الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196933 / تحميل: 5659
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

العدل حتّى مع الأعداء :

من خلال استعراضنا الآيات الكريمة أعلاه نلاحظ عمق الدقّة وروعة الظرافة واللطف في طبيعة الأحكام التي وردت فيها ، موضّحة إلى أي حدّ يهتمّ الإسلام بأصل العدالة والقسط في تشريع أحكامه حتّى في أحرج الظروف وأصعبها ، لأنّه يسعى لتعميم الخير وإبعاد الأذى والضرر حتّى عن الكفّار.

في الوقت الذي نلاحظ أنّ العرف العامّ في حياتنا العملية يتعامل في الظروف والأوقات العصيبة بخصوصية معيّنة واستثناء خاصّ ويتخلّى عن الكثير من قيم الحقّ والعدل ويدّعي أن لا مكان لإحقاق الحقّ فيها في حين تؤكّد التشريعات الإلهية على تحمّل كلّ صعوبة حتّى في أدقّ الظروف وأشدّها ضيقا منعا لهدر أيّ حقّ ، لا للقريبين فقط. بل حتّى للأعداء ، إذ يجب أن يحافظ على حقوقهم وترعى حرماتهم.

إنّ مثل هذه الأحكام الإسلامية هي في الحقيقة نوع من الإعجاز ، ودليل على حقّانية دعوة الرّسول الأعظم حيث السعي بمنتهى الجهد لإقامة العدل حتّى في أسوأ حالات الانتهاك للحرمات الإسلامية في مجال النفس والمال كما كان عليه فعل المجتمع الجاهلي.

* * *

٢٦١

الآية

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) )

التّفسير

شروط بيعة النساء :

استمرارا للبحث الذي تقدّم في الآيات السابقة والذي استعرضت فيه أحكام النساء المهاجرات ، تتحدّث هذه الآية عن تفاصيل وأحكام بيعة النساء المؤمنات مع الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

لقد ذكر المفسّرون أنّ هذه الآية نزلت يوم فتح مكّة عند ما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على جبل (الصفا) يأخذ البيعة من الرجال ، وكانت نساء مكّة قد أتين إلى رسول الله من أجل البيعة فنزلت الآية أعلاه ، وبيّنت كيفية البيعة معهنّ ،

٢٦٢

ويختّص خطاب الآية برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول تعالى :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ ) إلى قوله :( ... إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وبعد هذه الآية أخذ رسول الله البيعة من النساء المؤمنات.

وكتب البعض حول كيفية البيعة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مر بإناء فيه ماء ، ووضع يده المباركة فيه ، ووضع النسوة أيديهنّ في الجهة الاخرى من الإناء. وقيل إنّ رسول الله بايع النساء من فوق الملابس.

وممّا يجدر ملاحظته أنّ الآية الكريمة ذكرت ستّة شروط في بيعة النساء ، يجب مراعاتها وقبولها جميعا عند البيعة وهي :

١ ـ ترك كلّ شرك وعبادة للأوثان ، وهذا شرط أساسي في الإسلام والإيمان.

٢ ـ اجتناب السرقة ، ويحتمل أن يكون المقصود بذلك هو سرقة أموال الزوج ، لأنّ الوضع المالي السيء آنذاك ، وقسوة الرجل على المرأة ، وانخفاض مستوى الوعي كان سببا في سرقة النساء لأموال أزواجهنّ ، واحتمال إعطاء هذه الأموال للمتعلّقين بهنّ.

وما قصّة (هند) في بيعتها لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا شاهد على هذا المعنى ، ولكن على كلّ حال فإنّ مفهوم الآية واسع.

٣ ـ ترك التلوّث بالزنا ، إذ المعروف تأريخيا أنّ الانحراف عن جادّة العفّة كان كثيرا في عصر الجاهلية.

٤ ـ عدم قتل الأولاد ، وكان القتل يقع بطريقتين ، إذ يكون بإسقاط الجنين تارة ، وبصورة الوأد تارة اخرى (وهي عملية دفن البنات والأولاد أحياء).

٥ ـ اجتناب البهتان والافتراء ، وقد فسّر البعض ذلك بأنّ نساء الجاهلية كنّ يأخذن الأطفال المشكوكين من المعابر والطرق ويدّعين أنّ هذا الطفل من أزواجهنّ (وهذا الأمر محتمل في حالة الغياب الطويل للزوج).

وقد اعتبر البعض ذلك إشارة إلى عمل قبيح هو من بقايا عصر الجاهلية ،

٢٦٣

حيث كانت المرأة تتزوّج من رجال عدّة ، وعند ما يولد لها طفل تنسبه إلى أيّ كان منهم ، إذا ضمنت رغبته بالطفل.

ومع الأخذ بنظر الإعتبار أنّ مسألة الزنا قد ذكرت سابقا ، ولم يكن استمرار مثل هذا الأمر في الإسلام ممكنا ، لذا فإنّ هذا التّفسير مستبعد ، والتّفسير الأوّل أنسب بالرغم من سعة مفهوم الآية الشريفة الذي يشمل كلّ افتراء وبهتان.

كما أنّ التعبير بـ( بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ ) يمكن أن يكون إشارة إلى أطفال أبناء السبيل ، حيث تكون وضعية الطفل الرضيع عند رضاعته في حضن امّه بين يديها ورجليها.

٦ ـ الطاعة لأوامر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي تبني الشخصية المسلمة وتهذّبها وتربّيها على الحقّ والخير والهدى ، وهذا الحكم واسع أيضا يشمل جميع أوامر الرّسول ، بالرغم من أنّ البعض اعتبره إشارة إلى قسم من أعمال النساء في عصر الجاهلية كالنوح بصوت عال على الموتى ، وتمزيق الجيوب وخمش الخدود وما شابه ، إلّا أنّ مفهوم الطاعة لا ينحصر بذلك.

ويمكن أن يطرح هنا هذا السؤال وهو : لماذا كانت البيعة مع النساء مشروطة بهذه الشروط ، في حين أنّ بيعة الرجال لم تكن مشروطة إلّا بالإيمان والجهاد؟ وللإجابة على ذلك نقول : إنّ الأمور الأساسية المتعلّقة بالرجال في ذلك المحيط هو الإيمان والجهاد ، ولأنّ الجهاد لم يكن مشروعا بالنسبة للنساء لذا ذكرت شروط اخرى أهمّها ما أكّدت عليه الآية الشريفة والتي تؤكّد على صيانة المرأة من الانحراف في ذلك المجتمع.

* * *

بحوث

١ ـ ارتباط بيعة النساء ببناء شخصيتهنّ الإسلامية

لقد ذكرنا في تفسير سورة الفتح ـ في نهاية الآية (١٨) ـ بحثا مفصّلا حول

٢٦٤

البيعة وشروطها وخصوصياتها في الإسلام ، لذا لا ضرورة لتكرار ذلك(١) .

وممّا يجدر التذكير به هنا أنّ مسألة بيعة النساء للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت بشروط بنّاءة ومربّية كما نصّت عليها الآية أعلاه.

إنّ هذه النقطة على خلاف ما يقوله الجهلة والمغرضون في أنّ الإسلام حرم المرأة من الاحترام والقيمة والمكانة التي تستحقّها ، فإنّ هذه الآية أكّدت على الاهتمام بالمرأة في أهمّ المسائل ومن ضمنها موضوع البيعة سواء كانت في الحديبية في العام السادس للهجرة أو في فتح مكّة ، وبذلك دخلن العهد الإلهي مع الرجال وتقبّلن شروطا إضافية تعبّر عن الهوية الإنسانية للمرأة الملتزمة تنقذها من شرور الجاهلية ، سواء القديمة منها أو الجديدة ، حيث تتعامل معها كمتاع بخس رخيص ، ووسيلة لإشباع شهوة الرجال ليس إلّا.

٢ ـ قصّة بيعة (هند) زوجة أبي سفيان

عند ما منّ الله على المسلمين بفتح مكّة ، وجاءت النساء لبيعة الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانت «هند» زوجة أبي سفيان من ضمن النساء اللواتي جئن لبيعة الرّسول أيضا. هذه المرأة التي ينقل عنها التاريخ قصصا مثيرة في ممارساتها الإجرامية ، وما قصّة فعلها بحمزة سيّد الشهداء في غزوة أحد ، ذلك العمل الإجرامي القبيح ، إلّا مفردة واحدة من الصور السوداء لهذه المرأة المشينة.

وبالرغم من أنّ الظروف قد اضطرّتها إلى الانحناء أمام عظمة الإسلام فأعلنت إسلامها ظاهريا ، إلّا أنّ قصّة بيعتها تعكس أنّها في الواقع كانت وفّية لما ارتبطت به من عقائد جاهلية سابقة ، لذا فليس عجبا ما ارتكبه آل اميّة وأبناؤهم بحقّ آل الرّسول ، بصورة لم يكن لها مثيل.

__________________

(١) يراجع في هذا الصدد التّفسير الأمثل الآية (١٨) سورة الفتح.

٢٦٥

وعلى كلّ حال ، فقد كتب المفسّرون في قصّة بيعة هند :

«روي أنّ النبي بايعهنّ وكان على الصفا ، وهند بنت عتبة متنقّبة متنكّرة خوفا من أن يعرفها رسول الله ، فقال أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا ، فقالت هند : انّك لتأخذ علينا أمرا ما أخذته على الرجال.

وذلك انّه بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط ، فقال رسول الله : ولا تسرقن. فقالت هند : إنّ أبا سفيان ممسك وانّي أصبت من ماله هنات فلا أدري أيحلّ لي أمّ لا؟ فقال أبو سفيان : ما أصبت من مالي فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال فضحك رسول الله وعرفها فقال لها : وانّك هند بنت عتبة ، فقالت : نعم فاعف عمّا سلف يا نبي الله عفا الله عنك. فقال : ولا تزنين. فقالت هند : أو تزني الحرّة ، فتبسّم عمر بن الخطاب لما جرى بينه وبينها في الجاهلية ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ولا تقتلن أولادكن ، فقالت هند : ربّيناهم صغارا وقتلوهم كبارا وأنتم وهم أعلم. وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتله علي بن أبي طالبعليه‌السلام يوم بدر. وقال النبي : ولا تأتين ببهتان قالت هند : والله إنّ البهتان قبيح وما تأمرنا إلّا بالرشد ومكارم الأخلاق ، ولمّا قال : ولا يعصينك في معروف قالت هند : ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء»(١) .

٣ ـ الطاعة بالمعروف

إنّ من جملة النقاط الرائعة المستفادة من الآية أعلاه هو تقييد طاعة الرّسول بالمعروف ، مع أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوم ، ولا يأمر بالمنكر أبدا ، وهذا التعبير الرائع يدلّل على أمر في غاية السمو ، وهو أنّ الأوامر التي تصدر من القادة الإسلاميين ـ مع كونهم يمثّلون القدوة والنموذج ـ لن تكون قابلة للتنفيذ ومحترمة إلّا إذا كانت

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٧٦ ، وجاء القرطبي في تفسيره بهذه القصّة باختلاف يسير ، وكذلك السيوطي في الدرّ المنثور ، وأبو الفتوح في تفسير روح الجنان (في نهاية الآيات مورد البحث).

٢٦٦

منسجمة مع التعاليم القرآنية واصول الشريعة وعندئذ تكون مصداقا (لا يعصينك في معروف).

وكم هي الفاصلة بعيدة بين الأشخاص الذين يعتبرون أوامر القادة واجبة الطاعة ، مهما كانت ومن أي شخص صدرت ، ممّا لا ينسجم مع العقل ولا مع حكم الشرع والقرآن ، وبين التأكيد على إطاعة المعصوم وعدم المعصية في معروف؟!

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام في رسالته المشهورة التي أرسلها لأهل مصر حول والولاية مالك الأشتر ، ومع كلّ تلك الصفات المتميّزة فيه : «فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحقّ فإنّه سيف من سيوف الله»(١) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، رسالة رقم (٣٨) وهي رسالة قصيرة كتبها الإمامعليه‌السلام لأهل مصر هي غير ما كتبه الإمامعليه‌السلام من العهد المعروف لمالك الأشتر.

٢٦٧

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣) )

التّفسير

بدأت هذه السورة بآية تؤكّد على قطع كلّ علاقة بأعداء الله ، وتختتم هذه السورة بآية تؤكّد هي الاخرى على نفس المفهوم والموقف من أعداء الله :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) وبتعبير آخر فإنّ ختام السورة رجوع إلى مطلعها.

ويحذّر القرآن الكريم من أن يتّخذ أمثال هؤلاء أولياء وأن تفشى لهم الأسرار فيحيطون علما بخصوصيات الوضع الإسلامي.

ويرى البعض أنّ الآية صريحة في أنّ المراد بالمغضوب عليهم فيها هم (اليهود) إذن أنّهم ذكروا في آيات قرآنية اخرى بهذا العنوان ، قال تعالى :( فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ) (١) .

__________________

(١) البقرة ، الآية ٩٠.

٢٦٨

وهذا التّفسير يتناسب أيضا مع سبب النزول الذي ذكر لهذه الآية ، حيث تحدّثنا بعض الرّوايات أنّ قسما من فقراء المسلمين كانوا يذهبون بأخبار المسلمين إلى اليهود مقابل إعطائهم شيئا من فواكه أشجارهم ، فنزلت الآية أعلاه ونهتهم عن ذلك(١) .

ومع ذلك فإنّ للآية مفهوما واسعا حيث يشمل جميع الكفّار والمشركين ، والتعبير بـ «الغضب» في القرآن الكريم لا ينحصر باليهود فقط ، إذ ورد بشأن المنافقين أيضا كما في الآية (٦) من سورة الفتح ، بالإضافة إلى أنّ سبب النزول لا يحدّد مفهوم الآية.

وبناء على هذا فإنّ ما جاء في الآية الشريفة يتناسب مع أمر واسع جاء في أوّل آية من هذه السورة تحت عنوان (موالاة أعداء الله).

ثمّ تتناول الآية أمرا يعتبر دليلا على هذا النهي حيث يقول تعالى :( قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ ) (٢) .

ذلك أنّ موتى الكفّار سيرون نتيجة أعمالهم في البرزخ حيث لا رجعة لهم لجبران ما مضى من أعمالهم السيّئة ، لذلك فإنّهم يئسوا تماما من النجاة ، وهؤلاء المجرمون في هذه الدنيا قد غرقوا في آثامهم وذنوبهم إلى حدّ فقدوا معه كلّ أمل في نجاتهم ، كما هو الحال بالنسبة للموتى من الكفّار.

إنّ مثل هؤلاء الأفراد من الطبيعي أن يكونوا أشخاصا غير أمناء ولا يعتد بكلامهم وعهدهم ، ولا اعتبار لودّهم وصداقتهم ، لأنّهم يائسون تماما من رحمة

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٧٦.

(٢) ذهب بعض المفسّرين إلى احتمالات اخرى في تفسير هذه الآية من جملتها : أنّهم ينسوا من ثواب الآخرة كما يئس المشركون من إحياء أصحاب القبور ، إلّا أنّ التّفسير الذي ذكرناه أعلاه أنسب (وممّا يجدر الانتباه إليه أنّه طبقا للتفسير الأوّل فإنّ (من أصحاب القبور) وصف للكفّار وطبقا للتفسير الأخير فإنّها متعلّقة بـ (يئس).

٢٦٩

الله ، ولهذا السبب فإنّهم يرتكبون أقبح الجرائم وأرذل الأعمال ، وجماعة هذه صفاتها كيف تثقون بها وتعتمدون عليها وتتّخذونها أولياء؟!

اللهمّ ، لا تحرمنا أبدا من لطفك ورحمتك الواسعة

ربّنا ، وفّقنا لنكون أولياء لأوليائك وأعداء لأعدائك ، وثبّت أقدامنا في هذا السبيل

إلهنا ، وفّقنا للتأسّي بأنبيائك وأوليائك

آمين يا ربّ العالمين.

نهاية سورة الممتحنة

* * *

٢٧٠
٢٧١

سورة

الصّفّ

مدنيّة

وعدد آياتها أربع عشرة آية

٢٧٢

«سورة الصّف»

محتوى سورة الصّف :

تدور أبحاث هذه السورة إجمالا حول محورين أساسيين.

الأوّل : فضيلة الإسلام على جميع الأديان السماوية ، وضمان خلوده وبقائه.

والثاني : وجوب الجهاد في طريق حفظ المبدأ وترسيخ أركانه وتطوير العمل لتقدّمه والالتزام به.

إلّا أنّنا حينما نتأمّل في الآيات الكريمة نلاحظ إمكانية تقسيمها إلى سبعة أقسام من خلال نظرة تفصيلية ، وتشمل ما يلي :

١ ـ تتحدّث بداية السورة عن تنزيه وتسبيح البارئ العزيز الحكيم ، وتمهّد الأرضية لتلقّي وقبول الحقائق والموضوعات التي تليها.

٢ ـ الدعوة إلى الانسجام بين القول والعمل ، والابتعاد عن الدعاوى الفارغة البعيدة عن المسار العملي.

٣ ـ الدعوة إلى الجهاد بيقين ثابت وعزم راسخ.

٤ ـ الإشارة إلى موقف اليهود من العهود ونقضهم لها ، بالإضافة إلى بشارة السيّد المسيحعليه‌السلام بظهور الإسلام العظيم.

٥ ـ الضمان الإلهي لانتصار الإسلام على كافّة الأديان.

٦ ـ الحثّ والتأكيد على الجهاد واستعراض المثوبات الدنيوية والاخروية للمجاهدين في سبيل الحقّ.

٢٧٣

٧ ـ استعراض مختصر لحياة حواري السيّد المسيحعليه‌السلام والدعوة لاستلهام الدروس من سيرتهم.

ومن خلال نظرة شاملة لموضوعات هذه السورة الشريفة نلاحظ أنّ المحور الأساس لها هو (الإسلام والجهاد).

إنّ إختيار اسم «الصّف» لهذه السورة كان بلحاظ العبارة التي وردت في الآية الرابعة منها ، وتسمّى أحيانا بسورة «عيسى»عليه‌السلام ، أو سورة «الحواريين».

والمعروف أنّ هذه السورة نزلت في المدينة ، ويؤيّد هذا المعنى ما ورد فيها من آيات الجهاد الذي لم يشرع في مكّة كما هو معلوم.

فضيلة تلاوة سورة الصّف :

في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول فضيلة تلاوة سورة الصفّ أنّه قال : «من قرأ سورة عيسى كان عيسى مصلّيا عليه مستغفرا له ما دام في الدنيا وهو يوم القيامة رفيقه»(١) .

نقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ سورة الصفّ وأدمن قراءتها في فرائضه ونوافله ، صفّه الله مع ملائكته وأنبيائه المرسلين»(٢) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٧٨ ، كما ذكر بقيّة المفسّرين أيضا أسباب النزول هذه باختلافات.

(٢) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٧٧ ، نور الثقلين ، ج ٩ ، ص ٣٠٩.

٢٧٤

الآيات

( سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) )

سبب النّزول

ذكر المفسّرون أسبابا عديدة لنزول الآية الشريفة :( لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ) بتفاوت يسير فيما ذكروه ، وممّا جاء في أقوالهم ما يلي :

١ ـ أنّ الآية الكريمة نزلت في جماعة من المؤمنين كانوا يقولون : إذا لقينا العدوّ لن نفرّ ولن نرجع عنهم ، إلّا أنّهم لم يفوا بما قالوا يوم «احد» حتّى شجّ وجه الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكسرت رباعيته المباركة.

٢ ـ بعد بيان البارئعزوجل الثواب العظيم لشهداء بدر ، قال بعض الصحابة : ما دام الأجر هكذا فإنّنا سوف لن نفرّ في الغزوات المقبلة ، إلّا أنّهم فرّوا في غزوة أحد ، فنزلت الآية أعلاه موبّخة لهم.

٢٧٥

٣ ـ دعا بعض المؤمنين قبل نزول حكم الجهاد أن يرشدهم الله إلى أفضل الأعمال ليعملوا بها ولم يمض وقت طويل حتّى أخبرهم الله سبحانه بأنّ (أفضل الأعمال الإيمان الخالص والجهاد في سبيله) إلّا أنّهم لم يتفاعلوا مع هذا التوجيه ، وتعلّلوا فنزلت الآية تلومهم وتوبّخهم على موقفهم هذا(١) .

التّفسير

المقاتلون المؤمنون صفّ حديدي منيع :

اعتبرت هذه السورة من السور المسبّحات ، ذلك لأنّها تبدأ بتسبيح الله في بدايتها :( سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) (٢) .

ولم لا يسبّحونه ولا ينزّهونه من كلّ عيب ونقص :( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) القدير الذي لا يقهر والحكيم المحيط بكلّ شيء علما.

إنّ الالتفات إلى مسألة التسبيح العامّ للكائنات ، الذي يتمّ بلسان الحال والقال ، وكذلك النظام المدهش العجيب الحاكم فيها والذي هو أفضل دليل على وجود خالق عزيز حكيم من شأنه تمكين أسس الإيمان في القلوب ، ومن شأنه أيضا تمهيد الطريق لأمر الجهاد.

ثمّ يضيف البارئعزوجل في معرض لوم وتوبيخ للأشخاص الذين لم يلتزموا بأقوالهم :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ) (٣) .

وعلى الرغم من أنّ سبب نزول الآية كما مرّ بنا كان متعلّقا بالجهاد في سبيل الله ، وما حدث من فرار في غزوة احد ، ولكن يستفاد من الآية سعة المفهوم الذي

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٧٧ ، نور الثقلين ، ج ٩ ، ص ٣٠٩.

(٢) تحدّثنا مرارا في هذا التّفسير حول كيفية التسبيح العام لكائنات العالم ومن ضمن ذلك ما ورد في نهاية الآية (٤٤) من سورة الإسراء ونهاية الآية (٤١) من سورة النور.

(٣) (لم) في الأصل كانت (لما) (مركبة من لام جارّة ، وما استفهامية) ثمّ سقطت الفها بسبب كثرة الاستعمال.

٢٧٦

تعرّضت له ، وبهذا تستوعب كلّ قول لا يقترن بعمل ويستحقّ اللوم والتوبيخ ، سواء يتعلّق بالثبات في ميدان الجهاد أو أي عمل إيجابي آخر.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ المخاطب في هذه الآيات هم المتظاهرون بالإيمان والمنافقون ، مع أنّ الخطاب في هذه الآية موجّه إلى الذين آمنوا ، كما أنّ تعبيرات الآيات اللاحقة تبيّن لنا أنّ المخاطب بذلك هم المؤمنون ، ولكنّهم لم يصلوا بعد إلى الإيمان الكامل وأعمالهم غير منسجمة مع أقوالهم.

ثمّ يضيف سبحانه مواصلا القول :( كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ) (١) حيث التصريحات العلنية في مجالس السمر والادّعاء بالشجاعة ، ولكن ما أن تحين ساعة الجدّ إلّا ونلاحظ الهروب والنكوص والابتعاد عن تجسيد الأقوال المدّعاة.

إنّ من السمات الأساسية للمؤمن الصادق هو الانسجام التامّ بين أقواله وأعماله وكلّما ابتعد الإنسان عن هذا الأصل ، فإنّه يبتعد عن حقيقة الإيمان.

«المقت» في الأصل : (البغض الشديد لمن ارتكب عملا قبيحا) وكان عرب الجاهلية يطلقون عبارة (نكاح المقت) لمن يتزوّج زوجة أبيه. وفي الجملة السابقة نلاحظ اقتران مصطلح «المقت» مع «الكبر» ، والذي هو دليل أيضا على الشدّة والعظمة ، كما هو دليل على الغضب الإلهي الشديد على من يطلقون أقوالا ولا يقرنونها بالأعمال.

يقول المرحوم العلّامة الطباطبائي في الميزان : فرق بين أن يقول الإنسان شيئا لا يريد أن يفعله ، وبين الإنسان الذي لا ينجز عملا يقوله.

فالأوّل دليل النفاق ، والثاني دليل ضعف الإرادة(٢) .

__________________

(١) اعتبر بعض المفسّرين (كبر) من أفعال (المدح والذمّ) ، (تفسير روح البيان نهاية الآيات مورد البحث) ، كما فهم البعض منها معنى التعجّب (تفسير الكشّاف).

(٢) الميزان ، ج ١٩ ، ص ٢٨٧.

٢٧٧

وتوضيح ذلك أنّ الإنسان أنّ الإنسان الذي يقول شيئا لم يقرّر إنجازه منذ البداية هو على شعبة من النفاق ، أمّا إذا قرّر القيام بعمل ما ، ولكنّه ندم فيما بعد فهذا دليل ضعف الإرادة.

وعلى كلّ حال ، مفهوم الآية يشمل كلّ تخلّف عن عمد ، سواء تعلّق بنقض العهود والوعود أو غير ذلك من الشؤون ، حتّى أنّ البعض قال : إنّها تشمل حتّى النذور.

ونقرأ في رسالة الإمام عليعليه‌السلام لمالك الأشتر أنّه قال : «إيّاك أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك والخلف يوجب المقت عند الله والناس ، قال الله تعالى :( كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ) »(١) .

كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادق أنّهعليه‌السلام قال : «عدة المؤمن أخاه نذر لا كفّارة فيه ، فمن أخلف فبخلف الله بدأ ، ولمقته تعرّض ، وذلك قوله :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ) (٢) .

ثمّ تطرح الآية اللاحقة مسألة مهمّة للغاية في التشريع الإسلامي ، وهي موضوع الجهاد في سبيل الله ، حيث يقول تعالى :( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ ) (٣) .

ونلاحظ هنا أنّ التأكيد ليس على القتال فحسب ، بل على أن يكون «في سبيله» تعالى وحده ، ويتجسّد فيه ـ كذلك ـ الاتّحاد والانسجام التامّ والتجانس والوحدة ، كالبنيان المرصوص.

«صف» في الأصل لها معنى مصدري بمعنى (جعل شيء ما في خطّ مستو) إلّا أنّها هنا لها معنى (اسم فاعل).

__________________

(١) نهج البلاغة الرسالة رقم ٥٣ ص ٤٤٤ صبحي الصالح.

(٢) اصول الكافي ، ج ٢ ، باب خلف الوعد.

(٣) (صفّا) منصوبة على أنّها حال.

٢٧٨

«مرصوص» من مادّة (رصاص) بمعنى معدن الرصاص ، ولأنّ هذه المادّة توضع بعد تذويبها بين طبقات البناء من أجل استحكامه وجعله قويّا ومتينا للغاية ، لذا أطلقت هذه الكلمة هنا على كلّ أمر قوي ومحكم.

والمقصود هنا أن يكون وقوف وثبات المجاهدين أمام العدو قويّا راسخا تتجسّد فيه وحدة القلوب والأرواح والعزائم الحديدة والتصميم القوي ، بصورة تعكس أنّهم صفّ متراصّ ليس فيه تصدّع أو تخلخل

يقول علي بن إبراهيم في تفسيره موضّحا مقصود هذه الآية : «يصطفّون كالبنيان الذي لا يزول»(١) .

وجاء في حديث عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه عند ما كان يهيء أصحابه للقتال بصفّين ، قال : «إنّ الله تعالى قد أرشدكم إلى هذه المسؤولية حيث قال سبحانه :( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ ) وعلى هذا فاحكموا صفوفكم كالبنيان المرصوص ، وقدموا الدّارع ، وأخّروا الحاسر ، وعضّوا على الأضراس فإنّه أنبى للسيوف عن إلهام ، والتووا في أطراف الرماح ، فإنّه أمور للأسنّة ، وغضّوا الأبصار فإنّه أربط للجأش ، وأسكن للقلوب ، وأميتوا الأصوات ، فإنّه أطرد للفشل ، ورايتكم فلا تميلوها ولا تخلوها ، ولا تجعلوها إلّا بأيدي شجعانكم ...»(٢) .

* * *

بحثان

١ ـ ضرورة وحدة الصفوف

إنّ من العوامل المهمّة والمؤثّرة في تحقيق النصر عامل الانسجام ووحدة

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣١١.

(٢) نهج البلاغة ، خطبة (١٢٤) ، صبحي الصالح.

٢٧٩

الصفوف أمام الأعداء في ميادين القتال ، وهذا المبدأ لا يجدر بنا الالتزام به في الحرب العسكرية فحسب ، بل علينا تجسيده في الحروب الاقتصادية والسياسية وإلّا فسوف لن نحقّق شيئا.

إنّ التشبيه القرآني للعدو بأنّه سيل عارم ومدمّر لا يسيطر عليه إلّا من خلال سدّ حديدي محكم ، تشبيه في غاية الروعة والجمال ، والتعبير بأن يكون المؤمنون كـ (البنيان المرصوص) أروع تعبير جاء في هذا الصدد ، وممّا لا شكّ فيه أنّ لكلّ جزء في السدّ أو البناء العظيم ، دور معيّن في مواجهة السيل ، وهذا الدور مهمّ ومؤثّر على جميع الأجزاء ، وفي حالة قوّته وتماسكه وعدم وجود تخلخل أو تشقّق أو ثغرات فيه ، يصعب عندئذ نفوذ العدوّ منه ، وإذا ما حاول ذلك فإنّ الجميع يوجّهون إليه صفعة مدمّرة.

وممّا يؤسف له أنّ أمثال هذه التعاليم الإسلامية قد نسيت اليوم ، واستبدلت حالة الوحدة والتراصّ في مجتمعنا الإسلامي بحالة من التشتّت والتمزّق ، وأصبحت صفوفنا شتّى ، وكلّ منها ينهش الآخر حتّى أدّى إلى تآكل قوانا وتفرّق جمعنا.

إنّ وحدة الصفّ ليست شعارا إعلاميا ، إنّها تحتاج إلى وحدة العقيدة والتصورات والأهداف وهذا ما يحتاج بالضرورة إلى خلوص النوايا والالتزام بالمفاهيم القرآنية العظيمة ، واعتماد التربية الإلهية في السلوك والمنهج العلمي السليم.

وإذا كان البارئعزوجل يعلن حبّه للمجاهدين المتراصّين الذين يشكّلون وحدة متماسكة ، فإنّه سبحانه في نفس الوقت يعلن سخطه وغضبه على الجموع المسلمة إذا كانت متمزّقة ومشتّتة ونتيجته هو ما نراه الآن متجسّدا في تسلّط مجموعة صغيرة من الصهاينة على أرضنا الإسلامية وعددنا يربو على المليار

٢٨٠

مسلم.

إلهي : تفضّل علينا بمعرفة القرآن العظيم حقّ معرفته ، ووفّقنا للالتزام بتعاليمه السامية.

٢ ـ الأقوال المجرّدة عن العمل

يترجم اللسان في الغالب ما يكنّه القلب وما تضمره الروح ، وإذا أصبح اللسان في مسار بعيد عن تصوير خلجات القلب وإرادته. فإنّ ذلك دليل على حالة النفاق ، والمنافق تبدو عليه علامات الاعتلال في الفكر والروح.

إنّ من أعظم الابتلاءات التي تبتلى بها المجتمعات الإنسانية هو تزعزع الثقة بين صفوفها وعدم الاطمئنان فيما بينها ، وأمارة ذلك هي الأقوال البعيدة عن الالتزام والادّعاءات الفارغة من المحتوى العملي ، وأداة ذلك هم الأشخاص الذين يقولون ما لا يفعلون ، وبذلك فهم يشكّلون بؤرة عميقة مخيّبة في قبال حالات الانسجام والوحدة والتماسك أمام المشاكل التي تواجههم ، بل يشكّلون عاملا للضعف والتباغض وعدم الاحترام وتضييع الإمكانات وسقوط هيبتهم أمام الأعداء.

عند ما أغار جيش الشام على حدود العراق ، ووصل خبر ذلك إلى الإمام عليعليه‌السلام خطب في أهل الكوفة خطبته التي قال فيها : «أيّها الناس المجتمعة أبدانهم المختلفة أهواؤهم ، كلامكم يوهي الصمّ الصلاب ، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء ، تقولون في المجالس كيت وكيت ، فإذا جاء قلتم : حيدي حياد»(١) .

والإمامعليه‌السلام يتحدّث هنا بألم عن أهل العراق ، وهذا ما تعكسه كلماته التي

__________________

(١) نهج البلاغة ، خطبة ٢٩.

٢٨١

تشير التفاوت بين أقوالهم وأعمالهم.

ونقرأ عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «يعنى بالعلماء من صدق فعله قوله ، ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم»(١) .

* * *

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ١ (باب صفة العلماء / حديث رقم ٢).

٢٨٢

الآيتان

( وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦) )

التّفسير

البشارة بظهور النّبي (أحمد):

تأتي الآية الكريمة ـ أعلاه ـ مكمّلة لمحورين أساسيين تحدّثت عنهما الآيات السابقة وهما (الانسجام بين القول والعمل) و (وحدة الصفّ الإيماني) ، لتستعرض لنا زاوية من حياة النبيين العظيمين (موسى وعيسى)عليهما‌السلام ، ومتطرّقة إلى طبيعة التناقض والانفصام بين أقوال أتباعهم وأعمالهم ، بالإضافة إلى (عدم انسجام صفوفهم) وأخيرا المصير السيء الذي انتهوا إليه.

٢٨٣

يقول تعالى :( وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ ) .

هذه الآية لعلّها إشارة إلى مخالفات بني إسرائيل وذرائعهم في حياة موسىعليه‌السلام ، أو أنّها إشارة إلى قصّة (بيت المقدس) حيث قال بنو إسرائيل لموسىعليه‌السلام :( إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها ) ـ أي الجبارين ـ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ) (١) ولهذا فقد بقوا في وادي (التيه) أربعين سنة ، ذاقوا فيها وبال أمرهم لتهاونهم في أمر الجهاد ، ولادّعاءاتهم الواهية.

ولكن مع الالتفات إلى الآية (٦٩) من سورة الأحزاب يظهر أنّ المراد من هذا الإيذاء هو ما كانوا ينسبونه لموسىعليه‌السلام من تهم ، كما يبيّن ذلك قوله تعالى :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً ) .

حيث اتّهمعليه‌السلام بقتل أخيه هارونعليه‌السلام ، واخرى ـ معاذ الله ـ بالعلاقة مع امرأة فاسقة (وذلك ضمن مخطّط قارون للتهرّب من إعطاء الزكاة) ، وثالثة بالسحر والجنون ، كما ألصقت بهعليه‌السلام عدّة عيوب جسمية اخرى ، جاء شرحها في تفسير الآية ـ أعلاه ـ من سورة الأحزاب(٢) .

كيف يستسيغ هؤلاء أدعياء الإيمان إلصاق أمثال هذه التّهم بأنبيائهم!؟

إنّ هذه الممارسة تمثّل في الواقع نموذجا صارخا للتناقض بين القول والعمل ، ممّا حدا بموسىعليه‌السلام إلى مخاطبة أصحابه : لماذا تسيؤون إليّ مع علمكم بأنّي رسول الله إليكم؟

وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الممارسات لم تبق بدون عقاب كما نقرأ ذلك في نهاية الآية حيث ، قال تعالى :( فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي

__________________

(١) المائدة ، الآية ٢٤.

(٢) التفسير الأمثل الآية أعلاه من سورة الأحزاب.

٢٨٤

الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) .

وهكذا تنزل بمثل هذا الإنسان أعظم الدواهي ، حيث يحرم من الهداية الإلهية وينحرف قلبه عن الحقّ(١) .

إنّ ما يستفاد من المفهوم الذي استعرضته الآية المباركة أنّ الهداية والضلالة وإن كانت من قبل الله سبحانه ، إلّا أنّ مقوّماتها وأرضيتها تكون من الإنسان نفسه ، حيث يقول سبحانه :( فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ) وذلك ما يوضّح أنّ الخطوة الاولى من الإنسان نفسه ، ويقول سبحانه من جهة اخرى :( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) .

فإذا صدر من الإنسان ذنب ومعصية فقد يسلب منه التوفيق والهداية الإلهية وعندئذ يصاب بالحرمان الأكبر.

وقد بحثنا مفصّلا في هذا المجال في تفسير الآية (٣٦) من سورة الزمر ، (فراجع).

وتشير الآية اللاحقة إلى مسألة تكذيب بني إسرائيل لرسالة عيسىعليه‌السلام ومخالفتهم له ، حيث يضيف تعالى :( وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) .

وهذا بيان من عيسىعليه‌السلام أنّه يمثّل همزة وصل وحلقة من الرسالة بين نبيين وكتابين وامّتين ، فقد سبقته رسالة موسىعليه‌السلام وكتابه ، وستليه رسالة الإسلام على يد النبي العظيم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ومن هنا نلاحظ أنّ عيسىعليه‌السلام لم يكن يدّعي غير الرسالة الإلهية وفي مقطع زمني خاصّ ، وأنّ ما نسب إليه من الألوهية ، أو أنّه ابن (لله) كان كذبا وافتراء

__________________

(١) «زاغوا» : من مادّة (زيغ) بمعنى الانحراف عن الطريق المستقيم.

٢٨٥

محضا.

وبالرغم من أنّ قسما من بني إسرائيل قد آمنوا بالرّسول الموعود ، إلّا أنّ الأكثرية الغالبة كان لهم موقف عدائي متشدّد تجاهه ، ممّا دعاهم وسوّل لهم إنكار معاجزه الواضحة ، وذلك ما يجسّده قوله تعالى :( فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ) .

العجيب هو أنّ اليهود كانوا قد شخّصوا الرّسول العظيم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل مشركي العرب ، وتركوا أوطانهم شوقا إلى لقائه والإيمان به ، حيث استقرّوا في المدينة ترقّبا لظهوره ولإجابة دعوته ، إلّا أنّ المشركين قد سبقوهم إلى الإيمان بالرّسول الموعود وبقي الكثير من اليهود على لجاجتهم وإصرارهم وعنادهم وإنكارهم له.

ذهب بعض المفسّرين إلى إرجاع الضمير في( فَلَمَّا جاءَهُمْ ) إلى رسول الإسلام (محمّد) كما أوضحناه أعلاه ، إلّا أنّ قسما آخر يرى أنّه يعود إلى السيّد المسيحعليه‌السلام ، أي عند ما أتاهم المسيح بالمعاجز الواضحة أنكروها وادّعوا أنّها سحر.

ومن خلال ملاحظة الآيات اللاحقة يتبيّن لنا أنّ الرأي الأوّل أصحّ حيث يتركّز الحديث فيها على رسالة الإسلام ورسوله الكريم.

* * *

بحوث

١ ـ الصلة بين البشارة وتكامل الدين

إنّ التعبير بـ (البشارة) عن إخبار المسيحعليه‌السلام بظهور الإسلام إشارة رائعة إلى تكامل هذا الدين قياسا لما سبقه من الأديان ، إنّ دراسة الآيات القرآنية والتعاليم الإسلامية في مجال العقائد والأحكام والقوانين والمسائل الاجتماعية

٢٨٦

والأخلاقية ، ومقارنتها بما جاء في كتب العهدين (التوراة والإنجيل) توضّح لنا هذه الأفضلية ، وتبيّن لنا بجلاء حالة التكامل المبدئي الذي جاءت به رسالة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وبالرغم من أنّ الآية المتقدّمة لم توضّح لنا موضع تثبيت هذه البشارة ، وهل أنّها كانت كتاب سماوي للمسيحعليه‌السلام أم لا؟ إلّا أنّ الآيات القرآنية الاخرى تكشف أنّ موضع هذه البشارة هو الإنجيل نفسه يقول سبحانه :( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ) (١) ، وكذلك في قسم من الآيات الاخرى(٢) .

٢ ـ بشارة العهدين وتعبير (فارقليطا):

ممّا لا شكّ فيه أنّ (التوراة والإنجيل) اللذين بأيدي اليهود والنصارى ليسا من الكتب السماوية التي نزلت على الرّسولين الإلهيين العظيمين (موسى وعيسى)عليهما‌السلام . إذ أنّها (كتب) ألّفها وجمعها بعض أصحابهم أو من أتى بعدهم.

إنّ مطالعة إجمالية لها تكشف هذه الحقيقة بوضوح ، كما أنّ اليهود والمسيحيين لا ينكرون ذلك ، وممّا لا شكّ فيه أنّ قسما من تعاليم (موسى وعيسى)عليهما‌السلام قد ثبتت في هذه الكتب من خلال أقوال أتباعهم وحوارييهم ، ولذا فلا يمكن اعتبار كلّ ما ورد في العهد القديم (التوراة والكتب الاخرى المتعلّقة به) ، وكذلك العهد الجديد (الإنجيل وما يرتبط به) مقبولا وصحيحا ، كما لا يمكن رفض وإنكار جميع ما ورد فيها أيضا.

والموقف المناسب ممّا ورد فيهما هو اعتبار ما جاء فيها من التعاليم خليطا من تعاليم النبيين (موسى وعيسى)عليهما‌السلام وأفكار أتباعهما الآخرين.

__________________

(١) الأعراف ، الآية ١٥٧.

(٢) الميزان ، ج ١٩ ، ص ٢٩٠.

٢٨٧

وعلى كلّ حال فإنّنا نلاحظ تعبيرات عديدة فيها حول البشارة بظهور رجل عظيم لا تنطبق أوصافه وعلاماته إلّا على نبيّ الإسلام الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وجدير بالذكر بالإضافة إلى ما تقدّم من وجود النبؤات التي وردت في هذه الكتب والتي تنطبق على شخص الرّسول الأعظم ، فقد وردت في إنجيل (يوحنا) كلمة (فارقليط)(١) . ثلاث مرّات ، وحينما ترجمت كانت بمعنى (المعزي) لنقرأ النصّ في إنجيل يوحنا : «وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزيا آخر ليمكث معكم إلى الأبد»(٢) .

وجاء في الباب الذي بعده : «ومتى جاء المعزّي الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحقّ الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي»(٣) .

وجاء في الباب الذي يليه ما نصّه : «لكنّي أقول لكم الحقّ أنّه خير لكم أن أنطلق لأنّه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّي ولكن إن ذهبت أرسله إليكم»(٤) .

والجدير بالذكر أنّ في المتن السرياني للأناجيل المأخوذة من الأصل اليوناني جاء بدل (المسلّي) (پارقليطا). أمّا في المتن اليوناني فلقد جاء (پيركلتوس) وهو بمعنى الشخص (الممتدح) من منظور الثقافة اليونانية وتعادل (محمّد ، أحمد).

لقد شعر أسياد المعابد والكنيسة أنّ انتشار هذه اللفظة يوجّه ضربة قاصمة وشديدة إلى كيانهم ومؤسساتهم ، لذا فقد كتبوا (پاراكلتوس) بدل (پيركلتوس) والتي هي بمعنى (المسلّي). ومع هذا التحريف الواضح الذي غيّروا فيه هذا النصّ الحيّ إلّا أنّهم لم يستطيعوا إلغاء البشارة الصريحة بظهور نبي عظيم في

__________________

(١) جاء هذا التعبير في إنجيل عربي طبع في لندن في مطبعة ويليام وطسس سنة ١٨٥٧ م.

(٢) إنجيل يوحنا باب ١٤ ، جملة ١٦.

(٣) إنجيل يوحنا ، باب ١٥ ، جملة ٢٦.

(٤) إنجيل يوحنا ، باب ١٧ ، جملة ٧.

٢٨٨

المستقبل(١) .

وقد ذكرنا في تفسيرنا هذا شهادة حيّة لأحد القساوسة المعروفين ، والذي أسلم بعد مدّة ، وقد أكّد بأنّ هذه البشائر كانت حول شخص باسم (أحمد) و (محمّد)(٢) .

ويجدر الانتباه إلى نصّ ما ورد في هذا الصدد في دائرة المعارف الفرنسية المترجمة حيث يقول :

(محمّد مؤسّس دين الإسلام ورسول الله وخاتم الأنبياء ، إنّ معنى كلمة (محمّد) تعني المحمود كثيرا وهي مشتقّة من (الحمد) والتي هي بمعنى التجليل والتمجيد ، وتشاء الصدفة العجيبة أن يذكر له اسم آخر من نفس الأصل (الحمد) ترادف لفظ (محمّد) يعني (أحمد) ويحتمل احتمالا قويّا أنّ مسيحي الحجاز كانوا يطلقون لفظ (أحمد) بدلا عن (فارقليطا).

و (أحمد) يعني : الممدوح والمجلّل كثيرا وهو ترجمة لفظ : (پيركلتوس) والذي وضع بديلا عنه لفظ (پاراكلتوس) اشتباها ، ولهذا فإنّ الكتاب المسلمين الملتزمين قد أشاروا مرارا إلى أنّ المراد من هذا اللفظ هو البشارة بظهور نبي الإسلام ، وقد أشار القرآن الكريم ـ أيضا ـ بوضوح إلى هذا الموضوع في سورة الصفّ (الآية ، ٢)(٣) .

وخلاصة الحديث أنّ المقصود بـ (فارقليطا) ليس روح القدس أو المسلّي ، بل هو معادل لمفهوم (أحمد) ، لذا يرجى الانتباه إلى ذلك.

__________________

(١) الفرقان في تفسير القرآن ، ج ٢٧ ، وج ٢٨ ، ص ٣٠٦ ، في تفسير الآية مورد البحث ، وجاء في هذا الكتاب المتن السرياني للجمل أعلاه بصورة دقيقة.

(٢) راجع تفسير الآية ٤١ ، من سورة البقرة.

(٣) دائرة المعارف الكبيرة الفرنسية ، ج ٢٣ ، ص ٤١٧٦.

٢٨٩

٣ ـ هل أنّ اسم رسول الإسلام كان (أحمد)

إنّ الاسم المعروف للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو (محمّد) والسؤال الذي يطرح هنا أنّ الآيات مورد البحث قد ذكرته باسم (أحمد). فكيف يمكن التوفيق بين هذين الاسمين؟ وللإجابة على هذا السؤال يجدر الالتفات إلى النقاط التالية :

أـ جاء في كتب التاريخ أنّ لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اسمين منذ الطفولة ، حتّى أنّ الناس كانوا يخاطبونه بهما أحدهما (حمد) والآخر (محمّد) ، الأوّل اختاره له جدّه عبد المطلّب والآخر اختارته امّه آمنة.

وقد ذكر هذا الأمر بصورة تفصيلية في سيرة الحلبي.

ب ـ والمعروف أنّ من جملة الأشخاص الذين كانوا ينادون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسم (أحمد) هو عمّه أبو طالب ، حيث نجد في كتاب (ديوان أبي طالب) أشعارا كثيرة يذكر فيها الرّسول الكريم بهذا الاسم كما في الأبيات التالية :

أرادوا بقتل أحمد ظالموهم

وليس بقتله فيهم زعيم

وقال :

وإن كان أحمد قد جاءهم

بحقّ ولم يأتهم بالكذب(١)

ولأبي طالب شعر آخر في مدح رسول الله نقله ابن عساكر في تاريخه :

لقد أكرم الله النبي محمّدا

فأكرم خلق الله في الناس أحمد(٢)

ج ـ كما يلاحظ هذا التعبير في شعر (حسّان بن ثابت) الشاعر المعروف في عصر الرّسول كقوله :

مفجعة قد شفها فقد أحمد

فظلّت لآلاء الرّسول تعدّد(٣)

__________________

(١) ديوان أبو طالب ، ص ٢٥ ، ٢٩.

(٢) تاريخ ابن عساكر ، ج ١ ، ص ٢٧٥.

(٣) ديوان حسّان بن ثابت ص ٥٩ ، تحقيق محمّد عزّت نصر الله.

٢٩٠

والأشعار التي ورد فيه ذكر اسم (أحمد) بدلا عن (محمّد) كثيرة ، ولا يوجد مجال لذكرها جميعا لذا فإنّنا سننهي بحثنا بما ورد من شعر علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

أتأمرني بالصبر في نصر (أحمد)

ووالله ما قلت الذي قلت جازعا

سأسعى لوجه الله في نصر (أحمد)

نبي الهدى المحمود طفلا ويافعا(١)

د ـ إنّ المتتبع للرّوايات التي جاءت حول معراج الرّسول كثيرا ما يلاحظ أنّ الله سبحانه قد خاطب رسول الإسلام في تلك الليلة الكريمة بـ (أحمد) ومن هنا يمكن القول أنّ النبي قد اشتهر في السماء بـ (أحمد) وفي الأرض بـ (محمّد).

وجاء في حديث عن الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام في هذا الشأن «إنّ لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشرة أسماء ، خمسة في القرآن وخمسة ليست في القرآن ، فأمّا التي في القرآن ، محمّد ، وأحمد ، وعبد الله ، ويس ، ون»(٢) .

ه ـ عدم اعتراض أهل الكتاب ـ وخاصّة النصارى منهم ـ على النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الناحية ، حيث لم يقولوا له : بعد سماع المشركين وسماعهم آيات سورة الصفّ : إنّ الإنجيل قد بشّر بمجيء (أحمد) وأنت اسمك (محمّد) وعدم الاعتراض هذا دليل على شهرة هذا الاسم بينهم ، ولو وجد مثل هذا الاعتراض لنقل لنا ، خاصّة أنّ مختلف الاعتراضات قد دوّنت في كتب التأريخ صغيرها وكبيرها.

لذا نستنتج من مجموع ما تقدّم في هذا البحث أنّ اسم (أحمد) كان أحد الأسماء المعروفة لرسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) .

* * *

__________________

(١) الغدير ، ج ٧ ، ص ٣٥٨.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣١٣ ، كما جاءت في تفسير الدرّ المنثور روايات في هذا المجال ، ج ٦ ، ص ٢١٤ ، حيث أنّ نقلها جميعا يطيل البحث.

(٣) استفيد في هذا البحث والبحث السابق من كتاب (أحمد موعود الإنجيل) و (تفسير الفرقان) أيضا.

٢٩١

الآيات

( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩) )

التّفسير

يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم :

لاحظنا في الآيات السابقة موقف الإصرار والعناد لجموع أهل الكتاب من دعوة الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رغم ما بشّر به المسيحعليه‌السلام حول ظهور رسول الإسلام ، وما اقترن بذلك من بيّنات ودلائل ومعاجز واضحة.

وتبيّن الآيات ـ مورد البحث ـ عاقبة هؤلاء ومصيرهم السيء ونتيجة عملهم الخائب.

فيقول تعالى :( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى

٢٩٢

الْإِسْلامِ ) .

نعم ، إنّ أمثال هؤلاء المكذّبين لدعوة الرّسول الإلهي ، الذين يعتبرون ما يأتي الرّسول به من إعجاز سحرا ، وما يتحدّث به من مبادئ إلهية سامية ضلالا وباطلا فإنّ هؤلاء هم أظلم الناس ، لأنّهم يصدّون أنفسهم عن طريق الحقّ والهداية والنجاة ، ويصدّون سائر عباد الله عن منابع الفيض الإلهي ويحرمونهم من السعادة الأبدية.

ويضيف سبحانه في نهاية الآية :( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .

إنّ عمل الله سبحانه هو الهداية للحقّ ، وإنّ ذاته المقدّسة الطاهرة هي النور والضياء السامي :( اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) ولا بدّ للهداية من استعداد وأرضية مناسبة في النفس الإنسانية كي تؤثّر فيها ، وهذا ما لا يحصل بالنسبة إلى الأشخاص الذين يجانبون الحقّ ويعرضون عن الحقيقة ويعادونها.

والآية الكريمة تؤكّد مرّة اخرى على حقيقة أنّ الهداية والضلالة بالرغم من أنّها من الله سبحانه ، إلّا أنّ مقدّماتها وأرضيتها لا بدّ أن تبدأ من الإنسان نفسه ، ولذا فلا جبر هنا.

جملة «وهو يدعى إلى الإسلام» إشارة إلى أنّ دعوة النبي الأكرم تتضمّن السلام في الدنيا والآخرة ونجاة الناس ، ومع ذلك فمثل هذا الإنسان يحطّم أساس سعادته بيده.

لقد تكرّرت عبارة (من أظلم) خمس عشر مرّة في القرآن الكريم وكانت آخرها في الآية مورد البحث ، بالغرم من أنّ ذكرها كان في موارد مختلفة حسب الظاهر.

ولعلّ هذه المسألة كانت منشأ لهذا التساؤل ، وهو : هل من الممكن أن يكون (أظلم الناس) يمثّل أكثر من صنف أو أكثر من جماعة ، وأنّها جاءت متكرّرة بلحاظ تعدّد أقسام الظالمين؟

٢٩٣

إنّ الملاحظة الدقيقة للآيات الكريمة تبيّن لنا أنّ السبب الأساس لذلك يرجع إلى مسألة منع الناس عن طريق الحقّ ، وتكذيب الآيات الإلهية ، وهذا هو منتهى الظلم ، كما أنّ الصدّ عن الوصول إلى الهدى والسعادة الأبدية وقيم الخير ، يمثّل أسوأ عمل وأعظم ظلم ، حيث المنع عن الخير كلّه وفي كافّة المجالات.

ثمّ يستعرض القرآن الكريم نقطة اخرى ويبيّن لنا أنّ أعداء الحقّ ليسوا بقادرين على الوقوف بوجه مبادئ السماء والأنوار الإلهيّة العظيمة ، حيث يقول سبحانه :( يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ) .

وهنا تشبيه رائع لعمل هؤلاء الأشخاص الذين يحاولون عبثا إطفاء نور الشمس التي تضيء العالم كلّه بنفخة ، إنّهم كالخفافيش التي تتصوّر أنّها قادرة على تحدّي وهج الشمس وأشعّتها الساطعة بالنوم نهارا بعيدا عن نورها ، والظهور في ظلمة الليل وعتمته.

وتاريخ الإسلام صورة ناطقة لهذا التنبّؤ القرآني العظيم ، فرغم ضخامة المؤامرات التي حيكت ضدّه والجهود الجبّارة المقترنة بالإمكانات الهائلة من الأعداء لطمس معالم هذا الذين والقضاء عليه منذ اليوم الأوّل لظهوره إلى يومنا هذا فإنّ جميعها كانت خائبة وخاسئة وذهبت أدراج الرياح وقد عمد هؤلاء إلى أساليب عدّة في حربهم القدرة ضدّ الإسلام :

فتارة اتّبعوا أسلوب الأذى والسخرية.

واخرى عن طريق الحصار الاقتصادي والاجتماعي

وثالثة فرض الحروب ، كـ (أحد والأحزاب وحنين) وتجهيز الجيوش القوية لذلك.

ورابعة عن طريق التآمر الداخلي ، كما كان عمل المنافقين.

وأحيانا عن طريق إيجاد الاختلافات في داخل الصفّ الإسلامي.

وأحيانا اخرى الحروب الصليبية.

٢٩٤

وتارة احتلال الأراضي كما في القدس المقدّسة قبلة المسلمين الاولى.

وأحيانا اعتماد أسلوب تجزئة الوطن الإسلامي الواحد إلى أجزاء عديدة تربو على الأربعين جزءا.

وتارة التأثير على شباب هذه الامّة وإضعاف متبنّياتها المبدئية والسلوكية بعيدا عن الالتزام بخطّها العقيدي الأصيل والأخلاقية القرآنية.

وتارة تشجيع الرذيلة والفساد الأخلاقي بين صفوف المجتمع وإشاعة وسائل الميوعة والانحراف خاصّة بين الشباب.

وتارة السيطرة الاستعمارية عسكريا وسياسيا واقتصاديا.

إلى غير ذلك من الأساليب والوسائل الماكرة.

إلّا أنّ هذه الجهود والمؤامرات الشيطانية غير قادرة على التأثير وإطفاء شعلة الوهج الرسالي الذي أتى به محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبذلك تحقّق التنبّؤ القرآني في الفشل الذريع الذي لحق بهؤلاء الذين أرادوا كيدا بالرسالة الإلهية بل إنّ النور الإلهي في حالة انتشار واتّساع يوما بعد يوم ، كما تكشف ذلك لنا الإحصائيات ، حيث أنّ عدد مسلمي العالم في تزايد مستمرّ رغم الجهود المتظافرة من الصهاينة والصليبيين و (المادّيين الشرقيين).

نعم ، إنّهم يبذلون أقصى جهدهم باستمرار ليطفئوا نور الله ولكن لإرادة الله شأنا غير ذلك. وهذا الأمر بحدّ ذاته يمثّل معجزة خالدة من معاجز القرآن الكريم وهذا الدين العظيم.

والنقطة الجديرة بالذكر هنا أنّ هذا المضمون قد ورد مرّتين في القرآن الكريم ، ولكن مع قليل من الاختلاف ، حيث جاء في الآية (٣٢) من سورة التوبة كالتالي :( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا ) وهنا جاء بعبارة :( يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا ) .

يقول : الراغب في (المفردات) في توضيحه لهذا الاختلاف : إنّ الآية الاولى إشارة إلى الإطفاء بدون مقدّمة ، إلّا أنّه في الآية الثانية إشارة إلى الإطفاء

٢٩٥

باستعمال المقدّمات التي تهيء الأرضية المناسبة لمثل هذا الأمر.

وعلى كلّ حال فإنّ مفهوم الآيتين يبيّن عدم إمكانية تحقيق هذا الأمر من قبل أعداء الإسلام ، سواء هيّئوا الأرضية المناسبة لإطفاء النور الإلهي أو لم يهيّئوا.

ويتوضّح التأكيد الأكثر في آخر آية ـ مورد البحث ـ حيث يعلن القرآن الكريم ذلك صراحة بقولهعزوجل :( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) .

إنّ التعبير بـ( أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ ) بمنزلة بيان الرمز لغلبة الإسلام وانتصاره ، لأنّ طبيعة «الهداية» و (دين الحقّ) تنطوي على هذا الإنتصار ، ذلك أنّ الإسلام والقرآن هما النور الإلهي الذي تظهر آثاره أينما حلّ. وكراهية الكفّار والمشركين لن تستطيع أن تغيّر من هذه الحقيقة شيئا ، ولا تقف في طريق مسيرته العظيمة.

ومن الظريف أيضا أنّنا نلاحظ أنّ هذه الآية قد وردت في القرآن الكريم ثلاث مرّات بتفاوت يسير :

الاولى : كانت في سورة التوبة الآية (٣٣).

والثانية : في سورة الفتح الآية (٣٨).

والأخيرة : في هذه السورة «الصفّ».

ويجب ألّا ننسى أنّ هذا التأكيد والتكرار جاء في وقت لم يكن الإسلام قد ثبت واستقرّ في الجزيرة العربية بعد ، فكيف بنا مع هذه الآيات وقد وصل الإسلام إلى نقاط عديدة في العالم وشمل أصقاعا مختلفة؟

وبذلك أثبتت أحداث المستقبل صدق هذا التنبؤ العظيم ، وغلبة الإسلام من الناحية المنطقية على كافّة المذاهب الاخرى وقد حقّق خطوات عظيمة في طريق التقدّم على الأعداء ، واكتسح مناطق واسعة من العالم ، وهو الآن في تقدّم مستمر ، وقوّة يخشى منها عالميّا.

٢٩٦

ومن المسلّم أنّ النتيجة النهائية كما نعتقد سوف تكون للإسلام ، وذلك عند ظهور الإمام المهدي أرواحنا فداه. إنّ هذه الآيات بذاتها دليل على هذا الظهور العظيم ، وقد أوضحنا ذلك بصورة مفصّلة في تفسير الآية (٢٣) من سورة التوبة حول المقصود من هذه الآية المباركة ، وهل هو الغلبة والإنتصار المنطقي ، أم غلبة القدرة والقوّة على الأعداء؟ وكذلك حول مدى ارتباط هذا الإنتصار وتلك الغلبة بظهور الحجّةعليه‌السلام .

* * *

٢٩٧

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) )

التّفسير

التجارة الرّابحة :

قلنا في بداية السورة أنّ الأهداف المهمّة لهذه السورة هو الدعوة إلى الإيمان والجهاد في سبيل الله ، وما الآيات مورد البحث إلّا تأكيد على هذين الأصلين ، من خلال مثال رائع يبعث على الحركة الإلهيّة في روح الإنسان ، والتي هي شرط انتصار الإسلام على كلّ الأديان ، وقد أشير إلى هذا العامل في الآيات الماضية.

يقول تعالى في البداية :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ

٢٩٨

عَذابٍ أَلِيمٍ ) .

بالرغم من أنّ الإيمان والجهاد من الواجبات المفروضة ، إلّا أنّ الآيات هنا لم تطرحها بصيغة الأمر. بل قدّمتها بعرض تجاري مقترن بتعابير تحكي اللطف اللامتناهي للبارئعزوجل ، وممّا لا شكّ فيه فإنّ (النجاة من العذاب الأليم) من أهمّ امنيات كلّ إنسان.

ولذا فإنّ السؤال المثار هو : هل تريدون من يدلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم؟ وهو سؤال مثير لانتباه الجميع ، وقد بادر في نفس الوقت وبدون انتظار للإجابة متحدّثا عن هذه التجارة المتعدّدة المنافع ، حيث يضيف تعالى :( تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ) (١) .

وممّا لا شكّ فيه أنّ الله سبحانه غني عن هذه التجارة النافعة وأنّ جميع منافعها تعود على المؤمنين ، لذا يقول في نهاية الآية :( ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .

والجدير بالملاحظة هنا أنّ المخاطب هم المؤمنون بقرينة قوله تعالى :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) لكنّه في الوقت نفسه يدعوهم إلى الإيمان والجهاد.

وربّما كان هذا التعبير إشارة إلى أنّ الإيمان يلزم أن يكون عميقا وخالصا لله سبحانه ، حتّى يستطيع أن يكون منبعا لكلّ خير ، وحافزا للإيثار والتضحية والجهاد ، وبذا لا يعتدّ بالإيمان الاسمي السطحي.

أو أنّ التأكيد على الإيمان بالله ورسوله هنا ، هو شرح لمفهوم الإيمان الذي عرض بصورة إجمالية في بداية الآية السابقة.

وعلى كلّ حال فإنّ الإيمان بالرّسول لا ينفصل عن الإيمان بالله تعالى ، كما أنّ الجهاد بالنفس لا ينفصل عن الجهاد بالمال ، ذلك أنّ جميع الحروب تستلزم

__________________

(١) جملة : (تؤمنون بالله) جملة استثنافية تفسّر التجارة ، واعتبر البعض أنّها عطف بيان ، وعلى كلّ حال فإنّ هذه (الجملة الخيرية) لها معنى الأمر.

٢٩٩

وجود الوسائل والإمكانات المالية ، ومن هنا فإنّنا نلاحظ أنّ البعض قادر على الجهاد بكلا النوعين (النفس والمال) وآخرين قادرون على الجهاد بالمال فقط وفي المواقع الخلفية للجبهة ، وبعض آخر مستعدّ للجهاد بالنفس والجود بها في سبيل الله لأنّهم لا يملكون سواها.

إلّا أنّ الضرورة تستلزم أن يكون هذان النوعان من الجهاد توأمين متلازمين كلّ منهما مع الآخر لتحقيق النصر ، وعند التدقيق في الآية المباركة نلاحظ أنّ تعالى قد قدّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس ، لا باعتباره أكثر أهميّة ، بل بلحاظ أنّه مقدّمة للجهاد بالنفس ، لأنّ مستلزمات الجهاد لا تتهيّأ إلّا عند توفّر الإمكانات الماديّة.

لقد تمّ تسليط الأضواء على ثلاثة عناصر أساسية في هذه التجارة العظيمة والتي لا مثيل لها.

(فالمشتري) هنا هو الله سبحانه ، و (البائع) هم المؤمنون ، و (البضاعة) هي الأنفس والأموال. ويأتي دور العنصر الرابع في هذه الصفقة وهو الثمن والعوض لهذه المعاملة العظيمة.

يقول تعالى :( يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (١) .

وتستعرض الآية مرحلة الجزاء الاخروي في البداية حيث غفران الذنوب باعتبارها أهمّ عوامل القلق وعدم الراحة الفكرية والنفسية للإنسان ، وعند ما يتحقّق الغفران له فمن المسلّم أنّ الراحة والهدوء والاطمئنان تنشر ظلالها عليه.

ومن هنا نلاحظ أنّ أوّل هدية يتحف الله سبحانه بها عباده الذين استشهدوا

__________________

(١) جملة (يغفر لكم) هي بمنزلة (جزاء) لشرط محذوف مستفاد من الآية السابقة وفي التقدير هكذا : وإن تؤمنوا بالله ورسوله وتجاهدوا في سبيله يغفر لكم ذنوبكم ...) كما يحتمل ـ أيضا ـ أنّ الجملة جواب (الأمر) ذلك الأمر مستفاد من الجملة الخبرية (تؤمنون) و (تجاهدون).

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624