الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196867 / تحميل: 5659
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

يؤكّد كون الرواية لم تنقل كاملة ـ بل سقطت منها الكلمة التي هي على خلاف أهداف وأهواء القوم ـ ما أخرجه القندوزي الحنفي عن جابر بن سمرة قال : ( كنت مع أبي عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسمعته يقول: ( بعدي أثنا عشر خليفة ) ثم أخفى صوته ، فقلت لأبي ما الذي أخفى صوته ؟ قال : قال : ( كلهم من بني هاشم ) ، وعن سماك بن حرب مثله )(١) ، ومن ذلك يتضح أنّ كلمة ( كلّهم من بني هاشم ) كانت موجودة في الحديث ، ولعلّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( كلّهم من قريش من بني هاشم ) ، وهذا ما استشعره بعض علماء السنّة كابن الجوزي ، حيث قال في ( كشف المشكل ) : ( قد أطلت البحث عن معني هذا الحديث ، وتطلّبت مظانه ، سألت عنه ، فلم أقع على المقصود به ؛ لأنّ ألفاظه مختلفه ، ولا أشك أنّ التخليط فيها من الرواة )(٢) ، ويدعم هذا القول ما ذهب إليه ابن العربي ، بعد عجزه عن تفسير حديث الاثني عشر ، تفسيراً واقعياً ، قال : ( ولعلّه بعض حديث )(٣) ، ممّا يؤكّد سقوط كلمة ( كلّهم من بني هاشم ) من الحديث .

٧ – الاثنا عشر خليفة أمان لأهل الأرض ، إذا ذهبوا ماجت الأرض بأهلها ، وإذا مضوا لا يبقى الدين قائماً ، ويفقد المسلمون منعتهم وصلاحهم ، وهذه المعاني التي جاءت في حديث الاثني عشر تلتقي وتلائم تمام الملائمة مع الروايات التي نقلها الفريقان بحق أهل البيت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقوله :( أهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا ذهب أهل بيتي ذهب

ـــــــــــــ

(١) ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ٢ ص ٣١٥ ح ٩٠٨ .

(٢) نقلاً عن فتح الباري : ج ١٣ ص ١٨٣ .

(٣) شرح صحيح الترمذي : ج ٩ ص ٦٨ .

١٢١

أهل الأرض ) (١) .

٨ ـ قد افترضت نصوص الاثني عشر أنّ أولئك الخلفاء ( كلّهم يعمل بالهدى ودين الحق ) ، كما فهم هذا المعنى أيضاً ابن كثير في تفسيره عندما قال : ( ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحاً يقيم الحق ، ويعدل فيهم )(٢) ، ولا يجد المتتبّع تفسيراً واحداً من التفاسير لهذا الحديث ، يجمع فيه اثني عشر خليفة كلّهم يعمل بالهدى ودين الحق ، خصوصاً مع ما ذكرناه من وجوب كون أولئك الخلفاء سلسلة متكاملة ، ومتناسقة ومتوالية زماناً ، وهذا ما يثبت لنا عدم مصداقية أي تطبيق واقعي للحديث ، سوى أهل البيتعليهم‌السلام ، الذين جعلهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هداة مهديين من بعده ، وأمر بالتمسّك بهديهم ، وجعلهم عِدلاً للقرآن الكريم لا يفترقان حتى يردا عليه الحوض .

٩ ـ من الخصائص المهمّة التي تضمّنتها أحاديث الاثني عشر قيموميّة أولئك الخلفاء على الدين والأمة ( اثنا عشر قيماً ) ، ولا شك أنّ القيموميّة تستدعي الرقابة والوصاية على الدين ، وعلى الأمّة الإسلامية ، وهذا المعنى لم يُدّع لأحد ، ولا ادّعاه غير أهل البيتعليهم‌السلام ، وهذا هو مقتضى كونهم عِدلاً للقرآن الكريم ، وأيضاً مقتضى قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( في كل خلوف من أُمّتي عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ، ألا وإنّ أئمّتكم وفدكم إلى الله عزّ وجلّ ، فانظروا مَن

ـــــــــــــ

(١) شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : ج ١ ص ٤٢٦ ؛ ذخائر العقبى ، الطبري : ص ١٧ ؛ انظر : المستدرك : الحاكم : ج ٢ ص ٤٤٨ ؛ قال فيه : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ؛ تاريخ مدينة دمشق : ج ٤٠ ص ٢٠ ؛ النزاع والتخاصم : المقريزي : ص ١٣٢ ؛ وغيرها .

(٢) تفسير ابن كثير : ج ٢ ص ٣٤ .

١٢٢

توفدون ) (١) .

١٠ ـ إنّ الصخب ، واللغط ، والضجّة المفتعلة ، وقيام القوم وقعودهم ، وتصميتهم لجابر والحاضرين يثير الانتباه ، ويستدعي الريب ، ويكشف أنّ في الأمر شيئاً ، لا يريد القوم وصوله إلى مسامع الحاضرين ، ولم تكن هذه الحادثة فريدة نوعها ، بل فعل ذلك القوم أيضاً عندما ضجّوا ، وتنازعوا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما قال :( ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعدي أبداً ) ، فوقعت حينها الضجّة المفتعلة ، حتى قال بعضهم : إنّ النبي ليهجر ، وليس ذلك إلاّ للحرص على الخلافة ، وطمعاً بالملك والسلطان والإمارة وهو الذي قد أخبر عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند مخاطبته لأصحابه بقوله :( إنّكم ستحرصون على الإمارة ، وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة ) (٢) .

١١ ـ حديث ابن مسعود المتقدّم ، يكشف عن أنّ الصحابة هم الذين سألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الخلفاء من بعده ، وهذا يلفت النظر إلى نقطتين :

الأُولى : أنّه ليس من المنطقي أن يسأل الصحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الأُمراء الذين يتسلّطون على رقاب الناس بالقهر والغلبة ، وهو ذلك الرسول العظيم الذي ختم الرسالات فلا نبي بعده .

إذن لابد أن يكون السؤال عن الخلفاء الذين نصّبهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بعده ، وهم أهل بيتهعليهم‌السلام بنص حديث الغدير وحديث الثقلين وغيرهما ، وهذا ديدن وطريقة اعتادها الصحابة آنذلك ، فقد سألوا أبا بكر وعمر عن الذي يلي الأمر من بعدهما .

ـــــــــــــ

(١) الصواعق المحرقة : ٢٣١ .

(٢) صحيح البخاري : ج ٤ ص ٣٥٥ ح ٧١٤٨ ؛ صحيح ابن حبان : ج ١٠ ص ٣٣٤ ؛ وغيرهما من المصادر الكثيرة .

١٢٣

الثانية : أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد من الإمرة والخلافة من يكون مؤهّلاً ومستحقّاً لها ، فلا معنى لحمل الحديث على أمثال معاوية ويزيد ومروان والوليد وأمثالهم ، الذين عاثوا في الأرض فساداً ، ولعبوا بمقدّرات الأمة الإسلامية بما شاءوا ورغبوا ، فالمراد من الخليفة هو مَن يستمد سلطته من الشارع الأقدس ، ومن أجل ذلك ذكر شارح سنن أبي داود في شرحه ( عون المعبود ) أنّ : ( السبيل في هذا الحديث ، وما يتعقّبه في هذا المعنى أن يحمل على المقسطين منهم ، فإنّهم هم المستحقون لاسم الخليفة على الحقيقة )(١) .

١٢ ـ بعد أن صدع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع بذكر الخلفاء من بعده ، وأنّهم اثنا عشر خليفة ، كلّهم من قريش ومن بني هاشم ، وكلّهم يعمل بالهدى ودين الحق ، لم يكتف بذلك ـ ولعلّه لما حصل من الضجّة واللغط المفتعل ـ بل قام خطيباً ، بعد رجوعه من حجّة الوداع في طريقه إلى المدينة في غدير خم ، ونصّب عليّاً خليفة من بعده ، فعيّن أوّل خليفة من الخلفاء الاثني عشر ، وبادر بعد ذلك قائلاً : ( إنّي تارك فيكم الخليفتين من بعدي ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ) (٢) ، حينها عرف الناس مَن هم الخلفاء بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتمّ بذلك الحجّة على الخلق ، لكي يسدّ بذلك منافذ الريب والتشكيك ، ولئلاّ يقول أحد : إنّي لم أسمع ، أو خفي علي ، أو صمّنيها ، أو صمّتنيها الناس !! .

ـــــــــــــ

(١) عون المعبود : ج ١١ ص ٢٤٥ .

(٢) المصنف ، أبي شيبة الكوفي : ج ٦ ص ٣٠٩ ، كتاب السنّة ، عمرو بن أبي عاصم: ص ٣٣٧ ح ٧٥٤ ص ٦٢٩ ح ١٥٤٩ ؛ مسند أحمد : ج ٥ ص ١٨٢ ؛ المعجم الكبير: ج ٥ ص ١٥٣ ح ٤٩٢١ ص ١٥٤ ح ٤٩٢٢ ؛ مجمع الزوائد : ج ١ ص ١٧٠ قال الهيثمي : ( رواه الطبراني ورجاله ثقات ) ، وكذا في ج ٩ ص ١٦٢ ، وقال في ص ١٦٣ : ( رواه أحمد وإسناده جيّد ) ؛ الجامع الصغير ، السيوطي : ج ١ ص ٤٠٢ ح ٢٦٣١ ؛ الدر المنثور : ج ٢ ص ٢٨٥ .

١٢٤

١٣ ـ ما ورد من الأحاديث المتضافرة التي نصّت على إمامة أهل البيتعليهم‌السلام ، والتي تناولت الأئمّة الاثني عشر بذكر أسمائهم على نحو التفصيل ، وهي كثيرة جدّاً نكتفي بذكر بعضها :

١ ـ ما جاء في فرائد السمطين للحمويني المصري(١) : ( عن مجاهد عن ابن عباس قال : قدم يهودي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقال له : نعثل ، فقال : يا محمد إنّي أسألك عن أشياء ـ إلى أن قال ـ : فأخبرني عن وصيّك مَن هو ؟ ، فما من نبي إلاّ وله وصي ، وإنّ نبيّنا موسى بن عمران أوصى إلى يوشع بن نون ، فقال :نعم ، إنّ وصيي والخليفة من بعدي علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وبعده سبطاي : الحسن ثم الحسين ، يتلوه تسعة من صلب الحسين أئمّة أبرار ، قال : يا محمد فسمّهم لي ؟

قال :نعم ، إذا مضى الحسين فابنه علي ، فإذا مضى علي فابنه محمد ، فإذا مضى محمد فابنه جعفر ، فإذا مضى جعفر فابنه موسى ، فإذا مضى موسى فابنه علي ، فإذا مضى علي فابنه محمد ، ثم ابنه علي ، ثم ابنه الحسن ، ثم الحجّة ابن الحسن ، أئمّة عدد نقباء بني اسرائيل ، فهذه اثنا عشر )(٢) .

٢ ـ ونقل الحمويني أيضاً في فرائده : عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( أيّها الناس

ـــــــــــــ

(١) أطرى عليه الذهبي ت / ٧٤٨ هـ في تذكرة الحفاظ قال : الإمام المحدث الأوحد الأكمل فخر الإسلام صدر الدين ، إبراهيم بن محمد بن المؤيد بن حمويه الخراساني الجويني شيخ الصوفية كان شديد الاعتناء بالرواية وتحصيل الاجزاء ، حسن القراءة مليح الشكل مهيباً ديّناً صالحاً مات سنة اثنتين وعشرين وسبع مائة تذكرة الحفّاظ ، الذهبي : ج ٤ ص ١٥٠٦ .

(٢) فرائد السمطين ، الحمويني : ج ٢ ص ١٣٣ ص ١٣٤ ح ٤٣١ ، وبنفس الألفاظ ما جاء في ينابيع المودة للقندوزي ، ج ٣ ص ٢٨٢.

١٢٥

إنّ الله عزّ وجلّ أمرني أن أنصب لكم إمامكم والقائم فيكم بعدي ووصيي وخليفتي ولكن أوصيائي منهم : أوّلهم أخي ، ووزيري ، ووارثي ، وخليفتي في أُمّتي ، وولي كل مؤمن بعدي ، هو أوّلهم ثم ابني الحسن ، ثم ابني الحسين ، ثم التسعة من ولد الحسين واحداً بعد واحد حتى يردوا عليّ الحوض ) (١) ـ وهكذا ينقل الحمويني ذلك في مواطن عديدة ، وروايات عديدة وبطرق مختلفة ؛ فراجع .

٣ ـ الحافظ أبو محمد بن أبي الفوارس في كتابه ( الأربعين )(٢) .

كذلك أخرج ذكر الخلفاء من أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأسمائهم .

٤ ـ العلاّمة أبو مؤيد موفق بن أحمد المتوفّى (سنة ٥٦٨) في كتابه ( مقتل الحسين ) : ذكر الخلفاء أيضاً بأسمائهم المتقدّمة(٣) .

٥ ـ العلاّمة فاضل الدين محمد بن محمد بن إسحاق الحمويني الخراساني في ( منهاج الفاضلين )(٤) .

٦ ـ كذلك الحمويني في ( درر السمطين )(٥) .

٧ ـ العلاّمة الشيخ إبراهيم بن سليمان في كتاب ( المحجّة على ما في

ـــــــــــــ

(١) فرائد السمطين ، الحمويني ، السمط الأول : ج ١ ص ٣١٥ ـ ٣١٨ ح ٢٥٠ .

(٢) شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي : ج ١٣ ص ٥٩ ؛ نقلاً عن كتاب الأربعين ، ابن أبي الفوارس : ص ٣٨ .

(٣) مقتل الحسين ، الخوارزمي : ص ١٤٦ ـ ١٤٧ .

(٤) شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي : ج ١٣ ص ٦٨ ؛ نقلاً عن كتاب منهاج الفاضلين ، الحمويني : ص ٢٣٩ .

(٥) شرح إحقاق الحق ، السيد المرعشي النجفي : ج ٤ ص ٩٣ ـ ٩٤ ؛ نقلاً عن كتاب درر السمطين ، الحمويني : ص ٧٢٢ .

١٢٦

ينابيع المودّة )(١) ، أيضاً ذكرهم بأسمائهم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٨ ـ العلاّمة المولى محمد صالح الكشفي الحنفي الترمذي ، في كتابه ( المناقب الرضوية )(٢) .

إلى غير ذلك من الروايات المتضافرة التي تؤكّد هذا المعنى .

وعلى ضوء ما سلف ، يتحصّل أنّ العترة الطاهرة يمثّلون امتداداً طبيعياً لحركة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع أبعاد الحياة ، وقد فرضوا شخصيّتهم رغم أنف الأعداء ، وقد أجمعت الأمة على أعلميّتهم وأهليّتهم للخلافة ، وأنّهم الأسوة الحسنة ، ويعد ذلك من أفضل الأدلة لإثبات أحقيّتهم ، وأهليّتهم للإمامة والقيادة ، وعصمتهم ؛ لأنّهمعليهم‌السلام جسّدوا النظرية الإسلامية على الواقع العملي ، فعندما نرصد حياة الأئمّةعليهم‌السلام ، وكيف كانوا إسلاماً متحركاً على الأرض ، وقرآناً ناطقاً يعيش بين الناس ؛ نستنتج مباشرة أن هذا المستوى الرفيع من الأسوة والقدوة لا يمكن أن تعكسه إلاّ شخصيات معصومة ، استجمعت فيها الصفات التي تؤهّلها لأن تكون منبع الهداية للبشرية ؛ لذا أجمعت الأمة على أنّ هؤلاء العترة لهم من الخصائص والمميزات ما لم تكن لغيرهم ، رغم ما عانوه من ظلم واضطهاد ، فهم الذين تنطبق عليهم خصوصيات الاثني عشر ، التي بيّنها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحاديث الأثني عشر المتقدمة ، ولكن أصحاب المطامع آلوا على أنفسهم إلاّ أن يُقصوا وينحّوا أهل البيتعليهم‌السلام عن مناصبهم ومراتبهم التي رتّبهم الله فيها ، ولم يكتفوا بذلك بل تمادوا في تعريض أهل البيتعليهم‌السلام لألوان الظلم والاضطهاد ، والمعاملة السيّئة الفظّة الغليظة ، التي يندى لها الجبين ، وتعتصر منها القلوب ألماً ومرارة ، ولم يكن لهم ذنب سوى أنّهم كانوا الامتداد الإلهي لخط الرسالة ، وكانوا أمناءها ، والرقباء عليها ، فهم الثقل الموازي للقرآن الكريم .

ـــــــــــــ

(١) المحجّة على ما في ينابيع المودّة ، الشيخ هاشم بن سليمان : ص ٤٢٧ .

(٢) المناقب المرتضوية ، محمد صالح الترمذي : ص ١٢٧ .

١٢٧

إذن ، ينبغي علينا كمسلمين أن نستنير بنور هؤلاء الهداة الميامين ، ونكون بذلك ممتثلين لأوامر الله تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وممّا تقدّم اتضحت الإجابة بخصوص ما قد يقال : من أنّ وصف عزّة الإسلام بأولئك الخلفاء الاثني عشر لا ينطبق على أئمّة الشيعة ، حيث الموقع السامي والريادي والمكانة العظيمة التي يمتلكها أهل البيتعليهم‌السلام في نفوس الأمة الإسلامية ، وهو ما أكّده علماء السنّة في أغلب كتبهم ، وبالإضافة إلى ذلك نقول :

إنّ عزة الإسلام وصلاحه وبقائه إلى قيام الساعة ، من المهام ، والوظائف الأساسية ، التي أناط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسؤوليتها ، وتحقيقها بأهل البيتعليهم‌السلام ، كما يكشف عن ذلك حديث الثقلين وحديث الغدير ، وأنّهم عِدل القرآن ، وأنّ النجاة والأمان والعزّة عند الله لا تنال إلاّ بالاعتصام والتمسّك بهم ، ومَن يتبعهم يكون عزيزاً بعزّة الله ، مرضيّاً عنده تعالى .

كما أخرج ذلك الحاكم في مستدركه ، عن ابن عباس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأُمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس ) (١) ، ثم علّق عليه قائلاً : هذا الحديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .

ـــــــــــــ

(١) المستدرك ، الحاكم : ج ٣ ص ١٤٩ .

١٢٨

وبنفس المضمون ما ورد في عدّة كثيرة من المصادر عن عمر : أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( في كل خلوف من أُمّتي عدول أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، ألا وإنّ أئمّتكم وفدكم إلى الله عزّ وجلّ ، فانظروا مَن توفدون ) (١) .

وعن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مَن سرّه أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويسكن جنّة عدن ، غرسها ربّي ، فليوال عليّاً ، وليوال وليّه ، وليقتد بالأئمّة من بعدي ، فإنّهم عترتي ، خُلقوا من طينتي ، رزقوا فهماً وعلماً ، ويل للمكذبين بفضلهم من أُمّتي ، القاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم الله شفاعتي ) (٢) .

وعن عمار بن ياسر ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أوصي مَن آمن بي وصدّقني بولاية علي بن أبي طالب ، مَن تولاّه فقد تولاّني ، ومَن تولاّني فقد تولّى الله عزّ وجلّ ، ومَن أحبّه فقد أحبّني ، ومَن أحبّني فقد أحبّ الله تعالى ، ومَن أبغضه فقد أبغضني ، ومَن أبغضني فقد أبغض الله عزّ وجلّ ) قال الهيثمي في مجمع الزوائد : ( رواه الطبراني بإسنادين أحسب فيهما جماعة ضعفاء ، وقد وثقوا )(٣) .

وقد أخرجها ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق بطرق كثيرة(٤) .

وعن وهب بن حمزة قال : ( صحبت عليّاً إلى مكة فرأيت منه بعض ما أكره ، فقلت لأن رجعت لأشكونّك إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا قدمت لقيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ـــــــــــــ

(١) ذخائر العقبى ، محي الدين الطبري : ص ١٧ ؛ الصواعق المحرقة ، ابن حجر الهيتمي : ص ٣٥٢ ؛ رشفة الصادي ، أبو بكر الحضرمي : ص ١٧ ؛ ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ٢ ص ١١٤ .

(٢) تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج ٤٢ ص ٢٤٠ ؛ حلية الأولياء ، الحافظ أبي نعيم الأصفهاني : ج ١ ص ٨٦ .

(٣) مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٩ ص ١٠٨ ، ١٠٩ .

(٤) تاريخ مدينة دمشق : ج ٤٢ ص ٢٣٩ وما بعدها .

١٢٩

فقلت : رأيت من علي كذا وكذا ، فقال :لا تقل هذا فهو أولى الناس بكم بعدي )(١) .

وعن زيد بن أرقم قال : قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مَن أحبّ أن يحيا حياتي ويموت موتتي ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي ، فإنّ ربّي عزّ وجلّ غرس قصباتها بيده ، فليتولّ علي بن أبي طالب ، فإنّه لن يخرجكم من هديي ولن يدخلكم في ضلالة ) (٢) ، قد أخرجه الحاكم في المستدرك وقال عنه : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٣) .

إلى غير ذلك من المصادر الكثيرة ، والروايات المتواترة معنىً ومضموناً ، مع صحّتها وصراحتها ، وأدنى ما نجيب عمّن أراد التشكيك بها : أنّها تفيد القطع واليقين ؛ لتعدّد ألفاظها ، وكثرة طرقها ، والمصادر التي نقلتها ، فهي أحاديث نبويّة يقوّي بعضها بعضاً لإثبات مضمونها بالقطع واليقين ، وهو وجوب التمسّك بولاية أهل البيتعليهم‌السلام واتّباع هديهم .

إذن بأهل البيتعليهم‌السلام وباتباعهم تتحقق عزّة الإسلام ، والحفاظ على وجوده الحقيقي وقيمه ومبادئه الأصيلة ، من التقوى والإخلاص والاستقامة والصلاح وغيرها من المعارف الروحية والقيم الأخلاقية ، وليست عزّة الإسلام بالتظاهر بالإسلام ، واتخاذه شعاراً للتسلّط على رقاب الناس بالقهر والغلبة ، ومن هنا نجد أنّ الحكم الإسلامي على يد الظلمة تحوّل إلى ما كان عليه قبل الإسلام من كونه ملكاً عضوضاً لا يحمل من قيم الإسلام شيئاً .

إذن عزّة الإسلام لا تتحقق إلاّ في حفظ الإسلام الحقيقي ، الذي لا يتحقق إلاّ باتباع أهل البيتعليهم‌السلام .

ـــــــــــــ

(١) المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٢٢ ص ١٣٥ ؛ مجمع الزوائد : ج ٩ ص ١٠٩ ؛ فيض القدير شرح الجامع الصغير : ج ٤ ص ٤٧٠ ـ ٤٧١ .

(٢) المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٥ ص ١٩٤ .

(٣) المستدرك ، الحاكم : ج ٣ ص ١٣٠ .

١٣٠

الأُمّة لم تجتمع على أهل البيتعليهم‌السلام

وأمّا عبارة ( كلّهم تجتمع عليه الأمة ) ، وأنّ أهل البيتعليهم‌السلام ما أجتمعت عليهم الأُمّة فجوابها :

١ ـ إنّ رواية الاثني عشر خليفة المتضمّنة لعبارة ( كلّهم تجتمع عليه الأمة ) لم ترد في الكتب الحديثية ، والمصادر السنّية ، إلاّ في سنن أبي داود ومسند البزار ، ولم يخرجاها إلاّ بسند واحد ضعيف ، كما ذكر ذلك الألباني ، في سلسلة الأحاديث الصحيحة ، حيث قال : ( وأخرجه أبو داود ( ٢ / ٢٠٧) من طريق إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبيه ، عن جابر بلفظ : لا يزال هذا الدين قائماً ، حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة ، كلهم تجتمع عليه الأمة ، كلّهم من قريش ، وأخرجه البزار (١٥٨٤ ـ كشف) عن أبي جحيفة نحوه ، وهذا سند ضعيف ، رجاله كلهم ثقات ، غير أبي خالد هذا ، وهو الأحمسي ، وقد تفرّد بهذه الجملة ( كلهم تجتمع عليه الأمة ) ، فهي منكرة )(١) ، والتضعيف ذاته ذكره أيضاً في تعليقته على سنن أبي داود ، حيث قال بعد أن أورد الحديث : ( صحيح : دون قوله ( تجتمع عليه الأمة ) )(٢) .

٢ ـ من الشواهد التي تؤكّد عدم صحّة صدور هذه العبارة من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو عدم انطباقها على الواقع أصلاً ، حيث لم نجد شخصاً اجتمعت عليه الأمة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل البعض ممّن ادعي كونه من الخلفاء الاثني عشر ، لم يجتمع عليه أغلب الأمة ، فضلاً عن جميعها .

ـــــــــــــ

(١) سلسلة الأحاديث الصحيحة ، الألباني : مج ١ ، ق ٢ ، ص ٧٢٠ ح ٣٧٦ .

(٢) صحيح سنن أبي داود الألباني : ج ٣ ص ١٩ ح ٤٢٧٩ .

١٣١

ولذا قال ابن كثير في البداية والنهاية ( فإن قال : أنا لا اعتبر إلاّ مَن اجتمعت الأمة عليه ، لزمه على هذا القول أن لا يعد علي بن أبي طالبعليه‌السلام ولا ابنه ؛ لأنّ الناس لم يجتمعوا عليهما ؛ وذلك أنّ أهل الشام بكمالهم لم يبايعوهما ، ولم يقيّد بأيام مروان ، ولا ابن الزبير كأنّ الأمّة لم تجتمع على واحد منهما )(١) .

وهذا ما اعترف به ابن حجر العسقلاني أيضاً في فتح الباري(٢) .

٣ ـ إن أكثر مَن أدعي اجتماع الأمة عليه ، كيزيد بن معاوية ، ومروان بن الحكم ، والوليد ، و مروان الحمار ، وغيرهم لم يكن متوفّراً على خصائص الخلفاء الاثني عشر ، من كونهم يعملون بالهدى ودين الحق ، وأنّهم قيّمون على الدين ، والدين قائم بهم ، وغير ذلك من الصفات السامية ، التي تقدّم ذكر بعضها .

الخلاصة

١ ـ إنّ حديث الاثني عشر ، حقيقة صادرة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد تواترت الروايات من الفريقين بنقلها بألسن مختلفة ، كلّها تشير إلى مضمون واحد ، ومن هذه الروايات قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا يزال هذا الأمر صالحاً حتى يكون اثنا عشر أميراً ) (٣) .

ـــــــــــــ

(١) البداية والنهاية ، ابن كثير : ج ٦ ص ٢٨٠ .

(٢) فتح الباري : ج ١٣ ص ١٨٢ .

(٣) مسند أحمد : ج ٥ ص ٩٧ ص ١٠٧ ؛ المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ٦١٨ ؛ انظر : مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٥ ص ١٩٠ وقد صحّحه .

١٣٢

٢ ـ إنّ أهل السنّة لم يتمكّنوا أن يقدّموا تفسيراً واقعيّاً لحقيقة الاثني عشر خليفة ، وإنّ تفسيراتهم المضطربة والمتناقضة فيما بينها خير شاهد على عجزهم عن فهمها وتفسيرها ، على الرغم ممّا ارتكبوه من تكلّف ظاهر على حدّ تعبير بعضهم ، لا سيّما وأنّ البعض(١) قد أوكل تفسير حديث الاثني عشر إلى الله تعالى بعد أن عجز عن تفسيره تفسيراً صحيحاً .

٣ ـ إنّ الخصائص والمميزات التي تحملها أحاديث الاثني عشر ، لا تنطبق في الواقع الخارجي إلاّ على أهل البيتعليهم‌السلام ، فمثل صفة ( صلاح أمر الأُمّة والناس بهم ) و( كلّهم يعمل بالهدى ودين الحق ) و( إذا هلكوا ماجت الأرض بأهلها ) ، ونحوها ، لا تنسجم ولا تنطبق إلاّ على عترة أهل البيتعليهم‌السلام ، فضلاً عمّا يحمله أهل البيتعليهم‌السلام من خصائص ومميّزات استثنائية ، وما يحملونه من مؤهّلات علمية وعملية بإجماع أهل العلم ، وعلى جميع المستويات الفكرية والروحية ونحوها ، كل هذا يؤكّد ويدعم كون حديث الاثني عشر لا يمكن انطباقه إلاّ على أهل البيتعليهم‌السلام .

ـــــــــــــ

(١) شرح صحيح مسلم ، النووي : ج ١٢ ص ٢٠٣ .

١٣٣

الفصل الثالث: غيبة الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشّريف)

الشبهة :

١ ـ ما الفائدة من وجود إمام غائب ؟

٢ ـ إنّ الحجّة عند الشيعة لا تقوم إلاّ بإمام ، فكيف يترك الإمامة ويغيب ؟

الجواب :

قبل البدء ينبغي ذكر تمهيد مختصر له مدخليّة في الإجابة .

تمهيد :

إنّ الشريعة التي جاء بها الدين الإسلامي ما هي ـ في مجملها ، وحقيقتها ، وبكل جوانبها ـ إلاّ خطّة إلهيّة أُعدّت بإحكام ، ووُضعت من أجل ترشيد المجتمع البشري نحو الأصلح والأقوم ، وبلوغ السعادة في الدارين .

وقد وعد الله تعالى البشرية ـ التي عانت طوال حياتها من الظلم ، والجور ـ أن يسودها العدل والأمان في الأرض .

قال تعالى :( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ) (١) .

وقال تعالى أيضاً :( وَنُرِيدُ أَن نمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) (٢) .

إلاّ أنّ تحقق هذا الهدف على أرض الواقع يتوقّف على توفّر شرائطه ، التي شاء الله عزّ وجلّ بحكمته أن تكون من طرقها الطبيعية ، وضمن ما هو المألوف ، لا بشكل إعجازي وخارق لما هو المعتاد .

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٣٣ .

(٢) القصص : ٥ .

١٣٤

وحيث إنّ الله تعالى ـ لحكمته ولطفه بعباده ـ قد نصّب أولياء هداة معصومين ، يمثّلون امتداداً طبيعياً للرسالة المحمّديّة ، فهم أُمناء الوحي والرسالة ، وحجّة الله على العباد ، وهم الأئمّة الاثنا عشرعليهم‌السلام بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أوّلهم الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وآخرهم الإمام المهديعليه‌السلام ، وقد ثبت ذلك مسبقاً ، بمقتضى عدد وافر من الآيات القرآنية ، كآية الولاية ، وآية أُولي الأمر ، وآية التطهير ، وآيات البلاغ في الغدير ، وآية المودّة في القربى(١) وغيرها ، مضافاً إلى عدد كبير جداً من الأحاديث النبويّة التي رواها أصحاب الصحاح من أهل السنّة ، كحديث الثقلين المتواتر الذي مفاده أنّ أهل البيتعليهم‌السلام لن يفترقوا عن القرآن حتى يردوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحوض(٢) ، فكما أنّ القرآن باقٍ إلى يوم القيامة كذلك أهل البيتعليهم‌السلام ، وكحديث الخلفاء الاثني عشر (كلّهم من قريش)(٣) ، وحديث السفينة(٤) ، وأهل بيتيعليهم‌السلام أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض(٥) وأتاهم ما يوعدون ، وغير ذلك من الأحاديث الدالّة على بقاء الإمامة الإلهية ، واستمرارها في الأرض .

ـــــــــــــ

(١) الآيات : المائدة : ٥٥ ، النساء : ٥٩ ، الأحزاب : ٣٣ ، المائدة : ٦٧ .

(٢) السنن الكبرى ، النسائي : ج ٥ ص ٤٥ ص ١٣٠ ؛ خصائص أمير المؤمنين : النسائي : ص ٩٣ ؛ المعجم الصغير ، الطبراني : ج ١ ص ١٣١ ص ١٣٥ .

(٣) مسند أحمد ، أحمد بن حنبل : ج ٥ ص ٨٧ ـ ٨٨ .

(٤) مجمع الزوائد : الهيثمي ، ج ٩ ص ١٦٨ ، المعجم الأوسط ، الطبراني : ج ٦ ص ٨٥ .

(٥) شواهد التنزيل ، الحسكاني : ج ١ ص ٤٢٦ ، ذخائر العقبى ، الطبري : ص ١٧ .

١٣٥

وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ خلفائي ، وأوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي ، الاثنا عشر ، أوّلهم عليّ ، وآخرهم ولدي المهدي ) (١) .

وشاءت الإرادة الإلهية أن يكون الإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ـ الذي يمثّل الحلقة الأخيرة من سلسلة الأئمّة الهداة ـ مصلحاً للبشرية ، ومحققاً للهدف النهائي ، والثمرة الكبيرة والمرجوّة من رسالات السماء وبعث الأنبياء ، قال تعالى :( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنّ اللهَ قَوِيّ عَزِيزٌ ) (٢) .

إذن فلابدّ ـ بحسب التخطيط الإلهي ـ من إقامة العدل ، والسلام في العالم ، بعد انتشار الظلم والجور والفساد في ربوع الأرض وأرجائها ، وهو ما نشاهده ونراه بالحس والعيان في كل حدب وصوب ، وهذا ما يتطابق مع ما تنبّأ به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله :( تملأ الأرض ظلماً وجوراً ، ثم يخرج رجل من عترتي ، يملك سبعاً أو تسعاً ، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً ) (٣) ، فكما أنّ الأرض مُلئت وستُملأ بالجور والفساد والظلم ، لابدّ لها من يوم تُملأ فيه عدلاً وقسطاً ، على يد الإمام المهديّ المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) .

ـــــــــــــ

(١) ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : ج ٣ ص ٢٩٥ .

(٢) الحديد : ٢٥ .

(٣) سنن أبي داود ، السجستاني : ج ٤ ص ٧١٢ ح ٤٢٧٦ ؛ مسند أحمد ، أحمد بن حنبل : ج ٣ ص ٢٨ ص ٣٦ ص ٧٠ ؛ المستدرك الحاكم : ج ٤ ص ٥٥٧ ؛ وانظر مجمع الزوائد : الهيثمي : ج ٧ ص ٣١٤ ، وقال فيه : ( رواه الترمذي وغيره باختصار ، رواه أحمد بأسانيد ، وأبو يعلى باختصار ، ورجالهما ثقات ) ؛ وانظر : المصنف : الصنعاني : ج ١١ ص ٣٧٢ ـ ٣٧٣ .

١٣٦

إلاّ أنّ النقطة الجديرة بالذكر هي أنّ تحقق هذا الهدف ، وهو إقامة العدل والقسط في الأرض ، يتوقّف على توفّر شرائطه التي أراد الله تعالى بحكمته أن تكون من الطريق الطبيعي لا الإعجازي ، وهذا ما جرت عليه السنن الإلهية في هذا العالم ، فقد قال تبارك وتعالى :( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ ) (١) ، وقال تعالى أيضاً :( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى‏ مَنْ حَيّ عَنْ بَيّنَةٍ وَإِنّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٢) ، وقال تعالى :( وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلُِيمَحّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ ) (٣) ، وقال :( وَتِلْكَ الأَيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ * وَلِيُمَحّصَ اللهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ ) (٤) ، وغير ذلك من الآيات المباركة ، التي تكشف عن أنّ التخطيط الإلهي لجريان السنن في هذا العالم مبنيّ على السير الطبيعي للبشرية ، إلاّ في الظروف الخاصّة والاستثنائية ، التي تقتضي فيها الحكمة الإلهية إنجاز الهدف والوصول إليه عن طريق الإعجاز وخرق المعتاد ، وذلك كإثبات أصل نبوّة الأنبياء مثلاً .

وإقامة العدل على هذه الأرض جاء ضمن ذلك الإطار ، فلكي يتحقق على أرض الواقع ويحين أجله ، لابد من اكتمال جميع شرائطه ، وعلى ضوء ذلك كانت غيبة إمامنا المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) جزءاً من هذا التخطيط والحكمة الإلهية ، من أجل أن تكتمل باقي الشرائط لظهور الحق وإقامة العدل ، تلك الشرائط التي يتحقق معظمها في أحضان الغيبة ، وهذا ما أخبر به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في روايات عديدة من كتب الفريقين :

ـــــــــــــ

(١) الأنفال : ٣٧ .

(٢) الأنفال : ٤٢ .

(٣) آل عمران : ١٥٤ .

(٤) آل عمران : ١٤٠ ـ ١٤٢ .

١٣٧

منها : ما أخرجه الإربلي ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لمّا أنزل الله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (١) ، قلت : يا رسول الله عرفنا الله ورسوله ، فمَن أولي الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( هم خلفائي من بعدي يا جابر ، وأئمة الهدى بعدي أولهم علي بن أبي طالب ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر وستدركه يا جابر فإذا لقيته فاقرأه عنّي السلام ، ثم الصادق جعفر بن محمد ، ثم موسى بن جعفر ، ثم علي بن موسى ، ثم محمد بن علي ، ثم علي بن محمد ، ثم الحسن بن علي ، ثم سميّي وكنيّي ، وحجّة الله في أرضه ، وبقيّته في عباده محمد بن الحسن بن عليّ ، ذلك الذي يفتح الله عزّ وجلّ على يده مشارق الأرض ومغاربها ، وذلك الذي يغيب عن شيعته ، وأوليائه ، غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلاّ من امتحن الله قلبه للإيمان ) ، فقال جابر : فقلت : يا رسول الله فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته ؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أي والذي بعثني بالحق ، إنّهم ليستضيئون بنوره ، وينتفعون بولايته في غيبته ، كانتفاع الناس بالشمس وإن علاها سحاب ، يا جابر هذا من مكنون سر الله ، ومخزون علم الله ، فاكتمه إلاّ عن أهله ) (٢) .

وعن علي بن علي الهلالي ، عن أبيه قال : دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شكاته التي قبض فيها فإذا فاطمة رضي الله عنها عند رأسه قال : فبكت حتى ارتفع صوتها ، فرفع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طرفه إليها فقال :حبيبتي فاطمة ،

ـــــــــــــ

(١) النساء : ٥٩ .

(٢) ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ٣ ص ٣٩٩ .

١٣٨

ما الذي يبكيك ، فقالت :أخشى الضيعة بعدك ، فقال :يا حبيبتي ، أما علمت أن الله ـ عزّ وجلّ ـ اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختار منها أباك فبعثه برسالته ، ثم أطلع إلى الأرض اطلاعه فاختار منها بعلك ، وأوحى إليّ أن أنكحك إيّاه ، يا فاطمة ، ونحن أهل بيت قد أعطانا الله سبع خصال لم تُعط لأحد قبلنا ولا تُعطى أحداً بعدنا : أنا خاتم النبيّين ، وأكرم النبيّين على الله ، وأحب المخلوقين إلى الله عزّ وجلّ وأنا أبوك ، ووصيي خير الأوصياء ، وأحبّهم إلى الله ، وهو بعلك ، وشهيدنا خير الشهداء ، وأحبّهم إلى الله ، وهو عمّك حمزة بن عبد المطلب ، وعمّ بعلك ، ومنّا مَن له جناحان أخضران يطير مع الملائكة في الجنّة حيث شاء ، وهو ابن عم أبيك ، وأخو بعلك ، ومنّا سبطا هذه الأُمّة ، وهما ابناك الحسن والحسين ، وهما سيّدا شباب أهل الجنّة ، وأبوهما ـ والذي بعثني بالحق ـ خير منهما يا فاطمة ـ والذي بعثني بالحق ـ إنّ منهما مهدي هذه الأُمّة إذا صارت الدنيا هرجاً ومرجاً وتظاهرت الفتن ، وتقطّعت السبل ، وأغار بعضهم على بعض ، فلا كبير يرحم صغيراً ولا صغير يوقّر كبيراً ، فيبعث الله عزّ وجلّ عند ذلك منهما مَن يفتح حصون الضلالة ، وقلوباً غلفاً يقوم بالدين آخر الزمان كما قمت به في أول الزمان ، ويملأ الدنيا عدلاً كما مُلئت جوراً ، يا فاطمة لا تحزني ولا تبكي ، فإنّ الله عزّ وجلّ أرحم بك وأرأف عليك منّي ؛ وذلك لمكانك من قلبي ، وزوّجك الله زوجاً ، وهو أشرف أهل بيتك حسباً وأكرمهم منصباً ، وأرحمهم بالرعيّة ، وأعدلهم بالسوية ، وأبصرهم بالقضية ، وقد سألت ربّي عزّ وجلّ أن تكوني أوّل مَن يلحقني من أهل بيتي ، قال علي رضي الله عنه :فلمّا قُبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تبق فاطمة رضي الله عنهابعده إلاّ خمسة

١٣٩

وسبعين يوماً حتى ألحقها الله عزّوجلّ به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه : الهيثم بن حبيب ، قال أبو حاتم : منكر الحديث وهو متهم بهذا الحديث(١) .

أقول : ولم يجدوا في الهيثم بن حبيب مطعناً سوى روايته لهذا الحديث في فضائل أهل البيتعليهم‌السلام ، وله نظائر كثيرة !!

وعن أبي أيوب الأنصاري قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفاطمة :نبيّنا خير الأنبياء وهو أبوك ، وشهيدنا خير الشهداء وهو عمّ أبيك حمزة ، ومنّا مَن له جناحان يطير بهما في الجنّة حيث شاء وهو ابن عمّ أبيك جعفر ، ومنّا سبطا هذه الأُمّة الحسن والحسين وهما ابناك ومنّا المهدي .

رواه الطبراني في الصغير وفيه قيس بن الربيع وهو ضعيف وقد وثق ، وبقيّة رجاله ثقات(٢) .

ومنها : ما جاء عن جابر بن عبد الله الأنصاري أيضاً : قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( المهدي من ولدي ، اسمه اسمي ، وكنيته كنيتي ، أشبه الناس بي خلقاً وخُلقاً ، تكون له غيبة وحيرة ، تضل فيها الأُمم ، ثم يقبل كالشهاب الثاقب ، فيملأها عدلاً كما مُلئت جوراً ) (٣)

وغير ذلك من الروايات ، الدالة على ضرورة الغيبة ، من أجل اكتمال شرائط الظهور ، وإقامة العدل والقسط ؛ وذلك من خلال تخطّي البشرية لمراحل عديدة من التمحيص والفتن والحيرة ، والابتلاء .

ـــــــــــــ

(١) مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٩ ص ١٦٥ ـ ١٦٦ .

(٢) المصدر نفسه : ج ٩ ص ١٦٦ .

(٣) ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : ج ٣ ص ٣٨٦ .

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

عليه‌السلام أنّه إذا تبنّى طريق التوحيد فإنّهعليه‌السلام سيستغفر له الله سبحانه ، وقد عمل بما وعده به ، إلّا أنّ آزر لم يؤمن وبقي على ضلاله ، وعند ما اتّضح لإبراهيم أنّه عدوّ الله وسوف لن يؤمن أبدا ، لم يستغفر له ثانية وقطع علاقته به.

ولمّا كان المسلمون مطّلعين على منهج إبراهيمعليه‌السلام في تعامله مع «آزر» بصورة إجمالية ، فقد كان من المحتمل أن يكون هذا الموقف موضع إحتجاج لأشخاص مثل (حاطب بن أبي بلتعة) حيث كانوا يقيمون العلاقات والارتباطات السريّة مع الكفّار ، ولهذا فالقرآن الكريم يقطع الطريق على مثل هذه التصوّرات ويعلن ـ صراحة ـ أنّ هذا الاستثناء قد تمّ تحت شروط خاصّة ، وكان أسلوبا لاستدراج (آزر) إلى الهدى وإدخاله في الإيمان ، ولم يكن لأهداف دنيوية آنية أو مصلحة وقتية ، لذا يقولعزوجل في بيان هذا المعنى :( وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) (١) .

إلّا أنّ بعض المفسّرين يرى أنّ هذا الأمر كان استثناء من التأسّي بـ (إبراهيم) ، وقالوا يجب الاقتداء به في جميع الأمور إلّا في استغفاره لعمّه آزر.

إلّا أنّ هذا المعنى بعيدا جدّا لأنّه :

أوّلا : كانعليه‌السلام أسوة في جميع الأمور ومن ضمنها إتّباع هذا المنهج ، وذلك بلحاظ أنّ الشروط التي توفّرت في (آزر) توفّرت أيضا في بعض المشركين وعند ذلك لا بدّ من إظهاره المودّة لهم وتهيئة الأجواء الطيّبة لهم ، وجذبهم للإيمان.

وثانيا : أنّ إبراهيمعليه‌السلام نبي معصوم من أنبياء الله العظام ومن المجاهدين اللامعين ، وأعماله كلّها أسوة للمؤمنين ، وعندئذ لا داعي لاستثناء هذه المسألة من التأسّي به فيها.

__________________

(١) التوبة ، الآية ١١٤.

٢٤١

وخلاصة القول أنّ إبراهيمعليه‌السلام وأصحابه كانوا من أشدّ المخالفين والمحاربين للشرك ، ولا بدّ لنا من الاقتداء بهم وأخذ الدروس والعبر من سيرتهم ، بما في ذلك ما يتعلّق بموقفه من «آزر» إذا توفّرت لنا نفس الشروط والخصوصيات(١) .

وبما أنّ محاربة أعداء الله ، والصرامة والشدّة معهم ـ خصوصا مع تمتّعهم بقدرة ظاهرية ـ سوف لن تكون فاعلة إلّا بالتوكّل على الله تبارك وتعالى ، يضيف سبحانه في نهاية الآية :( رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) .

ونلاحظ ثلاثة امور في هذه العبارة :

الأمر الأوّل : هو التوكّل ، الثاني هو : التوبة والإنابة ، الثالث : التأكيد على حقيقة الرجوع النهائي في كلّ شيء إليه سبحانه ، حيث أنّ كلّ أمر من هذه الأمور يكون علّة وبنفس الوقت معلولا للآخر ، فالإيمان بالمعاد والرجوع النهائي إليه سبحانه يوجب التوبة ، والتوبة تحيي روح التوكّل في النفس الإنسانية(٢) .

وفي الآية اللاحقة يشير القرآن الكريم إلى طلب آخر مهمّ وحسّاس لإبراهيمعليه‌السلام وأصحابه في هذا المجال ، حيث يقول تعالى :( رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) .

من المحتمل أن يكون ما ورد في الآية إشارة إلى عمل «حاطب بن أبي بلتعة» واحتمال صدور شبيهه من أشخاص جهلة يكونون سببا في تقوية الظالمين ، من حيث لا يشعرون ، بل يتصوّرون أنّهم يعملون لمصلحة الإسلام ، أو إنّ المراد في الحقيقة دعاء بأنّه لا تجعلنا نقع في قبضة الكافرين فيقولوا : أنّ هؤلاء لو كانوا على الحقّ ما غلبوا ، ويؤدّي هذا التوهّم إلى ضلالهم أكثر.

__________________

(١) يتّضح لنا ممّا تقدّم أنّ الاستثناء هنا متّصل ، والمستثنى منه جملة محذوفة يدلّ عليها صدر الآية ، وتقديرها : إنّ إبراهيم وقومه تبرّأوا منهم ، ولم يكن لهم قول يدلّ على المحبّة إلّا قول إبراهيم ، وطبقا للتفسير الثاني فإنّ الاستثناء سوف يكون منقطعا ، وهذا بحدّ ذاته إشكال آخر عليه.

(٢) يتّضح ممّا قلناه أنّ هذه الجملة هي كلام إبراهيمعليه‌السلام وأصحابه ، بالرغم من أنّ بعض المفسّرين احتمل كونها جملة مستقلّة ونزلت بعنوان إرشاد للمسلمين ضمن هذه الآيات ، وهو احتمال بعيد.

٢٤٢

وهذا يعني أنّ المسلمين ما كانوا يأبهون بالخوف من خشية على مصالحهم أو على أنفسهم ، بل لكي لا يقع مبدأ الحقّ في دائرة الشكّ ويكون الإنتصار الظاهري للكفّار دليلا على حقّانيتهم وهذا هو منهج الإنسان المؤمن الراسخ في إيمانه ، حيث أنّ جميع ما يقوم به ويضحّي في سبيله لا لأجل نفسه ، بل لله سبحانه ، فهو مرتبط به وحده ، قاطع كلّ علاقة بما سواه ، طالب كلّ شيء لمرضاته.

ويضيف في نهاية الآية :( وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

فقدرتك يا الله لا تقهر ، وحكمتك نافذة في كلّ شيء.

إنّ هذه الجملة قد تكون إشارة لطلب المغفرة من الله سبحانه والعفو عن الزلل في حالة حصول الميل النفسي والحبّ والولاء لأعداء الله.

وهذا درس لكلّ المسلمين كي يقتدوا بهؤلاء. وإذا ما وجد بينهم شخص منحرف كـ (حاطب) فليستغفروا ربّهم ولينيبوا إليه.

ومرّة اخرى يؤكّد سبحانه في آخر آية من هذه الآيات على نفس الأمر الذي ذكر في أوّل آية ، حيث يقول تعالى :( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ) (١) .

لقد كانوا لنا أسوة ، ليس فقط في موقفهم ضدّ منهج الكفر وعبدة الأوثان ، بل هم أسوة لنا في الدعاء بين يدي البارئعزوجل ، وقدوة لنا في طلب المغفرة منه كما استعرضت الآيات السابقة نماذج في ذلك.

إنّ هذا الاقتداء في حقيقته يتمثّل في الذين تعلّقوا بالله سبحانه ، ونوّر الإيمان بالمبدأ والمعاد قلوبهم ، ونهجوا منهج الحقّ وتحرّكوا في طريقه وبدون شكّ فإنّ هذا التأسّي والاقتداء يرجع نفعه إلى المسلمين أنفسهم قبل الآخرين ، لذا يضيف سبحانه في النهاية قوله :( وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) .

__________________

(١) قال بعض المفسّرين : إنّ (لمن) في الآية أعلاه «بدل» عن (لكم) : (تفسير الفخر الرازي ، وروح المعاني ، في نهاية هذه الآيات).

٢٤٣

وذلك أنّ عقد الولاء مع أعداء الله يقوّي عودهم وشوكتهم وبالتالي إلى هزيمة المسلمين ، وإذا تسلّطوا عليكم فسوف لن يرحموا صغيركم وكبيركم(١) .

* * *

بحوث

١ ـ نماذج خالدة

إنّ المشاريع العملية غالبا ما تكون منبثقة عن قناعات تسبقها ، لأنّ العمل عادة يعبّر عن تجسيد حالة الإيمان العميق للإنسان بما يقوم به ، ويكون مجسّدا لأقواله وأفكاره ومتبنياته ، والحديث يخرج من القلب لا بدّ أن يكون موضع تأثّر وتفاعل قائلة نفسه به.

وفي الغالب فإنّ وجود القدوة في حياة البشر مؤثّر في تربيتهم وتوجيههم ، ولهذا السبب فإنّ النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام ، وبقيّة الأنبياء الكرامعليهم‌السلام كانوا موضع هداية البشرية من خلال أعمالهم والتزاماتهم ، لذا فإنّنا حينما نتحدّث عن «السنّة» ، التي هي عبارة عن (قول) المعصوم و (فعله) و (تقريره) ، أي أنّ كلام وعمل وسكوت المعصوم كلّه حجّة ودليل ، لا بدّ من الالتزام به ، ولهذا السبب فإنّ (العصمة) شرط أساسي لكلّ الأنبياء والأئمّةعليهم‌السلام كي يكونوا لنا أسوة وقدوة في جميع المجالات.

والقرآن الكريم يؤكّد هذه المسألة المهمّة والأساسية حيث يعرض للمؤمنين النماذج في هذه المجالات ومن جملتها ما جاء في هذه الآيات ، حيث يتحدّث عن النبي إبراهيمعليه‌السلام وأصحابه مرّتين ، كما يعرض القرآن الكريم في سورة الأحزاب شخص الرّسول الأكرم كقدوة وأسوة للمسلمين.

__________________

(١) بناء على هذا فإنّ جملة (من يتولّ) جملة شرطية ، ولها جزاء محذوف تقديره : من يتولّ فقد أخطأ حظّ نفسه وأذهب ما يعود نفعه إليه (مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٧٢).

٢٤٤

«الأسوة» هنا لها معنى مصدري ، بمعنى التأسّي والاقتداء العملي ، بالرغم من أنّها تفهم في الاستعمالات المتداولة بأنّها تعني الشخص موضع التأسّي.

في غزوة الأحزاب الرهيبة عرض القرآن الكريم النبي محمّد كنموذج وأسوة في الاستقامة والإيمان والإخلاص والتحلّي بالهدوء والصبر في غزوة مليئة بالمخاطر ، في وقت كان المسلمون موضع تمحيص ، وتعرّضوا فيه إلى زلزال عصيب ، وطبعا فانّ هذه المعنى لا ينحصر في هذه المناسبة فحسب ، بل إنّ شخصية رسولنا الأكرم قدوة وأسوة عظيمة لتربيتنا في كلّ زمان ومكان.

إنّ شعار : (كونوا دعاة الناس بأعمالكم ، ولا تكونوا دعاة بألسنتكم)(١) المنقول عن الإمام الصادقعليه‌السلام دليل على ضرورة أن يكون المسلمون ـ أجمع وكلّ في مجاله ـ أسوة وقدوة للآخرين ، وبلسان العمل يمكن أن يعرّف المسلمون الإسلام للعالم ، وحينئذ يمكن أن يستوعب الإسلام العالم أجمع.

٢ ـ الله غني عن الجميع

أكّد القرآن الكريم مرارا على نقطة مهمّة ، وهي أنّ الله تعالى إذا أمر الإنسان بالالتزام بأحكام ـ وتكاليف معيّنة ، فإنّ جميع منافعها تعود بالخير والمصلحة عليه ، بالرغم من المشقّة أحيانا في تطبيق هذه الأحكام والتكاليف. ذلك لأنّ الله تعالى ليس محتاجا لأي شيء في عالم الوجود ليستعين بنا عليه ، كما أنّه ليس لديه أي نقص في أي شيء ، إضافة إلى أنّ الإنسان لا يملك شيئا ليعطيه. بل كلّ ما لديه فهو لله تعالى.

وقد جاء في الأحاديث القدسية : «يا عبادي أنّكم لن تبلغوا ضرّي فتضرّوني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٢٧٨ ، مادّة عمل.

٢٤٥

على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا.

يا عبادي لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كلّ إنسان مسألته ما نقص ذلك من عندي إلّا كما ينقص المحيط إذا دخل البحر.

يا عبادي إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم ثمّ اوفيكم إيّاها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلو منّ إلّا نفسه»(١) .

٣ ـ الأصل في العلاقات الرسالية : (الحبّ في الله والبغض في الله).

إنّ أعمق رابطة تربط أبناء البشرية مع بعضهم هي الرابطة العقائدية ، حيث تبتني عليها سائر العلاقات الاخرى.

ولقد أكّد القرآن الكريم مرارا على هذا المعنى وهذا اللون من الارتباطات ، وشجب صور الروابط القائمة على أساس الصداقة والحميّة الجاهلية والمنافع الشخصية التي تكون على حساب مرتكزات المبدأ ، إذ أنّ ذلك يعني الاهتزاز والتصدّع في بناء الشخصية الرسالية

وبالإضافة إلى ذلك فإنّ المعيار الأساس للإنسان هو الإيمان والتقوى ، ولذا فإنّ إقامة العلاقات مع الأشخاص الذين يفقدون هذه المقوّمات أمر لا يقدم عليه الإنسان الملتزم ويحذّر من الوقوع في شراكه ، ولا بدّ من الرجوع إلى المعيار الإيماني في إقامة العلاقات وفق منهج الإسلام ، وجعل العلاقة مع الله والموقف من الله هو الحكم والفصل في طبيعة هذه العلاقة.

__________________

(١) روح البيان ، ج ٩ ، ص ٤٧٤.

٢٤٦

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام : «من أحبّ لله وأبغض لله وأعطى لله جلّ وعزّ فهو ممّن كمل إيمانه»(١) .

ونقرأ في حديث آخر عنهعليه‌السلام : «من أوثق عرى الإيمان ، أن تحبّ في الله ، وتبغض في الله ، وتعطي في الله ، وتمنع في الله»(٢) .

ولمزيد من الاطّلاع في مجال «الحبّ في الله والبغض في الله» يراجع التّفسير الأمثل نهاية الآية (٢٢) من سورة المجادلة.

* * *

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ٢ ، باب الحبّ في الله حديث (١ ، ٢).

(٢) اصول الكافي ، ج ٢ ، باب الحبّ في الله ، حديث (١ ، ٢). والأحاديث في هذا المجال كثيرة جدّا ويراجع المجلّد الثاني من كتاب اصول الكافي ، باب الحبّ في الله ، حيث نقل العلّامة الكليني في هذا الباب (١٦) حديثا حول هذا الموضوع.

٢٤٧

الآيات

( عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩) )

التّفسير

مودّة الكفّار غير الحربيين :

يستمرّ الحديث في هذه الآيات المباركات تكملة للموضوعات التي طرحت في الآيات السابقة حول «الحبّ في الله والبغض في الله» وقطع العلاقة مع المشركين ، بالرغم من أنّ قطع هذه الرابطة يولّد فراغا عاطفيا بالنسبة للبعض من

٢٤٨

المسلمين ، فإنّ المؤمنين الصادقين ، وأصحاب رسول الله المخلصين آمنوا بهذا المنهج وثبتوا عليه ، والله تعالى بشّر هؤلاء ألّا يحزنوا ، لأنّ الثواب هو جزاؤهم بالإضافة إلى أنّ هذه الحالة سوف لن تستمرّ طويلا ، حيث يقول سبحانه :( عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً ) .

ويتحقّق هذا الوعد وتصدق البشارة في السنة الثامنة للهجرة حيث منّ الله على المسلمين بفتح مكّة ، ودخل أهلها جماعات جماعات في دين الإسلام الحنيف ، مصداقا لقوله تعالى :( يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً ) وعند ذلك تتبدّد غيوم الظلمة والعداء والعناد من سماء حياتهم ، وتشرق نفوسهم بنور الإيمان وحرارة الودّ وأجواء المحبّة والصداقة.

بعض المفسّرين اعتبر هذه الآية إشارة إلى زواج الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من (أمّ حبيبة بنت أبي سفيان) التي كانت قد أسلمت وصحبت زوجها «عبيد الله بن جحش»(١) في هجرته للحبشة مع المهاجرين ومات زوجها هناك ، فأرسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شخصا إلى النجاشي وتزوّجها ، ولأنّ الزواج بين القبائل العربية كان له تأثير في تضييق دائرة العداء وبناء جسور المودّة بينهم ، وهذه المسألة كان لها تأثير إيجابي على أبي سفيان وأهل مكّة.

إلّا أنّ هذا الاحتمال مستبعد ، لأنّ هذه الآيات نزلت عند ما كان المسلمون على أبواب فتح مكّة ، ولأنّ «حاطب بن أبي بلتعة» كان يروم من إرسال رسالته إلى مشركي مكّة إحاطتهم علما بعزم الرّسول على فتح مكّة ، في الوقت الذي نعلم أنّ «جعفر بن أبي طالب» وأصحابه رجعوا إلى المدينة قبل فتح مكّة (فتح خيبر)(٢) .

__________________

(١) عبيد الله بن جحش هو أخو عبد الله بن جحش ، لم يبق على الإسلام بل اختار المسيحية في الحبشة ، ولهذا السبب فإنّ أمّ حبيبة انفصلت عنه ، أمّا أخوه (عبد الله) فقد بقي مسلما وكان من مجاهدي أحد ، واستشهد في تلك الغزوة.

(٢) إنّ خلاصة هذه القصّة قد نقلها كثير من المفسّرين ، ويمكن مراجعة شرحها في كتاب اسد الغابة في معرفة الصحابة ،

٢٤٩

وعلى كلّ حال ، إذا تباعد بعض الناس عن خطّ الإسلام والمسلمين وكانت تربطهم علاقات إيجابية مع المسلمين ، ففي مثل هذه الحالة لا ينبغي اليأس ، لأنّ الله تعالى قادر على كلّ شيء ، ويستطيع تغيير ما في قلوبهم ، فهو الذي يغفر الذنوب والخطايا لعباده ، حيث يضيف تعالى في نهاية الآية :( وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

كلمة (عسى) تستعمل عادة في الموارد التي يؤمل فيها أن يتحقّق شيء ما ، وبما أنّ هذا المعنى يستعمل أحيانا توأما مع (الجهل) أو (العجز) فإنّ كثيرا من المفسّرين فسّروها بمعنى رجاء الآخرين من الله وليس العكس ، إلّا أنّنا لا نرى تعارضا في أن يكون لهذا المصطلح المعنى الأصلي ، وذلك لأنّ الوصول إلى هدف معيّن لا بدّ له في أحيان كثيرة من وجود الشروط المناسبة ، وإذا لم تستكمل هذه الشروط فإنّ هذه الكلمة تستعمل في مثل هذه الموارد.

وتبيّن الآيات اللاحقة شارحة وموضّحة طبيعة علاقة المودّة مع المشركين ، حيث يقول سبحانه :( لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) .

وبهذه الصورة يقسّم القرآن الكريم «المشركين» إلى فئتين :

فئة : عارضوا المسلمين ووقفوا بوجوههم وشهروا عليهم السلاح وأخرجوهم من بيوتهم وديارهم كرها ، وأظهروا عداءهم للإسلام والمسلمين في القول والعمل وموقف المسلمين إزاء هذه المجموعة هو الامتناع عن إقامة كلّ لون من ألوان علاقة المحبّة وصلة الولاء معهم.

__________________

ج ٥ ، ص ٥٧٣.

٢٥٠

والمصداق الواضح لهذه المجموعة هم مشركو مكّة ، وخصوصا سادات قريش ، حيث بذل بعضهم كلّ جهدهم لحرب المسلمين وإيذائهم ، وأعانوا آخرون على ذلك.

وفئة اخرى : مع كفرهم وشركهم ـ لا يضمرون العداء للمسلمين ، ولا يؤذونهم ولا يحاربونهم ولم يشاركوا في إخراجهم من ديارهم وأوطانهم ، حتّى أنّ قسما منهم عقد عهدا معهم بالسلم وترك العداء.

إنّ الإحسان إلى هذه المجموعة وإظهار الحبّ لهم لا مانع منه ، وإذا ما عقد معهم عهد فيجب الوفاء به ، وأن يسعى لإقامة علاقات العدل والقسط معهم ومصداق هذه الجماعة يتجسّد بطائفة (خزاعة) الذين كانوا قد عقدوا عهدا مع المسلمين على المسالمة معهم وترك الخصام.

وبناء على ذلك فلا مجال لقول بعض المفسّرين من أنّ هذه الآية منسوخة بما ورد في قوله تعالى :( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (١) .

حيث أنّ هذه الآية من سورة التوبة تتحدّث عن المشركين الذين نقضوا العهد ومارسوا أدوارا عدائية ضدّ الإسلام والمسلمين بصورة علنية ، ويتبيّن ذلك من خلال الاستدلال بالآيات اللاحقة التي تلي هذه الآية الكريمة(٢) .

وقد ذكر بعض المفسّرين في حديثه حول هذه الآية أنّ زوجة أبي بكر المطلّقة أتت بهدايا لابنتها «أسماء» من مكّة ، إلّا أنّ ابنتها امتنعت عن قبولها ، بل إنّها امتنعت أيضا حتّى من السماح لامّها من دخول بيتها ، فنزلت الآية أعلاه وأمرها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تلتقي بامّها وتقبل هديّتها وتكرمها وتحسن

__________________

(١) التوبة ، الآية ٥.

(٢) احتمل بعض المفسّرين أنّ الآية تمثّل رخصة عقد الولاء بالنسبة للمؤمنين الذين كانوا قد قبلوا الإسلام ، إلّا أنّهم بقوا في مكّة ، ولم يهاجروا. إلّا أنّ لحن الآيات يبيّن لنا أنّ الحديث كان مختّصا بغير المسلمين.

٢٥١

ضيافتها(١) .

وتبيّن لنا هذه الرواية أنّ هذه الرواية أنّ هذا الحكم لم يكن ليشمل أهل مكّة أجمع ، حيث أنّ أقليّة منهم لم تكن تضمر العداء للمسلمين ، ولم يكن لهم موقف عدائي إزاء المسلمين ، وبشكل عام فإنّ المستفاد من الآيات الكريمة حول طبيعة وكيفية العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو (أصل كلّي وأساسي) لا يختصّ بذلك الوقت فقط ، بل يمثّل خطّا عامّا لطبيعة هذه العلاقة في كلّ الأزمنة سواء اليوم أو غدا ، في حياتنا المعاصرة والمستقبلية.

وواجب المسلمين وفق هذه الاسس أن يقفوا بكلّ صلابة أمام أيّة مجموعة ، أو دولة ، تتّخذ موقفا عدائيا منهم أو تعيّن من أراد بالإسلام والمسلمين سوءا وقطع كلّ صلّة قائمة على أساس المحبّة والصداقة معهم.

أمّا إذا كان الكفّار في موقع محايد إزاء الإسلام والمسلمين ، أو أنّهم متعاطفون معهم ، عندئذ يستطيع المسلمون أن يقيموا علاقات حسنة ويرتبطوا وإيّاهم بروابط المودّة على أن لا تكون بالصورة التي تكون بين المسلمين أنفسهم ، ولا بالشكل الذي يؤدّي إلى تغلغلهم في صفوف المسلمين.

وإذا تغيّر موقف جماعة ما ، أو دولة ما ، وهي من الصنف الأوّل أو حصل عكس ذلك في موقف الصنف الثاني ، فبدّلوا سيرتهم من المسالمة إلى المحاربة والعداء ، فيجب أن يتغيّر معيار التعامل معهم حسب موقفهم الجديد وواقعهم الفعلي ، وتبنى معهم العلائق حسبما ورد من مفاهيم طبقا للآيات أعلاه.

* * *

__________________

(١) روح البيان ، ج ٩ ، ص ٤٨١ ، جاءت هذه الرواية في صحيح البخاري وكثير من كتب التّفسير أيضا باختلافات.

٢٥٢

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١) )

سبب النّزول

قال بعض المفسّرين في سبب نزول هذه الآيات : إنّ رسول الله أمضى في

٢٥٣

الحديبية مع مشركي مكّة عهدا ، وكان من ضمن بنود هذا العهد أنّ من أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل مكّة ردّه عليهم ، ومن أتى أهل مكّة من أصحاب رسول الله فهو لهم لا يردّوه عليه ، وكتبوا بذلك كتابا وقّعوا عليه.

في هذه الفترة جاءت (سبيعة بنت الحرث الأسلمية) مسلمة ، والتحقت بالمسلمين في أرض الحديبية بعد الانتهاء من توقيع العهد ، فأقبل زوجها وكان كافرا ، فقال : يا محمّد ، اردد عليّ امرأتي ، فإنّك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد فنزلت الآية أعلاه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ ) وأمرت بامتحان النسوة المهاجرات.

قال ابن عبّاس : امتحانهنّ أن يستحلفنّ ما خرجت من بغض زوج ولا رغبة عن أرض إلى أرض ، ولا التماس دنيا ، وما خرجت إلّا حبّا لله ورسوله. فاستحلفها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحلفت بالله الذي لا إله إلّا هو على ذلك ، فأعطى رسول الله زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردّها عليه فكان رسول الله يرد من جاءه من الرجال ، ويحبس من جاءه من النساء إذا امتحنهنّ(١) ويعطي أزواجهنّ مهورهنّ.

التّفسير

تعويض خسائر المسلمين والكفّار :

استعرضت الآيات السابقة موضوع «البغض في الله» وما يترتّب على ذلك من قطع أي صلة مع أعداء الله أمّا موضوع هذه الآيات فهو عن «الحبّ في الله» وعن طبيعة العلاقة مع الذين انفصلوا عن الكفر وارتبطوا بالإيمان.

وينصبّ الحديث في الآية الاولى ـ من هذه الآيات المباركات ـ عن النساء المهاجرات ، حيث ضمّت هذه الآية سبع نقاط تتعلّق بالنساء المهاجرات ، كما

__________________

(١) جاء سبب النزول أعلاه في كثير من كتب التّفسير ، ونحن اقتبسناه من مجمع البيان بتلخيص قليل ، كما نقل الطبرسي هذا الحديث عن ابن عبّاس.

٢٥٤

تناولت نقاطا اخرى تختّص بالنساء المشركات.

النقاط التي تختصّ بالنساء المهاجرات هي :

١ ـ إمتحان النساء المهاجرات ، حيث يوجّه سبحانه الحديث إلى المؤمنين فيقول تعالى :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ ) .

فالأمر الأوّل هو إمتحان النساء المؤمنات ، وبالرغم من تسميتهنّ بالمؤمنات إلّا أنّ إعلان الشهادتين ظاهريا لا يكفي ، فمن أجل المزيد من الاطمئنان على انسجام الظاهر مع الباطن كان الأمر بالامتحان للوثوق والتأكّد.

أمّا طريقة وأسلوب هذا الامتحان فكما مرّ بنا ، وهو أن يستحلفن أنّ هجرتهنّ لم تكن إلّا من أجل الإسلام ، وأنّها لم تكن بسبب بغض أزواجهنّ أو علاقة مع شخص آخر ، أو حبّا بأرض المدينة وما إلى ذلك.

كما يوجد احتمال آخر حول كيفية إمتحان النسوة المهاجرات ، وذلك كما ورد في الآية الثانية عشرة من نفس السورة قال تعالى :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ ) (١) .

ومن الممكن أن يكون الكذب في الحلف أيضا ، فيقول البعض خلافا لما يعتقد به ، إلّا أنّ التزام الكثير من الناس حتّى المشركين في ذلك الزمان بمسألة البيعة والحلف بالله كان سببا في تقليص دائرة غير الصادقين. ومن هنا نلاحظ أنّ الامتحان المذكور بالرغم من أنّه لم يكن دليلا قطعيّا على الإيمان حقيقة ، إلّا أنّه غالبا ما يكون كاشفا عن الحقيقة بصورة كبيرة.

لذا يضيف سبحانه في العبارة التالية :( اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ ) .

__________________

(١) الممتحنة ، الآية ١٢.

٢٥٥

٢ ـ يقول سبحانه في الأمر اللاحق :( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ) .

ورغم أنّ البند المثبت في (وثيقة صلح الحديبية) يشير إلى أنّ الأشخاص الذين أسلموا وهاجروا إلى المدينة يجب إرجاعهم إلى مكّة ، إلّا أنّه خاصّ بالرجال ولا يشمل النساء ، لذا فإنّ رسول الله لم يرجع أيّة امرأة إلى الكفّار. وإلّا فرجوع المسلمة إلى الكفّار يمثّل خطرا حقيقيّا على وضعها الإيماني ، وذلك بلحاظ ضعفها وحاجتها إلى الرعاية المستمرّة.

٣ ـ في ثالث نقطة التي هي في الحقيقة دليل على الحكم السابق يضيف تعالى :( لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ ) .

فالإيمان والكفر لا يجتمعان في مكان واحد ، لأنّ عقد الزواج المقدّس لا يمكن أن يربط بين محورين وخطّين متضادّين (خطّ الإيمان) من جهة و (الكفر) من جهة اخرى ، إذ لا بدّ أن يكون عقد الزواج يشكّل نوعا من الوحدة والتجانس والانسجام بين الزوجين ، وهذا ما لا يمكن أن يتحقّق نتيجة الاختلاف والتضادّ التي سيكون عليها الزوجان في حالة كون أحدهما مؤمنا والآخر كافرا.

ونلاحظ في بداية صدر الإسلام حالات من هذا القبيل لزوجين أحدهما مؤمن والآخر كافر ، ولم ينه عنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث لم يزل المجتمع الإسلامي قلقا وغير مستقرّ بعد ، إلّا أنّه عند ما تأصّلت جذور العقيدة الإسلامية وترسّخت مبادئها ، أعطى أمرا بالانفصال التامّ بين الزوجين بلحاظ معتقدهما ، وخاصّة بعد صلح الحديبية ، والآية ـ مورد البحث ـ هي إحدى أدلّة هذا الموضوع.

٤ ـ كان المتعارف بين العرب أن يدفعوا للمرأة مهرها سلفا ، ولهذا المعنى أشار سبحانه في قوله في الأمر الرابع :( وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا ) .

بالرغم من أنّ أزواج المؤمنات كفّار فلا بدّ من إعطائهم ما أنفقوا من مهور على زوجاتهم ، وذلك لأنّ الطلاق والانفصال قد تمّ بمبادرة من المرأة بسبب

٢٥٦

إيمانها ، لذا توجب العدالة الإسلامية دفع خسارة الزوج.

ويتساءل هنا : هل المقصود من الإنفاق هو المهر فقط ، أو أنّه يشمل كافّة المصاريف التي بذلها الرجل لهذا الشأن؟

رجّح أغلب المفسّرين المعنى الأوّل ، وهذا هو القدر المسلّم به ، بالرغم من أنّ البعض ـ كأبي الفتوح الرازي ـ يرى وجوب تحمّل كافّة النفقات الاخرى أيضا(١) .

وطبيعي أنّ دفع المهر يكون لمن عقد معاهدة صلح من الكفّار مع المسلمين ، كما في صلح الحديبية.

وأمّا من الذي يدفع المهر؟ فالظاهر أنّ هذا العمل يجب أن تتبّناه الدولة الإسلامية (بيت المال) لأنّ جميع الأمور التي لم يكن لها مسئول خاصّ في المجتمع الإسلامي يجب أن تتصدّى الدولة لإدارتها ، وخطاب الجمع في الآية مورد البحث دليل على هذا المعنى. (كما يلاحظ في آيات حدّ السارق والزاني).

٥ ـ الحكم الآخر الذي يلي الحكم أعلاه ، فهو قوله تعالى :( وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ) .

وهنا تؤكّد الآية الكريمة على ضرورة إعطاء النساء المهاجرات مهورهنّ في حالة الرغبة بالزواج منهنّ ، شاجبة التصوّر الذي يدور في خلد البعض بأنّ النساء المهاجرات لا يستحققن مهورا جديدة بسبب استلامهنّ المهور من أزواجهنّ السابقين ، وقد تحمّل بيت المال مبالغها ودفعها لأزواجهنّ السابقين.

إنّ زواجكم من هؤلاء النسوة لا يمكن أن يكون مجانيّا ، ولا بدّ أن يؤخذ بنظر الإعتبار مهر يتناسب مع حرمة المرأة المؤمنة.

ومن الضروري ملاحظة أنّ انفصال المرأة المؤمنة عن زوجها الكافر لا يحتاج إلى طلاق ، إلّا أنّه لا بدّ من انتهاء العدّة.

__________________

(١) تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج ١١ ، ص ١٢٦.

٢٥٧

وقد ذكر الفقيه «صاحب الجواهر» في شرحه لكلام «المحقّق الحلّي» «وأمّا في الزوج والزوجة غير الكتابين ، فالحكم فيهما انّ إسلام أحد الزوجين موجب لانفساخ العقد في الحال ان كان قبل الدخول وان كان بعده وقف على انقضاء العدّة بلا خلاف في شيء من ذلك ولا إشكال نصّا وفتوى ، بل لعلّ الاتّفاق نقلا وتحصيلا عليه»(١) .

٦ ـ أمّا إذا كان الأمر على العكس ، وكان الزوج قد آمن بالإسلام ، وبقيت المرأة كافرة ، فهنا تنفصل الرابطة الزوجية ، فتنقطع صلة زواجهما ، كما في قوله تعالى في تكملة الآية :( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) .

«عصم» : جمع عصمة ، وهي في الأصل بمعنى المنع ، وهنا ـ بمعنى النكاح والزوجية ـ لوجود القرائن ـ وصرّح البعض بأنّه النكاح الدائم ـ والتعبير بالعصمة أيضا مناسب لهذا المعنى ، لأنّه يمنع المرأة من الزواج من أيّ شخص آخر إلى الأبد.

«الكوافر» جمع كافرة ، بمعنى النساء الكافرات.

وقد بحث الفقهاء في أنّ هذا الحكم هل هو مختّص بالنساء المشركات فقط ، أم أنّه يشمل أهل الكتاب أيضا كالنسوة المسيحيات واليهوديات؟ وتختلف الروايات في هذا المجال ، حيث يجدر متابعتها في كتب الفقه. إلّا أنّ ظاهر الآية مطلق ويشمل جميع النساء الكافرات ، كما أنّ سبب النزول لم يحدّد ذلك.

أمّا مسألة «العدّة» فهي باقية بطريق أولى ، لأنّها إذا أنجبت طفلا فسيكون مسلما لأنّ أباه مسلم.

٧ ـ أمّا آخر حكم ذكر في الآية الكريمة ، فهو مهور النساء اللواتي ارتددن عن الإسلام والتحقن بالكفّار فانّ لكم الحقّ في المطالبة بمهورهنّ مثلما للكفّار

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٣٠ ، ص ٥٤.

٢٥٨

الحقّ في المطالبة بمهور زوجاتهم اللاتي دخلن دائرة الإسلام والتحقن بالمسلمين ، حيث يقول تعالى :( وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ) وهذا ما توجبه العدالة والاحترام المتقابل للحقوق.

وفي نهاية الآية ـ وتأكيدا لما سبق ـ يقول سبحانه :( ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

إنّ هذه الأحكام المستلهمة من العلم الإلهي ، الممتزجة بحكمته تعالى ، والتي لاحظت في تشريعاتها كافّة الحقوق ، تنسجم مع مبادئ العدل والمرتكزات والأصول الإسلامية ، ولا بدّ من الالتفات إلى حقيقة أنّ كون جميع هذه الأحكام إلهيّة يعدّ أكبر ضمانة إجرائية لها في قوّة التنفيذ.

واستعرضت ثاني وآخر آية من هذه الآيات متابعة لما تقدّم ، بعض الأمور في هذا الصدد يقول تعالى أنّه في كلّ مرّة ترتدّ امرأة متزوّجة عن الإسلام وتلتحق بالكفّار ، ثمّ حدثت معركة بينكم وبين الكفّار وحالفكم النصر عليهم وغنمتم منهم مغانم فأعطوا الذين ذهبت زوجاتهم إلى الكفّار :( وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا ) .

وتمشّيا مع النصّ القرآني فإنّ بإمكان المسلمين الذين فقدوا زوجاتهم اللواتي التحقن بمعسكر الكفر أن يأخذوا مهورهنّ من الكفّار ، كما كان يحقّ للكفّار استلام مهور زوجاتهم اللواتي اعتنقن الإسلام وهاجرن إلى المدينة.

وتحدّثنا بعض الروايات أنّه في الوقت الذي طبّق المسلمون هذا الحكم العادل ، فإنّ مشركي مكّة امتنعوا عن الالتزام به وتنفيذه ، لذا فقد امر المسلمون بصيانة حقّ هؤلاء الأفراد وذلك بإعطائهم ما يعادل المهور التي دفعوها لزوجاتهم اللواتي التحقن بالمشركين من الغنائم التي حصلوا عليها قبل تقسيمها على الآخرين.

ويحتمل أن يكون هذا الحكم خاصّا بالجماعات التي لم يكن لها عهد مع

٢٥٩

المسلمين ، حيث من الطبيعي أنّ مثل هؤلاء لم يكونوا مستعدّين لدفع مهور أمثال هؤلاء النسوة للمسلمين ، كما يمكن الجمع بين الرأيين أيضا.

«عاقبتم» من مادّة معاقبة ، وهي في الأصل من عقب (على وزن كدر) بمعنى : (كعب القدم) ولهذا السبب فإنّ كلمة «عقبى» جاءت بمعنى الجزاء والعقوبة ، أي بمعنى عقاب لعمل فيه مخالفة. لذا فإنّ المعاقبة تستعمل بمعنى القصاص ، كما يستعمل هذا المصطلح أيضا (معاقبة) بمعنى (التناوب) في أمر ما ، لكون الأشخاص الذين ينجزون عملا ما بشكل متناوب ، يعقب كلّ منهم الآخر.

ولذا فإنّ كلمة (عاقبتم) في الآية أعلاه جاءت بمعنى انتصار المسلمين على الكفّار وعقابهم ، وأخذ الغنائم منهم ، كما جاءت أيضا بمعنى «التناوب» أي يوم ينتصر فيه الكفّار على المسلمين ويوم بالعكس.

ويحتمل أيضا المقصود من هذه العبارة هو : الوصول إلى نهاية وعاقبة عمل ما ، والمراد من نهاية العمل هنا هو أخذ الغنائم الحربية.

وأي من هذه المعاني كان ، فإنّ النتيجة واحدة ، إلّا أنّ طرق الوصول إلى هذه النتيجة متفاوتة.

وتدعو الآية الكريمة في نهايتها جميع المسلمين إلى الالتزام بالتقوى حيث يقول تعالى :( وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) .

والأمر بالتقوى هنا يمكن أن يكون بمراعاة الدقّة والعدل في تعيين مقدار مهر الزوجة ، باعتبار أنّ هذا الأمر يعتمد فيه على قول الزوج في الغالب ، ولا يوجد سبيل لإثبات هذا الحقّ إلّا أقوال الزوجين ، ولاحتمال أن تسبّب الوساوس الشيطانية في الادّعاء بمبلغ أكثر من المقدار الحقيقي للمهر ، لذا يوصي بالتقوى.

وجاء في التواريخ والروايات أنّ هذا الحكم الإسلامي قد شمل ستّ نسوة ـ فقط ـ انفصلنّ عن أزواجهنّ المسلمين والتحقن بالكفّار ، وقد أعطى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أزواجهنّ مهورهنّ من الغنائم الحربية.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624