الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196945 / تحميل: 5659
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

سبب النّزول

ذكر المفسّرون والمحدّثون والمؤرّخون بصورة مفصّلة سبب نزول هذه الآيات ، وخلاصة ما ذكروه هي ما يلي :

كان في المدينة ثلاث قبائل من اليهود وهم : «بنو النضير» ، و «بنو قريظة» ، و «بنو قينقاع» ، ويذكر أنّهم لم يكونوا من أهل الحجاز أصلا ، وإنّما قدموا إليها واستقرّوا فيها ، وذلك لما قرءوه في كتبهم العقائدية من قرب ظهور نبي في أرض المدينة ، حيث كانوا بانتظار هذا الظهور العظيم.

وعند ما هاجر الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة عقد معهم حلفا بعدم تعرّض كلّ منهما للآخر ، إلّا أنّهم كلّما وجدوا فرصة مناسبة لم يألوا جهدا في نقض العهد.

ومن جملة ذلك أنّهم نقضوا العهد بعد غزوة احد ، التي وقعت في السنة الثالثة للهجرة.

فقد ذهب «كعب بن الأشرف» زعيم قبيلة «بني النضير» مع أربعين فارسا إلى مكّة ، وهنالك عقد مع قريش حلفا لقتال محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجاء أبو سفيان مع أربعين شخصا ، وكعب بن الأشرف مع أربعين نفرا من اليهود ، ودخلا معا إلى المسجد الحرام ووثقوا العهد في حرم الكعبة ، فعلم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك عن طريق الوحي.

والمؤامرة الاخرى هي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل يوما مع شيوخ الصحابة وكبارهم إلى حي بني النضير ، وذلك بحجّة استقراض مبلغ من المال منهم كديّة لقتيلين من طائفة بني عامر ، قتلهما (عمرو بن اميّة) أحد المسلمين ، وربّما كان الهدف من ذلك هو معرفة أخبار اليهود عن قرب حتّى لا يباغت المسلمون بذلك.

فبينما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتحدّث مع كعب بن الأشرف إذ حيكت مؤامرة يهودية لاغتيال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتنادى القوم : إنّكم لا تحصلون على هذا الرجل بمثل هذه الحالة وها هو قد جلس بالقرب من حائطكم ، فليذهب أحدكم إلى السطح ويرميه بحجر عظيم ويريحنا منه ، فقام «عمرو بن جحاش» وأبدى

١٦١

استعداده لتنفيذ الأمر ، وذهب إلى السطح لتنفيذ عمله الإجرامي ، إلّا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علم عن طريق الوحي بذلك ، فقفل راجعا إلى المدينة دون أن يتحدّث بحديث مع أصحابه ، إلّا أنّ الصحابة تصوّروا أنّ الرّسول سيعود مرّة اخرى ، ولمّا عرفوا فيما بعد أنّ الرّسول في المدينة عاد الصحابة إليها أيضا.

وهنا أصبح من المسلّم لدى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقض اليهود للعهد ، فأعطى أمرا للاستعداد والتهيّؤ لقتالهم.

وجاء في بعض الروايات أيضا أنّ أحد شعراء بنو النضير هجا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشعر يتضمّن مسّا بكرامة الرّسول وهذا دليل آخر لنقضهم العهد.

وبدأت خطّة المسلمين في مواجهة اليهود وكانت الخطوة الاولى أن أمر رسول الله (محمّد بن سلمة) أن يقتل كعب بن الأشرف زعيم اليهود ، إذ كانت له به معرفة ، وقد نفّذ هذا العمل بعد مقدّمات وقتله.

إنّ قتل كعب بن الأشرف أوجد هزّة وتخلخلا في صفوف اليهود ، عند ذلك أعطى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرا للمسلمين أن يتحرّكوا لقتال هذه الفئة الباغية الناقضة للعهد.

وعند ما علم اليهود بهذا لجأوا إلى قلاعهم المحكمة وحصونهم القويّة ، وأحكموا الأبواب ، إلّا أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أن تقلع أشجار النخيل القريبة من القلاع.

لقد أنجز هذا العمل لأسباب عدّة : منها أنّ حبّ اليهود لأموالهم قد يخرجهم من قلاعهم بعد رؤية تلف ممتلكاتهم ، وبالتالي يكون اشتباك المسلمين معهم مباشرة ، كما يوجد احتمال آخر ، وهو أنّ هذه الأشجار كانت تضايق المسلمين في مناوراتهم مع اليهود قرب قلاعهم وكان لا بدّ من أن تقلع.

وعلى كلّ حال ، فقد ارتفع صوت اليهود عند ما شعروا بالضيق ، وهم محاصرون في حصونهم فقالوا : يا محمّد ، لقد كنت تنهى عن هذا ، فما الذي حدا

١٦٢

بك لتأمر قومك بقطع نخيلنا؟

فنزلت الآية (٥) من الآيات محلّ البحث وبيّنت بأنّ هذا العمل هو أمر من اللهعزوجل .

واستمرّت المحاصرة لعدّة أيّام ، ومنعا لسفك الدماء اقترح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم أن يتركوا ديارهم وأراضيهم ويرحلوا من المدينة ، فوافقوا على هذا وحملوا مقدارا من أموالهم تاركين القسم الآخر واستقرّ قسم منهم في «أذرعات الشام» ، وقليل منهم في «خيبر» ، وجماعة ثالثة في «الحيرة» ، وتركوا بقيّة أموالهم وأراضيهم وبساتينهم وبيوتهم بيد المسلمين بعد أن قاموا بتخريب ما يمكن لدى خروجهم منها.

وقد حدثت هذه الحادثة بعد غزوة (احد) بستّة أشهر ، إلّا أنّ آخرين قالوا : إنّها وقعت بعد غزوة بدر بستّة أشهر(١) .

* * *

التّفسير

نهاية مؤامرة يهود بني النضير :

بدأت هذه السورة بتنزيه وتسبيح الله وبيان عزّته وحكمته ، يقول سبحانه :( سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

وهذه في الحقيقة مقدّمة لبيان قصّة يهود بني النضير ، أولئك الذين انحرفوا عن طريق التوحيد ومعرفة الله وصفاته ، وبالإضافة إلى كونهم مغرورين بإمكاناتهم وقدرتهم وعزّتهم ويتآمرون على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

التسبيح العامّ الوارد في الآية لجميع موجودات الأرض والسماء ، أعمّ من

__________________

(١) مجمع البيان وتفسير علي بن إبراهيم وتفسير القرطبي ونور الثقلين (نهاية الآيات مورد البحث) مقتبس باختصار.

١٦٣

الملائكة والبشر والحيوانات والنباتات والجمادات يمكن أن يكون بلسان «القال» ويمكن أن يكون بلسان «حال» هذه المخلوقات حول دقّة النظام المثير للعجب لها في خلق كلّ ذرّة من ذرّات هذا الوجود ، وهو التسليم المطلق لله سبحانه والاعتراف بعلمه وقدرته وعظمته وحكمته.

ومن جهة اخرى فإنّ قسما من العلماء يعتقدون أنّ كلّ موجود في العالم له نصيب وقدر من العقل والإدراك والشعور ، بالرغم من أنّنا لم ندركه ولم نطلع عليه ، وبهذا الدليل فإنّ هذه المخلوقات تسبّح بلسانها ، بالرغم من أنّ آذاننا ليس لها القدرة على سماعها ، والعالم بأجمعه منشغل بحمد الله وتسبيحه وإن كنّا غير مطّلعين على ذلك.

الأولياء الذين فتحت لهم عين الغيب يتبادلون أسرار الوجود مع كلّ موجودات العالم ، ويسمعون نطق الماء والطين بصورة واضحة ، إذ أنّ هذا النطق محسوس من قبل أهل المعرفة. (وهناك شرح أكثر حول هذا الموضوع في تفسير الآية ٤٤ من سورة الإسراء).

وبعد بيان المقدّمة أعلاه نستعرض أبعاد قصّة يهود بني النضير في المدينة حيث يقول سبحانه :( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ) .

«حشر» في الأصل تحريك جماعة وإخراجها من مقرّها إلى ميدان حرب وما إلى ذلك ، والمقصود منه هنا اجتماع وحركة المسلمين من المدينة إلى قلاع اليهود ، أو اجتماع اليهود لمحاربة المسلمين ، ولأنّ هذا أوّل اجتماع من نوعه فقد سمّي في القرآن الكريم بأوّل الحشر ، وهذه بحدّ ذاتها إشارة لطيفة إلى بداية المواجهة المقبلة مع يهود بني النضير ويهود خيبر وأمثالهم.

والعجيب أنّ جمعا من المفسّرين ذكروا احتمالات للآية لا تتناسب أبدا مع محتواها ، ومن جملتها أنّ المقصود بالحشر الأوّل ما يقع مقابل حشر يوم القيامة ،

١٦٤

وهو القيام من القبور إلى الحشر ، والأعجب من ذلك أنّ البعض أخذ هذه الآية دليلا على أنّ حشر يوم القيامة يقع في أرض الشام التي ابعد اليهود إليها ، وهذه الاحتمالات الضعيفة ربّما كان منشؤها من وجود كلمة «الحشر» ، في حين أنّ هذه الكلمة لم تكن تستعمل هذا بمعنى الحشر في القيامة ، بل تطلق على كلّ اجتماع وخروج إلى ميدان ما ، قال تعالى :( وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ ) (١) .

وكذلك ما ورد في الاجتماع العظيم لمشاهدة المحاججة التي خاضها موسىعليه‌السلام مع سحرة فرعون حيث يقول سبحانه :( وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ) (٢) .

ويضيف البارئعزوجل :( ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ ) لقد كانوا مغرورين وراضين عن أنفسهم إلى حدّ أنّهم اعتمدوا على حصونهم المنيعة ، وقدرتهم الماديّة الظاهرية. إنّ التعبير الذي ورد في الآية يوضّح لنا أنّ يهود بني النضير كانوا يتمتّعون بإمكانات واسعة وتجهيزات وعدد كثيرة في المدينة ، بحيث أنّهم لم يصدّقوا أنّهم سيغلبون بهذه السهولة ، وذلك ظنّ الآخرين أيضا.

ولأنّ الله سبحانه يريد أن يوضّح للجميع أن لا قوّة في الوجود تقاوم إرادته ، فإنّ إخراج اليهود من أراضيهم وديارهم بدون حرب ، هو دليل على قدرته سبحانه ، وتحدّ لليهود الذين ظنّوا أنّ حصونهم مانعتهم من الله.

ولذلك يضيف ـ استمرارا للبحث الذي ورد في الآية ـ قوله تعالى :( فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ) نعم ، إنّ هذا الجيش غير المرئي هو جيش الخوف الذي يرسله الله تعالى في كثير من الحروب لمساعدة المؤمنين ، وقد خيّم على قلوبهم ، وسلب منهم قدرة

__________________

(١) النمل ، الآية ١٧.

(٢) سورة طه ، الآية ٥٩.

١٦٥

الحركة والمقاومة ، لقد جهّزوا وهيّئوا أنفسهم لقتال المهاجرين والأنصار غافلين عن إرادة الله تعالى ، حيث يرسل لهم جيشا من داخلهم ويجعلهم في مأزق حرج إلى حدّ ينهمكون فيه على تخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم من المسلمين.

صحيح أنّ مقتل زعيمهم «كعب بن الأشرف» ـ قبل الهجوم على قلاعهم وحصونهم ـ كان سببا في إرباكهم واضطراب صفوفهم ، إلّا أنّ من الطبيعي أنّ مقصود الآية غير ما تصوّره بعض المفسّرين ، فإنّ ما حدث كان نوعا من الإمداد الإلهي للمسلمين الذين حصل لهم مرّات عديدة حين جهادهم ضدّ الكفّار والمشركين.

والطريف هنا أنّ المسلمين كانوا يخرّبون الحصون من الخارج ليدخلوا إلى عمق قلاعهم ، واليهود كانوا يخرّبونها من الداخل حتّى لا يقع شيء مفيد منها بأيدي المسلمين ، ونتيجة لهذا فقد عمّ الخراب التامّ جميع قلاعهم وحصونهم.

وذكرت لهذه الآية تفاسير اخرى أيضا منها : أنّ اليهود كانوا يخربونها من الداخل لينهزموا ، أمّا المسلمون فتخريبهم لها من الخارج ليظفروا باليهود ويجهّزوا عليهم (إلّا أنّ هذا الاحتمال مستبعد).

أو يقال إنّ لهذه الآية معنى كنائي ، وذلك كقولنا : إنّ الشخص الفلاني هدم بيته وحياته بيده ، يعني أنّه بسبب جهله وتعنّته دمّر حياته.

أو أنّ المقصود من تخريب اليهود لبعض البيوت ، هو من أجل إغلاق الأزقّة الموجودة داخل القلاع ومنع المسلمين من التقدّم ولكي لا يستطيعوا السكن فيها.

أو أنّهم هدموا قسما من البيوت داخل القلعة حتّى إذا ما تحوّلت الحرب إلى داخلها يكون هنا لك مكان كاف للمناورة والحرب.

أو أنّ مواد بناء بعض البيوت كان ثمينا فخرّبوها لكي يحملوا ما هو مناسب منها ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب من الجميع.

وفي نهاية الآية ـ بعنوان استنتاج كلّي ـ يقول تعالى :( فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي

١٦٦

الْأَبْصارِ ) .

«اعتبروا» من مادّة (اعتبار) وفي الأصل مأخوذة من العبور ، أي العبور من شيء إلى شيء آخر ، ويقال لدمع العين «عبرة» بسبب عبور قطرات الدموع من العين ، وكذلك يقال (عبارة) لهذا السبب ، حيث أنّها تنقل المطالب والمفاهيم من شخص إلى آخر ، وإطلاق «تعبير المنام» على تفسير محتواه ، بسبب أنّه ينقل الإنسان من ظاهره إلى باطنه.

وبهذه المناسبة يقال للحوادث التي فيها دروس وعظات (عبر) لأنّها توضّح للإنسان سلسلة من التعاليم الكلية وتنقله من موضوع إلى آخر.

والتعبير بـ «اولي الأبصار» إشارة إلى الأشخاص الذين يتعاملون مع الحوادث بعين واقعية ويتوغلون إلى أعماقها.

كلمة (بصر) تقال دائما للعين الباصرة ، و «البصيرة» تقال للإدراك والوعي الداخلي(١) .

وفي الحقيقة أنّ «أولي الأبصار» هم أشخاص لهم القابلية على الاستفادة من (العبر) ، لذلك فإنّ القرآن الكريم يلفت نظرتهم للاستفادة من هذه الحادثة والاتّعاظ بها.

وممّا لا شكّ فيه أنّ المقصود من الإعتبار هو مقايسة الحوادث المتشابهة من خلال إعمال العقل ، كمقارنة حال الكفّار مع حال ناقضي العهد من يهود بني النضير ، إلّا أنّ هذه الجملة لا ترتبط أبدا بـ «القياسات الظنّية» التي يستفيد منها البعض في استنباط الأحكام الدينيّة.

والعجيب هنا أنّ بعض فقهاء أهل السنّة استفادوا من الآية أعلاه لإثبات هذا المقصود ، بالرغم من أنّ البعض الآخر لم يرتضوا ذلك.

__________________

(١) المفردات للراغب.

١٦٧

والخلاصة أنّ المقصود من العبرة والإعتبار في الآية أعلاه هو الانتقال المنطقي والقطعي من موضوع إلى آخر ، وليس العمل على أساس التصوّر والخيال.

وعلى كلّ حال فإنّ مصير طائفة «بني النضير» بتلك القدرة والعظمة والشوكة ، وبتلك الصورة من الاستحكامات القويّة ، صار موضع (عبرة) حيث أنّهم استسلموا لجماعة من المسلمين لا تقارن قوّاتها بقوّاتهم ، وبدون مواجهة مسلّحة ، بحيث كانوا يخرّبون بيوتهم بأيديهم وتركوا بقيّة أموالهم للمسلمين المحتاجين ، وتفرّقوا في بقاع عديدة من العالم ، في حين أنّ اليهود سكنوا في المدينة من أجل أن يدركوا النبي الموعود الذي ورد في كتبهم ، ويكونوا في الصفّ الأوّل من أعوانه كما ذكر المؤرّخون ذلك.

وبهذا الصدد نقرأ حديثا ورد عن الإمام الصادق حيث يقول : «كان أكثر عبادة أبي ذرّرحمه‌الله التفكّر والإعتبار»(١) .

ومع الأسف فإنّ كثير من الناس يفضّلون تجربة الشدائد والمحن والمصائب بأنفسهم ويذوقوا مرارة الخسائر شخصيّا ، ولا يعتبرون ولا يتّعظون بوضع الآخرين وما يواجهونه في أمثال هذه الموارد ، ويقول الإمام عليعليه‌السلام «السعيد من وعظ بغيره»(٢) .

وتضيف الآية اللاحقة( وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا ) .

وبدون شكّ فإنّ الجلاء عن الوطن وترك قسم كبير من رؤوس الأموال التي جهدوا جهدا بليغا في الحصول عليها ، هو بحدّ ذاته أمر مؤلم لهم ، وبناء على هذا فإنّ مراد الآية أعلاه أنّه لو لم يحلّ بهم هذا العذاب ، فإنّ بانتظار هم عذابا آخر هو القتل أو الأسر بيد المسلمين إلّا أنّ الله سبحانه أراد لهم التيه في الأرض

__________________

(١) كتاب الخصال مطابق لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ص ٢٧٤.

(٢) نهج البلاغة ، خطبة ٨٦.

١٦٨

والتشرّد في العالم ، لأنّ هذا أشدّ ألما وأسى على نفوسهم ، إذ كلّما تذكّروا أرضهم وديارهم ومزارعهم وبساتينهم التي أصبحت بيد المسلمين. وكيف أنّهم شردوا منها بسبب نقضهم العهد ومؤامراتهم ضدّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ ألمهم وحزنهم ومتاعبهم تضاعف وخاصّة على المستوى النفسي.

نعم ، إنّ الله أراد لهذه الطائفة المغرورة والخائنة ، أن تبتلى بمثل هذا المصير البائس.

وكان هذا عذابا دنيويا لهم ، إلّا أنّ لهم جولة اخرى مع عذاب أشدّ وأخزى ، ذلك هو عذاب الآخرة ، حيث يضيف سبحانه في نهاية الآية( وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ ) .

هذه عاقبتهم في الدنيا والآخرة ، وهي درس بليغ لكلّ من أعرض عن الحقّ والعدل وركب هواه ، وغرّته الدنيا وأعماه حبّ ذاته.

وبما أنّ ذكر هذه الحادثة مضافا إلى تجسيد قدرة الله وصدق الدعوة المحمّدية ، فهي في نفس الوقت تمثّل إنذارا وتنبيها لكلّ من يروم القيام بأعمال مماثلة لفعل بني النضير ، لذا ففي الآية اللاحقة يرشدنا سبحانه إلى هذا المعنى :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) (١) .

«شاقّوا» من مادّة (شقاق) وهي في الأصل بمعنى الشقّ والفصل بين شيئين ، وبما أنّ العدو يكون دائما في الطرف المقابل ، فإنّ كلمة (شقاق) تطلق على هذا العمل.

وجاء مضمون هذه الآية باختلاف جزئي جدّا في سورة الأنفال الآية ١٣ ، وذلك بعد غزوة بدر وانكسار شوكة المشركين ، والتي تبيّن عمومية محتواها من كلّ جهة ، في قوله تعالى :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ

__________________

(١) «من» شرطية وجزاؤها محذوف وتقديره : ومن يشاقق الله يعاقبه فإن الله شديد العقاب.

١٦٩

فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) .

والشيء الجدير بالملاحظة أنّ بداية الآية الكريمة طرحت مسألة العداء لله ورسوله ، إلّا أنّ الحديث في ذيل الآية اقتصر عن العداء لله سبحانه فقط ، وهو إشارة إلى أنّ العداء لرسول الله هو عداء لله أيضا.

والتعبير بـ( شَدِيدُ الْعِقابِ ) لا يتنافى مع كون الله «أرحم الراحمين» لأنّه في موضع العفو والرحمة فالله أرحم الراحمين ، وفي موضع العقاب والعذاب فإنّ الله هو أشدّ المعاقبين ، كما جاء ذلك في الدعاء : «وأيقنت أنّك أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة ، وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة»(١) .

وفي الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث نلاحظ جوابا على اعتراض يهود بني النضير على قطع المسلمين لنخيلهم ـ كما ورد في شأن النزول ـ بأمر من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتهيئة ظروف أفضل لقتال بني النضير أو لزيادة حزنهم وألمهم ، فيضطرّوا للنزول من قلاعهم ومنازلة المسلمين خارج القلعة وقد أثار هذا العمل غضب اليهود وحنقهم ، فقالوا : يا محمّد ، ألم تكن الناهي عن مثل هذه الأعمال؟ فنزلت الآية الكريمة مبيّنة لهم أنّ ذلك من أمر الله سبحانه حيث يقول البارئ :( ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ ) (٢) ( وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ ) .

«لينة» من مادّة (لون) تقال لنوع جيّد من النخل ، وقال آخرون : إنّها من مادّة (لين) بمعنى الليونة التي تطلق على نوع من النخل ، والتي لها أغصان ليّنة قريبة من الأرض وثمارها ليّنة ولذيذة.

وتفسّر (ليّنة) أحيانا بألوان وأنواع مختلفة من شجر النخيل ، أو النخل الكريم ، والتي جميعها ترجع إلى شيء واحد تقريبا.

__________________

(١) دعاء الافتتاح (من أدعية شهر رمضان المبارك).

(٢) «ما» في الآية أعلاه شرطية وجزاؤها (فبإذن الله).

١٧٠

وعلى كلّ حال فإنّ قسما من المسلمين أقدموا على قطع بعض نخيل بني النضير ، في الوقت الذي خالف البعض الآخر ذلك ، وهنا نزلت الآية أعلاه وفصلت نزاعهم في هذا الموضوع(١) .

وقال البعض الآخر : إنّ الآية دالّة على عمل شخصين من الصحابة ، وقد كان أحدهم يقوم بقطع الجيّد من شجر النخل ليغضب اليهود ويخرجهم من قلاعهم ، والآخر يقوم بقطع الرديء من الأشجار كي يبقي ما هو جيّد ومفيد ، وحصل خلاف بينهم في ذلك ، فنزلت الآية حيث أخبرت أنّ عملهما بإذن الله(٢) .

ولكن ظاهر الآية يدلّ على أنّ المسلمين قطعوا بعض نخل (اللينة) وهي نوع جيّد من النخل ، وتركوا قسما آخر ، ممّا أثار هذا العمل اليهود ، فأجابهم القرآن الكريم بأنّ هذا العمل لم يكن عن هوى نفس ، بل عن أمر إلهي صدر في هذا المجال ، وفي دائرة محدودة لكي لا تكون الخسائر فادحة.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا العمل كان استثناء من الأحكام الإسلامية الأوّلية التي تنهي عن قطع الأشجار وقتل الحيوانات وتدمير وحرق المزارع والعمل أعلاه كان مرتبطا بمورد معيّن حيث أريد إخراج العدو من القلعة وجرّه إلى موقع أنسب للقتال وما إلى ذلك ـ وعادة توجد استثناءات جزئيّة في كلّ قانون ، كما في جواز أكل لحم الميّت عند الضرورة القصوى والإجبار.

جملة( وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ ) ترينا على الأقل أنّ أحد أهداف هذا العمل هو خزي ناقضي العهد هؤلاء ، وكسر لشوكتهم وتمزيق لروحيّتهم.

* * *

__________________

(١) تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج ١١ ، ص ٩٣ ، وجاء هذا المعنى في الدرّ المنثور ، ج ٩ ، ص ١٨٨.

(٢) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٨٣.

١٧١

بحثان

١ ـ الجيوش الإلهيّة اللامرئية :

في الوقت الذي تعتبر القوى الماديّة أكبر سلاح لتحقيق الإنتصار من وجهة نظر الماديين ، فإنّ اعتماد المؤمنين يتمركز حول محورين (القيم المعنوية والإمكانات المادية) والذي قرأنا نموذجا منه في قصّة اندحار بني النضير كما بيّنت ذلك الآيات السابقة.

ونقرأ في هذه الآية أحد العوامل المؤثّرة في هذا الإنتصار حيث ألقى الله سبحانه الرعب في قلوب اليهود ، بحيث أخذوا يخرّبون بيوتهم بأيديهم ، وتخلّوا عن ديارهم وأموالهم مقابل السماح لهم بالخروج من المدينة.

وقد ورد هذا المعنى بصورة متكرّرة في القرآن الكريم ، منها ما ورد في قصّة اخرى حول قسم آخر من اليهود وهم (بنو قريظة). حيث اشتبكوا اشتباكا شديدا مع المسلمين بعد غزوة الأحزاب ، وفي هذا المعنى يقول سبحانه :( وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً ) .

وجاء هذا المعنى في غزوة بدر حيث يقول تعالى :( سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ) .

وبعض هذا الخوف الذي هو عبارة عن جيش إلهي غير مرئي يكاد يكون أمرا طبيعيّا ، ولكن بعضه يمثّل سرّا من الأسرار غير الواضحة لنا ، أمّا الطبيعي منه فانّ المؤمنين يرون أنفسهم منتصرين سواء قتل أو تغلّب على العدوّ. والشخص الذي يؤمن بهذا الإعتقاد لا يجد الخوف طريقا إليه ، ومثل هذا الإنسان سيكون أعجوبة في صموده وثباته كما يكون ـ أيضا ـ مصدر خوف وقلق لأعدائه ، والذي نلاحظه في عالم اليوم أنّ بلدانا عديدة تملك قدرات هائلة من الإمكانات العسكرية المتطورة والمادية الكبيرة ، تخشى من ثلّة من المؤمنين الصادقين

١٧٢

الذائدين عن الحقّ ، ويحاولون دائما تحاشي مواجهتهم.

وفي حديث حول هذا المعنى يقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نصرت بالرعب مسيرة شهر»(١) .

يعني أنّ الرعب لم يصب الأعداء في خطّ المواجهة فحسب ، بل أصاب من كان من الأعداء على مسافة شهر واحد من جيش الإسلام.

وحول جيوش الإمام المهديعليه‌السلام نقرأ أنّ ثلاثة جيوش تحت أمره وهم : (الملائكة ، والمؤمنون ، والرعب)(٢) .

وفي الحقيقة ، إنّ الأعداء يبدلّون كافّة إمكاناتهم لتجنّب الضربة من الخارج ، إلّا أنّهم غفلوا عن أنّ الله سبحانه يهزمهم داخليّا ، حيث أنّ الضربة الداخلية أوجع للنفس ، ولا يمكن تداركها بسهولة ، حتّى لو وضعت تحت تصرّفهم كلّ الأسلحة والجيوش ، فإنّها غير قادرة على أن تحقّق النصر مع فقدان المعنوية العالية والروحية المؤهّلة لخوض القتال ، وبالتالي فإنّ الفشل والخسران أمر متوقّع جدّا لأمثال هؤلاء.

٢ ـ مؤامرات اليهود المعاصرة

إنّ التاريخ الإسلامي اقترن منذ البداية بمؤامرات اليهود ، ففي كثير من الحوادث الأليمة والفجائع الدامية ترى أصابعهم مشهودة بشكل مباشر أو غير مباشر. والعجيب أنّ هؤلاء نزحوا إلى ديار الحجاز طمعا في أن يكونوا في الصفّ الأوّل من أصحاب النبي الموعود إلّا أنّهم بعد ظهوره أصبحوا من ألدّ أعدائه.

وعند ما نستقرئ حالتهم المعاصرة فإنّنا نلاحظ أيضا أنّهم متورّطون في أغلب المؤامرات المدبّرة ضدّ الإسلام ، ويتجسّد موقفهم هذا في داخل الأحداث

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٢ ، ص ٥١٩ ، (نهاية الآية ١٥١ / آل عمران).

(٢) إثبات الهداة ، ج ٧ ، ص ١٢٤.

١٧٣

تارة ومن خارجها اخرى ، وفي الحقيقة فإنّ هذا هو موضع تأمّل واعتبار لمن كان له قلب وبصيرة.

والطريق الوحيد لكسر شوكتهم كما يؤكّده تاريخ صدر الإسلام ، هو التعامل الحدّي والجدّي معهم ، خصوصا مع الصهاينة الذين لا يتعاملون بمبادئ العدل والحقّ أبدا ، بل منطقهم القوّة ، وبغيرها لا يمكن التفاهم معهم ، ومع هذا فإنّ خوفهم الحقيقي هو من المؤمنين الصادقين.

وإذا كان المسلمون المعاصرون مسلّحين بالإيمان والاستقامة المبدئية ـ كأصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فإنّ الرعب سيستحوذ على قلوب اليهود ونفوسهم ، وبالإمكان عندئذ إخراجهم من الأرض الإسلامية التي اغتصبوها بهذا الجيش الإلهي.

وهذا درس علّمنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاه قبل أربعة عشر قرنا.

* * *

١٧٤

الآيتان

( وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) )

سبب النّزول

بما أنّ هذه الآيات تكملة للآيات القرآنية السابقة التي تتحدّث عن اندحار يهود بني النضير ، لذا فإنّ سبب نزولها هو استمرار لنفس أسباب نزول الآيات السابقة. والتوضيح كما يلي :

بعد خروج يهود بني النضير من المدينة بقيت بساتينهم وأراضيهم وبيوتهم

١٧٥

وقسم من أموالهم في المدينة ، فأشار بعض شيوخ المسلمين على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تماشيا مع سنّة جاهلية ـ حيث قالوا له خذ الصفوة من أموالهم وربع ممتلكاتهم ، واترك لنا المتبقّي كي نقسّمه بيننا ، فنزلت الآيات أعلاه حيث أعلنت صراحة أنّ هذه الغنائم التي لم تكن بسبب قتال ، ولم تكن نتيجة حرب ، فإنّها جميعا من مختصات الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتباره رئيسا للدولة الإسلامية ، ويتصرّف بها كما يشاء ، وفقا لما يقدره من المصلحة في ذلك.

وسنلاحظ أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسّم هذه الأموال بين المهاجرين الفقراء في المدينة ، وعلى قسم من الأنصار من ذوي الفاقة(١) .

التّفسير

حكم الغنائم بغير الحرب :

إنّ هذه الآيات ـ كما ذكر سابقا ـ تبيّن حكم غنائم بني النضير ، كما أنّها في نفس الوقت توضّح حكما عاما حول الغنائم التي يحصل عليها المسلمون بدون حرب ، كما ذكر ذلك في كتب الفقه الإسلامي بعنوان (الفيء).

يقول الله تعالى :( وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ ) (٢) .

«أفاء» من مادّة (فيء) على وزن شيء ـ وهي في الأصل بمعنى الرجوع ، وإطلاق كلمة (فيء) على هذا اللون من الغنائم لعلّه باعتبار أنّ الله سبحانه قد خلق هذه النعم والهبات العظيمة في عالم الوجود في الأصل للمؤمنين ، وعلى رأسهم

__________________

(١) مجمع البيان نهاية الآيات مورد البحث وتفاسير اخرى.

(٢) «ما» في (ما أفاء الله ورسوله) موصولة في محلّ رفع مبتدأ وما في( فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ ) نافية ، ومجموع هذه الجملة خبر ، وهنالك احتمال ثان : وهو أنّ (ما) في (ما أفاء) شرطية ، (وما) الثانية مع جملتها تكون جوابا للشرط ومجيء (الفاء) في صدر جملة الخبر حينما تكون فيها شبهة بالشرط ، فلا إشكال فيه.

١٧٦

الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو أشرف الكائنات ، وبناء على هذا فإنّ الجاحدين لوجود الله والعاصين له بالرغم من امتلاكهم للبعض من هذه النعم بموجب القواعد الشرعية والعرفية ، إلّا أنّهم يعتبرون غاصبين لها ، ولذلك فإنّ عودة هذه الأموال إلى أصحابها الحقيقيين (وهم المؤمنون) يسمّى (فيئا) في الحقيقة.

«أوجفتم» من مادّة (إيجاف) بمعنى السّوق السريع الذي يحدث غالبا في الحروب.

«خيل» بمعناه المتعارف عليه (وهي اسم جنس وجمعها خيول)(١) .

«ركاب» من مادّة (ركوب) وتطلق في الغالب على ركوب الجمال.

والهدف من مجموع الجملة أنّ جميع الموارد التي لم يحدث فيها قتال وفيها غنائم ، فإنّها لا توزّع بين المقاتلين ، وتوضع بصورة تامّة تحت تصرّف رئيس الدولة الإسلامية وهو يصرفها في الموارد التي سيأتي الحديث عنها لا حقا.

ثمّ يضيف سبحانه أنّ الانتصارات لا تكون غالبا لكم( وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

نعم ، لقد تحقّق الإنتصار على عدو قوي وشديد كيهود (بني النضير) وذلك بالمدد الإلهي الغيبي ، ولتعلموا أنّ الله قادر على كلّ شيء ، ويستطيع سبحانه بلحظة واحدة أن يذلّ الأقوياء ، ويسلّط عليهم فئة قليلة توجّه لهم ضربات موجعة وتسلب جميع إمكاناتهم.

ولا بدّ للمسلمين أن يتعلّموا من ذلك دروس المعرفة الإلهية ، ويلاحظوا علائم حقّانية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويلتزموا منهج الإخلاص والتوكّل على الذات الإلهية المقدّسة

__________________

(١) يقول الراغب في المفردات : إنّ الخيل في الأصل من مادّة (خيال) بمعنى التصوّرات الذهنية ، وخيلاء بمعنى التكبّر والتعالي على الآخرين لأنّه ناتج من تخيّل الفضيلة ، ولأنّ ركوب الإنسان على الحصان يشعر بالإحساس بنوع من الفخر والزهو غالبا ، لذلك أطلق لفظ الخيل على الحصان ، والنقطة الجديرة بالملاحظة أنّ خيل تطلق على الحصان وكذلك على راكبيه.

١٧٧

في جميع ممارساتهم.

وهنا قد يتبادر سؤال وهو : إنّ الحصول على غنائم بني النضير لم يتمّ بدون حرب ، بل إنّ المسلمين زحفوا بجيشهم نحو قلاعهم وحاصروها ، وقيل أنّ اشتباكا مسلّحا قد حصل في حدود ضيّقة بين الطرفين.

وفي مقام الجواب نقول : بأنّ قلاع بني النضير ـ كما ذكروا ـ لم تكن بعيدة عن المدينة ، وذكر بعض المفسّرين أنّ المسافة بين المدينة والقلاع ميلان وأنّ المسلمين ذهبوا إليها سيرا على أقدامهم ، وبناء على هذا فلم يواجهوا مشقّة حقيقية. أمّا بالنسبة لموضوع الاشتباك المسلّح فإنّه لم يثبت من الناحية التأريخية ، كما أنّ الحصار لم يستمرّ طويلا ، وبناء على هذا فإنّنا نستطيع القول بأنّه لم يحدث شيء يمكن أن نسمّيه قتالا ، ولم يرق دم على الأرض.

والآية اللاحقة تبيّن بوضوح مورد صرف (الفيء) الوارد في الآية السابقة وتقول بشكل قاعدة كليّة :( ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) .

وهذا يعني أنّ هذه الغنائم ليست كباقي الغنائم الحربية التي يكون خمس منها فقط تحت تصرّف الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر المحتاجين ، والأربعة الأخماس الاخرى للمقاتلين.

وإذا ما صرّحت الآية السابقة برجوع جميع الغنائم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يفهم من ذلك أن يصرفها جميعا في موارده الشخصية ، وإنّما أعطيت له لكونه رئيسا للدولة الإسلامية ، وخاصّة كونه المتصدّي لتغطية حاجات المعوزين ، لذا فإنّ القسم الأكبر يصرف في هذا المجال.

وقد ذكر في هذه الآية بصورة عامّة ستّ مصارف للفيء.

١ ـ سهم لله ، ومن البديهي أنّ الله تعالى مالك كلّ شيء ، وفي نفس الوقت غير محتاج لأي شيء ، وهذا نوع من النسبة التشريفية ، حتّى لا يحسّ بقيّة الأصناف

١٧٨

اللاحقة بالحقارة والذلّة ، بل يرون سهمهم مرادفا لسهم اللهعزوجل ، فلا ينقص من قدرهم شيء أمام الناس.

٢ ـ سهم الرّسول : ومن الطبيعي أن يصرف لتأمين احتياجاته الشخصيةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما يحتاجه لمقامه المقدّس وتوقّعات الناس منه.

٣ ـ سهم ذوي القربى : والمقصود بهم هنا وبدون شكّ أقرباء الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبني هاشم ، حيث أنّهم مستثنون من أخذ الزكاة والتي هي جزء من الأموال العامّة للمسلمين(١) .

وأساسا لا دليل على أنّ المقصود من ذوي القربى هم أقرباء الناس جميعا ، لأنّه في هذه الحالة ستشمل جميع المسلمين ، لأنّ الناس بعضهم أقرباء بعض.

ولكن هل هناك شرط يقضي أن يكون ذوو القربى من المحتاجين والفقراء أو لا يشترط ذلك؟ لقد اختلف المفسّرون في ذلك بالرغم من أنّ القرائن الموجودة في نهاية هذه الآية والآية اللاحقة توضّح لزوم شرط الحاجة.

(٤ ، ٥ ، ٦) : «سهم اليتامى» و «المساكين» و «أبناء السبيل» ، وهل أنّ جميع هؤلاء يلزم أن يكونوا هاشميين أو أنّها تشمل عموم اليتامى والمساكين وأبناء السبيل؟

اختلف المفسّرون في ذلك ، ففقهاء أهل السنّة ومفسّروهم يعتقدون أنّ هذا الأمر يشمل العموم ، في الوقت الذي اختلفت الروايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام في هذا المجال ، إذ يستفاد من قسم منها أنّ هذه الأسهم الثلاثة تخصّ اليتامى والمساكين وأبناء السبيل من بني هاشم فقط ، في حين صرّحت روايات اخرى بعمومية هذا الحكم ، ونقل أنّ الإمام الباقرعليه‌السلام قال : «كان أبي يقول : لنا سهم رسول

__________________

(١) هذا التّفسير لم يأت به الشيعة فقط ، حيث جاء ذكره في تفاسير أهل السنّة أيضا ، كما ذكر ذلك الفخر الرازي في التّفسير الكبير ، والبرسوني في روح البيان ، وسيّد قطب في ظلال القرآن ، والمراغي في تفسيره والآلوسي في روح المعاني.

١٧٩

الله ، وسهم ذي القربى ونحن شركاء الناس فيما بقي»(١) .

والآيات الثامنة والتاسعة من هذه السورة ، التي هي توضيح لهذه الآية ، تؤيّد أيضا أنّ هذا السهم لا يختّص ببني هاشم ، لأنّ الحديث دالّ على عموم فقراء المسلمين من المهاجرين والأنصار.

وبالإضافة إلى ذلك ، فقد نقل المفسّرون أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد حادثة بني النضير قسّم الأموال المتبقية بين المهاجرين من ذوي الحاجة والمسكنة ، وعلى ثلاثة أشخاص من طائفة الأنصار ، وهذا دليل آخر على عمومية مفهوم الآية. وإذا لم تكن بعض الروايات متناسبة معها ، فينبغي ترجيح ظاهر القرآن(٢) .

ثمّ يستعرض سبحانه فلسفة هذا التقسيم الدقيق بقوله تعالى :( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ ) فيتداول الأغنياء الثروات فيما بينهم ويحرم منها الفقراء(٣) .

وذكر بعض المفسّرين سببا لنزول هذه الجملة بشكل خاصّ ، وأشير له بشكل إجمالي في السابق ، وهو أنّ مجموعة من زعماء المسلمين قد جاؤوا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد واقعة بني النضير ، وقالوا له : خذ المنتخب وربع هذه الغنائم ، ودع الباقي لنا نقتسمه بيننا ، كما كان ذلك في زمن الجاهلية. فنزلت الآية أعلاه تحذّرهم من تداول هذه الأموال بين الأغنياء فقط.

والمفهوم الذي ورد في هذه الآية يوضّح أصلا أساسيّا في الإقتصاد الإسلامي وهو : وجوب التأكيد في الإقتصاد الإسلامي على عدم تمركز الثروات بيد فئة محدودة وطبقة معيّنة تتداولها فيما بينها ، مع كامل الاحترام للملكية

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٦١ ، ووسائل الشيعة ، ج ، ص ٣٦٨ ، حديث ١٢ وباب واحد من أبواب الأنفال.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٣٥٦ ، (حديث ٤ ، باب واحد من أبواب الأنفال).

(٣) (دولة) بفتح الدال وضمّها بمعنى واحد ، وفرّق البعض بين الإثنين وذكر أنّ (دولة) بفتح الدال تعني الأموال ، أمّا بضمّها فتعني الحرب والمقام ، وقيل أنّ الأوّل اسم مصدر ، والثاني مصدر ، وعلى كلّ حال فإنّ لها أصلا مشتركا من مادّة «تداول» بمعنى التعامل من يد إلى اخرى.

١٨٠

الشخصية ، وذلك بإعداد برنامج واضح بهذا الصدد يحرّك عملية تداول الثروة بين أكبر قطاع من الامّة.

ومن الطبيعي ألّا نقصد من ذلك وضع قوانين وتشريعات من تلقاء أنفسنا ونأخذ الثروات من فئة ونعطيها لآخرين ، بل المقصود تطبيق القوانين الإسلامية في مجال كسب المال ، والالتزام بالتشريعات المالية الاخرى كالخمس والزكاة والخراج والأنفال بصورة صحيحة ، وبذلك نحصل على النتيجة المطلوبة ، وهي احترام الجهد الشخصي من جهة ، وتأمين المصالح الاجتماعية من جهة اخرى ، والحيلولة دون انقسام المجتمع إلى طبقتين : (الأقليّة الثريّة والأكثرية المستضعفة).

ويضيف سبحانه في نهاية الآية :( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) .

وبالرغم من أنّ هذا القسم من الآية نزل بشأن غنائم بني النضير ، إلّا أنّ محتواها حكم عام في كلّ المجالات ، ومدرك واضح على حجيّة سنّة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وطبقا لهذا الأصل فإنّ جميع المسلمين ملزمون باتّباع التعاليم المحمّدية ، وإطاعة أوامر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واجتناب ما نهى عنه ، سواء في مجال المسائل المرتبطة بالحكومة الإسلامية أو الاقتصادية أو العبادية وغيرها ، خصوصا أنّ الله سبحانه هدّد في نهاية الآية جميع المالخفين لتعاليمه بعذاب شديد.

* * *

بحوث

١ ـ مصارف الفيء

«الفيء» كما قلنا هو الغنائم التي يحصل عليها المسلمون بدون حرب ، وهذه الأموال كانت توضع تحت تصرّف الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتباره رئيسا للدولة

١٨١

الإسلامية ، وهي أموال كثيرة في الغالب ، وخاصّة في بداية الفتوحات الإسلامية ويقدر لهذه الأموال أن تلعب دورا هامّا في تنمية الثروة في المجتمع الإسلامي ، خلافا لما كان متّبعا في الجاهلية حيث تقسّم هذه الأموال بين أغنياء القوم فقط ، في حين أنّها وضعت مباشرة تحت تصرّف رئيس الدولة الإسلامية في التشريع الإسلامي فيصرفها كما يرى حسب الأولويات.

وكما قلنا في بحث الأنفال فإنّ هذه الأموال تشكّل قسما من «الفيء» ، والقسم الآخر من الفيء هو كلّ الأموال التي يكون مالكها مجهولا ، كما وضّح ذلك في الفقه الإسلامي ، وتبلغ اثنتا عشرة فقرة ، وبهذا فإنّ قسما كبيرا من النعم والهبات الإلهيّة توضع تحت تصرّف رئيس الدولة الإسلامية عن هذا الطريق ، ومن ثمّ تحت تصرّف المحتاجين(١) .

ويتّضح ممّا تقدّم أن لا تضادّ بين الآية الاولى والآية الثانية ، بالرغم من أنّ الآية الاولى تضع الفيء تحت تصرّف شخص الرّسول ، والآية الثانية توضّح لنا

__________________

(١) الموارد الإثني عشر للأنفال هي :

١ ـ الأراضي التي تركها أهلها ورحلوا عنها كـ (أراضي يهود بني النضير).

٢ ـ الأراضي التي تركها أصحابها برغبة منهم إلى رئيس الدولة الإسلامية مثل (فدك).

٣ ـ أراضي الموات.

٤ ـ سواحل البحار.

٥ ـ فمم الجبال.

٦ ـ الوديان.

٧ ـ الغابات والآجام.

٨ ـ الغنائم الحربية الثمينة الخاصّة بالملوك.

٩ ـ ما يختاره قائد المسلمين من الغنائم العامّة لنفسه.

١٠ ـ الغنائم الحاصلة من الحروب التي لم يأذن بها الحاكم الشرعي.

١١ ـ المعادن.

١٢ ـ ميراث من لا وارث له.

ومن الطبيعي أنّ في بعض الموارد أعلاه قد حصلت اختلافات بين الفقهاء إلّا أنّ الأكثرية الغالبة قد اعتبرت هذه الموارد ، ويمكن مراجعة ذلك في الكتب الفقهية.

١٨٢

ستّة أبواب لمصارف الفيء ، على أن يراعى في صرفها الأولويات الخاصّة.

وبتعبير آخر ، فإنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يريد الأموال لاموره الشخصية ، بل بعنوان قائد المسلمين ورئيس دولتهم يصرفها في الأمور التي تحقّق مصلحة الدولة الإسلامية بشكل عامّ.

وممّا يجدر بالملاحظة أنّ هذا الحقّ ينتقل من بعد الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام ، ومن بعدهم إلى نوّابهم ، يعني (كلّ مجتهد جامع للشرائط) لأنّ الأحكام الإسلامية لا تعطّل ، والحكومة الإسلامية من أهمّ المسائل التي يتعامل المسلمون معها. وقسم من هذه الاسس قنّنت ضمن الهيكل الاقتصادي العامّ للمجتمع الإسلامي ، كما أنّها تمثّل مبدأ أساسيّا في النظام الاقتصادي للدولة الإسلامية.

٢ ـ جواب على سؤال :

يمكن أن يطرح هذا السؤال : كيف ألزم الله سبحانه جميع الناس ـ بدون استثناء ـ بقبول التعاليم الصادرة من قبل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدون قيد وشرط؟

ويتّضح الجواب على هذا السؤال بملاحظة انّنا نعتبر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوما ، لذا كان هذا الحقّ له ولخلفائه المعصومين من بعده ضمن هذا الفهم أيضا.

والملفت للنظر أنّ الروايات العديدة قد أشارت لهذه المسألة أيضا ، وهي أنّ الله سبحانه منح كلّ تلك الامتيازات للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ اللهعزوجل اختبره وامتحنه بشكل كامل ولما له من خلق عظيم وسجايا حميدة ، لذا فوّض له مثل هذا الحقّ(١) .

__________________

(١) الروايات التي تناولت هذا البحث عديدة يمكن مراجعتها في ج ٥ ، ص ٢٧٩ ـ ٢٨٣ من تفسير نور الثقلين.

١٨٣

٣ ـ القصّة المؤلمة لـ (فدك)

«فدك» : إحدى القرى المثمرة في أطراف المدينة ، وتبعد ١٤٠ كم عن خيبر تقريبا ، ولمّا سقطت قلاع «خيبر» في السنة السابعة للهجرة ، الواحدة تلو الاخرى أمام قوّة المسلمين ، واندحر اليهود جاء ساكنو فدك يطلبون الصلح مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعطوا نصف أراضيهم وبساتينهم لرسول الله واحتفظوا بالقسم الآخر لأنفسهم ، وتعهّدوا للرسول بزراعة أراضيه وأخذ الاجرة عوض الجهد الذي يبذلونه.

ومن خلال ملاحظة التفاصيل التي وردت حول (الفيء) في هذه السورة ، فإنّ هذه الأرض كانت من مختصّات الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن صلاحيته أن يصرفها في شؤونه الشخصية ، أو ما يراه من المصارف الاخرى التي أشير إليها في الآية السابعة من نفس هذه السورة ، لذلك فإنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهبها لابنته فاطمةعليها‌السلام .

وهذا الحديث صرّح به الكثيرون من المؤرّخين والمفسّرين من أهل السنّة والشيعة ، ومن جملة ما ورد في تفسير الدرّ المنثور ، نقلا عن ابن عبّاس في تفسير قوله تعالى :( فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) (١) أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما نزلت هذه الآية عليه أعطى فدكا لفاطمة. (أقطع رسول الله فاطمة فدكا)(٢) .

وجاء في كتاب كنز العرفان ، أنّه جاء في حاشية مسند (أحمد) حول مسألة صلة الرحم أنّه نقل عن أبي سعيد الخدري أنّ الآية أعلاه عند ما نزلت على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا الرّسول فاطمة ، وقال : «يا فاطمة لك فدك»(٣) .

وقد أورد الحاكم النيسابوري هذا المعنى في تأريخه(٤) .

__________________

(١) الروم ، الآية ٣٨.

(٢) الدرّ المنثور ، ج ٤ ، ص ١٧٧.

(٣) كنز العمّال ، ج ٢ ، ص ١٥٨.

(٤) يراجع كتاب فدك ، ص ٤٩.

١٨٤

وقد ذكر ابن أبي الحديد قصّة فدك بصورة مفصّلة في شرح نهج البلاغة(١) ، كما ذكرت كذلك في كتب اخرى كثيرة.

إلّا أنّ بعض أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعتقد أنّ وجود (فدك) بيد زوجة الإمام عليعليه‌السلام تمثّل قدرة اقتصادية يمكن أن تستخدم في مجال التحرّك السياسي الخاصّ بالإمام عليعليه‌السلام . ومن جهة اخرى كان هنالك موقف وتصميم على تحجيم حركة الإمامعليه‌السلام وأصحابه في المجالات المختلفة ، لذا تمّت مصادرة تلك الأرض بذريعة الحديث الموضوع : (نحن معاشر الأنبياء لا نورث). مع أنّ (فدك) كانت بيد فاطمةعليها‌السلام ، وذو اليد لا يطالب بشهادة أو بيّنة. والجدير بالذكر أنّ الإمام عليعليه‌السلام قد أقام الشهادة على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد منح فدكا إلى فاطمة. إلّا أنّهم مع كلّ هذا لم يرتّبوا أثرا على هذه الشهادة.

وقد استعملت قضيّة فدك عبر العصور التأريخية المختلفة كموضوع يراد التظاهر من خلاله بالودّ لأهل البيتعليهم‌السلام من قبل بعض الخلفاء وذلك لمآرب سياسيّة ، فكانوا يرجعون فدكا لآل الرّسول تارة ، ويصادرونها ثانية ، وقد تكرّر هذا الفعل عدّة مرّات في فترات حكم خلفاء بني اميّة وبني العبّاس.

وقصّة فدك وما رافقها من أحداث مؤلمة وقعت في صدر الإسلام هي من أكثر القصص ألما وحزنا ، وفي نفس الوقت تكاد أن تكون من أكثر حوادث التاريخ عبرة ، ولا بدّ من التوقّف عندها والتأمّل في أحداثها المختلفة ضمن بحث محايد دقيق.

والجدير بالملاحظة أنّه روى مسلم في صحيحة قال : (حدّثني محمّد بن رافع ، أخبرنا حجين ، حدّثنا ليث بن عقيل ، عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة ، أنّها أخبرته أنّ فاطمة بنت رسول أرسلت إلى أبي بكر الصدّيق تسأله

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ، ج ١٦ ، ص ٢٠٩ وما بعدها.

١٨٥

ميراثها من رسول الله ممّا أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبو بكر : إنّ رسول الله قال : «لا نورّث ما تركناه صدقة إنّما يأكل آل محمّد في هذا المال» وانّي والله لا اغيّر شيئا من صدقة رسول الله عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئا ، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك. قال : فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفّيت)(١) .

* * *

__________________

(١) صحيح مسلم ، ج ٣ ص ١٣٨٠ ، حديث ٥٢ عن كتاب الجهاد.

١٨٦

الآيات

( لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠) )

التّفسير

السمات الأساسية للأنصار والمهاجرين والتابعين :

١٨٧

هذه الآيات ـ التي هي استمرار للآيات السابقة ـ تتحدّث حول طبيعة مصارف الفيء الستّة ، التي تشمل الأموال والغنائم التي حصل عليها المسلمون بغير حرب ، وقد أوضحت الآية المعني باليتامى والمساكين وأبناء السبيل ، مع التأكيد على المقصود من أبناء السبيل بلحاظ أنّهم يشكّلون أكبر رقم من عدد المسلمين المهاجرين في ذلك الوقت ، حيث تركوا أموالهم ووطنهم نتيجة الهجرة ، وكانوا فقراء بعد أن هجروا الدنيا من أجل دينهم.

يقول تعالى :( لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ ) (١) ( يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) .

هنا بيّنت الآية ثلاثة أوصاف مهمّة وأساسية للمهاجرين الأوائل ، تتلخص بـ (الإخلاص والجهاد والصدق).

ثمّ تتناول الآية مسألة (ابتغاء فضل الله ورضاه) حيث تؤكّد هذه الحقيقة وهي : أنّ هجرتهم لم تكن لدنيا أو لهوى نفس ، ولكن لرضا الله وثوابه.

وبناء على هذا فـ (الفضل) هنا بمعنى الثواب. و «الرضوان» هو رضا الله تعالى الذي يمثّل مرحلة أعلى من مرتبة الثواب. كما بيّنت ذلك آيات عديدة في القرآن الكريم ، ومنها ما جاء في الآية ٢٩ من سورة الفتح ، حيث وصف أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الوصف( تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً ) .

ولعلّ التعبير بـ (الفضل) إشارة إلى أنّ هؤلاء المؤمنين يتصوّرون أنّ أعمالهم قليلة جدّا لا تستحقّ الثواب ، ويعتقدون أنّ الثواب الذي غمرهم هو لطف إلهي.

ويرى بعض المفسّرين «الفضل» هنا بمعنى الرزق ، أي رزق الدنيا ، فقد ورد في بعض الآيات القرآنية بهذا المعنى أيضا ، ولكن بما أنّ المقام هو مقام بيان إخلاص المهاجرين ، لذا فإنّ هذا المعنى غير مناسب ، والمناسب هو الجزاء

__________________

(١) «للفقراء» بدل وتفسير لابن السبيل.

١٨٨

والثواب الإلهي.

كما لا يستبعد أن يكون المراد من «الفضل» إشارة للنعم الجسمية ، و «الرضوان» هو إشارة للنعم الروحية والمعنوية ، والجميع مرتبط بالآخرة وليس بالدنيا.

ثمّ إنّ «المهاجرين» ينصرون المبدأ الحقّ دائما ، وعونا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يتوقّفوا في جهادهم بهذا السبيل لحظة واحدة (يرجى ملاحظة : أنّ فعل (ينصرون) بصيغة المضارع ، وهو دليل على الاستمرار).

ومن هنا يتّضح أنّ هؤلاء المهاجرين ليسوا من أصحاب الادّعاءات الفارغة ، بل هم رجال حقّ وجهاد ، وقد صدقوا الله بإيمانهم وتضحياتهم المستمرة.

وفي مرحلة ثالثة يصفهم سبحانه بالصدق ، ومع أنّ الصدق له مفهوم واسع ، إلّا أنّ صدق هؤلاء يتجسّد في جميع الأمور : بالإيمان ، وفي محبّة الرّسول ، وفي التزامهم بمبدإ الحقّ

ومن الواضح أنّ هذه الصفات كانت لأصحاب الرّسول في زمن نزول هذه الآيات ، إلّا أنّنا نعلم أنّ أشخاصا من بينهم قد فرّطوا بالنعم الإلهية التي غمرتهم ، وسلكوا سبيل الضلال كالذين أشعلوا نار حرب الجمل في البصرة ، وصفين في الشام ، وحاربوا خليفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان واجب الطاعة بإجماع المسلمين ، وأراقوا دماء الآلاف من المسلمين

وفي الآية اللاحقة يستعرض سبحانه ذكر مورد آخر من موارد صرف هذه الأموال ، ومن بين ما يستعرضه في الآية الكريمة أيضا وصف رائع ومعبّر جدّا عن طائفة الأنصار ، ويكمل البحث الذي جاء في الآية السابقة حول المهاجرين ، فيقول سبحانه :( وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) .

«تبوّؤا» من مادّة (بواء) على وزن (دواء) وهي في الأصل بمعنى تساوي أجزاء المكان ، وبعبارة اخرى يقال : (بواء) لترتيب وتسوية مكان (ما) ، هذا التعبير

١٨٩

كناية لطيفة لهذا المعنى ، وهو أنّ طائفة الأنصار ـ أهل المدينة ـ قد هيّئوا الأرضية المناسبة للهجرة ، وكما يخبرنا التاريخ فإنّ الأنصار قدموا مرّتين إلى «العقبة» ـ وهي مضيق قرب مكّة ـ وبايعوا رسول الله متنكّرين ، ورجعوا إلى المدينة مبلّغين ، ومعهم «مصعب بن عمير» ليعلّمهم امور دينهم وليهيئ الأرضية المناسبة لهجرة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وبناء على هذا فإنّ الأنصار لم يهيّؤوا بيوتهم لاستقبال المهاجرين فحسب ، بل إنّهم فتحوا قلوبهم ونفوسهم وأجواء مجتمعهم قدر المستطاع للتكيّف في التعامل مع وضع الهجرة المرتقب.

والتعبير( مِنْ قَبْلِهِمْ ) يوضّح لنا أنّ كلّ تلك الأمور كانت قبل هجرة مسلمي مكّة ، وهذا أمر مهمّ.

وانسجاما مع هذا التّفسير ، فإنّ أنصار المدينة كانوا مستحقّين لهذه الأموال ، وهذا لا يتنافى مع ما نقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه أعطى شخصين أو ثلاثة أشخاص من الأنصار ـ فقط ـ من أموال بني النضير ، إذ من الممكن أن لا يكون بين الأنصار أشخاص فقراء ومساكين غير هؤلاء ، بعكس المهاجرين فإنّهم إن لم يكونوا مصداقا للفقير ، فيمكن اعتبارهم مصداقا لأنباء السبيل(١) .

ثمّ يتطرّق سبحانه إلى بيان ثلاث صفات اخرى توضّح روحية الأنصار بصورة عامّة ، حيث يقول تعالى :( يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ ) .

فلا فرق بين المسلمين في وجهة نظرهم والمهمّ لديهم هو مسألة الإيمان والهجرة وهذا الحبّ كان يعتبر خصوصية مستمرّة لهم.

والأمر الآخر :( وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا ) فهم لا يطمعون بالغنائم التي أعطيت للمهاجرين ، ولا يحسدونهم عليها ، ولا حتّى يحسّون بحاجة

__________________

(١) إلّا أنّه وطبقا لتفسير آخر فإنّ (والذين تبوّؤا الدار) تكون مبتدأ ، و (يحبّون) خبرها ، وإجمالا فإنّها تشكّل جملة مستقلّة ، ولا ترتبط بالجملة السابقة التي تتحدّث حول مصاريف الفيء ، إلّا أنّ من الواضح أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب.

١٩٠

إلى ما اعطي للمهاجرين منها ، وأساسا فإنّ هذه الأمور لا تخطر على بالهم. وهذه الصورة تعكس لنا منتهى السمو الروحي للأنصار.

ويضيف تعالى في المرحلة الثالثة إلى وصفهم( وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ) (١) .

ومن هذه السمات الثلاث : «المحبّة» و «عدم الطمع» و «الإيثار» ، كانت تتشكّل خصوصية الأنصار المتميّزة.

ونقل المفسّرون قصصا متعدّدة في شأن نزول هذه الآية :

يقول ابن عبّاس : إنّ الرّسول بيّن للأنصار يوم الإنتصار على يهود بني النضير ، إذا كنتم ترومون المشاركة في حصّة المهاجرين من الغنائم فشاطروهم بتقسيم أموالكم وبيوتكم ، وإذا أردتم أن تبقى بيوتكم وأموالكم لكم فلا شيء لكم من هذه الغنائم؟ فقال الأنصار : علام نتقاسم بيوتنا وأموالنا معهم ، نقدّم المهاجرين علينا ولا نطمع بشيء من الغنائم؟ فنزلت هذه الآية تعظّم هذه الروح العالية(٢) .

ونقرأ في حديث آخر أنّ شخصا أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتشكا إليه الجوع ، فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى منزله ، فقالت زوجته : ما عندنا إلّا الماء ، فقال رسول الله : من لهذا الرجل الليلة ، فتعهّده رجل من الأنصار وصحبه إلى بيته ، ولم يكن لديه إلّا القليل من الطعام لأطفاله. وطلب أن يؤتى بالطعام إلى ضيفه وأطفأ السراج ، ثمّ قال لزوجته : نوّمي الصبية ، ثمّ جلس الرجل وزوجته على سماط الطعام فتظاهروا بالأكل ولم يضعوا شيئا في أفواههم ، وظنّ الضيف أنّهم يأكلون معه ، فأكل حتّى شبع وناموا الليلة ، فلمّا أصبحوا قدموا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنظر إليهم وتبسّم (دون أن يتكلّم) ، فنزلت الآية أعلاه وأثنت على إيثارهم.

__________________

(١) «خصاصة» من مادّة (خصاص) على وزن (أساس) بمعنى الشقوق التي توجد في جدران البيت ، ولأنّ الفقر في حياة الإنسان يمثّل شقّا ، لذا عبّر عنه بالخصاصة.

(٢) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٦٠.

١٩١

ونقرأ في الروايات التي وصلتنا عن طريق أهل البيتعليهم‌السلام أنّ المضيف هو الإمام عليعليه‌السلام وأطفاله الحسن والحسينعليهم‌السلام ، والمرأة التي نوّمت الصبية جياعا هي فاطمة الزهراءعليها‌السلام (١) .

ويجدر الانتباه هنا إلى أنّ القصّة الاولى يمكن أن تكون سببا لنزول الآية ، والقصّة الثانية من مصاديق تطبيق هذه الآية الكريمة.

وبناء على هذا فإنّ نزول الآيات حول الأنصار لا يتنافى مع كون المضيف هو الإمام عليعليه‌السلام .

وذكر البعض ـ أيضا ـ أنّ هذه الآية نزلت في مقاتلي غزوة احد ، حيث أنّ سبعة أشخاص منهم جرحوا في المعركة وقد أنهكهم العطش ، فجيء بماء يكفي لأحدهم ، فأبى أن يشرب وأومأ إلى صاحبه ، وكان الساقي كلّما ذهب إلى أحدهم يشير إلى الآخر ويؤثره على نفسه مع شدّة عطشه ، إلى أن وصل إلى الأخير فوجده قد فارق الحياة ثمّ رجع إلى الأوّل فوجده قد فارق الحياة أيضا ، وحتّى انتهى إليهم جميعا وهم موتى فأثنى الله تعالى على إيثارهم هذا(٢) .

ولكن من الواضح أنّ هذه الآية نزلت في بني النضير ، وبسبب عمومية مفهومها فإنّها قابلة للتطبيق في موارد متشابهة.

وفي نهاية الآية ـ ولمزيد من التأكيد لهذه الصفات الكريمة ، وبيان تأثيرها الإيجابي العميق ـ يضيف سبحانه :( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .

«الشحّ» كما يقول الراغب في المفردات : البخل مقترنا بالحرص عادة.

«يوق» من مادّة وقاية ، وبالرغم من أنّه بصيغة فعل مجهول ، إلّا أنّه من الواضح أنّ الفاعل هو الله سبحانه ، ويعني أنّ كلّ شخص حفظه الله سبحانه من هذه الصفة الذميمة فإنّه سيفلح.

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٦٠.

١٩٢

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال لأحد أصحابه : أتدري ما الشحّ؟ فأجاب : هو البخيل ، قالعليه‌السلام : «الشحّ أشدّ من البخل ، إنّ البخيل يبخل ممّا في يده ، والشحيح يشحّ بما في أيدي الناس ، وعلى ما في يده ، حتّى لا يرى في أيدي الناس شيئا إلّا تمنّى أن يكون له بالحلّ والحرام ، ولا يقنع بما رزقه اللهعزوجل »(١) .

ونقرأ في حديث ثان : «لا يجتمع الشحّ والإيمان في قلب رجل مسلم ، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخّان جهنّم في جوف رجل مسلم»(٢) .

وبالجملة ، فما يستفاد بوضوح من الآية أعلاه أنّ ترك المرء للشحّ يوصله إلى الفلاح ، ومن يتّصف بهذه الصفة المذمومة فإنّه يهدم بناء سعادته.

وفي آخر آية مورد البحث يأتي الحديث عن آخر طائفة من المسلمين ، الذين عرفوا بيننا باصطلاح القرآن الكريم بـ (التابعين) ، والذين يشكّلون المجموعة الغالبة من المسلمين بعد المهاجرين والأنصار الذين تحدّثت عنهم الآيات السابقة.

يقول تعالى :( وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .

بالرغم من أنّ بعض المفسّرين قد حدّد مفهوم هذه الآية بمجموعة من الأشخاص الذين التحقوا بالمسلمين بعد انتصار الإسلام وفتح مكّة ، إلّا أنّه لا يوجد دليل على هذه المحدوديّة الخاصّة بل تشمل جميع المسلمين إلى يوم القيامة ، وعلى فرض أنّ هذه الآية ناضرة إلى فئة خاصّة ، إلّا أنّها عامّة من حيث الملاك والمعيار والنتيجة.

وبهذا فإنّ الآيات الثلاثة المتقدّمة تشمل جميع مسلمي العالم ، الذين

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٩١ ، حديث ٦٤.

(٢) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٦٢.

١٩٣

ينضوون إلى واحدة من هذه الطوائف الثلاثة ، وهم : (المهاجرون والأنصار والتابعون).

جملة( وَالَّذِينَ جاؤُ ) حسب الظاهر عطف على( لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ ) وذلك لبيان هذه الحقيقة ، وهي أنّ أموال «الفيء» لا تنحصر بمحتاجي المهاجرين والأنصار فقط ، بل تشمل سائر المحتاجين من المسلمين على مرّ العصور.

ويحتمل أيضا أنّ الجملة مستقلّة (بأن تكون جملة( وَالَّذِينَ جاؤُ ) مبتدأ (ويقولون) خبر) إلّا أنّ التّفسير الأوّل ـ بالنظر إلى انسجامه مع الآيات السابقة ـ هو الأنسب.

والملاحظ هنا هو أنّ الآية تذكر ثلاث صفات للتابعين :

الاولى : أنّهم يفكّرون في إصلاح أنفسهم ، وطلب العفو والمغفرة والتوبة من الله تعالى.

والثّانية : النظرة المقترنة بالإكبار والإجلال والاحترام إلى من سبقهم بالإيمان ، ويطلبون لهم أيضا العفو والمغفرة من الله تعالى.

الثّالثة : أنّهم يسعون بكلّ وسيلة إلى تهذيب أنفسهم وتطهيرها من الحقد والحسد والبغض والعداء ، ويطلبون العون من الله الرؤوف الرحيم لمساعدتهم في هذا الطريق.

وبهذا الترتيب فإنّ خصوصياتهم هي : (تربية النفس) و (الاحترام للسابقين في الإيمان) و (الابتعاد عن الحسد والبغضاء).

«غلّ» على وزن (سلّ) ، جاءت في الأصل بمعنى نفوذ الشيء بخفية ، ولذا يقال للماء الجاري بين الأشجار (غلل) ولأنّ الحسد والعداوة والبغضاء تنفذ في قلب الإنسان بصورة خفيّة ، يقال لها : «غل». وبناء على هذا فإنّ (الغلّ) ليس فقط بمعنى الحسد ، ولكنّه مفهوم واسع يشمل الكثير من الصفات الخفيّة والقبيحة أخلاقيا.

١٩٤

والتعبير بـ (إخوان) والاستمداد من الرؤوف الرحيم في نهاية الآية يحكي عن روح المحبّة والصفاء والاخوّة التي يجب أن تسود المجتمع الإسلامي أجمع. فكلّ شخص يتمنّى صفة حسنة لا يتمنّاها لنفسه فحسب ، بل للآخرين أيضا ، ولتشمل المجتمع بصورة عامّة ، وبذلك تطهّر القلوب من كلّ أنواع العداء والبغضاء والحسد والحرص ، وهذا هو المجتمع الإسلامي النموذجي.

* * *

بحث

الصحابة في ميزان القرآن والتاريخ :

يصرّ بعض المفسّرين ـ بدون الالتفات إلى الصفات التي مرّت بنا في الآيات السابقة لكلّ من المهاجرين والأنصار والتابعين ـ على اعتبار جميع الصحابة بدون استثناء متّصفين بجميع الصفات الإيجابية (للمهاجرين والأنصار والتابعين) وأنّهم نموذج يقتدى بهم من حيث نزاهتهم وطهرهم والتسامح فيما بينهم ، وكلّ خلاف صدر منهم أحيانا سواء في زمن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو من بعده فإنّهم يغضّون النظر عنه ، وبهذا اعتبروا كلّ مهاجر وأنصاري وتابع شخصا محترما ومقدّسا بصورة عامّة ، دون الالتفات إلى أعمالهم وتقييمها حسب الموازين الشرعية.

إلّا أنّ الملاحظ أنّ في الآيات أعلاه رفض واضح إزاء هذا الفهم ، حيث تحدّد الآية التقييم وفق ضوابط وموازين دقيقة للمهاجرين الحقيقيين والأنصار والتابعين.

ففي «المهاجرين» : الإخلاص والجهاد والصدق.

وفي «الأنصار» : المحبّة للمهاجرين والإيثار ، والابتعاد عن كلّ حرص وبخل.

وفي «التابعين» : بناء أنفسهم ، والاحترام للسابقين في الإيمان ، والابتعاد عن

١٩٥

كلّ بغض وحسد.

ومع كلّ هذا ، كيف يمكن أن نحترم الأشخاص الذين قاتلوا الإمام عليعليه‌السلام في معركة الجمل وشهروا سيفهم عليه ، ولم يراعوا اخوته في الله ، ولم يطهّروا قلوبهم من البغض والحسد تجاهه ، ولا احترموا أسبقيته في الإيمان ، وبعد كلّ ذلك لا يجوز لنا انتقادهم ، بل يجب علينا التسليم وبدون نقاش لأحاديث هذا وذاك دون تمحيص وتثبّت.

وبناء على هذا فإنّنا في الوقت الذي نحترم فيه السابقين في خطّ الرسالة والإيمان ، يجدر بنا أن ندقّق في سوابقهم وملفّ فعالهم ، سواء على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو المخاضات المختلفة التي حدثت بعده في التأريخ الإسلامي ، وعلى أساس الضوابط والمعايير الإسلامية المستلهمة من هذه الآيات المباركات نحكم لهم أو عليهم ، وعندئذ نقوّي أواصرنا مع من بقي على العهد ، ونقطعها أو نحدّدها ـ بما يناسب ـ مع من ضعفت روابطهم أو قطعوها مع تلك الموازين والضوابط ، وهذا هو المنطق الصحيح والمنسجم مع حكم القرآن والعقل.

* * *

١٩٦

الآيات

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) )

سبب النّزول

نقل بعض المفسّرين سببا لنزول الآيات أعلاه ، والذي خلاصته ما يلي :

١٩٧

إنّ قسما من منافقي المدينة ـ كعبد الله بن أبي وأصحابه ـ أرسلوا شخصا إلى يهود بني النضير وأبلغهم بما يلي : أثبتوا في أماكنكم بقوّة ، ولا تخرجوا من بيوتكم ، وحصّنوا قلاعكم ، وسيكون إلى جنبكم ألفا مقاتل من قومنا مدد لكم ، وإنّنا معكم حتّى النهاية. كما أنّ بني قريظة وقبيلة غطفان والمتعاطفين معكم سيلتحقون بكم أيضا.

إنّ هذه الرسالة ـ التي وجّهها المنافق عبد الله بن أبي إلى اليهود بني النضير ـ أوجدت لديهم الإصرار والعناد على مخالفة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والخروج عن أمره ، وفي هذه الحالة انبرى (سلام) أحد كبار يهود بني النضير إلى «حي بن أخطب» الذي كان أحد وجوه بني النضير وقال له : لا تهتّموا بكلام عبد الله بن أبي ، إنّه يريد أن يدفعكم لقتال محمّد ويجلس في داره ويسلّمكم للحوادث ، قال حي : نحن لا نعرف شيئا إلّا العداء لـ (محمّد) والقتال له ، فأجابه سلام : اقسم بالله أنّي أراهم سيخرجوننا قريبا ويهدرون أموالنا وشرفنا وتؤسر أطفالنا ويقتل مقاتلونا(١) .

وأخيرا تبيّن الآيات أعلاه نهاية المطاف لهذا المشهد.

ويعتقد البعض أنّ هذه الآيات نزلت قبل قصّة يهود بني النضير ، حيث تتحدّث عن الحوادث المستقبلية لهذه الوقائع ، وبهذا اللحاظ فإنّهم يعتبرونها إحدى المفردات الغيبية للقرآن الكريم.

ورغم أنّ التعابير التي وردت في الآيات الكريمة كانت بصيغة المضارع وبذلك تؤيّد وجهة النظر هذه ، إلّا أنّ العلاقة بين هذه الآيات والآيات السابقة التي نزلت بعد اندحار بني النضير وإبعادهم عن المدينة ، تؤكّد لنا أنّ هذه الآيات أيضا نزلت بعد هذا الحادث ، ولذا كان التعبير بصيغة المضارع بعنوان حكاية الحال. «فتدبّر»

__________________

(١) روح البيان ، ج ٩ ، ص ٤٣٩ ، وجاء نفس هذا المعنى باختلافات عديدة في تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٩٩.

١٩٨

التّفسير

دور المنافقين في فتن اليهود :

بعد بيان ما جرى ليهود بني النضير في الآيات السابقة ، وبيان حالة الأصناف الثلاثة من المؤمنين (المهاجرين والأنصار والتابعين) وخصوصيات كلّ منهم في الآيات مورد البحث ، يتعرّض القرآن الكريم الآن لشرح حالة المنافقين ودورهم في هذا الحادث ، وبيان حالهم بالقياس مع الآخرين ، وهذا هو منهج القرآن الكريم ، حيث يعرّف كلّ طائفة بمقارنتها مع الاخرى.

وفي البداية يتحدّث مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول سبحانه :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ) .

وهكذا فانّ هؤلاء المنافقين وعدوا طائفة اليهود بأمور ثلاثة ، وجميعها كانت كاذبة :

الأوّل : إذا أخرجتم من هذه الأرض فإنّنا سوف لن نبقى بعدكم نتطلّع إلى خواء أماكنكم ودياركم.

والأمر الآخر : إذا صدر أمر ضدّكم من أي شخص ، وفي أيّ مقام ، وفي أي وقت ، فإنّ موقفنا الرفض له وعدم الاستجابة.

والأمر الثالث : إنّه إذا وصل الأمر للقتال فإنّنا سوف نقف إلى جانبكم ولا نتردّد في نصرتكم أبدا.

نعم ، هذه هي الوعود التي أعطاها المنافقون لليهود قبل هذا الحادث ، إلّا أنّ الحوادث اللاحقة أو ضحت كذب ادّعاءاتهم ووعودهم.

ولهذا السبب يقول القرآن الكريم بصراحة( وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) .

كم هو تعبير رائع ومثير ومقترن بتأكيدات عديدة ، من شهادة اللهعزوجل ، وكون الجملة اسمية ، وكذلك الاستفادة من (إنّ) واللام للتأكيد ، وكلّها تفيد أنّ

١٩٩

الكذب والنفاق ممتزجان بهم لحدّ لا يمكن فصلهما ، لقد كان المنافقون كاذبين دائما ، والكاذبون منافقين غالبا.

والتعبير بـ (إخوانهم) يوضّح لنا طبيعة العلاقة الحميمة جدّا بين «المنافقين» و «الكفّار» ، كما ركّزت الآيات السابقة على علاقة الاخوة بين المؤمنين ، مع ملاحظة الاختلاف بين الفصيلتين ، وهو أنّ المؤمنين صادقون في اخوتهم لذلك فهم لا يتبرّمون بكلّ ما يؤثرون به على أنفسهم ، على عكس المنافقين حيث ليس لهم وفاء أو مواساة بعضهم لبعض ، وتتبيّن حقيقتهم بصورة أوضح في اللحظات الحرجة حيث يتخلّون عن أقرب الناس لهم ، بل حتّى عن إخوانهم ، وهذا هو محور الاختلاف بين نوعين من الاخوة ، اخوة المؤمنين واخوة المنافقين.

وجملة :( وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً ) تشير إلى موقف المنافقين الذي أعلنوه لليهود بأنّهم سوف لن يراعوا التوصيّات والإنذارات التي أطلقها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم.

ثمّ للإيضاح والتأكيد الأكثر حول كذب المنافقين يضيف سبحانه :

( لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ) .

( وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ ) .

( وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ) .

( ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ) .

إنّ اللحن القاطع والقوي لهذه الآيات قد أدخل الرعب والهلع في قلوب المنافقين وأقلق بالهم.

وبالرغم من أنّ الآية نزلت في مورد معيّن ، إلّا أنّها ـ من المسلّم ـ لا تختص به ، بل بيان أصل عامّ في علاقة المنافقين مع سائر أعداء الإسلام ، بالإضافة إلى الوعود الكاذبة التي يمنحها كلّ منهم للآخر ، وتقرّر بطلان وخواء كلّ هذه الروابط والوعود.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624