الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196918 / تحميل: 5659
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

كَذِبَ المُنجِّمون ولو صدقوا

كان أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) قد جهَّز جيشاً لمُحاربة الخوارج، وعندما أراد (عليه السلام) الخروج بجيشه جاءه أحد أصحابه، وقال له: يا أمير المؤمنين، أخشى إنْ خرجت في هذه الساعة أنْ لا تبلغ مُرادك وأنْ تٌهزم أمام عدوِّك، وما خشيتي هذه إلاَّ نابعة مِن معرفتي بما سيحصل مِن خلال النجوم.

فقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):

(أتَزْعَمُ أنَّكَ تَهْدي إلى السَّاعَةِ التي مَنْ سارَ فيها صُرِفَ عَنْهُ السُّوءُ؟!

وتُخَوِّفُ مِنَ السّاعَةِ التي مَنْ سارَ فيها حاقَ بهِ الضُّرُّ؟!

فَمَنْ صَدَّقَكَ بِهذا فَقَدْ كَذَّبَ القُرْآنَ واسْتَغْنى عَنِ الاسْتِعانَةِ بِاللهِ في نَيْلِ المَحْبُوبِ ودَفْعِ المَكْرُوهِ، ويَنْبَغي في قَوْلِكَ لِلعامِلِ بِأمْرِكَ أنْ يُولِيَكَ الحَمْدَ دُونَ رَبِّهِ؛ لأنَّكَ بِزَعْمِكَ أنْتَ هَدَيْتَهُ إلى السَّاعَةِ التي نالَ فيها النَّفْعَ وأمِنَ الضُّرَّ).

ثُمَّ أقْبَلَ (عليه السلام) على الناس فقال: (سيرُوا على اسْمِ اللهِ).

لقد تصوَّر هذا الرجل أنَّ باستطاعته مِن خلال المُحاسبات النجوميَّة أنْ يَعلم الغيب، وأنْ يُحيط الأشخاص بما سيواجهونه في المُستقبل مِن أحداث؛ ومِن هذا المنطلق جاء ليُعرب لأمير المؤمنين (عليه السلام) عن خشيته مِن هزيمة تتربَّص بجيشه إنْ خرج في الساعة الفُلانيَّة.

ولو كان أمير المؤمنين (عليه السلام) كغيره مِمَّن يؤمنون بمِثل هذه الخرافات؛ لارتاب عند سماعه هذا الخبر وانصرف عن قراره بخروج الجيش في مِثل تلك الساعة، لكنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ترعرع في مدرسة الإسلام، ولم يُبالِ بما سمعه، ولم يدع الخوف والقلق يُسيطران عليه، فرفض بقاطعيَّة ما تفوَّه به الرجل، وخرج بجيشه في تلك الساعة مُتوكِّلا على الله، فتغلَّب على عدوِّه وعاد مُنتصراً ظافراً (1).

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٢١

إنْ كان كما يكفيك لا يُغنيك فكلُّ ما فيها لا يُغنيك

عن حمزة بن حمران قال:

شكا رجلٌ إلى أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنَّه يطلب فيُصيب ولا يقنع، وتُنازعه نفسه إلى ما هو أكثر منه، وقال: علِّمني شيئاً أنتفع به.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام):

(إنْ كان ما يكفيك يُغنيك فأدنى ما فيها يُغنيك، وإنْ كان ما يكفيك لا يُغنيك فكلُّ ما فيها لا يُغنيك).

ونستشفُّ أنَّ تضادَّ عدد مِن الغرائز والرغبات الطبيعيَّة، هو مِن جُملة العوامل التي تَحدُّ مِن حُرِّيَّة الإنسان، وتمنعه مِن تحقيق بعض أمانيه (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٢٢

لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ

عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنَّ سُمرة بن جندب كان له عِذق في حائط لرجل مِن الأنصار، وكان منزل الأنصاري بباب البُستان، فكان يمرُّ إلى نخلته ولا يستأذن، فكلَّمه الأنصاري أنْ يستأذن إذا جاء، فأبى سُمرة، فلمَّا أبى جاء الأنصاري إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فشكا إليه وخبَّره الخبر، فأرسل إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخبَّره بقول الأنصاري وما شكا، وقال:

(إذا أردت الدخول فاستأذن)، فأبى، فلمَّا أبى ساومه حتَّى بلغ مِن الثمن ما شاء الله، فأبى أنْ يبيع، فقال (صلى الله عليه وآله):

(لك بها عِذق مُذلَّل في الجَنَّة)، فأبى أنْ يقبل،

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للأنصاري:

(اذْهَبْ فَاقْلَعْها وارْمِ بِها إلَيْهِ لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ).

يتَّضح لنا مِن خلال تحليل هذه القضيَّة والوقوف عند تفاصيلها، أنَّ القوانين الاجتماعيَّة في الإسلام لا تسمح للفرد بأنْ يتمادى بحُرِّيَّته الفرديَّة إلى ما يُسيء بحُرِّيَّة الآخرين (1).

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٢٣

الإسلام دين الشباب

في السنوات الثلاث الأُولى مِن بعثة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) كان النبي يدعو الناس سِرَّاً إلى الإسلام؛ وذلك لتجنُّب شَرَّ المُشركين وعَبدة الأصنام، وخلال هذه الفترة آمن بدعوته أربعون رجُلاً وامرأة، مُعظمهم مِن الصغار والمُراهقين والشباب، الذين تراوحت أعمارهم بين العاشرة والخامسة والعشرين عاماً.

وكان أصحاب الضمائر الحَيَّة والفِطرة الطاهرة، أكثر الناس لياقة لقَبول الدين الإسلامي؛ لأنَّ دعوة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) جاءت مُتطابقة مع طبيعتهم الباحثة عن الحقيقة، والمَحبَّة للخير والفضيلة.

فقد آمن هؤلاء بدعوة النبي، وجذبتهم التعاليم الإسلاميَّة السامية، وترسَّخت الدعوة في أعماقهم حتَّى ارتضوا بالنبيِّ رسولاً وقائداً لهم، فتجمَّعوا حوله ليُشكِّلوا النواة المركزيَّة للإسلام.

ويُمكن القول: إنَّ دعوة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) كان لها أثرها البالغ في صفوف الفتيان والشُبَّان، الذين كانون يحومون حوله كالفراشات، ويُنفِّذون تعاليمه بكلِّ حُبٍّ وإخلاص، ومِن هنا جاء تأييد النبي (صلى الله عليه وآله) للشابِّ.

وبعد فترة مِن الدعوة السِّرِّيَّة أمر الله سبحانه وتعالى نبيَّه (صلى الله عليه وآله) بأنْ يَجهر دعوته بين الناس، وينشر تعاليم هذا الدين السماويِّ أمام المَلأ، فكان الشباب أيضاً يُشكِّلون غالبيَّة مَن اعتنقوا الدين الإسلامي وآمنوا بدعوة الرسول (صلى الله عليه وآله).

وقد أثار استقبال الشباب المُتزايد لدعوة الرسول (صلى الله عليه وآله) واعتناقهم

٢٢٤

الدين الإسلامي سَخط وغَضب الشيوخ الطاعنين في السِّن، الذين كانوا يغرقون في شِركهم وضلالهم نتيجة تعصبُّهم ولجاجتهم، حتَّى وصل بهم الأمر إلى اتِّهام المسلمين بالفساد والضلالة، وركَّزوا على هذا الاتِّهام في شكواهم مِن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وأعربوا بكلِّ صراحة عن قلقهم إزاء ما يجري.

قال عتبة - وهو مِن مُشركي مَكَّة - لأسعد بن زرارة: خَرَجَ فينا رَجُلٌ يَدَّعي أنَّهُ رَسُولُ اللهِ، سَفَّهَ أحْلامَنا وسَبَّ آلِهتَنَا، وأفْسَدَ شُبّانَنا وفَرَّقَ جَماعَتَنا.

ولمَّا اجتمع رجال قريش وشيوخ المُشركين في دار الندوة، لوضع مُخطَّط لمواجهة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والوقوف بوجه الانتشار السريع للإسلام، ومُحاربة أتباع الرسول (صلى الله عليه وآله)، توالت الخُطب العنيفة، ومِن جُملتها خُطبة ألقاها أبو جهل ركَّز فيها على عبارة: (أفسد شُبَّاننا) وأعرب عن قلقه العميق إزاء التأثير البالغ، الذي تتركه دعوة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في نفوس شباب مَكَّة وفتيانها.

لقد بات اعتناق الشباب الدين الإسلامي حديث الساعة، ومَحطَّ اهتمام الناس في صدر الإسلام، فكان الآباء والأُمَّهات وعامَّة كِبار السِّنِّ في مَكَّة، غاضبين جِدَّاً مِن استجابة فتيانهم وشُبَّانهم لدعوة النبي (صلى الله عليه وآله) وتعاونهم معه بكلِّ حُبٍّ وإخلاصٍ. حتَّى إنَّهم لجأوا إلى استخدام شتَّى وسائل التعذيب والضغط بحقِّ أبنائهم لصَدِّهم عن اتِّباع الرسول، وثنيهم عن مسيرتهم وإجبارهم على العودة لعبادة الأصنام آلهة آبائهم وأجدادهم، إلاَّ أنَّ أساليب الضغط والتعذيب، التي استخدمها مُشركو مَكَّة لم يكن لها أدنى تأثير في نفوس الشباب المؤمن، ولم تستطع إرباك إيمانهم وصَدِّهم عن مسيرتهم في اتِّباع الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)؛ لأنَّ ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) هو أقرب إلى عقولهم وفطرتهم، وكان بمثابة الضالَّة التي تبحث عنها ضمائر الشباب الحيَّة والطاهرة، وقد جاء الرسول (صلى الله عليه

٢٢٥

وآله) ليُخاطبهم بلسان القلب للقلب، ويَنفذ بالإسلام إلى أعماقهم، وكيف يستطيع التعذيب والتحقير والإهانة تغيير العقيدة التي ترسَّخت جُذورها في الأعماق، وتجريد النفس الطاهرة مِن فطرتها؟ (1)

____________________

(1) الشاب، ج2.

٢٢٦

الحسَنُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍِ حَسَنٌ،

ومِن الموالين أَحْسنُ

كان رجل يُدعى الشقراني يُبرز حُبَّه للإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، وكان يَعدُّ نفسه مِن مُحبِّي أهل البيت (عليهم السلام)، وكان الشقراني مُدمناً على الخمرة، فطلب مِن الإمام (عليه السلام) يوماً أنْ يشفع له عند المنصور الدوانيقي، فلبَّى الإمام طلبه، وأراد (عليه السلام) أنْ ينهاه عن الخمرة، فتحدَّث إليه بكلِّ أدبٍ ولينٍ، وبعيداً عن التوبيخ والتقريع وأنظار الناس، فقال (عليه السلام) له: (إنَّ الحَسَنَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ حَسَنٌ، وإنَّهُ مِنكَ أَحْسنُ لِمَكانِكَ مِنّا، وإنَّ القَبيحَ مِنْ كُلِّ أحدٍ قبيحٌ وإنَّهُ مِنْكَ أَقْبَحُ).

ونُخلص إلى أنَّ أُسلوب التوبيخ والتقريع في المدرسة التربويَّة الإسلاميَّة أُسلوب مذموم ومرفوض، وعلى المسلمين أنْ يتجنَّبوا هذه الطبيعة السيِّئة. أمَّا إذا كان الهدف مِن هذا الأُسلوب صيانة مصلحة الأُمَّة، كتطهيرها مِن شُرور العناصر الضَّالَّة، أو إنقاذها مِن دنس المُعتدِّين الجائرين، فإنَّه يُصبح جائراً شرعاً مَثله مَثل بعض أنواع الكذب والغيبة (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٢٧

ما أخْسَرَ المشَقَّةَ وَراءها العِقابُ!!

قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) - وقَدْ لَقِيَهُ عِنْدَ مَسيرِهِ إلى الشّامِ دَهاقينُ الأنْبارِ فَتَرَجَّلُوا لَهُ واشْتَدُّوا بَيْنَ يَدَيْهِ ـ: (ما هذا الَّذي صَنَعْتُمُوهُ؟!).

فَقالوا: خُلْقٌ مِنَّا نُعَظِّمُ بِه أمراءَنا.

فَقالَ: (واللهِ، ما يَنْتَفِعُ بِهذا أمَراؤكُمْ، وإنَّكُمْ لَتَشُقُّونَ عَلى أنْفُسِكُمْ في دُنْياكُمْ وتَشْقَوْنَ بهِ في آخِرَتِكُمْ، وما أخْسَرَ المَشَقَّةَ وَراءها العِقابُ وأرْبَحَ الدِّعَةَ مَعَها الأمانُ مِنَ النّار) (1).

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٢٨

إنَّ الله هُوَ التَّوَّابُ الرحيمُ

حينما أراد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) إعداد الجيش لخوض معركة تبوك أعلن النفير العامَّ، وتهيَّأ المسلمون للقتال، فخرجوا في اليوم المُحدَّد مُتوجِّهين نحو جَبهة القتال، إلاَّ أنَّ ثلاثة مِن الأنصار هُم: كعب بن مالك، وهلال بن أُميَّة، وابن ربيع مكثوا في المدينة مُتخلِّفين عن المسلمين وما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله) دون مُبرِّر.

ولمَّا عاد الرسول بجيشه إلى المدينة، دخل عليه هؤلاء الثلاثة طالبين منه الصَّفح عَمَّا بدا منهم، إلاَّ أنَّ الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يُحدِّثهم، ودعا المسلمين إلى مُقاطعتهم، حتَّى هجرهم جميع المسلمين بصغارهم وكبارهم حتَّى أُسرهم هجرتهم، وكانت تُقدِّم إليهم الطعام في مواقيته دون أنْ تتحدَّث معهم.

واستمرَّت المُقاطعة حوالي خمسين يوماً حتَّى ضاقت عليهم الأرض، فكانوا يُغادرون المدينة أحياناً لشدَّة ما حَلَّ بهم، ويلتجئون إلى التِّلال والمُرتفعات المُحيطة بالمدينة، فيستغفرون الله تعالى نادمين على فعلتهم طالبين منه العفو والصَّفح بأعيُن دامعة، حتَّى تقبَّل توبتهم وعفا عن خطاياهم.

قال تعالى: ( وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) .

وذات يوم وعقب صلاة الصُّبح أعلن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) عن قَبول الله سبحانه وتعالى توبة هؤلاء الثلاثة، وطلب إنهاء المُقاطعة ليعود هؤلاء إلى حياتهم الاجتماعيَّة، ويستعيدوا عِزَّتهم وكرامتهم، وقد أثار هذا النبأ موجة مِن البَهجة والسرور عمَّت أهالي المدينة.

٢٢٩

إنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) لم يُجازِ المُتخلِّفين الثلاثة بالسِّجن والتعذيب أو الإعدام، بلْ استغلَّ مسألة العِزَّة والكرامة الاجتماعيَّة، وعاقبهم بسوء السُّمعة والعار والفضيحة، وكان إعراض الناس عنهم ومُقاطعتهم لهم أصعب بالنسبة لهم مِن السِّجن وأشدَّ ألماً مِن أيِّ عِقاب، وبالرغم مِن أنَّهم كانوا أحراراً غير مُقيَّدين، إلاّ أنَّهم شعروا بأنَّ الأرض قد ضاقت عليهم نتيجة مُقاطعة الناس لهم (1).

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٣٠

فبِما كسبت أيديكم

إنَّ رجلاً مِن أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) لسَعَته حَيَّة، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): (أتدري لِما أصابك ما أصابك؟).

قال: لا.

قال: (أما تذكر حيث أقبل قنبر خادمي، وأنت بحضرة فُلان العاتي، فقمت له إجلالاً لإجلالك لي؟

فقال لك: أتقوم لهذا بحضرتي؟!

فقلتَ له: وما بالي لا أقوم! وملائكة الله تضع له أجنحتها في طريقه فعليها يمشي. فلمَّا قلتَ هذا له قام إلى قنبر وضربه وشتمه وآذاه، وتهدَّدني وألزمني الإغضاء على قَذى... فإنْ أردت أنْ يُعافيك الله تعالى مِن هذا فاعقد أنْ لا تفعل بنا ولا بأحدٍ مِن موالينا بحضرة أعدائنا ما يُخاف علينا وعليهم).

فلو كان ذلك الرجل المُخطئ في تصرُّفه فرداً عاقلاً حكيماً، لما قام بذلك العمل ولما أدَّى إلى إهانة قنبر وأذيَّته.

ومِن هنا نقول: إنَّ الصديق الجاهل يؤذي صديقه ويُتعبه، فهو يُحاول أنْ ينفعه فيضرُّه لجهله (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٣١

مُشاورة الرجال مُشاركتهم في عقولهم

كان للمُعتصم العباسي وزير يُسمَّى: الفضل بن مروان، قد فاق أقرانه وأضحى موضع اهتمام الخليفة لكفاءته وجَدارته، وذات يومٍ دعا الوزير الخليفة للنزول عليه ضيفاً؛ مِن أجل أنْ يكشف للعامَّة منزلته عند الخليفة، الذي لبَّى بدوره دعوة وزيره المُقرَّب.

وكان الوزير قد أعدَّ قصره وزيَّنه بأفخم الأشياء، وفرشه بأثمن الفرش، وجَلب أوانٍ مِن الذهب وأُخرى مِن الفِضَّة، وهيَّأ أفخر الطعام ورتَّب مجلساً مِن أبهى ما يكون.

ولمَّا دخل الخليفة المجلس بُهت لكلِّ هذه الثروة وهذا الجلال، وأخذته الغيرة والحَسد مِن وزيره، فجلس للحظات والحَسد يعتصره، ثمَّ قام وخرج مِن المجلس بحُجَّة يُعاني مِن آلامٍ في بطنه. فاستبدَّ بالوزير القَلق مِمَّا حصل، وقاده التفكير إلى أنَّ هذا المجلس المشؤوم لا يُمكن أنْ يرفع منزلته عند الخليفة وقد يُطيح به، فأخذ يُفكِّر بما عليه فعله، إلاّ أنَّ اضطرابه قد شُلَّ مِن قُدرته على التفكير.

عند ذاك قرَّر أنْ يُسر صاحبه إبراهيم الموصلي، الذي كان حاضراً المجلس بحقيقة الأمر ليستنير بعقله، فتقدَّم منه وتحدَّث إليه بما جرى. فكَّر إبراهيم قليلاً ثمَّ قال للوزير: أنْ اذهب مع الخليفة ولا تنفصل عنه، واتبعه إلى البلاط لتوديعه والاطمئنان على حاله، وامكث هناك حتَّى تأتيك رسالتي، فإذا وصلتك فافتحها واقرأها بحضور المُعتصم، وإذا سألك عَمَّا في الرسالة أجبه.

نَفَّذ الوزير أمر صاحبه العاقل، وبلغته الرسالة وكان قد كتب فيها إبراهيم يقول:

٢٣٢

إنَّ أصحاب الفرش والصُّحون الذهبيَّة والفضيَّة، قد جاؤوا يسألون عَمَّا كان مجلس ضيافة الخليفة، قد انتهى لكي يأخذوا حاجياتهم وأموالهم.

وحصل ما توقَّعه إبراهيم، فقد سأل المُعتصم عَمَّا تضمَّنته الرسالة، فقرأ عليه الوزير فحواها، فضحك الخليفة دون إرادة وزالت عُقدته الباطنيَّة، لمَّا عرف أنَّ كلَّ هذه الفخامة والأُبَّهة والثروة ليست مِلك الوزير، بلْ استقرضها مِن أصحابها، ثمَّ شكر الخليفة وزيره على حُسن الضيافة، وقد استطاع الصديق الذكيُّ اللبيب بتدبيره وحكمته إنقاذ صاحبه مِن خَطرٍ حقيقيٍّ.

إنَّ المدرسة التربويَّة الإسلاميَّة، تولي اهتماماً كبيراً لمسألة الصُّحبة، وضرورة أنْ يكون الصديق عاقلاً وحكيماً، بحيث إنَّها تُجيز مُصاحبة الإنسان العاقل والمُفكَّر، حتَّى وإنْ افتقد لبعض مكارم الأخلاق (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٣٣

الكادُّ على عياله كالمُجاهد في سبيل الله

عن أبي عَمْرو الشّيباني قال:

رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) وبيده مسحاة، وعليه إزارٌ غليظ يعمل في حائطٍ له والعَرق يتصابُّ عن ظهره.

فقلت: جُعِلت فِداك! أعطني أكفِك.

فقال لي: (إنِّي أُحبُّ أنْ يتأذَّي الرَّجُل بحَرِّ الشِّمس في طَلب المَعيشة) (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٣٤

العمل باليد عمل النبيِّين والمُرسلين والصالحين

عن علي بن أبي حمزة قال: رأيت أبا الحسن (عليه السلام) يعمل في أرضٍ له قد استنقعت قَدماه في العرق.

قلت: جُعِلت فِداك! أين الرِّجال؟

فقال: (يا عليُّ، عَمِلَ باليد مَن هو خيرٌ مِنِّي ومِن أبي في أرضه).

فقلت له: ومَن هو؟

فقال: (رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأمير المؤمنين، وآبائي كلُّهم قد عملوا بأيديهم، وهو مِن عمل النَّبيِّين والمُرسلين والصَّالحين).

لقد كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يحترم العامل الكادح، ويُشجِّعه بشتَّى الطُّرق، ويحتقر العاطل عن العمل ويُبدي استياءه منه، وكلُّ ذلك كان بهدف حَثِّ المسلمين على العمل والمُثابرة وتحذيرهم مِن الكَسل والبطالة (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٣٥

يد الكادِّ على عِياله لا تمسُّها النار

أنس بن مالكٍ روى:

أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمَّا أقبل مِن غزوة تبوك، استقبله سعد الأنصاريِّ فصافحه النبي (صلى الله عليه وآله) ثمَّ قال له:

(ما هذا الذي أكنب يديك؟!).

قال: يا رسول الله، أضرب بالمَرِّ والمِسحاة فأُنفقه على عِيالي.

فقبَّل يده رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وقال: (هذه يَدٌ لا تمسُّها النَّار) (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٣٦

احمل على رأسك واستغن عن النَّاس

زرارة عن الإمام الصادق (عليه السلام):

إنَّ رجُلاً أتاه فقال: إنَّني لا أُحسن أنْ أعمل عملاً بيدي ولا أُحسن أنْ أتَّجر وأنا مُحتاجٌ.

فقال (عليه السلام): (اعمل واحمل على رأسك واستغنِ عن النَّاس) (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٣٧

مَن سعى على نفسه أو أبويه أو ذُرِّيَّته فهو في سبيل الله

كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) جالساً مع أصحابه ذات يوم، فنظر إلى شابٍّ ذي جَلدٍ وقوَّة وقد بكَّر يسعى.

فقالوا: ويحَ هذا! لو كان شبابه وجَلده في سبيل الله.

فقال (صلى الله عليه وآله): (لا تقولوا هذا، فإنَّه إنْ كان يسعى على نفسه ليكفَّها عن المسألة ويُغنيها عن النّاس فهو في سبيل الله، وإنْ كان يسعى على أبوين ضعيفين أو ذُرِّيَّةٍ ضعافاً ليُغنيهم ويكفيهم فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى تفاخراً وتكاثُراً فهو في سبيل الشيطان) (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٣٨

ليس هذا طلب الدُّنيا

هذا طلب الآخرة!!

قال رجل لأبي عبد الله الإمام الصادق (عليه السلام):

والله، إنّا لنطلب الدُّنيا ونُحبُّ أنْ نؤتاها.

فقال (عليه السلام): (تُحبُّ أنْ تصنع بها ماذا؟).

قال: أعود بها على نفسي وعيالي، وأصل بها، وأتصدَّق بها، وأحِجَّ وأعتمر، فقال (عليه السلام): (ليس هذا طلب الدُّنيا، هذا طلب الآخرة) (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٣٩

مَهلاً يا أُمَّاه فإنَّ مَعي مَن يَحفظني

في قِصَّة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) مع مُرضعته حليمة السعديَّة، تقول حليمة لمَّا بلغ محمد (صلى الله عليه وآله) الثالثة مِن عُمره قال لي:

ـ (أُمَّاه، أين يذهب إخوتي نهار كلِّ يوم؟).

ـ يخرجون إلى الصحراء لرَعي الأغنام.

ـ (لماذا لا يَصحبونني معهم؟).

ـ هل ترغب في الذهاب معهم؟

ـ (أجل).

فلمَّا أصبح دهَّنته وكحَّلته وعلَّقت في عُنقه خيطاً فيه جزع يمانيَّة فنزعها، ثمَّ قال لي: (مَهْلاً يا أُمَّاه، فإنَّ معي مَن يَحفظني).

الإيمان بالله هو الذي يجعل الطفل في الثالثة حُرَّاً وقويَّ الإرادة بهذه الصورة (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٤٠

عليه‌السلام أنّه إذا تبنّى طريق التوحيد فإنّهعليه‌السلام سيستغفر له الله سبحانه ، وقد عمل بما وعده به ، إلّا أنّ آزر لم يؤمن وبقي على ضلاله ، وعند ما اتّضح لإبراهيم أنّه عدوّ الله وسوف لن يؤمن أبدا ، لم يستغفر له ثانية وقطع علاقته به.

ولمّا كان المسلمون مطّلعين على منهج إبراهيمعليه‌السلام في تعامله مع «آزر» بصورة إجمالية ، فقد كان من المحتمل أن يكون هذا الموقف موضع إحتجاج لأشخاص مثل (حاطب بن أبي بلتعة) حيث كانوا يقيمون العلاقات والارتباطات السريّة مع الكفّار ، ولهذا فالقرآن الكريم يقطع الطريق على مثل هذه التصوّرات ويعلن ـ صراحة ـ أنّ هذا الاستثناء قد تمّ تحت شروط خاصّة ، وكان أسلوبا لاستدراج (آزر) إلى الهدى وإدخاله في الإيمان ، ولم يكن لأهداف دنيوية آنية أو مصلحة وقتية ، لذا يقولعزوجل في بيان هذا المعنى :( وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) (١) .

إلّا أنّ بعض المفسّرين يرى أنّ هذا الأمر كان استثناء من التأسّي بـ (إبراهيم) ، وقالوا يجب الاقتداء به في جميع الأمور إلّا في استغفاره لعمّه آزر.

إلّا أنّ هذا المعنى بعيدا جدّا لأنّه :

أوّلا : كانعليه‌السلام أسوة في جميع الأمور ومن ضمنها إتّباع هذا المنهج ، وذلك بلحاظ أنّ الشروط التي توفّرت في (آزر) توفّرت أيضا في بعض المشركين وعند ذلك لا بدّ من إظهاره المودّة لهم وتهيئة الأجواء الطيّبة لهم ، وجذبهم للإيمان.

وثانيا : أنّ إبراهيمعليه‌السلام نبي معصوم من أنبياء الله العظام ومن المجاهدين اللامعين ، وأعماله كلّها أسوة للمؤمنين ، وعندئذ لا داعي لاستثناء هذه المسألة من التأسّي به فيها.

__________________

(١) التوبة ، الآية ١١٤.

٢٤١

وخلاصة القول أنّ إبراهيمعليه‌السلام وأصحابه كانوا من أشدّ المخالفين والمحاربين للشرك ، ولا بدّ لنا من الاقتداء بهم وأخذ الدروس والعبر من سيرتهم ، بما في ذلك ما يتعلّق بموقفه من «آزر» إذا توفّرت لنا نفس الشروط والخصوصيات(١) .

وبما أنّ محاربة أعداء الله ، والصرامة والشدّة معهم ـ خصوصا مع تمتّعهم بقدرة ظاهرية ـ سوف لن تكون فاعلة إلّا بالتوكّل على الله تبارك وتعالى ، يضيف سبحانه في نهاية الآية :( رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) .

ونلاحظ ثلاثة امور في هذه العبارة :

الأمر الأوّل : هو التوكّل ، الثاني هو : التوبة والإنابة ، الثالث : التأكيد على حقيقة الرجوع النهائي في كلّ شيء إليه سبحانه ، حيث أنّ كلّ أمر من هذه الأمور يكون علّة وبنفس الوقت معلولا للآخر ، فالإيمان بالمعاد والرجوع النهائي إليه سبحانه يوجب التوبة ، والتوبة تحيي روح التوكّل في النفس الإنسانية(٢) .

وفي الآية اللاحقة يشير القرآن الكريم إلى طلب آخر مهمّ وحسّاس لإبراهيمعليه‌السلام وأصحابه في هذا المجال ، حيث يقول تعالى :( رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) .

من المحتمل أن يكون ما ورد في الآية إشارة إلى عمل «حاطب بن أبي بلتعة» واحتمال صدور شبيهه من أشخاص جهلة يكونون سببا في تقوية الظالمين ، من حيث لا يشعرون ، بل يتصوّرون أنّهم يعملون لمصلحة الإسلام ، أو إنّ المراد في الحقيقة دعاء بأنّه لا تجعلنا نقع في قبضة الكافرين فيقولوا : أنّ هؤلاء لو كانوا على الحقّ ما غلبوا ، ويؤدّي هذا التوهّم إلى ضلالهم أكثر.

__________________

(١) يتّضح لنا ممّا تقدّم أنّ الاستثناء هنا متّصل ، والمستثنى منه جملة محذوفة يدلّ عليها صدر الآية ، وتقديرها : إنّ إبراهيم وقومه تبرّأوا منهم ، ولم يكن لهم قول يدلّ على المحبّة إلّا قول إبراهيم ، وطبقا للتفسير الثاني فإنّ الاستثناء سوف يكون منقطعا ، وهذا بحدّ ذاته إشكال آخر عليه.

(٢) يتّضح ممّا قلناه أنّ هذه الجملة هي كلام إبراهيمعليه‌السلام وأصحابه ، بالرغم من أنّ بعض المفسّرين احتمل كونها جملة مستقلّة ونزلت بعنوان إرشاد للمسلمين ضمن هذه الآيات ، وهو احتمال بعيد.

٢٤٢

وهذا يعني أنّ المسلمين ما كانوا يأبهون بالخوف من خشية على مصالحهم أو على أنفسهم ، بل لكي لا يقع مبدأ الحقّ في دائرة الشكّ ويكون الإنتصار الظاهري للكفّار دليلا على حقّانيتهم وهذا هو منهج الإنسان المؤمن الراسخ في إيمانه ، حيث أنّ جميع ما يقوم به ويضحّي في سبيله لا لأجل نفسه ، بل لله سبحانه ، فهو مرتبط به وحده ، قاطع كلّ علاقة بما سواه ، طالب كلّ شيء لمرضاته.

ويضيف في نهاية الآية :( وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

فقدرتك يا الله لا تقهر ، وحكمتك نافذة في كلّ شيء.

إنّ هذه الجملة قد تكون إشارة لطلب المغفرة من الله سبحانه والعفو عن الزلل في حالة حصول الميل النفسي والحبّ والولاء لأعداء الله.

وهذا درس لكلّ المسلمين كي يقتدوا بهؤلاء. وإذا ما وجد بينهم شخص منحرف كـ (حاطب) فليستغفروا ربّهم ولينيبوا إليه.

ومرّة اخرى يؤكّد سبحانه في آخر آية من هذه الآيات على نفس الأمر الذي ذكر في أوّل آية ، حيث يقول تعالى :( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ) (١) .

لقد كانوا لنا أسوة ، ليس فقط في موقفهم ضدّ منهج الكفر وعبدة الأوثان ، بل هم أسوة لنا في الدعاء بين يدي البارئعزوجل ، وقدوة لنا في طلب المغفرة منه كما استعرضت الآيات السابقة نماذج في ذلك.

إنّ هذا الاقتداء في حقيقته يتمثّل في الذين تعلّقوا بالله سبحانه ، ونوّر الإيمان بالمبدأ والمعاد قلوبهم ، ونهجوا منهج الحقّ وتحرّكوا في طريقه وبدون شكّ فإنّ هذا التأسّي والاقتداء يرجع نفعه إلى المسلمين أنفسهم قبل الآخرين ، لذا يضيف سبحانه في النهاية قوله :( وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) .

__________________

(١) قال بعض المفسّرين : إنّ (لمن) في الآية أعلاه «بدل» عن (لكم) : (تفسير الفخر الرازي ، وروح المعاني ، في نهاية هذه الآيات).

٢٤٣

وذلك أنّ عقد الولاء مع أعداء الله يقوّي عودهم وشوكتهم وبالتالي إلى هزيمة المسلمين ، وإذا تسلّطوا عليكم فسوف لن يرحموا صغيركم وكبيركم(١) .

* * *

بحوث

١ ـ نماذج خالدة

إنّ المشاريع العملية غالبا ما تكون منبثقة عن قناعات تسبقها ، لأنّ العمل عادة يعبّر عن تجسيد حالة الإيمان العميق للإنسان بما يقوم به ، ويكون مجسّدا لأقواله وأفكاره ومتبنياته ، والحديث يخرج من القلب لا بدّ أن يكون موضع تأثّر وتفاعل قائلة نفسه به.

وفي الغالب فإنّ وجود القدوة في حياة البشر مؤثّر في تربيتهم وتوجيههم ، ولهذا السبب فإنّ النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام ، وبقيّة الأنبياء الكرامعليهم‌السلام كانوا موضع هداية البشرية من خلال أعمالهم والتزاماتهم ، لذا فإنّنا حينما نتحدّث عن «السنّة» ، التي هي عبارة عن (قول) المعصوم و (فعله) و (تقريره) ، أي أنّ كلام وعمل وسكوت المعصوم كلّه حجّة ودليل ، لا بدّ من الالتزام به ، ولهذا السبب فإنّ (العصمة) شرط أساسي لكلّ الأنبياء والأئمّةعليهم‌السلام كي يكونوا لنا أسوة وقدوة في جميع المجالات.

والقرآن الكريم يؤكّد هذه المسألة المهمّة والأساسية حيث يعرض للمؤمنين النماذج في هذه المجالات ومن جملتها ما جاء في هذه الآيات ، حيث يتحدّث عن النبي إبراهيمعليه‌السلام وأصحابه مرّتين ، كما يعرض القرآن الكريم في سورة الأحزاب شخص الرّسول الأكرم كقدوة وأسوة للمسلمين.

__________________

(١) بناء على هذا فإنّ جملة (من يتولّ) جملة شرطية ، ولها جزاء محذوف تقديره : من يتولّ فقد أخطأ حظّ نفسه وأذهب ما يعود نفعه إليه (مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٧٢).

٢٤٤

«الأسوة» هنا لها معنى مصدري ، بمعنى التأسّي والاقتداء العملي ، بالرغم من أنّها تفهم في الاستعمالات المتداولة بأنّها تعني الشخص موضع التأسّي.

في غزوة الأحزاب الرهيبة عرض القرآن الكريم النبي محمّد كنموذج وأسوة في الاستقامة والإيمان والإخلاص والتحلّي بالهدوء والصبر في غزوة مليئة بالمخاطر ، في وقت كان المسلمون موضع تمحيص ، وتعرّضوا فيه إلى زلزال عصيب ، وطبعا فانّ هذه المعنى لا ينحصر في هذه المناسبة فحسب ، بل إنّ شخصية رسولنا الأكرم قدوة وأسوة عظيمة لتربيتنا في كلّ زمان ومكان.

إنّ شعار : (كونوا دعاة الناس بأعمالكم ، ولا تكونوا دعاة بألسنتكم)(١) المنقول عن الإمام الصادقعليه‌السلام دليل على ضرورة أن يكون المسلمون ـ أجمع وكلّ في مجاله ـ أسوة وقدوة للآخرين ، وبلسان العمل يمكن أن يعرّف المسلمون الإسلام للعالم ، وحينئذ يمكن أن يستوعب الإسلام العالم أجمع.

٢ ـ الله غني عن الجميع

أكّد القرآن الكريم مرارا على نقطة مهمّة ، وهي أنّ الله تعالى إذا أمر الإنسان بالالتزام بأحكام ـ وتكاليف معيّنة ، فإنّ جميع منافعها تعود بالخير والمصلحة عليه ، بالرغم من المشقّة أحيانا في تطبيق هذه الأحكام والتكاليف. ذلك لأنّ الله تعالى ليس محتاجا لأي شيء في عالم الوجود ليستعين بنا عليه ، كما أنّه ليس لديه أي نقص في أي شيء ، إضافة إلى أنّ الإنسان لا يملك شيئا ليعطيه. بل كلّ ما لديه فهو لله تعالى.

وقد جاء في الأحاديث القدسية : «يا عبادي أنّكم لن تبلغوا ضرّي فتضرّوني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٢٧٨ ، مادّة عمل.

٢٤٥

على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا.

يا عبادي لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كلّ إنسان مسألته ما نقص ذلك من عندي إلّا كما ينقص المحيط إذا دخل البحر.

يا عبادي إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم ثمّ اوفيكم إيّاها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلو منّ إلّا نفسه»(١) .

٣ ـ الأصل في العلاقات الرسالية : (الحبّ في الله والبغض في الله).

إنّ أعمق رابطة تربط أبناء البشرية مع بعضهم هي الرابطة العقائدية ، حيث تبتني عليها سائر العلاقات الاخرى.

ولقد أكّد القرآن الكريم مرارا على هذا المعنى وهذا اللون من الارتباطات ، وشجب صور الروابط القائمة على أساس الصداقة والحميّة الجاهلية والمنافع الشخصية التي تكون على حساب مرتكزات المبدأ ، إذ أنّ ذلك يعني الاهتزاز والتصدّع في بناء الشخصية الرسالية

وبالإضافة إلى ذلك فإنّ المعيار الأساس للإنسان هو الإيمان والتقوى ، ولذا فإنّ إقامة العلاقات مع الأشخاص الذين يفقدون هذه المقوّمات أمر لا يقدم عليه الإنسان الملتزم ويحذّر من الوقوع في شراكه ، ولا بدّ من الرجوع إلى المعيار الإيماني في إقامة العلاقات وفق منهج الإسلام ، وجعل العلاقة مع الله والموقف من الله هو الحكم والفصل في طبيعة هذه العلاقة.

__________________

(١) روح البيان ، ج ٩ ، ص ٤٧٤.

٢٤٦

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام : «من أحبّ لله وأبغض لله وأعطى لله جلّ وعزّ فهو ممّن كمل إيمانه»(١) .

ونقرأ في حديث آخر عنهعليه‌السلام : «من أوثق عرى الإيمان ، أن تحبّ في الله ، وتبغض في الله ، وتعطي في الله ، وتمنع في الله»(٢) .

ولمزيد من الاطّلاع في مجال «الحبّ في الله والبغض في الله» يراجع التّفسير الأمثل نهاية الآية (٢٢) من سورة المجادلة.

* * *

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ٢ ، باب الحبّ في الله حديث (١ ، ٢).

(٢) اصول الكافي ، ج ٢ ، باب الحبّ في الله ، حديث (١ ، ٢). والأحاديث في هذا المجال كثيرة جدّا ويراجع المجلّد الثاني من كتاب اصول الكافي ، باب الحبّ في الله ، حيث نقل العلّامة الكليني في هذا الباب (١٦) حديثا حول هذا الموضوع.

٢٤٧

الآيات

( عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩) )

التّفسير

مودّة الكفّار غير الحربيين :

يستمرّ الحديث في هذه الآيات المباركات تكملة للموضوعات التي طرحت في الآيات السابقة حول «الحبّ في الله والبغض في الله» وقطع العلاقة مع المشركين ، بالرغم من أنّ قطع هذه الرابطة يولّد فراغا عاطفيا بالنسبة للبعض من

٢٤٨

المسلمين ، فإنّ المؤمنين الصادقين ، وأصحاب رسول الله المخلصين آمنوا بهذا المنهج وثبتوا عليه ، والله تعالى بشّر هؤلاء ألّا يحزنوا ، لأنّ الثواب هو جزاؤهم بالإضافة إلى أنّ هذه الحالة سوف لن تستمرّ طويلا ، حيث يقول سبحانه :( عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً ) .

ويتحقّق هذا الوعد وتصدق البشارة في السنة الثامنة للهجرة حيث منّ الله على المسلمين بفتح مكّة ، ودخل أهلها جماعات جماعات في دين الإسلام الحنيف ، مصداقا لقوله تعالى :( يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً ) وعند ذلك تتبدّد غيوم الظلمة والعداء والعناد من سماء حياتهم ، وتشرق نفوسهم بنور الإيمان وحرارة الودّ وأجواء المحبّة والصداقة.

بعض المفسّرين اعتبر هذه الآية إشارة إلى زواج الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من (أمّ حبيبة بنت أبي سفيان) التي كانت قد أسلمت وصحبت زوجها «عبيد الله بن جحش»(١) في هجرته للحبشة مع المهاجرين ومات زوجها هناك ، فأرسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شخصا إلى النجاشي وتزوّجها ، ولأنّ الزواج بين القبائل العربية كان له تأثير في تضييق دائرة العداء وبناء جسور المودّة بينهم ، وهذه المسألة كان لها تأثير إيجابي على أبي سفيان وأهل مكّة.

إلّا أنّ هذا الاحتمال مستبعد ، لأنّ هذه الآيات نزلت عند ما كان المسلمون على أبواب فتح مكّة ، ولأنّ «حاطب بن أبي بلتعة» كان يروم من إرسال رسالته إلى مشركي مكّة إحاطتهم علما بعزم الرّسول على فتح مكّة ، في الوقت الذي نعلم أنّ «جعفر بن أبي طالب» وأصحابه رجعوا إلى المدينة قبل فتح مكّة (فتح خيبر)(٢) .

__________________

(١) عبيد الله بن جحش هو أخو عبد الله بن جحش ، لم يبق على الإسلام بل اختار المسيحية في الحبشة ، ولهذا السبب فإنّ أمّ حبيبة انفصلت عنه ، أمّا أخوه (عبد الله) فقد بقي مسلما وكان من مجاهدي أحد ، واستشهد في تلك الغزوة.

(٢) إنّ خلاصة هذه القصّة قد نقلها كثير من المفسّرين ، ويمكن مراجعة شرحها في كتاب اسد الغابة في معرفة الصحابة ،

٢٤٩

وعلى كلّ حال ، إذا تباعد بعض الناس عن خطّ الإسلام والمسلمين وكانت تربطهم علاقات إيجابية مع المسلمين ، ففي مثل هذه الحالة لا ينبغي اليأس ، لأنّ الله تعالى قادر على كلّ شيء ، ويستطيع تغيير ما في قلوبهم ، فهو الذي يغفر الذنوب والخطايا لعباده ، حيث يضيف تعالى في نهاية الآية :( وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

كلمة (عسى) تستعمل عادة في الموارد التي يؤمل فيها أن يتحقّق شيء ما ، وبما أنّ هذا المعنى يستعمل أحيانا توأما مع (الجهل) أو (العجز) فإنّ كثيرا من المفسّرين فسّروها بمعنى رجاء الآخرين من الله وليس العكس ، إلّا أنّنا لا نرى تعارضا في أن يكون لهذا المصطلح المعنى الأصلي ، وذلك لأنّ الوصول إلى هدف معيّن لا بدّ له في أحيان كثيرة من وجود الشروط المناسبة ، وإذا لم تستكمل هذه الشروط فإنّ هذه الكلمة تستعمل في مثل هذه الموارد.

وتبيّن الآيات اللاحقة شارحة وموضّحة طبيعة علاقة المودّة مع المشركين ، حيث يقول سبحانه :( لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) .

وبهذه الصورة يقسّم القرآن الكريم «المشركين» إلى فئتين :

فئة : عارضوا المسلمين ووقفوا بوجوههم وشهروا عليهم السلاح وأخرجوهم من بيوتهم وديارهم كرها ، وأظهروا عداءهم للإسلام والمسلمين في القول والعمل وموقف المسلمين إزاء هذه المجموعة هو الامتناع عن إقامة كلّ لون من ألوان علاقة المحبّة وصلة الولاء معهم.

__________________

ج ٥ ، ص ٥٧٣.

٢٥٠

والمصداق الواضح لهذه المجموعة هم مشركو مكّة ، وخصوصا سادات قريش ، حيث بذل بعضهم كلّ جهدهم لحرب المسلمين وإيذائهم ، وأعانوا آخرون على ذلك.

وفئة اخرى : مع كفرهم وشركهم ـ لا يضمرون العداء للمسلمين ، ولا يؤذونهم ولا يحاربونهم ولم يشاركوا في إخراجهم من ديارهم وأوطانهم ، حتّى أنّ قسما منهم عقد عهدا معهم بالسلم وترك العداء.

إنّ الإحسان إلى هذه المجموعة وإظهار الحبّ لهم لا مانع منه ، وإذا ما عقد معهم عهد فيجب الوفاء به ، وأن يسعى لإقامة علاقات العدل والقسط معهم ومصداق هذه الجماعة يتجسّد بطائفة (خزاعة) الذين كانوا قد عقدوا عهدا مع المسلمين على المسالمة معهم وترك الخصام.

وبناء على ذلك فلا مجال لقول بعض المفسّرين من أنّ هذه الآية منسوخة بما ورد في قوله تعالى :( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (١) .

حيث أنّ هذه الآية من سورة التوبة تتحدّث عن المشركين الذين نقضوا العهد ومارسوا أدوارا عدائية ضدّ الإسلام والمسلمين بصورة علنية ، ويتبيّن ذلك من خلال الاستدلال بالآيات اللاحقة التي تلي هذه الآية الكريمة(٢) .

وقد ذكر بعض المفسّرين في حديثه حول هذه الآية أنّ زوجة أبي بكر المطلّقة أتت بهدايا لابنتها «أسماء» من مكّة ، إلّا أنّ ابنتها امتنعت عن قبولها ، بل إنّها امتنعت أيضا حتّى من السماح لامّها من دخول بيتها ، فنزلت الآية أعلاه وأمرها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تلتقي بامّها وتقبل هديّتها وتكرمها وتحسن

__________________

(١) التوبة ، الآية ٥.

(٢) احتمل بعض المفسّرين أنّ الآية تمثّل رخصة عقد الولاء بالنسبة للمؤمنين الذين كانوا قد قبلوا الإسلام ، إلّا أنّهم بقوا في مكّة ، ولم يهاجروا. إلّا أنّ لحن الآيات يبيّن لنا أنّ الحديث كان مختّصا بغير المسلمين.

٢٥١

ضيافتها(١) .

وتبيّن لنا هذه الرواية أنّ هذه الرواية أنّ هذا الحكم لم يكن ليشمل أهل مكّة أجمع ، حيث أنّ أقليّة منهم لم تكن تضمر العداء للمسلمين ، ولم يكن لهم موقف عدائي إزاء المسلمين ، وبشكل عام فإنّ المستفاد من الآيات الكريمة حول طبيعة وكيفية العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو (أصل كلّي وأساسي) لا يختصّ بذلك الوقت فقط ، بل يمثّل خطّا عامّا لطبيعة هذه العلاقة في كلّ الأزمنة سواء اليوم أو غدا ، في حياتنا المعاصرة والمستقبلية.

وواجب المسلمين وفق هذه الاسس أن يقفوا بكلّ صلابة أمام أيّة مجموعة ، أو دولة ، تتّخذ موقفا عدائيا منهم أو تعيّن من أراد بالإسلام والمسلمين سوءا وقطع كلّ صلّة قائمة على أساس المحبّة والصداقة معهم.

أمّا إذا كان الكفّار في موقع محايد إزاء الإسلام والمسلمين ، أو أنّهم متعاطفون معهم ، عندئذ يستطيع المسلمون أن يقيموا علاقات حسنة ويرتبطوا وإيّاهم بروابط المودّة على أن لا تكون بالصورة التي تكون بين المسلمين أنفسهم ، ولا بالشكل الذي يؤدّي إلى تغلغلهم في صفوف المسلمين.

وإذا تغيّر موقف جماعة ما ، أو دولة ما ، وهي من الصنف الأوّل أو حصل عكس ذلك في موقف الصنف الثاني ، فبدّلوا سيرتهم من المسالمة إلى المحاربة والعداء ، فيجب أن يتغيّر معيار التعامل معهم حسب موقفهم الجديد وواقعهم الفعلي ، وتبنى معهم العلائق حسبما ورد من مفاهيم طبقا للآيات أعلاه.

* * *

__________________

(١) روح البيان ، ج ٩ ، ص ٤٨١ ، جاءت هذه الرواية في صحيح البخاري وكثير من كتب التّفسير أيضا باختلافات.

٢٥٢

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١) )

سبب النّزول

قال بعض المفسّرين في سبب نزول هذه الآيات : إنّ رسول الله أمضى في

٢٥٣

الحديبية مع مشركي مكّة عهدا ، وكان من ضمن بنود هذا العهد أنّ من أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل مكّة ردّه عليهم ، ومن أتى أهل مكّة من أصحاب رسول الله فهو لهم لا يردّوه عليه ، وكتبوا بذلك كتابا وقّعوا عليه.

في هذه الفترة جاءت (سبيعة بنت الحرث الأسلمية) مسلمة ، والتحقت بالمسلمين في أرض الحديبية بعد الانتهاء من توقيع العهد ، فأقبل زوجها وكان كافرا ، فقال : يا محمّد ، اردد عليّ امرأتي ، فإنّك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد فنزلت الآية أعلاه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ ) وأمرت بامتحان النسوة المهاجرات.

قال ابن عبّاس : امتحانهنّ أن يستحلفنّ ما خرجت من بغض زوج ولا رغبة عن أرض إلى أرض ، ولا التماس دنيا ، وما خرجت إلّا حبّا لله ورسوله. فاستحلفها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحلفت بالله الذي لا إله إلّا هو على ذلك ، فأعطى رسول الله زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردّها عليه فكان رسول الله يرد من جاءه من الرجال ، ويحبس من جاءه من النساء إذا امتحنهنّ(١) ويعطي أزواجهنّ مهورهنّ.

التّفسير

تعويض خسائر المسلمين والكفّار :

استعرضت الآيات السابقة موضوع «البغض في الله» وما يترتّب على ذلك من قطع أي صلة مع أعداء الله أمّا موضوع هذه الآيات فهو عن «الحبّ في الله» وعن طبيعة العلاقة مع الذين انفصلوا عن الكفر وارتبطوا بالإيمان.

وينصبّ الحديث في الآية الاولى ـ من هذه الآيات المباركات ـ عن النساء المهاجرات ، حيث ضمّت هذه الآية سبع نقاط تتعلّق بالنساء المهاجرات ، كما

__________________

(١) جاء سبب النزول أعلاه في كثير من كتب التّفسير ، ونحن اقتبسناه من مجمع البيان بتلخيص قليل ، كما نقل الطبرسي هذا الحديث عن ابن عبّاس.

٢٥٤

تناولت نقاطا اخرى تختّص بالنساء المشركات.

النقاط التي تختصّ بالنساء المهاجرات هي :

١ ـ إمتحان النساء المهاجرات ، حيث يوجّه سبحانه الحديث إلى المؤمنين فيقول تعالى :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ ) .

فالأمر الأوّل هو إمتحان النساء المؤمنات ، وبالرغم من تسميتهنّ بالمؤمنات إلّا أنّ إعلان الشهادتين ظاهريا لا يكفي ، فمن أجل المزيد من الاطمئنان على انسجام الظاهر مع الباطن كان الأمر بالامتحان للوثوق والتأكّد.

أمّا طريقة وأسلوب هذا الامتحان فكما مرّ بنا ، وهو أن يستحلفن أنّ هجرتهنّ لم تكن إلّا من أجل الإسلام ، وأنّها لم تكن بسبب بغض أزواجهنّ أو علاقة مع شخص آخر ، أو حبّا بأرض المدينة وما إلى ذلك.

كما يوجد احتمال آخر حول كيفية إمتحان النسوة المهاجرات ، وذلك كما ورد في الآية الثانية عشرة من نفس السورة قال تعالى :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ ) (١) .

ومن الممكن أن يكون الكذب في الحلف أيضا ، فيقول البعض خلافا لما يعتقد به ، إلّا أنّ التزام الكثير من الناس حتّى المشركين في ذلك الزمان بمسألة البيعة والحلف بالله كان سببا في تقليص دائرة غير الصادقين. ومن هنا نلاحظ أنّ الامتحان المذكور بالرغم من أنّه لم يكن دليلا قطعيّا على الإيمان حقيقة ، إلّا أنّه غالبا ما يكون كاشفا عن الحقيقة بصورة كبيرة.

لذا يضيف سبحانه في العبارة التالية :( اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ ) .

__________________

(١) الممتحنة ، الآية ١٢.

٢٥٥

٢ ـ يقول سبحانه في الأمر اللاحق :( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ) .

ورغم أنّ البند المثبت في (وثيقة صلح الحديبية) يشير إلى أنّ الأشخاص الذين أسلموا وهاجروا إلى المدينة يجب إرجاعهم إلى مكّة ، إلّا أنّه خاصّ بالرجال ولا يشمل النساء ، لذا فإنّ رسول الله لم يرجع أيّة امرأة إلى الكفّار. وإلّا فرجوع المسلمة إلى الكفّار يمثّل خطرا حقيقيّا على وضعها الإيماني ، وذلك بلحاظ ضعفها وحاجتها إلى الرعاية المستمرّة.

٣ ـ في ثالث نقطة التي هي في الحقيقة دليل على الحكم السابق يضيف تعالى :( لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ ) .

فالإيمان والكفر لا يجتمعان في مكان واحد ، لأنّ عقد الزواج المقدّس لا يمكن أن يربط بين محورين وخطّين متضادّين (خطّ الإيمان) من جهة و (الكفر) من جهة اخرى ، إذ لا بدّ أن يكون عقد الزواج يشكّل نوعا من الوحدة والتجانس والانسجام بين الزوجين ، وهذا ما لا يمكن أن يتحقّق نتيجة الاختلاف والتضادّ التي سيكون عليها الزوجان في حالة كون أحدهما مؤمنا والآخر كافرا.

ونلاحظ في بداية صدر الإسلام حالات من هذا القبيل لزوجين أحدهما مؤمن والآخر كافر ، ولم ينه عنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث لم يزل المجتمع الإسلامي قلقا وغير مستقرّ بعد ، إلّا أنّه عند ما تأصّلت جذور العقيدة الإسلامية وترسّخت مبادئها ، أعطى أمرا بالانفصال التامّ بين الزوجين بلحاظ معتقدهما ، وخاصّة بعد صلح الحديبية ، والآية ـ مورد البحث ـ هي إحدى أدلّة هذا الموضوع.

٤ ـ كان المتعارف بين العرب أن يدفعوا للمرأة مهرها سلفا ، ولهذا المعنى أشار سبحانه في قوله في الأمر الرابع :( وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا ) .

بالرغم من أنّ أزواج المؤمنات كفّار فلا بدّ من إعطائهم ما أنفقوا من مهور على زوجاتهم ، وذلك لأنّ الطلاق والانفصال قد تمّ بمبادرة من المرأة بسبب

٢٥٦

إيمانها ، لذا توجب العدالة الإسلامية دفع خسارة الزوج.

ويتساءل هنا : هل المقصود من الإنفاق هو المهر فقط ، أو أنّه يشمل كافّة المصاريف التي بذلها الرجل لهذا الشأن؟

رجّح أغلب المفسّرين المعنى الأوّل ، وهذا هو القدر المسلّم به ، بالرغم من أنّ البعض ـ كأبي الفتوح الرازي ـ يرى وجوب تحمّل كافّة النفقات الاخرى أيضا(١) .

وطبيعي أنّ دفع المهر يكون لمن عقد معاهدة صلح من الكفّار مع المسلمين ، كما في صلح الحديبية.

وأمّا من الذي يدفع المهر؟ فالظاهر أنّ هذا العمل يجب أن تتبّناه الدولة الإسلامية (بيت المال) لأنّ جميع الأمور التي لم يكن لها مسئول خاصّ في المجتمع الإسلامي يجب أن تتصدّى الدولة لإدارتها ، وخطاب الجمع في الآية مورد البحث دليل على هذا المعنى. (كما يلاحظ في آيات حدّ السارق والزاني).

٥ ـ الحكم الآخر الذي يلي الحكم أعلاه ، فهو قوله تعالى :( وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ) .

وهنا تؤكّد الآية الكريمة على ضرورة إعطاء النساء المهاجرات مهورهنّ في حالة الرغبة بالزواج منهنّ ، شاجبة التصوّر الذي يدور في خلد البعض بأنّ النساء المهاجرات لا يستحققن مهورا جديدة بسبب استلامهنّ المهور من أزواجهنّ السابقين ، وقد تحمّل بيت المال مبالغها ودفعها لأزواجهنّ السابقين.

إنّ زواجكم من هؤلاء النسوة لا يمكن أن يكون مجانيّا ، ولا بدّ أن يؤخذ بنظر الإعتبار مهر يتناسب مع حرمة المرأة المؤمنة.

ومن الضروري ملاحظة أنّ انفصال المرأة المؤمنة عن زوجها الكافر لا يحتاج إلى طلاق ، إلّا أنّه لا بدّ من انتهاء العدّة.

__________________

(١) تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج ١١ ، ص ١٢٦.

٢٥٧

وقد ذكر الفقيه «صاحب الجواهر» في شرحه لكلام «المحقّق الحلّي» «وأمّا في الزوج والزوجة غير الكتابين ، فالحكم فيهما انّ إسلام أحد الزوجين موجب لانفساخ العقد في الحال ان كان قبل الدخول وان كان بعده وقف على انقضاء العدّة بلا خلاف في شيء من ذلك ولا إشكال نصّا وفتوى ، بل لعلّ الاتّفاق نقلا وتحصيلا عليه»(١) .

٦ ـ أمّا إذا كان الأمر على العكس ، وكان الزوج قد آمن بالإسلام ، وبقيت المرأة كافرة ، فهنا تنفصل الرابطة الزوجية ، فتنقطع صلة زواجهما ، كما في قوله تعالى في تكملة الآية :( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) .

«عصم» : جمع عصمة ، وهي في الأصل بمعنى المنع ، وهنا ـ بمعنى النكاح والزوجية ـ لوجود القرائن ـ وصرّح البعض بأنّه النكاح الدائم ـ والتعبير بالعصمة أيضا مناسب لهذا المعنى ، لأنّه يمنع المرأة من الزواج من أيّ شخص آخر إلى الأبد.

«الكوافر» جمع كافرة ، بمعنى النساء الكافرات.

وقد بحث الفقهاء في أنّ هذا الحكم هل هو مختّص بالنساء المشركات فقط ، أم أنّه يشمل أهل الكتاب أيضا كالنسوة المسيحيات واليهوديات؟ وتختلف الروايات في هذا المجال ، حيث يجدر متابعتها في كتب الفقه. إلّا أنّ ظاهر الآية مطلق ويشمل جميع النساء الكافرات ، كما أنّ سبب النزول لم يحدّد ذلك.

أمّا مسألة «العدّة» فهي باقية بطريق أولى ، لأنّها إذا أنجبت طفلا فسيكون مسلما لأنّ أباه مسلم.

٧ ـ أمّا آخر حكم ذكر في الآية الكريمة ، فهو مهور النساء اللواتي ارتددن عن الإسلام والتحقن بالكفّار فانّ لكم الحقّ في المطالبة بمهورهنّ مثلما للكفّار

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٣٠ ، ص ٥٤.

٢٥٨

الحقّ في المطالبة بمهور زوجاتهم اللاتي دخلن دائرة الإسلام والتحقن بالمسلمين ، حيث يقول تعالى :( وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ) وهذا ما توجبه العدالة والاحترام المتقابل للحقوق.

وفي نهاية الآية ـ وتأكيدا لما سبق ـ يقول سبحانه :( ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

إنّ هذه الأحكام المستلهمة من العلم الإلهي ، الممتزجة بحكمته تعالى ، والتي لاحظت في تشريعاتها كافّة الحقوق ، تنسجم مع مبادئ العدل والمرتكزات والأصول الإسلامية ، ولا بدّ من الالتفات إلى حقيقة أنّ كون جميع هذه الأحكام إلهيّة يعدّ أكبر ضمانة إجرائية لها في قوّة التنفيذ.

واستعرضت ثاني وآخر آية من هذه الآيات متابعة لما تقدّم ، بعض الأمور في هذا الصدد يقول تعالى أنّه في كلّ مرّة ترتدّ امرأة متزوّجة عن الإسلام وتلتحق بالكفّار ، ثمّ حدثت معركة بينكم وبين الكفّار وحالفكم النصر عليهم وغنمتم منهم مغانم فأعطوا الذين ذهبت زوجاتهم إلى الكفّار :( وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا ) .

وتمشّيا مع النصّ القرآني فإنّ بإمكان المسلمين الذين فقدوا زوجاتهم اللواتي التحقن بمعسكر الكفر أن يأخذوا مهورهنّ من الكفّار ، كما كان يحقّ للكفّار استلام مهور زوجاتهم اللواتي اعتنقن الإسلام وهاجرن إلى المدينة.

وتحدّثنا بعض الروايات أنّه في الوقت الذي طبّق المسلمون هذا الحكم العادل ، فإنّ مشركي مكّة امتنعوا عن الالتزام به وتنفيذه ، لذا فقد امر المسلمون بصيانة حقّ هؤلاء الأفراد وذلك بإعطائهم ما يعادل المهور التي دفعوها لزوجاتهم اللواتي التحقن بالمشركين من الغنائم التي حصلوا عليها قبل تقسيمها على الآخرين.

ويحتمل أن يكون هذا الحكم خاصّا بالجماعات التي لم يكن لها عهد مع

٢٥٩

المسلمين ، حيث من الطبيعي أنّ مثل هؤلاء لم يكونوا مستعدّين لدفع مهور أمثال هؤلاء النسوة للمسلمين ، كما يمكن الجمع بين الرأيين أيضا.

«عاقبتم» من مادّة معاقبة ، وهي في الأصل من عقب (على وزن كدر) بمعنى : (كعب القدم) ولهذا السبب فإنّ كلمة «عقبى» جاءت بمعنى الجزاء والعقوبة ، أي بمعنى عقاب لعمل فيه مخالفة. لذا فإنّ المعاقبة تستعمل بمعنى القصاص ، كما يستعمل هذا المصطلح أيضا (معاقبة) بمعنى (التناوب) في أمر ما ، لكون الأشخاص الذين ينجزون عملا ما بشكل متناوب ، يعقب كلّ منهم الآخر.

ولذا فإنّ كلمة (عاقبتم) في الآية أعلاه جاءت بمعنى انتصار المسلمين على الكفّار وعقابهم ، وأخذ الغنائم منهم ، كما جاءت أيضا بمعنى «التناوب» أي يوم ينتصر فيه الكفّار على المسلمين ويوم بالعكس.

ويحتمل أيضا المقصود من هذه العبارة هو : الوصول إلى نهاية وعاقبة عمل ما ، والمراد من نهاية العمل هنا هو أخذ الغنائم الحربية.

وأي من هذه المعاني كان ، فإنّ النتيجة واحدة ، إلّا أنّ طرق الوصول إلى هذه النتيجة متفاوتة.

وتدعو الآية الكريمة في نهايتها جميع المسلمين إلى الالتزام بالتقوى حيث يقول تعالى :( وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) .

والأمر بالتقوى هنا يمكن أن يكون بمراعاة الدقّة والعدل في تعيين مقدار مهر الزوجة ، باعتبار أنّ هذا الأمر يعتمد فيه على قول الزوج في الغالب ، ولا يوجد سبيل لإثبات هذا الحقّ إلّا أقوال الزوجين ، ولاحتمال أن تسبّب الوساوس الشيطانية في الادّعاء بمبلغ أكثر من المقدار الحقيقي للمهر ، لذا يوصي بالتقوى.

وجاء في التواريخ والروايات أنّ هذا الحكم الإسلامي قد شمل ستّ نسوة ـ فقط ـ انفصلنّ عن أزواجهنّ المسلمين والتحقن بالكفّار ، وقد أعطى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أزواجهنّ مهورهنّ من الغنائم الحربية.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624