الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196845 / تحميل: 5658
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

الشخصية ، وذلك بإعداد برنامج واضح بهذا الصدد يحرّك عملية تداول الثروة بين أكبر قطاع من الامّة.

ومن الطبيعي ألّا نقصد من ذلك وضع قوانين وتشريعات من تلقاء أنفسنا ونأخذ الثروات من فئة ونعطيها لآخرين ، بل المقصود تطبيق القوانين الإسلامية في مجال كسب المال ، والالتزام بالتشريعات المالية الاخرى كالخمس والزكاة والخراج والأنفال بصورة صحيحة ، وبذلك نحصل على النتيجة المطلوبة ، وهي احترام الجهد الشخصي من جهة ، وتأمين المصالح الاجتماعية من جهة اخرى ، والحيلولة دون انقسام المجتمع إلى طبقتين : (الأقليّة الثريّة والأكثرية المستضعفة).

ويضيف سبحانه في نهاية الآية :( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) .

وبالرغم من أنّ هذا القسم من الآية نزل بشأن غنائم بني النضير ، إلّا أنّ محتواها حكم عام في كلّ المجالات ، ومدرك واضح على حجيّة سنّة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وطبقا لهذا الأصل فإنّ جميع المسلمين ملزمون باتّباع التعاليم المحمّدية ، وإطاعة أوامر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واجتناب ما نهى عنه ، سواء في مجال المسائل المرتبطة بالحكومة الإسلامية أو الاقتصادية أو العبادية وغيرها ، خصوصا أنّ الله سبحانه هدّد في نهاية الآية جميع المالخفين لتعاليمه بعذاب شديد.

* * *

بحوث

١ ـ مصارف الفيء

«الفيء» كما قلنا هو الغنائم التي يحصل عليها المسلمون بدون حرب ، وهذه الأموال كانت توضع تحت تصرّف الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتباره رئيسا للدولة

١٨١

الإسلامية ، وهي أموال كثيرة في الغالب ، وخاصّة في بداية الفتوحات الإسلامية ويقدر لهذه الأموال أن تلعب دورا هامّا في تنمية الثروة في المجتمع الإسلامي ، خلافا لما كان متّبعا في الجاهلية حيث تقسّم هذه الأموال بين أغنياء القوم فقط ، في حين أنّها وضعت مباشرة تحت تصرّف رئيس الدولة الإسلامية في التشريع الإسلامي فيصرفها كما يرى حسب الأولويات.

وكما قلنا في بحث الأنفال فإنّ هذه الأموال تشكّل قسما من «الفيء» ، والقسم الآخر من الفيء هو كلّ الأموال التي يكون مالكها مجهولا ، كما وضّح ذلك في الفقه الإسلامي ، وتبلغ اثنتا عشرة فقرة ، وبهذا فإنّ قسما كبيرا من النعم والهبات الإلهيّة توضع تحت تصرّف رئيس الدولة الإسلامية عن هذا الطريق ، ومن ثمّ تحت تصرّف المحتاجين(١) .

ويتّضح ممّا تقدّم أن لا تضادّ بين الآية الاولى والآية الثانية ، بالرغم من أنّ الآية الاولى تضع الفيء تحت تصرّف شخص الرّسول ، والآية الثانية توضّح لنا

__________________

(١) الموارد الإثني عشر للأنفال هي :

١ ـ الأراضي التي تركها أهلها ورحلوا عنها كـ (أراضي يهود بني النضير).

٢ ـ الأراضي التي تركها أصحابها برغبة منهم إلى رئيس الدولة الإسلامية مثل (فدك).

٣ ـ أراضي الموات.

٤ ـ سواحل البحار.

٥ ـ فمم الجبال.

٦ ـ الوديان.

٧ ـ الغابات والآجام.

٨ ـ الغنائم الحربية الثمينة الخاصّة بالملوك.

٩ ـ ما يختاره قائد المسلمين من الغنائم العامّة لنفسه.

١٠ ـ الغنائم الحاصلة من الحروب التي لم يأذن بها الحاكم الشرعي.

١١ ـ المعادن.

١٢ ـ ميراث من لا وارث له.

ومن الطبيعي أنّ في بعض الموارد أعلاه قد حصلت اختلافات بين الفقهاء إلّا أنّ الأكثرية الغالبة قد اعتبرت هذه الموارد ، ويمكن مراجعة ذلك في الكتب الفقهية.

١٨٢

ستّة أبواب لمصارف الفيء ، على أن يراعى في صرفها الأولويات الخاصّة.

وبتعبير آخر ، فإنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يريد الأموال لاموره الشخصية ، بل بعنوان قائد المسلمين ورئيس دولتهم يصرفها في الأمور التي تحقّق مصلحة الدولة الإسلامية بشكل عامّ.

وممّا يجدر بالملاحظة أنّ هذا الحقّ ينتقل من بعد الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام ، ومن بعدهم إلى نوّابهم ، يعني (كلّ مجتهد جامع للشرائط) لأنّ الأحكام الإسلامية لا تعطّل ، والحكومة الإسلامية من أهمّ المسائل التي يتعامل المسلمون معها. وقسم من هذه الاسس قنّنت ضمن الهيكل الاقتصادي العامّ للمجتمع الإسلامي ، كما أنّها تمثّل مبدأ أساسيّا في النظام الاقتصادي للدولة الإسلامية.

٢ ـ جواب على سؤال :

يمكن أن يطرح هذا السؤال : كيف ألزم الله سبحانه جميع الناس ـ بدون استثناء ـ بقبول التعاليم الصادرة من قبل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدون قيد وشرط؟

ويتّضح الجواب على هذا السؤال بملاحظة انّنا نعتبر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوما ، لذا كان هذا الحقّ له ولخلفائه المعصومين من بعده ضمن هذا الفهم أيضا.

والملفت للنظر أنّ الروايات العديدة قد أشارت لهذه المسألة أيضا ، وهي أنّ الله سبحانه منح كلّ تلك الامتيازات للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ اللهعزوجل اختبره وامتحنه بشكل كامل ولما له من خلق عظيم وسجايا حميدة ، لذا فوّض له مثل هذا الحقّ(١) .

__________________

(١) الروايات التي تناولت هذا البحث عديدة يمكن مراجعتها في ج ٥ ، ص ٢٧٩ ـ ٢٨٣ من تفسير نور الثقلين.

١٨٣

٣ ـ القصّة المؤلمة لـ (فدك)

«فدك» : إحدى القرى المثمرة في أطراف المدينة ، وتبعد ١٤٠ كم عن خيبر تقريبا ، ولمّا سقطت قلاع «خيبر» في السنة السابعة للهجرة ، الواحدة تلو الاخرى أمام قوّة المسلمين ، واندحر اليهود جاء ساكنو فدك يطلبون الصلح مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعطوا نصف أراضيهم وبساتينهم لرسول الله واحتفظوا بالقسم الآخر لأنفسهم ، وتعهّدوا للرسول بزراعة أراضيه وأخذ الاجرة عوض الجهد الذي يبذلونه.

ومن خلال ملاحظة التفاصيل التي وردت حول (الفيء) في هذه السورة ، فإنّ هذه الأرض كانت من مختصّات الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن صلاحيته أن يصرفها في شؤونه الشخصية ، أو ما يراه من المصارف الاخرى التي أشير إليها في الآية السابعة من نفس هذه السورة ، لذلك فإنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهبها لابنته فاطمةعليها‌السلام .

وهذا الحديث صرّح به الكثيرون من المؤرّخين والمفسّرين من أهل السنّة والشيعة ، ومن جملة ما ورد في تفسير الدرّ المنثور ، نقلا عن ابن عبّاس في تفسير قوله تعالى :( فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) (١) أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما نزلت هذه الآية عليه أعطى فدكا لفاطمة. (أقطع رسول الله فاطمة فدكا)(٢) .

وجاء في كتاب كنز العرفان ، أنّه جاء في حاشية مسند (أحمد) حول مسألة صلة الرحم أنّه نقل عن أبي سعيد الخدري أنّ الآية أعلاه عند ما نزلت على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا الرّسول فاطمة ، وقال : «يا فاطمة لك فدك»(٣) .

وقد أورد الحاكم النيسابوري هذا المعنى في تأريخه(٤) .

__________________

(١) الروم ، الآية ٣٨.

(٢) الدرّ المنثور ، ج ٤ ، ص ١٧٧.

(٣) كنز العمّال ، ج ٢ ، ص ١٥٨.

(٤) يراجع كتاب فدك ، ص ٤٩.

١٨٤

وقد ذكر ابن أبي الحديد قصّة فدك بصورة مفصّلة في شرح نهج البلاغة(١) ، كما ذكرت كذلك في كتب اخرى كثيرة.

إلّا أنّ بعض أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعتقد أنّ وجود (فدك) بيد زوجة الإمام عليعليه‌السلام تمثّل قدرة اقتصادية يمكن أن تستخدم في مجال التحرّك السياسي الخاصّ بالإمام عليعليه‌السلام . ومن جهة اخرى كان هنالك موقف وتصميم على تحجيم حركة الإمامعليه‌السلام وأصحابه في المجالات المختلفة ، لذا تمّت مصادرة تلك الأرض بذريعة الحديث الموضوع : (نحن معاشر الأنبياء لا نورث). مع أنّ (فدك) كانت بيد فاطمةعليها‌السلام ، وذو اليد لا يطالب بشهادة أو بيّنة. والجدير بالذكر أنّ الإمام عليعليه‌السلام قد أقام الشهادة على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد منح فدكا إلى فاطمة. إلّا أنّهم مع كلّ هذا لم يرتّبوا أثرا على هذه الشهادة.

وقد استعملت قضيّة فدك عبر العصور التأريخية المختلفة كموضوع يراد التظاهر من خلاله بالودّ لأهل البيتعليهم‌السلام من قبل بعض الخلفاء وذلك لمآرب سياسيّة ، فكانوا يرجعون فدكا لآل الرّسول تارة ، ويصادرونها ثانية ، وقد تكرّر هذا الفعل عدّة مرّات في فترات حكم خلفاء بني اميّة وبني العبّاس.

وقصّة فدك وما رافقها من أحداث مؤلمة وقعت في صدر الإسلام هي من أكثر القصص ألما وحزنا ، وفي نفس الوقت تكاد أن تكون من أكثر حوادث التاريخ عبرة ، ولا بدّ من التوقّف عندها والتأمّل في أحداثها المختلفة ضمن بحث محايد دقيق.

والجدير بالملاحظة أنّه روى مسلم في صحيحة قال : (حدّثني محمّد بن رافع ، أخبرنا حجين ، حدّثنا ليث بن عقيل ، عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة ، أنّها أخبرته أنّ فاطمة بنت رسول أرسلت إلى أبي بكر الصدّيق تسأله

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ، ج ١٦ ، ص ٢٠٩ وما بعدها.

١٨٥

ميراثها من رسول الله ممّا أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبو بكر : إنّ رسول الله قال : «لا نورّث ما تركناه صدقة إنّما يأكل آل محمّد في هذا المال» وانّي والله لا اغيّر شيئا من صدقة رسول الله عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئا ، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك. قال : فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفّيت)(١) .

* * *

__________________

(١) صحيح مسلم ، ج ٣ ص ١٣٨٠ ، حديث ٥٢ عن كتاب الجهاد.

١٨٦

الآيات

( لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠) )

التّفسير

السمات الأساسية للأنصار والمهاجرين والتابعين :

١٨٧

هذه الآيات ـ التي هي استمرار للآيات السابقة ـ تتحدّث حول طبيعة مصارف الفيء الستّة ، التي تشمل الأموال والغنائم التي حصل عليها المسلمون بغير حرب ، وقد أوضحت الآية المعني باليتامى والمساكين وأبناء السبيل ، مع التأكيد على المقصود من أبناء السبيل بلحاظ أنّهم يشكّلون أكبر رقم من عدد المسلمين المهاجرين في ذلك الوقت ، حيث تركوا أموالهم ووطنهم نتيجة الهجرة ، وكانوا فقراء بعد أن هجروا الدنيا من أجل دينهم.

يقول تعالى :( لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ ) (١) ( يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) .

هنا بيّنت الآية ثلاثة أوصاف مهمّة وأساسية للمهاجرين الأوائل ، تتلخص بـ (الإخلاص والجهاد والصدق).

ثمّ تتناول الآية مسألة (ابتغاء فضل الله ورضاه) حيث تؤكّد هذه الحقيقة وهي : أنّ هجرتهم لم تكن لدنيا أو لهوى نفس ، ولكن لرضا الله وثوابه.

وبناء على هذا فـ (الفضل) هنا بمعنى الثواب. و «الرضوان» هو رضا الله تعالى الذي يمثّل مرحلة أعلى من مرتبة الثواب. كما بيّنت ذلك آيات عديدة في القرآن الكريم ، ومنها ما جاء في الآية ٢٩ من سورة الفتح ، حيث وصف أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الوصف( تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً ) .

ولعلّ التعبير بـ (الفضل) إشارة إلى أنّ هؤلاء المؤمنين يتصوّرون أنّ أعمالهم قليلة جدّا لا تستحقّ الثواب ، ويعتقدون أنّ الثواب الذي غمرهم هو لطف إلهي.

ويرى بعض المفسّرين «الفضل» هنا بمعنى الرزق ، أي رزق الدنيا ، فقد ورد في بعض الآيات القرآنية بهذا المعنى أيضا ، ولكن بما أنّ المقام هو مقام بيان إخلاص المهاجرين ، لذا فإنّ هذا المعنى غير مناسب ، والمناسب هو الجزاء

__________________

(١) «للفقراء» بدل وتفسير لابن السبيل.

١٨٨

والثواب الإلهي.

كما لا يستبعد أن يكون المراد من «الفضل» إشارة للنعم الجسمية ، و «الرضوان» هو إشارة للنعم الروحية والمعنوية ، والجميع مرتبط بالآخرة وليس بالدنيا.

ثمّ إنّ «المهاجرين» ينصرون المبدأ الحقّ دائما ، وعونا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يتوقّفوا في جهادهم بهذا السبيل لحظة واحدة (يرجى ملاحظة : أنّ فعل (ينصرون) بصيغة المضارع ، وهو دليل على الاستمرار).

ومن هنا يتّضح أنّ هؤلاء المهاجرين ليسوا من أصحاب الادّعاءات الفارغة ، بل هم رجال حقّ وجهاد ، وقد صدقوا الله بإيمانهم وتضحياتهم المستمرة.

وفي مرحلة ثالثة يصفهم سبحانه بالصدق ، ومع أنّ الصدق له مفهوم واسع ، إلّا أنّ صدق هؤلاء يتجسّد في جميع الأمور : بالإيمان ، وفي محبّة الرّسول ، وفي التزامهم بمبدإ الحقّ

ومن الواضح أنّ هذه الصفات كانت لأصحاب الرّسول في زمن نزول هذه الآيات ، إلّا أنّنا نعلم أنّ أشخاصا من بينهم قد فرّطوا بالنعم الإلهية التي غمرتهم ، وسلكوا سبيل الضلال كالذين أشعلوا نار حرب الجمل في البصرة ، وصفين في الشام ، وحاربوا خليفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان واجب الطاعة بإجماع المسلمين ، وأراقوا دماء الآلاف من المسلمين

وفي الآية اللاحقة يستعرض سبحانه ذكر مورد آخر من موارد صرف هذه الأموال ، ومن بين ما يستعرضه في الآية الكريمة أيضا وصف رائع ومعبّر جدّا عن طائفة الأنصار ، ويكمل البحث الذي جاء في الآية السابقة حول المهاجرين ، فيقول سبحانه :( وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) .

«تبوّؤا» من مادّة (بواء) على وزن (دواء) وهي في الأصل بمعنى تساوي أجزاء المكان ، وبعبارة اخرى يقال : (بواء) لترتيب وتسوية مكان (ما) ، هذا التعبير

١٨٩

كناية لطيفة لهذا المعنى ، وهو أنّ طائفة الأنصار ـ أهل المدينة ـ قد هيّئوا الأرضية المناسبة للهجرة ، وكما يخبرنا التاريخ فإنّ الأنصار قدموا مرّتين إلى «العقبة» ـ وهي مضيق قرب مكّة ـ وبايعوا رسول الله متنكّرين ، ورجعوا إلى المدينة مبلّغين ، ومعهم «مصعب بن عمير» ليعلّمهم امور دينهم وليهيئ الأرضية المناسبة لهجرة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وبناء على هذا فإنّ الأنصار لم يهيّؤوا بيوتهم لاستقبال المهاجرين فحسب ، بل إنّهم فتحوا قلوبهم ونفوسهم وأجواء مجتمعهم قدر المستطاع للتكيّف في التعامل مع وضع الهجرة المرتقب.

والتعبير( مِنْ قَبْلِهِمْ ) يوضّح لنا أنّ كلّ تلك الأمور كانت قبل هجرة مسلمي مكّة ، وهذا أمر مهمّ.

وانسجاما مع هذا التّفسير ، فإنّ أنصار المدينة كانوا مستحقّين لهذه الأموال ، وهذا لا يتنافى مع ما نقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه أعطى شخصين أو ثلاثة أشخاص من الأنصار ـ فقط ـ من أموال بني النضير ، إذ من الممكن أن لا يكون بين الأنصار أشخاص فقراء ومساكين غير هؤلاء ، بعكس المهاجرين فإنّهم إن لم يكونوا مصداقا للفقير ، فيمكن اعتبارهم مصداقا لأنباء السبيل(١) .

ثمّ يتطرّق سبحانه إلى بيان ثلاث صفات اخرى توضّح روحية الأنصار بصورة عامّة ، حيث يقول تعالى :( يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ ) .

فلا فرق بين المسلمين في وجهة نظرهم والمهمّ لديهم هو مسألة الإيمان والهجرة وهذا الحبّ كان يعتبر خصوصية مستمرّة لهم.

والأمر الآخر :( وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا ) فهم لا يطمعون بالغنائم التي أعطيت للمهاجرين ، ولا يحسدونهم عليها ، ولا حتّى يحسّون بحاجة

__________________

(١) إلّا أنّه وطبقا لتفسير آخر فإنّ (والذين تبوّؤا الدار) تكون مبتدأ ، و (يحبّون) خبرها ، وإجمالا فإنّها تشكّل جملة مستقلّة ، ولا ترتبط بالجملة السابقة التي تتحدّث حول مصاريف الفيء ، إلّا أنّ من الواضح أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب.

١٩٠

إلى ما اعطي للمهاجرين منها ، وأساسا فإنّ هذه الأمور لا تخطر على بالهم. وهذه الصورة تعكس لنا منتهى السمو الروحي للأنصار.

ويضيف تعالى في المرحلة الثالثة إلى وصفهم( وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ) (١) .

ومن هذه السمات الثلاث : «المحبّة» و «عدم الطمع» و «الإيثار» ، كانت تتشكّل خصوصية الأنصار المتميّزة.

ونقل المفسّرون قصصا متعدّدة في شأن نزول هذه الآية :

يقول ابن عبّاس : إنّ الرّسول بيّن للأنصار يوم الإنتصار على يهود بني النضير ، إذا كنتم ترومون المشاركة في حصّة المهاجرين من الغنائم فشاطروهم بتقسيم أموالكم وبيوتكم ، وإذا أردتم أن تبقى بيوتكم وأموالكم لكم فلا شيء لكم من هذه الغنائم؟ فقال الأنصار : علام نتقاسم بيوتنا وأموالنا معهم ، نقدّم المهاجرين علينا ولا نطمع بشيء من الغنائم؟ فنزلت هذه الآية تعظّم هذه الروح العالية(٢) .

ونقرأ في حديث آخر أنّ شخصا أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتشكا إليه الجوع ، فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى منزله ، فقالت زوجته : ما عندنا إلّا الماء ، فقال رسول الله : من لهذا الرجل الليلة ، فتعهّده رجل من الأنصار وصحبه إلى بيته ، ولم يكن لديه إلّا القليل من الطعام لأطفاله. وطلب أن يؤتى بالطعام إلى ضيفه وأطفأ السراج ، ثمّ قال لزوجته : نوّمي الصبية ، ثمّ جلس الرجل وزوجته على سماط الطعام فتظاهروا بالأكل ولم يضعوا شيئا في أفواههم ، وظنّ الضيف أنّهم يأكلون معه ، فأكل حتّى شبع وناموا الليلة ، فلمّا أصبحوا قدموا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنظر إليهم وتبسّم (دون أن يتكلّم) ، فنزلت الآية أعلاه وأثنت على إيثارهم.

__________________

(١) «خصاصة» من مادّة (خصاص) على وزن (أساس) بمعنى الشقوق التي توجد في جدران البيت ، ولأنّ الفقر في حياة الإنسان يمثّل شقّا ، لذا عبّر عنه بالخصاصة.

(٢) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٦٠.

١٩١

ونقرأ في الروايات التي وصلتنا عن طريق أهل البيتعليهم‌السلام أنّ المضيف هو الإمام عليعليه‌السلام وأطفاله الحسن والحسينعليهم‌السلام ، والمرأة التي نوّمت الصبية جياعا هي فاطمة الزهراءعليها‌السلام (١) .

ويجدر الانتباه هنا إلى أنّ القصّة الاولى يمكن أن تكون سببا لنزول الآية ، والقصّة الثانية من مصاديق تطبيق هذه الآية الكريمة.

وبناء على هذا فإنّ نزول الآيات حول الأنصار لا يتنافى مع كون المضيف هو الإمام عليعليه‌السلام .

وذكر البعض ـ أيضا ـ أنّ هذه الآية نزلت في مقاتلي غزوة احد ، حيث أنّ سبعة أشخاص منهم جرحوا في المعركة وقد أنهكهم العطش ، فجيء بماء يكفي لأحدهم ، فأبى أن يشرب وأومأ إلى صاحبه ، وكان الساقي كلّما ذهب إلى أحدهم يشير إلى الآخر ويؤثره على نفسه مع شدّة عطشه ، إلى أن وصل إلى الأخير فوجده قد فارق الحياة ثمّ رجع إلى الأوّل فوجده قد فارق الحياة أيضا ، وحتّى انتهى إليهم جميعا وهم موتى فأثنى الله تعالى على إيثارهم هذا(٢) .

ولكن من الواضح أنّ هذه الآية نزلت في بني النضير ، وبسبب عمومية مفهومها فإنّها قابلة للتطبيق في موارد متشابهة.

وفي نهاية الآية ـ ولمزيد من التأكيد لهذه الصفات الكريمة ، وبيان تأثيرها الإيجابي العميق ـ يضيف سبحانه :( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .

«الشحّ» كما يقول الراغب في المفردات : البخل مقترنا بالحرص عادة.

«يوق» من مادّة وقاية ، وبالرغم من أنّه بصيغة فعل مجهول ، إلّا أنّه من الواضح أنّ الفاعل هو الله سبحانه ، ويعني أنّ كلّ شخص حفظه الله سبحانه من هذه الصفة الذميمة فإنّه سيفلح.

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٦٠.

١٩٢

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال لأحد أصحابه : أتدري ما الشحّ؟ فأجاب : هو البخيل ، قالعليه‌السلام : «الشحّ أشدّ من البخل ، إنّ البخيل يبخل ممّا في يده ، والشحيح يشحّ بما في أيدي الناس ، وعلى ما في يده ، حتّى لا يرى في أيدي الناس شيئا إلّا تمنّى أن يكون له بالحلّ والحرام ، ولا يقنع بما رزقه اللهعزوجل »(١) .

ونقرأ في حديث ثان : «لا يجتمع الشحّ والإيمان في قلب رجل مسلم ، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخّان جهنّم في جوف رجل مسلم»(٢) .

وبالجملة ، فما يستفاد بوضوح من الآية أعلاه أنّ ترك المرء للشحّ يوصله إلى الفلاح ، ومن يتّصف بهذه الصفة المذمومة فإنّه يهدم بناء سعادته.

وفي آخر آية مورد البحث يأتي الحديث عن آخر طائفة من المسلمين ، الذين عرفوا بيننا باصطلاح القرآن الكريم بـ (التابعين) ، والذين يشكّلون المجموعة الغالبة من المسلمين بعد المهاجرين والأنصار الذين تحدّثت عنهم الآيات السابقة.

يقول تعالى :( وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .

بالرغم من أنّ بعض المفسّرين قد حدّد مفهوم هذه الآية بمجموعة من الأشخاص الذين التحقوا بالمسلمين بعد انتصار الإسلام وفتح مكّة ، إلّا أنّه لا يوجد دليل على هذه المحدوديّة الخاصّة بل تشمل جميع المسلمين إلى يوم القيامة ، وعلى فرض أنّ هذه الآية ناضرة إلى فئة خاصّة ، إلّا أنّها عامّة من حيث الملاك والمعيار والنتيجة.

وبهذا فإنّ الآيات الثلاثة المتقدّمة تشمل جميع مسلمي العالم ، الذين

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٩١ ، حديث ٦٤.

(٢) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٦٢.

١٩٣

ينضوون إلى واحدة من هذه الطوائف الثلاثة ، وهم : (المهاجرون والأنصار والتابعون).

جملة( وَالَّذِينَ جاؤُ ) حسب الظاهر عطف على( لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ ) وذلك لبيان هذه الحقيقة ، وهي أنّ أموال «الفيء» لا تنحصر بمحتاجي المهاجرين والأنصار فقط ، بل تشمل سائر المحتاجين من المسلمين على مرّ العصور.

ويحتمل أيضا أنّ الجملة مستقلّة (بأن تكون جملة( وَالَّذِينَ جاؤُ ) مبتدأ (ويقولون) خبر) إلّا أنّ التّفسير الأوّل ـ بالنظر إلى انسجامه مع الآيات السابقة ـ هو الأنسب.

والملاحظ هنا هو أنّ الآية تذكر ثلاث صفات للتابعين :

الاولى : أنّهم يفكّرون في إصلاح أنفسهم ، وطلب العفو والمغفرة والتوبة من الله تعالى.

والثّانية : النظرة المقترنة بالإكبار والإجلال والاحترام إلى من سبقهم بالإيمان ، ويطلبون لهم أيضا العفو والمغفرة من الله تعالى.

الثّالثة : أنّهم يسعون بكلّ وسيلة إلى تهذيب أنفسهم وتطهيرها من الحقد والحسد والبغض والعداء ، ويطلبون العون من الله الرؤوف الرحيم لمساعدتهم في هذا الطريق.

وبهذا الترتيب فإنّ خصوصياتهم هي : (تربية النفس) و (الاحترام للسابقين في الإيمان) و (الابتعاد عن الحسد والبغضاء).

«غلّ» على وزن (سلّ) ، جاءت في الأصل بمعنى نفوذ الشيء بخفية ، ولذا يقال للماء الجاري بين الأشجار (غلل) ولأنّ الحسد والعداوة والبغضاء تنفذ في قلب الإنسان بصورة خفيّة ، يقال لها : «غل». وبناء على هذا فإنّ (الغلّ) ليس فقط بمعنى الحسد ، ولكنّه مفهوم واسع يشمل الكثير من الصفات الخفيّة والقبيحة أخلاقيا.

١٩٤

والتعبير بـ (إخوان) والاستمداد من الرؤوف الرحيم في نهاية الآية يحكي عن روح المحبّة والصفاء والاخوّة التي يجب أن تسود المجتمع الإسلامي أجمع. فكلّ شخص يتمنّى صفة حسنة لا يتمنّاها لنفسه فحسب ، بل للآخرين أيضا ، ولتشمل المجتمع بصورة عامّة ، وبذلك تطهّر القلوب من كلّ أنواع العداء والبغضاء والحسد والحرص ، وهذا هو المجتمع الإسلامي النموذجي.

* * *

بحث

الصحابة في ميزان القرآن والتاريخ :

يصرّ بعض المفسّرين ـ بدون الالتفات إلى الصفات التي مرّت بنا في الآيات السابقة لكلّ من المهاجرين والأنصار والتابعين ـ على اعتبار جميع الصحابة بدون استثناء متّصفين بجميع الصفات الإيجابية (للمهاجرين والأنصار والتابعين) وأنّهم نموذج يقتدى بهم من حيث نزاهتهم وطهرهم والتسامح فيما بينهم ، وكلّ خلاف صدر منهم أحيانا سواء في زمن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو من بعده فإنّهم يغضّون النظر عنه ، وبهذا اعتبروا كلّ مهاجر وأنصاري وتابع شخصا محترما ومقدّسا بصورة عامّة ، دون الالتفات إلى أعمالهم وتقييمها حسب الموازين الشرعية.

إلّا أنّ الملاحظ أنّ في الآيات أعلاه رفض واضح إزاء هذا الفهم ، حيث تحدّد الآية التقييم وفق ضوابط وموازين دقيقة للمهاجرين الحقيقيين والأنصار والتابعين.

ففي «المهاجرين» : الإخلاص والجهاد والصدق.

وفي «الأنصار» : المحبّة للمهاجرين والإيثار ، والابتعاد عن كلّ حرص وبخل.

وفي «التابعين» : بناء أنفسهم ، والاحترام للسابقين في الإيمان ، والابتعاد عن

١٩٥

كلّ بغض وحسد.

ومع كلّ هذا ، كيف يمكن أن نحترم الأشخاص الذين قاتلوا الإمام عليعليه‌السلام في معركة الجمل وشهروا سيفهم عليه ، ولم يراعوا اخوته في الله ، ولم يطهّروا قلوبهم من البغض والحسد تجاهه ، ولا احترموا أسبقيته في الإيمان ، وبعد كلّ ذلك لا يجوز لنا انتقادهم ، بل يجب علينا التسليم وبدون نقاش لأحاديث هذا وذاك دون تمحيص وتثبّت.

وبناء على هذا فإنّنا في الوقت الذي نحترم فيه السابقين في خطّ الرسالة والإيمان ، يجدر بنا أن ندقّق في سوابقهم وملفّ فعالهم ، سواء على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو المخاضات المختلفة التي حدثت بعده في التأريخ الإسلامي ، وعلى أساس الضوابط والمعايير الإسلامية المستلهمة من هذه الآيات المباركات نحكم لهم أو عليهم ، وعندئذ نقوّي أواصرنا مع من بقي على العهد ، ونقطعها أو نحدّدها ـ بما يناسب ـ مع من ضعفت روابطهم أو قطعوها مع تلك الموازين والضوابط ، وهذا هو المنطق الصحيح والمنسجم مع حكم القرآن والعقل.

* * *

١٩٦

الآيات

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) )

سبب النّزول

نقل بعض المفسّرين سببا لنزول الآيات أعلاه ، والذي خلاصته ما يلي :

١٩٧

إنّ قسما من منافقي المدينة ـ كعبد الله بن أبي وأصحابه ـ أرسلوا شخصا إلى يهود بني النضير وأبلغهم بما يلي : أثبتوا في أماكنكم بقوّة ، ولا تخرجوا من بيوتكم ، وحصّنوا قلاعكم ، وسيكون إلى جنبكم ألفا مقاتل من قومنا مدد لكم ، وإنّنا معكم حتّى النهاية. كما أنّ بني قريظة وقبيلة غطفان والمتعاطفين معكم سيلتحقون بكم أيضا.

إنّ هذه الرسالة ـ التي وجّهها المنافق عبد الله بن أبي إلى اليهود بني النضير ـ أوجدت لديهم الإصرار والعناد على مخالفة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والخروج عن أمره ، وفي هذه الحالة انبرى (سلام) أحد كبار يهود بني النضير إلى «حي بن أخطب» الذي كان أحد وجوه بني النضير وقال له : لا تهتّموا بكلام عبد الله بن أبي ، إنّه يريد أن يدفعكم لقتال محمّد ويجلس في داره ويسلّمكم للحوادث ، قال حي : نحن لا نعرف شيئا إلّا العداء لـ (محمّد) والقتال له ، فأجابه سلام : اقسم بالله أنّي أراهم سيخرجوننا قريبا ويهدرون أموالنا وشرفنا وتؤسر أطفالنا ويقتل مقاتلونا(١) .

وأخيرا تبيّن الآيات أعلاه نهاية المطاف لهذا المشهد.

ويعتقد البعض أنّ هذه الآيات نزلت قبل قصّة يهود بني النضير ، حيث تتحدّث عن الحوادث المستقبلية لهذه الوقائع ، وبهذا اللحاظ فإنّهم يعتبرونها إحدى المفردات الغيبية للقرآن الكريم.

ورغم أنّ التعابير التي وردت في الآيات الكريمة كانت بصيغة المضارع وبذلك تؤيّد وجهة النظر هذه ، إلّا أنّ العلاقة بين هذه الآيات والآيات السابقة التي نزلت بعد اندحار بني النضير وإبعادهم عن المدينة ، تؤكّد لنا أنّ هذه الآيات أيضا نزلت بعد هذا الحادث ، ولذا كان التعبير بصيغة المضارع بعنوان حكاية الحال. «فتدبّر»

__________________

(١) روح البيان ، ج ٩ ، ص ٤٣٩ ، وجاء نفس هذا المعنى باختلافات عديدة في تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٩٩.

١٩٨

التّفسير

دور المنافقين في فتن اليهود :

بعد بيان ما جرى ليهود بني النضير في الآيات السابقة ، وبيان حالة الأصناف الثلاثة من المؤمنين (المهاجرين والأنصار والتابعين) وخصوصيات كلّ منهم في الآيات مورد البحث ، يتعرّض القرآن الكريم الآن لشرح حالة المنافقين ودورهم في هذا الحادث ، وبيان حالهم بالقياس مع الآخرين ، وهذا هو منهج القرآن الكريم ، حيث يعرّف كلّ طائفة بمقارنتها مع الاخرى.

وفي البداية يتحدّث مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول سبحانه :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ) .

وهكذا فانّ هؤلاء المنافقين وعدوا طائفة اليهود بأمور ثلاثة ، وجميعها كانت كاذبة :

الأوّل : إذا أخرجتم من هذه الأرض فإنّنا سوف لن نبقى بعدكم نتطلّع إلى خواء أماكنكم ودياركم.

والأمر الآخر : إذا صدر أمر ضدّكم من أي شخص ، وفي أيّ مقام ، وفي أي وقت ، فإنّ موقفنا الرفض له وعدم الاستجابة.

والأمر الثالث : إنّه إذا وصل الأمر للقتال فإنّنا سوف نقف إلى جانبكم ولا نتردّد في نصرتكم أبدا.

نعم ، هذه هي الوعود التي أعطاها المنافقون لليهود قبل هذا الحادث ، إلّا أنّ الحوادث اللاحقة أو ضحت كذب ادّعاءاتهم ووعودهم.

ولهذا السبب يقول القرآن الكريم بصراحة( وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) .

كم هو تعبير رائع ومثير ومقترن بتأكيدات عديدة ، من شهادة اللهعزوجل ، وكون الجملة اسمية ، وكذلك الاستفادة من (إنّ) واللام للتأكيد ، وكلّها تفيد أنّ

١٩٩

الكذب والنفاق ممتزجان بهم لحدّ لا يمكن فصلهما ، لقد كان المنافقون كاذبين دائما ، والكاذبون منافقين غالبا.

والتعبير بـ (إخوانهم) يوضّح لنا طبيعة العلاقة الحميمة جدّا بين «المنافقين» و «الكفّار» ، كما ركّزت الآيات السابقة على علاقة الاخوة بين المؤمنين ، مع ملاحظة الاختلاف بين الفصيلتين ، وهو أنّ المؤمنين صادقون في اخوتهم لذلك فهم لا يتبرّمون بكلّ ما يؤثرون به على أنفسهم ، على عكس المنافقين حيث ليس لهم وفاء أو مواساة بعضهم لبعض ، وتتبيّن حقيقتهم بصورة أوضح في اللحظات الحرجة حيث يتخلّون عن أقرب الناس لهم ، بل حتّى عن إخوانهم ، وهذا هو محور الاختلاف بين نوعين من الاخوة ، اخوة المؤمنين واخوة المنافقين.

وجملة :( وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً ) تشير إلى موقف المنافقين الذي أعلنوه لليهود بأنّهم سوف لن يراعوا التوصيّات والإنذارات التي أطلقها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم.

ثمّ للإيضاح والتأكيد الأكثر حول كذب المنافقين يضيف سبحانه :

( لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ) .

( وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ ) .

( وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ) .

( ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ) .

إنّ اللحن القاطع والقوي لهذه الآيات قد أدخل الرعب والهلع في قلوب المنافقين وأقلق بالهم.

وبالرغم من أنّ الآية نزلت في مورد معيّن ، إلّا أنّها ـ من المسلّم ـ لا تختص به ، بل بيان أصل عامّ في علاقة المنافقين مع سائر أعداء الإسلام ، بالإضافة إلى الوعود الكاذبة التي يمنحها كلّ منهم للآخر ، وتقرّر بطلان وخواء كلّ هذه الروابط والوعود.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

محمّد البدر، آخر أئمة الزيديّة، فليرجع إلى كتابنا (بحوث في الملل والنحل). (1)

فكما قامت للزيديّة دولة في المغرب واليمن، فهكذا قامت دولة زيديّة في طبرستان بين الأعوام (250 - 360هـ)؛ حيث ظهر الحسن بن زيد بن محمّد بن إسماعيل بن زيد بن الحسين في طبرستان أيّام المستعين الله، وتمكّن من بسط نفوذه على طبرستان وجُرجان، وقام بعده أخوه محمّد بن زيد، ودخل بلاد الديلم عام 277هـ، ثُمَّ ملك طبرستان بعد ذلك الناصر للحق الحسن بن عليّ المعروف بالأطروش، وجاء بعده الحسن بن القاسم، وبعده محمّد بن الحسن بن القاسم المتوفّى 360هـ.

هذه إلمامة موجزة وضعتها أمام القارئ عن ثوّارهم ودولهم.

عقائد الزيديّة

لم يكن زيد الشهيد صاحب نهج كلامي ولا فقهي، فلو كان يقول بالعدل والتوحيد ويكافح الجبر والتشبيه، فلأجل أنّه ورثهما عن آبائه (عليهم السّلام)، وإن كان يفتي في مورد أو موارد، فهو يصدر عن الحديث الّذي يرويه عن آبائه.

نعم، جاء بعد زيد مفكّرون وعاة، وهم بين دعاة للمذهب، أو بناة للدولة في اليمن وطبرستان، فساهموا في إرساء مذهب باسم المذهب الزيدي، متفتّحين في الأُصول والعقائد مع المعتزلة، وفي الفقه وكيفيّة الاستنباط مع الحنفيّة، ولكن الصلة بين ما كان عليه زيد الشهيد في الأُصول والفروع وما أرساه

____________________

(1) بحوث في الملل والنحل: 7/371 - 386.

٢٤١

هؤلاء في مجالي العقيدة والشريعة منقطعة إلاّ في القليل منهما.

ولا أُغالي إذا قلت: إنّ المذهب الزيدي مذهب ممزوج ومنتزع من مذاهب مختلفة في مجالي العقيدة والشريعة، ساقتهم إلى ذلك الظروف السائدة عليهم، وصار مطبوعاً بطابع مذهب زيد، وإن لم يكن له صلة بزيد إلاّ في القسم القليل.

ومن ثَمَّ التقت الزيديّة في العدل والتوحيد مع شيعة أهل البيت جميعاً، إذ شعارهم في جميع الظروف والأدوار رفض الجبر والتشبيه، والجميع في التديّن بذينك الأصلين عيال على الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، كما أنّهم التقوا في الأُصول الثلاثة: ـ

1 - الوعد والوعيد.

2 - المنزلة بين المنزلتين.

3 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. - مع المعتزلة حيث أدخلوا هذه الأُصول في مذهبهم ورتّبوا عليه:

1 - خلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات بلا توبة، وحرمانه من الشفاعة؛ لأنّها للعدول دون الفسّاق.

2 - الشفاعة؛ بمعنى ترفيع الدرجة، لا الحطّ من الذنوب.

3 - الفاسق في منزلة بين المنزلتين؛ فهو عندهم لا مؤمن ولا كافر بل فاسق.

فاستنتجوا الأمرين الأوّلين من الأصل الأوّل، والثالث من الأصل الثاني.

٢٤٢

وأمّا الأصل الثالث، فهو ليس من خصائص الاعتزال، ولا الزيديّة، بل يشاركهم الإماميّة. هذه عقائدهم في الأُصول.

وأمّا الفروع فقد التفّت الزيديّة حول القياس والاستحسان والإجماع، وجعلوا الثالث بما هو هو حجّة، كما قالوا بحجيّة قول الصحابي وفعله، وبذلك صاروا أكثر فِرق الشيعة انفتاحاً على أهل السنّة.

ولكن العلامة الفارقة والنقطة الشاخصة الّتي تميّز هذا المذاهب عمّا سواه من المذاهب، ويسوقهم إلى الانفتاح على الإماميّة والإسماعيليّة، هو القول بإمامة عليّ والحسنين بالنصّ الجليّ أو الخفيّ عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، والقول بأنّ تقدّم غيرهم عليهم كان خطأ وباطلاً.

وها نحن نأتي برؤوس عقائدهم الّتي يلتقون في بعضها مع المعتزلة والإماميّة:

1 - صفاته سبحانه عين ذاته، خلافاً للأشاعرة.

2 - إنّ الله سبحانه لا يُرى ولا تجوز عليه الرؤية.

3 - العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها.

4 - الله سبحانه مريد بإرادة حادثة.

5 - إنّه سبحانه متكلّم بكلام، وكلامه سبحانه فعله: وهو الحروف والأصوات.

6 - أفعال العباد ليست مخلوقة لله سبحانه.

7 - تكليف ما يطاق قبيح، خلافاً للمجبّرة والأشاعرة.

8 - المعاصي ليس بقضاء الله.

٢٤٣

9 - الإمامة تجب شرعاً لا عقلاً، خلافاً للإمامية.

10 - النصّ على إمامة زيد والحسنين عند الأكثريّة.

11 - القضاء في فدك صحيح، خلافاً للإماميّة.

12 - خطأ المتقدّمين على عليّ في الخلافة قطعيّ.

13 - خطأ طلحة والزبير وعائشة قطعيّ.

14 - توبة الناكثين صحيحة.

15 - معاوية بن أبي سفيان فاسق لبغيه لم تثبت توبته.

هذه رؤوس عقائد الزيديّة استخرجناها من كتاب (القلائد في تصحيح الاعتقاد)، المطبوع في مقدّمة البحر الزخّار. (1)

فرق الزيديّة:

قد ذكر مؤرّخو العقائد للزيديّة فِرقاً، بين مقتصر على الثلاث، وإلى مفيض إلى ست، وإلى ثمان، منهم: الجاروديّة والسليمانيّة والبتريّة والنعيميّة، إلى غير ذلك من الفِرق، وبما أنّ هذه الفِرق كلّها قد بادت وذهبت أدراج الريح، مع بقاء الزيديّة في اليمن، ولا يوجد اليوم في اليمن بين الزيديّة من المفاهيم الكلاميّة المنسوبة إلى الفِرق كالجاروديّة أو السليمانيّة أو البتريّة أو الصالحيّة إلاّ مفهوم واحد، وهو المفهوم العام الّذي تعرفت عليه، وهو القول بإمامة زيد والخروج

____________________

(1) البحر الزخّار: 52 - 96.

٢٤٤

على الظلمة، واستحقاق الإمامة بالطلب والفضل، لا بالوراثة، مع القول بتفضيل عليّ - كرم الله وجهه - وأولويتّه بالإمامة، وقصرها من بعده في البطنين الحسن والحسين.

وأمّا أسماء تلك الفِرق والعقائد المنسوب إليهم، فلا توجد اليوم إلاّ في بطون الكتب والمؤلَّفات في الفِرق الإسلاميّة كالمِلل والنحل ونحوها، فإذا كان الحال في اليمن كما ذكره الفضيل شرف الدين، فالبحث عن هذه الفِرق من ناحية إيجابيّاتها وسلبيّاتها ليس مهمّاً بعد ما أبادهم الدهر، وإنّما اللاّزم دراسة المفهوم الجامع بين فِرقهم.

٢٤٥

15

الإسماعيليّة

الإسماعيليّة فِرقة من الشيعة القائلة بأنّ الإمامة بالتنصيص من النبيّ أو الإمام القائم مقامه، غير أنّ هناك خلافاً بين الزيديّة والإماميّة والإسماعيليّة في عدد الأئمّة ومفهوم التنصيص.

فالأئمّة المنصوصة خلافتهم وإمامتهم بعد النبيّ عند الزيديّة لا يتجاوز عن الثلاثة: عليّ أمير المؤمنين (عليه السّلام)، والسبطين الكريمين: الحسن والحسين (عليهما السّلام)، وبشهادة الأخير أغلقت دائرة التنصيص وجاءت مرحلة الانتخاب بالبيعة كما تقدم.

وأمّا الأئمّة المنصوصون عند الإماميّة فاثنا عشر إماماً آخرهم غائبهم يظهره الله سبحانه عندما يشاء، وقد حوّل أمر الأُمّة - في زمان غيبته - إلى الفقيه العارف بالأحكام والسنن والواقف على مصالح المسلمين على النحو المقرّر في كتبهم وتآليفهم.

وأمّا الإمامة عند الإسماعيليّة فهي تنتقل عندهم من الآباء إلى الأبناء، ويكون انتقالها عن طريق الميلاد الطبيعي، فيكون ذلك بمثابة نصّ من الأب بتعيين الابن، وإذا كان للأب عدّة أبناء فهو بما أُوتي من معرفة خارقة للعادة يستطيع أن يعرف من هو الإمام الّذي وقع عليه النص، فالقول بأنّ الإمامة عندهم بالوراثة أولى من القول بالتنصيص.

٢٤٦

وعلى كلّ حال فهذه الفِرقة منشقّة عن الشيعة، معتقدة بإمامة إسماعيل بن جعفر بن الإمام الصادق (عليه السّلام)، وإليك نبذة مختصرة عن سيرة إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

الإمام الأوّل للدعوة الإسماعيليّة:

إنّ إسماعيل هو الإمام الأوّل والمؤسّس للمذهب، فوالده الإمام الصادق (عليه السّلام) غنيّ عن التعريف وفضله أشهر من أن يُذكر، وأُمّه فاطمة بنت الحسين بن عليّ بن الحسين الّتي أنجبت أولاداً ثلاثة هم:

1 - إسماعيل بن جعفر.

2 - عبد الله بن جعفر.

3 - أُم فروة.

وكان إسماعيل أكبرهم، وكان أبو عبد الله (عليه السّلام) شديد المحبّة له والبرَّ به والإشفاق عليه، مات في حياة أبيه (عليه السلام) (بالعريض) وحمل على رقاب الرّجال إلى أبيه بالمدينة حتّى دفنه بالبقيع. (1)

استشهاد الإمام الصادق (عليه السّلام) على موته:

كان الإمام الصادق حريصاً على إفهام الشيعة بأنّ الإمامة لم تُكتب لإسماعيل، فليس هو من خلفاء الرسول الاثني عشر الّذين كُتبت لهم الخلافة والإمامة بأمر السماء وإبلاغ الرسول الأعظم.

____________________

(1) إرشاد المفيد: 284.

٢٤٧

ومن الدواعي الّتي ساعدت على بثّ بذر الشبهة والشكّ في نفوس الشيعة في ذلك اليوم؛ هو ما اشتهر من أنّ الإمامة للولد الأكبر، وكان إسماعيل أكبر أولاده، فكانت أماني الشيعة معقودة عليه، ولأجل ذلك تركّزت جهود الإمام الصادق (عليه السّلام) على معالجة الوضع واجتثاث جذور تلك الشبهة وأنّ الإمامة لغيره، فتراه تارة ينصّ على ذلك، بقوله وكلامه، وأُخرى بالاستشهاد على موت إسماعيل وأنّه قد انتقل إلى رحمة الله ولن يصلح للقيادة والإمامة.

وإليك نموذجاً يؤيّد النهج الّذي انتهجه الإمام لتحقيق غرضه في إزالة تلك الشبهة.

روى النعماني عن زرارة بن أعين، أنّه قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السّلام) وعند يمينه سيّد ولده موسى (عليه السّلام) وقدّامه مرقد مغطّى، فقال لي: «يا زرارة جئني بداود بن كثير الرقي وحمران وأبي بصير» ودخل عليه المفضّل بن عمر، فخرجت فأحضرت من أمرني بإحضاره، ولم يزل الناس يدخلون واحداً إثر واحد حتّى صرنا في البيت ثلاثين رجلا.

فلمّا حشد المجلس قال: «يا داود اكشف لي عن وجه إسماعيل»، فكشف عن وجهه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا داود أحيٌّ هو أم ميّت؟» ، قال داود: يا مولاي هو ميّت، فجعل يعرض ذلك على رجل رجل، حتّى أتى على آخر من في المجلس، وانتهى عليهم بأسرهم، وكل يقول: هو ميّت يا مولاي، فقال: «اللّهم اشهد» ثُمَّ أمر بغسله وحنوطه، وإدراجه في أثوابه.

فلمّا فرغ منه قال للمفضّل: (يا مفضّل أحسر عن وجهه)، فحسر عن وجهه، فقال: «أحيُّ هو أم ميّت؟» فقال له: ميّت، قال(عليه السّلام): «اللّهم اشهد عليهم» ، ثُمَّ

٢٤٨

حمل إلى قبره، فلمّا وضع في لحده، قال: «يا مفضّل اكشف عن وجهه»، وقال للجماعة: (أحيّ هو أم ميّت؟)، قلنا له: ميّت، فقال: «اللّهم اشهد، واشهدوا فانّه سيرتاب المبطلون، يريدون إطفاء نور الله بأفواههم - ثُمَّ أومأ إلى موسى - والله متمّ نوره ولو كره المشركون»، ثُمَّ حثونا عليه التراب، ثُمَّ أعاد علينا القول، فقال: «الميّت، المحنّط، المكفّن المدفون في هذا اللحد من هو؟» قلنا: إسماعيل، قال: «اللّهم اشهد». ثُمَّ أخذ بيد موسى (عليه السّلام) وقال: «هو حقّ، والحقّ منه، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها». (1)

هل كان عمل الإمام تغطية لستره؟

إنّ الإسماعيليّة تدّعي أنّ ما قام به الإمام الصادق (عليه السّلام) كان تغطية؛ لستره عن أعين العباسيّين، الّذين كانوا يطاردونه بسبب نشاطه المتزايد في نشر التعاليم الّتي اعتبرتها الدولة العباسيّة منافية لقوانينها. والمعروف أنّه توجّه إلى سلمية ومنها إلى دمشق فعلم به عامل الخليفة، وهذا ما جعله يغادرها إلى البصرة ليعيش فيها متستّراً بقيّة حياته.

مات في البصرة سنة 143هـ، وكان أخوه موسى بن جعفر الكاظم حجاباً عليه، أمّا وليّ عهده محمّد فكان له من العمر أربع عشرة سنة عند موته. (2)

ما ذكره أُسطورة حاكتها يدُ الخيال، ولم يكن الإمام الصادق (عليه السّلام) ولا أصحابه الأجلاّء، ممّن تتلمذوا في مدرسة الحركات السريّة، حتّى يفتعل موت ابنه بمرأى ومسمع من الناس وهو بعد حيّ يرزق، ولم يكن عامل الخليفة

____________________

(1) غيبة النعماني: 327، الحديث 8، ولاحظ؛ بحار الأنوار: 48/21.

(2) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 180.

٢٤٩

بالمدينة المنوّرة بليداً، يكتفي بالتمويه، حتّى يتسلّم المحضر ويبعث به إلى دار الخلافة العبّاسيّة.

والظاهر أنّ إصرارهم بعدم موت إسماعيل في حياة أبيه جعفر الصادق (عليه السّلام)، لأجل تصحيح إمامة ابنه عبد الله بن إسماعيل؛ حتّى يتسنّى له أخذ الإمامة من أبيه الحيّ بعد حياة الإمام الصادق (عليه السّلام).

لكن الحقّ أنّه توفّي أيّام حياة أبيه، بشهادة الأخبار المتضافرة الّتي تعرّفت عليها، وهل يمكن إغفال أُمّة كبيرة وفيهم جواسيس الخليفة وعمّالها؟!، وستْر رحيل إسماعيل إلى البصرة بتمثيل جنازة بطريقة مسرحيّة يُعلن بها موته، فإنّه منهج وأُسلوب السياسيّين المخادعين، المعروفين بالتخطيط والمؤامرة، ومن يريد تفسير فعل الإمام عن هذا الطريق فهو من هؤلاء الجماعة (وكلّ إناء بالّذي فيه ينضح). وأين هذا من وضع الجنازة مرّات وكشف وجهه والاستشهاد على موته وكتابة الشهادة على كفنه؟!

والتاريخ يشهد على أنّه لم يكن لإسماعيل ولا لولَده الإمام الثاني، أيّة دعوة في زمان أبي جعفر المنصور ولا ولَده المهدي العبّاسي، بشهادة أنّ ابن المفضّل كتب كتاباً ذكر فيه صنوف الفِرق، ثُمَّ قرأ الكتاب على الناس، فلم يذكر فيه شيئاً من تلك الفِرقة مع أنّه ذكر سائر الفِرق الشيعيّة البائدة.

والحق إنّ إسماعيل كان رجلاً ثقة، محبوباً للوالد، وتوفّي في حياة والده وهو عنه راض، ولم تكن له أي دعوة للإمامة، ولم تظهر أي دعوة باسمه أيّام خلافة المهدي العبّاسي الّذي توفّي عام 169هـ، وقد مضى على وفاة الإمام الصادق (عليه السّلام) إحدى وعشرون سنة.

٢٥٠

الخطوط العريضة للمذهب الإسماعيلي

إنّ للمذهب الإسماعيلي آراء وعقائداً:

الأُولى: انتماؤهم إلى بيت الوحي والرسالة:

كانت الدعوة الإسماعيليّة يوم نشوئها دعوة بسيطة لا تتبنّى سوى: إمامة المسلمين، وخلافة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) واستلام الحكم من العباسيّين بحجة ظلمهم وتعسّفهم، غير أنّ دعوة بهذه السذاجة لا يُكتب لها البقاء إلاّ باستخدام عوامل تضمن لها البقاء، وتستقطب أهواء الناس وميولهم.

ومن تلك العوامل الّتي لها رصيد شعبي كبير هو ادّعاء انتماء أئمّتهم إلى بيت الوحي والرسالة وكونهم من ذريّة الرسول وأبناء بنته الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام)، وكان المسلمون منذ عهد الرسول يتعاطفون مع أهل بيت النبيّ، وقد كانت محبّتهم وموالاتهم شعار كلّ مسلم واع.

وممّا يشير إلى ذلك أنّ الثورات الّتي نشبت ضد الأُمويّين كانت تحمل شعار حبّ أهل البيت (عليهم السّلام) والاقتداء بهم والتفاني دونهم، ومن هذا المنطلق صارت الإسماعيليّة تفتخر بانتماء أئمّتهم إلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، حتّى إذا تسلّموا مقاليد الحكم وقامت دولتهم اشتهروا بالفاطميّين، وكانت التسمية يومذاك تهزّ المشاعر وتجذب العواطف بحجّة أنّ الأبناء يرثون ما للآباء من الفضائل والمآثر، وأنّ

٢٥١

تكريم ذريّة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) تكريم له (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فشتّان ما بين بيت أُسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوانه وبيت أُسّس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم.

الثانية: تأويل الظواهر:

إنّ تأويل الظواهر وإرجاعها إلى خلاف ما يتبادر منها في عرف المتشرّعة هي السمة البارزة الثانية للدعوة الإسماعيليّة، وهي إحدى الدعائم الأساسيّة؛ بحيث لو انسلخت الدعوة عن التأويل واكتفت بالظواهر لم تتميّز عن سائر الفِرق الشيعيّة إلاّ بصرف الإمامة عن الإمام الكاظم (عليه السّلام) إلى أخيه إسماعيل بن جعفر، وقد بنوا على هذه الدعامة مذهبهم في مجالي العقيدة والشريعة، وخصوصاً فيما يرجع إلى تفسير الإمامة وتصنيفها إلى أصناف.

إنّ تأويل الظواهر والتلاعب بآيات الذكر الحكيم وتفسيرها بالأهواء والميول جعل المذهب الإسماعيلي يتطوّر مع تطوّر الزمان، ويتكيّف بمكيّفاته، ولا ترى الدعوة أمامها أي مانع من مماشاة المستجدات وإن كانت على خلاف الشارع أو الضرورة الدينيّة.

الثالثة: تطعيم مذهبهم بالمسائل الفلسفيّة:

إنّ ظاهرة الجمود على النصوص والظواهر ورفض العقل في مجالات العقائد، كانت من أهم ميّزات العصر العبّاسي، هذه الظاهرة ولّدت رد فعل عند أئمّة الإسماعيليّة، فانجرفوا في تيّارات المسائل الفلسفيّة وجعلوها من صميم

٢٥٢

الدّين وجذوره، وانقلب المذهب إلى منهج فلسفي يتطوّر مع تطوّر الزمن، ويتبنّى أُصولاً لا تجد منها في الشريعة الإسلاميّة عيناً ولا أثراً.

يقول المؤرّخ الإسماعيلي المعاصر مصطفى غالب: إنّ كلمة (إسماعيليّة) كانت في بادئ الأمر تدلّ على أنّها من إحدى الفِرق الشيعيّة المعتدلة، لكنّها صارت مع تطوّر الزمن حركة عقليّة تدلّ على أصحاب مذاهب دينيّة مختلفة، وأحزاب سياسيّة واجتماعيّة متعدّدة، وآراء فلسفيّة وعلميّة متنوّعة. (1)

الرابعة: تنظيم الدعوة:

ظهرت الدعوة الإسماعيليّة في ظروف ساد فيها سلطان العبّاسيّين شرق الأرض وغربها، ونشروا في كلِّ بقعة جواسيس وعيوناً ينقلون الأخبار إلى مركز الخلافة الإسلاميّة، ففي مثل هذه الظروف العصيبة لا يُكتب النجاح لكلّ دعوة تقوم ضدّ السلطة إلاّ إذا امتلكت تنظيماً وتخطيطاً متقناً يضمن استمرارها، ويصون دعاتها وأتباعها من حبائل النظام الحاكم وكشف أسرارهم.

وقد وقف الدعاة على خطورة الموقف، وأحسّوا بلزوم إتقان التخطيط والتنظيم، وبلغوا فيه الذروة؛ بحيث لو قُورنت مع أحدث التنظيمات الحزبيّة العصريّة، لفاقتها وكانت لهم القدح المعلّى في هذا المضمار، وقد ابتكروا أساليب دقيقة يقف عليها من سبر تراجمهم وقرأ تاريخهم، ولم يكتفوا بذلك فحسب بل جعلوا تنظيمات الدعوة من صميم العقيدة وفلسفتها.

____________________

(1) تاريخ الدعوة الإسماعيليّة: 14.

٢٥٣

الخامسة: تربية الفدائيّين للدفاع عن المذهب:

إنّ الأقلّية المعارضة من أجل الحفاظ على كيانها لا مناص لها من تربية فدائيّين مضحّين بأنفسهم في سبيل الدعوة؛ لصيانة أئمتهم ودعاتهم من تعرّض الأعداء، فينتقون من العناصر المخلصة المعروفة بالتضحية والإقدام، والشجاعة النادرة، والجرأة الخارقة ويكلّفون بالتضحيات الجسديّة، وتنفيذ أوامر الإمام أو نائبه، وإليك هذا النموذج:

في سنة 500 هـ فكّر فخر الملك بن نظام وزير السلطان سنجر، أن يُهاجم قلاع الإسماعيليّة، فأوفد إليه الحسن بن الصباح أحد فدائيّيه فقتله بطعنة خنجر، ولقد كانت قلاعه في حصار مستمر من قبل السلجوقيّين.

السادسة: كتمان الوثائق:

إنّ استعراض تاريخ الدعوات الباطنيّة السرّيّة وتنظيماتها رهن الوقوف على وثائقها ومصادرها الّتي تنير الدرب لاستجلاء كنهها، وكشف حقيقتها وما غمض من رموزها ومصطلحاتها، ولكن للأسف الشديد أنّ الإسماعيليّة كتموا وثائقهم وكتاباتهم ومؤلّفاتهم وكلّ شيء يعود لهم، ولم يبذلوها لأحد سواهم، فصار البحث عن الإسماعيليّة بطوائفها أمراً مستعصياً، إلاّ أن يستند الباحث إلى كتب خصومهم وما قيل فيهم، ومن المعلوم أنّ القضاء في حقّ طائفة استناداً إلى كلمات مخالفيهم خارج عن أدب البحث النزيه.

٢٥٤

السابعة: الأئمّة المستورون والظاهرون:

إنّ الإسماعيليّة أعطت للإمامة مركزاً شامخاً، وصنّفوا الإمامة إلى رُتب ودرجات، وزوّدوها بصلاحيّات واختصاصات واسعة، غير أنّ المهمَّ هنا الإشارة إلى تصنيفهم الإمام إلى مستور دخل كهف الاستتار، وظاهر يملك جاهاً وسلطاناً في المجتمع، فالأئمّة المستورون هم الّذين نشروا الدعوة سرّاً وكتماناً، وهم:

1 - إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

2 - محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الحبيب) (132 - 193هـ)، ولد في المدينة المنوّرة وتسلّم شؤون الإمامة واستتر عن الأنظار خشية وقوعه بيد الأعداء. ولقّب بالإمام المكتوم لأنّه لم يعلن دعوته وأخذ في بسطها خفية.

3 - عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الوافي) (179 - 212هـ)، ولد في مدينة محمّد آباد، وتولّى الإمامة عام 193هـ بعد وفاة أبيه، وسكن السلمية عام 194هـ مصطَحباً بعدد من أتباعه؛ وهو الّذي نظّم الدعوة تنظيماً دقيقاً.

4 - أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (التقي) (198 - 265هـ)، وتولّى الإمامة عام 212هـ، سكن السلمية سرّاً حيث أصبحت مركزاً لنشر الدعوة.

5 - الحسين بن أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الرضي) (212 - 289هـ) تولّى الإمامة عام 265هـ، ويقال أنّه اتّخذ عبد الله بن ميمون القدّاح حجّة له وحجاباً عليه.

٢٥٥

الأئمّة الظاهرون:

6 - عبيد الله المهدي (260 - 322هـ) والمعروف بين الإسماعيليّة أنّ عبيد الله المهدي الّذي هاجر إلى المغرب وأسّس هناك الدولة الفاطميّة كان ابتداءً لعهد الأئمّة الظاهرين الّذين جهروا بالدعوة وأخرجوها عن الاستتار.

7 - محمّد بن عبيد الله القائم بأمر الله (280 - 334هـ)، ولد بالسلمية، ارتحل مع أبيه عبيد الله المهدي إلى المغرب وعهد إليه بالإمامة من بعده.

8 - إسماعيل المنصور بالله (303 - 346هـ)، ولد بالقيروان، تسلّم شؤون الإمامة بعد وفاة أبيه سنة 334هـ.

9 - معد بن إسماعيل المعزّ لدين الله (319 - 365هـ)، مؤسس الدولة الفاطميّة في مصر.

10 - نزار بن معد العزيز بالله (344 - 386هـ)، ولي العهد بمصر سنة 365هـ، واستقلّ بالأمر بعد وفاة أبيه، وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً.

11 - منصور بن نزار الحاكم بأمر الله (375 - 411هـ)، بويع بالخلافة سنة 386هـ وكان عمره أحد عشر عاماً ونصف العام، وهو من الشخصيّات القليلة الّتي لم تتجلّ شخصيّته بوضوح، وقام بأعمال إصلاحيّة زعم مناوئوه أنّها من البدع.

وأمّا عن مصير الحاكم، فمجمل القول فيه أنّه فُقد في سنة 411هـ، ولم يُعلم مصيره، وحامت حول كيفيّة اغتياله أساطير لا تتلاءم مع الحاكم المقتدر.

٢٥٦

وبعد اختفائه انشقّت فِرقة من الإسماعيليّة ذهبت إلى إلوهيّة الحاكم وغيبته، وهم المعروفون اليوم بـ (الدروز) يقطنون لبنان.

12 - عليّ بن منصور الظاهر لإعزاز دين الله (395 - 427هـ)، بويع بالخلافة وعمره ستة عشر عاماً، وشنّ حرباً على الدروز محاولاً إرجاعهم إلى العقيدة الفاطميّة الأصيلة.

13 - معد بن عليّ المستنصر بالله (420 - 487هـ)، بويع بالخلافة عام 427هـ، وكان له من العمر سبعة أعوام، وقد ظلّ في الحكم ستّين عاماً، وهي أطول مدّة في تاريخ الخلافة الإسلاميّة.

إلى هنا تمّت ترجمة الأئمّة الثلاثة عشر الّذين اتّفقت كلمة الإسماعيليّة على إمامتهم وخلافتهم، ولم يشذّ منهم سوى الدروز الّذين انشقوا عن الإسماعيليّة في عهد خلافة الحاكم بأمر الله، وصار وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق آخر وظهور طائفتين من الإسماعيليّة، بين مستعلية تقول بإمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ونزاريّة تقول بإمامة نزار بن المستنصر.

وسنأتي بالحديث عن الإسماعيليّة المستعلية والنزاريّة فيما يلي.

٢٥٧

الإسماعيليّة المستعلية

صارت وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق الإسماعيليّة مرّة ثانية - بعد انشقاق الدروز في المرّة الأُولى - فمنهم من ذهب إلى إمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ومنهم من ذهب إلى إمامة نزار من المستنصر بالله، وإليك الكلام في أئمّة المستعلية في هذا الفصل مقتصرين على أسمائهم وتاريخ ولادتهم ووفاتهم:

1 - الإمام أحمد بن معد بن عليّ المستعلي بالله (467 - 495هـ).

2 - الإمام منصور بن أحمد الآمر بأحكام الله (490 - 524هـ).

قال ابن خلّكان: مات الآمر بأحكام الله ولم يعقب، وربّما يقال: أنّ الآمر مات وامرأته حامل بالطيّب. فلأجل ذلك عهد الآمر بأحكام الله الخلافة إلى الحافظ، الظافر، الفائز، ثُمَّ إلى العاضد، وبما أنّ هؤلاء لم يكونوا من صلب الإمام السابق، بل كانوا من أبناء عمّه صاروا دعاة؛ حيث لم يكن في الساحة إمام، ودخلت الدعوة المستعلية بعد اختفاء الطيّب بالستر، وما تزال تنتظر عودته، وتوقّفت عن السير وراء الركب الإمامي واتّبعت نظام الدعاة المطلقين.

3 - الداعي عبد المجيد بن أبي القاسم محمّد بن المستنصر الحافظ لدين الله (467 - 544هـ).

4 - الداعي إسماعيل بن عبد المجيد الظافر بأمر الله (527 - 549 هـ).

٢٥٨

5 - الداعي عيسى بن إسماعيل الفائز بنصر الله (544 - 555هـ).

6 - عبد الله بن يوسف العاضد لدين الله (546 - 567هـ).

ثُمَّ إنّ العاضد فوّض الوزارة إلى صلاح الدين الأيّوبي الّذي بذل الأموال على أصحابه وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال، فلم يزل أمره في ازدياد وأمر العاضد في نقصان، حتّى تلاشى العاضد وانحلّ أمره، ولم يبق له سوى إقامة ذكره في الخطبة، وتتبّع صلاح الدين جُند العاضد، وأخذ دور الأمراء وإقطاعاتهم فوهبها لأصحابه، وبعث إلى أبيه وإخوته وأهله، فقدموا من الشام عليه، وعزل قُضاة مصر الشيعة، واختفى مذهب الشيعة إلى أنّ نُسي من مصر، وقد زادت المضايقات على العاضد وأهل بيته، حتّى مرض ومات وعمره إحدى وعشرون سنة إلاّ عشرة أيام، وهو آخر الخلفاء الفاطميّين بمصر، وكانت مدّتهم بالمغرب ومصر منذ قام عبيد الله المهدي إلى أن مات العاضد 272 سنة، منها بالقاهرة 208 سنين.(1)

تتابع الدعاة عند المستعلية:

قد عرفت أنّ ركب الإمامة قد توقّف عند المستعلية وانتهى الأمر إلى الدعاة الّذين تتابعوا إلى زمان 999هـ، وعند ذلك افترقت المستعلية إلى فِرقتين: داوديّة، وسليمانيّة، وذلك بعد وفاة الداعي المطلق داود بن عجب شاه، انتخبت مستعلية كجرات داود بن قطب شاه خلفاً له، ولكن اليمانيّين عارضوا ذلك وانتخبوا داعياً آخر، يُدعى سليمان بن

____________________

(1) انظر الخطط المقريزيّة: 1/358 - 359.

٢٥٩

الحسن، ويقولون: إنّ داود قد أوصى له بموجب وثيقة ما تزال محفوظة.

إنّ الداعي المطلق للفِرقة الإسماعيليّة المستعلية الداوديّة اليوم هو طاهر سيف الدّين، ويُقيم في بومباي الهند، أمّا الداعي المطلق للفِرقة المستعلية السليمانيّة فهو عليّ بن الحسين، ويقيم في مقاطعة نجران بالحجاز. (1)

جناية التاريخ على الفاطميّين:

لاشكّ أنّ كلّ دولة يرأسها غير معصوم لا تخلو من أخطاء وهفوات، وربّما تنتابها بين آونة وأُخرى حوادث وفتن تضعضع كيانها وتشرفها على الانهيار.

والدولة الفاطميّة غير مستثناة عن هذا الخط السائد؛ فقد كانت لديها زلاّت وعثرات، إلاّ أنّها قامت بأعمال ومشاريع كبيرة لا تقوم بها إلاّ الدولة المؤمنة بالله سبحانه وشريعته، كالجامع الأزهر الّذي ظلّ عبر الدهور يُنير الدرب لأكثر من ألف سنة، كما أنّهم أنشأوا جوامع كبيرة ومدارس عظيمة مذكورة في تاريخهم، وبذلك رفعوا الثقافة الإسلاميّة إلى مرتبة عالية، وتلك الأعمال جعلت لهم في قلوب الناس مكانة عالية.

غير أنّا نرى أنّ أكثر المؤرّخين يصوّرها بأنّها من أكثر العصور ظلاماً في التاريخ؛ شأنها في ذلك شأن سائر الفراعنة، وليس هذا إلاّ حدسيّات وتخمينات أخذها أصحاب أقلام السِّير والتاريخ من رُماة القول على عواهنه دون أن يُمعنوا فيه.

____________________

(1) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 162.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624