الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل3%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196771 / تحميل: 5655
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

١
٢

٣
٤

سُورَة

الحَديد

مدنيّة

وعَدَدُ آيَاتِها تِسع وعشرون آية

٥
٦

«سورة الحديد»

محتوى السورة :

نزلت هذه السورة في المدينة ، وادّعى البعض الإجماع على ذلك ، لذا فإنّ خصائصها هي نفس خصائص السور المدنية ، فإنّها بالإضافة إلى تحكيم الضوابط العقائدية فإنّها تستعرض تعليمات عملية عديدة خصوصا في المجادلات الاجتماعية والحكومية ، كما نشاهد نماذج لذلك في الآيات (١٠ ، ١١ ، ٢٥) من هذه السورة.

ونستطيع أن نقسّم موضوعات هذه السورة إلى سبعة أقسام :

الأوّل : الآيات الاولى من هذه السورة لها بحث جامع ولطيف حول التوحيد وصفات الله تعالى ، وتذكّر ما يقرب من عشرين صفة من الصفات الإلهيّة ، حيث تجعل الإنسان المدرك لها في مستوى عال من المعرفة الإلهيّة.

الثاني : يتحدّث عن عظمة القرآن ، هذا النور الإلهي الذي أشرق في ظلمات الشرك.

الثالث : يستعرض وضع المؤمنين والمنافقين في يوم القيامة ، حيث أنّ القسم الأوّل يأخذ طريقه إلى الجنّة في ظلّ نور إيمانهم ، والقسم الثاني يبقى في ظلمات الشرك والكفر ، وبهذا تعكس السورة في أبحاثها الأصول الإسلامية الثلاثة : التوحيد والنبوّة والمعاد.

الرابع : تتحدّث الآيات فيه عن الدعوى إلى الإيمان والخروج من الشرك ، وعن مصير الأقوام الضالّة من الأمم السابقة.

الخامس : جزء مهمّ من هذه السورة يتحدّث حول الإنفاق في سبيل الله ،

٧

وخصوصا في تقوية أسس الجهاد في سبيل الله ، وأنّ مال الدنيا ليس له وزن وقيمة.

السادس : في قسم قصير من الآيات ـ إلّا أنّه واف ومستدلّ ـ يأتي الحديث عن العدالة الاجتماعية والتي هي إحدى الأهداف الأساسية للأنبياء.

السابع : وفيه تتحدّث الآيات عن سلبية الرهبانية والانزواء الاجتماعي وأنّ ذلك يمثّل ابتعادا عن الخطّ الإسلامي.

ومن الطبيعي أنّ بين ثنايا هذه البحوث وردت نقاط اخرى متناسبة شكلت في النهاية مجموعة اتّجاهات بنّاءة في مجال الإيقاظ والهداية.

وبالضمن فإنّ تسمية هذه السورة بـ (سورة الحديد) هو لما جاء في الآية ٢٥ من السورة من ذكر كلمة الحديد.

* * *

فضيلة تلاوة سورة الحديد :

وردت في الروايات الإسلامية نقاط جديرة بالملاحظة حول فضيلة تلاوة سورة الحديد ، وممّا لا شكّ فيه أنّ المقصود في التلاوة هي تلاوة التدبّر والتفكّر الذي يكون توأما ، مع العمل.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله ورسوله)(١) .

ونقل في حديث آخر عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه كان يتلو (المسبّحات) قبل النوم (والمسبّحات هي السور التي تبدأ بـ (سبّح لله ، أو يسبّح لله. وهي خمس سور : سورة الحديد والحشر والصفّ والجمعة والتغابن) ويقول : «إنّ فيهنّ آية

__________________

(١) مجمع البيان بداية سورة الحديد.

٨

أفضل من ألف آية»(١) .

وطبيعي أنّ الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعيّن هذه الآية ، إلّا أنّ بعض المفسّرين احتمل أن تكون آخر آية في سورة الحشر ، بالرغم من عدم وجود دليل واضح على هذا المعنى(٢) .

ونقرأ حديثا عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : (من قرأ المسبّحات كلّها قبل أن ينام لم يمت حتّى يرى القائم ، وإن مات كان في جوار رسول الله».

* * *

__________________

(١) نفس المصدر إضافة إلى الدرّ المنثور ج ٦ ، ص ١٧.

(٢) مجمع البيان بداية سورة الحديد.

٩

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) )

التّفسير

آيات للمتفكّرين :

قلنا : إنّ هذه السورة بدأت بقسم التوحيد ، الذي يشتمل على عشرين صفة من صفات الله سبحانه ، تلك الصفات التي بمعرفتها يصل الإنسان إلى مستوى عال من المعرفة الإنسانية بالله ، وتعمّق معرفته بذاته المقدّسة ، وهذه الأوصاف والتي تشير إلى جانب من صفات جلاله وجماله ، كلّما تعمّق العلماء وأهل الفكر فيها توصّلوا إلى حقائق جديدة عن الذات الإلهيّة المقدّسة.

عند ما سئل الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام عن التوحيد أجاب : «إنّ اللهعزوجل

١٠

علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون فأنزل الله تعالى :( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) ، والآيات في سورة الحديد إلى قوله :( عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) ومن رام وراء ذلك فقد هلك»(١) .

يستفاد من هذا الحديث أنّ هذه الآيات تعطي للظمأى من طلّاب الحقيقة أقصى حدّ للمعرفة الممكنة.

وعلى كلّ حال فإنّ أوّل آية من هذه السورة بدأت بتسبيح وتنزيه اللهعزوجل حيث يقول سبحانه :( سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

لقد انتهت السورة السابقة بأمر التسبيح ، وابتدأت هذه السورة المباركة بالتسبيح الإلهي أيضا. والجدير بالملاحظة أنّ في سور المسبّحات الخمس جاءت كلمة التسبيح ثلاث مرّات بصيغة الماضي (سبّح) في سور الحديد والحشر والصفّ ، وفي موردين جاءت بصيغة المضارع (يسبّح) في سور الجمعة والتغابن ، وهذا الاختلاف في التعبير قد يكون إشارة إلى أنّ جميع الكائنات في العالم قد سبّحت وتسبّح لذاته المقدّسة في الماضي والمستقبل.

وحقيقة «التسبيح» عبارة عن نفي كلّ عيب ونقص(٢) عن الذات الإلهيّة ، وشهادة جميع الكائنات في هذا العالم بطهارة ذاته من كلّ عيب ، حيث أنّ النظم والحساب والحكمة والعجائب في نظام الكائنات هذه جميعها تذكر (الله) بلسان حالها وتسبّحه وتحمده وتنزّهه وتؤكّد أنّ لخالقها قدرة لا متناهية ، وحكمة لا محدودة.

ولذا جاء في نهاية هذه الآية :( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

كما يحتمل أن تتمتّع جميع ذرّات الوجود بنوع من الإدراك والشعور بحيث

__________________

(١) أصول الكافي طبقا لنقل تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٣١.

(٢) «التسبيح» في الأصل من مادّة (سبح) على وزن (مسح) بمعنى الحركة السريعة في الماء والهواء. والتسبيح أيضا هو الحركة السريعة في مسير عبادة اللهعزوجل (الراغب في المفردات).

١١

تسبّح وتحمد اللهعزوجل في عالمها الخاصّ ، بالرغم من عدم معرفتنا لذلك بسبب محدودية علمنا واطّلاعنا.

من أجل تفصيل أكثر حول حمد وتسبيح الكائنات أجمع يراجع نهاية الآية (٤٤) من سورة الإسراء.

ويجدر الانتباه إلى أنّ (ما) في جملة (سبّح لله ما في السماوات) لها معنى واسع بحيث تشمل كلّ موجودات العالم ، أعمّ من ذوي العقول والأحياء والجمادات(١) .

وبعد ذكر صفتين من صفات الذات الإلهية يعني (العزّة والحكمة) يتطرّق إلى (مالكيّته وتدبيره ، وقدرته في عالم الوجود) والتي هي من مستلزمات القدرة والحكمة ، حيث يقول تعالى :( لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

إنّ مالكية اللهعزوجل لعالم الوجود ليست مالكية اعتبارية وتشريعية ، إذ أنّها مالكية حقيقيّة وتكوينيّة. وهذا يعني أنّ الله سبحانه محيط بكلّ شيء ، وأنّ جميع العالم في قبضته وقدرته وتحت إرادته وأوامره ، لذا فقد جاء الحديث بعد هذا الكلام عن (الإحياء والإفناء) والقدرة على كلّ شيء.

إلى هنا ذكرت في الآيتين الآنفتين ستّة أوصاف من صفاته الكريمة.

الاختلاف بين «العزّة» و «القدرة» هو أنّ العزّة أكثر دلالة على تحطيم المقابل والقدرة تعني توفير الأسباب وإيجادها. وبناء على هذا فإنّهما يعدّان وصفين مختلفين بالرغم من أنّهما مشتركان في أصل القدرة (يرجى ملاحظة ذلك).

مسألة (الإحياء والإماتة) قد ذكرت في آيات عديدة في القرآن الكريم ، وفي الواقع انّهما من الموضوعات التي لم تتوضّح أسرارهما المعقّدة لأي شخص ، كما

__________________

(١) بالرغم من أنّ (سبّح) فعل متعدّ بدون حرف جرّ حيث يقال مثلا سبّحوه إلّا أنّه هنا قد عدي باللام ، ومن المحتمل أن يكون ذلك للتأكيد.

١٢

لا يوجد شخص يعلم ـ بوضوح ـ حقيقة الحياة ولا حقيقة الموت ، إلّا أنّ الذي نعلمه عنهما هو آثارهما. والعجيب أنّ الحياة أقرب شيء لنا ولكنّنا لا نعرف أي شيء عن حقيقتها وأسرارها.

والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا أنّ جملة (يحيي ويميت) جاءت بصورة فعل مضارع ممّا يدلّل على استمرار مسألة الحياة والموت على طول الأزمنة ، وإطلاق هذين المعنيين لا يشمل حياة وموت الإنسان في هذا العالم فقط ، بل يشمل كلّ حياة وممات بدءا من الملائكة وانتهاء بكلّ موجود حيّ من الحيوانات والنباتات المختلفة ، كما أنّها لا تقتصر على الحياة الدنيا فقط ، بل تشمل حياة البرزخ والقيامة أيضا.

نعم ، إنّ الموت والحياة بكلّ أشكالها بيد القدرة الإلهية المتعالية.

ثمّ يتطرّق سبحانه إلى ذكر خمس صفات اخرى حيث يقول :( هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .

الوصف هنا بـ( الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ) تعبير رائع عن أزليّته وأبديّته تعالى ، لأنّنا نعلم أنّه وجود لا متناهي وأنّه (واجب الوجود) أي أنّ وجوده من نفس ذاته ، وليس خارجا عنه حتّى تكون له بداية ونهاية ، وبناء على هذا فإنّه كان من الأزل وسيبقى إلى الأبد.

إنّه بداية عالم الوجود ، وهو الذي سيبقى بعد فناء العالم أيضا.

وبناء على هذا فإنّ التعبير بـ( الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ) ليس له زمان خاصّ أبدا ، وليس فيه إشارة إلى مدّة زمنية معيّنة.

والوصف بـ( الظَّاهِرُ وَالْباطِنُ ) هو تعبير آخر عن الإحاطة الوجودية ـ أي وجود الله ـ بالنسبة لجميع الموجودات ، أي نّه أظهر من كلّ شيء لأنّ آثاره شملت جميع مخلوقاته في كلّ مكان ، وهو خفيّ أكثر من كلّ شيء أيضا لأنّ كنه ذاته لم يتّضح لأحد.

١٣

ولقد عبّر بعض المفسّرين عن ذلك بأنّه : الأوّل بلا ابتداء ، والآخر بلا انتهاء ، والظاهر بلا اقتراب ، والباطن بلا احتجاب.

وعبّر البعض الآخر عنه تعبيرا رائعا آخر : الأوّل ببرّه ، والآخر بعفوه ، والظاهر بإحسانه وتوفيقه إذا أطعته ، والباطن بستره إذا عصيته.

وباختصار فإنّه محيط بكلّ شيء ، وإنّه (بداية ونهاية ، وظاهر وباطن) عالم الوجود.

وفسّر بعض المفسّرين (الظاهر) هنا بمعنى «الغالب» (من الظهور بمعنى الغلبة) ونلاحظ في بعض خطب نهج البلاغة قرينة على هذا المعنى حيث يقولعليه‌السلام حول خلق الأرض : «هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته ، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته»(١) .

ولا مانع من جمع هذين التّفسيرين.

وعلى كلّ حال فإنّ أحد نتائج هذه الصفات المتقدّمة هو ما جاء في نهاية الآية الكريمة :( وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) إذ أنّ من كان في البداية ويبقى في النهاية ، وموجود في ظاهر وباطن العالم سيكون عالما بكلّ شيء قطعا.

* * *

بحث

جمع الأضداد في صفات الله :

من الواضح أنّ الكثير من الصفات لا يمكن جمعها فينا نحن البشر ، وكذا الأمر بالنسبة للموجودات الاخرى. فمثلا : من كان في أوّل الصفّ لا يمكن أن يكون في نفس الوقت في آخره ، وكذلك إذا كنت ظاهرا فليس بالمقدور أن تكون

__________________

(١) نهج البلاغة ، خطبة ١٨٦.

١٤

في نفس الوقت باطنا والعكس صحيح أيضا. والسبب في ذلك هو محدودية وجودنا ، فالوجود المحدود لا يستطيع أن يكون غير ذلك ، إلّا أنّ الحديث عند ما يكون عن صفات الله فسيتغيّر الأمر ، حيث يمكن الجمع في هذه الحالة بين الظاهر والباطن ، وبين البداية والنهاية ، وذلك لطبيعة صفات الذات الإلهيّة المقدّسة اللامتناهية ، ولذلك فلا عجب هنا.

وقد وردت أحاديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام فيها توضيحات رائعة تساعد على تفسير هذه الآيات ذات المحتوى العميق ، ومن جملتها ما ورد في صحيح مسلم عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «اللهمّ أنت الأوّل فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء»(١) .

ويقول أمير المؤمنينعليه‌السلام : «ليس لأوّليّته ابتداء ، ولا لأزليّته انقضاء ، هو الأوّل لم يزل ، والباقي بلا أجل الظاهر لا يقال ممّ؟ والباطن لا يقال فيم؟»(٢) .

ويقول الإمام المجتبىعليه‌السلام في خطبة له : «الحمد لله الذي لم يكن فيه أوّل معلوم ، ولا آخر متناه فلا تدرك العقول وأوهامها ، ولا الفكر وخطراتها. ولا الألباب وأذهانها صفته ، فتقول متى ولا بدع ممّا؟ ولا ظاهر على ما؟ ولا باطن فيما؟»(٣) .

* * *

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٠٦.

(٢) نهج البلاغة ، خطبة ١٦٣.

(٣) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٣٦.

١٥

الآيات

( هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦) )

التفسير

على عرش القدرة دائما :

تحدّثت الآيات السابقة عن إحدى عشرة صفة للذات الإلهيّة المقدّسة ، وتبيّن الآيات أعلاه أوصافا اخرى حيث أشير في الآية الاولى مورد البحث إلى خمسة أوصاف اخرى من صفات جلاله وجماله.

ويبدأ الحديث عن مسألة الخلقة حيث يقول سبحانه :( هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) .

١٦

لقد ذكرت مسألة الخلقة في (ستّة أيّام) سبع مرّات في القرآن الكريم ، المرّة الاولى في الآية ٥٤ من سورة الأعراف ، والأخيرة هي هذه الآية مورد البحث (الحديد ـ الآية ٤).

وكما قلنا سابقا فإنّ المقصود من (اليوم) في هذه الآيات ليس المعنى المتعارف (لليوم) ، بل المقصود هو (الزمان) سواء كان هذا الزمان قصيرا أو طويلا حتّى لو بلغ ملايين السنين ، وهذا التعبير يستعمل أيضا في لغة العرب واللغات المختلفة ، كما يقال مثلا : اليوم يحكم فلان ، وغدا سيكون لغيره ، بمعنى الدورة الزمنية.

وقد بيّنا هذا المعنى مع شرح وأمثلة في نهاية الآية ٥٤ من سورة الأعراف.

وطبيعي أنّه لا يوجد أي مانع للهعزوجل من خلق جميع العالم في لحظة واحدة ، ولكن في هذه الحالة سوف لا تتجلّى عظمة الله وقدرته وعلمه بشكل جيّد ، وبعكس عظمة وقدرة وعلم الله بصورة أقل ، ذلك خلق هذه العوالم خلال ملياردات السنين وفي أزمنة وحالات مختلفة ووفقا لبرامج منظّمة ومحسوبة سيدلل أكثر على قدرته وحكمته ، بالإضافة إلى أنّ التدرّج في الخلق سيكون نموذجا للسير التكاملي للإنسان ، وعدم السرعة والاستعجال في الوصول إلى الأهداف المختلفة.

ثمّ تتطرّق الآيات إلى مسألة الحكومة وتدبير العالم حيث يقول سبحانه :( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) .

إنّ زمام حكومة وتدبير العالم كانت دائما بيده ولا زالت ، وبدون شكّ فإنّ الله تعالى ليس جسما ، ولذا فليس معنى «العرش» هنا هو عرش السلطة ، والتعبير كناية لطيفة عن الحاكمية المطلقة لله سبحانه ونفوذ تدبيره في عالم الوجود.

«عرش» في اللغة بمعنى الشيء المسقوف ، وتطلق أحيانا للسقف نفسه ، ويعني أيضا التخوت العالية (عرش السلاطين).

١٧

وتستعمل هذه اللفظة كناية عن القدرة أيضا كما يقال في اللغة العربية : (فلان ثلّ عرشه)(١) .

وعلى كلّ حال ـ وخلافا لما يتصوّره البعض ممّن أعمى الله بصيرتهم أنّه سبحانه وتعالى قد خلق العالم وتركه وشأنه ـ فإنّ زمام تدبير العالم وتسيير حكومته في كفّ قدرته ، وارتباط أنظمة العالم ، بل كلّ فرد من أفراد الوجود بذاته المقدّسة ، بحيث إذا أعرض لحظة واحدة عن الكائنات وقطع فيضه عنهم فإنّ الوجود سينتهي.

والتوجّه إلى هذه الحقيقة يعطي للإنسان إدراكا وبصيرة ، وهي أنّ الله تعالى في كلّ مكان ومع كلّ شيء ، وهو يرى ويسمع ويراقب ويدير الوجود بحكمته ولطفه.

ثمّ يستعرض نوعا آخر من علمه اللامتناهي بقوله تعالى :( يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها ) .

وبالرغم من أنّ جميع هذه الأمور التي ذكرت في الآيات السابقة قد جمعت في تعبير( وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) إلّا أنّ توضيح هذه الأمور يعطي للإنسان توجّها أكثر في مجال سعة علم الله.

نعم ، إنّ جميع ما ينفذ في الأرض يعلم به الله ، سواء قطرات المطر والسيول.

ومن بذور النبات التي تنتشر في الأرض بمساعدة الهواء والحشرات.

ومن جذور الأشجار التي تنفذ ـ بحثا عن الماء والغذاء ـ إلى أعماق الأرض.

ومن أنواع المعادن والذخائر التي كانت يوما على سطح الأرض ثمّ دفنت فيها.

من أجساد الموتى وأنواع الحشرات نعم انّه يعلم بكلّ ذلك.

__________________

(١) لقد ذكرنا توضيحات أكثر حول حقيقة العرش في نهاية الآية (٥٤) من سورة الأعراف ، وفي نهاية الآية (٢٥٥) من سورة البقرة.

١٨

ثمّ انّه يعلم بالنباتات التي تخرج من الأرض.

وبالعيون التي تفور من أعماق التراب والصخور.

وبالمعادن والكنوز التي تظهر.

وبالبشر الذين ظهروا ثمّ ماتوا.

وبالبراكين التي تخرج من أعماقها.

وبالحشرات التي تخرج من بيوتها وجحورها.

وبالغازات التي تتصاعد منها.

وبأمواج الجاذبية التي تصدر منها الجاذبية الله تعالى يعلم بذلك جزءا جزءا وذرّة ذرّة.

وكذلك ما ينزل من السماء من قطرات المطر إلى أشعّة الشمس الباعثة للحياة.

ومن الأعداد العظيمة من الملائكة إلى أنوار الوحي والكتب السماوية.

ومن أشعّة الكونية إلى الشهب والنيازك المنجذبة نحو الأرض ، إنّه عالم بأجزاء كلّ ذلك.

وكذلك ما يصعد إلى السماء ، أعمّ من الملائكة ، وأرواح البشر ، وأعمال العباد ، وأنواع الأدعية ، وأقسام الطيور ، والأبخرة ، والغيوم وغير ذلك ، ممّا نعلمه وممّا لا نعلمه ، فإنّه واضح عند الله وفي دائرة علمه.

وإذا فكّرنا قليلا بأنّ في كلّ لحظة تدخل الأرض ملايين الملايين من الموجودات المختلفة ، وملايين الملايين من الموجودات تخرج منها ، وملايين الملايين تنزل من السماء أو تصعد إليها ، حيث تخرج عن العدّ والحصر والحدّ ، ولا يستطيع أي مخلوق أن يحصيها إذا فكّرنا بهذا الموضوع قليلا فسنعرف مدى اتّساع علمه سبحانه.

وأخيرا في رابع وخامس صفة له سبحانه يركّز حول نقطة مهمّة حيث يقول :

١٩

( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) .

وكيف لا يكون معنا في الوقت الذي نعتمد عليه ، ليس في إيجادنا فحسب بل في البقاء لحظة بلحظة ـ أيضا ـ ونستمدّ منه العون ، إنّه روح عالم الوجود ، بل هو أعلى من ذلك وأسمى.

فالله معنا في كلّ الحالات وفي كلّ الأوقات ، فهو معنا يوم كنّا ذرّة تراب مهملة ، وهو معنا يوم كنّا أجنّة في بطون أمّهاتنا ، وهو معنا طيلة عمرنا ، وفي عالم البرزخ فهل بالإمكان ـ مع هذا ـ ألّا يكون مطّلعا علينا؟

الحقيقة أنّ الإحسان بأنّ الله معنا في كلّ مكان يعطي للإنسان عظمة وجلالا من جهة ، ومن جهة اخرى يخلق فيه اعتمادا على النفس وشجاعة وشهامة ، ومن جهة ثالثة فإنّه يثير إحساسا شديدا بالمسؤولية ، لأنّ الله حاضر معنا في كلّ مكان ، وناظر ومراقب لأعمالنا ، وهذا أكبر درس تربوي لنا. وهذا الإعتقاد يمثّل دافعا جدّيا للتقوى والطهارة والعمل الصالح في الإنسان ، ويعتبر رمز عظمته وعزّته.

أجل : إنّ مسألة أنّ الله تعالى معنا دائما وفي كلّ مكان هي حقيقة وليست كناية ومجازا ، حقيقة مقبولة للنفس ومربّية للروح ، ومولّدة للخوف والمسؤولية.

ولذا ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ من أفضل إيمان المرء أن يعلم أنّ الله تعالى معه حيث كان»(١) .

ونقرأ في حديث آخر أنّ موسىعليه‌السلام قال : «أين أجدك يا ربّ ، قالعزوجل : يا موسى إذا قصدت إليّ فقد وصلت إليّ»(٢) .

وفي الأساس فإنّ هذه (المعيّة) أي كون اللهعزوجل مع عباده ، ظريفة ودقيقة بحيث أنّ كلّ إنسان مؤمن متفكّر يدركها بقدر فكره وإيمانه.

وبعد مسألة الحاكمية والتدبير يأتي الحديث عن مسألة مالكيته سبحانه في

__________________

(١) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٧١.

(٢) روح البيان ، ج ٩ ، ص ٣٥١.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624