لا يتناجى ثلاثة أشخاص إلّا هو رابعهم ثمّ أضاف : يسمع دبيب النمل على الصفا وخفقان الطير في الهواء ، لا يخفى عليه خافية ، ولا شيء ممّا تدركه الأسماع والأبصار ، وما لا تدركه الأسماع والأبصار ، ما جلّ من ذلك وما دقّ وما صغر وما كبر(٣) .

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٥٨ ، حديث ٢٠.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٥٩ ، الحديث ٢٣.

(٣) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٥٨ ، حديث ٢١.

١١٧

الآيات

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠) )

سبب النّزول

نقلت روايتان حول سبب نزول الآية الاولى أعلاه ، وكلّ واحدة منهما تخصّ

١١٨

قسما من الآية الكريمة.

تقول الرواية الاولى : إنّ الآية نزلت في اليهود والمنافقين حيث كانوا يتناجون فيما بينهم بمعزل عن المؤمنين ، مع الإشارة إليهم بأعينهم غمزا ، فلمّا رأى المؤمنون نجواهم ظنّوا أنّ سوءا حصل لإخوانهم في السرايا فحزنوا لذلك ، وبثّوا حزنهم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمرهم الرّسول ألّا يتناجوا دون المسلمين ، فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم فنزلت الآية أعلاه وهدّدتهم بشدّة(١) .

أمّا الرواية الثانية فقد نقل في صحيح مسلم والبخاري وكثير من كتب التّفسير أنّ قسما من اليهود جاءوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبدلا من قولهم له : السّلام عليكم ، قالوا : أسام عليك يا أبا القاسم (والتي تعني الموت عليك أو الملالة والتعب) فكان ردّ الرّسول عليهم (وعليكم) تقول عائشة : إنّي فهمت مرادهم وقلت : (عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم).

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عائشة عليك بالرفق وإيّاك العنف والفحش ، فقلت : ألا تسمعهم يولون السام؟ فقال : وأما سمعت ما أقول عليكم فأنزل الله تعالى :( إِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ ) (٢) .

التّفسير

النجوى من الشيطان :

البحث في هذه الآيات هو استمرار لأبحاث النجوى السابقة ، يقول سبحانه :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ) .

ويستفاد من هذه الآية بصورة جليّة أنّ المنافقين واليهود قد نهوا من قبل

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٤٩.

(٢) تفسير المراغي ، ج ٢٨ ، ص ١٣.

١١٩

ومنعوا من النجوى التي تولّد سوء الظنّ عند الآخرين وتسبّب لهم القلق ، إلّا أنّهم لم يعيروا أي اهتمام لمثل هذا التحذير ، والأدهى من ذلك أنّ نجواهم كانت تدور حول ارتكاب الذنوب ومخالفة أوامر الله ورسوله.

والفرق بين «الإثم» و «العصيان» و «معصية الرّسول» ، هو أنّ «الإثم» يشمل الذنوب التي لها جانب فردي كشرب الخمر ، أمّا «العدوان» فإنّها تعني التجاوز على حقوق الآخرين ، وأمّا «معصية الرّسول» فإنّها ترتبط بالأمور والتعليمات التي تصدر من شخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتباره رئيسا للدولة الإسلامية ، ويتصدّى لمصالح المجتمع الإسلامي. وبناء على هذا فإنّهم يطرحون في نجواهم كلّ عمل مخالف ، وهو أعمّ من الأعمال التي تكون مرتبطة بهم أو بالآخرين أو الحكومة الإسلامية وشخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

والتعبير بـ (يعودون) و (يتناجون) جاء هنا بصيغة مضارع ، حيث يوضّح لنا أنّ هذا العمل يتكرّر باستمرار ، وقصدهم به إزعاج المؤمنين.

وعلى كلّ حال ، فالآية جاءت بعنوان إخبار غيبي يكشف مخالفاتهم ويظهر خطّهم المنحرف.

واستمرارا لهذا الحديث فإنّ القرآن الكريم يشير إلى مورد آخر من أعمال التجاوز والمخالفة للمنافقين واليهود ، حيث يقول تعالى :( وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ ) .

«حيّوك» من مادّة (تحية) مأخوذة في الأصل من الحياة بمعنى الدعاء بالسلام والحياة الاخرى ، والمقصود بالتحية الإلهية في هذه الآية هو : (السّلام عليكم) أو (سلام الله عليك) والتي وردت نماذج منها في الآيات القرآنية عن الأنبياء وأصحاب الجنّة ، ومن جملتها قوله تعالى :( سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ) (١) .

__________________

(١) الصافات ، الآية ١٨١.

١٢٠

وأمّا التحيّة التي لم يحيّ بها الله ، ولم يكن قد سمح بها هي جملة : (أسام عليك).

ويحتمل أيضا أن تكون التحية المقصودة بالآية الكريمة هي تحيّة الجاهلية حيث كانوا يقولون : (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وذلك بدون أن يتوجّهوا بكلامهم إلى الله سبحانه ويطلبون منه السلامة والخير للطرف الآخر.

هذا الأمر مع أنّه كان سائدا في الجاهلية ، إلّا أنّ تحريمه غير ثابت ، وتفسير الآية أعلاه له بعيد.

ثمّ يضيف تعالى أنّ هؤلاء لم يرتكبوا مثل هذه الذنوب العظيمة فقط بل كانوا مغرورين متعالين وكأنّهم سكارى فيقولعزوجل :( وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ ) وبهذه الصورة فإنّهم قد أثبتوا عدم إيمانهم بنبوّة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك عدم إيمانهم بالإحاطة العلمية لله سبحانه.

وبجملة قصيرة يرد عليهم القرآن الكريم :( حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

والطبيعي أنّ هذا الكلام لا ينفي عذابهم الدنيوي ، بل يؤكّد القرآن على أنّه لو لم يكن لهؤلاء سوى عذاب جهنّم ، فإنّه سيكفيهم وسيرون جزاء كلّ أعمالهم دفعة واحدة في نار جهنّم.

ولأنّ النجوى قد تكون بين المؤمنين أحيانا وذلك للضرورة أو لبعض الميول ، لذا فإنّ الآية اللاحقة تخاطب المؤمنين ستكون مناجاتهم في مأمن من التلوّث بذنوب اليهود والمنافقين حيث يقول البارئعزوجل :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ، وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

يستفاد من هذا التعبير ـ بصورة واضحة ـ أنّ النجوى إذا كانت بين المؤمنين فيجب أن تكون بعيدة عن السوء وما يثير قلق الآخرين ، ولا بدّ أن يكون مسارها

١٢١

التواصي بالخير والحسنى ، وبهذه الصورة فلا مانع منها.

ولكن كلّما كانت النجوى بين أشخاص كاليهود والمنافقين الذين يهدفون إلى إيذاء المؤمنين ، فنفس هذا العمل حرام وقبيح ، فكيف الحال إذا كانت نجواهم شيطانية وتآمرية ، ولذلك فإنّ القرآن يحذّر منها أشدّ تحذير في آخر آية مورد للبحث ، حيث يقول تعالى :( إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) ولكن يجب أن يعلموا أنّ الشيطان لا يستطيع إلحاق الضرر بأحد إلّا أن يأذن الله بذلك( وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) .

ذلك لأنّ كلّ مؤثّر في عالم الوجود يكون تأثيره بأمر الله حتّى إحراق النار وقطع السيف.

( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) إذ أنّهم ـ بالروح التوكّلية على الله ، وبالاعتماد عليه سبحانه ـ يستطيعون أن ينتصروا على جميع هذه المشاكل ، ويفسدوا خطط أتباع الشيطان ، ويفشلوا مؤامراته.

* * *

بحثان

١ ـ أنواع النجوى

لهذا العمل من الوجهة الفقهيّة الإسلامية أحكام مختلفة حسب اختلاف الظروف ، ويصنّف إلى خمسة حالات تبعا لطبيعة الأحكام الإسلامية في ذلك.

فتارة يكون هذا العمل «حراما» وفيما لو أدّى إلى أذى الآخرين أو هتك حرمتهم ـ كما أشير له في الآيات أعلاه ـ كالنجوى الشيطانية حيث هدفها إيذاء المؤمنين.

وقد تكون النجوى أحيانا (واجبة) وذلك في الموضوعات الواجبة السرّية ، حيث أنّ إفشاءها مضرّ ويسبّب الخطر والأذى ، وفي مثل هذه الحالة فإنّ عدم

١٢٢

العمل بالنجوى يستدعي إضاعة الحقوق وإلحاق خطر بالإسلام والمسلمين.

وتتصف النجوى في صورة اخرى بالاستحباب ، وذلك في الأوقات التي يتصدّى فيها الإنسان لأعمال الخير والبرّ والإحسان ، ولا يرغب بالإعلان عنها وإشاعتها وهكذا حكم الكراهة والإباحة.

وأساسا ، فإنّ كلّ حالة لا يوجد فيها هدف مهمّ فالنجوى عمل غير محمود ، ومخالف لآداب المجالس ، ويعتبر نوعا من اللامبالاة وعدم الاكتراث بالآخرين.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإنّ ذلك يحزنه»(١) .

كما نقرأ في حديث عن أبي سعيد الخدري أنّه قال : كنّا نتناوب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطرقه أمر أو يأمر بشيء فكثر أهل الثوب المحتسبون ليلة حتّى إذا كنّا نتحدّث فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الليل فقال : ما هذه النجوى ألم تنهوا عن النجوى»(٢) .

ويستفاد من روايات أخرى أنّ الشيطان ـ لإيذاء المؤمنين ـ يستخدم كلّ وسيلة ليس في موضوع النجوى فقط ، بل أحيانا في عالم النوم حيث يصوّر لهم مشاهد مؤلمة توجب الحزن والغمّ ، ولا بدّ للإنسان المؤمن في مثل هذه الحالات أن يلتجئ إلى الله ويتوكّل عليه ، ويبعد عن نفسه هذه الوساوس الشيطانية(٣) .

٢ ـ كيف تكون التحيّة الإلهيّة؟

من المتعارف عليه اجتماعيا في حالة الدخول إلى المجالس تبادل العبارات

__________________

(١) تفسير مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث ، والدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٤ واصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٨٣ (باب المناجاة) حديث ١ ، ٢.

(٢) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٤.

(٣) للاطلاع الأكثر على هذه الروايات يراجع تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، حديث ٣١ ، ٣٢.

١٢٣

التي تعبّر عن الودّ والاحترام بين الحاضرين ـ كلّ منهم للآخر ـ ويسمّى هذا بالتحيّة ، إلّا أنّ المستفاد من الآيات أعلاه أن يكون للتحيّة محتوى إلهي ، كما في بقيّة القواعد الخاصّة بآداب المعاشرة.

ففي التحيّة بالإضافة إلى الاحترام والإكرام لا بدّ أن تقرن بذكر الله في حالة اللقاء ، كما في (السّلام) الذي تطلب فيه من الله السلامة للطرف الآخر.

وقد ورد في تفسير علي بن إبراهيم ـ في نهاية الآيات مورد البحث ـ أنّ مجموعة من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما كانوا يقدمون عليه يحيّونه بقولهم (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وهذه تحية أهل الجاهلية فأنزل الله :( وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ ) فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قد أبدلنا الله بخير تحيّة أهل الجنّة السّلام عليكم»(١) .

كما أنّ من خصوصيات السّلام في الإسلام أن يكون مقترنا بذكر الله تعالى ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى ففي السّلام سلامة كلّ شيء أعمّ من الدين والإيمان والجسم والروح وليس منحصرا بالراحة والرفاه والهدوء(٢) .

(وحول حكم التحية والسّلام وآدابها كان لدينا بحث مفصّل في نهاية الآية (٨٦) في سورة النساء).

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، حديث ٣٠.

(٢) في كتاب «بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب» جاء بحث مفصّل حول تحيّة العرب في الجاهلية وتفسير عبارة (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) ، ج ٢ ، ص ١٩٢.

١٢٤

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) )

سبب النّزول

نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ، والآلوسي في روح المعاني ، وجمع آخر من المفسّرين ، أنّ هذه الآية نزلت يوم الجمعة وكان رسول الله يومئذ في (الصفّة) وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر.

قد سبقوا إلى المجالس ، فقاموا حيال رسول الله فقالوا : السّلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته. فردّ النبي عليهم ، ثمّ سلّموا على القوم بعد ذلك فردّوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينظرون أن يوسّع لهم ، فعرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يحملهم على القيام ، فشقّ ذلك على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر! قم يا فلان ، قم يا فلان ، فلم يزل يقيمهم بعدّة النفر الذين هم قيام بين

١٢٥

يديه من المهاجرين والأنصار ـ أهل بدر ـ فشقّ ذلك على من أقيم من مجلسه ، وعرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكراهة في وجوههم ، فقال المنافقون : ألستم تزعمون أنّ صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء! إنّ قوما أخذوا مجالسهم وأحبّوا القرب من نبيّهم ، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه فبلغنا أنّ رسول الله قال : «رحم الله رجلا يفسح لأخيه» فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا ، فيفسح القوم لإخوانهم ونزلت هذه الآية(١) .

التفسير

احترام أهل السابقة والإيمان :

تعقيبا على الموضوع الذي جاء في الرّوايات السابقة حول ترك (النجوى) في المجالس ، يتحدّث القرآن عن أدب آخر من آداب المجالس حيث يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا ) (٢) ( يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ) .

«تفسّحوا» من مادّة (فسح) على وزن قفل بمعنى المكان الواسع ، وبناء على هذا ، فإنّ التفسّح بمعنى التوسّع ، وهذه واحدة من آداب المجالس ، فحين يدخل شخص إلى المجلس فإنّ المرجو من الحاضرين أن يجلسوا بصورة يفسحوا بها مجالا له ، كي لا يبقى في حيرة وخجل ، وهذا الأدب أحد عوامل تقوية أواصر المحبّة والودّ على عكس النجوى التي أشير إليها في الآيات السابقة ، والتي هي أحد عوامل التفرقة والشحناء ، وإثارة الحساسيات والعداوة.

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٥. ومجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٢ ، ونقل مفسّرون آخرون نفس النصّ باختلاف قليل كالفخر الرازي والقرطبي والسيوطي في الدرّ المنثور وفي ظلال القرآن أيضا في نهاية الآية مورد البحث.

(٢) إنّ اختلاف التعبيرين ـ تفسّحوا وافسحوا ـ عن الآخر وهو أنّ أحدهما من تفعّل ، والآخر من الثلاثي المجرّد ، ويمكن أن يكون الفرق أنّ الأوّل له صفة التكلّف ، والآخر خال من هذه الصفة ، يعني كما لو قال قائل : افسحوا للشخص الذي يقدم توّا ، فإنّ الجالسين بدون أن يشعروا بالتكلّف يتفسّحون ، (يرجى ملاحظة ذلك).

١٢٦

والشيء الملاحظ أنّ القرآن الكريم ، الذي هو بمثابة دستور لجميع المسلمين لم يهمل حتّى هذه المسائل الجزئية الأخلاقية في الحياة الاجتماعية للمسلمين ، بل أشار إليها بما يناسبها ضمن التعليمات الأساسية ، حتّى لا يظنّ المسلمون أنّه يكفيهم الالتزام بالمبادئ الكليّة.

جملة( يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ) فسّرها بعض المفسّرين بتوسّع المجالس في الجنّة ، وهو ثواب يعطيه الله تعالى للأشخاص الذين يراعون هذه الآداب في عالم الدنيا ، ويلتزمون بها ، وبلحاظ كون الآية مطلقة وليس فيها قيد أو شرط فإنّ لها مفهوما واسعا ، وتشمل كلّ سعة إلهيّة ، سواء كانت في الجنّة أو في الدنيا أو في الروح والفكر أو في العمر والحياة ، أو في المال والرزق ، ولا عجب من فضل الله تعالى أن يجازي على هذا العمل الصغير بمثل هذا الأجر الكبير ، لأنّ الأجر بقدر كرمه ولطفه لا بقدر أعمالنا.

وبما أنّ المجالس تكون مزدحمة أحيانا بحيث أنّه يتعذّر الدخول إلى المجلس في حالة عدم التفسّح أو القيام ، وإذا وجد مكان فإنّه غير متناسب مع مقام القادمين واستمرارا لهذا البحث يقول تعالى :( وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا ) (١) أي إذا قيل لكم قوموا فقوموا.

ولا ينبغي أن تضجروا أو تسأموا من الوقوف ، لأنّ القادمين أحيانا يكونون أحوج إلى الجلوس من الجالسين في المجلس ، وذلك لشدّة التعب أو الكهولة أو للاحترام الخاصّ لهم ، وأسباب اخرى.

وهنا يجب أن يؤثّر الحاضرون على أنفسهم ويتقيّدوا بهذا الأدب الإسلامي ، كما مرّ بنا في سبب نزول الآية ، حيث كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر المجموعة التي

__________________

(١) «انشزوا» من مادّة (نشز) على وزن (نصر) مأخوذة من معنى الأرض العالية ، لذلك استعمل بمعنى القيام ، و «المرأة الناشزة» تطلق على كلّ من تعتبر نفسها أعلى من أن تطيع أمر زوجها ، واستعمل هذا المصطلح أحيانا بمعنى الإحياء ، لأنّ هذا الأمر سبب للقيام من القبور.

١٢٧

كانت جالسة بالقرب منه بالتفسّح للقادمين الجدد لأنّهم كانوا من مجاهدي بدر ، وأفضل من الآخرين من ناحية العلم والفضيلة.

كما فسّر بعض المفسّرين (انشزوا) بمعناها المطلق وبمفهوم أوسع ، حيث تشمل أيضا القيام للجهاد والصلاة وأعمال الخير الاخرى ، إلّا أنّه من خلال التمعن والتدقيق في الجملة السابقة لها والتي فيها قيد «في المجالس» ، فالظاهر أنّ هذه الآية مقيّدة بهذا القيد ، فيمتنع إطلاقها بسبب وجود القرينة.

ثمّ يتطرّق سبحانه إلى الجزاء والأجر الذي يكون من نصيب المؤمنين إذا التزموا بالأمر الإلهي ، حيث يقولعزوجل :( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) (١) .

وذلك إشارة إلى أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أمر البعض بالقيام وإعطاء أماكنهم للقادمين ، فإنّه لهدف إلهي مقدّس ، واحتراما للسابقين في العلم والإيمان.

والتعبير بـ (درجات) بصورة نكرة وبصيغة الجمع ، إشارة إلى الدرجات العظيمة والعالية التي يعطيها الله لمثل هؤلاء الأشخاص ، الذين يتميّزون بالعمل والإيمان معا ، أو في الحقيقة أنّ الأشخاص الذين يتفسّحون للقادمين لهم درجة ، وأولئك الذين يؤثرون ويعطون أماكنهم ويتّصفون بالعلم والتقوى لهم درجات أعلى.

وبما أنّ البعض يؤدّي هذه التعليمات ويلتزم بهذه الآداب عن طيب نفس ورغبة ، والآخرون يؤدّونها عن كراهية أو للرياء. والتظاهر فيضيف تعالى في نهاية الآية :( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) .

* * *

__________________

(١) «يرفع» في الآية أعلاه مجزومة بسبب صيغة الأمر التي جاءت قبلها ، والتي في الحقيقة تعطي مفهوم الشرط ، ويرفع بمنزلة جزاء هذا الشرط.

١٢٨

بحثان

١ ـ مقام العلماء

بالرغم من أنّ الآية نزلت في مورد خاصّ ، إلّا أنّ لها مفهوما عامّا ، وبملاحظة أنّ ما يرفع مقام الإنسان عند الله شيئان : الإيمان ، والعلم. وبالرغم من أنّ «الشهيد» في الإسلام يتمتع بمقام سام جدّا ، إلّا أنّنا نقرأ حديثا للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبيّن لنا فيه مقام أهل العلم حيث قال : «فضل العالم على الشهيد درجة ، وفضل الشهيد على العابد درجة وفضل العالم على سائر الناس ، كفضلي ، على أدناهم»(١) .

وعن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام نقرأ الحديث التالي : «من جاءته منيّته وهو يطلب العلم فبينه وبين الأنبياء درجة»(٢) .

ومعلوم أنّ الليالي المقمرة لها بهاء ونضرة ، خصوصا ليلة الرابع عشر من الشهر ، حيث يكتمل البدر ويزداد ضوؤه بحيث يؤثّر على ضوء النجوم هذا المعنى الظريف ورد في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»(٣) .

والطريف هنا أنّ العابد ينجز عبادته التي هي الهدف من خلق الإنسان ، ولكن بما أنّ روح العبادة هي المعرفة ، لذا فإنّ العالم مفضّل عليه بدرجات.

وما جاء حول أفضلية العالم على العابد في الروايات أعلاه يقصد منه بيان الفرق الكبير بين هذين الصنفين ، لذا ورد في حديث آخر حول الاختلاف بينهما بدلا من درجة واحدة مائة درجة ، والمسافة بين درجة واخرى بمقدار عدو الخيل في سبعين سنة(٤) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٣.

(٢) المصدر السابق.

(٣) جوامع الجامع ، مطابق لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٦٤ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٧٠.

(٤) المصدر السابق.

١٢٩

وواضح أيضا أنّ مقام الشفاعة لا يكون لأي شخص في يوم القيامة ، بل هي مقام المقرّبين في الحضرة الإلهية ، ولكن نقرأ في حديث للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ، ثمّ العلماء ، ثمّ الشهداء»(١) .

وفي الحقيقة أنّ الموفّقية في طريق التكامل وجلب رضا الله والقرب منه مرهون بعاملين أساسين هما : الإيمان والعلم ، أو الوعي والتقوى وكلّ منهما ملازم للآخر ، ولا تتحقّق الهداية بأحدهما دون الآخر.

٢ ـ آداب المجلس في القرآن الكريم

أشار القرآن الكريم مرّات عديدة إلى الآداب الإسلامية في المجالس ضمن المسائل الأساسية ، ومنها آداب التحيّة ، والدخول إلى المجلس ، وآداب الدعوة إلى الطعام. وآداب التكلّم مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآداب التفسّح للأشخاص القادمين ، خصوصا ذوي الفضيلة والسابقين في العلم والإيمان(٢) .

وهذا يرينا بوضوح أنّ القرآن الكريم يرى لكلّ موضوع في محلّه أهميّة وقيمة خاصّة ، ولا يسمح لتساهل الأفراد وعدم اهتمامهم أن تؤدّي إلى الإخلال بالآداب الإنسانية للمعاشرة.

وقد نقلت في كتب الحديث مئات الروايات عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الأطهارعليهم‌السلام حول آداب المعاشرة مع الآخرين. جمعها المحدّث الكبير الشيخ الحرّ العاملي في كتابه وسائل الشيعة ، ج ٨ ، حيث رتّبها في ١٦٦ بابا.

وملاحظة الجزئيّات الموجودة في هذه الروايات ترشدنا إلى مبلغ اهتمام الإسلام بالآداب الاجتماعية. حيث تتناول هذه الروايات حتّى طريقة الجلوس ،

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٦ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٧٠.

(٢) جاءت هذه التعليمات من خلال التسلسل في الآيات التالية : آداب التحيّة والسّلام. النساء / ٨٦ ، آداب الدعوة إلى الطعام. الأحزاب / ٥٣ ، آداب التكلّم مع الرّسول. الحجرات / ٢ ، وآداب التفسّح. في الآيات مورد البحث.

١٣٠

وطريقة التكلّم والابتسامة والمزاح والإطعام ، وطريقة كتابة الرسائل ، بل حتّى طريقة النظر إلى الآخرين ، وقد حدّدت التعليمات المناسبة لكلّ منها ، والحديث المفصّل عن هذه الروايات يخرجنا عن البحث التّفسيري ، إلّا أنّنا نكتفي بحديث واحد عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث يقول : «ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس ، والاستغناء عنهم ، فيكون افتقارك إليهم في لين كلامك وحسن سيرتك ، ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزّك»(١) .

* * *

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٤٠١.

١٣١

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣) )

سبب النّزول

نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان وكذلك جمع آخر من المفسّرين أنّ هذه الآية أنزلت في الأغنياء ، وذلك أنّهم كانوا يأتون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكثرون مناجاته ـ وهذا العمل بالإضافة إلى أنّه يشغل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويأخذ من وقته فإنّه كان يسبّب عدم ارتياح المستضعفين منه ، وحيث يشعرهم بامتياز الأغنياء عليهم ـ فأمر سبحانه بـ (الصدقة) عند المناجاة ، فلمّا رأوا ذلك انتهوا عن مناجاته ، فنزلت آية الرخصة التي لامت الأغنياء ونسخت حكم الآية الاولى وسمح للجميع بالمناجاة ،

١٣٢

حيث أنّ النجوى هنا حول عمل الخير وطاعة المعبود(١) .

وصرّح بعض المفسّرين أيضا أنّ هدف البعض من «النجوى» هو الاستعلاء على الآخرين بهذا الأسلوب. وبالرغم من أنّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان غير مرتاح لهذا الأسلوب ، إلّا أنّه لم يمنع منه ، حتّى نهاهم القرآن من ذلك(٢) .

التّفسير

الصدقة قبل النجوى (اختبار رائع):

في قسم من الآيات السابقة كان البحث حول موضوع النجوى ، وفي الآيات مورد البحث استمرارا وتكملة لهذا المطلب.

يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ) وكما ذكرنا في سبب نزول هذه الآيات ، فإنّ بعض الناس وخاصّة الأغنياء منهم كانوا يزاحمون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باستمرار ويتناجون معه ولمّا كان هذا العمل يسبّب إزعاجا للرسول بالإضافة إلى كونه هدرا لوقته الثمين ، وفيه ما يشعر بالخصوصية لهؤلاء الذين يناجونه بدون مبرّر لذا نزل الحكم أعلاه ، وكان امتحانا لهم ، ومساعدة للفقراء ، ووسيلة مؤثّرة للحدّ من مضايقة هؤلاء لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ يضيف بقوله تعالى :( ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) .

أمّا كون الصدقة «خير» فإنّها كانت للأغنياء موضع أجر وللفقراء مورد مساعدة ، وأمّا كونها (أطهر) فلأنّها تغسل قلوب الأغنياء من حبّ المال ، وقلوب الفقراء من الغلّ والحقد ، لأنّه عند ما تكون النجوى مقرونة بالصدقة تكون دائرتها أضيق ممّا كانت عليه في الحالة المجانية ، وبالتالي فإنّها نوع من التصحيح

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٢ ، وكثير من التفاسير الأخرى نهاية الآيات مورد البحث.

(٢) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٧.

١٣٣

والتهذيب الفكري والاجتماعي للمسلمين.

ولكن لو كان التصدّق قبل النجوى واجبا على الجميع ، فإنّ الفقراء عندئذ سيحرمون من طرح المسائل المهمّة كاحتياجاتهم ومشاكلهم أمام الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلذا جاء في ذيل الآية إسقاط هذا الحكم عن المجموعة المستضعفة ممّا مكّنهم من مناجاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتحدّث معه( فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وبهذه الصورة فإنّ دفع الصدقة قبل النجوى كان واجبا على الأغنياء دون غيرهم.

والطريف هنا أنّ للحكم أعلاه تأثيرا عجيبا وامتحانا رائعا أفرزه على صعيد الواقع من قبل المسلمين في ذلك الوقت ، حيث امتنع الجميع من إعطاء الصدقة إلّا شخص واحد ، ذلك هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهنا اتّضح ما كان يجب أن يتّضح ، وأخذ المسلمون درسا في ذلك ، لذا نزلت الآية اللاحقة ونسخت الحكم حيث يقول سبحانه :( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) .

حيث اتّضح أنّ حبّ المال كان في قلوبكم أحبّ من نجواكم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتّضح أيضا أنّ هذه النجوى لم تكن تطرح فيها مسائل أساسية ، وإلّا فما المانع من أن تقدّم هذه المجموعة صدقة قبل النجوى ، خاصّة أنّ الآية لم تحدّد مقدار الصدقة فبإمكانهم دفع مبلغ زهيد من المال لحلّ هذه المشكلة!!

ثمّ يضيف تعالى :( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) .

ويعكس لنا التعبير بـ (التوبة) أنّهم في نجواهم السابقة كانوا قد ارتكبوا ذنوبا ، سواء في التظاهر والرياء ، أو أذى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أذى المؤمنين الفقراء.

وبالرغم من عدم التصريح بجواز النجوى في هذه الآية بعد هذا الحادث ، إلّا أنّ تعبير الآية يوضّح لنا أنّ الحكم السابق قد رفع.

أمّا الدعوة لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله فقد أكّد عليها

١٣٤

بسبب أهميّتها ، وكذلك هي إشارة إلى أنّه إذا تناجيتم فيما بعد فيجب أن تكون في خدمة الأهداف الإسلامية الكبرى وفي طريق طاعة الله ورسوله.

* * *

بحوث

١ ـ الملتزم الوحيد بآية الصدقة قبل النجوى

إنّ الشخص الوحيد الذي نفّذ آية الصدقة في النجوى ـ كما في أغلب كتب مفسّري الشيعة وأهل السنّة ـ وعمل بهذه الآية هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كما ينقل ذلك الطبرسي في رواية عنهعليه‌السلام أنّه قال : «آية من كتاب الله لم يعمل بها أحد قبل ولم يعمل بها أحد بعدي ، كان لي دينار فصرفته بعشرة دراهم ، فكنت إذا جئت إلى النبي تصدّقت بدرهم»(١) .

كما نقل هذا المضمون «الشوكاني» عن «عبد الرّزاق» و «ابن المنذر» و «ابن أبي حاتم» و «ابن مردويه»(٢) .

ونقل «الفخر الرازي» هذا الحديث أيضا عن بعض المحدّثين عن ابن عبّاس والعامل الوحيد بمضمون الآية هو الإمام عليعليه‌السلام (٣) .

وجاءت في الدرّ المنثور ـ أيضا ـ روايات متعدّدة بهذا الصدد ، في نهاية تفسير الآيات أعلاه(٤) .

وفي تفسير روح البيان نقل عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنّه قال : «كان لعلي ثلاثة! لو كانت فيّ واحدة منهنّ لكانت أحبّ إليّ من حمر النعم : تزويجه

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ٢٨ ، ص ١٥.

(٢) (البيان في تفسير القرآن) ، ج ١ ، ص ٣٧٥ ، ونقل سيّد قطب أيضا هذه الرواية في ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ٢١.

(٣) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٧١.

(٤) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٥.

١٣٥

فاطمة ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى»(١) .

إنّ ثبوت هذه الفضيلة العظيمة للإمام عليعليه‌السلام قد جاء في أغلب كتب التّفسير ، وهي مشهورة بحيث لا حاجة لشرحها أكثر.

٢ ـ فلسفة تشريع ونسخ حكم الصدقة

لما ذا كانت الصدقة قبل النجوى مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشريعية؟ ثمّ لما ذا نسخت بعد فترة وجيزة؟

يمكن الإجابة على هذا التساؤل ـ بصورة جيّدة ـ من خلال القرائن الموجودة في الآية محلّ البحث ومن سبب النزول كذلك.

الهدف هو اختبار الأفراد المدّعين الذين يتظاهرون بحبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه الوسيلة ، فاتّضح أنّ إظهار الحبّ هذا إنّما يكون إذا كانت النجوى مجانية ، ولكن عند ما أصبحت النجوى مقترنة بدفع مقدار من المال تركوا نجواهم.

ومضافا إلى ذلك فإنّ هذا الحكم قد ترك تأثيره على المسلمين ، ووضّح حقيقة عدم إشغال وقت الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك القادة الإسلاميين الكبار في النجوى ، إلّا لضرورات العمل الأساسية ، لأنّ ذلك تضييعا للوقت وجلبا لسخط الناس وعدم رضاهم. فكان هذا التشريع في الحقيقة تقنينا للنجوى المستقبلة.

وبناء على هذا فالحكم المذكور كان في البداية مؤقتا ، وبعد ما تحقّق المطلوب نسخ ، لأنّ استمراره سيثير مشكلة ، لأنّ هناك بعض المسائل الضرورية التي تستدعي أن يطّلع عليها النبي على انفراد. ومع بقاء حكم الصدقة فقد تهمل بعض المسائل الضرورية ، وبصورة عامّة ففي موارد النسخ يكون للحكم منذ

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ٦ ، ص ٤٠٦ ، كما نقل هذا الحديث الطبرسي في مجمع البيان ، والزمخشري في الكشّاف ، والقرطبي في تفسير الجامع وذلك في نهاية الآيات مورد البحث.

١٣٦

البداية جانب محدود ومؤقت بالرغم من أنّ الناس أحيانا لا يعلمون بذلك ويتصوّرونه بصورة دائمة.

٣ ـ هل الالتزام بالصدقة فضيلة؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ الإمام عليعليه‌السلام لم يكن من طائفة الأغنياء من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث البساطة في حياته وزهده في عيشه ، ومع هذا الحال واحتراما للحكم الإلهي ، تصدّق في تلك الفترة القصيرة ـ ولمرّات عديدة ، وناجى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه المسألة واضحة ومسلّمة بين المفسّرين وأصحاب الحديث كما أسلفنا.

إلّا أنّ البعض ـ مع قبول هذا الموضوع ـ يصرّون على عدم اعتبار ذلك فضيلة وحجّتهم في ذلك أنّ كبار الصحابة عند ما أحجموا عن هذا العمل فذلك لأنّهم لم تكن لهم حاجة عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو لم يكن لديهم وقت كاف ، أو أنّهم كانوا يفكّرون بعدم إحراج الفقراء وبناء على هذا فإنّها لا تحسب فضيلة للإمام علي ، أو أنّها لا تسلب فضيلة من الآخرين(١) .

ويبدو أنّهم لم يدقّقوا في متن الآية التالية حيث يقول سبحانه موبّخا :( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) حتّى أنّه سبحانه يعبّر في نهاية الآية بالتوبة ، والتي ظاهرها دالّ على هذا المعنى ، ويتّضح من هذا التعبير أنّ الإقدام على الصدقة والنجوى مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت عملا حسنا ، وإلّا فلا ملامة ولا توبة.

وبدون شكّ فإنّ قسما من أصحاب الرّسول المعروفين قبل هذا الحادث كانت لهم نجوى مع الرّسول (لأنّ الأفراد العاديين والبعيدين قلّما احتاجوا إلى

__________________

(١) الفخر الرازي وروح البيان نهاية الآيات مورد البحث.

١٣٧

مناجاة الرّسول).

إلّا أنّ هؤلاء الصحابة المعروفين بعد حكم الصدقة ، امتنعوا من النجوى ، والشخص الوحيد الذي احترم ونفّذ هذا الحكم هو الإمام عليعليه‌السلام .

وإذا قبلنا ظاهر الآيات والروايات التي نقلت في هذا المجال وفي الكتب الإسلامية المختلفة ولم نقم أهميّة للاحتمالات الضعيفة الواهية فلا بدّ أن نضمّ صوتنا إلى صوت عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي جعل هذه الفضيلة بمنزلة تزويج فاطمة ، وإعطاء الراية يوم فتح خيبر ، وأغلى من حمر النعم.

٤ ـ مدّة الحكم ومقدار الصدقة :

وحول مدّة الحكم بوجوب الصدقة قبل النجوى مع الرّسول توجد أقوال مختلفة ، فقد ذكر البعض أنّها ساعة واحدة ، وقال آخرون : إنّها ليلة واحدة ، وذكر البعض أنّها عشرة أيّام ، إلّا أنّ الأقوى هو القول الثالث ، لأنّ الساعة والليلة لا تكفي أبدا لمثل هذا الامتحان ، لأنّ بالإمكان الاعتذار في هذه المدّة القصيرة عن عدم وجود حاجة للنجوى ، إلّا أنّ مدّة عشرة أيّام تستطيع أن توضّح الحقائق وتهيء أرضية للوم المتخلّفين.

أمّا مقدار الصدقة فإنّها لم تذكر في الآية ولا في الروايات الإسلامية ، ولكن المستفاد من عمل الإمام عليعليه‌السلام هو كفاية الدرهم الواحد في ذلك.

* * *

١٣٨

الآيات

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) )

١٣٩

التّفسير

حزب الشيطان :

هذه الآيات تفضح قسما من تآمر المنافقين وتعرض صفاتهم للمسلمين ، وذكرها بعد آيات النجوى يوضّح لنا أنّ قسما ممّن ناجوا الرّسول كانوا من المنافقين ، حيث كانوا بهذا العمل يظهرون قربهم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتستّرون على مؤامراتهم ، وهذا ما سبّب أن يتعامل القرآن مع هذه الحالة بصورة عامّة.

يقول تعالى في البداية :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) .

هؤلاء القوم الذين «غضب الله عليهم» كانوا من اليهود ظاهرا كما عرّفتهم الآية (٦٠) من سورة المائدة بهذا العنوان حيث يقول تعالى :( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ) (١) .

مّ يضيف تعالى :( ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ ) فهم ليسوا أعوانكم في المصاعب والمشاكل ، ولا أصدقاءكم وممّن يكنون لكم الودّ والإخلاص ، إنّهم منافقون يغيّرون وجوههم كلّ يوم ويظهرون كلّ لحظة لكم بصورة جديدة.

وطبيعي أنّ هذا التعبير لا يتنافى مع قوله تعالى :( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) (٢) ، لأنّ المقصود هناك أنّهم بحكم أعدائكم ، بالرغم من أنّهم في الحقيقة ليسوا منهم.

ويضيف ـ أيضا ـ واستمرارا لهذا الحديث أنّ هؤلاء ومن أجل إثبات وفاءهم لكم فإنّهم يقسمون بالأيمان المغلّظة :( وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) .

وهذه طريقة المنافقين ، فيقومون بتغطية أعمالهم المنفّرة ووجوههم القبيحة بواسطة الأيمان الكاذبة والحلف الباطل ، في الوقت الذي تكون أعمالهم خير كاشف لحقيقتهم.

__________________

(١) المائدة ، الآية ٦٠.

(٢) المائدة ، الآية ٥١.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624